المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌(فصل في منزلة الفراسة:

(وأما الحكمة المقرونة بالكتاب: فهي السنة كذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة وقيل: هي القضاء بالوحي وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر، وأحسن ما قيل في الحكمة: قول مجاهد ومالك: «إنها معرفة الحق والعمل به والإصابة في القول والعمل» وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن والفقه في شرائع الإسلام وحقائق الإيمان، والحكمة حكمتان: علمية وعملية.

(فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقا وأمرا قدرا وشرعا.

(والعلمية كما قال صاحب المنازل: وهي وضع الشيء في موضعه.

‌(فصلٌ في منزلة الفراسة:

[*] (عناصر الفصل:

(منزلة الفراسة من منازل السائرين إلى رب العالمين:

(أنواع الفراسة:

وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:

(منزلة الفراسة من منازل السائرين إلى رب العالمين:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفراسة

قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]

(قال مجاهد رحمه الله: المتفرسين.

(وقال ابن عباس رضي الله عنهما: للناظرين.

(وقال قتادة: للمعتبرين وقال مقاتل: للمتفكرين.

ولا تنافي بين هذه الأقوال فإن الناظر متى نظر في آثار ديار المكذبين ومنازلهم وما آل إليه أمرهم: أورثه فراسة وعبرة وفكرة وقال تعالى في حق المنافقين: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]

فالأول: فراسة النظر والعين.

والثاني: فراسة الأذن والسمع وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: علق معرفته إياهم بالنظر على المشيئة ولم يعلق تعريفهم بلحن خطابهم على شرط بل أخبر به خبرا مؤكدا بالقسم فقال: ولتعرفنهم في لحن القول وهو تعريض الخطاب وفحوى الكلام ومغزاه و اللحن ضربان: صواب وخطأ فلحن الصواب نوعان أحدهما: الفطنة ومنه الحديث: ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض والثاني: التعريض والإشارة وهو قريب من الكناية ومنه قول الشاعر:

وحديث ألذه وهو مما يشتهي السامعون يوزن وزنا

منطق صائب وتلحن أحيانا وخير الحديث ما كان لحنا

ص: 154

والثالث: فساد المنطق في الإعراب وحقيقته: تغيير الكلام عن وجهه: إما إلى خطإوإما إلى معنى خفي لم يوضع له اللفظ والمقصود: أنه سبحانه أقسم على معرفتهم من لحن خطابهم فإن معرفة المتكلم وما في ضميره من كلامه: أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهر من السيماء المرئية والفراسة تتعلق بالنوعين بالنظر والسماع وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بور الله ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]

(أنواع الفراسة:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

والفراسة ثلاثة أنواع: إيمانية وهي المتكلم فيها في هذه المنزلة

وسببها: «نور يقذفه الله في قلب عبده يفرق به بين الحق والباطل والحالي والعاطل والصادق والكاذب» .

وحقيقتها: «أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده» يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة لكن الفريسة فعيلة بمعنى مفعولة وبناء الفراسة كبناء الولاية والإمارة والسياسة وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة.

(قال أبو سعيد الخراز: من نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق وتكون مواد علمه مع الحق بلا سهو ولا غفلة بل حكم حق جرى على لسان عبده.

(وقال الواسطي: الفراسة شعاشع أنوار لمعت في القلوب وتمكن معرفة جملة السرائر في الغيوب من غيب إلى غيب حتى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق إياها فيتكلم عن ضمير الخلق.

(وقال الدراني: الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب وهي من مقامات الإيمان.

(وسئل بعضهم عن الفراسة فقال: أرواح تتقلب في الملكوت فتشرف على معاني الغيوب فتنطق عن أسرار الخلق نطق مشاهدة لا نطق ظن وحسبان.

(وقال عمرو بن نجيد: كان شاه الكرماني حاد الفراسة لا يخطيء ويقول: «من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام بالمراقبه وظاهره باتباع السنة وتعود أكل الحلال: لم تخطىء فراسته» .

(وقال أبو جعفر الحداد: الفراسة أول خاطر بلا معارض فإن عارضه معارض آخر من جنسه فهو خاطر وحديث نفس.

ص: 155

(وقال أبو حفص النيسابوري: ليس لأحد أن يدعي الفراسة ولكن يتقي الفراسة من الغير لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" ولم يقل: تفرسوا وكيف يصح دعوى الفراسة لمن هو في محل اتقاء الفراسة.

(وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون في قلوبكم ويخرجون من حيث لا تحتسبون.

(وكان الجنيد يوما يتكلم على الناس فوقف عليه شاب نصراني متنكرا فقال: أيها الشيخ ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه إليه وقال: أسلم فقد حان وقت إسلامك فأسلم الغلام.

(ويقال في بعض الكتب القديمة: إن الصديق لا تخطيء فراسته.

(وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: العزيز في يوسف حيث قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما حيث استخلفه وفي رواية أخرى: وامرأة فرعون حين قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص: 9]

ص: 156

(وكان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقائع فراسته مشهورة فإنه ما قال لشيء: أظنه كذا إلا كان كما قال ويكفي في فراسته: موافقته ربه في المواضع المعروفة ومر به سواد بن قارب ولم يكن يعرفه فقال لقد أخطأ ظني أو أن هذا كاهن أو كان يعرف الكهانة في الجاهلية فلما جلس بين يديه قال له ذلك عمر فقال: سبحان الله يا أمير المؤمنين ما استقبلت أحدا من جلسائك بمثل ما استقبلتني به فقال له عمر رضي الله عنه: ما كنا عليه في الجاهلية أعظم من ذلك ولكن أخبرني عما سألتك عنه فقال: صدقت يا أمير المؤمنين كنت كاهنا في الجاهلية ثم ذكر القصة، وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه صادق الفراسة وقال أنس ابن مالك رضي الله عنه: دخلت على عثمان بن عفان رضي الله عنه وكنت رأيت امرأة في الطريق تأملت محاسنها فقال عثمان رضي الله عنه: يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر في عينيه فقلت: أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة، وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة وأصل هذا النوع من الفراسة: من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير فلا تكاد فراسته تخطيء قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] كان ميتا بالكفر والجهل فأحياه الله بالإيمان والعلم وجعل له بالقرآن والإيمان نورا يستضيء به في الناس على قصد السبيل ويمشي به في الظلم.

(الفراسة الثانية: فراسة الرياضة والجوع والسهر والتخلي فإن

النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ولا تدل على إيمان ولا على ولاية وكثير من الجهال يغتر بها وللرهبان فيها وقائع معلومة «وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع ولا عن طريق مستقيم» بل كشفها جزئي من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء ونحوهم وللأطباء فراسة معروفة من حذقهم في صناعتهم ومن أحب الوقوف عليها فليطالع تاريخهم وأخبارهم وقريب من نصف الطب: فراسة صادقة يقترن بها تجربة والله سبحانه أعلم.

(الفراسة الثالثة: الفراسة الخلقية وهي التي صنف فيها الأطباء

ص: 157

وغيرهم واستدلوا بالخلق على الخلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل وبكبره وبسعة الصدر وبعد ما بين جانبيه: على سعة خلق صاحبه واحتماله وبسطته وبضيقه على ضيقه وبخمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها وضعف حرارة قلبه وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة وهو الشكل على شجاعته وإقدامه وفطنته وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته ومكره وخداعه ومعظم تعلق الفراسة بالعين فإنها مرآة القلب وعنوان ما فيه ثم باللسان فإنه رسوله وترجمانه وبالاستدلال بزرقتها مع شقرة صاحبها على رداءته وبالوحشة التي ترى عليها على سوء داخله وفساد طويته وكالاستدلال بإفراط الشعر في السبوطة على البلادة وبإفراطه في الجعودة على الشر وباعتداله على اعتدال صاحبه، وأصل هذه الفراسة: أن اعتدال الخلقة والصورة: هو من اعتدال المزاج والروح وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال: يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال هذا إذا خليت النفس وطبيعتها ولكن صاحب الصورة والخلقة المعتدلة يكتسب بالمقارنة والمعاشرة أخلاق من يقارنه ويعاشره ولو أنه من الحيوان البهيم فيصير من أخبث الناس أخلاقا وأفعالا وتعود له تلك طباعا ويتعذر أو يتعسر عليه الانتقال عنها وكذلك صاحب الخلقة والصورة المنحرفة عن الاعتدال يكتسب بصحبة الكاملين بخلطتهم أخلاقا وأفعالا شريفة تصير له كالطبيعة فإن العوائد والمزاولات تعطي الملكات والأخلاق

فليتأمل هذا الموضع ولا يعجل بالقضاء بالفراسة دونه فإن القاضي حينئذ يكون خطؤه كثيرا فإن هذه العلامات أسباب لا موجبة وقد تتخلف عنها أحكامها لفوات شرط أو لوجود مانع

ص: 158

وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء: بعينه وأذنه وقلبه فعينه للسيماء والعلامات وأذنه: للكلام وتصريحه وتعريضه ومنطوقه ومفهومه وفحواه وإشاراته ولحنه وإيمائه ونحو ذلك وقلبه للعبور: والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه فيعبر إلى ما وراء ظاهره كعبور النقاد من ظاهر النقش والسكة إلى باطن النقد والاطلاع عليه: هل هو صحيح أو زغل وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة والدل إلى باطن الروح والقلب فنسبة نقده للأرواح من الأشباح كنسبة نقد الصيرفي ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد وكذلك نقد أهل الحديث فإنه يمر إسناد ظاهر كالشمس على متن مكذوب فيخرجه ناقدهم كما يخرج الصيرفي الزغل من تحت الظاهر من الفضة، وكذلك فراسة التمييز بين الصادق والكاذب في أقواله وأفعاله وأحواله، وللفراسة سببان أحدهما:«جودة ذهن المتفرس وحدة قلبه وحسن فطنته» .

والثاني: «ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه» فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطىء للعبد فراسة وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر: كانت فراسته بين بين

ص: 159