الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعقوب وصبره عكسا القضية، فإذا بالمُنْكِرِ المخالفِ منذ قليل يتوجه إلى البحث عما أنكر، لما رأى الصبر واليقين ماثلين أمامه!!!.
فاللهم ارزقنا يقين الأنبياء وحسن صبرهم وارزقنا حسن التأسي بهم يا أرحم الراحمين.
تنبيه مهم: على المسلم أن يسأل ربه العفو والعافية في الدنيا والآخرة وأن لا يتمنى الابتلاء ولكن إذا ابتُلي وكان الابتلاء أمراً واقعاً فعليه بالصبر والرضا والاستعانة بربه.
•
أركان فقه الابتلاء بالضراء:
فقه الابتلاء بالضراء للمُكلفين يتكون من سبع أركان:
الركن الأول: سبب الابتلاء الرئيسي والغالب هو الذنوب والخطايا وقيل أن سبب الابتلاء الرئيسي للمكلفين هو الاختبار من الله جل جلاله واستدلوا بقوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) ولا منافاة بين كون الابتلاء بسبب الذنوب وفي ذات الوقت يكون اختباراً من الله سبحانه لا سيما وأن أكثر بني آدم مسرفين على أنفسهم بالذنوب والخطايا ، وقد قال الله تعالى في شأن الذنوب وآثارها {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة تكررت بلفظ قريب في عدد من المواضع، كما تكرر معناها في مواضع أخرى.
فمن نظائرها اللفظية المقاربة قول الله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]، وقال سبحانه:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، ويقول عز وجل: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
…
} [القصص: 47].
وأما الآيات التي وردت في تقرير هذا المعنى فكثيرة جداً، ومن ذلك قوله سبحانه:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، وكقوله عز وجل:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وقال جل وعلا:{وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 181، 182] في ثلاث مواضع من كتاب الله عز وجل.
ويقول سبحانه: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36]، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ملخصاً ما دلت عليه هذه الآيات الكريمة بتلخيص العالم المتتبع المستقرئ لنصوص القرآن الكريم، يقول رحمه الله:"والقرآن يبين في غير موضع: أن الله لم يهلك أحداً ولم يعذبه إلا بذنب". وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآيات الكريمة دلت عليه أيضاً نصوص من الوحي الآخر، ألا وهو السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبى ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي العظيم ـ الذي يرويه عن ربه تعالى قال الله عز وجل: "إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلوم إلا نفسه" وفى صحيح البخاري من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
…
الحديث" وفى الصحيحين لما سأل أبو بكر رضي الله عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته، قال له عليه الصلاة والسلام: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" فتأمل ـ أيها القاراء الكريم ـ تأمل في هذه الأحاديث جيداً! فَمَنْ هو السائل؟ ومَنْ هو المجيب؟ أما السائل فهو أبو بكر الصديق الأكبر الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة في مواضع متعددة، وأما المجيب فهو الرسول الناصح المشفق صلوات الله وسلامه عليه! ومع هذا يطلب منه عليه الصلاة والسلام أن يعترف بذنوبه، وظلمه الكبير والكثير، ويسأل ربه مغفرة ذلك والعفو عنه، والسؤال هنا ـ أيها القاراء الكريم ـ مَنْ الناس بعد أبي بكر رضي الله عنه؟ بل ويقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) ، ويقول جل ذكره في موضع آخر (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) ، فمن نحن بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام وهذا على مذهب من يفسر الآية على ظاهرها وأن الأنبياء غير معصومين من صغائر الذنوب ولكن لا يُقرون عليها.
إذا تقررت هذه الحقيقة الشرعية ـ وهي أن الذنوب سببٌ للعقوبات العامة والخاصة ـ فحري بالعاقل أن يبدأ بنفسه، فيفتش عن مناطق الزلل فيه، وأن يسأل ربه أن يهديه لمعرفة ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ـ وهو يتحدث عن الأمور التي تورث العبد الصبر وتعينه عليه ليبلغ مرتبة الإمامة في الدين ـ قال رحمه الله: "أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلط الناس عليه بسبب ذنبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه بسببها عن ذنبهم ولومهم، والوقيعة فيه، وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار، فاعلم أن مصيبته مصيبة حقيقية، وإذا تاب واستغفر، وقال: هذا بذنوبي، صارت في حقه نعمة، قال علي رضي الله عنه كلمة من جواهر الكلام: "لا يرجونّ عبدٌ إلا ربه ولا يخافن عبد إلا ذنبه"، وروي عنه وعن غيره: "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة" انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
وهنا ننبه إلى أن للمظلوم حق في القصاص ممن ظلمه ولكن مراد ابن تيمية والله أعلم هو الاستغراق في لوم الآخرين دون الرجوع إلى النفس ومحاسبتها على التقصير في جنب الله.
يقول ابن القيم رحمة الله عليه ـ وهو يوضح شيئاً من دلالات هذه القاعدة القرآنية المحكمة {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} قال رحمه الله: وهل فى الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟!
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم، والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء؟ وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه؟ فجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدِّلَ بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنةً، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظى، وبالإيمان كفراً، وبموالات الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجلَ الكفر والشرك والكذب والزور والفحش، وبلباس الإيمان لباس الكفر والفسوق والعصيان؟ فهان على الله غاية الهوان، وسقط من عينه غاية السقوط، وحلّ عليه غضب الرب تعالى، فأهواه ومقته أكبر المقت!
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم؟ حتى علا الماء فوق رأس الجبال، وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض، كأنهم أعجاز نخل خاوية؟ ودمرت ما مرَّ عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم؟ حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة، حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟
وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها؟ فأهلكهم جميعاً ثم أتبعهم حجارة من سجيل السماء، أمطرها عليهم فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم، ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد.
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل؟ فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات، ودمرها تدميراً؟
…
إلى أن قال رحمه الله:
قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، ثنا صفوان بن عمر، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال: لما فتحت قبرص، فُرِّقَ بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي! فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره؟! بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى! انتهى كلام بن القيم.
وهنا تنبيه مهم وهو أنه ينبغي أن ندرك أن العقوبات حينما تُذكر، فلا يصح حصرها في العقوبات الحسية أو العقوبات الجماعية ـ التي أشار ابن القيم إلى شيء منها ـ كالهدم والغرق والصيحة، أو السجن والعذاب الحسي، ونحو ذلك، فهذه لا شك أنها أنواع من العقوبات، ولكن ثمة أنواع من العقوبات قد تكون أشد وأعظم، وهى تلك العقوبات التي تتسلط على القلب، فيُضرب بالغفلة وقسوته، حتى إن جبال الدنيا لو تناطحت أمامه ما اعتبر ولا اتعظ ـ عياذاً بالله ـ بل يظن المسكين، أو تظن أمة من الأمم ـ وهى ترى النعم تتابع وتزداد مع استمرارها في البعد عن شرع الله ـ تظن أن ذلك علامةً على رضى الله عز وجل عنها، وهذه لعمر الله من أعظم العقوبات التي يُبتلى بها العبد وتُبتلى بها أمة من الأمم.
استمع جيداً إلى قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} فما الذي حصل؟ هل تابوا أم رجعوا؟ اقرأ تتمة الآية: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 42 - 44] فنعوذ بالله أن نكون من أهل هذه الآية، ونسأله بمنه وكرمه أن يتوب علينا وأن يبصرنا بمواطن الزلل منا، وأن لا يضربنا بقسوة القلب، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
ملاحظة هامة: قيل أن سبب الابتلاء بالضراء الرئيسي للمكلفين هو الاختبار من الله جل جلاله للمكلفين وأما الذنوب فلا شك أنها من أسباب المصائب، ولكن ليس في نصوص الشرع ما يدل على أن المصائب لا تكون إلا بالذنوب، فقد يُصاب بعض الناس لحكم أخرى ، فالمصيبة أعم من العقوبة فقد تكون بذنب وقد تكون بلا ذنب وذلك لسبب مقتض مصلحته أعظم من مراعاة المصلحة العاجلة والخاصة للعبد ويدلك على هذا قوله تعالى عن الموت (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) فسماه مصيبة وهو يصيب كل إنسان، من أشرف الأنبياء إلى أكفر الخلق، فكل عقوبة بذنب وليست كل مصيبة وابتلاء بضراء تكون بذنب، وكذا الابتلاء والبلاء ، قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) وقال تعالى (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ)، وهو كما ترى مما لا تعلق له بالذنب وإنما المصائب أحياناً تكون لمجرد الزيادة في اليقين والرفعة والاختبار، قال تعالى (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ).
ولا نُنكر أنه قد جاء لفظ "المصيبة" يُراد به العقوبة كما قال تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)). كما هي العادة بمجيء العام على معنى بعض أفراده، وقد تقدم أن المصيبة أعم من العقوبة ، وبهذا يتبين لك أن من أسباب المصائب الذنوب، ولكنها ليست السبب الوحيد، فقد يبتلي الله تعالى بعض عباده الصالحين الذين لم يستوجبوا العقاب بذنوبهم، لينالوا أجر الصابرين، وترتفع بذلك درجاتهم.
وهنالك مذهب آخر يقول:
أن كل ما أصاب العبد المكلف من المصائب لا يكون إلا بسبب من العبد إما من أصل الشر الذي في نفسه لأنه خلق ظلوماً جهولاً، وإما من الذنب الذي قد اقترفه ، واستدلوا بالحديث الوارد في خطبة الحاجة:(ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا). ومن الأدعية النبوية الصديقية: (أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم).فالاستعاذة بالله من شرور النفس من جنس الابتلاء والامتحان، وهو تمحيص للشرور الموجودة في النفوس نفس كل واحد من بنى آدم بلا استثناء وقد لا يسمى هذا النوع عقوبة، لكن السبب بلا شك من العبد، كما قال تعالى:"وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ". ومن الملاحظ هنا، أن سبب الامتحان ليس هو الإيمان والصلاح والتقوى! بل سببه ما يتبقى في النفوس من الشرور ، ولذلك كان لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وأهله وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ، فالأنبياء أشد الناس بلاءً، ليصبح شر النفس عندهم أقل القليل أو عدماً ، هذا والله تعالى أعلم.
والغالب هو الذنوب والخطايا كما ذكرنا لكن ليس من لازم الابتلاء الوقوع في ذنوب لا يُكفرها إلا الابتلاء فقد يكون للابتلاء أسباب أخرى كما هو حال ابتلاء الأنبياء عليهم السلام وقد قيل أن سبب الابتلاء الرئيسي.
الركن الثاني: وجوب اعتقاد أن كل قضاء للمؤمن هو خيرٌ له وإن كان ظاهره الشر: فإنه قد ثبت في الصحيح (أن الله تعالى لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له).
الركن الثالث: مقاصد الابتلاء للمُكلفين ستة وهي ما يلي:
اعلم أولاً أن كل ابتلاء من الله بلا استثناء لا يخلو من حكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها ولكن قد استنبط أهل العلم بعض مقاصد الابتلاء من خلال كتاب الله وسنة نبيه فتارة يكون:
1/ لتكفير الخطايا، ومحو السيئات فيُعاقب المؤمن بالبلاء على بعض الذنوب فتكون في حقه كفارة وعقوبة مخففة ظاهرها القسوة وباطنها الرحمة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا البر" رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وحسنه السيوطي.، وكما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما يصيب المسلم من هم، ولا حزن، ولا وصب، ولا نصب، ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" رواه مسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده أو في ماله أو في ولده حتى يلقى الله سبحانه وما عليه خطيئة) رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من يُرد الله به خيراً يُصب منه)). ولذلك؛ فالمؤمن ينظر إلى الابتلاء أنه نعمة ورحمة من اللَّه على عباده، يتعهدهم بالابتلاء المرة بعد المرة؛ لينقيهم، ويطهرهم، ويذهب عنهم رجز الشيطان، ويربط على قلوبهم، ويُثبَت به الأقدام، وكذلك ينظر إليه أنه دليل رضى ومحبة من اللَّه لعباده؛ فإن اللَّه إذا أحب عبداً ابتلاه، لا لحبه لابتلاء عبده بل لما في هذا الابتلاء من عواقب حميدة قد يجهلها العبد نفسه ، وكلما صلب إيمان المرء وقوي يقينه؛ اشتد بلاؤه، فمن رضي؛ فله الرضى، والعكس بالعكس، وهنا معلومة مهمة وهو أن الابتلاء وإن كان لتكفير الخطايا، ومحو السيئات إلا أنه مُتضمَن لرفع الدرجات بطريق اللزوم.
2/ وتارة يكون لرفع الدرجات، وزيادة الحسنات، كما قال عليه الصلاة والسلام: إذا سَبَقَتْ للعبدِ من الله مَنْزِلَة لم يَبْلُغْهَا بِعَمَلِه ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صَبَّرَه حتى يُبَلِّغَه المنْزلة التي سَبَقَتْ له منه. رواه الإمام أحمد.
وكما هو الحال في ابتلاء الله لأنبيائه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل
…
فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" رواه البخاري. قال العلماء: يُبتلى الأنبياء لتُضاعف أجورهم، وتتكامل فضائلهم، ويظهر للناس صبرهم ورضاهم فيُقتدى بهم، وليس ذلك نقصاً ولا عذاباً. انتهى. وبعض الناس يظن أن هذا الذي يُصاب بالأمراض ونحوها مغضوب عليه وليس الأمر كذلك فإنه قد يُبتلى بالمرض والمصائب من هو من أعز الناس عند الله وأحبهم إليه كالأنبياء والرسل وغيرهم من الصالحين كما تقدم ، وكما حصل لنبينا صلى الله عليه وسلم في مكة وفي يوم أحد وغزوة الأحزاب وعند موته صلى الله عليه وسلم وكما حصل لنبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام، ولنبي الله يونس عليه الصلاة والسلام، وذلك ليرفع شأنهم ويعظم أجورهم وليكونوا أسوة صالحة للمبتلين بعدهم.
3/ وتارة يقع البلاء لتمحيص المؤمنين، وتمييزهم عن المنافقين، فلا بد أن يمتحن اللَّه أهل الإيمان ويبتليهم حتى يميز الصادق من الكاذب، هذا وإن كان الله يعلم من هم أهل الإيمان ومن هم أهل الكفر والنفاق قبل أن يخلق الخلق سبحانه ولكن ليُقيم الحجة على الخلق ، ولذلك اقتضت حكمة اللَّه -تعالى- البالغة أن نَصَبَ الابتلاء سبباً مُفضياً إلى تمييز الخبيث من الطيب، والشقي من السعيد، ومن يصلح مما لا يصلح.
قال تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} [آل عمران: 179] ، ويخلص الصادق من الوهن البشري الذي لا تسلم منه نفس بشرية؛ فتسمو همته فوق الألم فيدرك أنه جسر إلى المعالي.
لا تحْسبنّ المجد تمراً أنت آكله
…
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
ويُبتلى المرء على قدر دينه، كلما اشتد إيمانه عظم ابتلاؤه، حتى يخلص من شرور نفسه وسيئات أعماله، ويطهر طيب نفسه بكير الامتحان؛ كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بكير النيران وقال تعالى:(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت:2 - 3]. فيبتلي الله عباده ليتميز المؤمنون الصادقون عن غيرهم، وليُعرف الصابرون على البلاء من غير الصابرين ، وإذا قلنا بأن الابتلاء يكون أحياناً اختباراً يُعرف به الصابرون ويتميزون عن غيرهم، فليس معناه أن الله تعالى يجهل حال هؤلاء المُبتلين -حاشاه من ذلك- وإنما معناه أن يظهر على المرء لنفسه ولغيره من بني جنسه ما هو عليه من رضا بقضاء الله فيُثاب على ذلك، أو من سخط لذلك فيُحاسب أي على حسب ما ظهر منه.
4/ وتارة يقع البلاء بالمؤمن رحمة به وحماية له من أضرار الدنيا وفتنها، فالله
تعالى قد يمنع عبده الدنيا رحمة به وحماية له من أضرارها كما يحمي الناس بعض المرضى من الماء إذا كان يضر بهم، ففي الحديث: إذا أحب الله عبدًا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء. رواه الترمذي والحاكم وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي والألباني.
5/ وتارة يقع البلاء بالمؤمن لتنبيه العبد وتوجيهه ومن ذلك قوله تعالى (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
6/ وتارة يقع البلاء بالمؤمن للتمكين والإمامة فى الأرض ومن ذلك قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ) وكان عاقبة هذا البلاء العظيم (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَأَىئِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) وكذلك قوله تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
الركن الرابع: ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة: روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه. متفق عليه.
قال ابن حجر العسقلاني: والأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة، وأما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليهما زيادة على ثواب المصيبة، قال القرافي: المصائب كفارات جزماً سواء اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقترن بها الرضا عظم التكفير وإلا قلّ، كذا قال، والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها، وبالرضا يؤجر على ذلك، فإن لم يكن للمصاب ذنب عُِّوض عن ذلك من الثواب بما يوازيه ..... انتهى فتح الباري.
الركن الخامس: للتمييز بين العقوبة والابتلاء لرفعة الدرجة في حق المؤمن:
إن كان العبد قائماً بأمر الله، متمسكاً بشرعه، مستقيماً على دينه، فنرجو أن يكون ما أصابه من مصائب رفعة له في الدرجات، ومُثقلاً لموازين حسناته ، وأما إن كان العبد مُقيماً على معصية الله، مُفرطاً في دينه، لاهياً عابثاً، فقد تكون المصائب والآفات التي يُبتلى بها تنبيهاً له من الله ليتوب ويرجع قبل فوات الأوان، وقد تكون عقوبة له في الدنيا نظير ظلمه لنفسه ، وكل ما سبق لا نقطع به، ولكن نستشرفه من قرائن الأحوال.
هذا، وإن الواجب على العبد أن إذا أصيب بمصيبة أن يقابلها بالصبر الجميل، فلا يسخط ولا يجزع؛ فإنه غانم على جميع الاحتمالات إن هو صبر واحتسب، فما
ينزل بالعبد من مصائب وآلام وأحزان، مما يكفر به من سيئاته، فهي رحمة من الله تعالى به، سواء كانت عقوبة على ذنب، أو كانت ابتلاء لرفع الدرجات، فقد روى أحمد والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال):إذا أراد الله بعبده الخير، عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة). وللحديث قصة مثبتة في رواية أحمد عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: أن رجلاً لقي امرأة بغياً في الجاهلية، فجعل يلاعبها حتى بسط يده إليها فقالت المرأة: مه، فإن الله عز وجل قد ذهب بالشرك، -وفي رواية ذهب بالجاهلية- وجاءنا بالإسلام، فولى الرجل، فأصاب وجهه الحائط فشجه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أنت عبد أراد الله بك خيراً، إذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً ..... الحديث.
ومجيء المصيبة عقب الذنب دليل على أنها عقوبة، كما في الحديث السابق.
لكن ما أكثر الذنوب التي يقترفها العبد وهو لا يشعر بخطرها وشناعتها، ومن هذا الذي لا ينفك عن ذنب ظاهراً أو باطناً، سراً أو علانية، كبيراً أو صغيراً؟
ولا ينبغي للعبد أن يُحسن الظن بنفسه، فيراها نقية من الذنوب، ثم يتوهم أن ما نزل به هو بلاء لم يترتب على ذنب، وخاصةً أنه ليس من فائدة تعود على الإنسان إذا ميز بين العقوبة والابتلاء، فهو مأمور بالصبر في الحالين، مع تكفير سيئاته وكونه ممن أراد الله بهم الخير أيضاً.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
الركن السادس: ابتلاء الله لخلقه بالسراء والنعماء ليس دليلاً على محبته إياهم كما أن ابتلاءهم بالضراء والمصائب ليس دليلاً على بغضه لهم: إن كثيراً من الناس يقعون في خطأ كبير عندما يجري عليهم قدر الله عز وجل بشيء من العطاء أو بشيء من المنع؛ فإذا وسع الله على أحدهم في رزقه، أو أكرمه الله في تجارته، أو وفقه في دراسته، أو يسر له الزواج بمن يريد، أو أعطاه من الذرية ما يشاء، أو حفظه من مكروه، حسب أن هذا دليل إكرام من الله عز وجل، بل دليل حب منه سبحانه وتعالى له، ومن العجيب أن مِن هؤلاء مَن قد يكون من المسرفين على أنفسهم الظالمين لها بترك ما أمر الله وركوب ما نهى عنه من الشرور والمعاصي، ومع ذلك نجده يقول: لو لم يحبني لما أعطاني كذا وكذا، لو لم يحبني لما جنبني كذا وكذا!
وفي المقابل نجد من الناس من إذا تعرض لما يسوؤه؛ من خسارة أو مرض أو فقد حبيب وما أشبه ذلك، اسودت الدنيا في عينه وأرجع هذا الأمر لعدم محبة الله
سبحانه وتعالى له، وأنه لو كان يحبه لما فعل به ما فعل، مع أن مِن هؤلاء مَن قد يكون من الطيبين الحافظين لحدود الله جل وعلا المقيمين على طاعته والمجانبين لمعصيته!
ولا شك أن كلا الموقفين يدل على جهل ببعض ما جاء به هذا الشرع الحنيف، وجهل بحقيقة هذه الدنيا، وبحقيقة محبة الله لعباده وآثارها.
إن اعتقاد هؤلاء الناس كان يمكن أن يكون صحيحاً لو أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الدنيا دار جزاء وحساب، لكنها ليست كذلك، بل هي دار ابتلاء واختبار، قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، وبين سبحانه أن هذا الاختبار يكون بالشر والخير جميعاً، قال سبحانه:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
إن اعتقاد هؤلاء الناس كان يُمكن أن يكون صحيحاً لو أن الله جعل متاع الدنيا لأحبائه المؤمنين خاصة دون غيرهم من عباده، لكن الأمر ليس كذلك، قال تعالى:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]، قال ابن الجوزي:(قال المفسرون: كُلاًّ نعطي من الدنيا، البَرَّ والفاجرَ، والعطاء هاهنا: الرزق، والمحظور: الممنوع، والمعنى: أن الرزق يعم المؤمن والكافر، والآخرة للمتقين خاصة).
إن اعتقاد هؤلاء الناس كان يُمكن أن يكون صحيحاً لو كان لمتاع الدنيا قيمة حقيقية عند الله، لكنه ليس كذلك، قال تعالى:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]، وقال صلى الله عليه سلم:"لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء". بل إنه قد ثبت أن أشد الناس بلاءً هم أولياؤه وأحباؤه من النبيين والصالحين، فقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:"يا رسول الله من أشد الناس بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتَلى العبد على حسب دينه، فما يبرح بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة"، ولهذا كان الصالحون يخشون على أنفسهم إذا مر عليهم زمن لم يتعرضوا فيه للابتلاء في أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم وغير ذلك ، هذا مع أن المؤمن مُطالب بسؤال الله العفو والعافية وكما قيل السلامة لا يعدلها شاء لكن لو ابتُلي فليصبر مُستعيناً بربه.
أخى القاراء الكريم لقد أرشد الله عز وجل العقول إلى الصواب في هذه المسألة في كتابه العزيز وبين بما لا يدع مجالاً للشك بطلان ما ذهب إليه كلا الفريقين، قال تعالى:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 17]، قال ابن
كثير رحمه الله: (يقول تعالى مُنكرًا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له؛ وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان. كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55،56]. وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضَيَّق عليه في الرزق، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له. قال الله: {كَلا} أي: ليس الأمر كما زعم، لا في هذا ولا في هذا، فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنياً بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر).
فإذا صحح المسلم مفاهيمه في ضوء الحقائق السابقة نظر إلى مقادير الله نظرة مختلفة؛ فعلم أن ما نزل به من محنة هو اختبار من الله عز وجل لينظر أيقوم بواجب الصبر على الابتلاء ويرضى بقضاء الله وقدره، أم يسخط ويعترض على مولاه، وعلم أن ما نزل به من منحة هو اختبار من الله عز وجل له كذلك لينظر أيقوم بواجب الشكر على النعمة أم يكفرها وينسى بارئها.
ثم هو ينظر لما يراه من تنعم الكافرين بمتاع الحياة الدنيا فلا يفتنه ذلك عن دينه بل يعلم أن هذا محض إملاء واستدراج لهؤلاء، قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182 - 183]، ولهذا قال تعالى:{وَأُمْلِي لَهُمْ} أي: وسأملي لهم، أطول لهم ما هم فيه {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي: قوي شديد). قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (ومعناه: أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا، حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شيء، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44،45]؛وقوله مُبْلِسُونَ أي آيسون من كل خير والعياذ بالله. ويقول جل وعلا: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ).
وخلاصة القول أن المحبة عند الله ليست بالجاه والأولاد والمال والمناصب وإنما تكون المحبة عند الله بالعمل الصالح والتقوى لله والإنابة إليه والقيام بحقه وكل من كان أكمل تقوى كان أحب إلى الله.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، وإنما يعطي الإيمان والدين من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه))، فمن ابتُلي بالكفر والمعاصي فهذا دليل على أنه مبغوض عند الله على حسب حاله.
فإذا علم المؤمن أن الميزان الذي تقاس به الأمور مختلف عما يظنه كثير من الناس، وإذا علم أن هذا الميزان يختلف بين المؤمنين والكافرين، فقد يتساوى المؤمن والكافر في الظاهر في صورة الابتلاء بالمنع أو العطاء، لكن بينهما ما بين المشرق والمغرب؛ فهذا المؤمن استقرت نفسه وهدأ خاطره، فأقبل على عبادة ربه بطمأنينة وسكينة، واستقبل قضاء الله وقدره بمزيد من الرضا والتسليم، شاكراً لنعمائه، صابراً على ابتلائه، فنال بذلك أعلى الدرجات وحصَّل أعلى الكرامات، وليس ذلك إلا للمؤمن، كما قال عليه السلام:"عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير -وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن- إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".
الركن السابع: فقه التعامل مع أقدار الله الشاملة للسراء والضراء ما يلي:
يقول أهل العلم من علامات السعادة أن المسلم إذا أُنعم عليه شكر وإذا ابتُلي صبر وإذا أذنب استغفر، فعلى المؤمن أن يصبر على كل ما يُصيبه من مصائب وبلايا لينال أجر الصابرين الشاكرين، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" رواه مسلم. فالمؤمن الذي تُصيبه السراء والنعمة فيشكر ربه فله العاقبة الحسنة، وذلك لأن الله يحب الشاكرين، ويزيدهم من نعمه، قال تعالى:(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)[إبراهيم:7]. والمؤمن الذي يصبر على الضراء ينال أجر الصابرين، كما قال تعالى:(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة:155 - 157].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من يصبر على فقد (موت) ولده ولا يجزع، بل يسترجع، ويحمد الله، أن الله يبني له بيتاً في الجنة جزاءً على صبره وشكره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد" رواه الترمذي، وقال حديث حسن.
ومعنى استرجع: قال: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فعلى المؤمن أن يقول ذلك إذا أصابته مصيبة من المصائب، وعليه أن يرجع إلى الله، وأن يكثر من ذكره ومن الصلاة، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر يفزع إلى الصلاة.
ومعنى حزبه: أي نزل به أمر مهم.
ومن الأمور التي تهون المصائب: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والوضوء، وتلاوة القرآن الكريم، وتوثيق الصلة بالله سبحانه، والتوبة من كبائر الذنوب
…
إلخ.
استدراك: ليس من الصبر المحمود، الصبر على المعاصي إنما المحمود الصبر عن المعاصي وفرقٌ بين المسألتين.
• بيان عدم التعارض بين قوله تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) وقوله عليه الصلاة والسلام (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل):
لا تعارض بين الآية والحديث المذكورين حتى يُوَفَق بينهما، وسر الفرق بينهما أن المصائب أعم من العقوبة فليست كل مصيبة تكون عقوبة بل قد تكون المصيبة ابتلاء لرفع الدرجات كما هو الحال مع ما أصاب الأنبياء عليهم السلام وأما قوله تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) المقصود بالمصيبة هنا هي المصائب الجارية مجرى العقوبة والجزاء على الذنب لا مُطلق المصيبة ، ومجيء العام على معنى بعض أفراده أمر معروف، وقد تقدم أن المصيبة أعم من العقوبة ، والذي يدلك على هذا هو أن البهائم والأطفال ليسوا بمنأى عن المصائب فهل يقول عاقل أن ما أصابهم بسبب ذوبهم؟!!.
وبهذا يتبين لك أن من أسباب المصائب الذنوب، ولكنها ليست السبب الوحيد، فقد يبتلي الله تعالى بعض عباده الصالحين الذين لم يستوجبوا العقاب بذنوبهم، لينالوا أجر الصابرين، وترتفع بذلك درجاتهم، كما قد يصيب الله بعض الأطفال بالمصائب، وهم لا ذنب لهم.
أما على مذهب من يرى عدم عصمة الأنبياء من الذنوب الصغائر ويرى أن جميع المصائب للمكلفين بسبب الذنوب بلا استثناء فتكون الآية على ظاهرها وأن ابتلاء الله لأنبيائه بالمصائب لعلو منزلتهم ولإرادة الله عز وجل تكميل عبوديتهم له ليقربهم إليه أكثر ويُكرمهم يوم القيامة ولمعاملة الله عز وجل لهم معاملة خاصة ويُشدد الحساب عليهم لعلو منزلتهم عنده وكما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين وعلى هذا تكون المصائب في حقهم رفعة درجات نتيجة تكفير صغائر ذنوبهم والله أعلم.
وعلى هذا؛ فلا تعارض بين الآية والحديث في كلا الحالين.