المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حقيقة الظلم المنفي عن الله عز وجل وحده: - فقه الابتلاء وأقدار الله المؤلمة

[أبو فيصل البدراني]

فهرس الكتاب

- ‌ القضاء والقدر:

- ‌ تعريف القضاء والقدر:

- ‌ هل للإنسان قدرة ومشيئة أم لا

- ‌ حكمة الله عز وجل:

- ‌ الاحتجاج بالقدر:

- ‌ القضاء والقدر يُعالج بالقضاء والقدر:

- ‌ وجوب تنزيه الله سبحانه عن الشر والظلم:

- ‌ حقيقة الظلم المنفي عن الله عز وجل وحدَُه:

- ‌ كيفية التوفيق بين اعتقاد أن القدر خيره وشره من الله وبين محبة الله:

- ‌ حكم الرضا بالقضاء:

- ‌ فقه الابتلاء بالضراء:

- ‌ تعريف البلاء والابتلاء والمصيبة والعقوبة:

- ‌ معالم العقوبة:

- ‌ الفرق بين المصيبة والعقوبة:

- ‌ الفرق بين الابتلاء والعقوبة:

- ‌ الفرق بين المصيبة والابتلاء:

- ‌ الفرق بين المصائب العامة والخاصة:

- ‌ أحوال المصيبة في الدنيا:

- ‌ علاقة المصائب بالذنوب:

- ‌ بيان بأن طاعة الله عز وجل ليست سبب للشؤم والمصائب:

- ‌أحوال المسلم مع أقدار الله المؤلمة عموماً:

- ‌ فقه الابتلاء بالضراء:

- ‌ أركان فقه الابتلاء بالضراء:

- ‌ تأويل هلاك الأفاضل في الحوادث والزلازل والكوارث:

- ‌ تأويل ابتلاء الأنبياء:

- ‌ تأويل تقدير المصائب على الحيوانات:

- ‌ تأويل مصائب الأطفال:

- ‌ مفهوم الحياة الطيبة:

- ‌الخاتمة:

الفصل: ‌ حقيقة الظلم المنفي عن الله عز وجل وحده:

وظلمه وإعراضه والجزاء والعقوبة من الله.

- ليس كل ما يريد الله كوناً يرضاه ويحبه شرعاً وديانة.

فالإرادة الربانية تنقسم إلى قسمين:

1 -

كونية قدرية: وهي مرادفة للمشيئة ولا يخرج عن مرادها شيء أبداً ولا بد أن تقع.

2 -

شرعية دينية: وتتضمن محبة الرب ورضاه ولا يلزم وقوعها فقد تقع وقد لا تقع لأنها تتعلق بفعل العبد الاختياري.

- قد يُريد الله أمراً ويشاؤه وفي الوقت نفسه لا يحبه إذ أن المراد نوعان:

1 -

مراد لنفسه إرادة الغايات ومنه خلق جبريل عليه السلام.

2 -

مراد لغيره فهو وسيلة إلى غيره مثل خلق إبليس فهو مكروه لله من حيث نفسه وذاته ومُراد له عز وجل من حيث قضاؤه وإيصاله إلى مُراده فهو سبب لحصول محاب كثيرة فيجتمع الأمران بغضه له وإرادته له ولا يتنافيان فيُبغض من وجه ويُحب من وجه آخر.

•‌

‌ حقيقة الظلم المنفي عن الله عز وجل وحدَُه:

أهل السنة والجماعة لا يقصرون معنى الظلم في حق الله على: (التصرف في ملك الغير، أو مخالفة من تجب طاعته) كما تقوله بعض المذاهب. فيكون الظلم ممتنعاً لذاته على الله ، بل الظلم عندهم أعم من هذا، فالظلم في حق الله سبحانه هو: وضع الشيء في غير موضعه. فالله سبحانه قادر على الظلم، لكنه منزه عنه، وقد حرمه على نفسه. وقد جمع شيخ الإسلام بين المعنيين فقال في (الرسالة الأكملية): الظلم من الله إما أن يقال: هو ممتنع لذاته؛ لأن الظلم تصرف المتصرف في غير ملكه، والله له كل شاء، أو الظلم مخالفة الأمر الذي تجب طاعته، والله تعالى يمتنع منه التصرف في ملك غيره، أو مخالفة أمر من يجب عليه طاعته، فإذا كان الظلم ليس إلا هذا أو هذا، امتنع الظلم منه. وإما أن يقال: هو ممكن لكنه سبحانه لا يفعله لغناه وعلمه بقبحه، ولإخباره أنه لا يفعله، ولكمال نفسه يمتنع وقوع الظلم منه، إذ كان العدل والرحمة من لوازم ذاته، فيمتنع اتصافه بنقيض صفات الكمال التي هي من لوازمه على هذا القول، فالذي يفعله لحكمة اقتضت ذلك، كما أن الذي يمتنع من فعله لحكمة تقتضي تنزيهه عنه. اهـ.

وقال ابن القيم في (الفوائد): زعمت طائفة أن العدل هو المقدور والظلم ممتنع لذاته، قالوا: لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير، والله له كل شيء فلا يكون تصرفه في خلقه إلا عدلا .... وأما أهل السنة فالظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه

ص: 9

كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له، وهذا قد نزه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه. اهـ. بتصرف يسير.

فالظلم لغة هو وضع الشيء في غير موضعه كما ذكرنا، وقد تمدح الله بنفي الظلم عن نفسه ونزه نفسه عنه لكمال عدله وحكمته تبارك وتعالى، وأما التأويل المذكور القائل بأن معنى الظلم مقصور على:(التصرف في ملك الغير، أو مخالفة من تجب طاعته) كما تقوله بعض المذاهب فيكون الظلم ممتنعاً لذاته على الله. فغير صحيح في اللغة ولا في المعنى، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وَأَمَّا مَنْ قَالَ: هُوَ ـ أي الظلم ـ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، فَهَذَا لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ وَلَا مُنْعَكِسٍ، فَقَدْ يَتَصَرَّفُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِحَقٍّ وَلَا يَكُونُ ظَالِمًا، وقد يتصرف في ملكه بغير حق فيكون ظالما. انتهى.

وفي الحديث " ياعبادي إِنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفسِي" أي منعته مع قدرتي عليه، وإنما قلنا: مع قدرتي عليه لأنه لو كان ممتنعاً على الله لم يكن ذلك مدحاً ولا ثناءً، إذ لايُثنى على الفاعل إلا إذا كان يمكنه أن يفعل أو لا يفعل.

فلو سألنا سائل مثلاً وقال: هل يقدر الله أن يظلم الخلق؟

فالجواب: نعم، لكن نعلم أن ذلك مستحيل بخبره، حيث قال:(وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)

[الكهف:49] وأيضاً مستحيل لكمال عدله.

وقال ابن القيم رحمه الله مبينا وجه نفي الظلم عن الله تعالى: قد اتفق أهل الأرض والسماوات على أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَدْلٌ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا، حَتَّى أَعْدَاءَهُ الْمُشْرِكِينَ الْجَاحِدِينَ لِصِفَاتِ كَمَالِهِ، فَإِنَّهُمْ مُقِرُّونَ لَهُ بِالْعَدْلِ وَمُنَزِّهُونَ لَهُ عَنِ الظُّلْمِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَدْخُلُونَ النَّارَ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِعَدْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ {الملك: 11} وَقَالَ تَعَالَى: يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ {الأنعام: 130} فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، وقد اختلفت طرق الناس في حقيقة الظلم الذي ينزه عنه الرب سبحانه وتعالى، فَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ: هُوَ الْمُحَالُ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَكَوْنُ الشَّيْءِ مَوْجُودًا مَعْدُومًا، قَالُوا: لِأَنَّ الظُّلْمَ إِمَّا التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَإِمَّا مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَكِلَاهُمَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَإِنَّ اللَّهَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ فَوْقَهُ أَمْرٌ تَجِبُ طَاعَتُهُ، قَالُوا: وهو قول كثير من الفقهاء أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، ثم ذكر قول القدرية المتضمن لنفي خلق أفعال العباد ثم قال: وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ

ص: 10

فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ حَكَمٌ عَدْلٌ، لَا يَضَعُ الشَّيْءَ إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يُنَاسِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ وَالْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ وَلَا يُسَاوِي بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا يُعَاقِبُ إِلَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَيَضَعُهَا مَوْضِعَهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَلَا يُعَاقِبُ أَهْلَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً، وَتَفْسِيرُ الظُّلْمِ بِذَيْنِكَ التَّفْسِيرَيْنِ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَوَضْعٌ جَدِيدٌ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، يُقَالُ: ظَلَمَ الرَّجُلُ سِقَاءَهُ إِذَا سَقَى مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ زُبَدُهُ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هُوَ أَظْلَمُ مِنْ حَيَّةٍ، لِأَنَّهَا تَأْتِي الْحُفَرَ الَّذِي لَمْ تَحْفُرْهُ فَتَسْكُنُهُ وَيُقَالُ: قَدْ ظَلَمَ الْمَاءُ الْوَادِي إِذَا وَصَلَ مِنْهُ إِلَى مَكَانٍ لَمْ يَكُنْ يَصِلُ إِلَيْهِ فِيمَا مَضَى، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مَسْعُودٍ وَالْفَرَّاءُ: أَصْلُ الظُّلْمِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وهذا القول هو الصواب المعروف في لغة الْعَرَبِ وَالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ أَلْفَاظُهُمَا عَلَى لُغَةِ الْقَوْمِ لَا عَلَى الِاصْطِلَاحَاتِ الْحَادِثَةِ، فَإِنَّ هَذَا أَصْلُ كُلِّ فَسَادٍ وَتَحْرِيفٍ وَبِدْعَةٍ، وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ الْبِدَعِ دَائِمًا، يَصْطَلِحُونَ عَلَى مَعَانٍ يَضَعُونَ لَهَا أَلْفَاظًا مِنْ أَلْفَاظِ الْعَرَبِ ثُمَّ يَحْمِلُونَ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى تِلْكَ الِاصْطِلَاحَاتِ الْحَادِثَةِ. انتهى بتصرف.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن حديث:"لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا لهم من أعمالهم".قال: يبين أن العذاب لو وقع لكان لاستحقاقهم ذلك؛ لا لكونه بغير ذنب، وهذا يبين أن من الظلم المنفي عقوبة من لم يذنب. وكذلك قوله تعالى:{وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد} . يبين أن هذا العقاب لم يكن ظلما؛ لاستحقاقهم ذلك وإن الله لا يريد الظلم. اهـ.

وقال ابن تيمية أيضاً معلقاً على ذات الحديث في موضع آخر: والتحقيق أنه إذا قدر أن الله فعل ذلك فلا يفعله إلا بحق لا يفعله وهو ظالم، لكن إذا لم يفعله فقد يكون ظلما يتعالى الله عنه. اهـ.

وقال بعض أهل العلم بأن تعذيب المطيع ومن لا ذنب له يعتبر من هذه الحيثية هو من الظلم الذي تنزه الله تعالى عنه وإلا لو عذبه في الدنيا لمقتضى آخر كالابتلاء والاختبار ونحوه فلا يكون ظلماً.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في أحد دروسه:} والمستحيل ما لا يمكن وجوده، والجائز ما يمكن وجوده وعدمه، والواجب ما لا يمكن عدمه، والموجودات إما من قبيل الجائز أو من قبيل الواجب أو من قبيل المستحيل.

ونرجع في استحالة الشيء وعدمه قطعاً إلى الشرع؛ أي إلى الكتاب والسنة، فيما يتعلق بالشرعيات، وإلى الواقع وأهل الخبر فيما سوى ذلك، وإلا لأمكن كل واحد

ص: 11

أن يقول: هذا مستحيل، كما قال أهل التعطيل: إن الله مستحيل أن يكون له وجه، ومستحيل أن يكون له يد، ومستحيل أن يكون له عين، وما أشبه ذلك.

لكن الكلام على الواقع، فالمستحيل غير ممكن، والواجب غير ممكن عدمه، والجائز ما أمكن وجوده وعدمه.

ولنضرب لهذا أمثلة: فوجود إله مع الله مستحيل ولا شك، وعدم الله مستحيل، ووجود الله واجب، ووجود الآدمي جائز؛ لأن الله تعالى جائز أن يخلق الآدميين وجائز ألا يخلق، وتعذيب الله سبحانه وتعالى للطائع ممتنع وإن كان يمكن أن يقع، لكنه ممتنع شرعاً، وممتنع عقلاً من وجه آخر، ممتنع شرعاً لأن الله تعالى أخبر أنه لا يظلم أحداً، وتعذيب الطائع ظلم، قال الله تعالى:(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً)(طه: الآية112) إذاً فهو مستحيل شرعاً، وهو مستحيل عقلاً بالنسبة لله عز وجل؛ لأن الله منزه عن الظلم لذاته. فإن قال قائل: إنه جاء في الحديث: ((إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم))، وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لن يدخل أحد الجنة بعمله)) قالوا: ولا أنت؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)).قلنا لا إشكال، أما الأول: فمعناه أن الله لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهم مستحقون للعذاب، وهو غير ظالم، وهم إنما يستحقون متى خالفوا؛ بترك الطاعة أو بفعل المعصية.

وأما الثاني: فالباء في قوله: ((بعمله)) للمعاوضة، يعني لو رجعنا إلى التعويض لم يدخل أحد الجنة؛ لأن الإنسان لو حُوسب على أدنى نعمة من الله لهلك، لكن برحمة الله سبحانه وتعالى

انتهى.

ويقول أحد أهل العلم عن ذات الحديث: الإشكال أننا تصورنا أن العذاب كائن قبل العمل والنص لا يدل عليه بل يدل أن العذاب لو كان لكان بعد العمل بدليل قوله لو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يطمئننا ويثبت قلوبنا بأنه لو فُرض أن الله سيعذب خلقه فلن يكون ذلك إلا بذنوب تستحق ذلك، فليطمئن كل إنسان إلى عدل الله وقدره وحكمته، وأنه لا يعذب أحداً إلا مستحقاً للعذاب، والدليل على دقة هذا الفهم أنه رد على ما حاك في صدر ابن الديلمي من القدر، وأنه ربما فهم من بعض الآيات أن الله يعذب من يشاء أو أن الله قدر كل شيء، وعليه فلا مهرب من قدر الله، فكيف يعذب الله الناس ولا مهرب لهم من القدر؟!!! فجاء الحديث يرسخ عنده وعندنا أنه لو فرض أن الله عذب جميع الخلق فلن يكون ذلك إلا بعد استحقاقهم ذلك بالذنوب ، وهو معنى قوله " لعذبهم وهو غير ظالم لهم " ولا يعذب الله من لا يرتكب الذنب

انتهى).

ص: 12

وقيل بأن معنى الحديث أنه لا ينجو أحد من الخلق بعمله معاوضةً لعظيم فضل الله عليه وفي ذلك يقول ابن القيم في (شفاء العليل): هذا الحديث حديث صحيح، رواه الحاكم في صحيحه، وله شأن عظيم، وهو دال على أن من تكلم به أعرف الخلق بالله وأعظمهم له توحيدا وأكثرهم له تعظيما، وفيه الشفاء التام في باب العدل والتوحيد؛ فإنه لا يزال يجول في نفوس كثير من الناس كيف يجتمع القضاء والقدر والأمر والنهي؟ وكيف يجتمع العدل والعقاب على المقضي المقدر الذي لا بد للعبد من فعله؟ ثم سلك كل طائفة في هذا المقام واديا وطريقا. اهـ.

وذكر كلاما طويلا ومفيدا، ثم أطال النفس في تقرير عظيم إحسان الله إلى خلقه وإنعامه عليهم بما لا يقدرون عن إحصائه فضلا عن شكره وأداء حق عبوديته، وأنه لا ينجو أحد منهم بعمله، ثم قال رحمه الله: فعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم ببعض حقه عليهم. اهـ.

وقال في آخر الباب: وسر المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره وعلى قدر نعمه ولا يقوم بذلك أحد، كان حقه سبحانه على كل أحد وله المطالبة به، وإن لم يغفر له ويرحمه وإلا عذبه، فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه، فإن لم يحفظهم هلكوا، وإن لم يرزقهم هلكوا، وإن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا. اهـ.

وقد أجاب الشيخ ابن عثيمين في موضع آخر من (شرح العقيدة السفارينية) عن هذا الحديث فقال: الجواب عنه يكون من أوجه: أولاً: ينظر في صحة الحديث. ثانياً: فإذا صح كان المعنى أن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لكان تعذيبه إياهم في غير ظلم، أي لكان تعذيبه إياهم بسبب منهم وهو المعصية. ثالثاً: لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، وذلك بأن يقابل إحسانه بإحسانهم، فإنه إذا قابل إحسانه بإحسانهم صار إحسانهم ليس بشيء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لن يدخل أحد الجنة بعمله" أي من باب المقابلة، لأن الله لو حاسبنا على وجه المناقشة لكان فعلنا للخيرات دَيناً علينا، لأنه هو الذي منَّ علينا بذلك، وحينئذٍ لو عذبنا في هذه الحال أو من هذا الوجه لعذبنا وهو غير ظالم، هذا إذا صح الحديث، وعلى ذلك فلا يكون في هذا إشكال. اهـ.

وقال ابن القيم أيضاً مقرراً هذا المعنى: الصراط المستقيم الذي فطر الله عليه عباده وجاءت به الرسل ونزلت به الكتب وهو أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب مقتضية لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله وفضله ومنه وصدقته على عبده إن أعانه عليها ووفقه لها وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها وحببها إليه وزينها في قلبه وكره إليه أضداها، ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه ولا هي على قدره بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه

ص: 13

وجهده وأوقعها على أكمل الوجوه أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه، فلو طالبه بحقه لبقي عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بشكرها، فلذلك لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.

وقال ابن القيم كذلك في (مفتاح دار السعادة): لو عذب أهل سماواته وأرضه لكان ذلك تعذيبا لحقه عليهم وكانوا إذ ذاك مستحقين للعذاب؛ لأن أعمالهم لا تفي بنجاتهم. اهـ.

وأما ابن رجب فنحا نحوا آخر في (جامع العلوم والحكم) حيث قال: في هذا الحديث نظر، ووهب بن خالد ليس بذلك المشهور بالعلم. وقد يحمل على أنه لو أراد تعذيبهم، لقدر لهم ما يعذبهم عليه، فيكون غير ظالم لهم حينئذ. اهـ.

وعلى هذا يتبين لنا بأن الظلم المنفي عن الله عز وجل والذي حرمه الله على نفسه هو وضع الشيء في غير موضعه، ومنع ذي الحق حقه، كأن ينقص أحداً من ثواب حسناته، أو يحمل أحداً أوزار غيره ، وليثق المسلم أن كل مخلوق له حق عند الله عز وجل فسيأخذه لا محالة وهذا متفق عليه بين جميع المسلمين وإن اختلفت مذاهبهم في معرفة وبيان تفصيل هذه الحقوق ، ولهذا صدق القائل حين قال:

ما للعباد عليه حق واجب * كلا ولا سعي لديه ضائع.

إن عذبوا فبعدله أو نعموا * فبفضله وهو الكريم الواسع.

ثم اعلم أخي المسلم بأنه ليس للناس على الله حق إلا ما أحقه الله على نفسه، وقد أحق الله على نفسه لعباده حقوقا كثيرة، منها: حق النصرة للمؤمنين، كما قال تعالى [وكان حقا علينا نصر المؤمنين] ومنها أن لا يعذب من لم يشرك به شيئا، فقد ثبت في ((الصحيحين)) من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه، وهو رديفه: يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم. فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، ومنها أن من حفظ الله منهم حفظه ووجده تجاهه.

وهنا مسألة مهمة وهو أنه لا يجب العدل في الفضل إنما العدل يكون في الحقوق علماً بأن الله عز وجل لا يتفضل على أحد من خلقه إلا بسبب وموجب من العبد علمه من علمه وجهله من جهله والله أعلم بمن يصلح لفضله فعن عبد الله بن عمر

ص: 14