المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تأويل هلاك الأفاضل في الحوادث والزلازل والكوارث: - فقه الابتلاء وأقدار الله المؤلمة

[أبو فيصل البدراني]

فهرس الكتاب

- ‌ القضاء والقدر:

- ‌ تعريف القضاء والقدر:

- ‌ هل للإنسان قدرة ومشيئة أم لا

- ‌ حكمة الله عز وجل:

- ‌ الاحتجاج بالقدر:

- ‌ القضاء والقدر يُعالج بالقضاء والقدر:

- ‌ وجوب تنزيه الله سبحانه عن الشر والظلم:

- ‌ حقيقة الظلم المنفي عن الله عز وجل وحدَُه:

- ‌ كيفية التوفيق بين اعتقاد أن القدر خيره وشره من الله وبين محبة الله:

- ‌ حكم الرضا بالقضاء:

- ‌ فقه الابتلاء بالضراء:

- ‌ تعريف البلاء والابتلاء والمصيبة والعقوبة:

- ‌ معالم العقوبة:

- ‌ الفرق بين المصيبة والعقوبة:

- ‌ الفرق بين الابتلاء والعقوبة:

- ‌ الفرق بين المصيبة والابتلاء:

- ‌ الفرق بين المصائب العامة والخاصة:

- ‌ أحوال المصيبة في الدنيا:

- ‌ علاقة المصائب بالذنوب:

- ‌ بيان بأن طاعة الله عز وجل ليست سبب للشؤم والمصائب:

- ‌أحوال المسلم مع أقدار الله المؤلمة عموماً:

- ‌ فقه الابتلاء بالضراء:

- ‌ أركان فقه الابتلاء بالضراء:

- ‌ تأويل هلاك الأفاضل في الحوادث والزلازل والكوارث:

- ‌ تأويل ابتلاء الأنبياء:

- ‌ تأويل تقدير المصائب على الحيوانات:

- ‌ تأويل مصائب الأطفال:

- ‌ مفهوم الحياة الطيبة:

- ‌الخاتمة:

الفصل: ‌ تأويل هلاك الأفاضل في الحوادث والزلازل والكوارث:

•‌

‌ تأويل هلاك الأفاضل في الحوادث والزلازل والكوارث:

في البداية إن من رحمة الله بالخلق أنه لا يعذبهم بعذاب عام ينال المسيء والمحسن إلاّ إذا فشى فيهم الخبث وظهر بينهم، وابتعدوا عن منهج الله، قال المهلب " ظهور الزلازل والآيات وعيد من الله تعالى لأهل الأرض، قال الله تعالى: "وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً" [الإسراء: 95]، والتخويف والوعيد بهذه الآيات إنما يكون عند المجاهرة والإعلان بالمعاصي، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حين زلزلت المدينة في أيامه قال: (يا أهل المدينة ما أسرع ما أحدثتم والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم). فخشي أن تصيبه العقوبة معهم"

انتهى.

وحينها يكون الهلاك خيراً عند أهل الإيمان المغلوبين على أمرهم من الحياة وسط بيئة يُحارب فيها الله صباح مساء، ويُجاهر فيها بمعصيته ومحادته.

وعلى هذا جرت سنة الله في خلقه فمتى استشرى السرطان في الجسد، وتمكن منه، فغلب عليه فساد أعضائه، بعث الله برحمته ملك الموت ليقبض المُصاب على الرغم من صلاح الكبد والطحال أو غيرها من الأعضاء، فيموت المريض وله قلب ينبض، وعقل يحمد، ولو مد الله في أجله لفسدا تأثراً بالبيئة السرطانية.

وهكذا إذا استشرى الفساد في المجتمعات، وأبى مفارقتها أهل الصلاح لغير موجب شرعي ، أوشك أن يعمهم العذاب، إما عقوبة لهم على بقائهم بلا موجب شرعي، أو رحمة بهم قبل أن ينالهم الفساد الذي أحكم قبضته فحال بينهم وبين المفارقة.

وفي حديث أنس المتفق عليه: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي"، فدل هذا بمفهومه على أن الوفاة قد تكون خيراً للمسلم.

قال ابن عبد البر عند هذا الحديث بعد أن قرر النهي عن تمني الموت لبلاء نزل: "وقد يجوز تمني الموت لغير البلاء النازل، مثل أن يخاف على نفسه المرء فتنة في دينه

انتهى"، قال النووي: "فيه التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا، فأما إذا خاف ضرراً في دينه أو فتنة فيه فلا كراهة فيه لمفهوم هذا الحديث وغيره وقد فعل هذا الثاني خلائق من السلف عند خوف الفتنة في أديانهم

انتهى".

وما ضر مشتاق إلى لقاء ربه، طامع في النظر إلى وجهه، أن تعجلت له بوادر ذلك، بأمر الله إذا فسد الناس.

وهنا أخي القاراء الكريم قد يقول قائل: كيف تعدون هذه الزلازل وتلك الكوارث والحوادث عقوبات من الله وقد يهلك فيها الصالحون، أو يجوز نزول العذاب على الصالحين عندكم؟ ومع أن هذه المقدمة تشير إلى الجواب، بل النص النبوي فيها

ص: 38

صريح، غير أن بسطه من الأهمية بمكان؛ لأن التشغيب بنحو هذا من قبل أولياء الباطل من أجل تقرير أن الزلازل والفيضانات والبراكين التي تصيب بعض الأمم الباغية لا علاقة لها ولا مدلول يشير إلى صلاح أو فساد نجمت عنه الكارثة، والحجة عندهم أن تلك الكوارث بعينها تصيب أهل الإسلام فيهلك من الصالحين أناس.

مع أن الله يقول: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"[الروم:41]. وقال سبحانه: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ"[الشورى:30]، وقال لخير القرون رضي الله عنهم:"أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"[آل عمران:165].

وللجواب على هذا الإشكال لابد في البداية أن نفهم مسألة مهمة في هذا الباب وهي أنهلك وفينا الصالحون؟ أو بصيغة أخرى أيهلك القوم وفيهم الصالحون؟ أجيب بأن الله قد أعذر فأنذر عباده، قال عز سلطانه:"وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"(الأنفال:25)، وفي الصحيحين من حديث زينب بنت جحش –رضي الله عنها قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟

قال: "نعم إذا كثر الخبث".

قال أبو الوليد الباجي، وهو من علماء القرن الخامس: "فهذا مع الصالحين فكيف مع قلتهم أو مع عدمهم نسأل الله أن يتجاوز عنا بفضله ويتغمد زللنا برحمته

انتهى"، ولا يسعنا إلاّ أن نقول: آمين!

وفي صحيح البخاري بابٌ: إذا أنزل الله بقوم عذاباً.

قال ابن حجر: بتصرف يسير مني "حذف الجواب اكتفاء بما وقع في الحديث"، ثم ساق حديث يونس بن زيد:"إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بٌعثوا على نياتهم"، قال ابن حجر:"والمراد من كان فيهم ممن ليس هو على رأيهم، قوله: "ثم بعثوا على أعمالهم" أي: بعث كل واحد منهم على حسب عمله، إن كان صالحاً فعقباه صالحة، وإلاّ فسيئة فيكون ذلك العذاب طُهرة للصالحين ونقمة على الفاسقين" ثم ذكر آثاراً عدة في هذا المعنى، وقال:"والحاصل أنه لا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في الثواب أو العقاب بل يُجازى كل أحد بعمله على حسب نيته"، ثم ذكر قول ابن أبي جمرة في سبب إهلاك الصالحين، فقال:"إنما يقع بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -بغير موجب شرعي-، وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقاً، لا يرسل الله عليهم العذاب، بل يدفع بهم العذاب، ويؤيده قوله تعالى: "وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ" [القصص:59]، وقوله تعالى: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" [الأنفال:33]، ويدل على تعميم العذاب لمن لم ينه عن المنكر -مع عدم المفارقة حال

ص: 39

وقوعه- وإن لم يتعاطاه قوله تعالى: "فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ"[النساء:140]، ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار، ومن الظلمة، لأن الإقامة معهم -بلا موجب شرعي- من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يعنهم ولم يرض بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم، ويؤيده أمره صلى الله عليه وسلم بالإسراع في الخروج من ديار ثمود.

وأما بعثهم على أعمالهم فحكم عدل؛ لأن أعمالهم الصالحة إنما يجازون بها في الآخرة، وأما في الدنيا فمهما أصابهم من بلاء كان تكفيراً لما قدموه من عمل سيئ، فكان العذاب المُرسل في الدنيا على الذين ظلموا يتناول من كان معهم ولم يُنكر عليهم فكان ذلك جزاءً لهم على مداهنتهم، ثم يوم القيامة يُبعث كلٌ منهم فيُجازى بعمله.

وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهي -بلا موجب شرعي-، فكيف بمن داهن، فكيف بمن رضي، فكيف بمن عاون؟ نسأل الله السلامة، قلتُ: فأتى كلامه أن أهل الطاعة لا يصيبهم العذاب في الدنيا بجريرة العصاة وإلى ذلك جنح القرطبي في التذكرة" اهـ.

ثم مال ابن حجر إلى أنه ليس من شرط إهلاكهم سكوتهم عن الإنكار فقال: "وما قدمناه قريباً أشبه بظاهر الحديث وإلى نحوه مال القاضي بن العربي".

ولعل هذا القول قريب من قول ابن قتيبة رحمه الله في تأويل مختلف الحديث:" فأما عقاب الله تعالى إذا هو أتى فيعم وينال المسيء والمحسن قال الله تعالى: "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً" (الأنفال: من الآية25) [الأنفال:25] يريد أنها تعم فتصيب الظالم وغيره، وقال عز وجل: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا" (الروم: من الآية41) [الروم:41]. وقالت أم سلمة: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون، فقال: نعم إذا كثر الخبث، وقد تبين لهم أن الله تعالى غرق أمة نوح عليه السلام كلها وفيهم الأطفال والبهائم بذنوب البالغين وأهلك قوم عاد بالريح العقيم وثمود بالصاعقة وقوم لوط بالحجارة ومسخ أصحاب السبت قردة وخنازير وعذب بعذابهم الأطفال، قال أنس بن مالك: إن الضب في جحره ليموت هزلاً بذنب ابن آدم، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مُضر، فقال:"اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف" فتتابعت عليهم الجدوبة والقحط سبع سنين، حتى أكلوا القد والعظام .. فنال ذلك الجدب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ..... "إلخ.

ثم عقب رحمه الله بكلمة تسطر بماء الذهب، رأى صوابها كل من له عينين، فقال: " وقد رأينا بعيوننا ما أغنى عن الأخبار، فكم من بلد فيه الصالحون والأبرار، والأطفال والصغار، أصابته الرجفة، فهلك به البر والفاجر، والمسيء والمحسن، والطفل والكبير؛ كقومس ومهرجان وقذق والري ومدن كثيرة من مدن الشام واليمن

ص: 40

وهذا شيء يعرفه كل من عرف الله عز وجل من أهل الديانات وإن اختلفوا".

وحاصل القول هو أن ما اختاره ابن أبي جمرة من عدم وقوع العذاب على المُصلحين بل دفع الله بهم العذاب عن العاصين أقرب للصواب (ويُلحق بالمُصلحين المقيمين بينهم لموجب شرعي)، ويشهد لمذهب أبي جمرة أدلة كثيرة منها:

1 -

تقييد الإهلاك العام في النصوص التي احتج بها المخالف بالسكوت عن الإنكار في أحاديث أخر، كما في حديث الترمذي الذي صححه هو وغيره، عن أبي بكر الصديق أنه قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه". وكما في حديث السفينة، وغيرهما.

2 -

قول الله تعالى: "ولاتزر وازرة وزر أخرى" وقوله سبحانه "لايكلف الله نفساً إلا وسعها" وما في معناهما.

3 -

عموم الأدلة في حفظ الله من حفظه، كحديث ابن عباس: يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، الحديث. قال ابن رجب: "وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان؛ أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله

النوع الثاني من الحفظ وهو أشرف النوعين حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة ويحفظ عليه دينه ثم موته فيتوفاه على الإيمان".

4 -

النصوص الواردة في حفظ الله للقرى وأهلها الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، كقول الله تعالى:" فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَاّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ"[هود:116 - 117].

5 -

نصوص الوعد بالسلامة والنجاة للأنبياء والمؤمنين إذا نزل العذاب، كما في قول الله تعالى:"فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَاّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ"[يونس: 102 - 103].

6 -

إخبار الله عن إنجائه الذين ينهون عن المنكر ويدعون إلى المعروف في مواطن عديدة، إذا نزل العذاب، كشأن كثير من أنبياء الله ورسله وأتباعهم من المؤمنين، قال الله تعالى:"وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ"[هود:58]، "فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ " [هود:66]، "وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي

ص: 41

دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ" [هود:94]، وكما في خبر نوح، ولوط، وغيرهم من رسل الله، قال الله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ" [الأنبياء: 7 - 9]، وقال الله عز وجل عن أصحاب السبت: "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" [الأعراف:165]. ولهذا قال حبر الأمة وترجمان القرآن: "لم يُعذب أهل قرية حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرج المؤمنون، ويلحقوا بحيث أمروا".

فهذه وغيرها أدلة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لمنع العذاب العام، فإذا قيل فما بال القرى ترتجف فيهلك فيها الصالح والطالح، أجيب بأن الصالح لا يلزم أن يكون مُصلحاً، وإن كان صالحاً، فإن تركه الأمر والنهي قد يكون معصية لا ترفع عنه وصف مُطلق الصلاح، وبخاصة مع تأوله وتركه الهجرة المتعينة، ولهذا قال: عمر بن عبد العزيز كان يقال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عُمل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم. قال أبو الوليد الباجي:"يريد قول الله عز وجل: "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" [الأنعام:164 وغير آية]، وقوله _رضي الله عنه_ ولكن إذا عمل المنكر جهاراً يقتضي أن للمجاهرة بالمنكر من العقوبة مزية ما ليس للاستتار به وذلك أنهم كلهم عاصون من بين عامل للمنكر وتارك للنهي عنه والتغيير على فاعله، إلا أن يكون المُنكر له مستضعفاً لا يقدر على شيء فينكره بقلبه فإن أصابه ما أصابهم كان له بذلك كفارة وحُشر على نيته".

وقال ابن العربي في قول الله تعالى: "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً"[الأنفال:25]: "وتحقيق القول في ذلك أن الله قال: "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ" [البقرة:286]. وقال: "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" [الأنعام:164 وغير آية]، فقد أخبرنا ربنا أن كل نفس بما كسبت رهينة، وأنه لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد، وإنما تتعلق كل عقوبة بصاحب الذنب، بيد أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سُكت عنه فكلهم عاص؛ هذا بفعله، وهذا برضاه به. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل؛ فانتظم الذنب بالعقوبة، ولم يتعد موضعه، وهذا نفيس لمن تأمله".

(وللتنبيه فقط مقولة الراضي كالفاعل للإثم صحيحة لكن هذا من حيث الإثم أما من حيث رتبة الإثم فلا ، وشتَان ما بينهما إذ أن الراضي أقرب للمغفرة من الفاعل ، علماً بأن السكوت عن المنكر لغير موجب شرعي لا يلزم منه الرضا بالمنكر وإن كان آثماً على سكوته أما السكوت عن المنكر لموجب شرعي لا إثم فيه بل فيه الأجر والمثوبة).

ص: 42

نعود إلى موضوعنا ونقول إنه ربما قام بعض هؤلاء الصالحين بالأمر والنهي ولكن قام بهم مانع يحول دون تحقق وصف الصلاح أو الإصلاح فيهم، وإن خفي هذا على البشر فليس بخاف على الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وقد يكون السبب المانع من العذاب قائماً متحققاً كأن يكون الأمر بالمعروف لا يكل عنه المصلحون، والنهي عن المنكر لا يمل منه الطيبون، ومع ذلك ينزل الله العذاب، فيكون هذا من قبيل تخلف النتيجة مع تحقق السبب بقدر الله وأمره لاقتضاء الحكمة له في ذلك الموطن، كتخلف الولد على الرغم من حصول سببه وهو الزواج، ونحو ذلك مما هو مخالف للأصل، فيقدر بقدره.

والأصل هو أن الإصلاح من أسباب نجاة الداعين، وتقليل خبث المخبثين، وتأخير العقوبة عن عامة الناس أجمعين.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا شك أنه سبب رئيسي لإكرام الله للمُحتسِب بالنجاة عند حلول العذاب.

ويمكن تقسيم تعلق النجاة بالأمر والنهي؛ إلى أقسام:

1 -

فإن وضع المصلحون المعروف ورفعوا المنكر بأمرهم ونهيهم، سلموا وسلم الناس جميعاً.

2 -

وإن تركوا الأمر والنهي بلا موجب شرعي هلكوا وهلك الناس، ومثال صورة هذين الفريقين هي المذكور في حديث السفينة؛ حديث النعمان بن بشير في الصحيح والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك! قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء! فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم".

3 -

فإن أمروا ونهوا وبذلوا ما في وسعهم فلم يستجب لهم، ففارقوا قومهم وفاصلوهم، كما فعل كثير من أنبياء الله قبل حلول العذاب بأقوامهم، حينها تكون المُفاصلة نجاة لهم، كما كانت نجاة لأنبياء الله ورسله، وعندها يكون البقاء محرماً لوجوب الهجرة المتعينة، وهذا المعنى يُمكن انتزاعه من حديث السفينة فقد ضربت صورة للمسألة وبُيّن المآل لاحتمالين، وسكت عن تبين المآل فيما إذا لو حاول الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر الأخذ بأيدي الواقعين في محارم الله فلم ينتهوا وأصروا على الخرق بالوقوع في المحارم، فهنا يتعين على الآمرين والناهين المفارقة لينجو بأنفسهم قبل أن يُدركهم الغرق، وقد استدل غير واحد من أهل العلم على وجوب المفارقة إن استشرى الفساد بالآثار المؤذنة بحلول العذاب العام، قال الزرقاني: "وفي الاستذكار هذا يقتضي أنه لا ينبغي المُقام بأرض يظهر فيها المنكر

ص: 43

ظهوراً لا يُطاق والمقام بموضع يظهر فيه الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأغلب" ونحوه نقل ابن حجر. أما إن لم يأن أوان المفاصلة فيظل الإنكار والقيام بأمر الله صارفاً للعذاب، قال الله عز وجل: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" [الأنفال:33]، ولذا قال ابن عباس _رضي الله عنه_: لم يعذب أهل قرية حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرج المؤمنون، ويلحقوا بحيث أمروا ، وللعلم والتنبيه الهجرة من دار الفسق والبدعة مشروعة كما قرر العلماء ولكنها لا تجب ، ومناط إيجاب الهجرة هو عدم القدرة على إظهار الدين سواء كانت دار كفر أو لا.

4 -

وقد يأمر أهل الخير بالمعروف وينهون عن المنكر فلا يُستجاب لهم، ويستشري الفساد فلا يمايزون قومهم، وقد يكون هذا بعذر كعدم القدرة على المفارقة مع سعيهم لها، أو بغير عذر غير استمرارهم في الأمر والنهي طمعاً في أن يغير الله حالهم، فيدأبون على ذلك حتى ينزل العذاب، فهؤلاء قد يكرمهم الله بالنجاة وبالأخص إن سعوا في التمايز وبذلوا أسبابه، كما أكرم الله سبحانه موسى وقومه بالمعجزة الباهرة يوم فرق البحر فأنجاهم، ثم أغرق عدوهم ودمر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون، وقد يأخذهم الله مع الهالكين وبالأخص إن لم يعمدوا إلى مفاصلة قومهم، ولم يسعوا في مفارقتهم، رحمة بهم وتداركاً لهم قبل أن تصلهم يد الباطل المفسدة، ثم يبعثهم على نياتهم، ولعل من لطف الله بعباده المخلصين أنه يقدر لهم في مثل هذه الأحوال ما هو خير لهم فيكتب النجاة لمن كانت الحياة خيراً له، ويقبض إليه من كان قبضه خيراً له.

وبهذا يظهر وجه احتجاج نبي الله الحليم إبراهيم عليه السلام على الملائكة بقوله: "إِنَّ فِيهَا لُوطاً"[العنكبوت:32]، أثناء مجادلته عن قوم لوط طمعاً في تأخير العذاب عنهم، فجاءه الجواب:"قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ"[العنكبوت:32].

فكان اعتراضه صحيحاً، ومراده منه تأخير العذاب عن القوم لعلهم يرجعون، كما قال الله تعالى في الآية الأخرى:"فلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ"[هود:74 - 75]، فاعتراضه بلوط كان من أجل قومه، ولهذا قال الله تعالى:"يجادلنا في قوم لوط"، فجاءه الرد بأن ما اعترض به لن يناله السوء هو وأهله المؤمنون به، فلم تبق حجة تمنع حلول العذاب بالمفسدين، وفي هذا إقرار لصحة الاعتراض الأول القاضي بمنع إهلاك الأنبياء بعذاب يعمهم وأقوامهم، وكذلك المؤمنين من أتباعهم، وقد أورد أهل التفسير ما يدل على هذا أثناء حكايتهم لمجادلة إبراهيم، ويشهد له ما سبق عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 44