الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآفة الخامسة:
المزاح
…
أما اليسير فلا ينهى عنه إذا كان صدقا.
الآفة السادسة:
السخرية والاستهزاء .. ومعنى السخرية الاحتقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه.
الآفة السابعة:
إفشاء السر وإخلاف الوعد والكذب في القول واليمين، وكل ذلك منهي عنه، إلا ما رخص فيه من الكذب لزوجته وفي الحرب فإن ذلك يباح
وضابطه: أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب، فهو فهي مباح إن كان ذلك المقصود مباحا، وإن كان المقصود واجبا فهو واجب، فينبغي أن يتحرز عن الكذب مهما أمكن.
الآفة الثامنة:
الغيبة، هي ذكر أخاك الغائب بما يكرهه إذا بلغه، سواء كان نقصًا في بدنه أو في نسبه أو في ثوبه (1).
الآفة التاسعة:
النميمة، وهي إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه.
وهناك آفات أخرى كثيرة لا يتسع المقام لذكرها .. وقد حذر
(1) مختصر منهاج القاصدين 165 وما بعدها باختصار.
الله جل وعلا من تلك الآفات وأخبر أنها من الأعمال التي تحصى على ابن آدم ويحاسب عليها.
قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
[ق: 18].
وقال جل وعلا: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
ومن الأحاديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" رواه البخاري ومسلم.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" رواه الترمذي وابن ماجه.
وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل النار؟ قال: "الفم والفرج" وعندما سأل معاذ بن جبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده من النار، أخبره النبي صلى الله عليه وسلم برأسه وعموده وذروة سنامه، ثم قال:"ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " قال: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه، ثم قال:"كف عليك هذا" فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" رواه الترمذي.
وانظر أخي الكريم إلى عظم الأمر وخطورة الكلمة فقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب" متفق عليه.
وهذا أبو بكر رضي الله عنه آخذا بطرف لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد (1).
والكلام أسيرك فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره، والله عند لسان كل قائل:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18](2).
وحين سئل الحسن يوما: كيف أصبحت يا أبا سعيد؟ قال: والله ما من انكسرت به سفينة في لجج البحر بأعظم مني مصيبة، قيل: ولم ذاك؟ قال: لأني من ذنوبي على يقين، ومن طاعني وقبول عملي على وجل، لا أدري ِأقبلت مني أم ضرب بها وجهي.
فقيل له: وأنت تقول ذلك يا أبا سعيد؟ فقال: ولم لا أقول ذلك، ما الذي يؤمنني من أن يكون الله سبحانه وتعالى قد نظر إليَّ وأنا على بعض هناتي نظرة مقتني بها، فأغلق عني باب التوبة، وحال بيني وبين المغفرة، فأنا أعمل في غير معتمل (3).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا كتب عليه حتى أنينه في مرضه، فلما مرض الإمام أحمد
(1) صفة الصفوة (1/ 253).
(2)
الجواب الكافي (173)
(3)
الحسن البصري لابن الجوزي (12).
فقيل له: إن طاوسًا كان يكره أنين المرض، فتركه (1).
والكثير الآن لا يعد الكلام من العمل وما علم أنه يحصى عليه كل لفظ وقول وأنه غدا محاسب على كل كلمة وحديث.
قال عمر بن عبد العزيز: من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه (2).
وأكد ذلك الإمام الأوزاعي بقوله: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير، ومن عرف أن منطقه من عمله قل كلامه (3).
ولكثرة آفات اللسان والتهاون فيها وإطلاق الألسن في كل مكان وحديث، قال الحسن بن صالح: فتشنا الورع فلم نجده في شيء أقل منه في اللسان (4).
وغالب آفة اللسان أذى للمسلم ونقص في قدره ورمي له بالتحقير والتصغير
…
والفضيل بن عياض يقول في ذلك: والله ما يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرًا بغير حق، فكيف تؤذي مسلما؟ ! (5).
وفي حديث صادق ونصائح غالية هذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: خمس لهن أحب إليَّ من الدهم الموقوفة، لا تتكلم فيما
(1) البداية والنهاية (9/ 272).
(2)
البداية والنهاية (9/ 225)
(3)
السير (7/ 117)
(4)
صفة الصفوة: (3/ 154) حلية الأولياء (7/ 32).
(5)
السير (8/ 427).
لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا فإنه ربَّ متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت، ولا تمار حليما ولا سفيها فإن الحليم يقلبك والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، واعفه بما تحب أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالاجترام (1).
لعمرك ما للمرء كالرب حافظ
…
ولا مثل عقل المرء للمرء واعظ
لسانك لا يلقيك في الغي لفظه
…
فإنك مأخوذ بما أنت لافظ (2)
قال عطاء بن رباح: إن من كان قبلكم كانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك التي لا بد منها، أتنكرون أن عليكم حافظين كراما كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره، وليس فيها شيء من أمر آخرته (3).
هذه حالهم في ذلك الزمن وهم أهل الطاعة والذكر، مجالسهم خالية من الغيبة والنميمة والكذب والاستهزاء بل كانوا يطرزون مجالسهم بالبكاء والخشوع وإظهار الجزع، وكان عامة كلامهم مثل كلام أحدهم وهو ابن سيرين .. سبحان الله العظيم سبحان الله
(1) الإحياء (3/ 122) أمراض النفوس (30).
(2)
الصمت: (305).
(3)
السير (5/ 86) الإحياء (3/ 123).
وبحمده.
هذا نموذج لمجالسهم العامرة بالخير .. وزيادة في الحرص كان عبد الله بن الخيار يقول في مجلسه: اللهم سلمنا، وسلم المؤمنين منا (1).
وكان عمر بن الخطاب يقول: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ومن كثرت ذنوبه كانت النار
أولى به (2).
وللخوف من السقوط في النار
…
ومن خوف شدة الحساب غدا.
أخي:
تعهد نفسك في ثلاثة مواضع: إذا علمت فاذكر نظر الله تعالى عليك وإذا تكلمت فانظر سمع الله إليك، وإذا سكت فانظر علم الله فيك (3).
قال سلمة بن دينار: ينبغي للمؤمن أن يكون أشد حفظا للسانه منه لموضع قدمه (4).
ولا يكون هذا الحفظ سهلا إلا بمراقبة الله جل وعلا في كل كلمة تخرج وفي كل حركة تظهر. والاقتصاد في الكلام من
(1) تذكرة الحفاظ: (1/ 139).
(2)
جامع العلوم والحكم: (161).
(3)
حلية الأولياء (8/ 75).
(4)
صفة الصفوة: 2/ 57.
علامات التيقظ والتنبه
قال ابن مسعود: إياكم وفضول الكلام حسب امرئ ما بلغ حاجته (1).
وحتى فضول الكلام الذي هو دون الضرر فإنه حسرات يوم القيامة لأن أزمنة في ما لا فائدة فيه حسرة وندامة
…
قال بعض السلف: يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكل ساعة، لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات.
من هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام فالسكوت عنه أفضل من التكلم به، اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة مما لا بد منه (2).
وما أدري وإن أملت عمرًا
…
لعلي حين أصبح لست أمسي
ألم تر أن كل صباح يوم
…
وعمرك فيه أقصر من أمس (3)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يا لسان قل خير تغنم، أو اسكت عن شر تسلم (4).
فإن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده وذامه عنده سواء، وإن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع وما معه من شيء، ويأتي الرجل
(1) جامع العلوم والحكم: (161).
(2)
جامع العلوم والحكم: (161).
(3)
جامع العلوم والحكم: (466).
(4)
كتاب الصمت (66).
ولا يملك له ولا لنفسه ضرا ولا نفعا، فيقسم له بالله إنك لذيت ولذيت، فيرجع وماجني من حاجته بشيء ويسخط الله عليه (1).
فهذا الرجل عاد وقد أسخط الله جل وعلا بسبب لسانه الذي لم يتحفظ منه بل أطلقه بالإيمان الكاذب، هذا موقف واحد.
أما من تربع في مجلس ساعات طوال لم يسلم المسلمون من لسانه غيبة ونميمة وإفشاء سر وإشاعة فاحشة فإن ذلك محاسب عليه .. لا يرى عيبا إلا أشاعه ولا يسمع حديثا إلا تكلم به.
قال عبد الله بن مسعود، كفى بالمرء إثما، أن يحدث بكل ما سمع (2).
أخي الكريم:
ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال لتكون من المحسنين:
أحدهما: إنك إن لم تنفعه فلا تضره.
والثانية: إن لم تسره فلا تغمه.
والثالثة: إن لم تمدحه فلا تذمه (3).
فإن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس كما قال ذلك محمد بن سيرين (4):
فإن عبت قوما بالذي فيك مثله
…
فكيف يعيب الناس من هو أعور؟
(1) الفوائد: 193.
(2)
تذكرة الحفاظ: 3.
(3)
تنبيه الغافلين (1/ 178).
(4)
كتاب الصمت (104).
فذلك عند الله والناس أكبر (1)
وإن عبت قوما بالذي ليس فيهم
إن اتباع الهوى وطول الأمل مادة كل فساد فإن اتباع الهوى يعمي عن الحق معرفة وقصدا، وطول الأمل ينسي الآخرة، ويصد عن الاستعداد لها (2).
فمن طال أمله قل عمله ومن نسي الآخرة لم يحاسب نفسه
…
مجالسنا الطويلة بماذا نعمرها وبأي أمر نجملها وهي مجالس طويلة بعضها يمتد لساعات طوال.
قال الزهري: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب (3).
وإذا لم تكن مجالس خير وذكر فإن الشيطان يحرك الألسن ويشفي الصدور، وقد ينزل إلى شهوات البطن والفرج وقد قال الأحنف بن قيس يحكي صفات الرجولة الحقة .. جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، إني أبغض الرجل يكون وصافا لفرجه وبطنه (4).
ولو خطر في بال أحدنا أن يسجل ما يتحدث به في مجلس واحد .. لرأى كم من الأوراق يحتاج .. ولو حاسب نفسه لوجد الكثير من الزلات والسقطات.
وقد حدد الربيع بن خثيم الكلام بأنه لا خير فيه إلا في تسع.
(1) منهاج القاصدين: (187).
(2)
الفوائد: (130).
(3)
الإحياء: (3/ 366).
(4)
السير (4/ 94).
تهليل وتكبر، وتسبيح وتحميد، وسؤالك من الخير، وتعوذك من الشر، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، وقراءتك القرآن (1).
أخي الكريم:
هل وقفنا بألسنتنا عند هذه الأمور التسعة، فأضحى التهليل والتكبير ملازما لنا، وأصبحنا والقرآن ربيع قلوبنا؟
أم أن نصيب الدنيا في ألسنتنا هو الغالب وذكر الله وقراءة القرآن هو النادر .. ونحن في منحدر من الدنيا وإقبال على الآخرة؟
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي
…
درج الجنان بها فوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدمًا
…
منها إلى الدنيا بذنب واحد (2)
عن سفيان قال: طول الصمت مفتاح العبادة (3).
فإن في طول الصمت تفكرًا وكفًا عن ما لا ينبغي، واستفادة من الأوقات .. ومحاسبة للزلات.
قال الفضيل بن عياض: ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان، ولو أصبحت يهمك لسانك، أصبحت في هم شديد (4)، هم وهو يتعاهد لسانه ويحافظ على كلماته.
فإن اللفظات حفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة بأن لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم
(1) كتاب الصمت (84).
(2)
عقود اللؤلؤ: 36.
(3)
كتاب الصمت: 222.
(4)
جامع العلوم والحكم: (162).
بالكلمة نظر، هل فيها ربح وفائدة أم لا؟
فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر.
هل تفوت بها كلمة هي أربح منها؟ فلا يضيعها بهذه وإذا أردت أن تستدل على ما في القلب فاستدل عليه بحركة اللسان، فإنه يطلعك على ما في القلب، شاء صاحبه أم أبى.
قال يحيى بن معاذ: القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر إلى الرجل حين يتكلم فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه، حلو وحامض، وعذب وأجاج، وغير ذلك، ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه، أي كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك العلم بحقيقته، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه فتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في تلك القدور بلسانك (1).
والكلام إذا كان دفاعًا عن خير ودعوة إلى علم وقراءة للقرآن وذكر لله فذلك. أكثر منه فقد سلكت الجادة، فإنه يسرك يوم القيامة إذا نظرت في صحيفتك .. وأخذت كتابك بيمينك.
قيل لإياس بن معاوية: إنك تكثر الكلام؟ قال: أفبصواب أتكلم أم بخطأ؟
قالوا: بصواب، قال: فالإكثار من الصواب أفضل (2).
(1) الجواب الكافي (170).
(2)
كتاب الصمت: (303).
أخي الحبيب: اعلم أن الكلام ترجمان يعبر عن مستودعات الضمائر ويخبر بمكنونات السرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على رد شوارده، فحق على العاقل أن يحترز من زلله، بالإمساك عنه أو بالإقلال منه (1).
هنا موقف أبان فيه اللسان عن حقيقة الرجل ولو سكت لجهل أمره، فقد حكي عن أبي يوسف الفقيه أن رجلا كان يجلس إليه، فيطيل الصمت، فقال له أبو يوسف: ألا تسأل؟
قال: بلى، متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس، قال: فإن لم تغرب إلى نصف الليل؟ فتبسم أبو يوسف رحمه الله وتمثل ببيتين من الشعر:
عجبت لإزراء العي بنفسه
…
وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعي وإنما
…
صحيفة لب المرء أن يتكلما (2)
أقام المنصور بن المعتز: لم يتكلم بكلمة بعد العشاء الآخرة.
أربعين سنة، وقيل: ما تكلم الربيع بن خثيم بكلام الدنيا عشرين سنة، وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاسا وقلما فكل ما تكلم به كتبه ثم يحاسب نفسه عند المساء (3).
أخي الحبيب أين نحن من هؤلاء؟
قيل للقمان الحكيم: ما حكمتك؟ قال: لا أسأل عما كفيت
(1) أدب الدنيا والدين (265).
(2)
أدب الدنيا والدين (266).
(3)
الإحياء (3/ 121).
ولا أتكلف ما لا يعنيني (1).
وحكي أن بعض الحكماء رأى رجلا يكثر الكلام ويقل السكوت، فقال: إن الله تعالى إنما خلق لك أذنين ولسانا واحدا ليكون ما تسمعه ضعف ما تتكلم به (2).
والكثير الآن تجاوز هذا الضعف، يهذر بما يعلم وما لا يعلم، لا يتحدث في علم إلا له فيه قول
…
ولا يمر اسم فلان من الناس إلا لمزه وغمزه.
وقد حذر الجنيد من ذلك بقوله: أقل ما في الكلام سقوط هيبة الرب جل جلاله من القلب، والقلب إذا عرى من الهيبة عرى من الإيمان (3).
ولكي يسلم المتحدث من الزلل في حديثه والنقص في مقاله فإن عليه أن يراعي شروطا أربعة:
الشرط الأول: أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إما في اجتلاب نفع، أو دفع ضرر.
الشرط الثاني: أن يأتي به في موضعه، ويتوخى به إصابة فرصته.
الشرط الثالث: أن يقتصر منه على قدر حاجته.
(1) الإحياء (3/ 121).
(2)
أدب الدنيا والدين: (268).
(3)
السير: (14/ 68).
الشرط الرابع: أن يتخير اللفظ الذي يتكلم به (1).
إذا توافرت هذه الشروط فعليك بالحديث وإلا فإن الصمت يجمع للرجل خصلتين: السلامة في دينه، والفهم عن صاحبه (2).
ومن يقدر الآن على الصمت ونحن في زمن يخيل للسامع أن الإنسان خلق بلسان دون أذن .. فالكل يتحدث ترتفع الأصوات في المجالس ويكثر اللغط ولا تعلم من يحدث من؟ ومن يستمع لمن؟
ترى اثنين يتحدثان بصوت مرتفع .. وتبحث عن المستمع فلا ترى أحدا.
الكل يتحدث .. ولكن أين المستمع؟
هذا عبد الله بن أبي زكريا يقول: عالجت الصمت ثنتي عشرة سنة، فما بلغت منه ما كنت أرجو (3).
وقال: مورق العجلي: أمر أنا أطلبه منذ عشر سنين لم أقدر عليه ولست بتارك طلبه، قالوا: وما هو يا أبا المعتمر؟ قال: الصمت عما لا يعنيني (4).
أخي الحبيب: أين نحن من هؤلاء؟
قوم جاهدوا أنفسهم وحاولوا سنوات طويلة، أفلا نفكر ولو
(1) أدب الدنيا والدين (266).
(2)
كتاب الصمت (69) الإحياء (3/ 120).
(3)
كتاب الصمت (303).
(4)
كتاب الصمت (97) جامع العلوم والحكم: (138) الإحياء
(3/ 122).
أيام معدودة في الصمت عما لا يعنينا؟ ولو لساعات فقط؟
ولكن الأمر كما قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم (1).
مع أنه ما من أحد من الناس يكون منه لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله (2).
يصاب الفتى من عثرة بلسانه
…
وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته بالقول تذهب رأسه
…
وعثرة بالرجل تبري على مهل (3)
انظر يا أخي إلى قول الأوزاعي: من أكثر من ذكر الموت كفاه اليسير ومن علم أن منطقه من عمله قل كلامه.
ومن قل كلامه فيما لا فائدة فيه .. استكثر مما لا ينفع في الآخرة .. وحدد محمد بن عجلان الكلام بأربعة أن تذكر الله، وتقرأ القرآن وتسأل عن علم فتخبر به، أو تتكلم فيما يعنيك من أمر دنياك (4).
فإنه حق على العاقل أن يكون عارفًا بزمانه حافظًا للسانه، مقبلاً على شأنه (5).
(1) الإحياء: (3/ 120).
(2)
الإحياء (3/ 120).
(3)
شذرات الذهب (2/ 106).
(4)
جامع العلوم والحكم (162).
(5)
الإحياء (3/ 120).
فالأمر كما قال الحسن: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه (1).
فإن من المحافظة على دين المرء المحافظة على اللسان .. قال رجل لحامد اللفاف، أوصيني قال: اجعل لدينك غلافًا كغلاف المصحف أن تدنسه الآفات قال: وما غلاف الدين؟ قال: ترك طلب الدنيا إلا مما لا بد منه وترك كثرة الكلام إلا فيما لا بد منه وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه (2).
وسبقه عمر بن عبد العزيز برسالة بعث بها: أما بعد: فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه (3).
أخي الحبيب:
من منا الآن من يعد كلامه .. ويقف دون زلاته
…
لنعد لحظات نسعد فيها بسماع حديث السلف .. نتربى في مدارسهم ونسير على أثرهم.
قال الفضيل: أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة (4)(5).
وربما نحاول في مجلس أن نعد كلامنا
…
فلا نستطيع .. ما
(1) الإحياء (3/ 120).
(2)
الإحياء (4/ 58).
(3)
الإحياء (3/ 120).
(4)
أعرف الآن من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة.
(5)
صيد الخاطر: (619).
بالك إذا كانت أعواما وشهور! ! .
صحب بعضهم الربيع بن خثيم عشرين عامًا .. فقال: ما سمعت منه كلمة تعاب (1).
استر العي ما استطعت بصمت
…
إن في الصمت راحة للصموت
واجعل الصمت إن عييت جوابا
…
رب قول جوابه في السكوت (2)
وحتى في السكوت ربما يلحقك مذمة، ويتبعك ملامة ولكن عليك أخي الحبيب بقول أبي الدرداء: أدركت الناس ورقًا ولا شوك فيه، فأصبحوا شوكًا لا ورق فيه، إن نقدتهم نقدوك، وإن تركتهم لا يتركوك، قالوا: فكيف نصنع؟ قال: تقرضهم من عرضك ليوم فقرك (3).
فأقرض يا أخي من عرضك ليوم فقرك. واعلم أنها حسنات تجمع لك تراها يوم القيامة مثل الجبال، يسرك مقدمها في ذلك اليوم العصيب.
قال: رباح القيس: قال لي عتبة (الغلام) يا رباح: إن كنت كلما دعتني نفسي إلى الكلام تكلمت، فبئس الناظر لها أنا يا رباح .. إن لي موقفًا تغتبط فيه بطول الصمت عن الفضول (4).
وهو موقف يوم يشيب فيه الولدان .. حساب ومنصرفان.
(1) السير (4/ 259).
(2)
كتاب الصمت: (300).
(3)
صفة الصفوة (1/ 638) حلية الأولياء: (1/ 218).
(4)
صفة الصفوة: (3/ 372).
إما إلى الجنة أو إلى النار ولهذا الموقف قال أبو حازم: انظر الذي تحب أن يكون معك في الآخرة، فقدمه اليوم، وانظر الذي تكره، أن يكون معك ثم، فاتركه اليوم (1).
أخي: يكفي من طول بعض المجالس قليل من الوقت .. فإن طال المجلس .. انتهى حديث السلام والسؤال، وبدأت آفات اللسان. فاحفظ أمرك وحاسب نفسك.
لقاء الناس ليس يفيد شيئا
…
سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا
…
لأخذ العلم أو إصلاح حال (2)
قال ابن الحسن بن بشار: منذ ثلاثين سنة ما تكلمت بكلمة أحتاج أن اعتذر منها.
لهم باع في الحديث وفي تسيد المجالس لو أرادوا ولكنهم عفوا وحفظوا ألسنتهم يخافون يوما يرجعون فيه إلى الله.
قال عمر بن عبد العزيز: إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة (3).
والإنسان لا يخلو من محادثة الكثير ممن تتفاوت عقولهم وتختلف مداركهم، وتتلون طباعهم ووجه وهب بن منبه لهذا الأمر بقوله: دع المراء والجدل، فإنه لن يعجز أحد رجلين، رجل هو أعلم منك، فكيف تعادي وتجادل من أعلم منك؟
(1) شرح الصدور: (21).
(2)
وفيات الأعيان: (4/ 283).
(3)
كتاب الصمت (88).
ورجل أنت أعلم منه، فكيف من أنت أعلم منه، ولا يطيعك؟ (1).
وخير للمرء إن أراد المحافظة على دينه من النقص وعلى كرامته من الخدش أن يلزم الصمت أو يقول خيرًا.
ولا خير في الحياة كما قال سعيد بن عبد العزيز: إلا لأحد رجلين: صموت واع، وناطق عارف (2).
أخي: ألا ترى معي أن:
الصمت أزين بالفتى
…
من منطق في غير حينه
والصدق أجمل بالفتى
…
في القول عندي من يمينه
وعلى الفتى بوقاره
…
سمت تلوح على جبينه
جعلني الله وإياك ممن إذا تكلم نفع وكان حديثا في موازين أعماله، وإن سكت كان خيرا له.
قال بشر بن منصور كنا عند أيوب السختياني فلغطنا وتكلمنا، فقال لنا: كفوا .. لو أردت أن أخبركم بكل شيء تكلمت به اليوم لفعلت (3).
وحديثهم إن تحدثوا فهي كلمات خير. موزونة معلومة .. لا لغط فيها ولا منكر.
حدث أبو حيان التيمي عن أبيه قال: رأيت ابنة الربيع بن
(1) السير (4/ 549).
(2)
السير (8/ 36).
(3)
حلية الأولياء (3/ 8).
خثيم أتته فقالت: يا أبتاه أذهب ألعب؟ قال: يا بنيتي اذهبي قولي خيرا (1).
وكل ذلك خوفا من أن تسجل كلمة عليه ألا وهي .. الأمر باللعب وهو يعلم أنها ما خلقت لهذا.
ووالله إن حفظ اللسان من المجاهدة والمكابرة .. قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم (2).
وانظر يا أخي إلى أحوال الناس في البيع والشراء والأخذ والعطاء .. ربما يجادل الواحد منهم وقتا طويلا في سبل دريهمات، إن لم يكن فيها شيء من ضياع الوقت وارتفاع الأصوات فإن فيها من رداءه الخلق وشح الأنفس الشيء الكثير.
قال شداد بن أوس يوما: هاتوا السفرة نعبث بها، فأخذوها عليه، فقال: أي بني أخي: إني ما تكلمت بكلمة منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كلمة مزمومة مخطومة قبل هذه (3).
وأكثر ألسن الناس اليوم ليس لها زمام ولا خطام، ولو أن هذه الألسن تسير في الشوارع والطرقات لضاقت بها الأرض ولما وجدنا موطئ قدم من كثرتها.
رأى إبراهيم بن أدهم رجلا يحدث من كلام الدنيا، فوقف
(1) كتاب الصمت (218).
(2)
الإحياء (3/ 120).
(3)
حلية الأولياء (1/، 265)، والإحياء (3/ 336).
عليه وقال له: كلامك هذا ترجو فيه؟ قال: لا، قال فتأمن عليه؟ قال: لا، قال: فما تصنع بشيء لا ترجو فيه ولا تأمن عليه (1).
تعاهد لسانك إن اللسان
…
سريع إلى المرء في قتله
وهذا اللسان بريد الفؤاد
…
يدل الرجال على عقله
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: أنصف أذنيك من وفيك، فإنما جعل للإنسان أذنان، وفم واحد، لتسمع أكثر مما تقول.
فإلزم الصمت، فإنه يكسبك صنوف المحبة، ويؤمنك سوء المغبة ويلبسك ثوب الوقار ويكفيك مؤنة الاعتذار (2).
قال رجل من بني تيم: جالست الربيع بن خثيم، عشر سنوات فما سمعته يسأل عن شيء من أمور الدنيا إلا مرتين، قال مرة: والدتك حية؟ وقال مرة: كم لكم مسجدًا (3)؟
وواقعنا اليوم مثل رجل قال لسلمان الفارسي: أوصني قال: لا تتكلم، قال: ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم، قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو أسكت (4).
وهذه النصيحة تصلح لكل زمان ولزماننا خاصة ولكن يبقى فقط أن نطبقها في واقع حياتنا وفي مجالسنا، ومكالمتنا الهاتفية.
عن عبد الله بن مسعود قال: والله الذي لا إله إلا هو ما على
(1) حلية الأولياء (8/ 16).
(2)
أدب الدنيا والدين: 265.
(3)
حلية الأولياء: (2/ 110).
(4)
جامع العلوم والحكم (162).
وجه الأرض شيء أحوج إلى سجن من لسان (1).
فإن لم يسجن وأطلق له العنان فإنه كما وصف طاوس: لساني سبع إن أرسلته أكلني (2).
وهو والله أشد يأكل الحسنات ويجلب السيئات، تفاجأ يوم القيامة بذنوب كالجبال، من آفات وسقطات اللسان.
يتعلق بك من بهته ويمسك بك من اغتبته. . ويقبض على رقبتك من استهزأت به قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} حديثك تنساه بمجرد إطلاق الكلمة وانتهاء المجلس .. ولكنه محصى عليك .. موقوف أنت حتى يقتص منك .. يؤخذ من حسناتك لهم فإن فنيت حسناتك أخذ من سيئاتك فحطت عليك
…
!
مصيبة أن تفجع في ذلك اليوم بمثل هذا وأنت أحوج ما تكون للحسنة الواحدة.
لنرى تحفظ من سبقنا .. وكيف كانوا يملئون صحائفهم؟
قيل للمعافي بن عمران: ما ترى في الرجل يقرض الشعر ويقوله؟ قال: هو عمرك فأفنه بما شئت.
وسئل مسروق عن بيت من شعر فكرهه، فقيل له؟ فقال: إني أكره أن يوجد في صحيفتي شعر (3).
(1) صفة الصفوة (1/ 450).
(2)
الإحياء: 3/ 120.
(3)
كتاب الصمت (282).
هذا الشعر ضرب من ضروب الكلام حسنه حسن ورديئه رديء، ولكن أصحاب الهمم ومن يرى أن تسبيحه وتحميده خير له، حفظ سطور صحائفه إلا في رفع درجة وحط خطيئة.
وقد قال رجل للربيع بن خثيم ما يمنعك أن تمثل بيتا من الشعر فإن أصحابك قد كانوا يفعلون ذلك؟ قال: إنه ليس أحد يتكلم بكلام إلا كتب، ثم يعرض عليه يوم القيامة، فإني أكره أن أقرأ في كتابي يوم القيامة بيت شعر (1).
ويا أخي الكريم: هو لسانك، وهذه صحيفتك .. فأمل ما شئت، وقل ما شئت.
اجتمع قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تحصى، والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب، ووجدت خصلة إن استعملها سترت العيوب كلها، قال: وما هي؟ قال: حفظ اللسان (2).
(1) كتاب الصمت (308) حلية الأولياء (2/ 113).
(2)
الأذكار النووية (287).
أخي الحبيب:
للسان آفات كثيرة، ومزالق خطيرة وسأقتصر على أربع آفات فقط.
الآفة الأولى: الغيبة.
الآفة الثانية: النميمة.
الآفة الثالثة: الكذب.
الآفة الرابعة: الاستهزاء.