الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بواعث الغيبة
لا شك أن هناك بواعث للغيبة منها:
1 -
من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون أو فيه بعض ما يقولون، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم لقطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا منه.
2 -
ومنهم من يخرج الغيبة في مواكب شتى تارة في قالب ديانة وصلاح، ويقول ليس لي عادة أن أذكر أحدًا إلا بخير، ولا أحب الغيبة والكذب، وإنما أخبركم بأحواله ويقول: والله إنه مسكين ورجل جيد، ولكن فيه كيت وكيت، وربما يقول: دعونا منه الله يغفر لنا وله، وقصده من ذلك استنقاصه.
3 -
ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد.
4 -
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تسخر ولعب، ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به.
5 -
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول: تعجبت من فلان، كيف لا يفعل كيت وكيت، ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت.
6 -
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب الاغتمام فيقول مسكين فلان، غمني ما جرى له، وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف وقلبه منطو على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به وربما يذكره عند أعدائه ليتشفوا به.
7 -
ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، وقصده غير ما أظهر (1).
أخي الكريم:
هذه بواعث للنفوس الضعيفة والقلوب المريضة وإلا فالمؤمن لا يترك لنفسه هواها بل يراعي في ذلك حدود الله وما نهى عنه.
ذكر عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أنه أضاف أناسا فلما قعدوا على الطعام، جعلوا يتناولون رجلا، قال إبراهيم: إن الذين كانوا قلنا، كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم، وأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز (2).
وفي ذلك إشارة إلى أنهم يأكلون لحم أخيهم المسلم .. وانظر إلى أثر ذلك في دين الرجل.
قال الحسن: والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الآكلة في جسده (3).
وقال سفيان بن عيينة: الغيبة أشد من الدين، الدين يقضى والغيبة لا تقضي (4).
ولكي لا يكون عليك دين لا يقضى إلا يوم القيامة .. ليكن حظ المؤمن منك ثلاثًا إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا
(1) الفتاوى باختصار يسير (28/ 237).
(2)
تنبيه الغافلين: (177).
(3)
كتاب الصمت (129) الإحياء (3/ 152).
(4)
حلية الأولياء (7/ 275).
تغمه وإن لم تمدحه فلا تذمه (1).
قال سفيان بن الحصين: كنت جالسا عند إياس بن معاوية فمر رجل، فنلت منه، فقال: اسكت، ثم قال لي سفيان: هل غزوت الروم؟ قلت: لا، قال: غزوت الترك؟ قلت: لا، قال: سلم منك الروم وسلم منك الترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم، قال: فما عدت إلى ذلك بعد (2).
ولعلنا نكون مثله فيسلم المسلمون منا ونسلم منهم وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه .. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية
إن بعض الناس لا تراه إلا منتقدا داء ينسى حسنات الطوائف والأجناس ويذكر مثالبهم، فهو مثل الذباب يترك موضع البرء والسلامة ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج.
أخي الحبيب: هل تقبل أن تكون كذلك؟ أم تقبل أن تكون مستمعًا لما حرم الله من الغيبة؟ وأنت تعلم أن المغتاب لو لم يجد أذنًا صاغية لما اغتاب واسترسل في الحديث .. فأنت باستماعك تكون مشجعا وعونا له على المعصية فلا تكن شريكًا في الإثم.
قال الإمام الشافعي: قبول السعاية أضر من السعاية، لأن السعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبل
(1) صفة الصفوة (4/ 91).
(2)
تنبيه الغافلين (1/ 178).
وأجاز، والساعي ممقوت إذا كان صادقًا لهتكه العورة وإضاعته الحرمة، ومعاتب إن كان كاذبًا لمبارزته الله بقول البهتان وشهادة الزور (1).
واعلم أخي: أن مجالس الغيبة ليست بمجالس خير وهي مجالس تؤكل فيها لحوم المسلمين.
روي عن حاتم الزاهد رحمه الله تعالى أنه قال: ثلاثة إذا كن في مجلس فالرحمة عنهم مصروفة: ذكر الدنيا، والضحك، والوقيعة في الناس (2).
وقال بكر بن عبد الله: إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس، ناسيًا لعيبه، فأعلموا أنه قد مكر به (3).
أخي: اعلم أن أحسن أحوالك أن تحفظ ألفاظك من جميع الآفات وتتكلم فيما هو مباح لا ضرر عليك فيه ولا على مسلم أصلاً، إلا أنك تتكلم بما أنت مستغن عنه ولا حاجة لك إليه فإنك تضيع به زمانك، وتحاسب على عمل لسانك وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .. ولو هللت الله سبحانه وسبحته لكان خير لك، فكم من كلمة يبني بها قصرًا في الجنة، ومن قدر على أن يأخذ كنزا من الكنوز، فأخذ مكانه قذرة لا ينتفع بها كان خاسرًا خسرانًا مبينًا، وهذا مثال من ترك ذكر الله تعالى واشتغل بمباح لا يعنيه، فإنه
(1) حلية الأولياء (9/ 123) صفة الصفوة (2/ 253).
(2)
تنبيه الغافلين: (1/ 178).
(3)
صفة الصفوة: (3/ 249).
وإن لم يأثم فقد خسر حيث فاته الربح العظيم بذكر الله تعالى، فإن المؤمن لا يكون صمته إلا فكرًا ونظره إلا عبرة ونطقه إلا ذكرًا، بل رأس مال العبد أوقاته، ومهما صرفها إلى ما لا يعنيه ولم يدخر بها ثوابًا في الآخرة فقد ضيع رأس ماله (1).
وذكر ذلك عون بن عبد الله في قوله: ما أحسب أحدا تفرغ لعيب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه (2).
وهل هناك أكثر من غفلة عن جلب الحسنات واستبدالها بسيئات؟ والمغتاب إذا أطلق لسانه قد لا يسلم منه حتى من قد رحلوا إلى الدار الآخرة، بل للأحياء نصيب وللأموات.
قال يحيى بن معين: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتي سنة (3).
دع عنك ذكر فلانة وفلان
…
واجنب لما يلهي عن الرحمن
واعلم بأن الموت يأتي بغتة
…
وجميع ما فوق البسيطة فان
فإلى متى تلهو وقلبك غافل
…
عن ذكر يوم الحشر والميزان (4)
ذكر عن إبراهيم بن أدهم .. أنه دعي إلى طعام فلما جلس قالوا: إن فلانا لم يجئ فقال رجل منهم: إن فلانا رجل ثقيل، فقال إبراهيم: إنما فعل هذا بي بطني حين شهدت طعامًا، اغتبت فيه
(1) الإحياء (3/ 121).
(2)
صفة الصفوة (3/ 101).
(3)
السير (11/ 94) تذكرة الحفاظ (3/ 831).
(4)
شذرات الذهب (5/ 281).
مسلما، فخرج ولم يأكل ثلاثة أيام (1).
أخي الحبيب أين نحن من هؤلاء؟
قال مالك بن دينار: لو كلف الناس الصحف لأقلوا من المنطق (2).
والله لاحتاج البعض إلى من يحمل معه تلك الصحف.
وأذكر أن إحدى قريباتي ذهبت لزيارة امرأة بها صمم فلا تسمع وكانت طريقة التفاهم معها هي الكتابة وذلك لعدم إجادتها لغة الإشارات فحملت قلمًا وأوراقًا وعندما عادت بدأت تقلب ماذا كتبت فإذا الأمر مهول .. ولو قامت بإحصاء حديث الغيبة لطال الحساب وهي زيارة لم تدم سوى فترة زمنية قصيرة .. أما الحديث الذي لا فائدة فيه فهو كثير.
فكيف إذا أحصى حديث اللسان وهو أسرع من الكتابة خاصة أن انتظار الجواب كتابة أيضا وهذا يعني ضياع جزء من الوقت في نفس الكتابة فحسب.
فكيف لو كان اللسان منطلقًا والأذن تسمع، فكم من حديث يحاسب عليه الإنسان وهو لا يدري من سرعة مروره وتهاونه فيه ولكن الأمر كما قال أبو بكر بن عبد الرحمن: لا يلهينك الناس عن ذات النفس، فإن الأمر يخلص إليك دونهم ولا
(1) تنبيه الغافلين (1/ 179).
(2)
كتاب الصمت (484).
تقطع نهارك بكيت وكيت، فإنه محفوظ عليك ما قلت (1).
ومحاسب على ما قلت .. في يوم أنت أحوج فيه إلى جلب حسنة وإلى دفع سيئة. مر الحسن بشاب وهو مستغرق في ضحكه وهو جالس مع قوم في مجلس، فقال له الحسن: يا فتى هل مررت بالصراط؟ قال: لا، قال فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا، قال: فما هذا الضحك؟ فما رؤي ذلك الفتى بعدها ضاحكًا (2).
وكان الربيع بن خثيم إذا قيل له كيف أصبحتم؟ قال: ضعفاء مذنبين نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا (3).
أخي: والحال هذه، أعمارنا تجري، وألسنتنا تنطق وصحائفنا تسجل، كيف الخلاص من تلك الآفة التي تفتك بالحسنات وتأتي بالحسرات، هذا أحد من حرص على مجاهدة لسانه ومحاسبته، يروي لنا كيف تخلص من هذه الآفة.
قال ابن وهب: نذرت إني كلما اغتبت إنسانا أن أصوم يوما، فأجهدني فكنت أصوم وأغتاب، فنويت إني كلما اغتبت إنسانا أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم، تركت الغيبة (4).
(1) البداية والنهاية (9/ 130).
(2)
الإحياء: (4/ 194).
(3)
السير (4/ 259).
(4)
السير (9/ 28).
أخي المسلم:
لو هللت الله وذكرته وسبحته لكان خيرا لك فكم من كلمة يبني بها قصرًا في الجنة، ومن قدر أن يأخذ كنزًا من الكنوز فأخذ مكانه مدرة لا ينتفع بها كان خاسرًا خسرانًا مبينًا، وهذا مثال من ترك ذكر الله تعالى واشتغل بمباح لا يعنيه، فإنه وإن لم يأثم فقد خسر حيث فاته الربح العظيم بذكر الله تعالى، فإن المؤمن لا يكون صمته إلا فكرا ونظره إلا عبرة ونطقه إلا ذكرا (1).
وعن الأحنف قال: قال لي عمر بن الخطاب: يا أحنف من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه (2).
ولو تأمل القارئ كيف تدرج الأمر حتى وصل إلى موت القلب وتساوي الأشياء لنزه نفسه عن هذا وحرص على منطقه وحفظ جوارحه.
اغتاب رجل عند معروف الكرخي فقال: اذكر القطن إذا وضع على عينيك (3).
فمن تذكر تلك اللحظات
…
ومصيره بعدها لتراجع عن غيبته وأعاد لسانه قبل أن يتحدث.
(1) الإحياء: (3/ 121).
(2)
صفوة الصفوة (1/ 87).
(3)
السير: (9/ 141).
هذا عبد الله بن أبي زكريا: يقول: مكثت اثنتي عشرة سنة أتحفظ من لساني (1).
فمثل نفسك يا مغرور وقد حلت بك السكرات، ونزل بك الأنين والغمرات، فمن قائل يقول: إن فلانا قد أوصى وماله قد أحصى، ومن قائل يقول: إن فلانًا ثقل لسانه، فلا يعرف جيرانه ولا يكلم إخوانه، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب ولا تقدم على رد الجواب، ثم تبكي ابنتك وهي كالأسيرة وتتضرع وتقول: حبيبي أبي، من ليتمي بعدك؟ من لحاجتي؟ وأنت والله تسمع الكلام ولا تقدر على رد الجواب:
وأقبلت الصغرى تمرع خدها
…
على وجنتي حينًا وحينًا على صدري
وتمسك خديها وتبكي بحرقة
…
تنادي: أبي إني غلبت على الصبر
حبيبي أبي من لليتامى تركتهم
…
كأفراخ زغب في بعيد من الوكر (2)
ورحل بك من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة .. حملت أوزارك معك .. ورحلت وحيدًا حيث الحساب والجزاء، فرحم الله من حفظ لسانه ليوم فقره .. ورحم الله من استبدل مكان الشر خيرا فسرته صحيفته إذا رآها غدا.
قال سفيان الثوري: أقل من معرفة الناس تقل غيبتك (3).
(1) الزهد لأبي عاصم: 39.
(2)
التذكرة (24).
(3)
حلية الأولياء (7/ 8) السير (7/ 276).
سوى الهذيان من قيل وقال
لقاء الناس ليس يفيد شيئًا
فأقلل من لقاء الناس إلا
…
لأخذ علم أو إصلاح حال (1)
قال رجل للفضيل بن عياض: إن فلانًا يغتابني قال: قد جلب لك الخير جلبا (2).
وكتب أشهب بن عبد العزيز: إلى رجل كان يقع فيه: أما بعد: فإنه لم يمنعني أن أكتب إليك أن تتزايد مما أنت فيه إلا كراهية أن أعينك على معصية الله، وأعلم أني أرتع في حسناتك كما ترعى الشاة الخضر والسلام (3).
وقال: عبد الرحمن بن مهدي: لولا أني أكره أن يعصى الله تمنيت أن لا يبقى في هذا العصر أحد وإلا وقع في واغتابني فأي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة لم يعملها ولم يعلم بها (4).
ويظن البعض أن الغيبة تقتصر على أناس دون آخرين وعلى مجتمع دون آخر بل هي تشمل الجميع وإنها لعمري في العلماء أعظم وأشنع كما أنها في غيرهم سواء .. يتساوى في ذلك من ارتفعت به درجات الدنيا ومن قصرت ممن ولاهم الله أمور المسلمين.
قال سفيان: لو كان معكم من يرفع الحديث إلى السلطان،
(1) تذكرة الحفاظ: (4/ 1222).
(2)
حلية الأولياء: (8/ 108).
(3)
ترتيب المدارك (1/ 450).
(4)
صفة الصفوة (4/ 5).
أكنتم تتكلمون بشيء؟ قلنا: لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث ..
يعني الملكان الموكلان: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} .
أخي الحبيب: إن من تغتابه غالبا تكرهه وتحمل عليه، ولكن انظر ماذا يصنع معك .. إنه يأخذ منك أكثر مما تأخذ منه. وأين؟ إنه في وقت الشدة وزمن الحاجة:
يشاركك المغتاب في حسناته
…
ويعطيك أجري صومه وصلاته
ويحمل وزرا عنك ضن بحمله
…
عن النجب من أبنائه وبناته
فلا تعجبوا من جاهل ضر نفسه
…
بإمعانه فينفع بعض عداته
ويحمل من أوزاره وذنوبه
…
ويهلك في تخليصه ونجاته (1)
من تريد تحقيره في هذه الدنيا .. ها هو الفوز اليوم .. أخذ من حسناتك.
فهلا ضننت بحسناتك لنفسك.
قال ابن مسعود: أنذرتكم فضول كلامكم، حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته (2).
وقال الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بها ملكان كريمان يكتبان أعمالك فاعمل ما شئت وأكثر أو أقل (3).
(1) إرشاد العباد (26).
(2)
الإحياء (3/ 124).
(3)
الإحياء (3/ 124).
دخل على أبي دجانة: وهو مريض وكان وجهه يتهلل، فقيل: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين: أما أحدهما فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني وأما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا.
والمؤمن كما قال إبراهيم التيمي: إذا أراد أن يتكلم نظر فإن كان له تكلم وإلا أمسك، والفاجر إنما لسانه رسلا رسلا (1).
وفي حال الدنيا يتحرز بعض الناس في المجالس
…
والسؤال ما دافع هذا التحرز؟
لم يكن هذا الدافع هو الخوف من الله.
بل إنه حضور شخص له مكانته وهيبته، فلا تسمع في المجلس إلا خيرًا .. فأين هم من حساب الله يوم القيامة؟ وهم الذين يتحرزون عند حضور هذا الرجل ولا يخافون من الله وهو مطلع على السرائر؟
عن حاتم الأصم قال: لو أن صاحب خير جلس إليك لكنت تتحرز منه، وكلامك يعرض على الله فلا تتحرز منه (2).
أخي الحبيب:
لا يكن الله أهون الناظرين إليك ..
وإياك الغيبة فإنها كما قال عنها علي بن الحسين: إدام كلاب
(1) الإحياء (3/ 124).
(2)
السير (11/ 487).
الناس (1).
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالمًا
…
وللناس قال بالظنون وقيل (2)
قال جبير بن عبد الله: شهدت وهب بن منبه وجاءه رجل فقال: إن فلانا يقع منك فقال وهبك أما وجد الشيطان أحدا يستخف به غيرك؟ فما كان بأسرع من أن جاء الرجل فرفع مجلسه وأكرمه (3).
وقال رجل للفضل بن بزوان: إن فلانًا يقع فيك، قال: لأغيظن من أمره، غفر الله له، قيل له: من أمره؟ قال الشيطان (4).
وهذا رجل قال لبكر بن محمد: بلغني أنك تقع في، قال أنت إذا أكرم علي من نفسي.
وقصد من هذا أن الحسنات التي يعملها تذهب له إذا اغتابه فجعله بهذا العمل أكرم من نفسه ومقدم عليها في جلب الحسنات.
وروى الربيع بن صبيح أن رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد إني أرى أمرًا أكرهه، قال: وما ذاك يا ابن أخي، قال: أرى أقواما يحضرون مجلسك يحفظون عليك سقط كلامك ثم يحكونك ويعيبونك فقال: يا ابن أخي، لا يكبرن هذا عليك، أخبرك بما هو أعجب، قال: وما ذاك يا عم؟ قال: أطعت نفسي في جوار الرحمن
(1) منهاج القاصدين: (185).
(2)
ديوان أبي العتاهية: (121).
(3)
الورع لعبد الله بن حنبل (186).
(4)
صفة الصفوة (3/ 73).
وملوك الجنان والنجاة من النيران، ومرافقة الأنبياء ولم أطع نفسي في السمعة من الناس، أنه لو سلم من الناس أحد لسلم منهم خالقهم الذي خلقهم فإذا لم يسلم خلقهم فالمخلوق أجدر أن لا يسلم (1).
وقد كان السلف يحاسب أحدهم نفسه في قوله: يوم حار، ويوم بارد، ولقد رؤي بعض الأكابر من أهل العلم في النوم فسئل عن حاله، فقال أنا موقوف على كلمة قلتها، قلت: ما أحوج الناس إلى غيث، فقيل لي: وما يدريك؟ أنا أعلم بمصلحة عبادي (2).
قال محمد بن سيرين: يحدث رجلاً: ما رأيت الرجل الأسود ثم قال: استغفر الله، ما أراني إلا اغتبت الرجل (3).
والإمام البخاري صاحب الكتاب المعروف الذي جاب الآفاق يجمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبن باغتياب أحد (4).
وعقب على هذا الأمر أبو عبد الله الحافظ بقوله: يشهد لهذه المقالة كلامه في الجرح والتعديل فإن أبلغ ما يقول في الرجل المتروك أو الساقط: فيه نظر، سكتوا عنه ولا يكاد يقول فلان كذاب، وفلان يضع الحديث وهذا من شدة ورعه (5).
(1) أمراض النفوس (59).
(2)
الجواب الكافي (173).
(3)
صفة الصفوة (3/ 242).
(4)
طبقات الشافعية (2/ 223).
(5)
طبقات الشافعية: (2/ 224) السير (12/ 439).
أخي الحبيب: أين نحن من هؤلاء؟
رأى عمر بن عتبة مولاه مع رجل وهو يقع في آخر: فقال له: ويلك نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه نفسك عن القول به، فالمستمع شريك القائل، وإنما نظر إلى شر ما في وعائه فافرغه في وعائك، ولو رددت كلمة سفيه في فيه لسعد بها رادها كما شقي بها قائلها (1).
تزود من الدنيا فإنك ميت وإنك مسئول فما أنت قائله (2).
ووالله إن الزاد هو زاد الآخرة .. فبماذا تزودنا وكيف تجهزنا؟
عن أبي ذر قال: مالي وللناس وقد تركت لهم بيضاءهم وصفراءهم (3).
لقد ترك الناس وسلم منه المسلمون .. ترك أعراضهم فلم يتناولها وهجر ذهبهم وفضتهم. ماله وللناس رحمه الله استعد لنزل دائم وظل لا يزول، في جنات عرضها السموات والأرض.
قال: أبو عاصم النبيل رحمه الله: ما اغتبت مسلمًا منذ علمت أن الله حرم الغيبة (4).
أدبت نفسي فما وجدت لها
…
من بعد تقوى الإله من أدب
في كل حالاتها وإن قصرت
…
أفضل من صمتها عن الكذب
(1) البداية والنهاية: (10/ 179).
(3)
الزهد لأبي عاصم: (42).
(4)
كتاب الصمت (300).
نفس فإن السكوت من ذهب (1)
إن كان من فضة كلامك يا
والغيبة محرمة بنص كلام الله جل وعلا وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فما هذا التجرؤ على محارم الله وحدوده .. ألا نكون وقافين عندها، طائعين لما فيها؟
قال عبد الله بن محمد بن زياد: كنت عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله قد اغتبتك، فاجعلني في حل، قال: أنت في حل إن لم تعد، فقلت له: أتجعله في حل يا أبا عبد الله وقد اغتابك؟ قال: ألم ترني اشترطت عليه (2).
وجاء ابن سيرين أناس فقالوا: إنا نلنا منك فاجعلنا في حل، قال: لا أحل لكم شيئا حرمه الله (3).
أخي الحبيب:
إذا شئت أن تحيا ودينك سالم
…
وحظك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
…
فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبا
…
لقوم فقل يا عين للناس أعين (4)
قال طوق بن منبه: دخلت على محمد بن سيرين فقال: كأني أراك شاكيًا؟ قلت: أجل، قال: أذهب إلى فلان الطبيب فاستوصفه ثم قال: اذهب إلى فلان فإنه أطب منه، ثم قال: استغفر الله أراني قد
(1) كتاب الصمت (312).
(2)
حلية الأولياء (9/ 174).
(3)
السير (4/ 620).
(4)
شذرات الذهب (3/ 350).
اغتبته (1).
وانظر أخي إلى العاقبة الدنيوية لزلات اللسان.
قال ابن سيرين عيرت رجلاً وقلت: يا مفلس، فأفلست بعد أربعين سنة (2).
يمنعني من عيب غيري الذي
…
أعرفه عندي فوق العيب
عيبي لهم بالظن مني لهم
…
ولست من عيبي في ريب
إن كان عيبي غاب عنهم فقد
…
أحصى عيوبي عالم الغيب (3)
قال بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس (4).
أخي الحبيب: هذه نصيحة من الفاروق عمر بن الخطاب. عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء (5).
وبما أن ذكر الناس داء فإن له دواء، أفلا نبحث عنه لنعالج نفوسنا ونبرأ جراح ألسنتنا، ونرفع في الآخرة درجاتنا.
(1) صفة الصفوة (3/ 242).
(2)
صيد الخاطر: (44).
(3)
طبقات الحنابلة (1/ 190).
(4)
الإحياء (3/ 152).
(5)
الإحياء (3/ 152).