المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌باب ما يباح من الغيبة

‌باب ما يباح من الغيبة

(1)

قد يفاجأنا أخ كريم بقوله إن هذه غيبة مباحة .. فنعرض قوله على شروط إباحة الغيبة .. فإن وافقت فقد أصاب وإلا فلا.

تباح الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهي ستة أسباب:

الأول: التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول ظلمني فلان بكذا.

الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر، فلان يعمل كذا فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا.

الثالث: الاستفتاء فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي أو فلان بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي ودفع الظلم؟ ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص، أو زوج، قال أمره كذا؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين ومع ذلك فالتعيين جائز.

الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، مثل جرح

(1) للاستزادة انظر رياض الصالحين (419)، الإحياء (3/ 161).

ص: 57

المجروحين من الرواة والشهود، ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو غير ذلك، فله أن يبين حاله بنية النصيحة.

الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه، أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكر.

السادس: التعريف فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب، كالأعمش والأعرج، والأصم، والأعمى، والأحول، جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.

أخي الحبيب: إن ضعفت عن ثلاث، فعليك بثلاث، إن ضعفت عن الخير فأمسك عن الشر، وإن كنت لا تستطيع أن تنفع الناس، فأمسك عنهم ضرك، وإن كنت لا تستطيع أن تصوم فلا تأكل لحوم الناس (1).

روي عن الحسن أن رجلاً قال: إن فلانًا قد اغتابك، فبعث إليه طبقًا من الرطب، وقال: بلغني أنك أهديت إليَّ حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فأعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك بها على التمام (2).

وذكر عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن

(1) تنبيه الغافلين (179).

(2)

تنبيه الغافلين (176)، الإحياء (3/ 164).

ص: 58

العبد ليعطى كتابه يوم القيامة فيرى فيه حسنات لم يكن عملها فيقول يا رب، من أين لي هذا؟

فيقول: هذا بما اغتابك الناس وأنت لا تشعر (1).

فيا عجبا ندري بنار وجنة

وليس لذي نشتاق أو تلك نحذر

إذا لم يكن خوف ولا شوق ولا حيا

فماذا بقي فينا من الخير يذكر

ولسنا صابرين ولا بلى

فكيف على النيران يا قوم نصبر

وفوت جنات الخلد أعظم حسرة

على تلك فليتحسر المتحسر

روى خالد الربعي قال: كنت في المسجد الجامع، فتناولوا رجلاً، فنهيتهم عن ذلك، فكفوا وأخذوا في غيره، ثم عادوا إليه، فدخلت معهم في شيء من أمره، فرأيت تلك الليلة في المنام كأني أتاني رجل أسود طويل، ومعه طبق عليه قطعة من لحم خنزير، فقال لي: كل، فقلت: آكل لحم خنزير؟ والله لا آكله فانتهرني انتهارًا شديدًا، وقال: قد أكلت ما هو شر منه، فجعل يدسه في فمي، حتى استيقظت من منامي، فوالله لقد مكثت ثلاثين يومًا أو أربعين يومًا، ما أكلت طعامًا، إلا وجدت طعم ذلك اللحم ونتنه في فمي (2).

وذكر عن إبراهيم بن أدهم، أنه قال: يا مكذب، بخلت بدنياك على أصدقائك وسخوت بآخرتك على أعدائك، فلا أنت فيما بخلت به معذور، ولا أنت فيما سخوت به محمود (3).

(1) تنبيه الغافلين (177).

(2)

تنبيه الغافلين (177).

(3)

تنبيه الغافلين (177).

ص: 59

أخي الحبيب:

خل جنبيك لرام

وأمض عنه بسلام

مت بداء الصمت خير

لك من داء الكلام (1)

والكثير بحمد الله، تتحرك الكلمة على لسانه وتضطرم في صدره ولكنه يمنعها مخافة من الله عز وجل ورغبة فيما عنده أولئك الأحبة الذين قدموا الباقية على العاجلة، جعلنا الله منهم ورزقنا نصيبًا من صمتهم وسكوتهم عما حرم الله.

ذكر عن عيسى ابن مريم عليه السلام: أنه قال لأصحابه: أرأيتم لو أتيتم على رجل قائم، قد كشف الريح عند بعض عورته كنتم تسترون عليه؟

قالوا: نعم قال: بل كنتم تكشفون البقية، قالوا: سبحان الله، كيف نكشف البقية.

قال: أليس يذكر عندكم الرجل، فتذكرونه بأسوأ ما فيه، فأنتم تكشفون بقية الثوب عن عورته.

حمانا الله وإياكم كشف عورات المسلمين وهتك أعراضهم والخوض فيها، باللسان وغيره.

اعلم أخي أن الذكر باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة،

(1) تاريخ بغداد (14/ 193).

ص: 60

وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام.

فمن ذلك قول عائشة رضي الله عنها دخلت علينا امرأة فلما ولت، أومأت بيدي أنها قصيرة، فقال عليه السلام "اغتبتيها" ومن ذلك المحاكاة يمشي متعارجا أو كما يمشي فهو غيبة، بل هو أشد من الغيبة، لأنه أعظم في التصوير والتفهيم، وكذلك الغيبة بالكتابة فإن القلم أحد اللسانين (1).

روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: هاجت ريح منتنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أناسا من المنافقين، قد اغتابوا أناسا من المسلمين فلذلك هاجت هذه الريح النتنة"(2).

وقيل لبعض الحكماء: ما الحكمة في أن ريح الغيبة ونتنها كانت تتبين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتبين في يومنا هذا؟

قال: لأن الغيبة قد كثرت في يومنا، فامتلأت الأنوف منها، فلم تتبين الرائحة، وهي النتن، ويكون مثال هذا، مثال رجل دخل الدباغين، لا يقدر على القرار فيها من شدة الرائحة، وأهل تلك الدار، يأكلون فيها الطعام، ويشربون الشراب ولا تتبين لهم الرائحة لأنه قد امتلأت أنوفهم منها، كذلك أمر الغيبة في يومنا هذا (3).

ولننظر إلى صفاء النفوس، ورفعة النفس وقبل ذلك طاعة الله

(1) الإحياء (3/ 154).

(2)

تنبيه الغافلين: (175).

(3)

تنبيه الغافلين (175)

ص: 61

عز وجل ورسوله.

ذكر عن وهب المكي أنه قال: لأن أدع الغيبة أحب إلي من أن تكون لي الدنيا وما فيها، منذ خلقت إلى أن تفنى، فأجعلها في سبيل الله تعالى ولإن أغض بصري عما حرم الله تعالى أحب إلي من أن تكون لي الدنيا وما فيها فاجعلها في سبيل الله ثم تلا قوله تعالى:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وتلا قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (1).

ومع الأسف انتشر في مجالس بعض القوم من جعل الغيبة مصدر رزق له فيسأل عن فلان .. فيتحدث حديثًا بين الجد والهزل تتبعه ضحكات القوم .. ويسترسل في الغيبة ونهش أعراض المسلمين على سبيل الإضحاك .. فلا يبقى لحما لمسلم لم يأكله، ولا يبقى عظما لآخر لم ينهشه .. ويكافأ على ما حرم الله بملئ بطنه أو بملئ كمه .. يستظرف حديثه .. ويستخف دمه .. ليعيث غيبة في أعراض المسلمين.

وكان جزاؤه في ما سبق إسكاته أو إخراجه من المجالس لكي لا يفسدها بمعصية الله جل وعلا، وفي بعض المجالس الآن يسأل عن غيابه ولماذا لم يأت فسبحان الله.

ولربما رأيته في مجلس آخر ينهش أعراض من تعشى معهم مساء البارحة.

(1) تنبيه الغافلين (179).

ص: 62

فانظر إلى العدل في المعاملة ..

أما في مجتمع بعض النساء .. فالحديث لا يمل ..

والإنصات مستمر .. ولو تأملت المتحدثة لرأيتها تجول وتصول في الأعراض.

عن يحيى بن معاذ قال: ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال لتكون من المحسنين.

إحداها: إنك لم تنفعه فلا تضره.

والثانية: إن لم تسره فلا تغمه.

والثالثة: إن لم تمدحه فلا تذمه (1).

أخي الحبيب:

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم" رواه أبو داود.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" متفق عليه.

وهذا الحديث صريح في أنه ينبغي أن لا يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرا وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم (2).

(1) تنبيه الغافلين: (178).

(2)

رياض الصالحين (418).

ص: 63

أخي الحبيب:

هذا اللسان الكريه، العاصي لربه .. هل نتركه يلوث مجالسنا ويحبط أعمالنا.

انظر لعظم أجر إسكات المغتاب والرد عليه والدفاع عن أعراض المسلمين وعرضك من أعراضهم ولسان المغتاب ربما افترى عليك في مجلس أنت غائب عنه.

عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة" رواه الترمذي وقال حديث حسن.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حمى مؤمنا من منافق يغتابه، بعث الله تعالى إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال".

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من امرئ يخذل امرءًا مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته، وما من امرئ ينصر امرءًا مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله عز وجل في مواطن يحب فيها نصرته" تفرد به أبو داود.

قال كعب الأحبار: قرأت في كتاب الأنبياء عليهم السلام أن من مات تائبا من الغيبة كان آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصرا

ص: 64

عليها كان أول من يدخل النار (1).

وروي أن رجلا أتى ابن سيرين فقال: إني اغتبتك فاجعلني في حل فقال: وكيف أحل ما حرم الله؟

فكأنه أشار إليه بالاستغفار، والتوبة إلى الله تعالى مع استحلال منه (2).

وقال عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان الثوري: يا أبا عبد الله ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة، ما سمعته يغتاب عدوا له قط، فقال: هو أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهبها.

أخي:

هذه أعراض المسلمين فكما أنك لا تقبل أن يكون عرضك حديث المجالس فكيف تقبل هذا لمسلم مثلك .. فربما إذا استمعت للمغتاب اليوم استمع لغيبتك غدا، ولكن رد عن أعراض المسلمين ليرد الله عنك، ولا تقبل أن يكون مجلسك مجلس سوء وشر.

(1) تنبيه الغافلين (177).

(2)

تنبيه الغافلين (179).

ص: 65