الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني
…
أوَّلُ الشَّرح
1 قوله: "باب ما تنطق به الألسنةُ وتعتقدُه الأفئدة من واجب أمور الديانات، من ذلك الإيمانُ بالقلب والنُّطقُ باللِّسان أنَّ الله إلَهٌ واحدٌ لا إله غيرُه، ولا شبيهَ له، ولا نَظيرَ له، ولا وَلَدَ له، ولا وَالِدَ له، ولا صاحبةَ له، ولا شريكَ له".
عقد ابنُ أبي زيد القيرواني – رحمه الله – هذا البابَ في مقدِّمة رسالته بالفقه؛ لأنَّه لَم يجعل التأليف في العقيدة مستقلاًّ، بل أتى به تحت هذا الباب في مقدِّمة رسالته، فصارت رسالتُه في الفقه، جمعت بين الفقهين: الفقه الأكبر، وهو ما يتعلَّق بالعقيدة التي لا مجال فيها للاجتهاد، وفقه الفروع، الذي فيه مجال للاجتهاد.
وما ذكره من التنصيص على قول اللِّسان واعتقاد القلب بين يدي هذه العقيدة؛ لأنَّ ما يُعتقدُ مطلوبٌ فيه أن يكونَ في القلب، وأن يكون على اللِّسان، ولا يُقال: إنَّه لم يذكر الأعمالَ، فيُشابه مرجئةَ الفقهاء؛ لأنَّه قد ذكر في هذه المقدِّمة أنَّ الإيمانَ يكون بالقلب واللِّسان والعمل.
وكلامُ ابن أبي زيد – رحمه الله – هذا مشتملٌ على إثبات ألوهية الله وحده، وعلى النفي لأمور سبعة، هي: نفيُ الإلَهية عن غيره، ونفيُ الشَّبيه، ونفيُ النَّظير، ونفيُ الولد، ونفيُ الصاحبة، ونفيُ الشريك.
فقوله: "أنَّ اللهَ واحدٌ لا إلَه غيره" مأخوذ من قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، وهو مشتملٌ على بيان أنَّ اللهَ
وحدَه هو الإلَهُ الحقُّ الذي يجب أن تُفرَدَ له العبادة، وأن لا يكون لغيره نصيبٌ منها، ولهذا الأمر العظيم أرسل اللهُ الرُّسلَ وأنزل الكتبَ، كما قال الله عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ،وقال:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} ، فالله خلق الخَلق، وأرسلَ الرُّسلَ، وأنزل الكُتبَ لأمرهم بعبادته وحده، وترك عبادة غيره، وهذا النوع من التوحيد وهو توحيد الألوهية، وهو إفرادُ الله بالعبادة هو أحدُ أنواع التوحيد الثلاثة، التي هي توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
فتوحيد الألوهية: توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء والاستغاثة والاستعاذة والذَّبح والنَّذر، وغيرها من أنواع العبادة، كلُّها يَجب على العباد أن يَخصُّوا الله تعالى بها، وأن لا يجعلوا له فيها شريكاً.
وتوحيد الربوبية: هو توحيد الله بأفعاله، كالخَلق والرَّزق والإحياء والإماتة والتصرُّف في الكون، وغير ذلك من أفعال الله التي هو مختصٌّ بها، لا شريك له فيها.
وتوحيدُ الأسماء والصفات: هو إثباتُ ما أثبته اللهُ لنفسه وأثبته له رسولُه صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه يليقُ بكمال الله وجلاله، من غير تمثيل أو تكييف، ومن غير تحريف أو تعطيل.
وهذا التقسيم لأنواع التوحيد عُرف بالاستقراء من نصوص الكتاب والسُّنَّة، ويتَّضح ذلك بأوَّل سورة في القرآن، وآخر سورة؛ فإنَّ كلاًّ منهما مشتملةٌ على أنواع التوحيد الثلاثة.
فأمَّا سورة الفاتحة، فإنَّ الآيةَ الأولى فيها، وهي:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} مشتملةٌ على هذه الأنواع؛ فإنَّ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فيها توح يد الألوهية؛ لأنَّ إضافةَ الحمد إليه من العباد عبادةٌ، وفي قوله:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} إثبات توحيد الربوبيَّة، وهو كون الله عز وجل ربَّ العالمين، والعالَمون هم كلُّ مَن سوى الله؛ فإنَّه ليس في الوجود إلَاّ خالقٌ ومخلوق، والله الخالقُ، وكلُّ مَن سواه مخلوق، ومن أسماء الله الرب.
وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مشتملٌ على توحيد الأسماء والصفات، والرحمن الرحيم اسمان من أسماء الله يدُلَاّن على صفة من صفات الله، وهي الرَّحمة، وأسماءُ الله كلُّها مشتقَّةٌ، وليس فيها اسم جامد، وكلُّ اسم من الأسماء يدلُّ على صفة من صفاته.
و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه إثبات توحيد الربوبيَّة، وهو سبحانه مالك الدنيا والآخرة، وإنَّما خصَّ يوم الدِّين بأنَّ اللهَ مالكُه؛ لأنَّ ذلك اليوم يخضعُ فيه الجميعُ لربِّ العالَمين، بخلاف الدنيا، فإنَّه وُجد فيها من عتا وتَجبَّر، وقال:{أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}
وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه إثباتُ توحيد الألوهية، وتقديمُ المفعول وهو {إِيَّاكَ} يُفيد الحصرَ، والمعنى: نخصُّكَ بالعبادة والاستعانة، ولا نشرك معك أحداً.
وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فيه إثبات توحيد الألوهية؛ فإنَّ طلبَ الهداية من الله دعاءٌ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الدعاءُ هو العبادة"، فيسأل العبدُ ربَّه في هذا الدعاء أن يَهديَه الصرطَ المستقيمَ الذي سلكه
النبيُّون والصدِّيقون والشهداء والصالِحون، الذين هم أهل التوحيد، ويسأله أن يُجنِّبَه طريقَ المغضوب عليهم والضالِّين، الذين لَم يحصل منهم التوحيدُ، بل حصل منهم الشِّركُ بالله وعبادةُ غيره معه.
وأمَّا سورة الناس، فقوله:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثباتُ أنواع التوحيد الثلاثة؛ فإنَّ الاستعاذةَ بالله من توحيد الألوهيَّة.
و {بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثبات توحيد الربوبيَّة وتوحيد الأسماء والصفات، وهو مثل قول الله عز وجل في أول الفاتحة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
وقوله: {بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثباتُ الربوبيَّة والأسماء والصفات.
و {إِلَهِ النَّاسِ} فيه إثبات الألوهية والأسماء والصفات.
والنسبةُ بين أنواع التوحيد الثلاثة هذه أن يُقال: إنَّ توحيدَ الربوبيَّة وتوحيدَ الأسماء والصفات مستلزمان لتوحيد الألوهية، وتوحيد الألوهيَّة متضمِّنٌ لهما، والمعنى أنَّ مَن أقرَّ بالألوهيَّة فإنَّه يكونُ مُقرًّا بتوحيد الربوبيَّة وبتوحيد الأسماء والصفات؛ لأنَّ مَن أقرَّ بأنَّ اللهَ هو المعبودُ وحده فخصَّه بالعبادة ولم يجعل له شريكاً فيها، لا يكون منكراً بأنَّ اللهَ هو الخالقُ الرازقُ المُحيي المميتُ، وأنَّ له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى.
وأمَّا مَن أقرَّ بتوحيد الربوبيَّة وتوحيد الأسماء والصفات، فإنَّه يلزمه أن يُقرَّ بتوحيد الألوهيَّة، وقد أقرَّ الكفَّارُ الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوحيد الربُوبيَّة، فلَم يُدخلهم هذا الإقرارُ في الإسلام، بل قاتَلَهم حتى يَعبدوا اللهَ وحده لا شريك له، ولهذا يأتي كثيراً في القرآن تقريرُ توحيد الربوبيَّة الذي أقرَّ به الكفَّارُ؛ لإلزامهم بالإقرار بتوحيد الألوهيَّة، ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
ففي كلِّ آية من هذه الآيات تقريرُ توحيد الربوبيَّة للإلزام بتوحيد الألوهيَّة، فيقول في كلِّ آية من هذه الآيات الخمس عقب تقرير توحيد الربوبيَّة:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ، والمعنى أنَّ مَن تفرَّد بهذه الأفعال التي هي من أفعال الله وحده، يجبُ أن يُخصَّ بالعبادة وحده؛ لأنَّ مَن اختصَّ بالخلْق والإيجاد وغيرها من أفعال الله يَجب أن يُخصَّ بالعبادة وحده، وكيف يُعقل أن تكون المخلوقات التي كانت عَدَماً، وقد أوجدَها الله، كيف يُعقل أن يكون لها نصيبٌ من العبادة وهي مخلوقةٌ لله؟!
ثمَّ إنَّه لا بدَّ لقبول العبادة والعمل الصالح من توفُّر شرطين:
أحدهما: أن يكون العملُ لله خالصاً، والثاني: أن يكون لسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم موافقاً.
فلا بدَّ من تجريد الإخلاص لله وحده، ولا بدَّ من تجريد المتابعة للنِّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فلو وُجد العملُ مبنيًّا على سُنَّة وفُقد فيه شرطُ الإخلاص لم يُقبَل؛
لقول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} ، ولو وُجد العملُ خالصاً لله لكنَّه لَم يُبْنَ على سُنَّة، بل بُنِيَ على البدع والمحدثات فإنَّه مردودٌ على صاحبه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتَّفق على صحَّته عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وفي لفظ لمسلم:"من عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ"، أي: مردودٌ عليه غير مقبول منه.
ولا يُقال: إنَّ العملَ إذا كان خالصاً لله، ولم يكن مبنيًّا على سُنَّة، وكان قَصدُ صاحبه حسناً أنَّه محمودٌ ونافعٌ لصاحبه، ومِمَّا يدلُّ على ذلك أنَّ الرَّسولَ الكريم صلى الله عليه وسلم قال للصحابيِّ الذي ذبح أُضحيتَه قبل صلاة العيد:"شاتُك شاةُ لَحم"، فلَم يعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أُضحيةً؛ لأنَّها ذُبحَت قبل ابتداء وقت الذَّبح الذي يبدأ بعد صلاة العيد، والحديثُ أخرجه البخاري (5556) ، ومسلم (1961)، وقد قال الحافظ في شرحه في الفتح (10/17) :"قال الشيخ أبو محمد بن أبي جَمرة: وفيه أنَّ العملَ وإن وافق نيَّةً حسنةً لَم يصحَّ، إلَاّ إذا وقع على وفق الشَّرع".
وفي سنن الدارمي (1/68 69) أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقف على أناس في المسجد مُتحلِّقين وبأيديهم حصًى، يقول أحدهم: كبِّروا مائة، فيُكبِّرون مائة، فيقول: هلِّلوا مائة، فيُهلِّلون مائة، ويقول: سبِّحوا مائة، فيُسبِّحون مائة، فقال: "ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعدُّ به التكبيرَ والتهليلَ والتسبيحَ، قال: فعُدوا سيِّئاتكم فأنا ضامنٌ أن لا يَضيعَ من حسناتكم شيءٌ، وَيْحَكم يا أمّة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابةُ نبيِّكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابُه لم تَبْلَ، وآنيتُه لم تُكسر، والذي نفسي بيده إنَّكم لَعلَى مِلَّةٍ هي أهدى من مِلَّة
محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه". وهذا الأثر أورده الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم: 2005) .
وقول ابن أبي زيد رحمه الله: "أنَّ الله إله واحد لا إله غيره" هو معنى كلمة الإخلاص (لا إله إلَاّ الله) ، وهي مشتملةٌ على نفي عام وإثبات خاص، فالنَّفيُ العام نفيُ العبادة عن كلِّ مَن سوى الله، والإثباتُ الخاص إثباتُها لله وحده، و (لا) نافيةٌ للجنس، وخبرها محذوفٌ تقديرُه: حقٌّ، والمقصودُ نفيُ وجود إله بحق سوى الله، وإلَاّ فإنَّ الآلهةَ بالباطل موجودةٌ وكثيرةٌ، وقد ذكر الله عن الكفار أنَّهم قالوا:{جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .
والجملةُ الأولَى من جُمل النفي السَّبع في كلام ابن أبي زيد "لا إله غيره" تأكيدٌ لقوله: "أنَّ الله إلهٌ واحدٌ"، وختمها بقوله:"ولا شريك له"؛ لبيان أنَّ العبادةَ يجب أن تكون خالصةً لله، وألَاّ يكون له شريكٌ في أيِّ نوع من أنواع العبادة، والله تعالى واحدٌ في ربوبيَّته، وواحدٌ في ألوهيَّته، وواحدٌ في أسمائه وصفاته، فلَم يُشاركه أحدٌ في ألوهيَّته؛ فهو مستحقٌّ للعبادة دون مَن سواه، ولم يُشاركه أحدٌ في ربوبيَّته، فهو سبحانه وحده الخالقُ المدبِّر، ولم يُشاركه أحد في أسمائه وصفاته؛ لأنَّ المعانِيَ اللَاّئقة بالله لا يُشاركه أحدٌ من خلقه فيها.
وقوله: "ولا شبيه له ولا نظير" أي: أنَّ الله لا مِثْلَ له ولا يُشبهه أحدٌ من خلقه، بل هو المتفرِّدُ بصفاته، قال الله عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، قال ابن كثير رحمه الله:"أي ليس كخالق الأزواج كلّها شيء؛ لأنَّه الفردُ الصمد الذي لا نظير له".
وهذه الآيةُ أصلٌ في عقيدة أهل السُّنَّة في الأسماء والصفات، وهي الإثبات مع التنْزيه، بخلاف المشبِّهة، فإنَّ عندهم الإثبات مع التشبيه، وبخلاف المعطِّلة، فإنَّ عندهم التنْزيه مع التعطيل، وأهل السُّنَّة أثبتوا الصفات، ونَزَّهوها عن مشابهة المخلوقات.
وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إثباتٌ لاسْمَي السَّميع والبصير، وهما يدلَاّن على إثبات صفتَي السَّمع والبصر.
وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يدلُّ على التنْزيه، أي: أنَّه له سمعٌ لا كالأسماع، وبصرٌ لا كالأبصار.
وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ، قال ابن كثير رحمه الله:"قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هل تعلمُ للرَّبِّ مثلاً أو شبيهاً، وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جُبير وقتادة وابن جريج وغيرُهم".
وقال الله تعالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} والكفو هو المِثلُ والنَّظير، قال القرطبيُّ في تفسيره (20/246) :"لم يكن له شبيهٌ ولا عدل، ليس كمثله شيء".
وكلمة {أَحَدٌ} جاءت في سياق النفي، فتكون عامةً في نفي كلِّ شبيه أو مثيل، وما جاء في تفسير ابن كثير من تفسير هذه الكلمة بالزَّوجة هو من قبيل التفسير بالمثال، وهذه الجملة من السورة مؤكِّدةٌ لِما تقدَّم من الجُمل، ولا سيما الجملة الأولى، فهو سبحانه وتعالى أحدٌ، ولا يكون أحدٌ كفواً له.
وقوله: "ولا وَلَدَ له، ولا وَالِدَ له، ولا صاحبةَ له" الصاحبةُ هي الزوجة، وقد جاء في القرآن نفي الولد والوالد والصاحبة عن الله عز وجل،
قال الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، فنفى عنه الوالد والولد، ونفى عنه كلَّ مِثْلٍ ونظير، ومنه الزوجة، وفي هذه السورة الكريمة إثباتُ أحديَّته وصمديَّته، ونفيُ الأصول والفروع والنظراء عنه، فهو أحدٌ لا كُفء له، وهو صَمَدٌ لا ولد ولا والد له، والصَّمدُ هو الذي تصمد إليه الخلائق بحوائجها، وهو الغنِيُّ عن كلِّ مَن سواه، المفتقرُ إليه كلُّ مَن عَدَاه، فلكمال غناه لا يحتاجُ إلى الوالد والولد، ولكونه واحداً أحداً لا يكون أحدٌ له مِثْلاً ونظيراً، والوالد جاء نفيُه في القرآن عن الله في هذه السورة في قوله:{وَلَمْ يُولَدْ} ، وأمَّا الولد فقد جاء نفيُه عن الله في آيات كثيرة، وذلك أنَّ اليهودَ يقولون: عُزيرٌ ابنُ الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، والكفار الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: الملائكةُ بنات الله، ومن ذلك قول الله عز وجل في البقرة:{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} ، وقال في المؤمنون {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} ، وقال في مريم:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} ، وغير ذلك من الآيات منها في النساء والأنعام والتوبة ويونس والإسراء والكهف والأنبياء والصافات والزخرف والجنّ.
وأمَّا الصاحبة، فقد جاء نفيُها عن الله عز وجل في القرآن مع نفي الولد عنه في قوله عز وجل:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} ، وقوله عن الجنِّ:{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} ، أي: تعالَت عظمتُه.
وما جاء في كلام ابن أبي زيد – رحمه الله – من نفي الشبيه والنظير والوالد والولد والصاحبة هو نفيٌ على طريقة السَّلف، وهو نفيٌ متضمِّنٌ إثبات كمال الله عز وجل، فنفيُ الشبيه والنظير متضمّنٌ إثبات كمال أحديَّته، ونفيُ الوالد والولد والصاحبة متضمِّنٌ إثبات كمال غناه، وكلُّ ما جاء في القرآن من نفي شيء عن الله فإنَّه يتضمَّن إثبات كمال ضدِّ ذلك المنفي، مثل قوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} ، فإنَّه دالٌّ على إثبات كمال قُدرته، وكذا قوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ، أي: من تعب، فهو متضمِّنٌ إثبات كمال قدرته، ومثل قوله:{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ، وهو دالٌّ على إثبات كمال عدله، وقوله:{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، فهو دالٌّ على إثبات كمال علمه.
وهذا بخلاف النفي عند أهل الكلام، فإنَّه لا يدلُّ على كمال، بل يُؤدِّي إلى تشبيه الله عز وجل بالمعدومات، كما سبق إيضاحُ ذلك في الفائدة الثانية.
2 قوله: "ليس لأَوَّلِيَّتِهِ ابتداءٌ، ولا لآخِرِيَّتِه انقضَاءٌ".
كلام ابن أبي زيد هذا منتَزَعٌ من قول الله عز وجل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وفي هذه الآية إثبات اسم (الأوَّل) لله عز وجل، الذي يدلُّ على أنَّ كلَّ شيء آيلٌ إليه، واسم (الآخر) الدالُّ على بقائه ودوامه وآخريته، وقد جاء تفسير هذه الأسماء في
هذه الآية في حديث مشتمل على دعاء، وفيه:"اللَّهمَّ أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنتَ الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنتَ الباطن فليس دونك شيء، اقْضِ عنَّا الدَّينَ وأغننا من الفقر" أخرجه مسلم في صحيحه (2713) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومعنى قول ابن أبي زيد هذا أنَّ الله لم يسبقه عدمٌ، ولا يلحقه عدم، وأمَّا المخلوقات فلها بداية سبقها عدم، ولها نهاية يلحقها عدم.
وأمَّا ما جاء في نصوص الكتاب والسُّنَّة من بقاء الجنَّة والنار ودوامهما ودوام أهلهما فيهما، فلا يُنافي كونه سبحانه الآخرَ الذي ليس بعده شيء؛ لأنَّ بقاءَه لازمٌ لذاته، بخلاف الجنَّة والنار ومَن فيهما، فإنَّه مكتَسَبٌ قد شاءه الله وأراده، ولو لم يشأه لم يحصل ولم يقع، قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (ص: 629) : "وبقاءُ الجنَّة والنار ليس لذاتهما، بل بإبقاء الله لهما".
وقول ابن أبي زيد: "ليس لأَوَّلِيَّتِهِ ابتداءٌ، ولا لآخِرِيَّتِه انقضَاءٌ" أولَى من قول الطحاوي في عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة: "قديمٌ بلا ابتداء، دائمٌ بلا انتهاء"؛ لتعبيره بما يُطابق اسْمَي الله: الأول والآخر.
3 قوله: "لا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ الواصفون، ولَا يُحيطُ بأمرِه المُتَفَكِّرونَ، يَعتَبِرُ المتفَكِّرونَ بآياته، ولا يَتَفكَّرونَ في مَاهِيَةِ ذاتِه".
أهل السُّنَّة يَصفون اللهَ بما وصف به نفسَه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، على ما يليق به سبحانه وتعالى، مع فهم المعنى والجهل بالكيف، فهُم يُثبتون الصفات ولا يَبحثون عن كيفياتها، وهم مفوِّضةٌ بالكيف دون المعنى، كما
جاء ذلك واضحاً في الأثر المشهور عن مالك – رحمه الله – عندما سُئل عن كيفية الاستواء، فقال:"الاستواءُ معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
ومعنى كلام ابن أبي زيد أنَّه لا يستطيع أحدٌ أن يصف اللهَ بما هو عليه، بأن يعرفَ كيفيةَ اتِّصافه بالصفات؛ لأنَّ ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلَاّ هو.
وقوله: "ولا يحيط بأمره المتفكِّرون"، أمرُ الله منه ما هو كونيٌّ قَدَري، ومنه ما هو دينِيٌّ شرعي، فالكونيُّ مثل قول الله عز وجل:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، والشرعيُّ مثل قوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}
وكلٌّ من الأمر الكونيِّ والأمر الشرعي مشتملٌ على حكمة، فما قدَّره الله فلحكمة، وما شرعه الله فلحكمة، وقد يعلم العبادُ شيئاً من الحكم في الأمر الكوني القَدري والأمر الشرعي، ولكنَّهم لا يحيطون بحِكَم الله في خلقه وشرعه،؛ فإنَّ الواجبَ الإيمانُ بالقدر، والاستسلامُ للأمر والنهي، سواء عرف العبادُ حِكَم ذلك أم لَم يعرفوها.
ولكنَّهم إذا عرفوا شيئاً من ذلك زاد إيمانُهم ويقينُهم، وإذا لم يعرفوا الحكمةَ في القدر والشرع فإنَّ ذلك لا يثنيهم عن القيام بما هو واجبٌ عليهم من الإيمان بالقدر والانقياد للأحكام الشرعية.
والذي اشتمل عليه كلامُ ابن أبي زيد – رحمه الله – نفيُ الإحاطة بالحِكَم والأسرار؛ لتعبيره بقوله: "المتفكِّرون" وليس المقصود معرفة الأحكام الشرعية؛ فإنَّ ذلك مطلوبٌ فيه العلم والعمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في
الحديث: "ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم" أخرجه البخاري (7288) ، ومسلم (1327) .
وقوله: "يعتبرُ المتفكِّرون في آياته" آياتُ الله نوعان: شرعية وكونية، فالآياتُ الشرعية هي التي اشتمل عليها القرآن الكريم، والآيات الكونية آياته في خلقه كالليل والنهار، والشمس والقمر وغير ذلك، ويدلُّ للاعتبار بالآيات الشرعية قول الله عز وجل:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ، وقوله:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
ويدلُّ للاعتبار بالآيات الكونية قول الله عز وجل {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وقوله: {نَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ َمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} ، وقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وقوله: "ولا يتفكَّرون في ماهية ذاته" الله عز وجل بذاته وصفاته الخالق، وما سواه مخلوق، وقد مرَّ في كلام ابن أبي زيد – رحمه الله – التفويضُ لكيفية الصفات، وأنَّه لا يبلغ كُنْهَ صفته الواصفون، وكما أنَّه لا يجوز البحثُ في كيفية الصفات، فكذلك لا يجوزُ البحثُ في كيفية الذات، ولهذا قال هنا:"ولا يتفكَّرون في ماهية ذاته" أي حقيقتها والكيفية التي هي عليها.
4 قوله: " {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} ".
هذه الجمل الأربع قطعةٌ من آية الكرسي المشتملة على عشر جمل، ومثلها في الاشتمال على عشر جمل قول الله عز وجل: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ
كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، نبَّه على ذلك ابن كثير – رحمه الله – عند تفسيره هذه الآية من سورة الشورى.
قوله: "ولا يحيطون بشيء من علمه إلَاّ بما شاء" من صفات الله عز وجل العلم، وعلمُه محيطٌ بكلِّ شيء، كما قال الله عز وجل:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} ، أمَّا المخلوقون فلا يعلمون من علمه إلَاّ ما علَّمهم إيَّاه، كما قال:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ} وقال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ، وقال:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ، وأخبر الله عن نبيِّه نوح عليه الصلاة والسلام أنَّه قال:{وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} ، وأمر الله نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يُخبر قومَه أنَّه لا يعلم الغيبَ، فقال:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، وقال:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
وأخبر الله عن الملائكة أنَّهم: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ، وقال الله عز وجل:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، وقال الله عن الجنِّ:{وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} ، وقال:{فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} .
وأمَّا السُّنَّة فقد جاء فيها أحاديث كثيرة تدلُّ على بيان أمور لا يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قصَّة الإفك، فإنَّه لَم يَعلَم براءةَ أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلَاّ بعد نزول القرآن في براءتها في آيات تُتلَى في سورة النور، ومثل قصة العِقْد الذي فقدته عائشةُ رضي الله عنها في إحدى سفراتها مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد بقوا في منْزلهم للبحث عنه، وانتهى ماؤهم، فأنزل الله إليه آيةَ التيمُّم، وعند رحيلهم وُجد العِقْدُ تحت الجمل الذي تركب عليه عائشة.
قال ابن كثير عند تفسير آية الكرسي: "وقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ} أي: لا يطَّلع أحدٌ من علم الله على شيء إلَاّ بما أعلمَه الله عز وجل وأطلعه عليه، ويحتمل أن يكون المراد: لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلَاّ بما أطلعهم الله عليه، كقوله:{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} .
وقوله: "وسع كرسيه السموات والأرض" الكرسيُّ مخلوقٌ من مخلوقات الله، وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه موضع القَدَمين، كما في المستدرك للحاكم (2/282)، وقال:"إنَّه على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ولم يتعقبه الذهبي، وفي إسناده عمَّار الدُّهْنِي، وهو من رجال مسلم دون البخاري.
وانظر تخريجه في السلسلة الضعيفة للشيخ الألباني (906) ، والضعيف فيه هو المرفوع، وأمَّا الأثر الذي جاء عن ابن عباس من تفسير الكرسي بالعلم، ففي إسناده جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال فيه الحافظ في التقريب:"صدوق يهم"، وقال ابن منده في كتاب الرد على
الجهمية (ص: 45) : "لم يُتابَع عليه جعفر، وليس بالقوي في سعيد بن جُبَير"، وأورده الذهبي في ترجمة جعفر في الميزان (1/417) وقال:"وذكره ابن أبي حاتم وما نقل توثيقه، بل سكت"، ونقل ما تقدَّم عن ابن منده.
وقال الطحاوي في عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة: "والعرشُ والكرسيُّ حقٌّ".
وقوله: "ولا يؤودُه حفظهما" أي: لا يثقله ولا يشقُّ عليه، وهو نفيٌ متضمِّنٌ إثبات كمال قدرته، قال ابن كثير في تفسيره:"أي: لا يثقله ولا يكترثه حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سَهلٌ عليه يسيرٌ لديه".
وقوله: "وهو العليُّ العظيم" اسمان من أسماء الله يدلَاّن على صفتَين من صفات الله، وهما العلوُّ والعظمة، والله تعالى متَّصفٌ بالعلوِّ بأنواعه الثلاثة: علوُّ القدر، وعلوُّ القهر، وعلوُّ الذات، وقد جاء اسم الله العليّ في القرآن مقترناً بثلاثة من أسماء الله، وهي العظيم، والحكيم، والكبير مع تقدُّمه عليها في الذِّكر.
فاقترانُه بالعظيم كما هنا، وفي أوَّل سورة الشورى.
واقترانه بالكبير كما في سورة النساء: {نَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} ، وفي سورتَي الحج ولقمان:{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
واقترانه بالحكيم كما في آخر سورة الشورى: {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} .
5 قوله: "العالِمُ الخبيرُ، المُدَبِّرُ القَدِيرُ، السَّمِيعُ البصيرُ، العَلِيُّ الكَبيرُ".
العليم الخبير اسمان من أسماء الله يدلَاّن على صفتَي العلم والخبرة، وهما متقاربان في المعنى، وجاء في بعض النُّسخ:"العليم" بدل "العالِم"، و"العليم" أولَى لأمرين:
الأول: أنَّ "العليم" جاء في القرآن كثيراً مطلقاً غير مقيَّد، وأمَّا "العالِم" فيأتي في القرآن مقيَّداً بعلم الغيب، كقوله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وقوله:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} ، وقوله:{عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} .
والثاني: أنَّه يأتي في القرآن كثيراً اقترانُ اسم "العليم" باسم "الخبير" مع تقدُّم اسم "العليم" كما قال الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ، وقال:{قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} .
وقوله: "المدبِّرُ القدير" القدير اسمٌ من أسماء الله يدلُّ على صفة من صفات الله، وهي القدرة، قال الله عز وجل:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقدرة الله عامَّةٌ لكلِّ شيء، قال الله عز وجل:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} ، وقال:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} ، وقال:{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}
وأمَّا المُدبِّرُ فلا أعلمُ ما يدلُّ على أنَّه من أسماء الله، وقد جاء وصفُ الله
تعالى بالتدبير، كما قال الله عز وجل:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} ، وقال:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} ، والله سبحانه وتعالى المُدبِّر للأمر المتصرِّف في الكون كيف يشاء، لا إله إلَاّ هو.
وقوله: "السميع البصير" السميع البصير اسمان من أسماء الله يدلَاّن على صفتَين من صفات الله، وهما السَّمع والبصر، وسَمعُ الله محيطٌ بكلِّ المسموعات، وبصرُه محيطٌ بكلِّ المرئيات، قال الله عز وجل:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
وفي هذه الآية الكريمة الجمعُ في وصف الله بالسَّمع بين الفعل الماضي والمضارع والاسم، وهذان الاسمان يأتيان مقروناً بينهما في كثير من آيات القرآن، كقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} ، وقوله:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} ، وقوله:{وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وقوله: "العليُّ الكبير" العليُّ والكبير اسمان من أسماء الله يدلَاّن على صفتَي العلوِّ والكِبَر، والله تعالى عالٍ على كلِّ شيء قهراً وقدْراً وذاتاً، وهو أكبرُ من كلِّ كبير وأعظمُ من كلِّ عظيم، والمخلوقات كلُّها حقيرةٌ أمام كبرياء الله وعظمته سبحانه وتعالى.
وقد مرَّ قريباً أنَّ اسمَ العليِّ يأتي مقترناً باسم الكبير، ومرَّ ذكر بعضُ الآيات في ذلك، ومنها أيضاً قول الله عز وجل:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
6 قوله: "وَأنَّه فوقَ عَرشه المجيد بذاته، وهو في كلِّ مَكان بعِلمه".
لَمَّا ذكر ابن أبي زيد – رحمه الله – أنَّ من أسماء الله العليّ، وقد ذكره قريباً مقترناً باسم العظيم، وباسم الكبير، بيَّن في هذا أنَّ علوَّ الله عز وجل وفوقيَّتَه على عرشه أنَّه علوٌّ بالذَّات، كما أنَّه عليٌّ بالقدر وعليٌّ بالقهر، وإنَّما نصَّ على علوِّه على عرشه بذاته لمَّا وُجد من يقول: إنَّ علوَّ الله علوُّ قدرٍ وعلوُّ قهرٍ، وأوَّلَ علوَّه على عرشه باستيلائه عليه، وأنَّه ليس على العرش حقيقةً بذاته، فعبَّر بعلوِّ الذَّات ردًّا على من قال: إنَّه علوٌّ مجازيٌّ وليس بحقيقيّ، وهذا نظيرُ قولِ السَّلف عن القرآن إنَّه غيرُ مخلوقٍ لمَّا وُجد من يقول: إنَّه مخلوقٌ.
وأمَّا قوله: "وهو في كلِّ مكانٍ بعلمه" فهو لنفي القولِ بالحلول والاتِّحاد، وهو أنَّ اللهَ حالٌّ في المخلوقات، متَّحدٌ معها، مختلِطٌ بها؛ فإنَّ اللهَ عز وجل الخالقُ، وكلُّ ما سواه مخلوقٌ، والمخلوقاتُ كلُّها كانت عدماً فأوجدها اللهُ، ووُجودُها مبايِنٌ لوجودِ الله، وهو سبحانه وتعالى بائنٌ من خلقه، ليست المخلوقاتُ حالَّةً في الله، ولا الخالقُ حالاًّ في المخلوقات.
ومعيَّةُ الله فُسِّرتْ بأنَّها معيَّةٌ بالعلم، كما قال ابنُ أبي زيد القيرواني هنا، قال اللهُ عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، فقد بُدئت هذه الآيةُ بالعلم، وخُتمت بالعلم.
وفُسِّرتْ بأنَّها معيَّةٌ حقيقيَّةٌ، والمعنى أنَّ اللهَ فوق عرشه بذاته، وهو مع خلقه دون امتزاجٍ أو اختلاطٍ؛ فإنَّ المخلوقاتِ صغيرةٌ حقيرةٌ أمام عظمة الله وكبريائه، واللهُ عز وجل مع كونه فوق عرشه، فهو قريبٌ من عباده، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في الواسطيَّة: "وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمانُ بما أخبر اللهُ به في كتابه وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلفُ الأمَّة، مِن أنَّه سبحانه فوق سماواته على عرشه، عليٌّ على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، وليس معنى قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ} أنَّه مختلطٌ بالخَلْق، فإنَّ هذا لا توجبُه اللُّغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلفُ الأمَّة، وخلاف ما فَطَرَ الله عليه الخلقَ، بل القمر آيةٌ من آيات الله، من أصغر مخلوقاته، وهو موضوعٌ في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش، رقيبٌ على خلقه، مُهيمنٌ عليهم، مطَّلعٌ إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته، وكلُّ هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنَّه فوق العرش وأنَّه معنا حقٌّ على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، لكن يُصانُ عن الظنون الكاذبة، مثل أن يُظنَّ أنَّ ظاهرَ قوله (في السماء) أنَّ السماء تُقلُّه أو تُظلُّه، وهذا باطلٌ
بإجماع أهل العلم والإيمان؛ فإنَّ الله قد وسع كرسيُّه السموات والأرض، وهو الذي يُمسك السموات والأرضَ أن تزولَا، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} .
إلى أن قال: "وما ذُكر في الكتاب والسُّنَّة من قُربه ومعيَّته لا يُنافي ما ذُكر من علوِّه وفوقيَّته؛ فإنَّه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو عليٌّ في دُنُوِّه، قريبٌ في علُوِّه".
ويشيرُ شيخُ الإسلام رحمه الله بالجملة الأخيرة وهي قولُه: "عليٌّ في دُنُوِّه، قريبٌ في علُوِّه" إلى ما جاء في حديث نُزول الرَّبِّ إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلثُ الآخر من الليل، وحديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم (1348) : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثر من أن يُعتقَ اللهُ فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنَّه لَيَدنو، ثمَّ يُباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ ".
7 قوله: "خَلَقَ الإنسانَ، ويَعلمُ ما تُوَسْوِسُ به نفسُه، وهو أَقرَبُ إليهِ مِن حَبْلِ الوَرِيدِ، وما تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلَاّ يَعلَمُها، ولَا حَبَّةٍ في ظُلُمَات الأرضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِس إلَاّ في كتاب مُبين".
عِلْمُ الله محيطٌ بكلِّ شيء، فقد علمَ أزَلاً ما كان وما سيكون، وما لم يكن أن لو كان كيف يكون، كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ} ، فأخبر عن أمر لا يكون، وهو رجوعُ الكفَّار إلى الدنيا، وأنَّهم لو رُدُّوا لعادوا لِما نُهوا عنه، وقال الله عز وجل:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ،وقال تعالى:{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} وقال تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} ، وقال:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ، وقال:{عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وكلُّ ما هو كائنٌ في الوجود من حركة أو سكون قد سبق به علمُ الله، ولا يحصل لله علم في شيء لم يكن معلوماً له من قبل أزَلاً، قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – في كتابه أضواء البيان (1/75 76) عند قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} ، قال: "ظاهرُ هذه الآية قد يَتوهَّم منه الجاهلُ أنَّه تعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيراً، بل هو تعالى عالِمٌ بكلِّ ما سيكون قبل أن يكون، وقد بيَّن أنَّه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه بقوله جلَّ وعلا:{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بعد قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ} دليل قاطعٌ على أنَّه لم
يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالِماً به، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيراً؛ لأنَّ العليمَ بذات الصدور غنِيٌّ عن الاختبار، وفي هذه الآية بيانٌ عظيمٌ لجميع الآيات التي يَذكر الله فيها اختبارَه لخلقه، ومعنى {إِلَّا لِنَعْلَمَ} أي: علماً يترتَّبُ عليه الثواب والعقاب، فلا يُنافي أنَّه كان عالِماً به قبل ذلك، وفائدةُ الاختبار ظهور الأمر للناس، أما عالِمُ السِّرِّ والنَّجوى فهو عالِمٌ بكلِّ ما سيكون كما لا يخفى".
وأمَّا قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، فقد فُسِّر بتفسيرين:
أحدهما: قُربُه بالعلم والقُدرة والإحاطة، وهذا الذي يظهر من كلام ابن أبي زيد رحمه الله.
والثاني: قُربُ الملائكة، نظير قوله في الواقعة:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} ، وقد رجَّحه ابن كثير في تفسيره، وابن القيم كما في مختصر الصواعق (2/268) ، وقد جاء في القرآن الكريم ذكرُ الضمير بلفظ التعظيم والمرادُ به الملائكة، كما في قول الله عز وجل:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، والذي قرأه على الرسول صلى الله عليه وسلم جبريلُ، وقوله:{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} ، وهو إنَّما جادل الملائكة، كما قال الله عز وجل {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} الآية.
8 قوله: "على العَرشِ اسْتَوى، وعَلى المُلْكِ احْتَوى".
من صفات الله الفعليَّة استواؤه على عرشه، ومذهب السَّلف فيه وفي سائر الصفات إثبات الجميع على ما يليق بالله من غير تكييف أو تمثيل، ومن غير تحريف أو تعطيل، مع فهم المعنى والجهل بالكيفية، كما قال الإمام مالك رحمه الله وقد سُئل عن كيفية الاستواء قال:"الاستواءُ معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره عند تفسير آية الاستواء على العرش من سورة الأعراف، قال:"وأمَّا قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، فللنَّاس في هذا المقام مقالاتٌ كثيرةٌ جدًّا ليس هذا موضع بسطها، وإنَّما نسلُكُ في هذا المقام مذهب السَّلف الصالح: مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمَّة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارُها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المُشبِّهين منفيٌّ عن الله؛ فإنَّ اللهَ لا يُشبهه شيءٌ من خلقه، وليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، بل الأمر كما قال الأئمَّة، منهم نُعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري، قال: مَن شبَّه اللهَ بخلقه كفر، ومن جحدَ ما وصفَ اللهُ به نفسَه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسَه ولا رسولُه تشبيه، فمَن أثبت لله تعالى ما وردت به الآياتُ الصريحةُ والأخبارُ الصحيحةُ على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائصَ، فقد سلك سبيل الهُدى".
وقد جاء إثباتُ استواء الله على عرشه في القرآن في سبعة مواضع، قال الله عز وجل في سورة طه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وقال: {ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في الأعراف ويونس والرعد والفرقان والسجدة والحديد.
ومعنى {اسْتَوَى} عند السلف: ارتفع وعلَا، وأمَّا المتكلِّمون فيؤوِّلون {اسْتَوَى} بمعنى استولى، وهو باطل، قال أبو الحسن الأشعري – رحمه الله – في كتابه الإبانة (ص: 86) : "وقد قال قائلون من المعتزلة والجهميّة والحرورية: إنَّ قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أنَّه استولى ومَلَكَ وقَهَر، وأنَّ الله عز وجل في كلِّ مكان، وجَحَدوا أن يكون اللهُ عز وجل على عرشه كما قال أهلُ الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القُدرة، ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ فالله سبحانه قادرٌ عليها وعلى الحُشوش وعلى كلِّ ما في العالَم، فلو كان اللهُ مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء وهو عز وجل مُستوٍ على الأشياء كلِّها لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقْذار؛ لأنَّه قادرٌ على الأشياء، مُستولٍ عليها، وإذا كان قادراً على الأشياء كلِّها ولَم يَجُز عند أحد من المسلمين أن يقول: إنَّ اللهَ عز وجل مستوٍ على الحشوش والأخْلِيَة، لَم يَجُزْ أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلِّها، ووجب أن يكون معناه استواء يختصُّ العرش دون الأشياء كلِّها".
وقد بيَّن ابن القيم بطلانَ تفسير الاستواء بالاستيلاء من اثنين وأربعين وجهاً في كتابه الصواعق المرسلة كما في مختصره لمحمد بن الموصلي (2/126 152) .
ولَمَّا قال ابن أبي زيد – رحمه الله –: "على العرش استوى"، قال
عَقبَه: "وعلى الملك احتوى"، وكأنَّه يشير بذلك إلى إبطال قول المتكلِّمين: استوى بمعنى استولى؛ لأنَّ الله عز وجل مالكُ كلِّ شيء: العرش وغير العرش، والله وحده الخالق، ومَن سواه مخلوق، والذي تفرَّد بالخَلْق والإيجاد هو المتفرِّد بالمُلك، قال الله عز وجل:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقال:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقال: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} ، وقال:{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} ، وقال:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} ، وقال:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} ، وقال:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَاّ غُرُوراً إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}
9 قوله: "وله الأسماء الحُسنى والصِّفاتُ العُلَى".
1 أسماءُ الله وصفاته من علم الغيب التي لا يجوز الكلام فيها إلَاّ بما جاء به الوحي من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيُثبَتُ لله عز وجل ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على ما يليق به سبحانه وتعالى دون تكييف وتمثيل، ودون تحريف وتعطيل، مع تنْزيهه عن كلِّ ما لا يليق به، كما قال الله عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
2 جاء في القرآن الكريم إثباتُ الأسماء لله عز وجل، ووَصْفُها بأنَّها حُسنَى، قال الله عز وجل:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، وقال:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، وقال:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}
ومعنى كون أسماء الله حُسنَى أنَّها بلغت في الحُسن غايته ونهايته، فلا تُوصَف أسماء الله بأنَّها حسنة فحسب، بل تُوصَف بأنَّها حُسنَى، كما جاء في هذه الآيات الكريمات.
3 أسماءُ الله كلُّها مشتقَّةٌ، تدلُّ على معان هي صفات، فالعزيزُ يدلُّ على العزَّة، والحكيم يدلُّ على الحكمة، والكريم يدلُّ على الكَرَم، والعظيمُ يدلُّ على العَظمة، واللَّطيف يدلُّ على اللُّطف، والرحمن والرَّحيم يدلَاّن على الرَّحمة، وهكذا.
وليس في أسماء الله اسمٌ جامد، وما ذكره بعضُ أهل العلم من أنَّ من أسماء الله "الدَّهر" فغيرُ صحيح؛ فإنَّ الحديثَ القدسي:"يُؤذينِي ابنُ آدم يَسبُّ الدَّهر، وأنا الدَّهر، بيدي الأمر، أُقلِّب اللَّيلَ والنَّهار" رواه البخاري (4826) ومسلم (2246) ، لا يدلُّ على أنَّ من أسماء الله الدَّهر؛ لأنَّ
الدَّهرَ هو الزمان، والله تعالى هو الذي يُقلِّبُ اللَّيل والنهار، فمَن سبَّ المقلَّب (بفتح اللَاّم وتشديدها) وهو الدَّهر، رجعت مسبَّتُه إلى المقلِّب (بكسر اللَاّم وتشديدها) وهو الله، وقد بيَّن الله ذلك بقوله:"بيدي الأمر، أقلِّب الليل والنهار".
وأمَّا الصفات فليس كلُّ صفة يُشتقُّ منها اسم؛ فإنَّ من صفات الله الذاتية الوجه واليد والقَدَم، ولا يُؤخذ منها أسماء، ومن صفاته الفعلية الاستهزاء والكيد والمَكر، ولا يُشتقُّ منها أسماء، فلا يُسمَّى بالماكر والمستهزئ والكائد.
وأقول والشيء بالشيء يُذكر: إنَّ أسماءَ الرسول صلى الله عليه وسلم الثابتة مُشتقَّةٌ، تدلُّ على معان، وليس فيها اسم جامد، وليس من أسمائه صلى الله عليه وسلم: طه ويس، قال ابن القيم – رحمه الله – في تحفة المودود (ص: 127) : "ومِمَّا يُمنع منه التسمية بأسماء القرآن وسُوَره، مثل: طه، ويس، وحم، وقد نصَّ مالكٌ على كراهة التسمية ب: يس، ذكره السُّهيلي، وأمَّا ما يذكره العوام أنَّ يس وطه من أسماء النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فغيرُ صحيح، ليس ذلك في حديث صحيح ولا حسن ولا مرسل، ولا أثر عن صاحب، وإنَّما هذه الحروف مثل: الم، وحم، والر، ونحوها".
ولعلَّ مَن توهَّم التسمية ب (طه) و (يس) من العوامّ أخذه من الخطاب للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الحروف المقطَّعة في سورتَي طه ويس، ظانًّا أنَّ هذين من أسمائه صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ خطابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جاء أيضاً بعد الحروف المقطَّعة في سورتَي الأعراف وإبراهيم مثلاً، ولا يُقال: إنَّ من أسمائه صلى الله عليه وسلم لذلك: (المص) ، و (الر) .
4 أسماءُ الله عز وجل غيرُ محصورة بعدد؛ فإنَّ منها ما أطلَع اللهُ عز وجل الناسَ عليه، ومنها ما استأثر بعلمه، ويدلُّ لذلك حديثُ ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب أحداً قطُّ هَمٌّ ولا حزن، فقال: اللَّهمَّ إنِّي عبدُك، ابنُ عبدك، ابن أَمَتك، ناصيَتِي بيدك، ماض فِيَّ حكمُك، عدلٌ فِيَّ قضاؤك، أسألك بكلِّ اسم هو لك، سَمَّيتَ به نفسَك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو أنزلتَه في كتابك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبِي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزنِي، وذهابَ هَمِّي، إلَاّ أذهب اللهُ هَمَّه وحزنَه، وأبدله مكانه فرَحاً، قال: فقيل: يا رسول الله! ألَا نتعلَّمُها؟ فقال: بلى! ينبغي لِمَن سَمعَها أن يتعلَّمها" رواه الإمام أحمد في المسند (3712) ، وعلَّق عليه الشيخ شعيب الأرنؤوط وصاحباه بتضعيفه، وقد نقلوا عن الحافظ ابن حجر تحسينَه، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (198) ، وقد صحَّح هذا الحديث ابنُ القيم، وشرحه شرحاً واسعاً في كتابه شفاء العليل، في الباب السابع والعشرين منه (ص: 369 374) .
والأصلُ عدم حصر الأسماء بعدد معيَّن إلَاّ بدليل يدلُّ على ذلك، ولا أعلم دليلاً يدلُّ عليه، وأمَّا الحديث الذي رواه البخاري (2736، 6410، 7392) ومسلم (2677) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ لله تسعةً وتسعين اسماً، مائة إلَاّ واحدة، مَن أحصاها دخل الجنَّة"، فلا يدلُّ على حصر أسماء الله في هذا العدد، بل يدلُّ على أنَّ من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً، من شأنها أنَّ مَن أحصاها دخل الجنَّة، كما لو قال قائل: عندي مائة كتاب أعددتُها لطلبة العلم؛ فإنَّه لا يدلُّ على أنَّه ليس عنده إلَاّ هذا العدد.
5 لَم يثبت في سرد الأسماء حديثٌ، وقد اجتهد بعضُ العلماء في استخراج تسعة وتسعين اسماً من الكتاب والسُّنَّة، منهم الحافظ ابن حجر فقد جمع هذا العددَ في كتاب فتح الباري (11/215) ، وفي التلخيص الحبير (4/172)، ومنهم الشيخ محمد بن عثيمين في كتابه القواعد المثلَى (ص: 15 16) ، وهذه الكتب الثلاثة متفقةٌ في أكثر الأسماء، ويوجد في أحدها ما لا يوجد في الآخر.
وأسرُدُ فيما يلي تسعة وتسعين من أسماء الله الحسنَى، مرتَّبَةً على حروف الهجاء، ومع كلِّ اسم دليلَه من الكتاب أو السُّنَّة، وفيها زيادة على ما في الكتب الثلاثة اسْمَا:(الستِّير، والديَّان) .
1-
الله: يُطلق على هذا الاسم لفظ الجلالة، ويأتي مراداً به المسمَّى مبتدأ، ويُخبر عنه بالأسماء، مثل:{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وتُنسبُ له الأسماء، كما قال الله عز وجل:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، وقال:{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
2-
الآخر: دليلُه {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} .
3-
الأحد: دليله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
4-
الأعلى: دليله {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} .
5-
الأكرم: دليله {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} .
6-
الإله: دليله {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} .
7-
الأول: دليله {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ}
8-
البارئ، دليله {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} .
9-
الباطن: دليله {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} .
10-
البَرُّ: دليله {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} .
11-
البصير: دليله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
12-
التَّوَّاب: دليله {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} .
13-
الجَبَّار: دليله. {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} .
14-
الجميل: دليله حديث: "إنَّ اللهَ جميلٌ يُحبُّ الجمالَ" رواه مسلم (147) .
15-
الحافظ: دليله {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
16-
الحسيب: دليله {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} .
17-
الحفيظ: دليله {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} .
18-
الحق دليله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}
19-
الحَكَم: دليله حديث: "إنَّ اللهَ هو الحَكَم، وإليه الحُكم" رواه أبو داود (4955) وغيره، وإسناده حسن.
20-
الحكيم: دليله {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
21-
الحليم: دليله {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} .
22-
الحميد: دليله {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} .
23-
الحيُّ: دليله {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .
24-
الحَيِيُّ: دليله حديث: "إنَّ الله عز وجل حَيِيٌّ سِتِّير، يُحبُّ الحياءَ
والسّتر" رواه أبو داود (4012) وغيرُه، وإسناده حسن.
25-
الخالق: دليله {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} .
26-
الخبير: دليله {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} .
27-
الخلَاّق: دليله {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}
28-
الديَّان: دليله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَحشرُ اللهُ العبادَ أو قال: الناس عُراةً غُرْلاً بُهماً، قال: قلنا: ما بُهماً؟ قال: ليس معهم شيء، ثمَّ يُناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديَّان" الحديث، أخرجه الحاكم في المستدرك في موضعين (2/438) ،
(4/574) ، وصحَّحه وأقرَّه الذهبي، وحسَّنه الحافظ في الفتح (1/174) ، والألباني في صحيح الأدب المفرد (746) .
29-
الرَّبُّ: دليله {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}
30-
الرَّحمن: دليله {لْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
31-
الرحيم: دليله {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} .
32-
الرزاق: دليله {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .
33-
الرَّفيق: دليله حديث: "إنَّ الله رفيقٌ يُحبُّ الرِّفق" رواه البخاري (6927) ، ومسلم (2593) .
34-
الرقيب: دليله {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} .
35-
الرؤوف: دليله {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
36-
السُّبُّوح: دليله حديث: "سبُّوح قدُّوس ربُّ الملائكة والرُّوح" رواه مسلم (487) .
37-
الستِّير: دليله مرَّ عند اسم الحَيي.
38-
السلام: دليله {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} .
39-
السَّميع: دليله {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
40-
السيِّد: دليله حديث: "السيِّد اللهُ تبارك وتعالى" رواه أبو داود (4806) وإسناده صحيح.
41-
الشافي: دليله حديث: "اشف أنت الشافي لا شافي إلَاّ أنت" رواه البخاري (5742) ، ومسلم (2191) .
42-
الشاكر: دليله {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} .
43-
الشَّكور: دليله {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} .
44-
الشهيد: دليله {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
45-
الصَّمد: دليله. {اللَّهُ الصَّمَدُ}
46-
الطيِّب: دليله حديث: "إنَّ اللهَ طيِّبٌ ولا يقبل إلَاّ طيِّباً" رواه مسلم (1015) .
47-
الظاهر: دليله. { {هُوَ الأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} .
48-
العزيز: دليله {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
49-
العظيم: دليله {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}
50-
العفوُّ: دليله {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} .
51-
العليم: دليله {وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
52-
العليُّ: دليله {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} .
53-
الغالب: دليله {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ} .
54-
الغفَّار: دليله {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}
55-
الغفور: دليله {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
56-
الغنِيُّ: دليله {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} .
57-
الفتَّاح: دليله {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}
58-
القادر: دليله {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} .
59-
القاهر: دليله {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}
60-
القدُّوس: دليله {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
61-
القدير: دليله {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
62-
القريب: دليله {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}
63-
القهَّار: دليله {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}
64-
القويُّ: دليله {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}
65 القيُّوم: دليله {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .
66-
67-
الكريم: دليله {يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} .
68-
الكفيل: دليله {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} ، وحديث قصَّة الإسرائيليِّ الذي قال لِمَن أَسْلَفه:
"كفى بالله كفيلاً" رواه البخاري (2291) .
69-
اللطيف: دليله {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
70-
المبين: دليله {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}
71-
المتَعال: دليله {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} .
72-
المتكبِّر: دليله {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ}
73-
المَتين: دليله {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}
74-
المُجيب: دليله {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}
75-
المجيد: دليله {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}
76-
المُحسن: دليله حديث: "إنَّ الله مُحسنٌ يُحبُّ المُحسنين" رواه ابن أبي عاصم في الديَّات (ص: 56) ، وابن عدي في الكامل (6/2145) ، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/113) ، وإسناده حسن كما ذكر الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (470) ، وانظر صحيح الجامع الصغير (1819) و (1820) .
77-
المُحيط: دليله {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}
78-
المصوِّر: دليله {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}
79-
المُعطي: دليله حديث: "والله المُعطِي وأنا القاسم" رواه البخاري (3116) .
80-
المُقتدر: دليله {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}
81-
المقدِّم: دليله حديث "أنتَ المُقدِّمُ، وأنتَ المُؤخِّرُ" رواه البُخاري (1120) ومسلم (771) .
82-
المُقيت: دليله {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً}
83-
المَلِك: دليله {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ}
84-
المَليك: دليله {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}
85-
المَنَّان: دليله حديث: "اللهمَّ إنِّي أسألك بأنَّ لك الحمد لا إله إلَاّ أنت المَنَّان" رواه أبو داود (1495) ، وإسناده حسن.
86-
87-
المؤخِّر: دليله، مرَّ عند اسم المقدِّم.
88-
المولَى: دليله {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}
89-
90-
النَّصير: دليله {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} .
91-
الهادي: دليله {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً}
92-
الواحد: دليله {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}
93-
الوارث: دليله {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ}
94-
الواسع: دليله {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
95-
الوتر: دليله حديث: "إنَّ الله وِترٌ يُحبُّ الوتر" رواه البخاري (6410) ، ومسلم (2677) .
96-
الوَدود: دليله {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}
97-
الوكيل: دليله {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
98-
الولِيُّ: دليله {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى}
99-
الوهَّاب: دليله {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
وقد أورد ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين (3/149 171) تسعةً وتسعين وجهاً تدلُّ لقاعدة سدِّ الذرائع، مُقتصراً على ذلك؛ موافقة لعدَّة أسماء الله الحُسنَى الواردة في الحديث.
وأوردتُ في كتابي: دراسة حديث (نضَّر الله امرءاً سمع مقالَتِي) رواية ودراية (ص: 201 210) تسعاً وتسعين فائدة مُستنبطة من هذا الحديث، الذي ورد بألفاظ كثيرة مختصراً ومُطوَّلاً.
6 من أسماء الله ما يُطلق على غيره، كما قال الله عز وجل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، وقال:{إِنَّا خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} ، والمعاني التي تدلُّ عليها الأسماء لا يشبه فيها الخالقُ المخلوقَ، ولا المخلوقُ الخالقَ.
ومنها ما لا يُطلق إلَاّ على الله، ولا يُطلق على غيره، مثل: الله، والرحمن، والخالق، والبارئ، والرزاق، والصمد، قال ابن كثير: في تفسيره عند تفسير البسملة في أول سورة الفاتحة: "والحاصلُ أنَّ من أسمائه تعالى ما يُسمَّى به غيره، ومنها ما لا يُسمَّى به غيرُه، كاسم الله، والرحمن، والخالق، والرزاق، ونحو ذلك".
10 قوله: "لَم يَزَل بِجَميعِ صفاتِه وأسمائِه، تَعالى أن تكونَ صفاتُه مَخلوقَةً، وأسماؤُه مُحْدَثَةً".
الله عز وجل متَّصفٌ بصفاته، متَسَمٍّ بأسمائه أزَلاً وأبداً، فلَم يتَسمَّ باسم بعد أن كان غيرَ متَسَمٍّ به.
وأمَّا صفات الله عز وجل، فهي تنقسمُ إلى قسمين:
صفات ذاتية قائمة بالذات، لازمة لها أزَلاً وأبداً، ولا تتعلَّق بمشيئة وإرادة، كالوجه واليد والحياة والعلم والسَّمع والبصر والعلو.
وصفات فعليَّة متعلِّقة بالمشيئة والإرادة، كالخَلْق والرَّزق والاستواء والنُزول والمجيء، وهذه الصفات نوعُها قديمٌ، وآحادها حادثة، وهو متَّصفٌ بصفَتَي الخلْق والرَّزق أزَلاً، لم يكن غيرَ متَّصف بهاتين الصفتين ثمَّ اتَّصف بهما، والاستواء على العرش حصل بعد خلق السموات والأرض، والنُزول إلى السماء الدنيا حصل بعد خلق السموات والأرض، والمجيئ في قول الله عز وجل:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} يَحصلُ يوم القيامة لفصل القضاء بين العباد، واتِّصافُه بكونه يفعل ما يريد قديمُ النَّوع، وهذه الأفعال من الآحاد التي حصلت في الأوقات التي شاء الله فعلَها فيها، والله تعالى بذاته وصفاته هو الخالق، ومَن سواه مخلوق، فليس في صفاته شيءٌ مخلوق، وأسماؤه لا بداية للتَّسَمِّي بها، فهي غير مُحدَثة.
11 قوله: "كلَّم موسى بكلامِه الَّذي هو صفةُ ذاتِه، لا خَلْقٌ مِن خَلقِه، وَتَجَلَّى للجَبَل فصار دَكًّا مِن جلالِه، وأنَّ القرآنَ كلامُ الله، ليس بمخلُوقٍ فيَبِيدُ، ولا صفةً لمخلوقٍ فَيَنْفَدُ".
اللهُ متَّصفٌ بصفة الكلام أزَلاً وأبداً، وهو متكلِّمٌ بلا ابتداء، ويتكلَّم بلا انتهاء؛ لأنَّه سبحانه وتعالى لا بداية له ولا نهاية له، فلا بداية لكلامه ولا نهاية له، وصفةُ الكلام صفةٌ ذاتيَّة فعلية، فهي ذاتيَّةٌ باعتبار أنَّه لا بداية للاتَِّصاف بها، وفعلية بكونها تتعلَّق بالمشيئة والإرادة، فكلامُه متعلِّقٌ بمشيئته، يتكلَّم إذا شاء، كيف شاء، وهو قديمُ النوع، حادثُ الآحاد، وقد كلَّم موسى في زمانه، وكلَّم نبيَّنا محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ويُكلِّم أهلَ الجنَّة إذا دخلوا الجنَّة، وهذه من أمثلة آحاد الكلام التي حصلت وتحصل في الأزمان التي شاء الله عز وجل حصولَها فيها، والله تعالى يتكلَّم بحرف وصوت، ليس كلامُه مخلوقاً ولا معنى قائماً بالذات، قال الله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ، ففي هذه الآية إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وأنَّ كلامَه سَمعَه موسى منه، وقوله:{تَكْلِيماً} ، تأكيدٌ لحصول الكلام، وأنَّه منه سبحانه وتعالى، وكلام الله عز وجل لا بداية له ولا نهاية له، فلا حصرَ له، بخلاف كلام المخلوق، فإنَّ له بدايةً وله نهاية، فيكون كلامُه محصوراً، قال الله عز وجل:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} ، وقال:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، ففي هاتين الآيتين إثباتُ صفة الكلام لله عز وجل، وأنَّ كلامَه غيرُ محصور؛ لأنَّ البحورَ الزاخرةَ ولو ضوعِفَت أضعافاً مضاعفة، وكانت مداداً يُكتبُ به كلام الله، وكان كلُّ ما في الأرض من
شجر أقلاماً يُكتبُ بها، فلا بدَّ أن تنفدَ البحورُ والأقلامُ؛ لأنَّها مخلوقةٌ محصورةٌ، ولا ينفدُ كلام الله الذي هو غير مخلوق ولا محصور، والقرآن من كلام الله، والتوراة والإنجيل من كلام الله، وكلُّ كتاب أنزله الله فهو من كلامه، وكلامُه غيرُ مخلوق، فلا يَحصل له الفناءُ الذي يحصل للمخلوقات، وهو صفة الخالق الذي لا نهاية له فلا ينفدُ كلامُه، والمخلوقون يَبيدون فينفدُ كلامُهم.
وأمَّا قوله: "وتجلَّى للجبل فصار دكًّا من جلاله" فقد قال الله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وفي هذه الآية الكريمة إثباتُ حصول الكلام من الله لموسى عندما جاء لميقات ربِّه، وفيها أنَّ موسى لَمَّا سمع كلام الله طمِعَ في الرؤية فسألَها، فلَم تحصل؛ لأنَّ اللهَ شاء أن تكون رؤيتُه في الدار الآخرة، وهي أكملُ نعيم يَحصُلُ لأهل الجنَّة، وشاء أن لا تقوى الأبصارُ في هذه الحياة الدنيا على رؤيته، ولهذا قال الله عز وجل لموسى:{لَنْ تَرَانِي} ، أي: في الدنيا، بل إنَّ الجبلَ مع صلابَته لَم يثبت أمام تَجَلِّي الله، فصار دكًّا، وأمَّا في الدار الآخرة فإنَّه سبحانه وتعالى يجعل عبادَه المؤمنين قادرين على رؤيته؛ بما يُعطيهم من القوَّة على ذلك، ويدلُّ لعدم رؤية الله عز وجل في الدنيا قوله صلى الله عليه وسلم:"تعلموا أنَّه لن يرَى أحدٌ منكم ربَّه عز وجل حتى يموت" رواه مسلم (2930) .
12 قوله: "والإيمانُ بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّه، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، وكلُّ ذلك قَد قَدَّرَهُ اللهُ رَبُّنا، ومقاديرُ الأمورِ بيدِه، ومَصدَرُها عن قضائِه.
عَلِمَ كلَّ شيْءٍ قَبل كَونِه، فجَرَى على قَدَرِه، لا يَكون مِن عبادِه قَولٌ ولا عَمَلٌ إلَاّ وقدْ قَضَاهُ وسبق عِلْمُه به، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
يُضِلُّ مَن يشاء، فيَخْذُلُه بعدْلِه، ويَهدي مَن يَشاء، فَيُوَفِّقُه بفضلِه، فكَلٌّ مُيَسَّرٌ بتَيْسيره إلى ما سَبَقَ مِن علمه وقَدَرِه، مِن شَقِيٍّ أو سعيدٍ.
تعالَى أن يكونَ في مُلْكِهِ ما لا يُريد، أو يكونَ لأَحَد عنه غِنًى خالقاً لكلِّ شيءٍ إلَاّ هو، رَبُّ العباد ورَبُّ أعمالِهم، والمُقَدِّرُ لِحَركاتِهم وآجالِهم".
1 الإيمان بالقدر أحدُ أصول الإيمان الستة المبيَّنة في حديث جبريل المشهور، فإنَّه سأله عن الإيمان، فقال:"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرِّه" أخرجه مسلم في صحيحه، وهو أوَّل حديث في كتاب الإيمان، الذي هو أوَّل كتب صحيحه، وجاء في إسناده أنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حدَّث به عن أبيه؛ للاستدلال به على الإيمان بالقدر، عندما سأله يحيى بن يَعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري عن أُناس وُجدوا في العراق يُنكرون القدرَ، وأنَّ الأمرَ أُنُفٌ، فقال للسائل:"فإذا لقيتَ أولئك فأخبِرهم أنِّي بريء منهم، وأنَّهم بُرآءُ منِّي، والذي يَحلف به عبد الله بن عمر! لو أنَّ لأحدهم مثل أُحُد ذهباً فأنفقه، ما قَبل الله منه حتَّى يُؤمنَ بالقدر"، ثمَّ حدَّث بالحديث عن أبيه، وحديثُ جبريل عن عمر من أفراد مسلم، وقد اتَّفق الشيخان على إخراجه من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 جاء في القرآن آياتٌ كثيرةٌ، وفي السُّنَّة أحاديثُ عديدة تدلُّ على إثبات القَدر، قال الله عز وجل:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، وقال:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ، وقال:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ،وقال:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، وأمَّا السُّنَّة فقد عقد كلٌّ من الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما كتاباً للقدر، اشتملَا على أحاديث عديدة في إثبات القدر، روى مسلم في صحيحه (2664) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحَبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعُك، واستَعن بالله ولا تَعجَز، وإن أصابك شيءٌ فلا تَقل: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدرُ الله وما شاء فعل؛ فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطان".
وروى مسلمٌ (2655) بإسناده إلى طاوس قال: "أدركتُ ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كلُّ شيء بقَدر، قال: وسمعتُ عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلُّ شيء بقدر، حتى العَجز والكيس، أو الكيسُ والعجز".
والعجزُ والكيس ضدَّان، فنشاطُ النشيط وكسل الكَسول وعجزه، كلُّ ذلك بقدر، قال النووي في شرح الحديث (16/205) :"ومعناه أنَّ العاجزَ قد قُدِّر عجزُه، والكَيِّسُ قد قُدِّر كيسُه".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحدٍ إلَاّ وقد كُتب مقعدُه من الجنَّة، ومقعدُه من النَّار، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتَّكِلُ؟ فقال: اعملوا فكلٌّ
ميَسَّرٌ، ثمَّ قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إلى قوله:{لِلْعُسْرَى} " رواه البخاري (4945) ومسلم (2647) من حديث عليّ.
والحديثُ يدلُّ على أنَّ أعمالَ العباد الصالحة مقدَّرَةٌ، وتؤدِّي إلى حصول السعادة وهي مقدَّرَة، وأعمالُهم السيِّئة مقدرَّةٌ، وتؤدِّي إلى الشقاوة وهي مقدَّرةٌ، واللهُ سبحانه وتعالى قدَّر الأسباب والمسبّبات، وكلُّ شيءٍ لا يخرج عن قضاء الله وقدره وخلقه وإيجاده.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: يا غلام! إنِّي أُعلِّمُك كلماتٍ: احفظ اللهَ يحْفظْكَ، احفظ الله تجدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسأل اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلم أنَّ الأمَّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلَاّ بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يَضُرُّوك بشيءٍ لَم يضرُّوك إلَاّ بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفعت الأقلامُ وجفَّت الصُّحُف" رواه الترمذي (2516)، وقال:"هذا حديثٌ حسن صحيح".
وهذا الحديث شرحه الحافظ ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلِم (1/459) ، وهو الحديث التاسع عشر من الأربعين النَّوويّة.
3 الإيمانُ بالقدر له أربعُ مراتب لا بدَّ من اعتقادها:
المرتبةُ الأولى: عِلْمُ الله الأزلِيّ في كلِّ ما هو كائنٌ، فإنَّ كلَّ كائنٍ قد سبق به علمُ الله أزلاً، ولا يتجدَّد له علْمٌ بشيءٍ لَم يكن عالماً به أزلاً، وقد سبق إيضاح هذه المرتبة عند الكلام على صفة علم الله في الفقرة رقم (7) .
الثانية: كتابةُ كلِّ ما هو كائنٌ في اللَّوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"كتب اللهُ مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلقَ اللهُ السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشُه على الماء" رواه مسلم (2653) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
الثالثة: مشيئةُ الله وإرادتُه، فإنَّ كلَّ ما هو كائنٌ إنَّما حصل بمشيئة الله، ولا يقع في ملك الله إلَاّ ما أراده الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، قال اللهُ عز وجل:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وقال:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
الرابعة: إيجاد كلّ ما هو كائنٌ وخَلْقُه بمشيئة الله، وفقاً لما علِمَه أزَلاً وكتبه في اللَّوح المحفوظ؛ فإنَّ كلَّ ما هو كائنٌ من ذوات وأفعال هو بخلْق الله وإيجاده، كما قال الله عز وجل:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، وقال:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}
4 ما قدَّره الله وقضاه وكتَبَه في اللَّوح المحفوظ هو من الغيب الذي لا يعلمه إلَاّ الله، ويُمكن أن يَعلَم الخلقُ ما هو مُقدَّرٌ بأحد أمرَين:
الأمر الأول: الوقوع، فإذا وقع شيءٌ عُلم بأنَّه مُقدَّر؛ لأنَّه لو لم يُقدَّر لَم يَقع، فإنَّه ما شاء الله كان وما لَم يشأ لَم يكن.
الثاني: حصولُ الإخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور تقع في المستقبل، مثل إخباره عن الدَّجَّال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى بن مريم، وغيرها من الأمور التي تقع في آخر الزمان، فهذه الأخبارُ تدلُّ على أنَّ هذه الأمور لا بدَّ أن تقع، وأنَّه سبق بها قضاءُ الله وقدَرُه، ومثل إخباره عن أمور تقع قرب زمانه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بَكرة رضي الله عنه قال: سمعتُ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن إلى جنبه، يَنظرُ إلى الناس مرَّة وإليه مرَّة، ويقول:"ابْنِي هذا سيِّد، ولعلَّ اللهَ أن يُصلحَ به بين فئتَين من المسلمين" رواه البخاري (3746) .
وقد وقع ما أخبرَ به الرسول صلى الله عليه وسلم في عام (41هـ) حيث اجتمعت كلمةُ المسلمين، وسُمِّي عام الجماعة، والصحابةُ رضي الله عنهم وأرضاهم فَهموا من هذا الحديث أنَّ الحسن رضي الله عنه لن يموتَ صغيراً، وأنَّه سيعيش حتى يحصل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصُّلح، وهو شيءٌ مقدَّرٌ، علم الصحابةُ به قبل وقوعه.
5 قوله: "والإيمانُ بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّه، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، وكلُّ ذلك قَد قَدَّرَهُ اللهُ رَبُّنا" جاء في حديث جبريل: "وأن تؤمن بالقَدر خيره وشرِّه"، والله سبحانه خالقُ كلِّ شيء ومُقدِّرُه، قال الله عز وجل:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، وقال:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} فكلُّ ما هو كائنٌ من خير وشرٍّ هو بقضاء الله وقدره، ومشيئته وإرادته، وأمَّا ما جاء في حديث عليٍّ رضي الله عنه في دعاء النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الطويل وفيه:"والخير كلُّه في يديك، والشرُّ ليس إليك" رواه مسلم (771) ، فلا يدلُّ على أنَّ الشَّرَّ لا يقع بقضائه وخلقه، وإنَّما معناه أنَّ اللهَ لا يخلقُ شَرًّا محضاً لا يكون لحكمة، ولا يترتَّب عليه فائدةٌ بوجه من الوجوه، وأيضاً الشرُّ لا يُضاف إليه استقلالاً، بل يكون داخلاً تحت عمومٍ، كما قال الله عز وجل:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، وقال:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، فيُتأدَّب مع الله بعدم نسبة الشرِّ وحده إلى الله، ولهذا جاء فيما ذكره الله عن الجنِّ تأدُّبُهم بنسبة الخير إليه، وذكر الشرِّ على البناء للمجهول، قال الله عز وجل:{وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} .
6 من مراتب القدر الأربع كما مرَّ قريباً مشيئة الله وإرادتُه، والفرق بين المشيئة والإرادة أنَّ المشيئة لَم تأت في الكتاب والسُّنَّة إلَاّ لمعنى كونيٍّ قدَري، وأمَّا الإرادة فإنَّها تأتي لمعنى كونِيٍّ ومعنى دينِيٍّ شرعيٍّ، ومن مجيئها لمعنى كونيٍّ قدَري قوله تعالى:{وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وقوله {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}
ومن مجيء الإرادة لمعنى شرعيٍّ قول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وقوله:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، والفرقُ بين الإرادَتَين أنَّ الإرادةَ الكونيَّة تكون عامَّةً فيما يُحبُّه الله ويَسخطُه، وأمَّا الإرادةَ الشرعيَّة فلا تكون إلَاّ فيما يُحبُّه الله ويرضاه، والكونيَّة لا بدَّ من وقوعها، والدينيَّة تقع في حقِّ مَن وفَّقه الله، وتتخلَّف في حقِّ مَن لم يحصل له التوفيقُ من الله، وهناك كلماتٌ تأتي لمعنى كونيٍّ وشرعي، منها القضاء، والتحريم، والإذن، والكلمات، والأمر وغيرها، ذكرها ابن القيم وذكر ما يشهد لها من القرآن والسنَّة في كتابه شفاء العليل، في الباب التاسع والعشرين منه.
7 ما قدَّره الله وقضاه وكَتَبه في اللوح المحفوظ لا بدَّ من وقوعه، ولا تغييرَ فيه ولا تبديل، كما قال الله عز وجل:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"رُفعت الأقلام، وجَفَّت الصُّحف".
وأمَّا قول الله عز وجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ، فقد فُسِّر بأنَّ ذلك يتعلَّق بالشرائع، فينسخ اللهُ منها ما يشاء
ويُثبتُ ما يشاء، حتى خُتمت برسالة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، التي نَسخت جميع الشرائع قبلها، وفُسِّر بالأقدار التي هي في غير اللَّوح المحفوظ، كالذي يكون بأيدي الملائكة، وانظر: شفاء العليل لابن القيم، في الأبواب: الثاني والرابع والخامس والسادس، فقد ذكر في كلِّ باب تقديراً خاصًّا بعد التقدير في اللَّوح المحفوظ.
وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَردُّ القضَاءَ إلَاّ الدعاءُ، ولا يزيد في العُمر إلَاّ البِرُّ" أخرجه الترمذي (2139) ، وحسنه، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (154) ، فلا يدلُّ على تغيير ما في اللَّوح المحفوظ، وإنَّما يدلُّ على أنَّ اللهَ قدَّر السَّلامةَ من الشرور، وقدَّر أسباباً لتلك السَّلامة، والمعنى أنَّ اللهَ دفع عن العبد شرًّا؛ وذلك مقدَّرٌ بسببٍ يفعله وهو الدّعاء، وهو مقدَّرٌ، وكذلك قدَّر أن يطولَ عُمرُ الإنسان، وقدَّر أن يحصلَ منه سببُ لذلك، وهو البِرُّ وصلة الرَّحم، فالأسبابُ والمسبَّباتُ كلُّها بقضاء الله وقدره، وكذلك يُقال في قوله صلى الله عليه وسلم:"مَن سرَّه أن يُبسَط له في رزقه أو يُنسَأ له في أثره فليَصِلْ رَحِمَه" رواه البخاري (2067) ، ومسلم (2557) ، وأجَلُ كلّ إنسان مُقدَّرٌ في اللوح المحفوظ، لا يتقدَّم عنه ولا يتأخَّر، كما قال الله عز وجل:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} ، وقال تعالى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} ، وكلُّ مَن مات أو قُتل فهو بأجله، ولا يُقال كما قالت المعتزلة: إنَّ المقتولَ قُطع عليه أجلُه، وأنَّه لو لَم يُقتَل لعاش إلى أجل آخر؛ فإنَّ كلَّ إنسان قدَّر الله له أجلاً واحداً، وقدَّر لهذا الأجل أسباباً، فهذا يموتُ بالمرض، وهذا يموت بالغرق، وهذا يموتُ بالقتل، وهكذا.
8 لا يجوز الاحتجاجُ بالقدر على ترك مأمور ولا على فعل محظور، فمَن فعل معصيةً لها عقوبة محدَّدة شرعاً، واعتذر عن فعله بأنَّ ذلك قدر، فإنَّه يُعاقَبُ بالعقوبة الشرعية، ويُقال له: إنَّ معاقبتَك بهذه العقوبة قدَرٌ، وأمَّا ما جاء في حديث مُحاجَّة آدم وموسى في القدر، فليس من قبيل الاحتجاج بالقدر على فعل معصية، وإنَّما هو على المصيبة التي كانت بسبب المعصية، فقد روى البخاري (3409)، ومسلم (2652) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجَّ آدمُ وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتْك خطيئتُك من الجنَّة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومُنِي على أمرٍ قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدمُ موسى، مرَّتين".
وقد عقد ابن القيم في كتابه شفاء العليل البابَ الثالث للكلام عن هذا الحديث، فذكر ما قيل في معناه من أقوال باطلة، وذَكَرَ الآيات التي فيها احتجاجُ المشركين على شركهم بالقدر، وأنَّ الله أَكذَبَهم؛ لأنَّهم باقون على شركهم وكفرهم، وما قالوه هو من الحقِّ الذي أُريد به باطل، ثم ذكر توجيهَين لمعنى الحديث، أوَّلهما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، والثاني من فهمه واستنباطه، فقال (ص: 35 36) : "إذا عرفتَ هذا، فموسى أعرفُ بالله وأسمائه وصفاته من أن يَلومَ على ذنب قد تاب منه فاعلُه، فاجتباه ربُّه بعده وهداه واصطفاه، وآدمُ أعرفُ بربِّه من أن يحتجَّ بقضائه وقدَره عل معصيته، بل إنَّما لامَ موسى آدمَ على المصيبة التي نالت الذريَّة بخروجهم من الجنَّة، ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة، بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئةَ تنبيهاً على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذريَّةَ، ولهذا قال له: أخرجتَنا ونفسَك من الجنة، وفي لفظ (خيَّبتنَا) ، فاحتجَّ آدمُ بالقدر على
المصيبة، وقال: إنَّ هذه المصيبةَ التي نالت الذريَّة بسبب خطيئتِي كانت مكتوبةً بقدره قبل خلْقي، والقدرُ يُحتجُّ به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومُنِي على مصيبة قُدِّرت عليَّ وعليكم قبل خلْقي بكذا وكذا سنة، هذا جوابُ شيخنا رحمه الله، وقد يتوجَّه جوابٌ آخر، وهو أنَّ الاحتجاجَ بالقدر على الذنب ينفعُ في موضع ويضرُّ في موضع؛ فينفع إذا احتجَّ به بعد وقوعه والتوبة منه وترك مُعاودته، كما فعل آدمُ، فيكون في ذِكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الربِّ وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذَّاكر والسامع؛ لأنَّه لا يدفعُ بالقدر أمراً ولا نَهياً، ولا يُبطل به شريعةً، بل يُخبر بالحقِّ المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوَّة، يوضحه أنَّ آدمَ قال لموسى: أتلومُنِي على أن عملتُ عملاً كان مكتوباً عليَّ قبل أن أُخلَق، فإذا أذنب الرَّجلُ ذنباً ثم تاب منه توبةً وزال أمرُه حتى كأن لم يكن، فأنَّبَه مُؤَنِّبٌ عليه ولَامَه، حسُنَ منه أن يَحتجَّ بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمرٌ كان قد قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق، فإنَّه لم يَدفع بالقدر حقًّا، ولا ذكر حجَّةً له على باطل، ولا محذورَ في الاحتجاج به، وأمَّا الموضع الذي يضُرُّ الاحتجاجُ به ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكبَ فعلاً محرَّماً أو يتركَ واجباً، فيلُومُه عليه لائمٌ، فيحتجَّ بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيُبطلُ بالاحتجاج به حقًّا ويرتكبُ باطلاً، كما احتجَّ به المُصِرُّون على شركهم وعبادتهم غير الله، فقالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} ، {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} ، فاحتجُّوا به مُصَوِّبين لِمَا هم عليه، وأنَّهم لم يَندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولَم يُقرُّوا بفساده، فهذا ضدُّ احتجاج مَن تبيَّن له خطأُ نفسه وندم وعزَم كلَّ العزم على أن لا يعودَ، فإذا لَامَه لائمٌ بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله، ونُكتة المسألة أنَّ اللَّومَ إذا
ارتفع صحَّ الاحتجاجُ بالقدر، وإذا كان اللَّومُ واقعاً فالاحتجاجُ بالقدر باطلٌ. . . ".
9 وقوله: "تعالَى أن يكونَ في مُلْكِهِ ما لا يُريد، أو يكونَ لأَحَد عنه غِنًى خالقاً لكلِّ شيءٍ إلَاّ هو، رَبُّ العباد ورَبُّ أعمالِهم، والمُقَدِّرُ لِحَركاتِهم وآجالِهم" الظاهر أنَّ في قولَه: "خالقاً لكلِّ شيء إلَاّ هو" سقطاً يدلُّ عليه ما قبله، تقديره:"وأن يكون خالقاً لكلِّ شيء إلَاّ هو" وفي هذه الجُمل كلِّها ردٌّ على القدرية الذين يقولون: إنَّ العبادَ يَخلقون أفعالَهم، وأنَّ اللهَ لم يُقدِّرها عليهم، فإنَّ مقتضى قولهم هذا أنَّ أفعالَ العباد وقعت في مُلك الله وهو لم يُقدِّرها، وأنَّهم بخلقهم لأفعالِهم مُستغنون عن الله، وأنَّ الله ليس خالقاً لكلِّ شيء، بل العباد خلقوا أفعالَهم، والله سبحانه وتعالى خالق العباد وخالق أفعال العباد، فهو خالق الذوات والصفات، كما قال الله عز وجل:{قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ، وقال:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ، وقال:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
ويُقابل نفاةَ القدر فرقةٌ ضالَّةٌ هم الجبرية، الذين سَلَبُوا عن العبد الاختيارَ، ولَم يجعلوا له مشيئةً وإرداةً، وسَوَّوا بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية، وزعموا أنَّ كلَّ حركاتهم بمنْزلة حركات الأشجار، وأنَّ حركةَ الآكلِ والشارب والمصلِّي والصائم كحركة المُرتعش، ليس للإنسان فيها كسبٌ ولا إرادة، وعلى هذا فما فائدةُ إرسال الرُّسل وإنزال الكتب، ومن المعلوم قطعاً أنَّ للعبد مشيئةً وإرادةً، يُحمَد على أفعاله الحسنة، ويُثاب عليها، ويُذمُّ على أفعاله السيِّئة ويُعاقب عليها، وأفعالُه الاختيارية يُنسبُ إليه فعلُها وكسبُها، وأمَّا الحركات الاضطرارية
كحركة المرتعش فلا يُقال: إنَّها فعلٌ له، وإنَّما هي صفةٌ له، ولهذا يقول النَّحويُّون في تعريف الفاعل: هو اسمٌ مرفوعٌ يدلُّ على مَن حصل منه الحَدَث أو قام به، ومرادُهم بحصول الحَدَث: الأفعال الاختيارية التي وقعت بمشيئة العبد وإرادته، ومرادُهم بقيام الحَدَث: ما لا يقع تحت المشيئة، كالموت والمرض والارتعاش ونحو ذلك، فإذا قيل: أَكَلَ زيدٌ وشرب وصلَّى وصام، فزيدٌ فيها فاعلٌ حصل منه الحَدَث، الذي هو الأكل والشربُ والصلاة والصيام، وإذا قيل: مرض زيدٌ أو مات زيدٌ أو ارتعشت يدُه، فإنَّ الحدَثَ ليس من فعل زيد، وإنَّما هو وصفٌ قام به.
وأهل السُّنَّة والجماعة وسَطٌ بين الجبرية الغلاة في الإثبات، والقدرية النفاة؛ فإنَّهم أثبتوا للعبد مشيئةً، وأثبتوا للربِّ مشيئةً عامَّة، وجعلوا مشيئةَ العبد تابعةً لمشيئة الله، كما قال الله عز وجل:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، فلا يقع في مُلك الله ما لَم يشأه الله، بخلاف القدرية القائلين: إنَّ العبادَ يخلقون أفعالَهم، ولا يُعاقب العباد على أشياء لا إرادة لهم فيها ولا مشيئة، كما هو قول الجبرية، وبهذا يُجابُ عن السؤال الذي يتكرَّر طرحُه، وهو: هل العبدُ مسيَّرٌ أو مُخيَّر؟ فلا يُقال: إنَّه مسَيَّرٌ بإطلاق، ولا مُخيَّرٌ بإطلاق، بل يُقال: إنَّه مُخيَّرٌ باعتبار أنَّ له مشيئةً وإرادةً، وأعماله كسب له يُثاب على حَسَنها ويُعاقَب على سيِّئها، وهو مسيَّرٌ باعتبار أنَّه لا يحصل منه شيءٌ خارجٌ عن مشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده.
10 قوله: "يُضِلُّ مَن يشاء، فيَخْذُلُه بعدْلِه، ويَهدي مَن يَشاء، فَيُوَفِّقُه بفضلِه، فكَلٌّ مُيَسَّرٌ بتَيْسيره إلى ما سَبَقَ مِن علمه وقَدَرِه، مِن شَقِيٍّ أو سعيدٍ".
هدايةُ كلِّ مُهتد وضلالُ كلِّ ضال، كلُّ ذلك حصل بمشيئة الله وإرادته، والعبادُ قد بيَّن الله لهم طريقَ السعادة وطريق الضلالة، وأعطاهم عقولاً يُميِّزون بها بين النافع والضار، فمَن اختار طريقَ السعادة فسلكه انتهى به إلى السعادة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته، التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك فضلٌ من الله وإحسان، ومَن اختار طريقَ الضلالة وسلكه انتهى به إلى الشقاوة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته، التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك عدلٌ من الله سبحانه، قال الله عز وجل:{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ، أي: طريقَي الخير والشرِّ، وقال:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} ،. وقال:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} ،
والهدايةُ هدايتان: هدايةُ الدَّلالة والإرشاد، وهذه حاصلةٌ لكلِّ أحد، وهداية التوفيق، وهي حاصلةٌ لِمَن شاء اللهُ هدايتَه، ومن أدلَّة الهداية الأولى قول الله عز وجل لنبيِّه صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، أي: أنَّك تدعو كلَّ أحد إلى الصراط المستقيم، ومن أدلَّة الهداية الثانية قول الله عز وجل:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، وقد جمع الله بين الهدايتَين في قوله:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، فقوله:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} أي: كلَّ أحد، فحُذف المفعول لإرادة العموم، وهذه هي هداية الدلالة والإرشاد، وقوله:{وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، أظهرَ المفعولَ لإفادة الخصوص، وهي هداية التوفيق.
وقد أورد شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – في كتابه دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة الشمس حكايتَين
توضِّحان فسادَ مذهب المعتزلة في باب القضاء والقدر، فقال: "ولَمَّا تناظر أبو إسحاق الإسفرائينِي مع عبد الجبار المعتزلي، قال عبد الجبار: سبحان مَن تنَزَّه عن الفحشاء، وقصْدُه أنَّ المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة الله؛ لأنَّ الله أعلَى وأجَلُّ من أن يشاء القبائح في زعمهم، فقال أبو إسحاق: كلمةُ حقٍّ أُريد بها باطل، ثم قال: سبحان مَن لا يقع في ملكه إلَاّ ما يشاء، فقال عبد الجبار: أتراه يخلقه ويُعاقبُنِي عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبراً عليه؟ أأنتَ الرَّب وهو العبد؟! فقال عبد الجبار: أرأيتَ إن دعانِي إلى الهُدى، وقضى عليَّ بالرَدَى، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه مُلكاً لك فقد أساء، وإن كان له: فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل، فبُهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله! ما لهذا جواب!
وجاء أعرابِيٌّ إلى عمرو بن عُبيد وقال: ادعُ اللهَ لي أن يرُدَّ عليَّ حمارةً سُرقت منِّي، فقال: اللَّهمَّ إنَّ حمارتَه سُرقت ولَم تُرِدْ سرقتَها فاردُدْها عليه، فقال الأعرابِيُّ: يا هذا! كُفَّ عنِّي دُعاءَك الخبيث؛ إن كانت سُرقَت ولَم يُرِدْ سرقتَها، فقد يريد رَدَّها ولا تُرَدُّ".
13 قوله: "الباعثُ الرُّسُل إليهِم لإقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيهم".
1 أعظمُ نعم الله على عباده أن أرسل إليهم رسُلاً وأنزل كتُباً؛ لهدايتهم إلى الصراط المستقيم، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربِّهم، وإقامة الحجَّة عليهم، قال الله عز وجل:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، وقال:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، وقال:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} ، وقال:{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ}
2 الإيمانُ بالرُّسل من أصول الإيمان، وكذا الإيمان بالكتب، قال الله عز وجل:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ، وقال:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} ، وفي حديث جبريل المشهور أنَّه لَمَّا سأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، قال:"أن تؤمن بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرِّه" وهو في صحيح مسلم من حديث عمر رضي الله عنه.
3 رسُل الله عز وجل منهم مَن قصَّهم علينا في القرآن ومنهم من لم يقصُصْ، قال الله عز وجل:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} ، وجملةُ الذين قصَّهم علينا في القرآن خمسة وعشرون، جاء في سورة الأنعام ثمانية عشر منهم في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ
الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} ، والباقون: محمد وآدم وهود وشعيب وصالح وذو الكفل وإدريس.
والواجب هو الإيمان بالرُّسل والأنبياء جميعاً مَن قُصَّ ومَن لم يُقصَّ، ومَن كذَّب واحداً منهم فقد كذَّب جميعَهم، قال الله عز وجل:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} ، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} ، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} ، {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} فقد كذَّبت كلُّ أمَّة رسولَها، وأضاف إليها تكذيب المرسلين؛ لأنَّ تكذيبَ واحد منهم تكذيبٌ لجميعهم، ومَن آمن برسول وكذَّب بغيره فهو مُكذِّبٌ بذلك الرسول الذي يزعم أنَّه آمن به.
4 وأمَّا الفرق بين النَّبِيِّ والرسول فقد اشتهر أنَّ النَّبِيَّ هو مَن أُوحي إليه بشرع ولم يُؤمَر بتبليغه، والرسولَ هو مَن أُوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه، لكن هذا التفريق قد جاء في بعض الأدلَّة ما يدلُّ على عدم صحَّته، قال الله عز وجل:{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} ، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} ، وذلك يدلُّ على أنَّ النَّبِيَّ مرسَلٌ مأمورٌ بالتبليغ، وقال:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} الآية، فهذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ أنبياءَ بنِي إسرائيل من بعد موسى يَحكمون بالتوراة ويدعون إليها، وعلى هذا فيُمكن أن يُقال في الفرق بين الرسول والنَّبِيِّ: إنَّ الرَّسولَ مَن أُوحي إليه بشرع وأُنزل عليه كتاب، والنَّبِيَّ هو الذي أُوحي إليه بأن يُبلِّغ رسالةً سابقة، وهذا هو المتَّفق مع الأدلَّة، لكن يبقى
عليه إشكال، وهو أنَّ من المرسَلين مَن وُصف بأنَّه نبِيٌّ رسول، كما قال الله عز وجل في نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، وقال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} ، وقال في موسى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} ، وقال في إسماعيل:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} ، ونبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم نَزَل عليه الوحيُ أوَّلاً ولم يُؤمَر بالتبليغ، ثم أُمر بعد ذلك بالتبليغ بقوله:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} ولهذا قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – في الأصول الثلاثة: "نُبِّئ ب {اقْرَأْ} ، وأُرسل ب {الْمُدَّثِّرُ} ، وعلى هذا فيُقال: النَّبِيُّ مَن أُوحي إليه ولم يُؤمَر بالتبليغ في وقت ما، أو أُمر بأن يبلِّغ شريعة سابقة.
14 قوله: "ثُمَّ خَتَمَ الرِّسالةَ والنَّذَارَةَ والنُّبُوَةَ بمحمَّد نَبيِّه صلى الله عليه وسلم، فجَعَلَه آخرَ المرْسَلين، بَشِيراً ونَذِيراً، وداعياً إلى الله بإذنِه وسِرَاجاً منيراً، وأنزَلَ عَليه كتابَه الحَكِيمَ، وشَرَحَ به دينَه القَويمَ، وهَدَى به الصِّرَاطَ المستَقيمَ".
أعظمُ نعمة أنعم الله تعالى بها على الجنِّ والإنس في آخر الزمان أن بعث فيهم رسوله الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم، فدلَّهم على كلِّ خير، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، قال الله عز وجل:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، وقال: {مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} ، وقال:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقال:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} ، وقال:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
وأمَّةُ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم أمَّةُ دعوة وأمَّةُ إجابة، فأمَّةُ الدعوة كلُّ إنسيٍّ وجنِيٍّ من حين بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وأمَّة الإجابة هم الذين وفَّقهم الله للدخول في دينه الحنيف، فشريعتُه صلى الله عليه وسلم لازمةٌ للجنِّ والإنس، والدعوة إليها مُوجَّهةٌ لهم جميعاً، ليست لأحد دون أحد، بل هي للجميع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفس محمد بيده لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمَّة: يهودي ولا نصراني، ثمَّ يموت ولم يُؤمن بالذي أُرسلتُ به، إلَاّ كان من أصحاب النار" رواه مسلم (240) .
فاليهود والنصارى بعد بعثة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، لا ينفعُهم زعمُهم أنَّهم أتباعُ موسى وعيسى، بل يتعيَّنُ عليهم الإيمانُ بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي نسخت شريعتُه الشرائعَ قبلها، وخُتم به النبيُّون، قال الله عز وجل: {مَا
كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .
وقوله: "وأنزَلَ عَليه كتابَه الحَكِيمَ، وشَرَحَ به دينَه القَويمَ"، قال الله عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً} ، فهذه الآية تدلُّ على أنَّ القرآنَ مُهيمنٌ على الكتب السابقة، وسنَّة رسول الله شارحةٌ للكتاب وموضِّحة له، كما قال الله عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، ولا بدَّ من العمل بما جاء في الكتاب والسُّنَّة، ومن كفر بالسُّنَّة فقد كفر بالقرآن، والله عز وجل فرض الصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج، وبيانُها وبيان غيرها حصل بالسُّنَّة، فالله قد أمر بإقام الصلاة، وبيَّنت السُّنَّة أوقاتَ تلك الصلوات وعدد ركعاتها، وبيَّنت كيفياتها، وقال صلى الله عليه وسلم:"صلُّوا كما رأيتُمونِي أُصلِّي" رواه البخاري (631) .
وأمر بإيتاء الزكاة، وبيَّنت السُّنَّة شروطَ وجوبها، وأنصباءها ومقاديرها، وأمر بالصيام، وبيَّنت السُّنَّة أحكامَه ومُفطِّراته.
وأمر بالحجِّ، وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم كيفياته، وقال:"لتأخذوا مناسككم، فإنِّي لا أدري لعلِّي لا أحجُّ بعد حَجَّتِي هذه" رواه مسلم (1297) .
وقوله: "وهدى به الصراطَ المستقيم"، قال الله عز وجل:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وقال:{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وقال الله عز وجل:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، فسبيلُ الهداية مقصورٌ على اتِّباع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُعبَدُ اللهُ إلَاّ بما جاء به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا طريق يُوصلُ إلى الله إلَاّ باتِّباع ما جاء به صلى الله عليه وسلم.
وحاجةُ المسلم إلى الهداية إلى الصراط المستقيم أعظمُ من حاجته إلى الطعام والشراب؛ لأنَّ الطعامَ والشرابَ زادُه في الحياة الدنيا، والصراطَ المستقيم زادُه للدار الآخرة، ولهذا جاء الدعاءُ لطلب الهداية إلى الصراط المستقيم في سورة الفاتحة، التي تجب قراءتُها في كلِّ ركعة من ركعات الصلاة، سواء كانت فريضةً أو نافلةً، قال الله عز وجل:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، فالمسلمُ يدعو بهذا الدعاء باستمرار ليهديه ربُّه صراطَ المنعَم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وأن يُجنِّبَه طريق المغضوب عليهم والضالِّين، من اليهود والنصارى وغيرهم من أعداء الدِّين.
وهدايةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الجنَّ والإنسَ إلى الصراط المستقيم هو النور الذي وصفه الله عز وجل به في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} ، فقد وصفه الله عز وجل في هذه الآية بأنَّه سراجٌ منير، يُضيء به للعباد الطريقَ إليه سبحانه وتعالى، وهذا أيضاً هو معنى النور الذي وصف به القرآن في قوله:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، فنور القرآن ما اشتمل عليه من الهداية إلى الصراط المستقيم.
15 قوله: "وأنَّ السَّاعةَ آتيَةٌ لا رَيْبَ فيها، وأنَّ اللهَ يَبعَثُ مَن يَموتُ، كما بدأَهم يعودون".
1 علمُ قيام الساعة اختصَّ به الله عز وجل، ففي صحيح البخاري (4697) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مفاتيحُ الغيب خمسٌ لا يعلمها إلَاّ الله"، وآخرها:"ولا يعلمُ متى تقوم الساعةُ إلَاّ الله".
وكان صلى الله عليه وسلم عندما يُسأل عنها يُجيب بذكر بعض أماراتها، فلا يَعلمُ أحدٌ غير الله في أيِّ سنة وفي أيِّ شهر وفي أيِّ يوم من الشهر يكون قيامها، وقد جاء في السُّنَّة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّها تقوم يوم الجمعة، قال:"خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه أُدخلَ الجنَّة، وفيه أُخرجَ منها، ولا تقوم الساعةُ إلَاّ في يوم الجمعة" رواه مسلم (854) .
2 والساعةُ تُطلقُ ويُراد بها الموت عند النفخ في الصور، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا تقومُ الساعة إلَاّ على شرار الناس" رواه مسلم (2949) وكلُّ مَن مات قبل ذلك فقد جاءت ساعتُه وقامت قيامتُه، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء.
وتُطلقُ ويُرادُ بها البعث، كما قال الله عز وجل في آل فرعون {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، وقال:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ، وهم إنَّما أنكروا البعثَ كما قال الله عز وجل:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
3 قوله: "وأنَّ السَّاعةَ آتيَةٌ لا رَيْبَ فيها، وأنَّ اللهَ يَبعَثُ مَن يَموتُ، كما بدأَهم يعودون"، قال الله عز وجل:{إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} ، وقال:{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} ، وقال {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، وقد نصَّ في هذه الآية على بعث مَن في القبور؛ إذ الغالب على الناس أنَّهم يُدفنون في القبور،
والبعثُ يكون لكلِّ مَن مات قُبرَ أو لم يُقبَر، كما قال الله عز وجل:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ، وعبارةُ المؤلِّف:"وأنَّ اللهَ يبعث مَن يموت" تشملُ كلَّ مَن مات قُبر أو لَم يُقبَر، ولعلَّه اختار هذه العبارةَ لشمولِها.
4 كثيراً ما يأتي في القرآن تقريرُ أمر البعث ببيان ثلاثة أمور:
الأمر الأول: التنبيهُ بخلق الإنسان أوَّلَ مرَّة، قال الله عز وجل:{أَوَلَمْ يَرَ الأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} ، وقال:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} ، وقال سبحانه:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ، وقال:{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، وقال تعالى:{أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}
الأمر الثاني: التنبيه بإحياء الأرض بعد موتها، قال الله عز وجل: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، وقال سبحانه:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ،وقال:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} وقال تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} ، وقال عز وجل:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} ، وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، وقال:{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} .
الأمر الثالث: التنبيهُ بخلق السموات والأرض وهو أعظم من خلق الناس، قال الله عز وجل:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقال تعالى:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَاّقُ الْعَلِيمُ} ، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَاّ كُفُوراً} ، وقال:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} الآيات.
5 البعثُ يوم القيامة يكون بإعادة الأجساد التي كانت في الدنيا لتلقى مع الأرواح الثواب والعقاب، وليس لأجساد جديدة لم تكن موجودةً في الدنيا، وهذا هو الذي استبعده الكفَّارُ وأنكروه، قال الله عز وجل:{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} ، فبيَّن سبحانه أنَّه عالِم بكلِّ ذَرَّة من ذرَّات أجسادهم التي تنقصها الأرض منهم، فيُعيدُها كما كانت فيبعث ذلك الميت بجسده الذي كان عليه في الدنيا، وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، والمعنى كما ذكر ابن كثير عن جماعة من السلف أنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام قطع الطيورَ الأربعة وخلط لحومَها، وجعل على كلِّ رأس جبل منها قطعة، ثم دعاهنَّ فتجمَّعت أجزاءُ كلِّ طائر، حتى عادت الطيورُ على ما كانت عليه، وأتت إليه سعياً.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وهذه الآياتُ تدلُّ على أنَّ الأجسادَ التي في الدنيا هي التي أُعيدَت وشهدت
الأسماعُ والأبصارُ والجلودُ بالمعاصي التي عملها أصحابُها.
ومثل هذه الآيات قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، وقوله تعالى:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
ويدلُّ على ذلك من السُّنَّة حديث قصَّة الرَّجل الذي أوصى بَنِيه إذا مات أن يحرقوا جسدَه ويَرموا جزءاً من رماده في البَرِّ وجزءاً منه في البحر، فأمر الله عز وجل البحرَ بأن يُخرج ما فيه، والبَرَّ بأن يُخرج ما فيه، حتى عاد الجسدُ كما كان، والحديث رواه البخاري (7506) ، ومسلم (2756) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
16 قوله: "وأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى ضاعَفَ لعباده المؤمنين الحسَنات، وصَفَحَ لهم بالتَّوبَة عن كبائرِ السيِّئات، وغَفَرَ لهم الصَّغائِرَ باجْتناب الكبائِر، وجَعَلَ مَن لَم يَتُبْ مِنَ الكبائر صَائراً إلى مَشيئَتِه {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
1 من فضل الله عز وجل على عباده أنَّه يُضاعف لهم الحسنات، ومن عدله أنَّه يَجزي على السيِّئة مثلَها، قال الله عز وجل:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} ، وقال:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وقال:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقال: {مَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، وقال:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"كلُّ عمل ابن آدم يُضاعف؛ الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلَاّ الصوم فإنَّه لِي وأنا أجزي به. . . " الحديث، رواه مسلم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي صحيح البخاري (6491) ومسلم (131) عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه عز وجل قال:"إنَّ الله كتب الحسنات والسيِّئات، ثمَّ بيَّن ذلك، فمَن همَّ بحسنة فلَم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومَن همَّ بسيِّئة فلَم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له سيِّئة واحدة".
ومن فضل الله وإحسانه أنَّ العبدَ إذا كان يعملُ أعمالاً صالِحةً، وشغله عنها مرضٌ أو سفر كتب اللهُ له في حال سفره ومرضه مثل ما كتب له في حال صحَّته وإقامته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا مرض العبدُ أو سافر كُتب له مثلُ ما كان يعملُ مقيماً صحيحاً" رواه البخاري (2996) عن أبي موسى رضي الله عنه.
2 الفرقُ بين الكبيرة والصغيرة، أنَّ الكبيرةَ هي ما جُعل له حدٌّ في الدنيا أو توعد عليه بلعنة أو غضب أو نار أو حبوط عمل ونحو ذلك، والصغيرة ما لم تكن كذلك.
والكبائر تُكفِّرُها التوبةُ؛ قال الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} .
وللتوبة النَّصوح شروطٌ ثلاثة:
الأول: أن يُقلعَ عن الذنب بأن يتركه ويبتعد عنه.
الثاني: أن يندمَ على ما مضى من فعل الذنب.
الثالث: أن يعقدَ العزم على أن لا يعودَ إليه.
وإذا كان الذنب يتعلَّق بحقوق الآدميِّين فيُضاف إلى ما تقدَّم شرطٌ رابع، وهو أن يَردَّ الحقوقَ إلى أهلها إن كانت أموالاً، أو يستبيحَهم منها إذا كانت غيبة لهم أو كذباً عليهم، ونحو ذلك، قال الله عز وجل:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وقال:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ، والآيةُ تدلُّ على أنَّ الكفرَ وهو أعظمُ الذنوب يغفره الله بالتوبة منه، والانتهاء عنه، وكلُّ الذنوب دون هذا الذنب فهي أولَى بالمغفرة إذا تيبَ منها.
والكبيرةُ إذا كان لها حدٌّ في الدنيا وأُقيم على مَن ارتكبها، كان ذلك كفَّارةً له؛ لأنَّ إقامةَ الحدود عند أهل السُّنَّة والجماعة فيها جبر النَّقص، وفيها أيضاً الزَّجر لِمَن أُقيم عليه الحد وغيره عن فعل تلك الكبيرة، ويدلُّ
لذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أنَّ رسول الله قال وحوله عصابة من أصحابه: "بايعونِي على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببُهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمَن وفَّى منكم فأجره على الله، ومَن أصاب من ذلك شيئاً فعُوقب به في الدنيا فهو كفَّارةٌ له، ومَن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستَرَه الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك" رواه البخاري (18) ، ومسلم (1709) .
3 الصغائرُ تُكفَّرُ بالأعمال الصالحة وباجتناب الكبائر، قال الله عز وجل:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} .
وروى مسلم في صحيحه (228) عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاةٌ مكتوبة، فيُحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلَاّ كانت كفَّارةً لِما قبلها من الذنوب ما لَم يؤت كبيرة، وذلك الدَّهر كلّه".
وروى مسلم أيضاً (233) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات ما بينهنَّ إذا اجتُنبت الكبائر".
والصغيرةُ تضخم وتعظم إذا أُصِرَّ عليها، والكبيرةُ تتضاءل وتتلاشى إذا نُدم على فعلها، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما:"لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار".
4 إذا مات المسلمُ مرتكباً كبيرةً ولم يَتُبْ منها، فإنَّ أمرَه إلى الله عز وجل، إن شاء عذَّبه وإن شاء عفا عنه، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} ، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت الذي تقدَّم قريباً:". . . ومَن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستَرَه الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه".
17 قوله: "ومَن عاقَبَه اللهُ بنارِه أخرجه مِنها بإيمانِه، فأدخَلَه به جَنَّتَه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} ، ويُخرِجُ منها بشفاعَة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَن شَفَعَ لَه مِن أهلِ الكبائِر مِن أمَّتِه".
مَن ارتكب كبيرةً وتاب منها تاب الله عليه، ومَن ارتكب كبيرةً ومات من غير توبة فأمرُه إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذَّبه، كما قال الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، والذين يدخلون النارَ صنفان:
أحدهما: الكفَّار، وهؤلاء يبقون في النار أبد الآباد، لا سبيل لهم إلى الخروج منها، كما قال الله عز وجل:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
والصنف الثاني: مسلمون عُصاة، وهؤلاء إذا دخلوا النارَ عُذِّبوا فيها على قدر جُرمهم، ثم يخرجون منها بما عندهم من الإيمان وشفاعة الشافعين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُدخل اللهُ أهلَ الجنَّة الجنَّة، يُدخلُ مَن يشاء برحمته، ويُدخل أهلَ النار النار، ثم يقول: انظروا مَن وجدتُم في قلبه
مثقال حبَّة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيُخرَجون منها حُمَماً قد امتُحشوا، فيُلْقَون في نهر الحياة أو الحيا، فيَنبتُون فيه كما تنبُت الحبَّة إلى جانب السَّيل، ألَم تروها كيف تخرج صفراء مُلتوية؟ " رواه البخاري (22) ومسلم (304) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكلِّ نَبِيٍّ دعوةٌ مستجابة، فتعجَّلَ كلُّ نَبِيٍّ دعوتَه، وإنِّي اختبأتُ دعوتِي شفاعة لأمَّتِي يوم القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله مَن مات من أمَّتِي لا يُشرك بالله شيئاً" رواه البخاري (6304) ، ومسلم (338) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأحاديثُ الشفاعة في خروج العُصاة من النار متواترةٌ، وأمَّا ما جاء من ذكر الخلود في النار لبعض العُصاة، كما في قوله سبحانه وتعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم:"مَن تردَّى من جبل فقتل نفسَه فهو في نار جهنَّم يتردَّى فيها خالداً مُخلَّداً فيها أبداً، ومن تَحسَّى سُمًّا فقتلَ نفسَه، فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنَّم خالداً مُخلَّداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسَه بحديدة، فحديدتُه في يده يَجأُ بها في بطنه في نار جهنَّم خالداً مُخلَّداً فيها أبداً" رواه البخاري (5778) ومسلم (175) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فإنَّ ذلك الخلودَ خلودٌ نسبِيٌّ، يُرادُ به طول البقاء، لكنَّه ليس كخلود الكفَّار الذين يبقون في النار إلى غير نهاية؛ لأنَّ كلَّ ذنب دون الشِّرك تحت مشيئة الله، كما قال الله:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
18 قوله: "وأنَّ اللهَ سبحانه قد خَلَقَ الجَنَّةَ فأَعَدَّها دارَ خُلُود لأوليائِه، وأكرَمهم فيها بالنَّظر إلَى وَجْهِه الكريم، وهي الَّتِي أَهْبَطَ منها آدَمَ نبِيَّه وخلِيفَتَه إلى أَرضِه، بِما سَبَقَ فِي سابِق عِلمِه، وخَلَق النَّارَ فأعَدَّها دَارَ خُلُود لِمَن كَفَرَ به وألْحَدَ في آياتِه وكتُبه ورُسُلِه، وجَعَلَهم مَحجُوبِين عن رُؤيَتِه".
1 الجنَّةُ والنَّارُ مخلوقتان موجودتان الآن، أعدَّ الله الجنَّةَ لأوليائه، وأعدَّ النَّارَ لأعدائه، فمن الآيات التي فيها إعداد الجنَّة لأوليائه قوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، وقوله:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ، وقوله:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} .
ومن الآيات التي فيها إعداد التار لأعدائه قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} ، وقوله:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ، وقوله:{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ، ويدلُّ من السُّنَّة لكون الجنَّة والنَّار موجودتَين الآن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في صلاة الكسوف، وفيه: "قالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولتَ شيئاً في مقامك، ثم رأيناك كَعْكَعْتَ، قال صلى الله عليه وسلم: إنِّي رأيتُ الجنَّةَ، فتناولتُ عنقوداً، ولو أصبته لأكلتُم منه ما بقيت الدنيا، وأُريتُ النار، فلَم أرَ منظَراً كاليوم
قطُّ أفظع، ورأيتُ أكثرَ أهلها النساء. . . " الحديث، رواه البخاري (1052) ، ومسلم (907) .
وأمَّا ما جاء عن بعض المبتدعة كالمعتزلة من أنَّهما لا تُخلقان إلَاّ يوم القيامة؛ لأنَّ خلقَهما قبل ذلك عبثٌ، حيث إنَّهما تبقيان مدَّة طويلة دون أن ينتفع بالجنَّة أحدٌ ودون أن يتضرَّر بالنَّار أحد، فذلك قولٌ باطل، ويدلُّ لبطلانه وجوه:
الأول: ما جاء في الآيات والأحاديث الدَّالة على خَلْقِهما ووجودِهما قبل يوم القيامة، ومن ذلك ما تقدَّم قريباً.
الثاني: أنَّ وجودَ الجنَّة فيه ترغيبٌ بها وتشويقٌ إليها، ووجودَ النار فيه تحذيرٌ منها وتخويف.
الثالث: أنَّه قد جاء في نصوص الكتاب والسُّنَّة ما يدلُّ على حصول الانتفاع بنعيم الجنَّة قبل يوم القيامة، وما يدلُّ على التضرُّر بعذاب النار قبل يوم القيامة، قال الله عز وجل في آل فرعون:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، فالآيةُ تدلُّ على أنَّهم يُعذَّبون في النار وهم في قبورهم، وإذا حصل البعث انتقلوا إلى عذاب أشدَّ.
وأمَّا الجنَّة فقد جاء في الحديث أنَّ أرواح الشهداء في أجواف طير خُضر، لها قناديل معلَّقة بالعرش، تسرحُ من الجنَّة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، رواه مسلم (1887) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وروى الإمام أحمد في مسنده (15778) عن الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّما نسَمة المؤمن طائرٌ يعلقُ في شجر الجنَّة حتى يُرجعه
الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثُه"، وهو حديث صحيح، في إسناده ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة لأهل السنَّة، قال الإمام ابن كثير في تفسيره عند قول الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} : "وقد رُوِّينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكلِّ مؤمن بأنَّ روحَه تكون في الجنَّة تسرَح أيضاً فيها وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النَّضرة والسرور، وتشاهدُ ما أعدَّ الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمَّة الأربعة أصحاب المذاهب المتَّبَعة" ثم ذكر سندَ الحديث ومتنَه.
وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الطويل في موعظته صلى الله عليه وسلم عند القبر الذي يُلحَد، قال في المؤمن:" فأَفرِشوه من الجنَّة، وأَلبِسوه من الجنَّة، وافتحوا له باباً إلى الجنَّة، قال: فيأتيه من رَوْحها وطيبها، ويُفسَح له في قبره مدَّ بصره"، وقال في الكافر:"فأفرِشوا له من النَّار، وافتحوا له باباً إلى النَّار، فيأتيه من حرِّها وسَمومِها، ويضيق عليه قبرُه حتى تختلف أضلاعُه"، وهو حديث حسن، رواه أحمد في مسنده (18534) .
والأحاديث في عذاب القبر والاستعاذة بالله منه كثيرة، وهذه الأدلَّة تدلُّ على أنَّ المؤمنين يُنعَّمون في قبورهم، والكافرين يُعذَّبون فيها، والنَّعيمُ والعذابُ يكون للأرواح والأجساد.
2 الجنَّة والنَّارُ باقيتان لا تفنيان ولا تبيدان، وأهل الجنَّة منَعَّمون فيها إلى غير نهاية، والكفَّار مُعذَّبون في النار إلى غير نهاية، ومن الآيات التي جاءت في بقاء الجنَّة وخلودِ أهلها فيها قول الله عز وجل: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً
وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} ، وقوله:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}
ومن الآيات التي جاءت في بقاء النار وخلود الكفار فيها قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ،وقوله:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} وقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ، وقوله:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} ، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} ، وقوله:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} ، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} ، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}
وبقاءُ الجنَّة والنَّار وخلودُ أهلهما فيهما إلى غير نهاية لا يُنافي كون الله عز وجل الآخرَ الذي ليس بعده شيء؛ لأنَّ بقاءَ الله عز وجل لازمٌ لذاته،
وبقاءَ الجنَّة والنار وأهلهِما فيهما حصل بإبقاء الله لهما، وليس لهما إلَاّ الفناء لولا إبقاء الله لهما، وقد تقدَّمت الإشارةُ إلى هذا عند قول المؤلِّف:"ليس لأوليَّته ابتداء، ولا لآخريَّته انقضاء".
3 قوله: "وهي الَّتِي أَهْبَطَ منها آدَمَ نبِيَّه وخلِيفَتَه إلى أَرضِه، بِما سَبَقَ فِي سابِق عِلمِه"، هذا أحدُ أقوال ثلاثة في المراد بالجنَّة التي أُهبط منها آدم إلى الأرض، وهو أظهرُها.
والقول الثاني: أنَّها جنَّة في مكان عالٍ من الأرض.
والقول الثالث: التوقُّف.
وقد ذكر ابن القيم الخلافَ وأدلَّةَ أصحاب القول الأول والثاني، وإجابةَ كلٍّ منهما عمَّا استدلَّّ به الآخر، ولَم يُرجِّح شيئاً، وذلك في كتابه حادي الأرواح (ص: 16 32) ، وفي قصيدته الميمية ما يدلُّ على ترجيحه القولَ الأول، حيث قال:
فحيَّ عل جنَّات عدن فإنَّها
…
منازلك الأولَى وفيها المخيَّم
ولكنَّنا سَبي العدو فهل ترى
…
نعود إلى أوطاننا ونسلَّم
4 رؤية المؤمنين ربَّهم بأبصارهم في الدار الآخرة، هي أكبر نعيم يحصل لهم في دار النَّعيم، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسُّنَّة والإجماع، فمن أدلَّة الكتاب قول الله عز وجل:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ،وقوله:{كَلَاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} قال الشافعي رحمه الله: "لَمَّا حُجب هؤلاء في حال السخط، دلَّ على أنَّ المؤمنين يرونه في حال الرِّضَى"، وقوله:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الحُسنَى: الجنَّة، والزيادة: النَّظرُ إلى وجه الله عز وجل، فسَّرها بذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم (297) عن صُهيب رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدُكم؟ فيقولون: ألَم تبيِّض وجوهَنا؟ ألَم تُدخلنا الجنَّة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطُوا شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إلى ربِّهم عز وجل، ثم تلا هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ".
وقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وهو يدلُّ على إثبات الرؤية بدون إدراك، فهو يُرى ولا يُدرَك، أي: لا يُحاطُ به رؤيةً، كما أنَّه يُعلمُ ولا يُحاطُ به علماً، ونفيُ الإدراك وهو أخصُّ، لا يستلزم نفي الرؤية وهي أعمُّ.
وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} ، وموسى عليه الصلاة والسلام سأل اللهَ أمراً مُمكناً، ولَم يسأله مستحيلاً، والله عز وجل شاء ألَاّ يُرَى إلَاّ في الدار الآخرة؛ لأنَّ رؤيتَه أكملُ نعيم يكون فيها، وقوله:{لَنْ تَرَانِي} ، أي: في الدنيا.
وقد ذكر ابن القيم – رحمه الله – هذه الأدلَّة من الكتاب وغيرها في كتاب حادي الأرواح (ص: 179 186) ، ثم ذكر الأدلَّة من السُّنَّة عن سبعة وعشرين صحابيًّا، وساق أحاديثهم، ثم ذكر الآثارَ عن الصحابة والتابعين ومَن بعدهم من أهل السُّنَّة والجماعة، وهي تدلُّ على الاتِّفاق والإجماع على ذلك من الصحابة ومَن سار على طريقتهم.
19 قوله: "وأنَّ اللهَ تبارك وتعالى يَجيءُ يَومَ القيامَةِ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا؛ لِعَرْضِ الأُمَمِ وَحِسَابِهَا وعقُوبَتِها وثَوابِها، وتُوضَعُ الموازِينُ لَوَزْنِ أَعْمَالِ العِبَادِ، فمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأولئك هم المُفلِحون، ويُؤْتَوْنَ صَحائِفهم بأعمَالِهم، فمَن أُوتِي كتابَه بيمينه فسوف يُحاسَبُ حِساباً يَسيراً، ومَن أُوتِي كتابَه ورَاء ظَهْرِه فأولئِك يَصْلَوْنَ سَعيراً".
1 مجيءُ الله عز وجل يوم القيامة لفصل القضاء من صفات أفعاله، يفعلُ ما يشاء ويحكم ما يريد، والقولُ في المجيء كالقول في سائر الصفات، أنَّه على ما يليق بالله، من غير تكييف أو تمثيل، ومن غير تأويل أو تعطيل، قال الله عز وجل:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} ، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية:"يعنِي لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعدما يستشفعون إليه بسيِّد ولد آدم على الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه، بعدما يسألون أولي العزم من الرُّسل واحداً بعد واحد، فكلُّهم يقول: لست بصاحب ذاكم، حتى تنتهي النَّوبةُ إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا لها، أنا لها، فيذهبُ فيشفعُ عند الله تعالى في أن يأتي لفصل القضاء، فيشفِّعُه الله تعالى في ذلك، وهي أول الشفاعات، وهي المقام المحمود كما تقدَّم بيانه في سورة سبحان، فيجيء الرَّبُّ تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكةُ يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً".
وأولو العزم من الرُّسل المستَشفَع بهم قبل نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وهم المذكورون في سورتَي الأحزاب والشورى، في قول الله عز وجل:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} ، وقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا
وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .
2 يُعرَض العبادُ على الله فيُحاسبُهم على أعمالهم، قال الله عز وجل:{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة} ، وقال:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، وقال:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ، وقال:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً} ، وقال:{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} وقال: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن حوسب عُذِّب، قالت عائشة: فقلت: أوَليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} ، قالت: فقال: إنَّما ذلكِ العَرْض، ولكن مَن نُوقش الحساب يهلك" رواه البخاري (103) ، ومسلم (2876) .
3 تُحصَى أعمال العباد ثمَّ توزَن، فمَن ثقلت موازينه نجا، ومن خفَّت موازينه هلك، قال الله عز وجل:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، وقال:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} ، وقال:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} ، وقال:{فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه نَارٌ حَامِيَةٌ}
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطُّهور شطرُ الإيمان، والحمد لله تملأُ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تَملآن أو تَملأ ما بين السموات والأرض" رواه مسلم (223)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" رواه البخاري (7563) ، ومسلم (2694) .
والأعمالُ وإن كانت أعراضاً فالله يجعلها أجساماً توضَع في الميزان، والحكمة من وزن أعمال العباد إظهار عدل الله وإيقاف العبد على أعماله؛ فإنَّه سبحانه وتعالى عليمٌ بكلِّ شيء.
والوزنُ كما يكون للأعمال يكون لصحائف الأعمال، كما في حديث البطاقة والسِّجِلَاّت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ سيُخلِّصُ رجلاً
من أمَّتِي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاًّ، كلُّ سجِلٍّ مثلُ مدِّ البصر، ثمَّ يقول: أتُنكرُ من هذا شيئاً؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحافظون؟ فيقول: لا يا ربِّ! فيقول: أَفَلَك عُذر؟ فيقول: لا يا ربِّ! فيقول: بلى، إنَّ لك عندنا حسنة، فإنَّه لا ظُلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلَاّ الله وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه، فيقول: احضُر وزنك، فيقول: يا ربِّ! ما هذه البطاقة أمام السِّجِلات؟ فقال: إنَّك لا تُظلَم، قال: فتُوضَع السِّجِلَاّت في كفَّة والبطاقة في كفَّة، فطاشت السِّجِلَاّت وثقلت البطاقةُ، فلا يثقُلُ مع اسم الله شيء" أخرجه الترمذي (2639) وحسَّنه، والحاكم (1/6) وصحَّحه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (135) .
20 قوله: "وأنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ، يَجُوزُه العبادُ بِقَدْرِ أعمالِهم، فناجُون مُتفاوِتُون في سُرعَة النَّجاةِ عليه مِن نار جَهَنَّم، وقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ فيها أعمالُهم".
الصِّراطُ حقٌّ ثابتٌ بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جسرٌ منصوبٌ على متن جهنَّم، يَمرُّ عليه المسلمون للوصول إلى الجنَّة على قَدْر أعمالهم، فمنهم مَن يَمُرُّ كالبرق، ومنهم مَن يَمُرُّ كالرِّيح، ومنهم مَن يَزحف زحفاً، ففي صحيح البخاري (806) ، ومسلم (299) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: "فيُضربُ الصِّراطُ بين ظهرانَي جهنَّم، فأكون أوَّلَ مَن يجوز من الرُّسل بأمَّته، ولا يتكلَّمُ يومئذ أحدٌ إلَاّ الرُّسُل، وكلامُ الرُّسل يومئذ: اللَّهمَّ
سلِّم سلِّم، وفي جهنَّم كلاليب مثل شَوك السَّعدان، هل رأيتُم شَوكَ السَّعدان؟ قالوا: نعم، قال: فإنَّها مثل شوك السَّعدان، غير أنَّه لا يَعلمُ قدر عِظَمها إلَاّ الله، تَخطفُ الناسَ بأعمالِهم، فمنهم مَن يُوبَقُ بعمله، ومنهم مَن يُخردَل ثم ينجو".
وفي صحيح مسلم (329) من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما، وفيه:"وتُرسَلُ الأمانةُ والرَّحم، فتقومان جنبَتَي الصِّراط يميناً وشمالاً، ويَمُرُّ أوَّلُكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمِّي! أيُّ شيء كمَرِّ البرق؟ قال: أوَ لَم ترَوا إلى البرق كيف يَمُرُّ ويرجع في طرفة عين؟ ثمَّ كمَرِّ الرِّيح، ثمَّ كمرِّ الطير وشدِّ الرِّجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيُّكم قائمٌ على الصِّراط يقول: ربِّ سلِّم سلِّم! حتى تعجز أعمالُ العباد، حتَّى يجيء الرَّجل فلا يستطيع السيرَ إلَاّ زحفاً، قال: وفي حافتَي الصِّراط كلاليب معلَّقة، مأمورةٌ بأخذ مَن أُمرت به، فمخدوشٌ ناجٍ، ومكدُوسٌ في النَّار".
وفي صحيح مسلم (302) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفيه:"ثمَّ يُضرَبُ الجسرُ على جهنَّم وتحلُّ الشفاعة، ويقولون: اللَّهمَّ سلِّم سلِّم، قيل: يا رسول الله! وما الجسرُ! قال: دحضٌ مزلَّة، فيه خطاطيفُ وكلاليبُ وحسك، تكون بنَجد فيها شُويْكةٌ يُقال لها السَّعدان، فيَمُرُّ المؤمنون كطرْف العين، وكالبرق، وكالرِّيح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والرِّكاب، فناجٍ مُسلَّمٌ، ومخدوشٌ مرسَل، ومكدوسٌ في نار جهنَّم".
21 قوله: "والإيمانُ بِحَوْض رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، تَرِدُهُ أمَّتُهُ لَا يَظْمَأُ مَن شَرب مِنه، ويُذَادُ عنه مَنْ بَدَّلَ وغَيَّرَ".
أحاديثُ حوض نبيِّنا صلى الله عليه وسلم متواترةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أورد البخاري– رحمه الله – في باب: في الحوض، من كتاب الرقاق من صحيحه منها تسعة عشر طريقاً من (6575 6593) ، وذكر الحافظ في الفتح أنَّ الصحابةَ فيها يزيدون على خمسين صحابيًّا، ذكر خمسة وعشرين منهم نقلاً عن القاضي عياض، وثلاثة نقلاً عن النووي، وزاد عليهما قريباً من ذلك، فزادوا على الخمسين صحابيًّا (11/468 469) ، وأورد الإمامُ ابن كثير في كتاب النهاية أحاديثَ الحوض عن أكثر من ثلاثين صحابيًّا (2/29 65) ، ذكرها بأسانيد الأئمَّة الذين خرَّجوها غالباً.
ومٍِمَّا جاء في صفة حوض النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قولُه صلى الله عليه وسلم: "حَوضِي مسيرة شهر، ماؤُه أبيضُ من اللَّبن، وريحُه أطيبُ من المسك، وكيزانُه كنجوم السماء، مَن شرب منها فلا يظمأ أبداً" رواه البخاري (6579) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ورواه مسلمٌ في صحيحه (2292) ولفظُه:"حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤُه أبيضُ من الوَرِق، وريحُه أطيب من المسك، وكيزانُه كنجوم السماء، فمَن شرب منه فلا يظمأُ بعده أبداً".
وفي صحيح مسلم (2300) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وفيه:"يشخبُ فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لَم يظمأ، عرضُه مثل طوله، ما بين عمَّان إلى أيلة، ماؤه أشدُّ بياضاً من اللَّبن، وأحلَى من العسل".
ومن الناس مَن يُذادُ عن ورود الحوض، فقد روى البخاري في صحيحه (6576) عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أنا فرَطُكم
على الحوض، وليُرفعَنَّ رجالٌ منكم، ثمَّ ليُختلَجنَّ دونِي، فأقول: يا ربِّ أصحابي! فيُقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك".
والمراد بهؤلاء الأصحاب أُناسٌ قليلون ارتدُّوا بعد موت النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وقُتلوا على أيدي الجيوش المظفَّرة التي بعثها أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقتال المرتدِّين.
والرافضةُ الحاقدون على الصحابة تزعمُ أنَّ الصحابةَ ارتدُّوا بعد وفاة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَاّ نفراً يسيراً منهم، وأنَّهم يُذادون عن الحوض، والحقيقة أنَّ الرافضةَ هم الجديرون بالذَّود عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم لا يغسلون أرجلَهم في الوضوء، بل يمسحون عليها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويلٌ للأعقاب من النار" أخرجه البخاري (165) ومسلم "242) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليست فيهم سِيمَا التحجيل التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أمَّتِي يُدعون يوم القيامة غُرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء" أخرجه البخاري (136) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد نبت في هذا الزمان نابتةٌ يزعم أنَّه من أهل السُّنَّة وهو ليس منهم، بل هو على طريقة الرافضة الحاقدين على الصحابة، وهو حسن بن فرحان المالكي، نسبة إلى بنِي مالك في أقصَى جنوب المملكة، وقد كتب رسالة سيِّئة بعنوان:"الصحابةُ بين الصحبة اللغوية والصُّحبة الشرعية" زعم فيها أنَّ الصحابةَ هم المهاجرون والأنصار قبل الحُديبية فقط، وأنَّ كلَّ مَن أسلَمَ وهاجر بعد الحُديبية أنَّه ليس له نصيبٌ في الصحبة الشرعية، وأنَّ صحبتَهم كصحبة المنافقين والكفار، فأخرج بذلك الكثيرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مقدِّمتهم العباس بنُ عبد المطلب عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنُه
عبد الله بن عباس حبر الأمَّة وترجمان القرآن، رضي الله تعالى عنه وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين، كما أخرج أبا موسى الأشعريِّ وأبا هريرة وخالد ابن الوليد وغيرَهم مِمَّن لا يُحصون، وهو قولٌ مُحدَث في القرن الخامس عشر، لَم يسبقه إليه إلَاّ شابٌّ حديث السِّنِّ مثله اسمه عبد الرحمن بن محمد الحكمي، ومِمَّا جاء في كتابه السيِّء إنكارُ القول بعدالة الصحابة، وزعمُه أنَّ أكثرَ الصحابة يُذادون عن حوض الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنَّه يُؤمَرُ بهم إلى النار، وأنَّه لا ينجو منهم إلَاّ القليل مثل همل النعم، وبهذا يتبيَّن مُماثلتُه للرافضة الحاقدين على الصحابة، وقد رددتُ عليه في كتاب بعنوان:"الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي".
ومِمَّا جاء في الكتاب مِمَّا يتعلَّق بالذَّود عن الحوض ما يلي:
السابع: (أي من وجوه الردِّ عليه في إنكاره عدالة الصحابة) قوله (ص: 63) : "ومن الأحاديث في الذمِّ العامِّ: قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث الحوض في ذهاب أفواجٍ من أصحابه إلى النَّار، فيقول النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(أصحابي! أصحابي! فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك) ، الحديث متفق عليه، وفي بعض ألفاظه في البخاري:(فلا أرى ينجو منكم إلَاّ مثل هَمَل النَّعَم) .
فيأتي المعارِض للثناء العام بهذا الذمِّ العامِّ، ويقول: كيف تجعلون للصحابة ميزةً وقد أخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه لا ينجو منهم إلَاّ القليلُ، وأنَّ البقيَّةَ يؤخذون إلى النَّار؟! ".
وقال عن هذا الحديث أيضاً (ص: 64) : "كما أخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه لا ينجو من أصحابه يوم القيامة إلَاّ القليلُ (مثل همل النعم) ، كما ثبت في صحيح البخاري كتاب الرقاق".
ويُجابُ عنه بأنَّ لفظَ الحديث في صحيح البخاري في كتاب الرقاق (6587) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائمٌ فإذا زمرةٌ، حتى إذا عرفتُهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ، فقلتُ: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: وماشأنُهم؟ قال: إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثمَّ إذا زمرةٌ، حتى إذا عرفتُهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ، قلتُ: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: ماشأنُهم؟ قال: إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أُراه يخْلُصُ منهم إلَاّ مثل همل النعم".
قال الحافظ في شرحه: "قوله: (بينا أنا نائمٌ) كذا بالنون للأكثر، وللكشميهني (قائم) بالقاف، وهو أوجه، والمراد به قيامُه على الحوض يوم القيامة، وتوجه الأولى بأنَّه رأى في المنام في الدنيا ما سيقع له في الآخرة"، وقال أيضاً:"قوله: (فلا أُراه يخْلُصُ منهم إلَاّ مثل همل النعم) يعني من هؤلاء الذين دَنَوْا من الحوض وكادوا يَرِدونه فصُدُّوا عنه"، وقال أيضاً:"والمعنى أنَّه لا يرِدُه منهم إلَاّ القليل؛ لأنَّ الهمل في الإبل قليلٌ بالنسبة لغيره".
واللفظُ الذي ورد في الحديث: "فلا أُراه يخْلُصُ منهم إلَاّ مثل همل النعم" أي من الزمرتين المذكورتين في الحديث، وهو لا يدلُّ على أنَّ الذين عُرضوا عليه هاتان الزمرتان فقط، والمالكي أورد لفظ الحديث على لفظ خاطئ لَم يرد في الحديث، وبناءً عليه حكم على الصحابة حكماً عاماًّ خاطئاً، فقال فيه:"وفي بعض ألفاظه في البخاري: (فلا أرى ينجو منكم إلَاّ مثل همل النعم) ، فجاء بلفظ "منكم" على الخطاب بدل "منهم"، وبناءً عليه قال: "كيف تجعلون للصحابة ميزة وقد أخبر النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم أنَّه لا ينجو منهم إلَاّ القليل، وأنَّ البقية يُؤخذون إلى النار"، وقال: "كما أخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه لا ينجو من أصحابه يوم القيامة إلَاّ القليل (مثل همل النعم) ، كما ثبت في صحيح البخاري كتاب الرقاق!! "، وهذا كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّه لَم يُخبر أنَّ أصحابَه لَم يَنْجُ منهم إلَاّ القليل، ولعل هذا الذي وقع من المالكي حصل خطأً لا عمداً.
وأمَّا ما جاء في بعض الأحاديث مِن أنَّه يُذاد عن حوضه أُناسٌ من أصحابه، وأنَّه يقول "أصحابي! " وفي بعض الألفاظ "أُصيْحابي! "، فيُقال:"إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك"، فهو محمولٌ على القلَّة التي ارتدَّت منهم بعد وفاة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وقُتِلوا في ردَّتِهم على أيدي الجيوش المظفرة التي بعثها أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
وأقول: إذا كان مصيرُ أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النار، وأنَّه لا ينجو منهم إلَاّ القليل: مثل هَمَل النَّعم بزعم هذا الزاعم، فليت شعري ما هو المصير الذي يُفكِّر به المالكي لنفسه؟!
نسأل الله السلامةَ والعافية ونعوذ بالله من الخذلان.
بل إنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة بزعم المالكي لَم تحصل إلَاّ للمهاجرين والأنصار قبل صلح الحُديبية، ومَن بعدهم ليسوا من الصحابة بزعمه، وعلى هذا فإنَّ قولَه: إنَّه لا ينجو من الصحابة إلَاّ القليل مثل هَمَل النَّعم، وأنَّ البقيَّة يُؤخذون إلى النار، يكون المراد به الصحابة الذين كانوا قبل الحديبية، فإذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خيرُ هذه الأمَّة لا يَسلَمون من النار، فمَن الذي يَسلَمُ منها؟!
بل إنَّ اليهودَ والنصارى لَم يقولوا في أصحاب موسى وعيسى مثلَ هذه المقالة القبيحة.
وهذا يُبيِّن لنا منتهى السوء الذي وقع فيه المالكي، وإنَّ مَن يسمَع أو يطَّلع على كلامه في الصحابة، يتَّهمه في عقله أو يستدلُّ به على منتهى خُبثه وحقده على خير هذه الأمَّة، لا سيما زعمه أنَّ العبَّاس بنَ عبد المطلب وابنَه عبد الله رضي الله عنهما ليسا من الصحابة، وزعمه أنَّ أكثرَ الصحابة إلَاّ قليلاً منهم مثل همل النَّعم يُؤخذون إلى النار!
وأيضاً إذا كان أكثر الصحابة إلَاّ قليلاً منهم يُؤخذون إلى النار في زعم هذا الزاعم، مع أنَّ الكتابَ والسُّنَّة لم تصل إلى هذه الأمَّة إلَاّ عن طريق الصحابة؛ لأنَّهم الواسطةَ بين الناس وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، فأيُّ حقٍّ وهدى يكون بأيدي المسلمين؛ فإنَّ القدح في الناقل قدحٌ في المنقول، قال أبو زرعة الرازي المتوفَّى سنة (264هـ) رحمه الله:"إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى، وهم زنادقةٌ". الكفاية للخطيب البغدادي (ص: 49) .
وسأكشف أباطيلَه الأخرى التي اشتمل عليها كتابُه "قراءة في كتب العقائد" وأدحضُها إن شاء الله تعالى في كتابي: "الانتصار لأهل السُّنَّة والحديث في ردِّ أباطيل حسن المالكي".
22 قوله: "وأنَّ الإيمانَ قَولٌ باللِّسانِ، وإخلَاصٌ بالقلب، وعَمَلٌ بالجوارِح، يَزيد بزيادَة الأعمالِ، ويَنقُصُ بنَقْصِها، فيكون فيها النَّقصُ وبها الزِّيادَة، ولا يَكْمُلُ قَولُ الإيمانِ إلَاّ بالعمل، ولا قَولٌ وعَمَلٌ إلَاّ بنِيَّة، ولا قولٌ وعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إلَاّ بمُوَافَقَة السُّنَّة. وأنَّه لا يكفرُ أَحدٌ بذَنب مِنْ أهْل القِبْلَة".
1 الإيمانُ عند أهل السُّنَّة والجماعة يتألَّف من اعتقاد بالقلب وقول باللِّسان وعمل بالجوارح، فهذه الأمورُ الثلاثة داخلةٌ عندهم في مُسمَّى الإيمان، قال الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، ففي هذه الآيات دخول أعمال القلوب وأعمال الجوارح في الإيمان.
وروى مسلم في صحيحه (58) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمانُ بضعٌ وسبعون أو بضعٌ وستون شعبة، فأفضلُها قول لا إله إلَاّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبة من الإيمان"، فقد دلَّ الحديثُ على أنَّ ما يقوم بالقلب واللِّسان والجوارح من الإيمان، وأمَّا ما جاء في القرآن من آيات كثيرة فيها عطف العمل الصالح على الإيمان، كما في قول الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} ، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} ، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} ، فلا يدلُّ العطف على عدم دخول الأعمال في
مسمَّى الإيمان، بل هو من عطف الخاص على العام؛ وذلك أنَّ التفاوتَ بين الناس في الإيمان يكون غالباً لتفاوتهم في الأعمال، وفي الأقوال أيضاً؛ لأنَّ القولَ عملُ اللِّسان، بل إنَّهم يتفاوتون فيما يقوم بقلوبهم، قال الحافظ في الفتح (1/46) نقلاً عن النووي:"والأظهرُ المختار أنَّ التصديق يزيد وينقص بكثرة النَّظر ووضوح الأدلَّة، ولهذا كان إيمانُ الصدِّيق أقوى من إيمان غيره؛ بحيث لا يعتريه الشُّبهة، ويؤيِّده أنَّ كلَّ أحد يعلمُ أنَّ ما في قلبه يتفاضل، حتى إنَّه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكُّلاً منه في بعضها، وكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها".
2 الذين أخرجوا الأعمال من أن تكون داخلةً في مسمَّى الإيمان طائفتان: المرجئة الغلاة، الذين يقولون: إنَّ كلَّ مؤمن كاملُ الإيمان، وأنَّه لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا القول من أبطل الباطل، بل هو كفر.
ومرجئة الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم كأبي حنيفة، الذين قالوا بعدم دخول الأعمال في مسمَّى الإيمان، مع مخالفتهم للمرجئة الغلاة في أنَّ المعاصي تضرُّ فاعلَها، وأنَّه يُؤاخذُ على ذلك ويُعاقَب، وقولُهم غيرُ صحيح؛ لأنَّه ذريعةٌ إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي، كما في شرح الطحاوية (ص: 470) .
3 الإيمانُ يزيد بالطاعة وينقصُ بالمعصية، فمن أدلَّة زيادته قول الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ، وقوله:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} ، وقوله:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} ، وقوله:{وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} .
ومن أدلَّة نقصانه قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان" رواه مسلم (78) .
وما جاء في حديث الشفاعة من إخراج مَن في قلبه مثقال ذرَّة من إيمان من النار، رواه البخاري (7439) ومسلم (302) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث وصف النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم للنساء بأنَّهنَّ ناقصاتُ عَقل ودين، أخرجه البخاري (304) ومسلم (132) .
قال الحافظ في الفتح (1/47) : "وروى يعني اللالكائي بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثرَ من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ، ويزيد وينقص. وأطْنَب ابن أبي حاتم واللَاّلكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين، وكلِّ من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين، وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السُّنَّة والجماعة".
4 الإسلامُ والإيمانُ من الألفاظ التي إذا جُمع بينهما في الذِّكر فرِّق بينهما في المعنى، وإذا أُفرد أحدُهما شَمل المعنيين جميعاً؛ ففي حديث جبريل المشهور الذي جُمع فيه بين الإسلام والإيمان، لَمَّا سُئل عن الإيمان فسَّره بما
يُناسبُ معناه اللغوي، وهو الأمور الباطنة، بقوله:"أن تؤمنَ بالله وملائكته وكتبه ورُسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشرِّه"، ولَمَّا سُئل عن الإسلام فسَّره بما يُناسبُ معناه اللغوي، وهو الأمور الظاهرة، بقوله:"أن تشهدَ أن لا إله إلَاّ الله وأنَّ محمداً رسولُ الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجَّ البيتَ إن استطعت إليه سبيلاً".
وإذا ذُكر الإسلام غير مقترن بالإيمان كان معناه شاملاً للأمور الظاهرة والباطنة، وكذا إذا أُفرد الإيمانُ عن الإسلام، فإنَّه يشمل الأمورَ الظاهرة والباطنة، وهذا من جنس لفظ:"الفقير والمسكين"، و"البر والتقوى"، وغير ذلك.
5 لا بدَّ في الإيمان من اجتماع الأمور الثلاثة: الاعتقادُ والقول والعمل، فلا يكفي الاعتقاد والقول دون العمل، وكلُّ قول وعمل لا بدَّ أن يكون بنيَّة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:"إنَّما الأعمالُ بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى" أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907) .
واجتماع القول والعمل والنيَّة لا يكون نافعاً إلَاّ إذا كان على السُّنَّة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ" متفق عليه، وفي لفظ لمسلم:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ".
6 قوله: "ولا يكفرُ أحدٌ بذنب من أهل القبلة ": إذا جحد المرءُ واجباً عُلم وجوبُه من الدِّين بالضرورة كالصلاة والزكاة والصيام والحج، فإنَّه يَكفُر، وكذا إذا جَحَد تحريم ما عُلم تَحريمُه من الدِّين بالضرورة، كشرب الخمر والزنا ونحو ذلك فإنَّه يكفر، وأما إذا فعل شيئاً من الكبائر غير مستحلٍّ لها، فعند أهل السُّنَّة أنَّه يكون مؤمناً ناقصَ الإيمان، وإذا مات
من غير توبة فأمرُه إلى الله، إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، وإذا عذَّبه فإنَّه لا يخلده في النار، وذلك بخلاف قول المعتزلة والخوارج القائلين بخروجه من الإيمان في الدنيا، وبتخليده في النار في الآخرة.
23 قوله: "وأنَّ الشُّهداءَ أحياءٌ عند ربِّهم يُرْزَقونَ، وأرْواحُ أهْل السَّعادَةِ باقِيةٌ ناعِمةٌ إلى يوم يُبْعَثون، وأرواحُ أهلِ الشَّقاوَةِ مُعَذَّبَةٌ إلى يَوم الدِّين".
قال الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ، وقال:{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} ، وهذه الحياةُ حياةٌ برزخيَّة حقيقيَّةٌ، لا يَعلم كيفيتَها إلَاّ الله عز وجل، وجاءت السُّنَّةُ مبيِّنة أنَّ أرواحَ الشهداء في أجواف طير خُضر، وأنَّ أرواح المؤمنين على صورة طير، وأنَّ المؤمنَ يُفرَش له من الجنَّة، ويُفتَحُ له باب إلى الجنَّة، ويأتيه من رَوْحها وطيبِها، ويُفسَحُ له في قبره مدَّ بصره، وأنَّ الكافرَ يُفرَشُ له من النار، ويُفتَحُ له بابٌ إلى النار، ويأتيه من حرِّها وسَمومها، ويضيقُ عليه قبْرُه حتى تختلفَ فيه أضلاعُه، وقد تقدَّم إيرادُ هذه الأحاديث وتخريجُها عند قول ابن أبي زيد:"وأنَّ الله سبحانه قد خلق الجنَّة فأعدَّها دارَ خلود لأوليائه، وأكرمَهم فيها بالنَّظر إلى وجهه الكريم".
24 قوله: "وأنَّ المؤمنِينَ يُفْتَنُونَ في قُبُورِهم ويُسْأَلُون، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} ".
الناسُ يُفتَنون في قبورهم ويُمتَحنون، فيُثبِّتُ الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وقد وردت الأحاديثُ في فتنة القبر والسؤال فيه، فروى البخاري في صحيحه (86) عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، عن عائشة في قصة صلاة الكسوف، وفيه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما من شيء لم أكن أُريتُه إلَاّ رأيتُه في مقامي، حتى الجنَّة والنار، فأُوحي إليَّ أنَّكم تُفتنون في قبوركم مثلَ أو قريباً لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماء من فتنة المسيح الدجال، يُقال: ما عِلمُك بهذا الرَّجل؟ فأمَّا المؤمن أو المُوقن لا أدري بأيِّهما قالت أسماء فيقول: هو محمدٌ هو رسول الله، جاءنا بالبيِّنات والهُدى، فأجبنا واتَّبعنا، هو محمد ثلاثاً، فيُقال: نَمْ صالِحاً، قد علمنا إن كنتَ لَمُوقناً به، وأمَّا المنافق أو المرتاب لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماء فيقول: لا أدري، سمعتُ الناسَ يقولون شيئاً فقُلتُه".
وروى البخاري في صحيحه (4699) عن البراء بن عازب رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمُ إذا سُئل في القبر يشهد أن لا إله إلَاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} ".
وفي مسند الإمام أحمد بإسناد حسن عن البراء بن عازب رضي الله عنه في الحديث الطويل (18534)، وفيه:"فيأتيه أي المؤمن مَلَكان فيُجلسانه، فيقولان له: مَن ربُّك؟ فيقول: ربِّي الله، فيقولان له: ما دينُك؟ فيقول: دينِي الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرَّجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وفيه: "ويأتيه أي الكافر مَلَكان فيُجلسانه، فيقولان له: مَن ربُّك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان له: ما دينُك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان له: ما هذا الرَّجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! ".
وفي مصنَّف عبد الرزاق (6744) عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير: أنَّه سَمع جابر بن عبد الله يقول: "إنَّ هذه الأمَّةَ تُبتَلَى في قبورها، فإذا دخل المؤمن قبره، وتولَّى عنه أصحابُه، أتاه ملَكٌ شديد الانتهار، فقال: ما كنتَ تقول في هذا الرَّجل؟ فيقول المؤمن: أقول إنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبده، فيقول له المَلَكُ: اطَّلعْ إلى مقعدك الذي كان لك من النار، فقد أنجاك الله منه، وأبدَلَك مكانَه مقعدَك الذي ترى من الجنَّة، فيراهما كلتيهما، فيقول المؤمن: أُبشِّرُ أهلي؟ فيُقال له: اسكن؛ فهذا مقعدُك أبداً، والمنافق إذا تولَّى عنه أصحابُه يُقال له: ما كنتَ تقول في هذا الرَّجل؟ فيقول: لا أدري، أقول ما يقول الناس، فيُقال له: لا دريت، انظر مقعدَك الذي كان لك من الجنَّة، قد أبدلك الله مكانه مقعدَك من النار"، وإسناده صحيح، وله حكم الرفع.
وروى مسلم في صحيحه (588) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهَّد أحدُكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من عذاب جهنَّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرِّ فتنة المسيح الدجال".
وفي صحيح البخاري (1377) عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال".
وهذه الأمور الثلاثة التي يُسأل عنها في القبر ورد ذكرُها مجتمعة في حديث العباس بن عبد المطلب في صحيح مسلم (56) أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ذاق طعمَ الإيمان مَن رضي بالله ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً"، وجاء ذكرُها أيضاً في أدعية الصباح والمساء، والدعاء عند الأذان، وقد بنَى عليها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – رسالتَه النفيسة التي لا يستغنِي عنها عاميٌّ ولا طالب علم:"الأصول الثلاثة وأدلَّتُها"، فإنَّ مرادَه بالأصول الثلاثة: معرفة العبد ربّه ودينه ونبيّه صلى الله عليه وسلم.
25 قوله: "وأنَّ على العباد حَفَظَةً يَكتُبون أعمالَهم، ولا يَسقُطُ شيْءٌ مِن ذلك عَن عِلمِ ربِّهِم، وأنَّ مَلَكَ الموتِ يَقْبِضُ الأرواحَ بإذن ربِّه".
1 الإيمانُ بالملائكة أحد أصول الإيمان الستة، التي بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور، بقوله حين سأله عن الإيمان:"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرِّه"، وهم مخلوقون من نور؛ كما في صحيح مسلم (2996) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُلقت الملائكةُ من نور، وخُلق الجانُّ من مارجٍ من نار، وخُلق آدمُ مِمَّا وُصف لكم".
وهم ذَوُو أجنحة؛ كما قال الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، ولجبريل ستمائة جناح، كما في صحيح البخاري (3232) وصحيح مسلم (280) .
ويأتون إلى البشر بأشكال على غير هيئتهم التي خُلقوا عليها، كما جاء جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على صورة رجل غير معروف، في حديث جبريل المشهور من رواية عمر رضي الله عنه، وهو أوَّلُ حديث عند مسلم في كتاب الإيمان، وجاء إليه في صورة دحية بن خليفة الكلبي، وجاء جبريل إلى مريم في صورة بشر، وجاءت الملائكةُ إلى إبراهيم في صورة بشر، كما في قول الله عز وجل:{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} الآيات، وقوله:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} الآيات.
وهم خلقٌ كثير لا يَعلم عددَهم إلَاّ الله عز وجل، ويدلُّ لذلك أنَّ البيتَ المعمور وهو في السماء السابعة يدخله كلَّّ يوم سبعون ألف مَلَك لا يعودون إليه، رواه البخاري (3207) ومسلم (259) .
وروى مسلم في صحيحه (2842) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُؤتَى بجهنَّم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كلِّ زمام سبعون ألف ملَك يَجرُّونها".
والملائكةُ منهم الموكَّلون بالوحي، والموكَّلون بالقَطر، والموكَّلون بالموت، والموكَّلون بالأرحام، والموكَّلون بالحفظ، والمُوكَّلون بالجنَّة، والمُوكَّلون بالنار، والمُوكَّلون بغير ذلك، وكلُّهم مستسلمون منقادون لأمر الله، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمَرون.
والواجبُ على المسلم الإيمانُ والتصديق بكلِّ ما جاء في الكتاب العزيز وصحَّت به السُّنَّة من أخبار عن الملائكة.
2 من الملائكة من وُكِّل بالحفظ والكتابة، كما قال الله عز وجل:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، وقال:
والكَتَبَةُ يكتبون أقوالَ العباد وأفعالَهم، بل ويكتبون الهمَّ بالحسنة والسيِّئة؛ فقد روى البخاري (7501) ومسلم (203) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيِّئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنةً فلَم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة"، وقال الله عز وجل:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ، والمعنى أنَّ حفظَ الملائكة للإنسان هو مِمَّا أمرهم الله به، والله بكلِّ شيء عليم، وهو يعلم أقوالَ العباد وأفعالَهم كُتبت أو لم تُكتَب، والكتابةُ إنَّما هي لإحصاء أعمال العباد وأقوالهم وإيقافهم عليها وإظهار عدل الله عز وجل فيهم، وأنَّه يُثيبُهم على أعمالهم الحسنة، ويُعاقبهم على أعمالهم السيِّئة، كما قال الله عز وجل:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} .
والعقابُ يقع على الشرك، وكلُّ ذنب دونه فهو تحت مشيئة الله، كما قال الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
3 من الإيمان بالملائكة الإيمان بالملائكة الموكَّلين بالموت، وقد جاء التَّوَفِّي في القرآن مضافاً إلى الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {اللَّهُ
يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} ، وجاء مُضافاً إلى مَلَك الموت، كما قال الله عز وجل:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} ، وجاء مضافاً إلى الملائكة، كما قال الله عز وجل:{جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} ، ولا تنافي بين هذه الإضافات؛ فإضافةُ الموت إلى الله لكونه الآمرَ به والمقدِّرَ له والموجدَ له، وإضافتُه إلى مَلَك الموت لكونه المباشرَ لقبض الأرواح، وإضافتُه إلى الملائكة لأخذهم الأرواح من مَلَك الموت بعد قبضها، وقد جاء ذلك مُبيَّناً في حديث البراء بن عازب في مسند الإمام أحمد بإسناد حسن (18534) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ العبدَ المؤمنَ إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكةٌ من السماء بيض الوجوه، كأنَّ وجوهَهم الشمسُ، معهم كفنٌ من أكفان الجنَّة، وحَنوطٌ من حَنوط الجنَّة، حتى يجلسوا منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملكُ الموت عليه السلام حتى يجلسَ عند رأسه، فيقول: أيَّتُها النفسُ الطيِّبة! اخرُجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتَخرُجُ تسيلُ كما تسيلُ القَطرةُ مِن فِي السٍِّقاء فيأخذها، فإذا أخذها لَم يَدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحَنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض. . . " إلى أن قال: "وإنَّ العبدَ الكافرَ إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكةٌ سودُ الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملَكُ الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيَّتُها النفس الخبيثة! اخرجي إلى
سخط من الله وغضب، قال: فتفرَّق في جسده، فيَنتزعُها كما يُنتَزَعُ السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لَم يَدَعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وُجدت على وجه الأرض. . . " الحديث.
26 قوله: "وأنَّ خيْرَ القرون القرنُ الَّذين رَأَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وآمَنوا به، ثمَّ الَّذين يَلُونَهم ثمَّ الَّذين يَلونَهم، وَأفْضَلُ الصحابة الخُلَفاءُ الرَّاشدون المَهْديُّون؛ أبو بكر ثمَّ عُمر ثمَّ عُثمان ثمَّ عليٌّ رضي الله عنهم أجمعين.
وأن لَا يُذكَرَ أَحَدٌ مِن صحابَةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم إلَاّ بأحْسَن ذِكْرٍ، والإمساك عمَّا شَجَرَ بَينهم، وأنَّهم أحَقُّ النَّاس، أن يُلْتَمَسَ لَهم أَحَسَن المخارج، ويُظَنَّ بهم أحْسن المذاهب".
1 أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم هم كلُّ مَن لقي الرسول صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام، ذكر هذا التعريف الحافظُ ابنُ حجر في مقدمة كتابه الإصابة في تمييز الصحابة (ص: 10) ، فقال:"وأصحُّ ما وقفتُ عليه من ذلك أنَّ الصحابيَّ مَن لقيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام"، وقال في (ص: 12) : "وهذا التعريف مبنِيٌّ على الأصحِّ المختار عند المحققين كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل ومَن تبعهما".
وقد شرح هذا التعريف، فقال: "فيدخل في (مَن لقيَه) مَن طالت مجالستُه له أو قصُرت، ومَن رَوى عنه أو لَم يَرو، ومَن غزا معه أو لم يغز،
ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومَن لَم يره لعارض كالعمى.
ويخرج بقيد (الإيمان) من لقيه كافراً ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرَّة أخرى.
وقولنا (به) يخرج من لقيه مؤمناً بغيره، كمَن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة، وهل يدخل من لقيه منهم وآمن بأنَّه سيُبعث أو لا يدخل؟ محلُّ احتمال، ومن هؤلاء بَحيرا الراهب ونظراؤه.
ويدخل في قولنا: (مؤمناً به) كلُّ مكلَّف من الجنِّ والإنس".
إلى أن قال: "وخرج بقولنا (ومات على الإسلام) من لقيه مؤمناً به، ثمَّ ارتدَّ ومات على ردَّته والعياذ بالله، وقد وُجد من ذلك عددٌ يسير كعُبيد الله بن جحش الذي كان زوجَ أمِّ حبيبة، فإنَّه أسلَم معها وهاجر إلى الحبشة، فتنصَّر هو ومات على نصرانيته، وكعبد الله بن خطل الذي قُتل وهو متعلِّق بأستار الكعبة، وكربيعة بن أميَّة بن خلف على ما سأشرحُ خبَرَه في ترجمته في القسم الرابع من حرف الراء، ويدخل فيه مَن ارتدَّ وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت، سواء اجتمع به صلى الله عليه وآله وسلم مرَّة أخرى أم لا، وهذا هو الصحيح المعتمَد، والشِّقُّ الأول لا خلاف في دخوله، وأبدا بعضُهم في الشِّقِّ الثاني احتمالاً وهو مردودٌ؛ لإطباق أهل الحديث على عدِّ الأشعث بن قيس في الصحابة، وعلى تخريج أحاديثه في الصحاح والمسانيد، وهو مِمَّن ارتدَّ ثم عاد إلى الإسلام في خلافة أبي بكر".
وقول ابن أبي زيد رحمه الله: "وأنَّ خيرَ القرون القرن الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به" موافقٌ لِمَا نقله الحافظ عن البخاري والإمام أحمد ومن تبعهما من أنَّ الصُّحبةَ حاصلةٌ لِمَن جمع بين رؤيته صلى الله عليه وسلم والإيمان
به، وهذا بخلاف ما قاله النابتةُ في هذا العصر الذي مرَّ ذكرُه في مبحث حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي زعم زوراً وبُهتاناً أنَّ الذين أسلَموا وهاجروا بعد الحُديبية ليسوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ صُحبتَهم كصحبة المنافقين والكفار، وقد أوضحتُ بُطلان هذا الزعم الجائر الخاطئ في كتاب "الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي".
2 أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم خيرُ هذه الأمَّة التي هي خيرُ الأُمم، ويليهم التابعون، ثم أتباع التابعين، وقد دلَّ الكتاب والسُّنَّة على فضلهم ونُبلهم، فمِمَّا جاء في القرآن في فضلهم قول الله عز وجل:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، وقوله:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ، وقوله:{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
ومِمَّا جاء في السُّنَّة في فضلهم رضي الله عنهم قولُه صلى الله عليه وسلم: "خيرُ الناس قرني ثم الذين يلونَهم، ثم الذين يلونَهم" رواه البخاري (3651) ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
ورَوَيَا أيضاً واللفظ للبخاري (3650) عن عمران بن حُصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمَّتي قرني، ثم الذين يلونَهم، ثم الذين يلونَهم، قال عمران: فلا أدري أَذَكَرَ بعد قَرنه قرنين أو ثلاثة" الحديث.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان، يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: فيكم مَن رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: فيكم مَن رأى مَن صَحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: هل فيكم مَن رأى مَن صَحِب من صَحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم" رواه البخاري (3649) ومسلم (2532) ، واللفظ لمسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبُّوا أصحابي، فلو أنَّ أحدَكم أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفَه" رواه البخاري (3673) ومسلم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "النُّجومُ أَمَنَةٌ للسماءِ، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما تُوعَد، وأنا أَمَنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يُوعَدون، وأصحابي أَمَنةٌ لأمَّتِي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمَّتي ما يوعَدون" رواه مسلم
(2531)
من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
3 وأفضلُ أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم الخلفاءُ الراشدون الهادون المهديُّون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وترتيبُهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ويدلُّ على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه (3671) عن محمد بن الحنفية وهو محمد بن علي بن أبي طالب قال:"قلتُ لأبي: أيُّ الناس خيرٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثمَّ مَن؟ قال: عمر، وخشيتُ أن يقول عثمان، قلتُ: ثمَّ أنت؟ قال: ما أنا إلَاّ رجلٌ من المسلمين".
وروى الإمام أحمد في مسنده (835) تحقيق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد قال: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا منصور بن عبد الرحمن يعني الغداني الأشل، عن الشعبي، حدَّثني أبو جُحيفة الذي كان عليٌّ يُسمِّيه: وهب الخير، قال: قال لي علي: "يا أبا جُحيفة! ألا أُخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيِّها؟ قال: قلت: بلى، قال: ولم أكن أرى أنَّ أحداً أفضل منه، قال: أفضلُ هذه الأمَّة بعد نبيِّها أبو بكر، وبعد أبي بكر عمر، وبعدهما آخر ثالث، ولم يُسمِّه"، وإسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين إلَاّ منصور بن عبد الرحمن فهو من رجال مسلم، وأثر علي هذا عن أبي جُحيفة جاء في مسند الإمام أحمد وزوائده لابنه عبد الله من طرق صحيحة أو حسنة، وأرقامها من (833) إلى (837) و (871) .
وروى البخاري في صحيحه (3655) عن عبد الله بن عمر أنَّه قال: "كنَّا نُخيِّر بين الناس في زمن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فنخيِّر أبا بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان بن عفّان، رضي الله عنهم".
وقال الحافظ ابن حجر في التقريب في ترجمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "مات في رمضان سنة أربعين، وهو يومئذ أفضلُ الأحياء من بنِي آدم بالأرض بإجماع أهل السُّنَّة".
ومِمَّا جاء في فضلهم وفضل خلافتهم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: ". . . فإنَّه مَن يَعِش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء المهديِّين الراشدين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة" رواه أبو داود (4607) والترمذي (2676)، وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح".
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلافةُ النبوة ثلاثون سنة، ثمَّ يُؤتي اللهُ المُلْكَ أو مُلْكَه مَن يشاء" رواه أبو داود (4646) وغيرُه، وهو حديث صحيح، أورده الألباني في السلسلة الصحيحة (460) ونقل تصحيحه عن تسعة من العلماء.
4 صحابةُ الرسول صلى الله عليه وسلم عدولٌ؛ لثناء الله عز وجل عليهم، وثناء الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاجون مع ذلك لتعديل المعدِّلين وتوثيق الموثِّقين، ولهذا دَرَجَ السَّلفُ في التراجم إذا كان المترجَمُ صحابيًّا أن يقولوا عنه: صحابي، لا يذكرون توثيقاً ولا غيرَه مِمَّا كانوا يذكرون في غير الصحابة، قال ابن عبد البر في التمهيد (22/47) :"ولا فرق بين أن يُسمِّي التابعُ الصاحبَ الذي حدَّثه أو لا يُسميه في وجوب العمل بحديثه؛ لأنَّ الصحابةَ كلَّهم عدولٌ مرضيُّون ثقاتٌ أثباتٌ، وهذا أمر مجتمعٌ عليه عند أهل العلم بالحديث".
وقال القرطبي في تفسيره (16/299) : "فالصحابة كلُّهم عدولٌ، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخِيرتُه من خلقه بعد أنبيائه ورسله، هذا مذهب أهل السنَّة والذي عليه الجماعة من أئمَّة هذه الأمَّة، وقد ذهبت شِرذمةٌ لا مبالاة بهم إلى أنَّ حالَ الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم!! ".
وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/17) : "واتَّفق أهلُ السنَّة على أنَّ الجميعَ عدولٌ، ولَم يخالف في ذلك إلَاّ شذوذ من المبتدعة".
وقد أشار السيوطي في تدريب الراوي (ص: 400) إلى هؤلاء الشذوذ من المبتدعة، فقال:"وقالت المعتزلة: عدول إلَاّ من قاتل عليًّا".
وقال أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث (ص: 264) : "للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنَّه لا يُسأل عن عدالة أحدٍ منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم على الإطلاق معدَّلين بنصوص الكتاب والسنَّة وإجماع مَن يُعتدُّ به في الإجماع من الأمَّة. . . ".
إلى أن قال: (ص: 265) : "ثمَّ إنَّ الأمَّةَ مجمعةٌ على تعديلِ جميع الصحابة، ومَن لابس الفتنَ منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتدُّ بهم في الإجماع؛ إحساناً للظَّنِّ بهم، ونظراً إلى ما تمهّد لهم من المآثر، وكأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أتاح الإجماعَ على ذلك لكونهم نقلة الشريعة، واللهُ أعلم".
وقال النووي في شرحه على مسلم (15/149) : "ولهذا اتَّفق أهلُ الحقِّ ومن يُعتدُّ به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم، رضي الله عنهم أجمعين".
وقال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص: 46) : "كلُّ حديثٍ اتَّصل إسنادُه بين من رواه وبين النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَم يلزم العمل به إلَاّ بعد ثبوت عدالة
رجاله، ويجب النظرُ في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ عدالَةَ الصحابة ثابتةٌ معلومةٌ بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن" ثمَّ ذكر الآيات والأحاديث في ذلك.
ومِمَّا يوضِّحُ ذلك أنَّ دواوينَ السنَّة صحاحها وجوامعها وسننها ومسانيدها ومعاجمها وغير ذلك مشتملةٌ على الرواية عن الصحابة على الإبهام، وما ثبت بالإسناد إليهم فهو حجَّةٌ عند أهل السنَّة، ولا تؤثِّر جهالتُهم؛ لأنَّ المجهول منهم في حكم المعلوم.
ثمَّ إنَّ قولَ أهل السُّنَّة والجماعة بعدالة الصحابة لا يعنِي عصمتهم؛ لأنَّ العصمةَ عندهم لا تكون إلَاّ للرُّسُل والأنبياء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية (ص: 28) : "وهم مع ذلك (يعنِي أهل السنة والجماعة) لا يعتقدون أنَّ كلَّ واحدٍ من الصحابة معصومٌ عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السَّوابِق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنَّهم يُغفر لهم من السيِّئات ما لا يُغفر لِمَن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهم خير القرون، وأنَّ المُدَّ من أحدِهم إذا تصدَّق به كان أفضلَ من جبل أُحُد ذهباً مِمَّن بعدهم، ثمَّ إذا كان قد صدر عن أحدٍ منهم ذنبٌ فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غُفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحقُّ الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المُحقَّقة فكيف الأمور التي كانوا فيها مُجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور.
ثمَّ القدر الذي يُنكَر من فِعل بعضِهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنِهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنُّصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلمٍ وبصيرةٍ وما منَّ الله عليهم من الفضائل علِمَ يقيناً أنَّهم خيرُ الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنَّهم الصَّفوةُ من قرون هذه الأمَّة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله".
وقول أهل السُّنَّة بتعديل الصحابة، كما أنَّه مستندٌ إلى نصوص من الكتاب والسُّنَّة، فهو مَبنِيٌّ على حُسن الظنِّ بهم، ومَن أحسن الظنَّ بهم فهو مأجورٌ، والقول بخلاف ذلك مَبنِيٌّ على إساءة الظنِّ بهم، ومَن أساء الظنَّ بهم فهو آثمٌ.
5 والواجبُ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تولِّيهم ومَحبَّتُهم والثناءُ عليه بالجميل اللَاّئق بهم، وألَاّ يُذكَروا إلَاّ بخير، قال الطحاوي في عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة:"ونحبُّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حبِّ أحدٍ منهم، ولا نتبرَّأ من أحدٍ منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلَاّ بخيرٍ، وحبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبغضُهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ".
وروى الخطيبُ البغدادي في كتابه الكفاية (ص: 49) بإسناده إلى أبي زرعة الرازي أنَّه قال: "إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى وهم زنادقةٌ".
وقال البغوي في شرح السنة (1/229) : "قال مالك: مَن يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه عليه غِلٌّ فليس له حقٌّ في فَيءِ المسلمين، ثم قرأ قولَه سبحانه وتعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} الآية، وذُكر بين يديه رجلٌ ينتقص أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالكٌ هذه الآية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ، ثم قال: مَن أصبح من الناس في قلبه غِلٌّ على أحدٍ من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية".
وقال الإمام أحمد في كتابه السنة: "ومن السنَّة ذكرُ محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلِّهم أجمعين، والكفّ عن الذي جرى بينهم، فمَن سبَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحداً منهم فهو مبتدعٌ رافضيٌّ، حبُّهم سنَّةٌ والدعاءُ لهم قربةٌ والاقتداءُ بهم وسيلةٌ والأخذُ بآثارهم فضيلةٌ".
وقال أيضاً: "لا يجوز لأحدٍ أن يذكر شيئاً من مساوئهم ولا يطعن على أحدٍ منهم فمَن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبُه وعقوبتُه ليس له أن يعفوَ عنه بل يعاقبُه ثمَّ يستتيبُه فإن تاب قبِلَ منه وإن لَم يتب أعاد عليه العقوبة وخلَّده في الحبس حتى يتوب ويراجع".
وقال ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل (1/87) : "فأمَّا أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم الذين شهدوا الوحيَ والتنزيلَ، وعرفوا التفسيرَ والتأويلَ، وهم الذين اختارهم اللهُ عز وجل لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ونصرتِه وإقامةِ دينه وإظهارِ حقِّه، فرضيهم له صحابةً، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوةً،
فحفظوا عنه صلى الله عليه وسلم ما بلَّغهم عن الله عز وجل، وما سنَّ وشرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدّب، ووعَوْه وأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمرَ الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم منه تفسيرَ الكتاب وتأويله، وتلقّفهم منه واستنباطهم عنه، فشرَّفهم اللهُ عز وجل بما مَنَّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إيَّاهم موضع القدوة"، إلى أن قال:
"فكانوا عدولَ الأمَّة وأئمَّةَ الهدى وحججَ الدِّين ونقلةَ الكتاب والسنة.
وندب الله عز وجل إلى التمسُّك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم، فقال:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية.
ووجدنا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قد حضَّ على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدناه يخاطبُ أصحابَه فيها، منها أن دعا لهم فقال:"نضَّر اللهُ امرءاً سمع مقالتي فحفظها ووعاها حتّى يبلِّغها غيرَه"، وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته:"فليبلِّغ الشّاهدُ منكم الغائبَ"، وقال:"بلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".
ثمَّ تفرَّقت الصحابةُ رضي الله عنهم في النَّواحي والأمصار والثغور، وفي فتوح البلدان والمغازي والإمارة والقضاء والأحكام، فبثَّ كلُّ واحدٍ منهم في ناحيته وبالبلد الذي هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكموا بحكم الله عز وجل وأمضوا الأمور على ما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفتوا فيما سُئلوا عنه مِمَّا حضرهم من جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظائرها من المسائل، وجرّدوا أنفسهم مع تقدمة حسن النيّة والقربة إلى الله تقدّس اسمُه، لتعليم الناس الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام، حتّى قبضهم اللهُ عز وجل رضوانُ الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين".
وقال أبو عثمان الصابوني في كتابه عقيدة السلف وأصحاب الحديث: "ويَرون الكفَّ عمَّا شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمَّن عيباً لهم أو نقصاً فيهم ويرون التَّرحُّم على جميعهم والموالاة لكافَّتهم".
ونقل الحافظ في الفتح (4/365) عن أبي المظفر السمعاني أنَّه قال: "التعرُّضُ إلى جانب الصحابة علامةٌ على خذلان فاعله، بل هو بدعةٌ وضلالةٌ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العقيدة الواسطية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله في قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} ، وطاعة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنَّ أحدَكم أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه) إلى أن قال: ويتبرَّءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبّونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهلَ البيت بقول أو عملٍ، ويُمسكون عمَّا جرى بين الصحابة، ويقولون إنَّ هذه الآثار المرويّة في مساوئهم منها ما هو كذبٌ ومنها ما قد زِيد فيه ونُقص وغُيِّر عن وجهه، والصحيحُ منه هم فيه معذورون إمَّا مجتهدون مصيبون وإمَّا مجتهدون مخطئون".
وقال الحافظ ابن كثير في تفسير قول الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ} الآية قال: "فقد أخبر اللهُ العظيم أنَّه قد رضي عن السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، فيا ويلَ مَن أبغضَهم أو سبَّهم أو أبغضَ أو سبَّ بعضَهم ولا سِيَما سيِّدُ الصحابة بعد الرَّسول صلى الله عليه وسلم وخيرُهم وأفضلُهم أعني الصِّديقَ الأكبرَ والخليفةَ الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، فإنَّ الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضلَ الصحابة، ويبغضونهم ويسبُّونهم عياذاً بالله من ذلك، وهذا يدلُّ على أنَّ عقولَهم معكوسةٌ وقلوبَهم منكوسةٌ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون مَن رضي الله عنهم، وأمَّا أهلُ السنة فإنَّهم يترَضَّوْن عمَّن رضي الله عنه ويسبُّون من سبَّه اللهُ ورسولُه ويوالون من يوالي اللهَ ويعادون من يعادي اللهَ، وهم متَّبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدعون، ولهذا هم حزبُ الله المفلحون وعبادُه المؤمنون".
وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (ص: 469) : "فمن أضلُّ مِمَّن يكون في قلبه غلٌّ على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيِّين، بل قد فضَلهم اليهودُ والنصارى بخصلة، قيل لليهود مَن خيرُ أهل ملَّتكم؟ قالوا: أصحابُ موسى، وقيل للنصارى: من خير أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحابُ عيسى، وقيل للرافضة: من شرُّ أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحابُ محمد، ولم يستثنوا منهم إلَاّ القليل، وفيمن سبّوهم من هو خير مِمَّن استثنوهم بأضعافٍ مضاعفةٍ".
وهذا المعنى جاء في شعر أحد علمائهم بين القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري، وهو كاظم الأزري، فقال:
أهم خير أمة أخرجت للنَّا
…
س هيهات ذاك بل أشقاها
وقفتُ عليه في نقد الأستاذ محمود الملاح لقصيدته الأزرية المطبوع بعنوان: "الرزيّة في القصيدة الأزرية"(ص: 51) .
وما جاء في هذا البيت غايةٌ في الجفاء والخبث، وهو مُصادمٌ للقرآن لقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .
وقال الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري (13/34) : "واتّفق أهلُ السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من حروبٍ ولو عُرف المحقُّ منهم؛ لأنَّهم لَم يقاتلوا في تلك الحروب إلَاّ عن اجتهادٍ وقد عفا اللهُ تعالى عن المخطئ في الاجتهاد بل ثبت أنَّه يؤجر أجراً واحداً وأنَّ المصيبَ يؤجر أجرين".
وقال الشيخ يحيى بن أبي بكر العامري في كتابه الرياض المستطابة في من له روايةٌ في الصحيحين من الصحابة (ص: 311) : "وينبغي لكلِّ صيِّنٍ متديِّنٍ مسامحة الصحابة فيما صدر بينهم من التشاجر والاعتذار عن مخطئهم وطلب المخارج الحسنة لهم وتسلِيم صحة إجماع ما أجمعوا عليه على ما علموه، فهم أعلم بالحال، والحاضرُ يرى ما لا يرى الغائبُ، وطريقةُ العارفين الاعتذارُ عن المعائب، وطريقةُ المنافقين تتبُّعُ المثالب، وإذا كان اللَاّزمُ من طريقة الدين سترَ عورات المسلمين فكيف الظنُّ بصحابة خاتم النبيّين مع اعتبار قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبُّوا أحداً من أصحابي) ، وقوله: (من حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه) هذه طريقةُ صلحاء السلف وما سواها مهاوٍ وتلف".
27 قوله: "والطاعةُ لأئمَّة المسلمين مِن ولاة أمورهم وعلمائهم".
1 قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، أولو الأمر هم العلماء والأمراء، فيُسمع للعلماء ويُطاع فيما يبيِّنونه من أمور الدِّين، ويُسمع للأمراء ويُطاع فيما يأمرون به مِمَّا ليس معصيةً لله عز وجل، وقد رجَّح تفسيرَ وُلاة الأمر بما يشمل العلماء والأمراء القرطبيُّ وابنُ كثير في تفسيريهما، فعزا القرطبيُّ تفسيرَ {وَأُولِي الْأَمْرِ} بالأمراء إلى الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرِهم، وقال أيضاً:"وقال جابر بن عبد الله ومجاهد (أولو الأمر) : أهلُ القرآن والعلم، وهو اختيارُ مالكٍ رحمه الله، ونحوُه قولُ الضحّاك، قال: يعني الفقهاء والعلماء في الدِّين".
وقال ابنُ كثير في تفسيره: "وقال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يعني أهل الفقه والدِّين، وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يعني العلماء".
ويدلُّ لطاعة العلماء قولُ الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، وقولُه:{لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} .
ويدلُّ لطاعة الأمراء قوله صلى الله عليه وسلم: "السمعُ والطاعةُ على المرء المسلم فيما أحبَّ وكرِهَ ما لم يُؤمَر بمعصيةٍ، فإذا أُمر بمعصيةٍ فلا سمعَ ولا طاعة" رواه البخاري (7142) ومسلم (1839) مِن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الطاعةُ في المعروف" رواه البخاري (7145) ومسلم (1840) من حديث عليّ رضي الله عنه.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: "عليك السمعَ والطاعةَ في عُسرِك ويُسرِك، ومَنشَطِك ومَكرَهِك، وأثرَةٍ عليك" رواه مسلم (1836) مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وروى مسلم أيضاً (1837) عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "إنَّ خليلي أوصاني أن أسمعَ وأُطيعَ، وإن كان عبداً مُجَدَّعَ الأطْرافِ". قال سهل بن عبد الله التستري كما في تفسير القرطبي (5/260) : "لا يزالُ النَّاسُ بخيرٍ ما عظَّموا السلطانَ والعلماءَ، فإذا عظَّموا هذين أصلح اللهُ دنياهم وأُخراهم، وإذا استخفُّوا بهذين أفسد دنياهم وأُخراهم".
2 تَتمُّ ولايةُ الأمر بأحد أمورٍ أربعة:
الأول: النَّصُّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو نصَّ على أحدٍ بعينه فإنَّه يكون خليفةً بذلك، وقد قال بعضُ أهل العلم: إنَّ خلافةَ أبي بكر رضي الله عنه تمَّتْ بذلك، والصحيحُ أنَّه لم يأت نصٌّ خاصٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعيين خليفةٍ مِن بعده، لا أبي بكر ولا غيرِه، كما قال عمر رضي الله عنه لمَّا طُلب منه أن يستخلف في مرض موته، قال:"إن أستخلفْ فقد استخلف مَن هو خيرٌ منِّي: أبو بكر، وإن أتركْ فقد ترك مَن هو خيرٌ منِّي: رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري (7218) ومسلم (1823) .
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم نصوصٌ تدلُّ على أنَّ أبا بكر رضي الله عنه هو الأحقُّ والأَوْلى بالأمر مِن بعده، مثل تقديم النَّبيِّ إيّاه في الصلاة بالناس في مرض موته صلى الله عليه وسلم، وأَوْضحُ شيءٍ في ذلك ما رواه البخاري (5666) ومسلم (2387) ، واللَّفظُ لمسلم، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أبا بكرٍ وأخاكِ حتَّى أكتُبَ كتاباً؛ فإنِّي أخاف أن يتمنَّى
مُتَمَنٍّ ويقولَ قائلٌ: أنا أَوْلى، ويأبى اللهُ والمؤمنون إلَاّ أبا بكر".
الثاني: اتِّفاقُ أهلِ الحلِّ والعقد على تعيين خليفةٍ، ويدلُّ له اتِّفاقُ الصّحابةِ على اختيار أبي بكر للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو اتِّفاقٌ مُستندٌ إلى نصوصٍ دالَّةٍ على أنَّه الأحقُّ بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما تقدَّمَت الإشارةُ إليه قريباً.
الثالث: أن يعهد الخليفةُ إلى رجلٍ يلي الخلافةَ مِن بعده، كما حصل مِن استخلاف أبي بكر لعمر رضي الله عنهما، ويدلُّ له أثرُ عمر رضي الله عنه الذي تقدَّم قريباً.
الرابع: أن يتغلَّب على النَّاس رجلٌ بالقهر والغلبة، فيستقرَّ له الأمرُ، كما حصل مِن انتزاعِ أبي العباس السَّفَّاح الخلافةَ مِن بني أُميَّةَ.
وقد ذكر هذه الأمورَ الأربعةَ القرطبيُّ في تفسيره عند تفسير قولِ الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} ، وذكرها شيخُنا الشيخُ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – في كتابه "أضواءُ البيان" عند هذه الآية، قال القرطبي:"فإن تغلَّب مَن له أهليَّةُ الإمامة وأخذها بالقهر والغلَبة، فقد قيل: إنَّ ذلك يكون طريقاً رابعاً، وقد سُئل سهل بن عبد الله التستري: ما يجب علينا لمن غلب على بلادنا وهو إمامٌ؟ قال: تُجيبُه وتُؤدِّي إليه ما يُطالبُك مِن حقِّه، ولا تُنكر فعالَه ولا تفرّ منه، وإذا ائْتمنك على سرٍّ مِن أمر الدِّين لم تُفشِه، وقال ابن خويز منداد: ولو وثب على الأمر مَن يصلُحُ له مِن غير مشورةٍ ولا اختيارٍ وبايع له النَّاسُ تمَّتْ له البيعةُ، والله أعلم".
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم (12/234) في قولِ عبد الله ابن عمرو: "أطِعْه في طاعةِ الله، واعْصِهِ في معصيةِ الله" قال: "فيه دليلٌ
لوجوب طاعةِ المتَوَلّين للإمامة بالقهر مِن غير إجماعٍ ولا عهدٍ".
وقال الحافظ في الفتح (13/122) : "وأمَّا لو تغلَّب عبدٌ حقيقةً بطريقِ الشَّوْكة فإنَّ طاعتَه تجبُ إخماداً للفتنة، ما لم يأمُر بمعصية".
وقال الإمامُ أحمد في اعتقاده كما في السنَّة لِلاّلكائي (2/161) : "ومَن خرج على إمامِ المسلمين وقد كان النَّاسُ اجتمعوا عليه وأقرُّوا له بالخلافة بأيِّ وجهٍ كان: بالرِّضا أو بالغلَبة، فقد شقَّ هذا الخارجُ عصا المسلمين وخالف الآثارَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارجُ عليه مات مِيتةً جاهليَّة".
وقال الحافظ في الفتح (13/7) في شرح حديث: "مَن رأى مِن أميره شيئاً يكرهُه فليصبر عليه؛ فإنَّه مَن فارق الجماعةَ شِبراً فمات، إلَاّ مات مِيتةً جاهليَّة" قال: "قال ابن بطَّال: في الحديث حجَّةٌ في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاءُ على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب والجهادِ معه، وأنَّ طاعتَه خيرٌ مِن الخروج عليه؛ لِما في ذلك مِن حَقنِ الدِّماء وتسكينِ الدَّهماء، وحجتُّهم هذا الخبرُ وغيرُه مِمَّا يساعده، ولم يستثنوا مِن ذلك إلَاّ إذا وقع من السلطان الكفرُ الصَّريحُ، فلا تجوزُ طاعتُه في ذلك، بل تجب مجاهدَتُه لِمَن قدر عليها كما في الحديث الذي بعده".
يشيرُ بذلك إلى حديث عبادةَ بن الصَّامت رضي الله عنه: "بايعَنَا على السَّمع والطَّاعة في مَنشَطِنا ومَكرَهِنا وعُسرِنا ويُسرِنا، وأثرَةٍ علينا، وأن لا نُنازع الأمرَ أهلَه، إلَاّ أن ترَوا كفراً بَواحاً عندكم مِن الله فيه بُرْهانٌ".
3 حقُّ وُلاة الأمر على الرَّعيَّة النُّصحُ لهم، ويكون النُّصحُ بالسمع والطَّاعة لهم في المعروف، والدّعاءِ لهم، وترْكِ الخروج عليهم ولو كانوا جائرين، ومِن أدلَّة النُّصح لهم قولُه صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصيحةُ، قلنا: لِمَن؟
قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمَّة المسلمين وعامَّتِهم" رواه مسلم (95) .
وروى الإمامُ مالك في الموطأ (2/990) عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ اللهَ يرضى لكم ثلاثاً، ويسخطُ لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا مَن ولَاّه اللهُ أمرَكم، ويسخطُ لكم قيلَ وقالَ، وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال". ورواه أيضاً الإمامُ أحمد في مسنده (8799) ، وهو حديثٌ صحيحٌ.
وفي مسند الإمام أحمد (21590) بإسنادٍ صحيحٍ عن زيد بن ثابت رضي الله عنه في حديثٍ طويلٍ، وفيه:"ثلاثُ خصال لا يغِلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم أبداً: إخلاصُ العمل لله، ومناصحةُ وُلاة الأمر، ولزومُ الجماعة؛ فإنَّ دعوَتَهم تُحيطُ مِن ورائهم".
قال ابن القيِّم في مفتاح دار السعادة (ص: 79) في معنى "لا يغِلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم": "أي لا يحمل الغِلَّ ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة؛ فإنَّها تنفي الغِلَّ والغِشَّ وفسادَ القلب وسخائمَه" إلى أن قال: "وقولُه (ومناصحةُ أئمّة المسلمين) : هذا أيضاً منافٍ للغلِّ والغشِّ؛ فإنَّ النَّصيحةَ لا تجامعُ الغلَّ؛ إذ هي ضدّه، فمَن نصح الأئمَّةَ والأمَّةَ فقد برِئَ مِن الغلّ.
وقولُه: (ولزومُ جماعتهم) : هذا أيضاً مِمَّا يطهِّرُ القلبَ مِن الغلِّ والغشِّ؛ فإنَّ صاحبَه للزومه جماعةَ المسلمين يحبُّ لهم ما يحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسرُّه ما يسرُّهم".
وقال النووي في شرحه على مسلم (2/38) : "وأمَّا النَّصيحةُ لأئمَّة المسلمين فمعاونَتُهم على الحقِّ وطاعتُهم فيه، وأَمْرُهم به، وتنبيهُهم
وتذكيرُهم برِفقٍ ولطفٍ، وإعلامُهم بما غفلوا عنه ولم يبلغْهم مِن حقوق المسلمين، وتركُ الخروج عليهم، وتألُّفُ النَّاس لطاعتهم، قال الخطّابي رحمه الله: ومِن النَّصيحة لهم الصلاةُ خلفَهم، والجهادُ معهم، وأداءُ الصّدقات إليهم، وتركُ الخروج بالسّيف عليهم إذا ظهر منهم حيفٌ أو سوءُ عِشرةٍ، وأن لا يُغرُّوا بالثّناء الكاذب عليهم، وأن يُدعى لهم بالصّلاح".
وقال ابن حجر في الفتح (1/138) : "والنَّصيحةُ لأئمَّة المسلمين إعانَتُهم على ما حمِّلوا القيامَ به، وتنبيهُهم عند الغفلة، وسدُّ خلَّتهم عند الهفوة، وجمعُ الكلمة عليهم، وردُّ القلوب النَّافرة إليهم، ومِن أعظم نصيحتهم دفعُهم عن الظلم بالتي هي أحسن، ومِن جملة أئمَّة المسلمين أئمَّةُ الاجتهاد، وتقع النَّصيحةُ لهم ببَثِّ علومِهم، ونشرِ مناقبِهم، وتحسينِ الظّنِّ بهم".
ثمَّ إنَّ النَّصيحةَ لوُلاة الأمور وغيرِهم تكون سرًّا وبرفقٍ ولينٍ، ويدلُّ لذلك قولُ الله عز وجل لموسى وهارون:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ، وعن عائشةَ رضي الله عنها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الرِّفقَ لا يكون في شيءٍ إلَاّ زانَه، ولا يُنْزَع من شيءٍ إلَاّ شانَه" رواه مسلم (2594) .
وفي صحيح البخاري (3267) ومسلم (2989) ، واللفظُ لمسلم، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قيل لأسامة: "ألا تدخل على عثمان فتكلِّمَه؟ فقال: أتُرَوْن أَنِّي لا أُكلِّمُه إلَاّ أُسمعُكم؟ والله! لقد كلَّمْتُه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتحَ أمراً لا أُحبُّ أن أكون أوَّلَ مَن فتحَه" الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/51) : "أيْ كلَّمْتُه فيما أشرْتم
إليه، لكن على سبيل المصلحة والأدب في السرِّ بغير أن يكون في كلامي ما يثير فتنةً أو نحوَها".
وعن عياض بن غنم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أراد أن ينصح السلطانَ بأمرٍ فلا يُبدِ له علانيةً، ولكن لِيأخذْ بيدِه فيخلو به، فإن قَبِل منه فذاك، وإلَاّ كان قد أدَّى الذي عليه له" رواه أحمد (15333) والحاكم (3/290) وابن أبي عاصم في السنَّة (1096 1098)، قال الألبانيُّ في تخريجه (2/523) :"فالحديثُ صحيحٌ بمجموع طرقه".
وإذا خلا النُّصحُ من الرِّفق واللِّين وكان علانيةً فإنَّه يضرُّ ولا ينفعُ، ومِن المعلوم أنَّ أيَّ إنسانٍ إذا كان عنده نقصٌ يحبُّ أن يُنصح برفقٍ ولينٍ، وأن يكون ذلك سرًّا، فعليه أن يعامل النَّاسَ بمثل ما يحبُّ أن يعاملوه به، ففي صحيح مسلم (1844) في حديثٍ طويلٍ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"فمَن أحبَّ أن يُزحْزح عن النَّار ويُدخل الجنَّةَ فلتأته منيَّتُه وهو يؤمنُ بالله واليوم الآخِر، وليأتِ إلى النَّاس الذي يحبُّ أن يُؤتى إليه".
4 مِنَ النُّصح للوُلاة السمعُ والطاعةُ في المعروف، فإذا أَمروا بمعصيةٍ فلا سمعَ ولا طاعة في ذلك، ويدلُّ لذلك قولُ الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، وجاء في السنَّة أحاديثُ كثيرةٌ في السمع والطاعة لولاة الأمور، وقد مرَّ منها قريباً حديثُ عبد الله ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي ذر، وعبادة ابن الصامت.
وروى النَّسائي (4168) بإسنادٍ صحيح عن جرير رضي الله عنه قال: بايعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم على السَّمع والطَّاعة، وأن أنصح لكلِّ مسلمٍ".
وفي صحيح مسلم (1847) في حديثٍ طويلٍ عن حذيفةَ رضي الله عنه قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تسمعُ وتُطيعُ للأمير، وإنْ ضرب ظهرك وأخذَ مالك، فاسمعْ وأطعْ".
وروى البخاري (7137) ومسلم (1835) واللفظُ لمسلم، عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:" مَن أطاعني فقد أطاع اللهَ، ومَن يعصِني فقد عصى اللهَ، ومَن يُطع الأميرَ فقد أطاعني، ومَن يعصِ الأميرَ فقد عصاني".
وروى مسلم في صحيحه (1846) عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: "سأل سلمةُ بن يزيد الجعفي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبيَّ الله! أرأيتَ إن قامتْ علينا أُمراءُ يسألونا حقَّهم ويمنعونا حقَّنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا؛ فإنَّما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتُم".
وفي تفسير القرطبي (5/259) أنَّ سهلَ بن عبد الله التستري قال: "إذا نهى السلطانُ العالمَ أن يُفتِيَ فليس له أن يُفتي، فإن أفتى فهو عاصٍ، وإنْ كان أميراً جائراً"، ويدلُّ لذلك حديثُ عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقصُّ إلَاّ أميرٌ أو مأمورٌ أو مختالٌ" رواه الإمام أحمد (24005) وأبو داود (3665) وهو حديثٌ صحيحٌ بطرقه، وانظر تعليقَ الألباني على المشكاة على حديث رقم (240) .
وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يُفتي بالتَّمتُّع في الحجِّ، فبلغه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه يأمر بالإفراد، فقال:"يا أيها الناس! مَن كنَّا أفتيناه فُتيا فلْيتَّئِدْ؛ فإنَّ أميرَ المؤمنين قادمٌ عليكم، فبه فائْتمُّوا"، أخرجه مسلم في صحيحه (1221) .
وفي سنن البيهقي (3/144) عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "كنَّا مع عبد الله بن مسعود بجمع، فلمَّا دخل مسجد منى قال: كم صلّى أميرُ
المؤمنين؟ قالوا: أربعاً، فصلّى أربعاً، قال: فقلنا: ألم تُحدِّثْنا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صلّى ركعتين، وأبا بكر صلّى ركعتين، فقال: بلى! وأنا أُحدِّثكموها الآن، ولكنَّ عثمان كان إماماً فما أخالفه، والخلافُ شرٌّ".
وهو عند أبي داود (1960) ، ورواه البيهقي مِن طريقه (3/143) ، وفي إسناده مَن أُبهم، وعند البيهقي من طريقٍ أخرى فيها مَن أُبهم، وفيها:"قال: إنِّي أكرهُ الخلافَ". وإتمامُ الصلاة في السّفر خلافُ الأَوْلى، قد فعله ابنُ مسعود تركاً لمخالفة عثمان.
وفي صحيح البخاري (956) ومسلم (889) في قصَّة بَدْء مرْوان بالخُطبة يومَ العيد قبل الصلاة، وإنكارِ أبي سعيد الخدري عليه ذلك، ذكر الحافظ في الفتح (2/450) مِن فوائد الحديث:"جوازُ عمل العالم بخلاف الأَوْلى إذا لم يوافقْه الحاكمُ على الأَوْلى؛ لأنَّ أبا سعيد حضر الخطبةَ ولم ينصرفْ، فيُستدلُّ به على أنَّ البداءة بالصلاة فيها ليس بشرطٍ في صحَّتِها، والله أعلم".
وقال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/117) : "وأمَّا السمعُ والطاعةُ لوُلاة أمور المسلمين، ففيها سعادةُ الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشِهم، وبها يستعينون على إظهار طاعة ربِّهم".
5 مِن النُّصح للوُلاة الدعاءُ لهم وعدمُ الدعاء عليهم، وهي طريقةُ أهل السنَّة والجماعة، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعيَّة (ص129) :"ولهذا كان السَّلَفُ كالفُضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوةٌ مجابةٌ لدعونا بها للسلطان".
وقال الشيخ أبو محمد الحسن البربهاري في كتابه شرح السنَّة (ص116) : "وإذا رأيتَ الرَّجلَ يدعو على السلطان فاعلم أنَّه صاحبُ هوى، وإذا
رأيتَ الرَّجلَ يدعو للسلطان بالصّلاح فاعلم أنَّه صاحبُ سنَّةٍ إن شاء الله، يقول فضيل بن عياض: لو كانت لي دعوةٌ ما جعلتُها إلَاّ في السلطان".
ثمَّ أسند إلى فضيل قولَه: "لو أنَّ لي دعوةً مستجابةً ما جعلتُها إلَاّ في السلطان، قيل له: يا أبا عليّ! فسِّرْ لنا هذا، قال: إذا جعلتُها في نفسي لم تعْدُنِي، وإذا جعلتُها في السلطان صلح، فصلح بصلاحه العبادُ والبلاد، فأُمرنا أن ندعوَ لهم بالصَّلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم، وإن ظلموا وإن جاروا؛ لأنَّ ظلمَهم وجورَهم على أنفسهم، وصلاحَهم لأنفسهم وللمسلمين".
وقال الطحاوي في عقيدة أهل السنَّة والجماعة: "ولا نرى الخروجَ على أئمَّتِنا ووُلاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا نَنْزِعُ يداً مِن طاعتهم، ونرى طاعتَهم مِن طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصيةٍ، وندعو لهم بالصّلاح والمعافاة". العقيدة مع شرحها لابن أبي العزّ (ص540) .
وقال الشيخ أبو إسماعيل الصابوني في كتابه عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص92 93) : "ويرى أصحاب الحديث الجمعةَ والعيدين وغيرهما مِن الصلوات خلف كلِّ إمامٍ مسلمٍ، برًّا كان أو فاجرًا، ويرون جهادَ الكفرة معهم وإن كانوا جوَرَةً فجَرةً، ويرون الدعاءَ لهم بالإصلاح والتوفيق والصّلاح وبسط العدل في الرَّعيَّة".
6 إذا حصل مِن وُلاة الأمر فسقٌ أو جَورٌ فلا يجوز الخروجُ عليهم؛ لأنَّه يترتَّب على الخروج عليهم مِنَ الفوضى والفساد أضعاف ما يحصل مِن الجور، ولا يجوز الخروجُ عليهم إلَاّ إذا حصل منهم كفرٌ واضحٌ بيِّنٌ، وقد دلَّ على ذلك سنَّةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وعملُ السلف الصالح، ومِن ذلك ما
رواه البخاري (7055) ومسلم (1709) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السَّمع والطَّاعة في مَنشَطِنا ومَكرَهِنا وعُسرِنا ويُسرِنا، وأثرَةٍ علينا، وأن لا نُنازع الأمرَ أهلَه، إلَاّ أن ترَوا كفراً بَواحاً عندكم مِن الله فيه بُرْهانٌ".
وروى مسلم في صحيحه (1855) عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيارُ أئمَّتكم الذين تحبُّونهم ويحبّونكم، وتُصلُّون عليهم ويُصلُّون عليكم، وشِرارُ أئمَّتكم الذين تُبغضونهم ويُبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذُهم عند ذلك؟ قال: لا! ما أقاموا فيكم الصلاةَ، لا! ما أقاموا فيكم الصلاةَ، ألا مَن وليَ عليه والٍ، فرآه يأتِي شيئاً مِن معصيةٍ، فليكره ما يأتِي مِن معصية الله، ولا ينزعنَّ يداً مِن طاعةٍ".
وروى مسلم (1854) عن أمّ سلمة رضي الله عنها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّه يُستعمل عليكم أُمراءُ، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئَ، ومَن أنكر فقد سلِم، ولكن مَن رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله! ألا نقاتلُهم؟ قال: لا! ما صلّوا".
وروى البخاري (7054) ومسلم (1849) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن رأى مِن أميره شيئاً يكرهُه فليصبر عليه؛ فإنَّه مَن فارق الجماعةَ شبرًا فمات إلَاّ مات مِيتةً جاهليّة".
قال الحافظ في شرحه (13/7) : "قال ابن أبي جمرة: المرادُ بالمفارقة السعيُ في حلّ عقد البيعة التي حصلتْ لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكنَّى عنها بمقدار الشِّبر؛ لأنَّ الأخذَ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حقٍّ".
وقال الإمام أحمد في اعتقاده كما في السنَّة للالكائي (1/161) : "ولا يحلُّ قتالُ السلطان ولا الخروجُ عليه لأحدٍ مِن النَّاس، فمن فعل ذلك فهو مبتدعٌ على غير السنَّة والطريق".
ومرَّ قريباً قولُ الطحاوي: "ولا نرى الخروجَ على أئمَّتِنا ووُلاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا نَنْزِعُ يداً مِن طاعتهم، ونرى طاعتَهم مِن طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصيةٍ، وندعو لهم بالصّلاح والمعافاة".
وقال الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص93) : "ولا يرون الخروجَ عليهم بالسيف، وإن رأوا منهم العدولَ عن العدل إلى الجور والحيف".
ومِن قواعد الشريعة ارتكابُ أخفِّ الضررين في سبيل التخلُّص مِن أشدِّهما، قال ابنُ القيّم في كتاب إعلامُ الموقِّعين (3/15) :"إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم شرع لأمَّته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره مِن المعروف ما يحبُّه اللهُ ورسولُه، فإذا كان إنكارُ المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنَّه لا يسوغ إنكارُه، وإن كان اللهُ يُبغضُه ويمقتُ أهلَه، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنَّه أساسُ كلِّ شرٍّ وفتنةٍ إلى آخر الدهر".
وما أحسنَ وأجملَ قولَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "تكون أمورٌ مشتبهاتٌ، فعليكم بالتؤدة؛ فإنَّ أحدَكم أن يكون تابعاً في الخير خيرٌ مِن أن يكون رأساً في الشرِّ" رواه البيهقي في الشعب (7/297) .
28 قوله: "واتِّباعُ السلف الصّالح واقتفاءُ آثارهم والاستغفارُ لهم".
الخيرُ كلُّ الخير والسعادةُ كلُّ السعادة في اتِّباع ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ومَن تبعهم بإحسان، وقد أخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن افتراق هذه الأمَّة إلى ثلاثٍ وسبعين فِرقةٍ، كلُّها في النَّار إلَاّ واحدة، قيل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: "هي الجماعة"، وقد مرَّ ذلك، ومرَّ أيضاً قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية:". . . فإنَّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تَمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة".
ومرَّ أيضاً قولُ مالكٍ رحمه الله: "لن يصلُح آخرُ هذه الأمَّة إلَاّ بما صلح به أوَّلُها".
وقال الإمام أحمد في أوّل اعتقاده كما في السنَّة للالكائي (1/156) : "أصولُ السنَّة عندنا التمسُّكُ بما كان عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداءُ بهم، وتركُ البدع، وكلُّ بدعةٍ فهي ضلالةٌ، وتركُ الخصومات والجلوسِ مع أصحاب الأهواء، وتركُ المراء والجدال والخصومات في الدِّين".
وقد أثنى اللهُ على مَن جاء بعد المهاجرين والأنصار، مستغفراً لهم سائلاً اللهَ ألَاّ يجعل في قلبه غِلاًّ للمؤمنين، فقال:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
قالت عائشة رضي الله عنها فيمَن نال مِن بعض الصحابة: "أُمروا أن يستغفروا لأصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فسبُّوهم" أخرجه مسلم (3022) .
وقال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/97) : "مَن كان منكم متأسِّياً فليتأسَّ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّهم كانوا أبرَّ هذه الأمَّة قلوباً، وأعمقَها علماً، وأقلَّها تكلُّفاً، وأقومَها هدياً، وأحسنَها حالاً، قوماً اختارهم الله تعالى لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فاعرفوا لهم فضلَهم، واتَّبعوهم في آثارهم؛ فإنَّهم كانوا على الهدي المستقيم".
وقال أيضاً كما في سنن الدارمي (211) : "اتَّبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفيتم".
وفي سنن الدارمي أيضاً (141) عن عثمان بن حاضر، قال:"دخلتُ على ابن عباس، فقلت: أَوْصني، فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتَّبع ولا تبتدع! ".
وفيه أيضاً (142) عن ابن سيرين قال: "كانوا يرون أنَّه على الطريق ما كان على الأثر".
وفيه أيضاً (144) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "تعلَّموا العلمَ قبل أن يُقبض، وقبضُه أن يذهب أهلُه، ألا وإيّاكم والتَّنطُّع والتَّعمُّق والبدع، وعليكم بالعتيق".
والمراد بالعتيق ما دلَّ عليه دليلٌ، وكان عليه السلف، ولم يكن محدَثاً.
وفي كتاب السنَّة لمحمد بن نصر المروزي (80) أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إنَّكم اليوم على الفطرة، وإنَّكم ستحدثون ويُحدث لكم، فإذا رأيتم محدَثةً فعليكم بالهَدي الأوَّل".
وفيه أيضاً (87) أنَّ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "يا معشر القرّاء! اسلكوا الطريق؛ فوالله! لئن سلكتموه لقد سبقتم سبقاً بيِّناً، وإن أخذتم يميناً وشِمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً".
وفيه أيضاً (100) عن أبي الدرداء قال: "اقتصادٌ في سنّة خيرٌ مِن اجتهادٍ في بدعةٍ، إنَّك إنْ تتَّبعْ خيرٌ مِن أنْ تبتدع، ولن تخطئَ الطريقَ ما اتَّبعْتَ الأثرَ".
وفيه أيضاً (94) : "أنَّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى النَّاس أنَّه لا رَأْيَ لأحدٍ مع سنَّةٍ سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وفيه (110) عن عروة بن الزبير أنَّه قال: "السنن! السنن! فإنَّ السننَ قوامُ الدِّين".
ولقد أحسن مَن قال:
دِينُ النَّبِيِّ محمَّد أخبارُ
…
نِعم المطيَّةُ للفتَى آثارُ
لا ترْغبنَّ عن الحديث وأهله
…
فالرَّأْيُ ليلٌ والحديثُ نَهَارُ
ولرُبَّما جهل الفَتَى أثرَ الهُدى
…
والشَّمسُ بازغةٌ لَها أنوارُ
وقال آخر وأحسن فيما قال:
الفقهُ في الدِّين بالآثار مقترنٌ
…
فاشغل زمانك في فقهٍ وفي أثرِ
فالشغلُ بالفقه والآثار مرتفعٌ
…
بقاصد الله فوق الشَّمس والقمرِ
29 قوله: "وتركُ المراء والجدال في الدِّين".
طريقةُ أهل السنَّة والجماعة اتِّباعُ الكتاب والسنَّة، والاستسلامُ والانقيادُ لنصوصهما، بخلاف غيرهم مِمَّن يعوِّل على العقول، ويتَّهم النُّقولَ، ويجادل بالباطل ليدحض به الحقَّ.
وقد جاءت الأدلَّةُ من الكتاب والسنَّة في التحذير مِن ذلك، قال الله عز وجل:{أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} ، وقال:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} ، وقال:{وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} ،، وقال:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} ، وقال:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} .
وروى البخاري (2457) ومسلم (2668) عن عائشة رضي الله عنها عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أبغضَ الرِّجال إلى الله الألدُّ الخَصِم".
قال الحافظ في شرحه (8/188) : "أي الشديد اللّدد الكثيرُ الخصومة".
وذكر في (13/181) أنَّ المرادَ به الكافر أو مَن خاصم بباطل مِن المسلمين.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما ضلَّ قومٌ بعد هدى كانوا عليه إلَاّ أوتوا الجدلَ، ثمَّ تلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} " رواه الترمذي (3253)، وقال:"هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".
وروى مسلم في صحيحه (2666) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "هجَّرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله يُعرف في وجهه
الغضبُ، فقال: إنَّما هلك مَن كان قبلكم باختلافهم في الكتاب".
وروى ابن ماجه (254) عن جابر بن عبد الله أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعلَّموا العلمَ لتباهوا به العلماء، ولا لتُماروا به السفهاء، ولا تخيَّروا به المجالس، فمَن فعل ذلك فالنَّار النَّار".
قال ابن أبي العزّ الحنفي في شرح قول الطحاوي (ص427) : "ولا نُماري في دين الله"، قال:"معناه لا نخاصمُ أهلَ الحقّ بإلقاءِ شبُهات أهلِ الأهواء عليهم؛ الْتماساً لامترائهم ومَيْلِهم؛ لأنَّه في معنى الدعاءِ إلى الباطل وتلبيسِ الحقّ وإفسادِ دين الإسلام".
ومِن طريقة أهل الزَيغ والضلال الجدالُ بالباطل واتِّباعُ ما تشابه مِن القرآن، بخلاف طريقةِ أهلِ الحقّ، الذين يؤمنون بالمُحكَم والمتشابه ويردُّون المتشابه إلى المُحكَم، قال الله عز وجل:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
وروى البخاري (4547) ومسلم (2665) عن عائشة أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تلا قولَه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية، فقال:"إذا رأيتم الذين يتَّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى اللهُ، فاحذَرُوهم".
وفي سنن الدارمي (406) عن أبي جعفر محمد بن عليّ الباقر قال: "لا تُجالسوا أصحابَ الخصومات؛ فإنَّهم الذين يخوضون في آيات الله".
وفي جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/134) عن مالكٍ قال: "المِراءُ يُقسِّي القلبَ ويُورث الضِّغن".
وقال عمر بن عبد العزيز كما جامع بيان العلم وفضله (2/93) : "مَن جعل دينَه غرَضاً للخصومات أكثرَ التَّنقُّلَ".
وأمَّا المجادلةُ بالتي هي أحسن لإظهار الحقّ وردِّ الباطل فذلك حقٌّ، وقد أمر اللهُ به في قوله:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وقال:{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} .
وقد عقد ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله باباً مِن (ص92 99) لِما تُكرَه فيه المناظرةُ والجدالُ والمِراءُ، وباباً من (ص99 108) لإثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجَّة، أورد فيهما جملةً مِن النُّصوص والآثار في ذلك.
30 قوله: "وتركُ ما أحدثه المُحدِثون، وصلَّى اللهُ على سيِّدِنا محمَّد نبيِّه، وعلى آلِه وأزواجِه وذُرِّيَّتِه، وسلَّم تسليماً كثيراً".
لَمَّا بيَّن ابنُ أبي زيد – رحمه الله – أنَّ طريقةَ أهل السنَّة والجماعة اتِّباعُ السَّلف الصّالح واقتفاءُ آثارهم والاستغفارُ لهم، وتركُ المِراء والجدالِ في الدِّين، عقَّب ذلك ببيان أنَّ طريقتَهم تركُ ما أحدثه المُحدِثون، أيْ ابتدعه المبتدعون في دين الله، وقد جاءتْ أدلَّةٌ في الكتاب والسنَّة وآثار السّلف الصّالح في التّحذير مِن البدع والمحدثات، قال اللهُ عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وقال:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتَّفق على صحّته عن عائشة رضي الله عنها:"مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وفي لفظ لمسلم:"مَن عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ".
وقال صلى الله عليه وسلم في آخر حديث العرباض بن سارية وقد مرَّ ذكرُه في الفائدة الأولى: "وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة".
ومرَّ أيضاً حديثُ جابرٍ في صحيح مسلم (767) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبة الجُمعة: "أمَّا بعد، فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهَدي هَديُ محمَّد، وشرَّ الأمور محدَثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة".
ومرَّ أيضاً في آخر الحديث الطويل عن أنس: "فمَن رغِب عن سنَّتي فليس منِّي".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ حجب التَّوبةَ عن كلِّ صاحب بدعةٍ حتى يدَعَ بدعتَه"، قال المنذري:"رواه الطبراني وإسناده حسن" كما في الترغيب والترهيب (1/65) ، وصحّحه الألباني في صحيح الترغيب (52) .
ومرَّ في الفقرة الأولى مِن فقرات هذا الشرح حديثُ قصّة الصحابي الذي ذبح أضحيتَه قبل صلاة العيد، وقال له صلى الله عليه وسلم:"شاتُك شاةُ لحمٍ"، وأثرُ ابن مسعود رضي الله عنه، الذي أنكر فيه على الذين يُسبِّحون بالحصى، وقال:"فعُدوا سيِّئاتكم فأنا ضامنٌ أن لا يَضيعَ من حسناتكم شيءٌ".
وفي كتاب السنّة لمحمد بن نصر المروزي (82) عن عبد الله بن عمر قال: "كلُّ بدعة ضلالة وإن رآها النّاسُ حسنة".
وذكر الشاطبي في الاعتصام (1/28) أنَّ ابن الماجشون قال: سمعتُ مالكاً يقول: "مَن ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة، فقد زعم أنَّ محمّداً خان الرسالة؛ لأنَّ اللهَ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً".
وفي حلية الأولياء لأبي نعيم (10/244) قال أبو عثمان النيسابوري: "مَن أمَّر السنَّةَ على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومَن أمَّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة".
وقال سهل بن عبد الله التستري كما في فتح الباري (13/290) : "ما أحدث أحدٌ في العلم شيئاً إلَاّ سُئل عنه يوم القيامة، فإن وافق السنَّة سلِمَ، وإلَاّ فلا".
وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/95) : "أجمع أهلُ الفقه والآثار مِن جميع الأمصار أنَّ أهلَ الكلام أهلُ بدَع وزيغ، ولا يُعدُّون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنَّما العلماء أهلُ الأثر والتفقُّه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز".
وما أحسن ما قاله الإمام بن الإمام عبد الله بن أبي داود السجستاني في مطلع منظومته الحائية:
تمسَّكْ بحبل الله واتَّبِع الهُدى
…
ولا تكُ بدعيًّا لعلَّك تُفلحُ
ودِنْ بكتاب الله والسنن التي
…
أتتْ عن رسول الله تنجو وتربحُ
ومِن أعظم ما أحدثه المُحدِثون وابتدعه المبتدعون ما زعمه أحدُ النوابت في هذا العصر الذي مرَّ ذكرُه في بحثَيْ الحوض والصحابة مِن أنَّ الصحبةَ الشرعية مقصورةٌ على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية، وأنَّ كلَّ مَن أسلم وهاجر بعد الحديبية أو لم يهاجر مِمَّن لقيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّه ليس مِن أصحابه، وأنَّ صحبَتَهم كصحبة المنافقين والكفّار وفي مقدِّمَتهم العباسُ بن عبد المطّلب وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وهي بدعةٌ ضلالةٌ لم يُسبق إليها خلال القرون الماضية، وفي المثل "كم ترك الأوَّلُ للآخر" فكم ترك الأوَّلُ مِن المبتدعة للآخر منهم، فقد تركوا له هذه البدعة، فظفر بها، وعليه وِزرُها ومثلُ أوزار مَن ابتُلي بها من بعده.
وقد ختم ابنُ أبي زيد رحمه الله مقدِّمةَ رسالته بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي طريقةٌ متَّبعةٌ، سلكها بعضُ المؤلِّفين، فختموا مؤلفاتهم بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الفراغُ مِن تأليف هذا الشرح في صباح الخميس، الموافق للثامن مِن شهر جمادى الأولى مِن عام 1423هـ.
والحمدُ لله أوّلاً وآخراً على نِعمه الظاهرة والباطنة، وصلَّى اللهُ وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا وإمامنا محمد ومَن سلك سبيله واهتدى بِهَديه إلى يوم الدِّين.