المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر من اسمه محمد - قلائد الجمان في فرائد شعراء هذا الزمان - جـ ٥

[ابن الشعار]

الفصل: ‌ذكر من اسمه محمد

‌ذكر من اسمه محمد

[612]

محمد بن محمد بن أبي حنيفة محمد، أبو عبد الله بن أبي القاسم البغدادي المعروف بابن الفرضي المؤدب

أجرى ذكره الصاحب أبو البركات المستوفي في تاريخه- رضي الله عنه وقال: ورد أبو عبد الله إربل في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة؛ ومدح والدي أبا الفتح أحمد بن المبارك المستوفي- رحمه الله تعالى- بقصيدة، وقف والدي عليها، فوجدها قد جمعت إلى حسن الإصابة، جودة الكتابة؛ فنقله إليه لتأديبي عليه، فأقام مدةً طويلةً بها إلى أن ورد إربل الملكان؛ الملك المغيث فتح الدين عمر، والملك القاهر بهاء الدين الخضر ابنا السلطان الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب- رضي الله عنه بكرة الاثنين ثاني عشر جمادي الأولى سنة خمس وتسعين وخمسمائة، فاتصل بهما، وتأدبا عليه.

وسافر في حبتهما إلى الديار المصرية؛ مكنوفاً بحسن الإكرام، محفوفاً بضروب الإنعام، له من الملك المغيث عطاء لا يغب نواله، وسخاء واعتناء يتوالى عليه أفضاله، ومكانة كثر معها توقيره، ومنزلة جرت على اختباره فيها أموره؛ إلى ان ركب معه البحر، فهبت ريح سوداء منتنة، مرض منها جماعة وماتوا، منهم الملك القاهر بهاء الدين الخضر بن الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب، وأبو عبد الله محمد بن محمد المذكور، فدفن بالقاهرة، وذلك ف سنة اثنتين وستمائة، أخبرني بصحته ولده محمد وغيره- رحمه الله.

وكان لطيف المحاضرة، ظريف المعاشرة، له خلائق كالشهد عذوبة، وشمائل كالماء رطوبة، شاب المجون بالتنسك، ولم يسلك في الخلاعة طرق التهتك، وكان

ص: 77

دينًا مستورًا، معروفًا بين الأكابر مذكورًا:[من الطويل]

إذا جد عند الجد أرضاك جده

وذو باطلٍ إن شب ألهاك باطله

قطع مدةً من شيبته في مصاحبة الشطار، وأنفق جملةً من عمره في معاشرة الفتاك والدعار، وحبس في سجن بغدد على ما أخبرنا به.

وكان صادقًا مدة سبع عشرة سنة، مقيمًا في منزل ضنك موحشة أقطاره، ومحبس نزل مظلم ليه ونهاره، لا يرى السماء إلا مريعة من جميع نواحيه، ولا يزيد إلا وحشة كثرة ساكنيه، ينسخ المصاحف؛ فكتب على ما اخبرني نيفا وستين مصحفًا لطيفًا في جملة ما كان يورقه.

حدثني- رحمه الله تعالى- أنه كتب في الحبس مصحفًا لطيفًا أقام على كتابته مدةً، وضمن ألا يكتب فيه حرفًا مغلقًا ولا مطموسًا، ووفى بذلك، وأهداه إلى الوزير عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة، يتوصل به إلى إخراجه؛ فقال: يجب على من كتب هذا الكتاب الكريم على هذا القدر، قطع يده، هلا كتبه مقدار حمل تعظيمًا له؟ أو كما قال.

فلما أطلق من اعتقاله، وخلص من ضيق وثاقه وعقاله، وصل إلى الموصل، ثم فصل عنها على إربل؛ فكان من حاله ما تقدم ذكره، وسأعقب هذا الفصل بجملةٍ من شعره، التي هي محصوله من عمره؛ مما يستدل به على سلامة قريحته، ويعتبر به سماحة فكرته وكان يعمل على طبعه في النظم، فيقع له الحسن المنقح، والعامي المطرح؛ وكان مولعًا باستعمال الألفاظ العامية؛ فمن ذلك ما أنشدنيه لنفسه؛ أنشدني الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي؛ قال: أنشدني أستاذي ومؤدبي أبو عبد الله لنفسه: [من مجزوء الخفيف]

من لصب متيم

قد حناه حنينه

ص: 78

أنحلته أشواقه

واستهلت جفونه

كلما ناحت الحما

ثم زادت شجونه

وإذا الليل جنه

واعتراه جنونه

ظل يبكي بأدمع

هاطلاتٍ شؤونه

وأنشدني؛ قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه من أبيات: [من الرمل]

إنما كان ولوعي طمعًا

والردى لا شك عقبي الطمع

واحتقرت العشق حتى قادني

بزمامي فأراني مصرعي

إن من أسكنهم في كبدي

وانطوت صونًا عليهم أضلعي

عرفوا موضعهم من مهجتي

فأضاعوا بالتجافي في موضعي

أنا أفدي قمرًا ودعته

وهو بالتقبيل منه ممنعي

ملني بعد الوفا من كان لي

وبحكمي خاتمًا في إصبعي

لو رعى حفظ ودادي لم يضع

ما رأى في خلوتي من ورعي

حين ضمتنا ليالٍ بربى

إربلٍ لا باللوى والأجرع

وأنشدني؛ قال: أنشدني مؤدبي لنفسه [من الرمل]

كلما هيجني ذكركم

صحت من وجدي بكم واحزني

وإذا ما رمت عنكم سلوة

بكرت أشواقكم تلعب بي

ذهب العمر بعيشٍ كدر

نكد لم أقض فيه أربي

فإلى من أشتكي ما نابني

حين غابوا وإلى من مهربي

وزفيري بالأسى في صعد

ودموعي بالبكا في صبب

ما هناني مذ تولت عيسهم

واستقلوا مطمعي أو مشربي

فإذا قلت تقضت شقوتي

خانني صبري وزادت كربي

وأنشدني؛ قال: حدثني أبو عبد الله، أنه رآها في المنام فانتبه وقد حفظها:[من الوافر]

ص: 79

بال محمد أرجو نجاتي

غدًا من شر أهوال القيامة

ومن ربي أرجي العفو عما

أتيت إلى البرية من ظلامه

فإن غفر الإله عظيم ذنبي

فأجدر أن أهنى بالسلامة

وإن لم يعف عن ظلمي لنفسي

عضضت يدي من طوال الندامة

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنسه: [من المنسرح]

بوجنة كالشقيق تنحسر الـ

ـأعين عن حسن وردهما الأحمر

حاذر أن تجتنى فحصنها

في سالفيه بعارضٍ أخضر

وأنشدني، قال: أنشدني من جملة أبيات مديحًا: [من البسيط]

وقل له عبدك الداعي المنيب ومن

يأوي إليك إذا ما نابت النوب

فأنت من معشرٍ إن سولموا صفحوا

أو حوربوا حربوا أو سوئلوا وهبوا

يحمون أعراضهم بالمرهفات ولا

يحمون ما لأيادي الحمد ينتهب

فالبر أنفس مدخورٍ لمدخر

في يوم لا نسب يغني ولا سبب

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه: [من الرمل]

أيها الحادي بهم قف وقفة

فعسى تحيي بها من عشقا

قو ولو طرفة عينٍ ربما

ردت النظرة فيها رمقًا

ومنها في المديح:

أسد يقدمه الرعب متى

ما غزا جيشًا تولى فرقا

لو رأى عمرو بن معدي كرب

بأسه خر لديه صعقا

كلما أسهبت في المدح له

قال من يسمع قولي: صدقا

[613]

محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي، أبو الفضل الطبرستاني البكري الرازي المعروف بابن خطيب الري.

ص: 80

كان جده الحسين خطيب الري، وجده الحسن ولد بمكة، وكان تاجرًا مثريًا، سكن الكعبة الحرام أربعين سنة؛ وكان من ولد أبي بكر الصديق- رضي الله عنه.

ورحل أبو الفضل من الري في بدء أمره إلى أذربيجان، وكان بها رجل يقال له: مجد الدين الجيلي، عالمًا بالحلم، فقرأ عليه شيئًا من العلوم الأولية؛ ثم فتح الله عله فتحًا كبيرًا، فأخذ من الكتب، وفرغ من عنده.

ثم رحل إلى خوارزم، ثم إلى ما وراء النهر، ثم رجع إلى خوارزم إلى البلاد الخراسانية ومنها إلى الباميان، وهي بلدة في الغور، وكان صاحبها بهاء الدين

ص: 81

سام بن محمد بن الحسين بن سام؛ فأقام عنده سنين كثيرة، وكسب من جهته أمولًا غزيرة.

وهو الإمام الفقيه المتكلم، الأصولي الحكيم العلامة المتفنن في كل نوع يأخذ فيه، المنقطع القرين في سمو رتبته، وقيامه بالعلوم؛ وكان ينتحل الفقه على مذهب الإمام الشافعي- رضي الله عنه ويتكلم على رأي أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، وبرع في علمي الأصول والخلاف والمنطق والطب وسائر أجزاء الحكمة.

وصنف كتبًا جمة، اشتهرت في الدنيا في ذلك كله نذكر ما تيسر منها؛ كتاب تفسير القرآن الكبير؛ سماه "مفاتيح الغيب" سوى تفسير الفاتحة، أفرد لها تصنيفًا اثنا عشر مجلدًا بخطه الدقيق. وكتاب "التفسير الصغير"، وكتاب "نهاية العقول في علم الأصول"، وكتاب "المحصول في علم الأصول"، وكتاب "المحصل في الأصول"، أيضًا، وكتاب "الملخص في الحكمة"، وكتاب "شرح الحكمة"، وكتاب "الحكمة المشرقية"، وكتاب "لباب الإشارات"، وكتاب "المطالب العالية في الحكمة"، وكتاب "شرح الإشارات"، وكتاب "الأربعين في أصول الدين"، وكتاب "المعالم في الأصولين"، وكتاب "شرح كليات القانون"، وكتاب "الطب الكبير"، وكتاب "مناقب الإمام الشافعي"رضي الله عنه وكتاب تفسير "شرح أسماء الله الحسنى"، وكتاب "أسرار التنزيل [وأنوار التأويل" مجلد لم يتم]، و"تفسير القرآن"، وكتاب "السر المكتوم"، وكتاب "الطرفة في الجدل"، وكتاب "شرح سقط الزند"، وكتاب "منتخب دنكلوشا"، وكتاب "مباحث الوجود والعدم"، وكتاب "مباحث الجدل"، وكتاب "جواب الغيلاني"، وكتاب "الجامع الكبير الملكي في الطب"، وكتاب "النبض"، وكتاب "شرح القانون" مجلد لم يتم، وكتاب "التشريح من الرأس إلى الحلق" لم يتم، وكتاب "الأشربة"، وكتاب "الآيات البينات"، وكتاب "منتخب المحول في أصول الفقه"، وكتاب "تفسير

ص: 82

الفاتحة مجلد"، وكتاب "تفسير سورة البقرة" مجلد على الوجه العقلي لا النقلي، وكتاب "شرح الوجيز للغزالي" لم يتم، حصل منه العبادات والنكاح في ثلاث مجلدات بخطه. وكتاب "الطريقة العلائية في الخلاف" أربع مجلدات، وكتاب "لوامع البينات في شرح أسماء الله والصفات" مجلد، وكتاب "في إبطال القياس" لم يتم، وكتاب "شرح نهج البلاغة" لم يتم، وكتاب "فضائل الصحابة الراشدين"، وكتاب "القضاء والقدر"، وكاب "رسالة الحدو" مجلد، وكتاب "تعجيز الفلاسفة بالفارسية" وكتاب "البراهين الربانية" بالفارسية، وكتاب "اللطائف الغياثية"، وكتاب "شفاء العي من الخلاف"، وكتاب "الخلق والبعث"، وكتاب "الخمس في أصول الدين" بالفارسية، وكتاب "عمدة النظار ونبذة الأفكار"، وكتاب "الأخلاق"، وكتاب "الرسالة الصاحبية"، وكتاب "الرسالة المجدية"، وكتاب "عصمة الأنبياء"، وكتاب "في الرمل"، وكتاب "شرح مصادرات أقليدس"، وكتاب "في الهندسة"، وكتاب "رسالة نفثة المصدور"، وكتاب "رسالة في ذم الدنيا"، وكتاب "الاختيارات العلائية في الاختبارات السماوية"، وكتاب "أحكام الأحكام"، وكتاب "الرياض المونقة في الملل والنحل"، وكتاب "رسالة في النفس"، ورسائل في كل فن من علم الرياضي، والمنطق والحكمة وغير ذلك.

وكان من جلالة القدر، وعظم الذكر، وفخامة الهيبة بحيث لا يراجع في كلامه، ولا ينبس أحد بين يديه لإعظامه، ما هو مشهور متعارف، وكان مع تفرده بهذه العلوم واستيلائه عليها، له اليد الطولى في الأدب والعربية والتصريف، وسار ذكره في شرق الأرض وغربها، وقصده الناس من كل صوبٍ وناحية، وانتشرت تلامذته في الأقطار، وتخرج عليه عالم كثير لا يحصى.

وكان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه لا يعلو صوت أحدٍ منهم على صوته، إعظامًا له واحترامًا، وكان مهيبًا في أصحابه، شديد الوقار ذا حشمةٍ وافرة، وقدرٍ كبيرٍ عند السلاطين.

وكان السلطان خوارزم شاه علاء الدين أبو شجاع محمد بن تكش بن أيل أرسلان بن تتش بن محمد نوشتكين، مع عظم سلطانه وسعة ملكه يقصد زيارته،

ص: 83

ويتواضع لديه ويجله ويبالغ في كرامته.

وكانت ولادته سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وتوفي بهراة يوم عيد الفطر سنة ست وستمائة- نور الله ضريحه وبرد صفيحه- فلقد كان آية من آيات الدنيا، ومحاسن الزمان.

أنشدني أبو المعالي عبد الجبار بن محسن بن مزني بن عبد الجبار الجيلي الهمامي؛ قال: قرئ على شيخنا أبي الفضل محمد بن عر الرازي لنفسه، وأنا أسمع:[من الطويل]

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

وكم قد رأينا من رجال ودولة

فبادوا جميعًا مسرعين وزالوا

وكم من جبالٍ قد علت شرفاتها

رجالٌ فزالوا والجبال جبال

وقال أيضًا: وهي القصيدة التي لقبها بالهادية: [من الكامل]

يا طالب التوحيد والإيمان

أبشر بكل كرامةٍ وأمان

واعلم بأن أجل أبواب الهدى

تقرير دين الله بالبرهان

وأعز خلق الله ناصر دينه

بالعقل والأخبار والقرآن

فإلهنا بعلو عز جلاله

متقدس عن .... الإيمان

فردٌ قديمٌ دائمٌ لصفاته

من غير وهم تعاقب الأزمان

حارت عقول الخلق في سبحاته

وعلا على الأفهام والأذهان

خضعت له الأرواح والأشباح في

تسبيحها وتخر للأذقان

العرش في عرصات عز جلاله

متبلد كالواله الحيران

والجسم في درجات نور كماله

مستحقر مثل الخيال الفاني

ص: 84

لو كان عرشيًا لكان مركبًا

ولكان كالإنسان في الجثمان

لو جاء قيوم السماء بذاته

يوم القيامة كان في الحدثان

لو كان ينزل من أعالي عرشه

لإفاضة الإحسان والغفران

لتبدلت أوصافه في ذاته

ولكان ذلك غاية النقصان

من كان هذا دينه فكأنه

قد فاق أهل الشرك في الخذلان

أو كان هذا منتهى توحيده

فعليه محض لعائن الرحمن

ومحمد خير البرية جاءنا

بشريعةٍ تهدي إلى الرضوان

فمن المحال محبه في دينه

بالسخف والتشبيه والبهتان

لولا التغير والتناهي لم يكن

بالنجم ما يرميه بالحدثان

يا من توحد في وجوب وجوده

وعلا على الأشياء لا بمكان

يا حي يا قيوم يا محيي الورى

يا دائم المعروف والإحسان

يا منتهى أملي وغاية رغبتي

وعليك معتمدي بكل أوان

أدعوك دعوة خاشعٍ متخوف

متلهف من كثرة العصيان

لا تشغلني عن جلالك لحظة

بشواغل الأفلاك والأركان

لا تحجبني عن جلالك لمحة

في لاحق الأحياز والأحيان

أنت الذي خلق الخلائق كلها

بدلالة الحدثان في الأعيان

أنت الذي خلق الخلائق كلها

بشهادة الإحكام والإتقان

أنت المريد لخيرنا ولشرنا

في طوري الوجدان والفقدان

أنت المغيث لنا وكاشف ضرنا

ومجيز جاهلنا من النيران

وأنا الضعيف المستجير بفضلكم

عند البلى في ملبس الأكفان

قد هد أوصالي وأضعف قوتي

طول الزمان وكثرة الأحزان

وسئمت ما قد كنت أطلب قربه

ومللت طول مكائد الأقران

ما تم ستون الحياة وليتني

عانيته في موقف البطلان

إني أرى الدنيا مقام متاعب

ومصائب موصولة الدوران

وأرى سعادة أهلها كالماء في الـ

ـسيلان أو كالثلج في الذوبان

ورأيت أرباب الضلال تعاونوا

في الإثم والتلبيس والعدوان

ص: 85

وعهدت جمهور الخلائق آثروا

نقض العهود ونكثة الإيمان

فطفقت أطلب سلوة لي حلوة

مع كثرة الإمعان في الأعوان

فعجزت عن وجدانها حتى بدا

أن لا سبيل إذًا إلى الوجدان

أتحفت سلطان الورى بقصيدة

تربي على الياقوت والمرجان

سلطان أرض الله ناصر شرعه

فيها وأهل الزيغ والطغيان

لا زال ظل جلاله متمددًا

أبدًا مع التمكين والإمكان

وكلامنا في الدين أصبح واضحًا

يبيض مثل الشمس في اللمعان

يا رب إني كيف أقدر قدركم

مع أنني من عنصر الإنسان

لكنني ألزمت عقلي مدحكم

في كل ما يسمو إليه لساني

إن كان حقًا كان من توفيقكم

أو كان مختلًا فمن شيطاني

وله في الثناء على الله- سبحانه وتعالى: [من الطويل]

تتمة أبواب السعادات للخلق

بذكر جلال الواحد الأحد الحق

مدبر كل الممكنات بأسرها

ومبدعها بالعدل والقصد والصدق

تعالى عن الأذهان سلطان عزه

وجلت معاليه عن التحت والفوق

أجل جلال الله عن شبه خلقه

وأنصر هذا في الغرب والشرق

إله عظيم العدل والفضل والعلا

هو المرشد المغوي هو المسعد المشقي

رجاء جميع الخلق في جود وجوده

ورهبتهم من قهره لا من الخرق

فمن كان في عرفانه كان في الهدى

ومن كان في عصيانه كان في المحق

ومن ظن أن العدل يدرك كنهه

فقد صار عرفًا في الضلالة والحمق

ولما رأينا كل جسمٍ مركبًا

علمناه محتاجًا إلى الموجد المبقي

فمبدئ كل الممكنات منزه

عن الشكل والمقدار والجمع والفرق

ولما وجدنا جسمنا متركبًا

من العظم والغضروف والجلد والعرق

وشحما لمرآنا وعظمًا لسمعنا

ولحمًا سحيقًا للبنان وللنطق

قضى العقل منه انه متولد

بتدبير خلاقٍ يدبر بالرفق

ومما يقوي كونه متعاليًا

عن الطبع والإيجاب والغلق والفلق

تفاوت أوصاف الذوات بأسرها

من الوضع والمقدار والخلق والخلق

ص: 86

ومما يقوي كونه موجب

تفاوت حال الحلق في الرتق والفتق

ومما يجلي حلمه واقتداره

تخالف وصف البحر في السكر والبثق

ومما يزيل الريب عن صدق ديننا

عجائب حال الحمل في منتهى الطلق

براهين دين الله جم كثيرة

.... وفي الجري والبعد والسحق

ومن دان للدين الحنيفي عقله

يصير مدى مسراه في ليله طلق

ومن عجب الأقدار دولة جاهل

ومكث لبيب في الكدورة والرنق

وكم قد رأينا جاهلًا ملك الورى

وكم قد رأينا كاملًا ضيق الرزق

يجد فلا يجدي ويسعى فلا يرى

ويبعث يوم الحشر بالأعين الزرق

وكم أحمق قد ساد بالحمق عالمًا

وكم من بلاءٍ جر بالعقل والحذق

عجائب آيات تعاظم وصفها

على الحكماء اللسن والألسن الذلق

ولاح بأن الكل من حكم حاكمٍ

سرى حكمه في الطول والعرض والعمق

إلهي لساني في ثنائك قائم

وموقف نفسي موقف الذل والرق

ولكن ذلًا عند بابك عزة

وشبهة ذاك الرق خيرٌ من العتق

حرارة حب خالطت حبة الحشا

أبى الحب فيه أن يلين لمسترقي

وقال أيضًا: [من البسيط]

حكم جرى قبل خلق الخلق في الأزل

فليس ينقض بالتدبير والحيل

وإنما هي أرزاق مقدرة

تدنو وتبعد لا بالجد والكسل

وله يذكر ما كان في خلقه من الشراسة والحدة: [من البسيط]

أشكو إلى الله من خلق يعنيني

ويمحق النور من عقلي ومن ديني

حرارة في مزاج الروح محكمة

تبدو فتنمو فتغويني وترديني

وقال أيضًا: [من البسيط]

أرى معالم هذا العالم الفاني

ممزوجة بمخافاتٍ وأحزان

أحواله مثل أحوالٍ مفرغةٍ

وشره في البرايا دائم داني

وقوله أيضًا: [من السريع]

أيا صفيًا حبه واجب

على ذوي الفضل وأصحابه

ص: 87

وعلمه قد بان برهانه

في مجلس الخامل والنابه

قد جاءك المذنب مستغفرًا

عن سيء القول وأسبابه

فارجع إلى لطفك فيما مضى

حتى يتم اللطف في بابه

وله أيضًا: [من الطويل]

إليك إله الحق وجهي ووجهتي

وأنت الذي أدعوك في السر والجهر

وأنت غياثي عند كل ملمةٍ

وأنت معاذي في حياتي وفي قبري

[614]

محمد بن إبراهيم بن أحمد بن طاهر بن محمد بن طاهر بن أحمد بن أبي الفوارس، أبو عبد الله الخبري الفارسي.

ولد بخبر- وهي مدينة بفارس- ونشأ بها؛ ثم شخص إلى الديار المصرية، ولم يزل ساكنًا لها إلى أن مات يوم الخميس آخر النهار السابع عشر من ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وستمائة، ودفن بزاويته المبنية بمعبد ذي النون المصري الزاهد- رضي الله عنه وكان عمره مائة وأربع عشرة سنة.

وكان من علماء زمانه، وأبرعهم في علم الحقيقة، والطريقة، والتوحيد، والشريعة، أوحد وقته في التصوف، والزهادة، والاجتهاد؛ علمًا وحالًا وطريقةً بحيث لم ير مثله في علو حاله، وصحة الحكم بالفراسة، وقوة الهيبة وشدتها، وصنف

ص: 88

تصانيف كثيرةً في معاني الصوفية، وأحوالهم السنية.

وكان فقيهًا شافعي المذهب؛ أصوليًا متكلمًا، عالمًا بأخبار القوم، من أولياء الله الصالحين، وعباده العارفين، صاحب فضائل مسطورة، ومناقب مشهورة، وكرامات ظاهرة، وأحوال باهرة، أسند الحديث وراءه عن أبي طاهر احمد بن محمد بن أحمد السلفي، وأبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر الدمشقي وغيرهما.

من تصانيفه: كتاب: نسك الأبرار وسر الإسكار"، جمع فيه بين علمي الحقيقة والطريقة وعلم الشريعة في الرقائق. وكتاب "دلالة المستبهج إلى معالم المعارف"، ورسالة المستبهج إلى عوالم العوارف- تتضمن أحوال الصوفية- وكتاب "مطية النقل وعطية العقل" في علم الأصول. وكتاب "الإعانة على دفع الإغانة" في الفرق من الفقراء والصوفية والمتصوفة. وكتاب "جمحة المنها من لمحة المها"- يذكر فيه كيفية العباد من أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم وإلى غير ذلك من المصنفات.

أنشدني أبو الثناء محمود بن علي بن إبراهيم الخوارزمي؛ قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الفارسي لنفسه: [من الوافر]

إذا القمري فوق الأيك غنى

أعان على الهوى صبًا معنى

يذكره زمانًا بالتصابي

إذا ما لحن الحان حنا

ألا من ذا يعلل قلب صب

يجن جوى إذا ما الليل جنا

وإن أبصرت مغنى الحي قف بي

على مغنى لقلبي فيه مغنى

لئن أسقى الهوى العشاق كأسًا

فإني قد سقاني منه دنا

ومن سكري نسيت اسمي ونعتي

ولكن بالهوى أسمى وأكنى

قبح باسم الحبيب ونح بشجو

على صب بوصلٍ ما تهنا

وقل لي هل يعود زمان وصلٍ

بتلك الدار إذ كانوا وكنا

وأنشدني؛ قال: أنشدني أيضًا لنفسه: [من مجزوء الرمل]

سقني طاب الصبوح

ما ترى النجم يلوح

سقني كاسات راحٍ

هي للأرواح روح

ص: 89

عن لي باسم حبيبي

فلعلي أستريح

نحن قوم في سبيل الـ

ـحب نغدو ونروح

نحن قوم نكتم الأسـ

ـرار والدمع يبوح

[615]

محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن إبراهيم، أبو جعفر الرازي الفقيه الحنفي المدرس إمام أصحاب أبي حنيفة في وقته.

نزل الموصل وتولى بها التدريس، ولم يزل بها مقيمًا، إلى أن توفي في شهر رجب سنة خمس عشرة وستمائة، ودفن ظاهر البلد بمقبرة المعافى بن عمران- رضي الله عنهما.

وكان أوحد عصره في العلوم، حسن القيام بها، والافتتان فيها، وكان في الفقه والخلاف والأصول والكلام ذا تقدم، وله حظ في الترسل والكتابة، وقرض الشعر- عربيه وفارسيه- والنحو واللغة وغير ذلك في علومٍ أخر؛ كالطب والمنطق والفلسفة، والموسيقى، والهيأة، والهندسة، والنجوم، ثم ينضاف إلى ذلك علم الفرائض والحساب والتفسير والقراءات.

له من التصانيف؛ كتاب في الفرائض حسن، وكتاب في مذهب الإمام أبي حنيفة- رضي الله عنه وكتاب "النوري في تهذيب مختصر القدر"- عمله لأتابك نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود- رضي الله عنه وكتاب على نحو التذكرة لابن حمدون.

أنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الكريم الحنفي- رحمه الله تعالى- قال: أنشدنا شيخنا الإمام أبو جعفر محمد بن إبراهيم الحنفي لنفسي، من قصيدة مدح به أتابك نور الدين أرسلان شاه بن مسعود:[من المنسرح]

عز اصطباري وضاقت الحيل

أني يداوى الملال والملل

ص: 90

لا جفون سيوفها المقل

وراشق باللحاط ينتضل

ما أسهرت مقلتي على ظمأ

بها إلى الغمض أعين نجل

كلا ولا شفني المخلخل والـ

ـمعصم فعمًا والفاحم الرجل

لكن دهرًا معاندًا حنقًا

لوى حقوقي لأمه الهبل

ألزم حظي حطيطة وسمت

بعزي الشامخات والقلل

أدى معان الآلاء محتفلًا

لا ناقةٌ فيه لي ولا جمل

لي همةٌ دونها مدى زحلٌ

ففيم هزلًا يسف بي الأمل

ومنها في المدح:

يا دهر قسرًا فناصري الملك الـ

ـشهم الغيور الحلاحل البطل

وأنشدني الإمام الفاضل قوام الدين أبو القاسم عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم الحنفي؛ قال: أنشدني والدي الإمام أبو جعفر لنفسه، ووصى أن تكتب على قره:[من الطويل]

عجب لمن قد جاء يحدى بماله

ولم يدخر ذخرًا جميلًا لهالها

جزعت لمن واريت عنك ولو بدا

لعينك ما واريت عنها لهالها

[616]

محمد بن أحمد بن جبير بن محمد بن جبيرٍ، أبو الحسين الكناني البلنسي الوزير الكاتب.

ص: 91

وزر لصاحب الأندلس الأمير أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن.

وكان شاعرًا مجيدًا، عالمًا بليغًا، ذا أدبٍ كثير، وفضلٍ شهير، له قصائد مسمطة، ورسائل مدونة، وشعر فصيح، وترسل مليح، وموشحات بارعة، وكتابة رائعة.

رحل إلى الإسكندرية وسكنها، إلى أن توفي بها يوم الخميس سلخ شعبان سنة خمس عشرة وستمائة.

وأنشدني الفقيه أبو موسى عيسى بن سلامة الإسكندري المقري باربل سنة خمس وعشرين وستمائة؛ قال: أنشدني الوزير أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير لنفسه في الحجاج: [من الرمل]

يا وفود الله فزتم بالمنى

فهنيئًا لكم أهل منى

قد عرفنا عرفات معكم

فلهذا برح الشوق بنا

نحن بالمغرب نجري ذكركم

فغروب الدمع تجري هينًا

أنتم الأحباب نشكو بعدكم

هل شكوتم بعدنا من بعدنا

علنا نلقى خيالًا منكم

بلذيذ الشوق وهنا علنا

لاح برق موهنًا من أرضكم

فلعمري ما هنا العيش هنا

صدع الليل وميضًا وهنا

فأبينا أن نذوق الوسنا

كم جنى الشوق علينا من أسى

عاد في مرضاتكم حلو الجنى

ص: 92

ولكم بالخيف من قلب شج

لم يزل خوف النوى يسلو الضنى

ما ارتضى صالحه الصدر له

سكنًا منذ به قد سكنا

فنناديه على شخط النوى

من لنا يومًا بقلبٍ ملنا

سر بنا يا حادي العيس عسى

أن تلاقي بوم جمع سربنا

ما عنى داعي النوى لما دعا

غير صب شفه برح العنا

شم لنا البرق إذا هب وقل

جمع الله بجمع شملنا

وأنشدني الشيخ الإمام الفاضل أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي الدمشقي القرطبي بدمشق؛ أنشدني الوزير الأجل أبو الحسين بن جبير لنفسه: [من الوافر]

أراك من الحياة على اغترار

ومالك بالإنابة من بدار

وتطمع في البقاء وكيف تبقى؟

وما الدنيا لساكنها بدار

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه: [من الوافر]

ينيل المرء تبصرة وذكرى

إذا ما ابيض فواده وشابا

وما يرجى لتوبته قبول

إذا مزج الرياء بها وشابا

وأنشدني أبو الوليد إسماعيل بن عبد الله بن إسماعيل البياسي، بمحروسة حلب في سنة أربع وثلاثين وستمائة؛ قال: أنشدني أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير بالإسكندرية، بمسجده بحارة رزبة لنفسه:[من الكامل]

يا زائرًا لم يقض أن ألقاه

دهر يعوق عن الذي أهواه

ضن الزمان وقد سمحت فلم يكن

من زرته للحين في مغناه

يا ويحه لعظيم أنس وفاته

إن لم يذب كمدًا فما أقساه

لما وجدءت فناء داري عاطرًا

أيقنت انك قد وطئت ثراه

وطلبت للتقبيل فيه موضعًا

فإذا الحيا المنهل قد عفاه

لم يبق من أثرٍ لوطئك في الثرى

فجعلت ألثم حيث تم شذاه

حتى الغمام يعوق عما أبتغي

ياما أكابده وما ألقاه

وأنشدني الشيخ تاج الدين أبو الحسن محمد بن علي بن أبي بكر القرطبي

ص: 93

الدمشقي، بها سنة أربعين وستمائة، قال: أنشدني الوزير الأجل العالم أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير لنفسه بدمشق سنة خمس وثمانين وخمسمائة: [من المتقارب]

صحبت الزمان وقابلته

بصبرٍ جميلٍ إذا الخطب نابا

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه: [من المجتث]

أقصر عن الغي كم ذا

تدعى لرشدٍ وتابى

لا يسلم العبد إلا

إن استقام وتابا

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه: [من مجزوء الخفيف]

قل إذا جئت مجلسًا

وسمعت المزاح مه؟

واجتنب كل موردٍ

فيه تلقى المزاحمة

وأنشدني؛ قال أنشدني له: [من المتقارب]

خلعت العذار بشيب العذار

فما يقبل اليوم منك اعتذار

وقالوا المشيب وقار الفتى

وهذا المشيب فأين الوقار؟

جلا صحبه عنك ليل الشباب

فشمسك مؤذنة باصفرار

أراك صحبت حياة الغرور

وتسحب جهلًا ذيول اغترار

ألست ترى كدرًا صفوها

ونجمك قد مال يبتغي انكدار

وكيف تنام على غرة

وسيف المنية ماضي الغرار

فلو كنت تحذر صرف الردى

إذًا لنفى النوم عنك الحذار

عبرت مراحل عمر الأشد

ولست أرى لك فيها اعتبار

وجرت بها عن طريق الهدى

ضلالًا وتغدو غدًا أن تجار

أتاك الرحيل فشمر له

فإما إلى جنةٍ أو لنار!

وكيف تقر بدنياك عينًا

ولم تدر أين يكون القرار؟

وأنشدني؛ قال: أنشدني أيضًا من شعره: [من الوافر]

بني الإسلام جدوا في الجهاد

بسمر الخط والبيض الحداد

وبيعوها فربكم اشتراها

نفوسًا تربحوها في المعاد

ص: 94

عدوكم بعقركم مقيم

ليستولي على تلك البلاد

وبيت القدس يفرق كل يوم

حذارًا أن يعود إلى الأعادي

ودين الله يلحظه اعتناءٌ

بجفن قد تكحل بالسهاد

فسلوا المشرفية واستقلوا

بها فوق المسومة الجياد

فليس يفوز بالحسنى سوى من

تدرع بالجلادة للجلاد

ومن نثره ما كتبه إلى الشام متشوقًا شيخ الشيوخ بن حمويه جواب كتاب صدر منه إليه:

"صدرت المخاطبة العزيزة الفلانية، حرس الله سناءه وسناه، ويسر له كل أملٍ وسناه، وعرفه بعد طول العمر حسن خواتم منساه، بما يصدر عن مثله، ويصيق بفضله، والفضل لا ينكر على أهله، وعلم الله أني إليه .... بالأشواق، وكيف لا ومن اق طيب شيمة الكريمة بم يشبع من ذواق، وحصل من محبته ويبقيه، ومن كل مكروهٍ يقيه، وإلى كل معلوة يرقيه.

وكتب إليه أيضًا شافعًا في رجلٍ من فقراء أهل بلده، أن ينزل في موضع يرتزق منه، وقد كان يكرر القول فيه، كان ق تقدم وعده الكريم:

"لشيخ الصالح فلان أن ينزل مع الصوفية- نفع الله ببركتهم- أو يرتب له إمامة مسجد في هذا الشهر الشريف، فإذا كان قد تيسر ذلك فهو يسأل إنجازه، وإن تعسر ذلك لسوء حظه، فليس له سوى بابه المقصود، ولا يرد عند ظمئه سوى بحر كرمه المورود، فقد أسمع لسان الحال عنه- أدام الله سؤدده-[من الطويل]

إلينا اقصدوا يا معشر الركب إننا

نرى العار أن نمنى بغير وفود

فإن كان قد تيسر ذلك فهو يسأل إنجازه، وهذه ليال عظم الله بركاتها عليه، وساق أجر الداعين فيها إليه، لا يحتمل الصبر على إفراط الضرورة البشرية، واللوازم الجثمانية سيما مع العيال، وفرط الإقلال، وما كتبها إلا وقد تحققت أنه انتهى إلى حالة لا يستطيع معها صبرًا، وتمسك بذيل المراحم الشيخية، وقد طفق لسانه /ب 66/

ص: 95

يقرأ: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرًا} ".

قال الشيخ: وكتب إليه أيضًا من الإسكندرية متشوقًا، أو شافعًا، ومقصودي ذكر فضله، ونشر ذكره، لا وصف ما وصفني، ثناء على حسن ظنه، لا على حقيقة الحال؛ صدرها بهذه الأبيات وهي له:[من الطويل]

سلام كأزهار الربيع نضارة

وحسنا على شيخ الشيوخ الذي صفا

ولو لم يعقني العذر عن قصد ربعه

سعيد كما يسعى الملبي إلى الصفا

ولكن عداني عنه دهر مكدر

ومن ذا الذي واتاه في دهره الصفا

أصدرت هذه اللمعة والشوق إلى خدمته مستعر اللهب، وأدعيتي في ضمن ذلك متتابعة الأوراد والنوب، ولست أرى الإغراق، في إيضاح ولائي الذي راق، لتحققي إحاطة المعرفة الكريمة بعقائد أولى الوفاق، والله سبحانه، يوفقني لشكر ما منحته من جميل ولائه ووداده الذي خلصا لي بغير استحقاق.

وهذه التحية تصل على يد فلان، وهو أعز أهلي وأخلائي، ولاؤه للشيخ السيد فلان كولائي، وما فتئ منذ حظي باجتلاء محاسنه الباهرة، واختبار أخلاقه الطاهرة، من قلادة صحف الثناء المحبر، والإطناب فيما برز فيه على مادح كتب وعبر. وقد قصد الخدمة، ويا ليتني كنت معه! ، وأحفظني الأيام بما أخطت مرآه ومسمعه؛ على أني وإن كنت .... ، فلست من درك الأمل قانطًا:[من الطويل]

(فقد يجمع الله الشتيتين بعد ما

يظنان كل الظن ألا تلاقيا)

وقد قصد ذلك الربع المعمور، والرباط الذي هو قبلة لمجد المشهور، وكفلت له عني السيادة بأن يتلقى بالترحيب والتأهيل، ويمد بالمساعدة المفضية به إلى درك التأميل".

ص: 96

[617]

محمد بن أحمد بن سليمان، أبو عبد الله الزهري الأندلسي، من أهل إشبيلية.

قال أبو عبد الله الدبيثي في مذيله: "قدم الزهري صادرًا عن مكة في سنة تسعين وخمسمائة، وأقام بها مدة وسمع من شيوخ ذلك الوقت؛ كأبي القاسم ذاكر بن كامل الخفاف، وأبي محمد عبد الخالق بن عبد الوهاب ابن الصابوني، وأبي الرضا أحمد بن طاهر، وأبي الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب، وجماعة من أصحاب أي علي ابن المهدي، وأبي الغنائم ابن المهتدي، وأبي طالب بن يوسف، وأبي القاسم بن الحصين ومن بعدهم، وسمع معنا.

وكان فيه فضل، وله معرفة بالأدب، ويقول الشعر.

وسافر عن بغداد، وأقام بأصبهان مدة، وسمع من أصحاب أبي علي الحسن بن أحمد الحداد، ومن بعده.

ثم انتقل إلى الكرج واستوطنها، فهي اليوم قبر له؛ وقد حدث عنه، وسمع منه أهل البلد، ومن ورد إليه".

وكان رجلًا فاضلًا، وسمع وكتب بخطه الكثير، وحصل في بلاد الجبل، واستوطن بروجرد، وتأهل بها، وصنف تصانيف في الأدب منها: كتاب "شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي"، وكتاب "شرح اليميني لأبي النصر العتبي"، وكتاب

ص: 97

في البلاغة، وغير ذلك.

وأقام هناك إلى أن دخل التتر- لعنهم الله تعالى- البلاد، فقتلوه في جملة من قتلوا وذلك في شهر رجب سنة سبع عشرة وستمائة.

أنشدني أبو عبد الله محمد بن سعيد الواسطي قال: كتبت إلى أبي عبد الله الزهري، حين قدم بغداد بهذه الأبيات:[من الطويل]

إذا عد أهل الفضل والعلم والخبر

فحي هلا بالحافظ العالم الزهري

فتى جمع الآداب والنسك والتقى

وفاق بني الأيام في النظم والنثر

وأتقن علم النقل عنء كل حافظ

وأسن ما يرويه عن ثقة حبر

لقد شرفت بغداد إذ حل أرضها

وتاهت به فخرًا على الأنجم الزهر

وزاد به فخرًا فتل ظل خدنه

ولاذ به يومًا وإن قل في الدهر

قال: فكتب إلي عن هذه الأبيات جوابًا على وزنها وقافيتها: [من الطويل]

أيا فاضلاً فوق السماكين قدره

إذا عد أهل الفضل والعلم والخبر

أتتني من أبكار فكرك خرد

متى ضل سار في الدجى فبها يسري

نظمت بها الدر النيثر فأصبحت

لها قيمة أعلى وأغلى من الدر

فأنت إمامٌ للجميع مبرز

تفوق جميع الناس في النظم والنثر

تقدس إذ شرفته عبد نعمة

بحي هلا بالحافظ العالم الزهري

لأنك ميمون الطليعة ماجدٌ

وحبرٌ نبيلٌ عالمٌ أيما حبر

لقد شرفت كل البقاع بقربكم

وسدتم بني الأيام في البدو والحضر

ص: 98

[618]

محمد بن بختيار بن عبد الله البغدادي، أبو عبد الله.

نزل البصرة، فتولى بها سنة خمس وستمائة، وكان يصنع الشعر المقارب على البديهة، إلا أنه لم يشهر به.

أنشدني أبو القاسم أحمد بن علي بن بختيار البغدادي من لفظه؛ قال: أنشدت عمي أبا عبد الله محمد بن بختيار، من نظمي وهو:[من الكامل]

قسمًا بمن سكن الفؤاد وإنه

قسمٌ له لو تعلمون عظيم

فأجازه ارتجالًا وأنشدنيه: [من الكامل]

إني به صبٌ كثيبٌ مدنفٌ

قلق الفؤاد مولهٌ مهموم

لا أستطيع مع التنائي سلوة

حتى الممات وإنني لسليم

فتعطفوا بالوصل بعد تهاجرٍ

فالصبر ينفذ والرجاء مقيم

ولقد سلبت صبابتي وتتيمي

حتى تجود به وأنت رحيم

يا مالكين بحبهم أرواحنا

ظامٍ على تياركن يحوم

أنشدنيها أبو القاسم أحمد:

يا مالكين بحبهم زمر الحشا

.............................................

وليس لما أنشدني معنى؛ ثم قال: هكذا أرويه.

ص: 99

[619]

محمد بن أحمد بن الحسن بن غنيمة، الواعظ الواسطي

وهو ابن أخت الشريف العالم أبي طالبٍ عبد الرحمن بن محمد بن عبد السميع الهاشمي العباسي.

سمع الحديث بواسط وبغداد والموصل وحران ورأس عين وحلب ودمشق وبيت المقدس.

روى عن أبي الفرج بن الجوزي.

وله رسائل معجبة، وخطب منتخبة، وأشعار جيدة، وهو واعظ فقيه شافعي المذهب، محدث له معرفة بأصول الفقه والوعظ، وعلم التفسير، على قدم الصلاح والانقطاع والزهد في المناصب الدنياوية.

وندب إلى قضاء واسط في أيام الإمام الناصر لدين الله مرارًا، فما أجاب إلى ذلك؛ وكانت وفاته سنة سبع وثلاثين وستمائة.

أنشدني جعفر بن محمد بن أحمد الخسرسابوري؛ قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن لنفسه، في صدر كتاب كتبه إلى الرشيد أبي حفص عمر بن محمد الفرغاني:[من مجزوء الكامل]

حرف النداء وبعده

لفظًا يدل على التمني

أتلو إذا ما عن لي

ذكراك يا من غاب عني

وحدثني أيضًا؛ قال: كتب إلينا الرشيد الفرغاني كتابًا من بغداد بعد مدة طويلة، وكان قد حج وأقام بالشام سنتين، ويذكر فيه أهلي وأقاربي، ويعتذر فيه عن طول غيبته عنهم؛ فرأى أبو عبد الله الكتاب قبل وصوله إلينا، ففضه ووقف عليه، وكان قد رأى في

ص: 100

المنام بشرى تدل على مقدمه، فقدم كتابه من الغد؛ فقال في ذلك:[من الكامل]

لما نظرت كتابه متلألئًا

نورًا يضيء له الظلام ويسفر

أقبلت نحو الأرض أسجد شاكرًا

لله جل جلاله وأعفر

وغفرت للأيام كل جريمةٍ

وبمثل ذا الوصل الجرائم تغفر

حاشا رشيد الدين مما ظنه الـ

ـجهال حين مضى، ومما قدروا

ظنوا به ألا يعود وظنهم

إثمٌ عليهم في الصحائف يسطر

يا ليتهم إذ قصرت عن فعله

أفهامهم تركوا الملام وأعذروا

فاشكر أبا الفرج الإله على الذي

أوتيته فبمثله لا يظفر

سعدي فتاتك حين أمسى بعلها

عمر وأدرك ما يؤمل جعفر

يا رب حقق ما أريت محمدًا

فبمقدم ابن محمد يستبشر

حقق بنا ما قدرت أوقاته

من وصله فالموت أمر يحذر

واسلم رشيد الدين واعذر من غدا

شعفًا بمقدمك المبارك يشعر

وكتب أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحسين الواسطي لنفسي إلى الرشيد عمر بن محمد الفرغاني: [من البسيط]

هذا كتابي ولو أني استطعت إذن

كنت الكتاب لما ألقاه من قلقي

لا تحسبوني على ما تعهدون فما

أبقى فراقكم مني سوى رمقي

ولو مضى الكل مني لم يكن عجبًا

وإنما عجبي في البعض كيف بقي

ووجدت له فضلًا، كتبه إلى بعض الفضلاء الكبراء لا تخلو كلمة منه من سين:[من السريع]

سامق وسس واسم وسر سالمًا

واستأسر الأسد وسد واسعد

واستفرس من الفرسان مستظهرًا

بالسمهري الأسمر المسعد

وساجل السحب وتسكابها

فسيبك السحاح بالعسجد

وسام واستعل سنام السطى

مستخدمًا للسعد والسؤدد

ص: 101

[620]

محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الجبار، أبو الغنائم الخسرسابوري الواسطي.

وخسرسابور من عمل واسط.

كان ذا ميز وأدب، حافظًا جملةً من أشعار العرب، مغتنيًا بالكتابة والشعر. كان مولده بخسرسابور سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وتوفي بها في ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

أنشدني ابن أخيه جعفر بن محمد بن أحمد الخسرسابوري قال: أنشدني عمي أبو الغنائم لنفسه: [من البسيط]

إرحل عن اللهو والأوطان والطرب

واحلل بربع العلا لا مربع اللعب

واشرب كؤوس المعالي واصطبح ثملًا

بالبيض والسمر لا من قهوة العنب

واجعل ملاقيك صوت الصافنات إذا

ما الشمس غابت وشمس الحرب لم تغب

وأنشدني؛ قال: أنشدني عمي لنفسه، وهو مما قاله في صباه ببغداد يتشوق أهبه من جملة أبيات:[من الطويل]

أيا شجراتٌ بالمصلى قديمة

سلام عليكن الغداة سلام

ويابان كثبان الحنينة هل لنا

بظبك من بعد البعاد مقام

خليلي عوجا بالجزيرة ساعة

فلي بثنيات الشطيب غرام

ص: 102

[621]

محمد بن إسماعيل بن حمدان، الشيخ الأديب، أبو بكرٍ الحيزاني مولدًا.

أقام بالجزيرة العمرية، واستوطنها، وكان جمهوريًا من أهل السنة، حافظًا للقرآن الكريم، فقيهًا شافعيًا، يعرف الأدب جيدًا.

امتدح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على الموصل، وكانت جائزته ثلاثمائة دينار، وتشريفًا وفرسًا، وولاه حسبة بيت المقدس، ثم تقلد القضاء بنابلس، وعاد إلى الجزيرة، وصار محتسبًا، وبقي إلى بعيد الستمائة.

أنشدني أبو الحسن علي بن عثمان بن دينة الواعظ الجزري، قال: أنشدني أبو بكر محمد بن حمدان لنفسه، يمدح الملك الناصر صلاح الدين- رضي الله عنه:[من البسيط]

لما رأتني مجدًا أزمع السفرا

وأنها بعد عينٍ لا ترى أثرا

قامت تودعني في الليل سافرة

فقد السفر أن الصبح قد سفرا

ثنيت أثناء كمي دون صفحتها

وقلت ناموا فبرق في الظلام سرى

سأبتغي الغاية القصوى فإن سلمت

روحي رجعت وإلا فسمعي خبرا

بيني وبين الغنى ما بين راحلتي .. وأرض مصر ولكن ربما قصرا

لبيس الغنى لي في أرضٍ ولا بلد

لكنه في يدي ملك إذا ذكرا

خرت ملوك بلاد الله ساجدة

اثني عشر كوكبًا والشمس والقمر

كان أبو بكر بن إسماعيل بن احمد بن حمدان الجزري، له محبوب فجرى بينه وبينه كلام فتغاضبا، فبقي مدة سبع سنين هاجرًا له، لم يكلمه، فرآه ذات يومٍ راكبًا فلم يحس به أبو بكر إلا وقد نزل يقبل يديه ورأسه، وقال: إلى كم هذا الجفاء

ص: 103

والهجران؟ أما آن لك أن تغفر هذه الزلة والخطيئة؟

وأخذ في الاعتذار والتنصل من ذنوبه، فصالحه أبو بكر، وأقبل عليه، وتعاتبا ساعة؛ والغلام قد صار شابًا ذا لحية، فحين انفصل وذهب أبو بكر إلى منزله، عمل فيه هذه الأبيات.

على أن فيه أبياتًا كثيرة مختارة، يستحسنها أهل الفضل، ويستجيدها أولو الأدب؛ وديوان شعره يحتوي على أربع مجلدات؛ منها مجلد استفرغه في مدح أهل البيت- صلوات الله عليهم- ومجلد أفرده في صاحب الجزيرة معز الدين سنجرشاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آنقنسر، ومجلدان في ضروبٍ من الشعر مختلفة الأوصاف؛ وهذه الأبيات:[من الطويل]

تمرد لما كان في الحسن أمردًا

فلما تبدى الشعر في وجهه هدا

[أتاني بوجه الإعتذار من الجفا

وقد خشن الخد العذار وكدرا]

وأظهر وصلًا بعد ما كان جافيًا

ولان وأرضى بعد ما جار واعتدى

وسود منه الشعر ما كان أبيضًا

وبيض مني الدهر ما كان أسودا

وقال: سلام، قلت: لا مرحبًا بمن

أتاني لما قلت: روحي لك الفدا

ولم يرض بي عبدًا وأصبح يرتضي

على الرغم منه عبد عبدي سيدًا

وأبعدته لما دنا في الهوى كما

تدانيت منه قبل ذاك فأبعدا

وأشفيت منه الحاسدين كما جفا

وأشمت بي الواشين في الحب والعدا

وقلت له: تالله إنك ميت

وإن اللحى للمرد رائدة الردى

فصبح الجبين الصلت قد ضل مظلمًا

وسيف سنى جفنيك قد عاد مغمدًا

وهذا شقيق الخد قد حال لونه

وعاد يبيسًا بعد ما طله الندى

وريقك أضحى آسن الطعم مالحًا

وقد كان قبل اليوم عذبًا مبردًا

ونكهتك المسكينة النشر أذفرت

وأنتن رياها الذكي وأفسدا

وساقاك لا تبقى من الشعر آنفًا

ولو خضت مع بلقيس صرحًا ممردًا

فقطب من قولي وأطرق مفكرًا

وصعد أنفاس الأسى وتنهدا

ص: 104

وأقبل من بعد انكسارٍ وذلةٍ

يريني منه شدةً وتجلدًا

وقال: لقد بالغت في وصف خلقتي

وحسني كما [قد] كنت كالبدر إذ بدا

وشبهتني بالريم والظبي والرشا

وسميتني أحوى غريرًا وأغيدا

أنا البدر لكن المحاق أضلني

فصرت هلالًا والأهلة تفتدى

أتذكر إذ عانقتني ولثمتني

وقبلت صحن الخد حتى توردا

وأرشفتك الريق المعسل واللمى

وألثمتك الثغر النقي المنضدا

فأوف بعهدي وارع لي حق ما مضى

فمثلك من يرعى لمثلي التوددا

فهذا أخي إن مت فهو خليفتي

يقوم مقامي ثم ولى وأنشدا:

(إذا سيدٌ منا مضى لسبيله

أقمنا بأطرف الآسنة سيدًا)

فلا يحسن الله العزاء لثاكل

بكى أسفًا حزنًا عليك وعددا

لأنك ميت لا يعزى فقيده

ولا يرحم الله العظيم له صدى

[622]

محمد بن عمر العماري الميورقي.

[من مجزوء الرجز]

هل للقا من موعد

يا غيد المقلد

أما تراني من هوا

ك في المقيم المقعد

وأنت عيني ..........

في حسنك المجدد

تلعب بي لعب الصبا

بقدك المأود

مهما .............. .... ...... فقل إلى غد

فلا أنا بمقصر

وأنت لست مسعدي

لحظك لي مثاقفٌ

عن خدك المزرد

وقد جمعت نفرة الـ

ـظبي وبطش الأسد

وليس منك [من] حمى

إلا حمى المؤيد

فقال لي كن آمنًا

وأبشر بنيل المقصد

إن المؤيد الذي اسـ

ـتنجدت خير منجد

ص: 105

أشهر أهل الأرض في

مكارم وسؤدد

أقدمهم في شرف الـ

ـأصل وطيب المحتد

أطولهم يدا ندى

أولهم في مشهد

أعزهم جارًا واو

فاهم بحسن موعد

أما سمعت فضله

يروى بكل بلد

وأنه ينطق عن

بحر علومٍ مزبد

أما سمعت مدحه

في فم كل منشد

هو الكبير قدره

في صورة المقتصد

كم من يدله على

هذا الورى كم من يد

دامت له النعمة والـ

ـسعد دوام الأبد

[623]

محمد بن جعفر بن الحسن، أبو الخطاب الربعي المنقوشي.

نسب نفسه إلى ربيعة الفرس؛ وكان من قريةٍ تسمى المنقوشية من قرى النيل.

كان شابًا خفيفي العارضين، له طبع مؤات في الشعر، وفيه لطافة، صالح الأدب والنظم؛ خرج عن وطنه، وألحق بأمراء الشام، وأقام هناك معدودًا من شعرائهم؛ ومات بالرقة سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

أنشدني الوزير الصاحب أبو البركات المتسوفي؛ قال: أنشدني أبو الخطاب الربعي لنفسه حين قدم إربل سنة أربع وستمائة: [من المنسرح]

مالي على الهجر والنوى جلد

إن قرب الظاعنون أو بعدوا

وفندتني العذال من سفه

وذو الهوى لا يفيده الفند

لا أفقر الجزع من أميمة والـ

ـسفح ولا ضارجٌ ولا السند

يا صاحبي انظرا بمنعرج الـ

ـوادي إذا ما تألق الجرد

ص: 106

هل تونسان الظباء سانح

قد شابهتها الكواعب الخرد

تهيج أطلاؤها الغرام إلى

أجياد بيضٍ يزينها الجيد

تذكرني كل شادن خرق

وردية الخد ثغرها البرد

بانت مع الجيرة الذين سروا

وبي لبين الأحبة الكمد

كيف اصطباري والغور منزلها

لا كثبٌ دارها ولا صدد

وأنشدني عبد الرحمن الصيقل الشاعر، قال: أنشدني أبو الخطاب لنفسه من قصيدة: [من الطويل]

متى لاح الورد آس عذاره

فجنته حفت بأهوال ناره

غربرٌ جرى ماء النعيم بخده

فزاد اتقاد النار في جلناره

عجبت له بدرًا كواكب راحه

جلتها على الجلاس شمس عقاره

دراري تبدي الدر وسط نظيمه

بجيد عروس نقطت بنثاره

إذا طلعت غابت فكم حبب لها

صغارٌ لآلي عقدها من كباره

متوجة تاجًا ترصع حبه

بياقوتها القاني وذوب احمراره

تناولها من أكلف اللون فاحم

صباحًا إلى أن تستقن نفاره

فجاءت كرقراق السراب رقيقه

سلاف شراب دار قبل اعتصاره

وطاف بها تحكيه خدًا ورقة

فعربد لحظٌ ما صحا من خماره

لها شف في وجنتيه مخلق

يديم صبوح شربها غير كاره

يغني لنا صوتنا يلذ استماعه

على دجلةٍ فالجابري فكاره

وقال يمدح الأمير الحاجب أمين الدين أبا الدر ياقوت بن عبد الله النوري الموصلي الكاتب- رضي الله عنه: [من البسيط]

يا ربع علوة بالجرعاء حيينا

ومن خطوب البلى والدرس وقيتا

ولا عدتك عوادي المزن صيبة

بل صوب منهمر الأرجاء سقيتا

أين استقلت حمول الظاعنين بهم

لما تقلبت البدن السباريتا

سروا عجالًا يؤمون الكثيب ضحى

وخلفوني يوم البين مبهوتًأ

أسح في دمن الأطلال منسربًا

كالدر وشحة الكتان ياقوتا

تبًا لأحداث أيامٍ مفرقةٍ

ظلمًا أرتني جمع الشمل تشتيتًا

ص: 107

تلتفت مقلتي والعيس دالجة

إلى العراق وقد جاوزت تكريتا

وكيف صبر بعيد الداري مغترب

عن أهله فارق الشم المصاليتا

سرى فسري عنه الهم أجمعه

أيان أم أمين الدين ياقوتا

العالم العلم السامي الذي سمعت

له البرية صوت الفضل والصيتا

قال اليقين وقد ثورت راحلتي

مهلًا ستبلغ منه كل ما شيتا

يا من تعصب للآداب كن سندي

فالجاه في الموصل الفيحاء أعطيتا

أيقظت للعلم طرفًا لم يزل أبدًا

مزملًا في ظلام الليل مسبوتا

حتى غدوت بأفواه القبائل مو

صوفًا وبالمجد والعلياء منعوتا

بقيت ملجأ ذي حاجٍ ودمت على الآ

عداء رمحًا ردينيًا وإصليتا

وأنشدني أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سعيد الأزدي؛ قال: أنشدني الربعي لنفسه، يرثي أبا الحسن علي بن نبيه الشاعر:[من الخفيف]

شعراء الزمان إن المعاني

والمعاني تبكي على ابن نبيه

مات حسن القريض والحزم والفـ

ـضل وحسن البديع والتشبيه

كان عند الإنشاد آية موسى

فالقوافي من بعده في التيه

وأنشدني لنفسه وهو مقيم بآمد: [من الطويل]

يقولون ها قطرٌبلٌ جنب دجلة

عدمتك ألفاظًا بغير معاني

أكرر طرفي ما أرى القفص دونها

ولا النحل بادٍ من قرى البردان

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه في الحكيم سعيد، وكان قد اتصل بابن الملك العزيز، وتوفي بالقرية بالخبور، وكان المغسل له سعيد أيضًا:[من المجتث]

يا ابن العزيز عزيزٌ

علي أن تتوفى

سقتك كف سعيد

كأس المنية صرفا

لو ذاقها منه عيسى

لذاق في الحال حتفًا

مغسلٌ وطبيبٌ

هذا حكيمٌ مكفي

ص: 108

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه في رجلٍ من أهل دنيسر، يهجوه واسمه مقبل:[من الطويل]

عجبت لمن سمى اللئيم ابن مقبل

وما هو إلا مدبرٌ وابن مدبر

ولو لم يكن من عترة اللؤم والخنا

كفته المخازي أنه من دنيسر

وقال يهجو: صاحب سنجار، ويمدح الملك الأشرف مظفر الدين:[من البسيط]

قالوا: ابن زنكي سنجار له كرم

قلت السدى والندى في آل أيوب

هو الطفيلي لا ترجى مواهبه

وأكله دائمًا من بيت يعقوب

[624]

محمد بن حيدرة بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي بن حمزة بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب- صلوات الله عليهم وسلامه- أبو علي بن أبي المناقب الكوفي العلوي الحسيني الواعظ.

وجده أبو البركات، عمر بن إبراهيم النحوي الكوفي، مشهور بعلم الأدب

ص: 109

والنحو.

أبو علي كان واعظًا مليحًا معاشرًا، يتكلم على الناس، ويطوف البلاد على سبيل النجعة، ويرتفق بالوعظ، وعلى خاطره من التفسير والأشعار والنوادر والحكايات أشياء حسنة.

أنشدني محمد بن سعيد الواسطي؛ قال: أنشدني أبو علي لنفسه: [من الطويل]

أمرٌ سؤال الركب عندك أم عذب

أمامك فاسأله: متى ترك الركب

على أن وجدي والأسى غير نازح

قصرن الليالي أو تطاولت الحقب

نشدت الحيا لا يحدث الدمع إنه

يغادر قلبي مثلما تفعل السحب

ففي الدمع إطفاءٌ لنار صبابتي

وزفرة شوق في الضلوع لها لهب

فدع ذا ولكن رب ركب تحملوا

وسيرهم ما إن يفارقه الخب

[625]

محمد بن حيدرة بن محمد بن نصر بن جامع بن المظفر بن الأمير ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان بن راشد بن المثنى بن رافع بن الحارث بن غطيف بن مجرية بن جارية بن مالك بن عبيد بن عدي بن أسامة بن مالك بن

ص: 110

بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الحمداني البغدادي، أبو فراسٍ.

من أهل الكرخ.

هكذا وجدت نسبه، مقيدًا بخط بعض الفضلاء، وإن لم يكن محققًا، وفيه خلل؛ وكان يذكر أنه من ولد أبي فراس الحارث بن سعيد الشاعر المشهور ابن عم سيف الدولة.

انتقل إلى نصيبين وأكثر المقام بها، فلذلك ينسب إليها، وتوفي سنة اثنتين وستمائة. وكان شاعرًا مبسوط اللسان هجاءً له في الهجاء أشياء يجيد في معانيها

أنشدني أبو عبد الله محمد بن سليمان الموصلي المجلد؛ قال: أنشدني أبو فراس لنفسه، يهجو أهل سنجار:[من السريع]

متى أرى سنجار قد زلزلت

ومال أعلاها على الأسفل

وتصبح النسوان من أهلها

حواسر في سكك الموصل

قد ملت الأنوفس من دولةٍ

تساس بالأرذل فالأرذل

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه من أبيات يخاطب بها الأمير مجد الدين إسماعيل بن يرنقش السنجاري: [من السريع]

إيها معين الدين أوضحتم

بالحق منكم منهج العدل

أقمتم الحد بحد المدى

فما لكم في الخلق من مئل

وطبتم يا شيعة المصطفى

وغيركم يعزى إلى الجهل

روعتم الجبار لما غدا

من فوقكم في ربقة الذل

ص: 111

بحق إسماعيل كفوا عن الـ

ـأمة إسماعيل بالقتل

فهو يرى رأي أبيه لكم

يضمر حذو النعل بالنعل

قطعتم الأصل فما بالكم

لا تلحقون الفرع بالأصل

والحية الرقطاء من حيةٍ

والصل أيضًا ولد الصل

فقال أيضًا: [من الكامل]

من مبلغ نجل الأعز رسالة

عذراء لي في طيها أشواق

مزحت ركائبه فدمعي بعده

دمعٌ بقلبي مغرمٌ خفاق

يا قاتل الله الليالي كما لها

في كل يومٍ رحلةٌ وفراق

ضنت بفرقتك القرون على النوى

وسخت بحمة مائها الآماق

لا يبعدنك الله كم لك من يد

بيضاء تروي فضلها الآفاق

وخلائقٌ غررٌ يضوع نسيمها

مسكًا إذا تزهى بها الأحداق

يابن الوصي المرتضى يا خير من

أصفى ودادك فالهوى أرزاق

أرسل إذا هب النسيم تحية

فله ........ في الصباح رقاق

كسدت لبعدك سوق فضل ما لها

لولاك في هذا الزمان نفاق

وتطأطأ العلم المنيف وبعده

غطى عليه من الخسوف محاق

وتفسح الأعداء في أقوالهم

فلهم مراءٌ ظاهر وشقاق

فعلام تأخير الكتاب وبيننا

يومٌ وأنت إلى العلا سباق

وهذا محمد، ولد بالكرخ ونشأ بها، وقرأ بالأدب، وخالط العلماء، ثم سافر عن بغداد، وأقام مدة بلاد الجزيرة والشام، وعاد إلى بغداد بعد التسعين والخمسمائة، ونزل بمحلة الطغرية من الجانب الشرقي؛ ورتب مشرفًا على مناشر الديوان الشريف؛ فارتفع قدره، وعلت منزلته، وكان من أكرم الناس خلقًا ونفسًا وعطاءً، يستوي الذهب والتراب عنده.

وكان له غرام بالأدب والتواريخ، وكتب منها كثيرًا، وكان يديم الإطلاع في

ص: 112

تاريخ الصابي، وينقل منه فوائد.

ثم ارتحل عن بغداد في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة إلي نصيبين، وكان له بها إمرأة وولد، فقام هناك إلي أن توفي سنة اثنين وستمائة.

أنشدني أبو عبد الله محمد بن المحلَّي بن محمد النصيبي، والشريف أبو عبد الله الحسين بن محمد الحسيني العلوي، قالا: أنشدنا أبو فراس لنفسه غير مرَّة بنصيبين: ] من الخفيف [

لو بقدر الأشواق يهدى السلام

نفذ العمر والغرام

فاقتنعوا باليسير مني فحسبي

زفرات حري ودمع سجام

لا تظنوا أنَّي وإن بعد العهـ

ـد وطالت ما بيننا الأيام

أتنساكم وكيف وقد شا

ب اصطباري في الوجد فيكم غلام

خبرتني الأحلام عنكم بصدق

آه لو كان تصدق الأحلام

كلما عز ذكركم في سواد القـ

ـلب جاشت في جسمي الأسقام

أتمنَّاكم وأين من المو

صل دار السلام عز المرام

آه يا نفحة الصبا للتَّصابي

وغرام يا حبذاك الغرام

وليال بدار لهوي سقاها

فيض دمعي إن حار عنها الغمام

علِّلوني بذكرها وابعثوا لي

طيف سعدي إن أمكن الإلمام

ما الحمام الهتوف في البان يوم الـ

بين للواجدين إلَاّ حمام

ما الدَّيار الدَّيار واصلة المسـ

ـعي ولا هذه الخيام الخيام

وكتب إلي الشريف تاج العلا الأشرف بن الأغر الرملي، القصيدة القافية المذكورة، أنشدني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن محمد بن علي الحسيني الموصلي – أدام سعادته – قال: أنشدني أبو فراس محمد حيدرة الحمداني لنفسه:

] من الطويل [

إذا شجر الهرماس أضحي منوَّرًا

فدع دلجان العيس والوخد والسرى

ص: 113

فإنَّ بعمر الزَّعفران مدامه

إذا سكبت أنست أوانًا وعكبرا

وحث الندامى للصَّبوح وشربها

فقد نَّبه الناقوس من سنة الكرى

وطاف بكاسات الحميَّا مقرطق

يميل بعطفيه النسيم إذا سرى

فيا صاحبي والكأس في كف ِّ أغيد

رخيم الدَّلال فاتر الطَّرف أحورا

دع المنحنى والخال والرَّند والحمى

وشيخ نقا نجد ومن قد تغوَّرا

وغن حديث المازنيِّ وضارح

وخلِّ عتاق العيس تنفح بالبرى

وقل لبني سعد علي صيف راحة

ردوا الجفر مكدود المعين مكدَّرا

فلي بقلال العمر صبوة مغرم

يحنُّ إذا ناح الحمام فأسحرا

ورهبان دير فيهم أريحيَّة

إذا الضيف حيَّاهم تنادوا إلي القرى

أقمنا ثلاثًا نشرب الراح عندهم

وقد حظروا أن ينكروا البيع والشَّرا

فما عبسوا وجهًا طليقًا تضجرًا

ولا اعتذروا أنَّ المدام تعذَّرا

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه، يهجو شخصًا إسمه غازي بن علي النصيبي، وقد صار كاتبًا، ويلقب الجبل، وكان قد أظهر تكبرًا علي أبي فراس، وكان له أستاذ اسمه حمرين: ] من الكامل [

ومن العجائب صار غازي كاتبًا

يلقاك وهو مقلَّص العرنين

تيهًا ولا عبد الحميد ودهره

ما زال يكتب صالحًا بالسَّين

سلَّم على الجبل الأشمَّ وقل له

كم بات حمرين على حمرين

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: في الحسين بن قيداس، حين كسرت يده: ] من المنسرح [

حاز ابن قيدس مع تهوُّره

شحًا ولو ما يبقى وكسر يد

ص: 114

وصار بين الكتَّاب مسخرة

يعدُّ فيهم زيادة الكبد

فلا تلمه علي تهوُّره

شيخ رفيع الأصل من بلد

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: ] من الوافر [

أقول وقد بدا شخص الربيب

يستِّر بين شبَّان وشيب

علي عينيه ترجمة المخازي

وفي عطفيه مجتمع العيوب

دعوك أبا المعالي ليت شعري

ومالك في المعالي من نصيب

متى تخني عليك يد الليالي

ويأتي الله بالفرج القريب

وأنشدني، قال: أيضًا لنفسه: ] من الرجز [

قل للريب غلط المقدار

ألا فمن أنت ومن عمَّار

لمَّا تقدَّمت بغير آله

تأخرت عن سمتها الأخيار

في آستك داء عزَّه دواؤه

شاهده في وجهك الصُّفار

أنت علي هذا الزمان وصمة

ما ينقضي حديثها وعار

تعافك الأنفس من مهانة

فيك فما ترمقك الأبصار

قد سيَّرت فيك فيك الرواة سيرًا

وحدثت بلؤمك السُّمار

وقمَّصتك المخزيات لبسًة

وأثقلت كاهلك الأوزار

جمعت أموالًا ونمت وادعًا

والخمر في عقبها الخمَّار

ينتبه الرَّاقد من رقدته

وينتحيك الأسد الزَّئّار

وتقتضي أمُّ الرَّقيم دينها

منك ولا ينجو بك الحذَّار

لا فارق الشُّؤم حذاك وجرب

بضدِّ ما تختاره الأقدار

ومن شعره ما كتبه إلي صديق في صدر كتاب: ] من الطويل [

آحبابنا إن كنتم قد سمحتم

ببعدي فإنِّي بالبعاد شحيح

تغيرتم عما عهدت من الوفا

وودِّي علي مر الزِّمان صحيح

آحبابنا إن كنتم قد سمحتم

ببعدي فإنِّي بالبعاد شحيح

تغيرتم عما عهدت من الوفا

وودِّي علي مر الزِّمان صحيح

ص: 115

[626 [

محمد بن سليمان بن قتلمش بن تركانشاه البغداديّ، أبو منصور.

أصله من سمرقند، من اولاد الأمراء بمدينة السلام.

كان تام المعرفة بالأدب واللغة، وعلم العربية، وأخذ طرفًا من العلوم الرياضية، كان يفهم الحساب والهندسة والطب، وكان مفتونًا بالشراب، مصرًَّا عليه، خليعًا شاعرًا حسن الشعر.

وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وتوفي يوم الاثنين سادس عشر ربيع الآخر سنة عشرين وستمائة، ودفن من الغد بمقبرة الشونيزي.

أنشد أبو عبد الله محمد بن أبي المعالي الواسطي، قال: أنشدني أبو منصور محمد بن سليمان لنفسه: ] من البسيط [

لي في هواك وإن عذبتني آرب

يبقى السُّلوُّ ولو قطِّعت آرابا

ولست أبغي ثواب الصبر عنك ولو

ألبستني من سقام الجسم أثوابا

وشقوتي بك لا أرضى النعيم بها

وساعة فيك تسوي النار أحقابا

وقال عند موته: ] من الوافر [

إلهي يا كريم العفو غفرًا

لما أسلفته زمن الشباب

ص: 116

فقد سودت الآثام وجهي

ذليلًا خاضعًا لك في التراب

فبيضه بحسن العفو عني

وسامحني وخف في حسابي

فقد أمسيت مسكينًا فقيرًا

إلي ملكٍ غني عن عذابي

وقال أيضًا: ] من السريع [

يا قوم ما بي مرض واحد

لكنَّ بي عدة أمراض

ولست أدري بعد ذا كلّه

أساخط مولاي أم راضي

وقوله أيضًا: ] من السريع [

لا والذي سخر قلبي لها عبدًا كما سخَّن لي قلبها

ما فرجي في حبِّها غير أن

تبيح لي عن هجرها قلبها

وقال أيضًا: ] من الخفيف [

وهلال أسَّه البين دهرًا

زارني بعد أن تكامل بدرا

وحباني من وجنتيه بورد

وسقاني من ريقه العذب خمرا

واعتنقنا شفعًا فلو عاينتنًا

مقلتا احولٍ رأي الشَّفع وترا

وله أيضًا: ] من الكامل [

ومهفهف غض الشباب أنيقه

كالبدر غصني القوام وريقه

نازعته مشمولة فأرادها .. من مقلتيه ووجتيه وريقه

وله من قصيدة عمرية: ] من الهزج [

وقم نفترص اللذَّة فالوقت بنا يسري

وبادر رقدة الدَّهر

فإن الدَّهر ذو كرِّ

ببكر عصرت عذرا

ء في باكورة العص

عقار صانها العصَّا

ر والنَّسران في الوكر

فشابت وهي لا تعر

ف غير الدَّنِّ من خدر

ص: 117

فلما حطبت لم تر

ض غير العقل من مهر

إذا ما حنيت ليلًا

أرتك الليل كالفجر

فلا تسع بها سرًَّا

فسرُّ القصف كالجهر

فما الغبن سوي الصَّحو

ولا الغنم سوي السُّكر

وعين الحسر ان يحسـ

ـب يوم الصَّحو من عمري

] 627 [

محمد بن سعيد بن علي بن جعفر، أبو الفرج الآموصي

هو من آموصية، قرية تحت واسط بأربعة فراسخ من أعمالها.

كان رجلًا صالحًا من العدول، من أهل بيت علم وخطابة وقضاء بتلك البلاد، وكان حافظًا لكتاب الله تعالي، تاليًا له من المتدينين، وتوفي في صفر بآموصية سنة ثلاث عشرة وستمائة.

أنشدني جعفر بن محمد الخسرسابوري، بمدينة إربل في شهر رمضان سنة خمس وعشرين وستمائة، قال: أنشدني أبو الفرج محمد بن سعيد لنفسه:

] من الطويل [

نعم هيَّجت وجدي القديم على الرَّمل

ديار خلت بالأثل عن ساكني الأثل

وقفت بها أبكي وقد بان أهلها

ودمعي على خدِّيَّ ينهل كالوبل

فلو حمل الصَّخر الأصم عشَّية الـ

ـوداع وقد زمَّت مطاياها حملي

لذاب كما ذابت من النار شمعة

وبدل من عزِّ الصلابة بالذل

خليلي عوجا نسأل الدار عنهم

لعل رسوم الدار تنبي عن الأهل

هل ارتبعوا من بعد رامة مربعًا

وهل بعد ظلِّ الأثل مالوا إلي الظّلِّ

لقد كان قلبي قبل طارقة النوى

وخليًا من البلوى سليمًا من الخبل

فعاوده الوجد القديم ونبهت

دواثر أشجان به من هوى جمل

ص: 118

مطوَّقة بالبان ناحت ولم تذق

بعادًا ولا باتت مروَّعة مثلي

إذا ما بكت ورقاء والإلف عندها

مقيم فما حال المروَّع بالثكل

ألا فامنحوني سلوة أو فقصِّروا الـ

ـملام فما جدُّ المحبَّة كالهزل

علقت الهوى طفلًا وشبت ولم أشب

وكم قد أشاب الحبُّ من عاشق مثلي

] 628 [

محمد بن سليمان بن صدقة، أبو عبد الله الغنويُّ الدمشقيُّ.

سمع الحديث كثيرًا، وتأدَّب، وقرأ شيئًا من الفقه، وترامى إلي طريق الإرادة والمعرفة بالتصوّف.

أنشدني أبو الفضل العباس بن رزوان الموصلي، قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن سليمان لنفسه: ] من الخفيف [

منعوه عن الزيارة لمَّا

علموا أنَّني به مستهام

فسرى طيفه وقد رقد السَّا

مر وهنا تزفه الأحلام

فنعمنا بوصله لا عدمنا

هـ وكان السَّفير فيه المنام

] 629 [

محمد بن صدقة بن سبتي بن هارون بن سليط بن رافع، أبو عبد الله الخفاجي البغدادي.

كان في دولة أمير المؤمنين الناصر الدين الله أبي العباس أحمد، وأحد شعراء حضرته، وله فيه قصائد كثيرة، وأدرك أوائل أيام الإمام الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد – رضوان الله عليهما -.

ومات يوم الاثنين منتصف شوال سنة اثنين وعشرين وستمائة ببغداد، ودفن غربها بمقبرة الشونيزي.

ص: 119

وكان يحفظ حماسة أبي تمام، وكتاب أدب الكاتب لابن قتيبة، وله اعتناء بمطالعة كتاب الأغاني، وعلي ذهنه منه جملة، وكان جيد الشعر، كثير القول، صاحب بديهة.

أنشدني من شعره ولده أبو الحسن علي بن محمد، قال: أنشدني والدي لنفسه من قصيدة: ] من الطويل [

دوى غصن أيَّام الشباب وعودها

وما أنجزت ممَّن ألفت وعودها

وقد أوحشت بعد الأنيس ديارها

ورثَّ علي مرِّ الليالي جديدها

وعهدي بها قبل الفراق أنيقة

يطل الحيا أظلالها ونجودها

بروحي التي تجفو ويألف طيفها

وينأي ويدنو وعدها ووعيدها

تصدت لهجري بالصُّدود وهوَّنت

وما الموت إلَاّ هجرها وصدودها

وقد أضرمت نار الأسى بين أضلعي

فيا ليت من يلحي عليها وقودها

معرضة للحبِّ بعض جهاتها

فما تنتهي عند الصِّفات حدودها

فللورد خداها وللغصن قدُّها

وللسحر عيناها وللظَّبي جيدها

وإن أصبحت في الحسن وهي وحيدة

فها أنا في وصف الحسان وحيدها

وإن عصت الأغزال غيري فلم يزل

يطاوع فكري تومها وفريدها

أعلق بالمعني زمام بديهتي

ومدح أمير المؤمنين يقودها

إمام إذا لم تعرف النفس حقَّه

فكفرانها عند الإله جحودها

حكي حيدرًا في جهده وجهاده

فدانت شوس الملوك وصيدها

وعزمته يجري القضاء بحكمها

فمن ذي الفقار حدها وحديدها

وإن حاربته عصبة في مدينة

ففي خيبر قد حاربته يهودها

ولو راض أرض الطّفِّ بالسيف عدله

لما زاد في ظلم الحسين يزيدها

ولو أدركت ذا الهدي ناقة صالح

لما عقرتها بالضلال ثمودها

أطلَّت علي الأعداء منه سحابة

يصعد أتراس المتون صعيدها

بوارقها لمع الظُّبي ودم العدا

حياها وخفَّاق النسيم رعودها

ص: 120

يشيِّعها من ولد يافث غلمة

يشيب أذقان الكماة وليدها

فقد سجدت أسيافها ولحاظها

وقد ثقفت أرماحها وقدودها

أقم وأنتقم قسرًا قيامة عصبة

تطاول عن حفظ الذِّمام قعودها

فإن حاربت قيدت إليك أذلَّةّ

تجاذبها أغلالها وقيودها

وإلا أذقها الموت صرفًا ففي الوغى

بطون النُّسور والأسود لحودها

فذلك خزي في الحياة وقد غد

ستنضج في نار الجحيم جلودها

وأنشدني، قال: أنشدني أبي لنفسه، يرثي الملك المعظم أبا الحسن علي بن الناصر لدين الله – رضوان الله عليهما-: ] من البسيط [

مضى كيوسف والدنيا زليخته

كم راودته ولم يعطف على زلل

فمضى

بقميص قدَّ من دبر

عليه كلُّ قميص قدَّ من قبل

وأنشدني، قال: أنشدني والدي قولة في الناصر لدين الله: ] من الطويل [

حكيت عليًَّا فطنة وشجاعًة

وما منكما إلا إمام مكرَّم

فإن كنت قد أشبهته في فعاله

فشنشنة أحيا بها المجد أخزم

وإن كنت قد نلت الخلافة مثله

أخيرًا ففي التفضيل أنت المقدَّم

وأنشدني، قال: أنشدني والدي لنفسه، فيه أيضًا: ] من الطويل [

وأصبحت موسى فيهم إذ تفرعنوا

وصدقنا مال العفاة وكذبوا

فألق العصا حتي تلقَّف من عصى

فكلهم بالطَّبع أفعى وعقرب

وأنشدني، قال: أنشدني والدي من شعره: ] من الطويل [

خليلي هذي دار علوة أقفرت

وقد غالها بعد الأنيس دثور

تعفت على مر الليالي رسومها

كما يتعفى في الكتاب سطور

إذا نسجت كفُّ الصبا في عراصها

من الرَّمل ثوبًا مزّقته دبور

وقال من قصيدة أخري، يمدح بها الناصر لدين الله – رضي الله عنه

] من الطويل [

ص: 121

جذذت أصول الملحدين فأصبحوا

كأنهم زرع وسيفك حاصد

فما خسروا إلا وجأشك رابح

ولا نقصوا إلا وجيشك زائد

] 630 [

محمد بن عبد الله بن علي بن أبي غالب بن القاسم بن حرب بن أبي الفخار بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد الحسن بن محمد بن جعفر بن الحسن بن علي بن أبي علي عمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن ألي طالب، أبو عبد الله الموصلي الحسيني المعروف بابن الشجري.

هكذا نقلت هذا النسب مضبوطّا من خط محمد بن علي بن محمد العباسي.

وأبو عبد الله كان يحفظ القرآن العزيز، وشيئًا من شعر أبي الطيب المتنبي، وكتاب الحماسة

وكان شاعرًا ذكيًا، أخبرني والده أنّ ابنه توفي شابًا في العشر الآخرة من ذي الحجة سنة خمس عشرة وستمائة بالموصل، ودفن بمقبرة الجامع العتيق قبلية.

أنشدني والده أيضًا، قال: أنشدني ابني محمد لنفسه، يمدح المولي المالك الملك الرحيم بدر الدين والدنيا عضد الإسلام والمسلمين، ملك الأمراء شرقًا وغربًا أبا الفضائل، نصير أمير امؤمنين– خلد الله دولته_: ] من المجتث [

جفت عقيب الوفاء

وآذنت بتناء

خريدة طال ليلي

بها وعز دوائي

سمراء تحكي أعتدالًا

للصّعدة السّمراء

وريقها العذب يحكي

سلافة الصّبهاء

صدّت عشية صدّت

عنء مقتلي إغفاء

وبات جفني قريحًا

مغرورقًا بالبكاء

وأيّ صب كئيب

يبقي مع البرحاء

لله ساعة زارت

في ليلة ليلاء

ص: 122

وقد تغشّت عن القر

ب أعين الرّقباء

قصيرة بسروري

طويلة بعنائي

قد كان يعثر منها

ظلامها بالضياء

كأنّما عرفها عر

ف سيد الأمراء

أبي الفضائل رب الـ

ـأفضال الآلاء

جم المكارم بدر الدّيـ

ـن الجزيل العطاء

سما به الدّست حتى

سامى نجوم السماء

فقد تطاول قدرًا

على علا الجوزاء

فاق الملوم بعلم

وحكمة وذكاء

يهوى ارتجاع المثاني

مثاني القرّاء

ما أمّ يم عطاه

من عاد خاوي السقاء

ولا أحتمى لحماه

من خاف للأواء

مولاي يا خير ذخر

لشدّة ورخاء

ومن يأدنى نداه

بلغت أقصى منائي

قوّمت بالأمن والعد

ل حدبة الحدباء

حتى تألّف ما بيـ

ـن ذئبها والشّاه

] 631 [

محمد بن عبيد الله بن علّان بن زاهر بن عمر بن أحمد بن علّان بن زين الخزاعي، أبو جعفر بن أبي الفضل الواسطيّ، المعروف والده بالرواية.

وجدت نسيه بخط أبيه هكذا، ولقب بالرواية لأنه ذا حفظ تام لأشار العرب والمحدثين

سافر إلي بلاد الشام، وأقام بها مدّة طويلة، وامتدح سلاطينها وملوكها، وغيرهم

ص: 123

من الأمراء والرؤساء.

ثمّ قدم الموصل مريضًا، فمكث بها أيامًا يسيرة، ومات في الليلة التي صبيحتها يوم الأحد، سلخ ذي الحجة سنة أربع وعشرين وستمائة.

أنشدني إسماعيل بن الموفق بن نصر الحديثي الموصلي، قال: أنشدني محمد بن عبيد الله الراوية لنفسه، يمدح الملك الأشرف موسى، والملك المعظم عيسى ابني الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب بن شاذي: ] من الكامل [

ضحك الزمان لنا وكان عبوسًا

لما ألتقي موسى الكليم بعيسى

بحران بينهما المعالي برزخ

مرج أجتماعهما فعاد أنيسا

فلكان في الدنيا يديران النّدى

ويصرّفان نعيمها والبوسا

أحييت يا عيسى المعظّم انفسًا

لو لم تزر زارت ثرى وشموسا

سبقت عصى موسى إليك فجبتها

طوعًا ولم تلك جامحًا وشموسا

فإلي جدا موسى تحب جيادنا

وإلى ندى عيسى نزمّ العيسا

وله وقد اقترح عليه أن ينظم قصيدة يلتزم في كل كلمة منها السين المهملة:

كان يومئذٍ بمدينة نابلس، ويمدح فيها الملك المعظم عيسى بن أبي بكر بن أيوب:

ساروا سحيرًا فسهادي خلس

فسلهم سرًّا عسى يعرّسوا

وأستوطنوا بالسمرات مسكنًا

فالمستهام بالأسى موسوس

تسنموا الوعساء عسفًا وسرورا

وابلسوني فسروري مبلس

فسايرتني سورة مسقمة

واختلستني والآسى مختلس

سمر بسمر وسيوف حرست

والسّمر بالسّمر السراع تحرس

أوانس لباسهنّ سندس

وأستبرق ليس اللباس سندس

بسمن فاستضاء سدف سحرة

ومسن فالسرور سباه الميس

ومنها:

فاسد الآساد سمح ندس

سموه عيسى خيسه نابلس

سميدع سن بحسن سيرة

سيرة إحسان سناها قبس

ص: 124

عيسى كعيسى قدست أسماؤه

فباسمه سما وسامى القدس

تقتبس الشمس سنى سموه

وسيفه لباسه يقتبس

فالساحل الدّارس درس سيفه

منحسم ورسمه مندرس

أسود بسيبه وسليه

وسيفه نفوسها تفترس

] 632 [

محمد بن محمد بن الحسن، أبو الفضل المدعو بالأمين الأصفهاني.

كان أديبًا فاضلًا كاملًا في صناعة النحو والعربية، إمامًا في الآداب والفضائل.

أنشدني الشيخ أبو الرضا عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن صديق التبريزي الفقيه الشافعي، قال: أنشدني الأمير الفضل محمد بن محمد الأديب النحوي الأصفهاني لنفسه: ] من الطويل [

جرحت شفاهي بالثنايا وكلها

أقاح وجرح الأقحوان سليم

ووجهك في عينيّ قد ذرّ ملحه

فطاب ذرور الملح وهو أليم

] 633 [

محمد بن علي بن نصر بن عبد الله بن البل، أبو المظفر الدوري الواعظ

منسوب إلي الدور بناحية دجيل من عمل بغداد، بها ولد ونشأ.

ودخل بغداد في صباه، وأقام بها، إلي أن توفي يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان سنة إحدى عشر وستمائة، وكان مولده سنة ست أو سبع عشرة وخمسمائة.

ص: 125

وسمع الحديث على أبي الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي، وأبي الفضل محمد بن ناصر الحافظ البغدادي وغيرهما، وتفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل – رضي الله عنه.

وكان حسن الكلام في الوعظ والتفسير، مليح الإنشاء للشعر، يعمل شعرًا مطبوعًا في المحاسن على طريقة أبي الفتح البستي، وكان صالحًا متعبدًا، ثقة سليم الصدر.

أنشدني أحمد بن جعفر بن الحسن الكتبي البغدادي، قال: أنشدني أبو المظفر الدوري لنفسه، يمدح الإمام الناصر لدين الله أبا العباس أحمد – رضي الله عنه.:

] من البسيط [

سرداق العزّ منصوب علي الفلك

لأحمد الناصر المولى الفتى الملك

ذي العفو عن قدرة والحلم عن سفه

لله من ملك في صورة الملك

وأنشدني، قال: أنشدني الدوري الواعظ لنفسه، فيه أيضًا:

] من الطويل [

لناصر دين الله نور نبوة

هدى الناس من لألائه وأقتباسه

حوى فعل ميكائيل في وقت جوده

وصولة عزرائيل في وقت باسه

وقال فيه أيضًا: ] من مجزوء الكامل [

إنّ البرايا يا إمام العصر أمست من سوامك

والدهر رطب من ندا

ك ومستهل من غمامك

ما إن يذمّ زمانه

من بات منه في ذمامك

إن المنايا والمنى

ما بين عفوك وانتقامك

والفقر يحدث من عبو

سك والغني عند ابتسامك

وقال أيضًا: ] من الخفيف [

علم في دجى الرّجا وشهاب

كلّنا في ضيائه واقتباسه

متلف للأموال في وقت جود

وجواد للعفو في وقت باسه

ص: 126

وأنشدني أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار البغدادي، قال: أنشدني محمد بن علي بن نصر الدوري من شعره: ] من الوافر [

يتوب علي يدي قوم عصاه

وأخافتهم من الباري ذنوب

وقلبي مظلم من طول ما قد

جنى فأنا علي يد من أتوب؟

كأنّي شمعة ما بين قومٍ

تضئ لهم ويحرقها اللهيب

كأنّي مخيط يكسو أناسًا

وجسمي من ملابسه سليب

وقال يعقوب بن علي بن يوسف الحكاك الموصلي، سمعت الشيخ أبا عبد الله محمد بن علي الدوري البغدادي، بها يقول من:

] من الخفيف [

ذهب العمر بالمنى فاستعدّوا

فالسعيد الذي هو المستعدّ

وانهبوا فرصة الحياة اختلاسًا

فممر الأنفاس فيكم يعدّ

والحياة الدنيا حليلة غدر

ما لها قط عند بعل عهد

وحياة المرء المفرط ضيف

زائر مثل ما يزورك الورد

يا معاري الأعمار أنتم نيام

والعواري عما قليل تردّ

لا تبيعوا ما ليس منكم له بـ

ـد بشئ فإن لكم منه بدّ

يا رفيع البنيان ما لك بيت

يستحق العمران إلا اللحد

يا تجار الآجال لا ترخصوها

إن أثمانها هنالك خلد

إنما هذه الحياة قطاف

فاغتنمها فإن عمرك ورد

لو رأيت الودود والدود لا تسو

حشت من نتنه وولى الودّ

أو رآه الأهلون وهو صريع

قد علاه سيل الصديد لصدوا

أو لو أن الكلام أمكنة قا

ل: أيا أحباباه أين العهد

أين ذاك الزمان والعيش صاف

ولأيامنا علي القلب برد

أين تلك الأيام إذ نحن جمعًا

في برود المنى نروح ونغدو

وهذا آخرها، وتسمي الصهيبية، لأن بعض أصحابي وهو ثقة اللسان، رأى في

ص: 127

منامه صهيبًا– رحمه الله– فاستنشده بيتًا لبعضهم، فقال: ما أريد من شعر الدوري، فقال: أنا أحفظ فأنشده:

يا معاري الأعمار

إلي قوله:

ياتجار الآجال .....

فسميتها الصهيبية، نفع الله بها قائلها والمسلمين أجمعين.

] 634 [

محمد بن عبد الواحد بن عبد المنعم بن يوسف بن حرب، أبو عبد الله الحلبي الخطيب البغدادي.

كان يتولى الخطابة بقلعة حلب المحروسة، بعد وفاة والده.

وكان رجلًا خيرًا فاضلًا، عارفًا بعلم العربية، حسن الشعر، حدث بحلب عن أبي الفرج الثقفي وغيره، وسمع أبا الرجاء بن حرب، وابن أبي الحواري.

وكان يقرأ علم العربية بحلب، ذكر ذلك كلّه لي القاضي الإمام أبو القاسم عمر بن أبي الحسن الحنفي- أدام الله سعادته – وقال: وكتب لي من شعره جزءًا بخطه وقرأته عليه.

وكانت ولادته ست وستين وخمسمائة، وتوفي ليلة الاثنين التاسع من صفر سنة ثلاث وعشرين وستمائة بقلعة حلب، ودفن يوم الاثنين، وصلّي عليه بمقابر مقام الخليل- عليه السلام خارج باب العراق- رحمه الله تعالى-.

أنشدني الشريف أبو نصر بن أبي طاهر البغدادي الهاشمي، قال: أنشدني أبو عبد الله محمد الخطيب لنفسه حين مات افتخار الدين عبد المطلب بن الفصل الهاشمي، وجلس مكانه أبو المعالي الفضل ولده، وأنفذها إليه: ] من الطويل [

ص: 128

تولّى افتخار الدين عنّا فغمّنا

فلمّا تولى تاجه أقلع الغمّ

لئن كلم الدهر القلوب بفقده

فبالتاج زال البؤس واندمل الكلم

نجوم المعالي آل هاشم كلّما

تصوب نجم للأفول بدا نجم

توخّاهم قاضي القضاة بهّمة

بها أبدًا ماوال ينكشف الهمّ

وقال في غرض له: ] من البسيط [

ليس الهجاء- أبين اللعن- من شيمي

ولا السفاهة من قولي ولا القذع

لأنني إن هجوت النذل أرفعه

وإن هجوت كريم الناس أتّضع

وقال يمدح الكمال بن أبي جرادة الكاتب الحلبي: ] من الطويل [

إذا جال فكري في الكمال وجدته

سماء معال والمناقب زهره

وإن نظرت عيناي منسوب خطه

توهمته روضا تدبج زهره

وحدثني القاضي الإمام أبو القاسم عمر بن أبي الحسن بحلب- أسعده الله تعالي- بمنزلة المعمور في شهر ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وستمائة، قال: كنت يومًا عند شيخنا أبي هاشم عبد المطلب بن الفضل الهاشمي- رحمه الله لسماع الحديث، وقد جاءه الشريف أبو هاشم أحمد بن محمد الصالحي الحلبي ومعه رقعة فيها بيتان من شعره، وأنشدهما شيخنا أبا هاشم المذكور، وأنا اسمع والبيتان: ] من الكامل [

من ود أن عدوه أعمي فلي

ود بأن له عيونًا أربعا

ليرى كما لي باثنتين ونقصه

بالأخريين فلا يزال مروّعا

فسألت شيخنا أبا هاشم عنهما، فقال: هما للشريف أبي هاشم، وأنا اقترحت عليه هذا المعني، فإنه معنى أحفظة في شعر الفارسية.

ثم اجتمعت بعد ذلك بالخطيب أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الحلبي، فأخبرني أن شيخنا أبا هاشم عبد المطلب بن الفضل اقترح عليه هذا المعني، فنظمه وأنشدنيه لنفسه: ] من المسرح [

يا من تمنى العمى لحاسده

ليت حسودى بأعين أربع

تنتظر ثنتاهما إلي نعم الـ

ـرحمن عندي ومجدي الأرفع

ص: 129

وتنظر الأخريان خسته

والنوك منه وحاله الأشنع

فما أرى لذة الحياة سوى

كبت عدو وحاسد يقمع

وقال أيضًا: [من السريع]

عنّفي في حبه معشري

ولا مني فيه أودائي

وكيف أسلوه وهل غيره

يذهب بالهمّ وبالدّاء

وأنشدني أبو القاسم عمر أحمد أبي جرادة الحنفي، أنشدني الخطيب لنفسه أبياتًا كتبها، وهو بالبيرة يتشوق حلب وأهله:[من الطويل]

يقر لعيني أن أروح بجوشن

وماء قويق تحته متسرّبا

لقد طفت في الآفاق شرقًا ومغربًا

وقلبت طرفًي بيتها متقّلبا

فلم أر كالشهباء فى الأرض منزلًا

ولا كقويق في المشارب مشربا

جعلت شعار الوجدبي بعد بعدكّم

شعارًا ومجرّى مذهب الدمع مذهبا

لعلّ زمانًا قد قضى بفراقنا

يريني قريبًا شملنا متقّرربا

وقال أيضًا: [من الطويل]

متى يظفر المشتاق منكم بنظرة

تقرّ بها عين ويحيا بها قلب؟

أطلتم عذابي بالقطيعة والقلى

وإن عذابي في محّبتكم عذاب

إذا كان حظّي هجركّم في بعادكم

وفي قربكم فالبعد سيّان والقرب

وقال أيضًا: [من السريع]

أذكرتني عهدك بعد النوى

والبين قد أرخى عنان الهوى

يا حاجرًا على حاجر

ولاويًا يندب سقّط اللّوى

لو كنت في دعوى الهوى صادقّاّ

قطعت بالسير وريد النّوى

وكنت كالشااهين في جوه

إذا رأى ربّ هواه هوى

الحب ما قنّت صم الحشا

كلّ طبيب جائد بالدّوا

ص: 130

وقال أيضًا: [من البسيط]

ما رمت أمرآ ولا حاولت مطّلبًا

إلا جعلتك فيه الأصل والسببا

أنت الي كلّ يوم ذر شارقه

أبني به المجد أو أرقى به الرّتبا

ولا تزال مساعيك الطّوائل بي

معنّية أو أجوز السّبعةّ الشهبا

وقال أيضًا: [من السريع]

إغتنمو فرصة الزمان إذا

جاءت بخير باق على الأبد

وبادر وافعلها ليومكم

ولا تروموا تّأخيرها لغد

فليس تدرون ما يكون غدًا

وليس تبقى الدنيا على أحد

وقالأيضًا: [من الخفيف]

أخذ الوجد ما أشتهى من فؤادي

مذ غدا القلب في يديك أخيذا

وسألت الهلالّ لم لحت للنا

س فأوما إليك: إ أخي ذا

وقال أيضًا: [من الرجز]

كتبت درّآ وسفرت بدرًا

وطبت فرعًا وكرمت نجرا

فعلاك حلب قد فضلت

بغداد في علائها ومصرا

أنت العديم النّظر أو أبنه

وأبن أبنه جلاله وقدرا

وأنشدني في القاضي أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة- أسعده الله تعالى-قال: أنشدني الخطيب أبو عبد لله لنفسه: [من الرمل]

يا نسيم الريح هل أنت مطيق

حمل ما أرسله القلب المشوق

كلّ يوم أنا في آثارهم

ماء دمعي ودم الصبر مريق

آه كم أحمل في حبهم

من خطوب الوجد ما ليس أطيق

كلّ يوم لسنان الوجد في

لبتّي لمع وفي قلبي بريق

فالطفوا عدلآ وفضلاّ أنا مثلكم بالعدّل والفضل خليق

وأرفقوا رفق كريم راحم

فالتعدّي بكم ليس يليق

ص: 131

بي سكرّ من غرام وهوى

فمتى من ذا ومن هذا أفيق

قسمًا ما راق شيء بعدكم

لي وظني أنّه ليس يروق

فسلًام أنفاس الصّبا

يتمراّها غروب وشروق

[635]

محمد بن عثمان بن إسماعيل بن خليل، أبو بكر، السلماسيّ الأصل، المصري المولد.

شاعر متأدّب، صاحب شعر حسن، ونثر رائق.

أنشدني الأمير عمر بن أبي المعالي الموصلي، قال: أنشدني أبو بكر محمد بن عثمان لنفسه، ما كتبه إلى بعض أصدقائه، جوابًا عن رقعة تتضمن عتبًا على الآنقطاع:[من البسيط]

وحقّ ما في قدود السمر من هيف

يصبي وما في خدود الغيد من آس

وبدر تمّ سعى بالشمس في يده

على كواكب وسط الرّوض خلاّس

لدن المقلّد قد لانت معاطفه

من الدّلال ولكن قلبه قاسي

يقول يا برد ما تملي على كبدي

أن بت أشكو إليه حرّ أنفاسي

إني إليك لمشتاقّ ويعجبني

سعّي إليك على العينين والرأس

فلا تظنّ أنقطاعي عنك من ملل

فلست يوماّ لحقّ الناس بالناسي

وأنشدني أيضا، قال: أنشدني محمد بن عثمان من قصيدة أولها: [من الكمالي

ما حدّثتك نسمة بالأجرع

همّا لقيت من البدور الطّلّع

هب أنها ما حدثتك لريبة

أفما سقّامي شاهد وتوجعي

فكذا بنا نحو الأثيل لعلّه

يشفي الجوى شكوى الذي صنعوا معي

أنزلتهم بين الضّلوع بمنزل

لا يهتدي السلوان منه لموضع

قأضاع ودّي خائن عهد الهوى

ودّي الفداء لخائن ومضّيع

ص: 132

يا باخلًا غالطت فيه وسمته

ردّ السلام ولو بطرف الإصبع

وسألته عطّفا على فلم أجد

قلبًا يروق لذلتي وتخضعي

صلّ عاشقيك ولا تخف من بينه

أولا فصن هذا الجمال ببرقع

وأبيك ما رضّعت در تغزّلي

إلاّ لدرّ في الثغور مرصّع

طمعت به عيني فبدّد جفنها

ياقوت دمعي في الرسوم الأربع

فلأبكينّ ويا جفون تقرّحي

ولأندبنّ ويا حشاي تقطّعي

وأنشدني أبو القاسم بن أبي النجيب التبريزي، قال: أنشدني أبو بكر لنفسه:

[من البسيط]

وما يطرفك من سحر ومن دعج

ما في السلو لمن يهواك من فرج

فما لوصلك لا تبدو بشائره

وقد بذلنا له الغالي من المهج

وما لقلبك لم يعطف على دنف

صبا إليك فلم تعطف ولم تعج

يا هذه ما الهوى إلاّ الذي فعلت

فينا لواحظ ذاك الأعيد الغنج

قد كنت في سعة من قبل بينكم

وها أنا اليوم في ضيق وفي حرج

ما تنطفي غلّتي يا من كلف به إلاّ برشف حميّا ذلك الفلح

ونقلب من خطّه، قوله من قصيدة أولها:[من الكمال]

أخذّت عليك يد الصبآبة موثقًا

أنّ لا تهيم بغير ساكنة النّقا

فلذاك لا يصبوإلى وطن نأى

عنه ولا يبكي الحمى والأبرقا

زمنها في الميح:

تبدي أنامله على أوراقه

خطًّا يشاهد من سناه رونقا

كالدّرّ أو كالزّهر أو

كالزهر أو كالعبقري منمّقا

وحديث ما يمليه من ألفاظه

كالسّحر أو كالبابلي معتّقّا

وقال أيضًا: [من البسيط]

يا ليلة قد تقضيت في هوى رشا

أشهى إلى العين من نوم بها السهر

من قّبلها ما رأيت البدر معتقي

ولا سمعت بليل كلّه سحر

وله في معاتبة: [من الطويل]

ص: 133

مكّاتبة لولا عذوبة لفظها

وحسن معانيها التي ملأت صدري

توهمتها البحر الأجاج لعظم ما

رأيت بها من نظّم در إلى در

وقال أيضًا: [من الطويل]

ولست بمعطي الودّ من لا يودّني

ولا صارف يومًا إليه عناني

ولو ذهبت نفسي عليه صبابة

وجنّ منّ الأشواق فيه جناني

وله: [من الطويل]

دعائي من ذكر العذيب وبارق

فقد شاب من ذكر العذيب مفارقي

أروح بقلب للهموم مواصل

وأغدو بجفن للفراق مفارق

أحن إلى برق من الطّور لامع

وأصبو إلى طيف من الشام طارق

وكم قلت لمّا همّ قلبي بسلوة

أتعثر يا قلبي بصبر منافق

وتطمّع أن تبقى على البعد عنهم

وذلك في شرع الهوى غير لائق

ومستعذب الألفاظ قاس فؤاده

حماه التّجنّي أن يلين لعاشق

حوى وجهه روضًا فأصبحت في الهوى

أهيم بأحداق له وحدائق

سقى الله ساعات أخذنا اجتماعنا

بها من يد الأيام أخذة سارق

وحيّا ديارًا إن نزرها نجد بها

طبيبًا لأسقام وطيبًا لناشق

وقال أيضًا: [من الطويل]

خذوا بزمامي نحو أيام رامة

وقولا لعيش بالشام يعود

فما العين من بعد الفراق قريرة

ولا العيش من بعد الفريق حميد

لحا الله هذا الدّهر يدني الذين لا

أريد وينأى بالذين أريد

لئن قدمت يا عز أيام هجركم

فإن وداداّ تعلمين جديد

وقال أيضًا: [من الخفيف]

قالّ لي صاحبي غداة رآني

ولعت بي من الزكان خطوب

وسقتني صروفه الهمّ صرفًا

بمزاج تذوب منه القلوب

فالأسى حاضرّ وأهلي بعيد

ومحلى قفر وربعي جديب

راحتي راحتي تقصر عنها

فمذاق الحياة ليس يطيب

ص: 134

كيف نشكو من الزمان أهتضامًا

والجواد منك قريب

[636]

محمد بن عليّ بن مسعود بن عليّ بن مسعود بن هبة الله بن خليد، أبو الفرج أبي الحسن البغداديّ.

كانت ولادته في رمضان سنة خمس وستين وخمسمائة ببغداد، وخبرت أنه توفى بها في سنة سبع وعشرين وستمائة، من بيت مشتهر بها، من أهل الفضل والتصرف في الأعمال والرئاسة.

ومن شعره ماكتبه إلى أبي محمد الحسن بن مسعود، وهو حينئذ يتولى صدرية المعمور في أيام الناصر لدين الله، وأبو الفرج يومئذ مقيم بالحلة المزيدية، مشرف على أعمالها، يهنئه بعيد الفطر المبارك، ويتعذر إليه عن تّأخير مكاتبه عنه:[من الخفيف]

أسعد الله خدمة المخزن المعـ

مور صدر الورى بعيد الفطور

إن تكن خدمتى تجلّ فحسبيّ

ذاك ذنب في نأيه التنكير

هو جرم مصحّف فاغتفره

إن اولى من كان حقًا عذيري

وأنشدني ولده أبو طالب عبد، قال: أنشدني والي لنفسه ما كتبه إلى بعض الرؤساء، وقد زاد الماء في ولايته:[من البسيط]

فضلت بالجد مج الدين من سقت أيامه وأتتنا عنه أنباء

لا تذنب الماء إن فاضت جداوله

فسيبك الغمر منه ذلك الماء

[637]

محمد بن عليّ أبي أبو القاسم الشاطبي

كان حافظًا القران، عارفًا بتفسيره ومعانيه وأحكامه، وقرأ العربية، وتميّز

ص: 135

في علمها، وسمع الحديث، وحفظ متونه، وأخذ الفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس- رضى الله عنه- عن جماعة ببلده، واستظهر جملة من أشعار العرب، وقال الشعر، وأنشأ الرسائل والفصول، وكتب الإنشاء لأمراء شاطبة.

أنشدني أبو القاسم محمد بن محمد بن إبراهيم الشاطبي، سنة ست وعشرين وستمائة، قال: كتب إلى أبو القاسم محمد بن علي لنفسه: [من الرمل]

أيهما الخلّ الذي ليس له في أعتدادي وأعتقادي من قرين

أنا ممحوضّ إخائي بالذي

لم نزل تعلمه علم اليقين

إقتضى إدلاله توجية ما

تجتلاه بالمعاذير فمين

وإذا ما الود أضحى خالصًا

أسقط الكلفة بين المخلصين

فعسى أن تلحظوه بالذي

يبسط الأعذار للمقصرين

عشتم في خفض عيش لاتني

تعتفيه لحظات الآملين

ونجوم السعد في آفاقكم

طالعات بالرفء والبنين

والسلام المستعاد يتنحي

شخصك الفاضل حينًا بعد حين

وقال أبو القاسم فأجبه: [من الرمل]

أيها الخلّ الذي أصفيته

محض ودي فبحبيه أدين

فضلكم أتحفني بقطعة

تثبت الطّائي في المقصرين

وأهتمام يغتدي المجد له

واضح الغرة مصقول الجبين

ولقذفي ودنا الممحوض ما

يرفع الكلفة بين الممحضين

غير أن الودّ أيضًا يقتضي

عدم التأنيب بين المخلصين

دمتم ممّا أبتنيتم من علاص

أبدً في غرفات آمنين

وعليكم من سلامي مثلما

أريج الورد به والياسمين

ص: 136

[638]

محمد بن عليّ بن محمد، أبو الفضائل الوسطيّ، المعروف بابن الكعبرّي.

كان من أهل الأدب والفضل، مؤدبًا جيد المعرفة، صالح الشعر. أخبرني أبو عبد الله محمد بن سعيد الوسطي غجازة إن لم يكن سماعًا، قال: أنشدني أبو الفضائل محمد بن الكعبرّي لنفسه بواسط، يلغز:[من الخفيف]

خذ بضبعي بمن التأدّب فالله رماني في سوقه بالكساد

ما أرى الفضل مظهر الذوي الفضـ

ـل ولا النقص خاملًا للجماد

همتي مذ نشأت نيطت بحب الـ

ـمجد لاحب زينب وسعاد

غير حال إذا تبينها ذو الـ

ـلّب كانت شماتة الحساد

كنت بعد آسم من علقت ولكن بنعماك قد تنسّي مرادي

ثلث ثانيه تسعة، وكذا الرّا

بع، عشر الثاني بغير آزدياد

وإذا رمت ثلثه فهو الثاني

أيضًا فكن له ذا أنتقاد

وأخير الحروف عشر لا ولا

ها زهذا اختصارها باجتهاد

وإذا ما عكست ثانيه والأو

لّ أخلق به شراب الأعادي

والبسن الثّناء مني على مجسدك نشر الباقي بغير نفاد

لا تكلني عليه إن صار عين الـ

فعل فاءً ياعدّتي وأعتمادي

ص: 137

فقلد شمت بارق البشر من بشـ

رك والرّي بعد طول الجواد

وآصطناع الآحرار أجدر بالحر إلى تربه حبيس الأيادي

قال أبو عبد الله الدبيثي مجيبًا له وموضحصا للاسم الذي ألغزه:

[من الخفيف]

أيها الملغز المجيد أصخ لي

عشت ما شئت مدركا للمراد

قد تبينت ما لغزت فخذه

فهو (مسعود) فزت بالإسعاد

وأبق في نعمة تدوم ومجد

صاعد مالكًا رقاب الآعادي

[639]

محمد بن عبد السلام بن محمد بن عبد العزيز بن هبة الله السنجاري، يكنى أبا البركات، المعروف بابن الخطيب.

وإليهم كانت الخطابة بسنجار.

كانت فقيهًا مدرسًا عارفًا بالأصول، مبرزصا في علم الخلاف، مشتهرًا بالتحقيق في الجدل والإنصاف.

قدم مدينة إربل من بلاد العجم، ودرس الفقه بالمدرسة العقلية عدة سنين، واتصل بسلطانها الملك المعظم مظفر الدين أبي سعيد كوكبوري بن علي بن بكتكين- رضى الله عنه- وصار أحد المثرين في دولته، وأنفذه إلى عدة جهات رسولًا، منها إلى مدينة السلام وبلاد الشام وغيرها من البلدان.

وكان ذا رأى صائب، وفهم في تدبير المماللك ثاقب، ثم انصرف /ب 99/عن

ص: 138

إربل متوجهًا سنة ثلاث عشرة وستمائة، إلى بلاد الروم، وسكن قونيا وقيسارية، ثم تولى القضاء بملطية فبقي بها أشهرصا، لم يقبل منأحد رشي مدة ولايته.

أنشدني أبو الثناء محمود بن الحكيم الإربلي، قال: أنشدني أبو البركات لنفسه: [من الوفير]

لقد أغنتك يا مولاي راحّ

غدتّ في فيك طيبة المذآق

عن الخمر الحرام المرّ لكن

مرادّك من تناولها شقاقي

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من الكامل]

يا رب إن عواذلي قدّ بالغوا

في العدل حتى خفت أني أقبل

فأذقهم طعم المحبّة وأبلهم

بالعاذلين لينتهوا أن يعذلوا

وأنشدني، قال: أنشدني من شعره: [من البسيط]

لمّا أغرت على ريحان عارضه

وكدت أفنيه بين العضّ والقبل

صاغ الحياء عقودآ دهارها عرقّ

لورد وجنته من شدةّ الخجل

وأنشدني، قال أنشدني:[من الكامل]

حتى تخلف أن تزور وتخلف

وإلى تمعن في الصّدود وتسرف

هبني أخافك أن أبثك حالتي

أفلست تعلم ما أجنّ وتعرف

[640]

محمد بن نصر مكارم بن الحسين بن محمد بن غالب بن عنين الأنصاريّ، الشاعر الأديب، أبو المحاسن الدمشقي.

ص: 139

كان مولده في الاثنين تاسع شعبان سنة تسع وأربعين وخمسمائة. بقرية من القريا دمشق، تدعى زرع، وكان أصله من الكوفة. وتوفي بدمشق عيشة يوم الاثنين العشرين من ربيع الأول سنة ثلاثين وستمائة.

كان من الشعراء الشاميين وظروفهم، صاحب رويّة محبرّة، ويديهة محررّة، سخيف اللسان، قبيح الهجاء أغري بهجاء الناس، وتمزق أعراضهم، وهو ممن غلب هجاؤه على مدحه، قّل أن سلم أحد من الرؤساء والملوك وأرباب العلم والمناصب من لسانه، حتى لا يوجد من حفظ له إلا هجوُا جال في أقطار الأرض.

وسافر ما بين الشام وديار مصر والعراق وبلاد خراسان وما وراء النهر وغزنة، ومن بلاد الهند واليمن، ومدح أكثر بذلك مالُا جليلُا، وثروة واسعة.

ثم عاود دمشق، فلقد سلطانها الملك المعظم شرف الدين عيسى بن أبى بكر بن أيوب- رحمة الله تعالى- وزارته، فبقي فيها إلى أن توفي الملك المعظم.

حدثني الصاحب أبو البركات- رضي الله عنه وساقية في تاريخه، وقال: صاحب الأبيات النادرة، والأحاجي السائر، والذكاء الخارق، والحسّ الصادق، والفطرة السليمة، والفكرة القومية، متى مدح رفع، ومتى هجا وضع، يتناقل الرواة بديعه في الهجاء، وإن وسم بها أعراض الصدور والكبراء، فبلغ من القلوب ما تبلغه المدام، وتخرق في الأغراض ما لاتخرقه السهام. وله مع ذلك يد طويلة، وقريحة

ص: 140

بإدراك ما يحاوله من رصيده كفيلة، إلاّ أنه شهر بالهجاء فهو أكثر ما يروى عنه.

قدم علينا في شهر ربيع الأول من سنة ثلات وستمائة، وكنت أسمع بأشعاره، وأتشوق إلى أخبارة، ولا أطمع نفسي في لقائه، ولا أمنّيها إلاّ سماع أنبائه، إلى أن خطر الدهر خطر أنه، وأرخى القدر فجاذبه عنانه، فوردإربل قاصدُا بلاد العجم للتجارة، وله ثروة وافرة، وجدة لا تقللها المكاثرة، وهو إلى الآن مشهور عند الملوك ذكره، نابهّ عند الأكابر في قدره.

ولقد بلغنني عنه، أن بدمشق له منزل- من الملك العادل سيف الدين- مكينة، ومحلّة عند وزيره جليلة، صار بهما مميزُا على أشكاله وأكفائه، مقدمُا على أمثاله ونظرائه، وسأورد من أشعاره التى أنشدنيها، ما يشهد بوجودة ألفاظها، وصحة معانيها.

وحدثني القاضي الإمام بهاء الدين أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن سعيد بن الخشاب بحلب- أيده الله تعالى-، قال: حدثني أبو المحاسن محمد بن نصر بن عنين الدمشقي في صفر سنة خمس وعشرين وستمائة عند عودي من الحجاز، قال: كنت بخوارزم بين يدي الإمام العلاّمة فخر الدين الرازي- رضي الله عنه، وكان الزمان شتاء، والثلج واقع، وإذا بعض الجوارح قد طرد حمامة، فألجأها الخوف إلى أن دخلت المدرسة التي نحن فيها، ثم وصلت إلى الإمام فخر الدين بطريق الاتفاق، فقبضها بيده، ومضى الجارح لسبيله، فعلمت بديهّا هذه الأبيات:

[من الكمال]

يا أبن الكرام المطمعين إذا شتوا

في كُل مسغبة وثلج ختاشتف

العاصمين إذا النفوس تطأيرت

بين الصوارم والوشيج الرّاعف

من أنبأ الورقاء أن محلكم

حرمّ وأنك ملجاّ للخائف

وفدت عليك وقد تدانى حتفها

فحبوتها ببقائها المستأنف

جاءت سليمان الزمان بشكوها

والموت يلمع في جناحي خاطف

ص: 141

قرم لواه القوت حتى ظله

بازًا به تجري بقلب راجف

فأجرتها وحميتها ورددتها

موفورة تحظى بعيش وارف

ولوأنها تحمى بمال لأنثّنت

من راحتيك بتالد وبطارف

ولشنفت بفرائد من لفظه

ولشرفت بملابس ومطارف

مولاي عين الله تكلأ مجدك الـ

عالي لقد جاوزت حد الواصف

وقد رتّب ابن عنين شعره في أول ديوانه، وما أتى به من المدائح في الملوك على قدر ما ابتدأ به، ثم بمن يليهم من الوزراء وغيرهم، ثم بما اتفق من المرائى ثم ما نظم من الأهاجي، التي التي كان قصد بها الدعابة والإحماض، لا الغيبة وثلب الأعراض، ثم ما نظمه من الوقائع التي اتفقت له والأغراض، ثم بما سنح له من الألغاز المعجزة والأجوبة عنها، ثم ختم الديوان بما ورد في شعره من الأبيات النحوية، وسال المتأمل له والواقف عليه التجاوز عما أوعيه فيه من الزلاّت، وضمّه من الهفوات.

وروى لي من شعره عنه، القاضيان الجليلان، بها الدين أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن الخشاب، وأبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرداة بحلب- أيدهما الله تعالى-. أنشدني أبو الفضل العباس بن عثمان نبهان الإربلي التاجر، قال: أنشدني أبو اغلمحاسن بن عنين لنفسه: [من الطويل]

عسى البارق الشامي تهمي سحابه

فتخضل أثباج الحمى ورحابه

وتسري الصبا من جانبيه عليلة

كما فتقت عن حضرمّي عبابه

خليليّ ما لي بالجزيرة لا أرى

لمية طيفا يزدهيني عتابه

ويأمن سار أن يبيت مغبة

ببيداء دون الماطرون ركابه

إذا جبل الريان لاحت قبابه

لعين وبانت من منير هضابه

ولاحت جبال الثلج زهرا كأنها

مفارق شيب قد تلاشى شبابه

ولاحت قصور الغوطتين كأنها

مراكب في بحر يعب عبابه

ص: 142

وهبت لنا ريح اتتنا من الحمى

تخبر عمّا ضمنته قبابه

لثمت الثّرى مستشفيًا لغليله

وهيهات عما ضمنته فبابه

أنشدني نجيب الدين بن الصفار، قال: أنشدني ابن عنين لنفسه، يمدح السلطان الملك العادل سيف الدين أبا بكر محمد بن أيوب بن شاذي- رضي الله عنه:

[من الكامل]

ماذا على طيف الأحبّة لو سرى

وعليهم لو سامحوني بالكرى

جنحوا إلي قول الوشاة فأعرضوا

والله يعلم أن ذلك مفترى

يا معرضًا عني بغير جناية

إلا لما رقش الحسود وزوروا

هبني أسأت كما تقوّل وأفترىّ

وأتيت في حبيبك ذنبًا منكرا

ما بعد بعدك والصدود عقوبة

يا قاتلي قد آن لي أن تغفرا

لا تجمعن علي عتبك والنوى

حسب المحب عقوبة أن يهجرا

عتب الصدود أخف من عتب النوى

لو كان لي في الحب أن أتخيرا

لو عاقبوني في الهوى بسوى النوى

لرجوتهم وطمعت أن أنصبرا

فسقى دمشق ووادييها والحمى

متواصل الإعاد منفصم العرى

حتى ترى وجه الرياض بجوها

أحوى وفود الدوح أزهر نيرا

وأعاد أيامًا قطعت حميدة

ما بين حرة عالقين وعشترا

أرض إذا مرت بها ريح الصبا

حملت عن الأعطان مسكاّ أفرا

تلك المنازل لا أعقة عالج

ورمال كاظمة ولا وادي القرى

فارقتها لا عن رضا وهجرتها

لا عن قلى ورحلّت لا متخيرا

أسعى لرزق في البلاد مفّرق

ومن البلية أن يكون مقتّرًا

ولقد قطعت الأرض طورًا سلكاّ

نجدًا وآنة أجد مغوّر

وأصون وجه مدائحي متقنعًا

وأكفّ ذيل مطامعي متستّرا

كم ليلة كالبحر جببت ظلامها

عن واضح الصبح المنير فأسفرا

ص: 143

في فتية مثل النجوم تسنموا

في البيد أمثال الأهلة ضمّرا

ياتوا على شعب الرمال جوانحا

والنوم يفتك في الغوارب والذرى

قالوا وقد خاطّ النّعاس جفونهم:

أين المناخ فقّلت خد وا في السرى

لا تسأموا الإدلاج حتّى تدركوا

بيض الأيادي والجناب الأخضرا

في ظلّ ميمون النّقيبة طاهر الأ

عراق منصور اللّواء مظفّرا

العادل الملك الذي أسماوه

في كلّ ناحية تشرف منبرا

وبكل أرض جنة من عدله الـ

ضافي أسأل نداه فيها كوثرا

عدل يبيتّ الذئب فيه على الطوى

غرثان وهو يرى الغزالّ الأعفّرا

ما في أبي بكر لمعتقد الهدى

شك يريب بأنّه خير الورى

سيف صقال المجد أخلص متنه

وأبان طيب الأصل منه الجوهرا

ما مدحه بالمستعار له ولا

أيات سؤدده حديث يفترى

بين الملوك الغابرين وبينه

في الفضل ما بين الثريّا والثّرى

لا تسمعن حديث ملك غيره

يروى فكل الصيد في جوف الفرا

نسخت خلائقه الكريمة ما أتى

في الكتب عن كسرى الملوك وقيصرا

ملك إذا خفت حلوم ذوي النهى

في الروع زاد رصانة وتوقّيرا

ثيت الجنان تراع من وثابه

وثباته يوم الوغى أسد الشرى

يقظ يكاد يقول عما في غد .. ببديهة أغنته أن يتفكرا

حلم تخفّ له الجبال وراءه

رأى وعزمّ يحقر الإسكندرا

يعفو عن الذئب العظيم تكرّامًا

ويصد عن قول الخنى متكبرا

أينال حاسده علاه بسعيه

هيهات لو ركب البراق لقصرا

وله الملوك بكل أرض منهم

ملك يقود إلى الأعادي عسكرا

من كل وضاح الجبين تخاله

بدرًا فإن شهد الوغى فغضنفرا

يعيشو إلي نار الوغى شغفصا بها ويجل أن يعيشو إلى نار القرى

متقدم حتى إذا النقع أنجلى

بالبيض عن سبي الحريم تأخرا

ص: 144

قوم زكوا أصًا وطابوا محتدًا

وتدفقوا جودًا وراعوا منظرا

وتعافّ خليلهم الورود بمنهل

ما لم يكن بدم الوقائع أسجرا

كم حادث خفت حلوم دوى النهى

خوفًا وجأشك فيه أربط من حرا

أنت الذّي أفتخر الآنام بجوده

ووجوده وكفاه مجدك فخرا

الله خصك بالممالك وأجتبى

لمّا رآك لها الصّلاح الأكبرا

أشكو إليك نوى تمادى عمّرها

حتى حسبت اليوم منها أشهرا

لا عيشتي تصفو ولا رسم الهوى

يعفو ولا جفني يصافحه الكرى

أضحى عن الآحوى المريع محلا

وأبيت عن ورد النمير منفرّا

ومن العجائب أن تقيل ظلكم

كلّ الورى ونبذت وحدي بالعرا

ولقد سئمت من القريض ونظمه

ما حاجتي ببضاعة لا تشترى

كسدت فلما قمت ممتدحابها

ملك الممالك كنت أربح متجرا

لازلت ممتدود البقاء حتى ترى

عيسى في الوغى مستنصرا

وأنشدني أيضًا من لفظه وحفظه، قال: أنشدني ابن عنين لنفسه يمدح الملك المعظم شرف الدين بن عيسى بن أبي بكر بن أيوب بن شاذي، صاحب دمشق-رضي الله عنه:

[من الطويل]

أشاقك من عليا دمشق قصورها

وولدان أرض النيربين وحورها

ومنبجس في ظلّ أحوى كأنه

ثياب عروس صاك فيها عبيرها

منازل أنيس ما آنحتّ ولا أنمحت

بمر السوارى والغوادى سطورها

تزيد على الايام نورًا وبهجة .. وتذوي الليالي وهي غض حبيرها

كأن عليها عبقري مطارف

من الوشي يسديها الحيا وينيرها

إذا الريح مرت في رياها كريهة

حبها أريح النشر فيها مرورها

سقى الله دوح الغوطتين ولا أرتوت

من الموصل الحدباء إلا قبورها

فيا صاحبي نجواي بالله خيّرا

رهين صبايات عسيٍر يسيرها

ص: 145

/105 أ/أمن مرح مادت قدود غصونها

ببهجتنا أم أطربتها طيورها

خليلي إن أفنى مدامعي

فهل لكما من عبرة أستعيرها

لقد أنسيت نفسي المسرّات بعدكم ،،، فإن عاد عيد الوصل عاد سرورها

آلا إن لي تحت الجوانح غلةّ

إذا جادها دمع تلظّى سعيرها

وقاسمتماني أن تعينا على الهوى

إذا نزوات البين سارت سؤورها

ففيم تماديكم وقد جد جدها

كما ترياه وأستمر مريرها

وأصعب مايلقى المحب من الجوى

تداني النوى من خلّة لا يزورها

فيا ليت شعري الآن ذكر ما مضى

أوائل أيم النّوى أم أخيرها

متى أنا في ركب يؤم بنا الحمى

خفاف ثقاّل بلأماني ظهورها

حروف بافعالها لهن نواصب

إذا آنست خفضًا فرفع مسيرها

تظنّ دون لبنان واللّيل عاكف

صديع صباح في سراها يجبيرها

وقد خلّلقت رعن المدّخن خلفها

ونكّتب عنها في يمين ثبيرها

فيفرح محزونّ ويكبت حاسد

وتبرد أكباد ذكي سعّيرها

وقد ماتت الأموال عندي إنما

إلي شرف الدين المليك نشورها

مليك تخلّلى الملك منه بعزمة

بها طال عن رمح السّماك قصيرها

يلاقي بني المال طلقا فبشره

بما أملته من نجاح بشيرها

فما عـ[ـمـ]ـة مشكورة لا تثيبها

ولا سيرة محمودة لا يسيرها

همام تظل الشمس من عزماته

مححّبة نقع المذاكي سورها

مهيب فلو لاقى الكواكب عابسّا

تساقطت الجوزا وخرّت عبورها

ولو آنست منه الآهلة غضبةّ

نهاه سطاه أن تنم بدورها

تشرّف أيدي السحب إن قال قائل

لأدنى نوال منه هذا نظيرها

حلفت بما ضمّت أباطح مكّة

منى والبدن والشهب تدمى نحورها

لقد فاز بالملك المعظّم أنه

إلى عدّاله المشهور ردت أمورها

وقال يمدح الملك العزيز ظهير الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي

ص: 146

بكر محمد بن أيوب بن شاذي: [من الطويل]

حنين إلى الأوطان ليس يزول

وقلب عن الأشواق ليس يحول

أبيت وأسراب الدمع كأنها

قفول تهادى إثرهن قفول

أراقبها في الأفق من كلّ مطلٍع

كأني برعي السائرات كفيل

فيا لك من ليل نأى عنه صحبه

فليس له فجر إليه يؤول

أما لعقود النجم فيه تصرم

أما لخطاب الفجر فيه نصول

كأن السّريّا غرّرة وهو أدهم

له من وميض الشعريين حجول

(ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة)

وظلك يا مقرى علي ضليل

وهل أرني من بعد ما شطّت النوى

ولي في ذرى روض هناك مقيل

دمشق فبي سوق إليها مبرح

وإن لج واش أو ألح عذول

بلاد بها الحصباء در وتربها

عبير وأنفاس الشمال شمول

تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق

وصح نسيم الرّروض وهو عليل

فيا حبّذا الرّوض الذي دون عزّتا

سحيرًا إذا هبت عليه قبول

ويا حبّذا الوادي إذا ما تدفقت جداول باناس إليه تسيل

وفي كبدي من قاسيون حرارة

تزول رواسيه وليس تزول

إذا لاح برق من سنير تدافعت

لسحب جفوني في الخدود سيول

فلله أيامي وغض الصبابها

وريق وإذ وجه الزمان صقيل

هي الغرض الأقص وإن لم تكن بها

صديق ولم يصف الوداد خليل

وكم قائل في الأرض للحر مذهب إذا جار دهر واستحال ملول

وما نافعي أن المياه سوايح

عذاب ولم ينقع بهن غليل

فقدت الّصبا والاهل والدار والهوى

فلله صبري إنه لجميل

ص: 147

ووالله ما فارقتها عن ملالة

سواي عن العهد القديّم يميل

ولكن أببيت أن تقبل الضيم همتي

ونفس لها فوق السماك حلول

كأن الفتى يلقنى المنايا مكرما

ويكره طول العمر وهو دليل

يعاف الورود الحائمات عن الآذى

وللقيظ في أكبادهنّ صليلّ

كذلك ألقى أبن الأشجّ بنفسه

ولم يرض عمّرًا في الإسار يطول

سألثم إن وافيتها ذلك الثرى

وهيهات حالّلت دون ذاك ذحول

أيغتربي دهري على ما يسومني

ولي من ندى الملك العزيز مقيل

على أنني والحمد لله لم أزل

أطول على أحداثه وأصول

وكيف أخاف الدّهر أو أحرم الغنى

وأري ظهير الدّين في جميل

من القوم أما أحنف فمسفّه

لديهم وأمّا حاتم فبخيل

فتى الجواد أما جاره فممنع

عزيز وأما ضدّه فذليل

واما عطايا كفه فسوابغ

عذاب وأما ظله فظليل

وله وقد إليه بعض مماليك أصدقائه، وقد غضب عليه سيده، فكتب معه شفاعة:[من الطويل]

ومن عجب الأّيام أنّ شفاعتيّ

ترجّى لمن في وجهه ألف شافع

يروم شفيعاّ من سواه جهالة

وهل شافع مثل الشفيع المضاجع

أنشدني أبو عبد الله بن سعد الدبيثي، قال: أنشدني ابن عنين لنفسه، ببغداد مبدأ قصيدة:[من الطويل]

أهاجك شوق أم سنى بارق نجدي

يضيء سناه ما يجنّ من الوجد

تعرض وهنا والنجوم كأنّها

مصابيح رهبان تشب على بعد

حننت إليه بعد ما نام صحبتى

حنين العشار الحاديات إلى الورد

تذكرني عيشًا تقضى على الحمى

وأيامنا عن أيمن العلم الفرد

وإذا أم عمرو كالغزالة ترتعي

بوادي الخزامي روض ذاك الثّرى الجعد

ص: 148

ومنها:

وما زالت الآيام تمهي شفارها

وتسحب حتّى آستأصلت كلّ ما عندي

فأقبلت أجتاب البلاد كأنني

قذى حال دون الغمض في الأعين الرّمد

فلم يبق حزن ما توقلّت متنه

ولم يبق سهل ما جررت به بردي

وأنشدني القاضي الإمام أبو القاسم عمر بن أحمد بن جراادة بحلب- أيده الله تعالى-، قال: أنشدني أبو المحاسن محمد بن عنين لنفسه بدمشق: [من الكامل]

يا عاتباّ جعل القطيعة مذهبا

ظلماّ ولم أر عن هواه مذهبا

وأضاع عهد ذا لم أضعه ناقضا

ذمم الوفاء وحال عن صبّ صبا

غادرت داعية البعاد محبّتي

فبأيّ حالاتي أرى متطرّبا

ظبي من الأتراك يثني قده

ريح الصّبا وبعيده لين الصّبا

ما باله في عارضيه مسكه

ولقد عهدت المسك في سرور الظّبا

غضبان لا يرثي فما قابلته

مبتسما إلا أستحال مقطبًا

الله يعلم ما طلبت له الرّضا

إلا تجنى عامدًا وتجنّبا

فيزيده فرط التذلل عزّة

أبدًا وفرّط الاشتياق تعتبا

عجبًا له اتخذّ الوشاة وقولهم

صدّقًا وعاين ما لقيت مكذبا

ورأى جيوش البحر وهي هزيمةّ

فأغار في خيل الصدود وأجلبا

يا بدر عمّك بالمحاسن خالك

الدّجي فخصك بالمحاسن واجتبى

سبحان من أذكى بخدّك للورى

لهباّ يزيد به القلوبّ تلهبا

أو ما أكتفى من عارضيك بأرقم

حتى لوى من فضل صدغك عقربا

وقال يلغز في صبي، أسمه ياسين، أنشدنيها الشيخ الحافظ أبو عبد الله:

[من السريع]

ص: 149

وشادن أبصرته قائمًا

يلعب بالتابوك في موسم

كأنه البدر وقد كللت

من عرق خداه بالأنجم

وكلما أبعدها ركضه

عادت على أقدامه ترتمي

قلّت له: ما أسمك قل لي فقد

أرفت من غير جراح دمي

فمرّ في لعبته لاهيا

وقال: حرفان من المعجم

وقال وهو في المخيم، مع الملك المعظم شرف الدين، وأنشدنيها عنه القاضي الأمام الأجل أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن سعيد بحلب- أيده الله تعالى-:[من الكامل]

أنا وأبن شيت في الخيام زيادة

وأبن النّفيس وذا الملق الصوفي

لا بأسنا يخشى ولا أضيافنا

تقرى ولا نرجى لدفع مخوف

أما الملّق كما علمت فزهده

وقف على زبديّة ورغيف

وفتى بجيلة إن قرا ما خطه

ألفيت فيه غرائب التّصحيف

ومهوّس باليمياء يقطع الآ

يام بالتعليل والتسويف

يبغي من الأبوال تبرًا خالصًا

عقل لعمر أبيك جدّ سخيف

وأنا وشعري كم يعنفي الورى

فيه ولا أصغي إلى التعنيف

وقال أيضًا: [من الطويل]

حبيب نأى وهو القريب المصاقب

وبعدى نوى لم تنص فيه الكائب

وإن بعيدًا لا يرجّى أقترأبه

بعيد تنائى والرّدى متقارب

ألين لصعب القلب قاس فؤاده

وأعتبه لو يرعوي من أعاتب

من التّرك مّياس القواّم منعّم له الدّر ثغر والزمر [د] شارب

يفوّق سهما من كحيل مضيّق

له الهدب ريشّ والقسي حواجب

أسأل عذارًا في أسيل كأنه عبير على كافور خديه ذائب

سرت عقرّبا صدغيه في صحن خد

فهن لقلبي سالبات لواسب

ص: 150

عجبت لجفنيه وقثد لحس قهما

فصحت وجسمي من أذهن ذائب

من خصره كيف أستقلّ وقد عدت تجاذبه أردافه والمناكب

ضنيت به حتى رثت [لي] عواذلي

ورق لما ألقى العدو المناصب

فهل لي من داء الصبآبة مخلص

لعمري لقد ضاقت علي المذهب

وما كنت ممّن يستكن لحادث

ولكن سلطان لهوى لا يغالب

وقال أيضّا، وأنشدنيها عنه القاضى الإمام الصدر بهاء الدين أبو محمد الحسن ابن إبراهيم بن سعد بحلب- أدام الله أوقاته-:[من الكمال]

أنا وأبن شيث في الخيام زيادة

فلا يرتجى منّا لخلق فائده

من كلّ من قصرت يداه عن النّدى

يوم الجدا وتطول عند المائده

فكأننا واو بعمرو ألحقت

أو إصبع بين الأصابع زائده

وقال في ابن شيث: وقد أمره الملك المعظم أن لا يهجوه فاعتذر: [من الخفيف]

كذبًا كلّ ما اعيت وزورآ

أنا وحدي زيادة في الخيام

وضيوفي الذين يمسون غرثى

ويداي الطوال عند الطّعام

ولزوم البساط أكبر همي

وعلاج الأبوال أقصى مرامي

وقال فيه أيضًا: [من الخفيف]

زعموا أنني هجوت أبن شيث

كيف أهجوه وهو في العلم آيه

إنّما قلت إنّه حسن الظـ

ـن حليمّ كأنّه أبن نفايه

ومرّ يومًا بجامع دمشق، فرأى واعظًا يلحف في سؤال الناس، فسأل عنه فذكر أنّه يعشق صبيًا من بني عساكر، اسمه نصر الله، وله نسيب منهم اسمه عباس، قيل إنه معًا، فقال:[من البسيط]

ص: 151

ياواعظ الناس ماينفك عن طلب

معذبًا بين إنعاظ وإفلاس

ما كان أغناك عن إلحاف ميآلة

لو كان في إست نصر داء عّباس

وقال أيضًا يهجو: [من الكامل]

في دولة الملك المعظّم خمسة

لا يؤمنون على قشور المحلب

وصهر المكرّم وأبنه

والحام المصّري وأبن التّنبي

وقال في المحتسب البكري، وأنشدنيها أبو الفتح نصر الله بن أبن العز بن أبي طالب الشيباني الصفار الدمشقي، بها في المحرم سنة أربعين وستمائة:[من الوافر]

عسى الرحمن ينقذنا سريعّا

برحمته من الزاغ الخبيث

أشدّ من السليلين أنبساطًا

وألزم للسماط من أبن شيث

وألآم من فتى الكندي لؤما

وصنعته وأكذب في الحديث

وقال لما دفن القاضي أبو الفرج يونيس بن فيروز بن بدران، قاضي دمشق المصري في داره:[من السريع]

وما أقصر المصري في رأيه

إذا جعل التربة في داره

فخلص الأحياء من شره

وخلص الأموات من ناره

وقال أيضا يهجو: [من الخفيف]

طلع الدّين مستغيثًا إلى الرحـ

ـمان إن العباد قد ظلموني

يتسمون بي وحقك ما أعـ

ـرف منهم شخصًا ولا يعرفوني

كلّ يوم يعزى إلي وضيع الـ

ـقدر فظّ الكّلام كالزنكلوني

لقبوا أبن المصري ناجي

ولو كان شراكّا للنعل ما أنصفوني

وأبن شيث ويونس والمسيحي جمالي فالقوم قد رفضوني وقال أيضًا: [من الكامل]

لولا الحياء وخيفتي من خالقي

لضربت في الآفاق بالناقوس

ص: 152

وجمعت أهل الأرض كيما يعجبوا

لتالف الغزّلان بالجاموس

وقال في مدّرسين كانا بدمشق أحدهما يلقب الجاموس، والآخر البغل:

[من الكامل]

البغل والجاموس في جدليهما

قد أصبحا عجبا لكلّ مناظر

برزا عشية يومنا ليجادلا

هذا بقرنيه وذا بالحافر

ما أتقنا غير الصياح كأنما

لقنا جدال المرتضى ابن عساكر

لفظ طويل تحت معنى قاصر

كالعقل في عبد اللطيف النّاظر

إثنان ما لهما وحقك ثالث

إلاّ رقاعة مدلويه الشاعر

وقال يهجوا بن دحية الأندلس المحدث: [من السريع]

دحية لم يعقب فكم تعتزي إليه بالبهتان والإفك

ما صحّ عند الناس شئ سوى أنك من كلّب بلا شكّ

وله يلغز في العقرب: [من الطويل]

وما حيوان يتقي الناس بطشه

على أنه واهي القوى واهن البطش

إذا ضعفوا نصف اسمه كان طائرآ

وإن ضعفوا باقيه كان من الوحش

وقال يهجو: [من الوافر]

كأن قفا الوزير عروض شعر

يقطع بالبسيط وبالمديد

فذالك لا يزال النعل فيه

كمنزل أحمد بن أبي الحديد

وقال أيضًا: [من الطويل]

لئن وافي مصر فرعون وحده

من الشام وآستولى وأظهرنا موسا

فقد جلبت مصر إلى الشام واحدًا يرى الف فرعون وليس لنا موسى

وقال يهجو صدرجهان محمد بن أحمد بن عبد العزير بن مازة

ص: 153

البخاري، وأنشدنيها عنه الشيخ الحافظ أبو عبد الله:[من الكامل]

مال أبنمازة دونه لعفاته

خرط القتادة أو مناط الفرقد

مال لزوم الجمع يمنع صرفه

في راحه مثل المنادى المفرد

وقال يهجو القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني: [من المتقارب]

إذا كلبه ولدت سبعة

فلا تعجبن أيها السائل

فعدّة أخلافها سّتة

وفاضل وأولادها الفاضل

وقال فيه أيضًا: [من الطويل]

سألت النجيب الفاضليّ وقد بدا

عليه شحوب بعد شدة أزه

أكنت مريضًا قال: كلاّ، وإنما

تخيرني عبد الرّحيم لسره

فقلت له: حق على الله خفض ما

ترفّع تيها وأدّعى فوق قّدره

وهب أن ما تومي إليه مصدّق

وأنك قد أقر تناقص أمره

فما وهدة ما بين ثدييك، قال لي

مقعّر صدري من محدّب ظهره

وقال وقد عمل في أبواب جامع دمشق سلاسل: [من السريع]

لمّا رأى الجامع أمواله

مأكوله ما بين نوّابه

جنّ فمن خوف عليه غدا

مسلسلًا في كلّ أبوابه

وكيف لا تعتاده جنّة

وقد رأى خسة أربابه

القرد في شباكه حالم

والكلب في قلبة محرابه

وقال من جملة أبيات: [من المسرح]

سلطاننا أعرج وكاتبه

منعمشذ والوزير منحدب

وصاحب الأمر خلقه شرسّ

وعارض الجيش دواؤه عجب

ص: 154

يبيّت من حكّمة تؤرقه

في دبره طوّل ليله يثب

وحاكم المسلمين ليس له

في غير غر مول جرجس أرب

وله وقد اجتاز هو وصبي يقبله، بصبي يقال له- أحسن الناس وجهًا- فقال له: نبه عمر، أراد بذلك قول بشار بن:[من المتقارب]

(إذا أيقظتك صروف الزمان

فنبه لها عمرآ ثمّ نم)

فقال أرتجالآ: [من البسيط]

وحاجة بت أشكوها إلى ثقة

وقد ترقرق ماء العين ينحدر

فقال لي مشفقا نبه لها عمّراّ

فقلت: واخيبتا إن لم ينم عمر

وكتب إليه اخوه كتابًا يصف له دمشق، ويشوقّه إلى وطنه، وأبو المحاسن يومئذ ببلاد خراسان، فكتب إلى أخيه بهذه الأبيات، وأنشدنيها عنه القاضي الإمام بهاء الدين أبو محمد الحسن بن سعيد الحلبي- أسعده الله-:[من الكامل]

يا سيّدي وأخي لقد أذكرتني

عهد الصّبا ووعظتّني فنصحت لي

أذكرتني وادي دمشق وظله الضافي البرود السلسل

ووصفت لي زمن الربيع وقد بدا

عجب الزمان إلي شباب مقبل

وتجاوب الأطيار فيه [فمطرب]

يلهي الشجيّ وناتج يشجيّ الخلي

يغني النّديم عن القيان غناؤها

فالعندليب بها رسيل البلبل

فكأنما أخدت عن أبن مقلد

قول المسرح في الثقيل الأوّل

ومدامة من صيدنايا نشرها

من عنبر ورداؤها من صندل

مسكيّة النفحات يعرف أصلها

عن بابل ويجل عن قطربل

وتقول: اهل دمشق أكرم معشر

وأجلهم ودمشق أطيب منزل

وصدقت إن دمشق جنّة هذه الـ

ـدنيا ولكن الحجيم الذالي

ص: 155

لا الدائص الحلبيّ ينفذ حكمه

فيها عليّ ولا العواني الموصلي

هيهات أن أتي دمشق وظلها

يعزى إلى غير الملك الأفضل

ومن العجائب أن يقوم بها أبو

بكر وقد جعل الوصية في علي

مهلًا أبا حسن فتلك سحابة

صيفيّة عمّا قليل تنجلي

وكتب أيضًا إلى أخيه في صدر كتاب: [من الطويل]

وما حائمات تمّ في الصيف ظمؤها

فجاءت وللرمضاء علي المراجل

فلمّا رأين الماء عذبًا وأقبلت

عليه رأين الموت دون المناهل

بأعظم من وجدي عليك ووحشتي

إليك وإن لم أحظ منك بطائل

وقال وكتب إلى الملك المعظم يستعفيه من تقليده الوزارة، وأنشدنيها عنه القاضي بهاء الدين أبو محمد:[من الطويل]

أقلبي عثاري واتّخذها وسيلة

يكون برحماها لك الله جازيا

كفى حزنًا أن لست ترضى ولا أرى

فتى راضيًا عنّي ولا الله راضيا

ولست أرجي بعد سبعين حجّة

نجاةّ وقد لاقيت كلّ الدّواها

أخوض الآفاعي طول عمري خائفًا

وكم يتوفّى من يخوض الآفاعيا

وقال يهجو القاضي أبا الفرج يونس بن فيروز بن بدران قاضي دمشق المصري:

[من المتقارب]

قضى يونس نحبه بعدما

قضى في الآنام بغير الصّواب

وأحرز أولاده ماله

وموت الحمير حياة الكلاب

ص: 156

[641]

محمد بن سعد بن نصر بن سعيد علّي، أبو نصر بن أبي الحسن الدجاجي البغدادي المعروف بابن الحيواني.

كانت ولادته في شهر رجب سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وتوفي ببغداد يوم الأربعاء خامس عشر ربيع الأول سنة إحدى وستمائة، ودفن بجانبها الغربي بباب حرب.

وكان واعظصا فقيهًا حنبليات، شاعرًا محدثصا له خطب وفصول في الوعظ، وأشعار مدح بها الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد- رضي الله عنه.

سمع الحديث على أبي جعفر محمد بن علي السمناني، وأبي منصور عبد الرحمن بن محمد بن زريق القزاز البغدادي، وأبي بكر قاضي المارستان، وأبي الوقت عبد الأول عيس بن شعيب السجزي.

وكان شيخًا، فيه صلاح وفضل حسن، ومن شعره يمدح الإمام الناصر لدين الله، ويذهب فيه أبي الفتح البستي في المجانس المتشابه القوافي. وأنشدني منه شيخنا أبو عبد الله محمد بن سعيد الوسطي، قال: أنشدنا أبو نصر الدجاجي لنفسه: [من السريع]

تقول عيسي حين أدميتها

بالسير رفقا بي يا هاشمي

إن شئت أن تلقى المنى والغنى

عج بإمام من بني هاشم

ص: 157

/114 ب/فقلت إذ لاح سنى برقه

يا نوق هذا نوره هاشمي

وقال فيه أيضًا: [من الطويل]

إمام أعاد العدل من فقده

وأحيا رميم المكرمات برفده

وعم البايا بالعطايا تكرّمًا

وأشرق في أفق العلا نجم سّعده

به لبسّ الإسلام أحسن زينة

ولان من الأيمان ذابل رنده

فلاّ زال في ثوب الخلافة رّافلاّ

تجر على الآيام أذيال برده

ودارت على الإقبال أفلاك مجده

ولا زالت الأملاك من بعض جنده

مدى الدّهر ما ناح الحمام وأسدل الظّلام وما سحّ الغمام برعده

وأنشدني الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي بإربل، قال: أخبرني أبو نصر محمد بن سعد الله لنفسه إجازة، يمح الوزير جلال الدين أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن أبي منصور الأصبهاني:[من البسيط]

أثر إلى جنبات المنحنى إبلي

واحلل يعزمك عنها محكم العقل

وخلّها تسحب الأرسان من مرح

دون الثّنّية بين ألبان والآثل

فإن ريح الصّبا من نحو كاظمة

قد هاج منها غراما جد مشتعل

حنّت إلى مربع الالآف فالتهبت أحشاؤها وأعتراها مقلق الخبل

إلى مرابع صدق طالما حمدت

ما بينهنّ غدايا العلّ والنّهل

فهجن لي لوعة من مثل وقدتها

يرفض من عبراتي كلّ منهمل

فبات بي مثل ما باتت تكابده

من حبّه تبعث الشكوى لهنّ ولي

يا عاذليّ فرط الصّبابه لو

عرفتماها لما أكثرتما عذلي

طالت علّي الليالي بعد ما قصرت

وأي ليل مشوق القلب لم يطل

ما أومض البرق من نجد ولا نسمت

ريح ولم أغد مثل الشارق الثمل

تميد بي جنبات الأرض من طرب

شوقًا إلى معهد الغزلان والغزل

ليت النوى أسعفتني بالبقاء لمن

لولآ تنائيه لم أجزع ولم أبل

فقد تساعف دار بعد ما بعدت

والدّهر يسمح بعد الضّنّ والبخل

كما اني بجلال الدّين معتذرًا

به ومستغفراّ من سالف الزّلل

وافى به فصفحنا عن جرائمه بما جد من خلال المّجد مجتبل

ص: 158

فكلّ من رام يومًا أن يساجله

من البريّة في قول وفي عمل

نادته ألسنة التوبيخ مفصحة

(ليس التكحل في العينين كالكحل)

أضحى الزمان به من بعد ظلمته

ذا منظر في عيون العالمين جلي

مازال يسعى لأنمى كل مرتبة

سواه قد رامها قدمًا فلم ينل

مناقب لجلال الدّين مفتخر

بها وأكمل عز غير منتقل

فالملك مستبشر يزهو بطلعته

قد ضم منه إلى ذي نجدة بطل

يراعه ظلّ يغني وهو من قصب

عن القواضب والعسالة الذبل

فما ركام من المزن الغزار له

زماجر وضرام دائم الشغل

إذا تبجّس روّى كلّ بلقعة

وأصبحت ذات روض ناضر خضل

يومًا بأغزر عند الممحلات ندى

من الوزير نظام الدّولتين عّلي

ولا هزبر أبو شبلين مدّرع

بلبدة مرتاع ولا وجل

يحمي العرينة من أمثاله أنفًا

ولا يرّاع لما يعرو من الوهل

أمضى علّى الهول منه يوم ملحمة

تلهي القلوب عن الأفراح والجذل

مكارم لجلال الدّين لست ترى

لهن عن مجده المحروس من حول

نجل الوزير جمال الدّين أكرم من

مشى على الأرض من حاف ومنتعل

عليه من صلوات الله أفضلها

ما هبت الرّح في سهل وفي جبل

غيه أبا حسن عن المفاجر قد

ظفرت منها بأقصى السؤال والأمل

يا سيّد الوزراء الأكرمين ويا

نجل السراة الكرام السادة النبل

إسعد بها رتبة للمستحق لها

ودولة ذات عرف في الورى شمل

وثق بصدق ولائي ما جرى قلم

وما تأخر مقدور من الأجل

بقيت يا شرف الغسلام مرتفعًا بهمّة في العلا تعلو على زحل

ويا قوام المعالى عش ورش أبدًا

ودم بقدر عظيم الطول لم يطل

وصل وصل واسم وأسلم في بلهنية

ما سبح الله في الإبكار والاصل

وما ترنمّمت الأطيار في ورق

فهيجت مغرماّ بلأعين النجل

ص: 159

وقال أيضًا، وأنشدنيه عنه الشيخ الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود:

نفس الفتى إن صلحت أحوالها

كان إلى نيل التقى أحوى لها

وغن تراها سدّدت أقوالها

كان على حمل العلا أقوى لها

فلو تبدّت حال من لها لها

في قبره عند البلى لها لها

وقال أيضًا [من الكمال]

إنّ الولاية لا تدوم لواحد

إن كنت تنكرها فأين الأول؟

وقال أبو غالب نصر بن تركي بن خزعل بن تركي بن الحسن الحنظلي التميمي البصري المسلي التاجر، أنشدني أبو نصر محمد بن سعد الله بن الدجاجي لنفسه:

[من البسيط]

يا غائب القلب في نقص وفي لعب

وذاهب العمر في حرص وفي تعب

لا يغررنك المنى جهلاّ بطول منى

ويلزمنك العنا بالزور والكذب

صاحب فصاحة دنيانا بموعظة

تغني أخا اللبّ فيها عن أخ وأب

لا تغرر بنسي الغافلين وخذّ

رداّ ينجيك من هول ومن عطب

الناس في حسد والعيش من نكد

والشّمل في بدد والترب في ترب

إسمع مقالتها واقرع جنايتها

وأقطع مفازتها بالنوح والحرب

أحب أنب أقبل أدن أصغ أفق

احذر تحفظ تيقظ إخش ذل تب

وبالإسناد وأمر أن يكتب على قبره: [من الخفيف]

أيها الزئرون بعد وفاتي

جدثًا ضمّني وقبرًا عميقا

ص: 160

/117 أ/ سترون الذي رأيت من الأمـ

ـر عيانًا وتسلكون الطريقا

[642]

محمد بن أبن الفوارس بن أبي الهواء، أبو عبد الله الحلّي.

من أهل الحلة المزيدية.

أخذ طرفًا من النحو عن أبي البقاء عبد الله بن الحسين الضرير النحوي العكبري، وكان بالموصل معلمًا ، له طبع في الشعر.

أنشدني الصاحب أبو البركات المستوفي، قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه:

[من مجزوء الكامل]

يا غارسًا غصن الحيا

ة بجود راحته السخيه

ومعوّدا كسبت الثنا

ء بحسن أخلاق زكيه

قد صرت مأكولا لابـ

ـناء الجهالة والدنيه

فانهض إلىّ حميّة

فالحر تنهضه الحميّه

[643]

محمد بن اصطفان بن عبد الله، أبو عبد الله.

كانت ولادته في عين ناب قلعة حصينة من أعمال حلب- يوم الجمعة ثالث صفر سنة أربع وسبعين وخمسمائة، وتوفي عيشة يوم الثلاثاء بين الظهر والعصر تاسع عشر المحرم سنة ثلاث وعشرين وستمائة بإربل، ودفن بداره.

وكان يتولى أستاذ الدارية بإربل، لسلطانها الملك المعظم مظفر الدين- رضي الله عنه، أجمع أهل زمانه، أنه لم يكن له نظير في ذكائه وفهمه وتفرده بما خصه الله تعالى، من إحكامه أكثر صناعات العالم على اختلاف أنواعها، وتبريز فيها.

ساق ذكره الصاحب الوزير أبو البركات في تاريخ إربل، وقرظه في جملة من استوطن بها، وقال: أبو عبد الله بن أصطفان، أمير كريم الأخلاق سليمها، سليم

ص: 161

الطباع كريمها، صادق المودة صافيها، وافرالصداقة وافر الصداقة وافيها، له سماحة يد لا تبقى ما في اليوم إلى غد، حسن الظن بالله، شديد التمسك بأوامره ونواهيه، له رسائل وشاها طبعه ونمقها، وهذّبها فكره ولفقها، وأشعار رزقت من اللطافة نصيبًا وافرً اومنحت من السلامة حظا كاملًا.

كان والده من موالي بني حسان المنبجي، فأعتقه بعض من له ذلك شرعًا، ثم أنشدني من شعره ما سمعه من لفظه:[من مجزوء الكامل]

برشيق قدّك وأعنداله

وفتور طرفك واعتلاله

وبنون عارض خدّك الـ

ـتبست علىّ بعطف داله

عني الجمال بخطها

زمنا فنقطها بخاله

ألاّ رثيت لعاشق

رق العدو لسوء حاله

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه، يوازن قول القائل:[من مجزوء الكامل]

لمّا رأيتك مقبلًا

والبدر يعجب من تمامك

أيقنت أني هالك

إن لم أقل أنا في ذمامك

واتمهما ابو عبد الله بقوله: [من مجزوء الكامل]

والغصن يستجلي التعطيف والتثني من قوامك

والدّر منتسق النظام

جلاه لي برق أبتسامك

ورأيت ذلّي حين تخطر في

دلالك واحشامك

تسطو علي وتارة

أجد السلامة في سلامتك

أيقنت أني هالك

إن لم أقل أنا في ذمامك

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من الكامل]

يا غائبًا قد ساثني بمغيبه

أشكو إليك جناية التفريق

قد كان دمعي قبل بينك لؤلؤًا

فالآنّ قد بدّلته بعقيق

وأنشدني أبو الحسن علي بن محمد بن الحسن الإربلي، قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه: [من مجزوء الكامل]

ص: 162

وألية بهوى إذا

قدم الزمان به تجدّد

وتبلبل الأصداغ فو

ق مزروفن الخد المورد

وفتور الحاظ خلقـ

ـن بلية الدّنف المسهد

ومراشف كالخمر تبـ

عن نقادر منضد

ورشيق قدّ كالقضيـ

ـب يكاد أن يلوى ويعقد

ولذيذ ملتف العنا

ق وضمة الصّدر المنهد

ورفيق شكوّى في العتا

ب تخاله اللّحن المردد

إني وإن ظن الغبي بأن شملي قد تبدّد

ومسّاعدي في الحب قد

مالا على وقد تفنّد

ورميت من أيدي النّوى

بمحلًا عني مشّرد

فلقد عكست ظنونه ورددت وجه الظن اسود

وتجاوبت خرس اللقاء

وغرّدت طربًا وعرّد

وحنيت عاصية السرو

ر فأصبحت من غير مقود

وأتى الزمان بما أريـ

ـد وأطلق الهم المقّيد

وأعاد أحمد ثانيًا

من بينه والعود أحمد

[644]

محمد بن فارس بن المصري، أبقو عبد الله الأنصاري الكاتب.

كان يكتب في خزانة السلاح بدمشق للملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد ابن أيوب- رضي الله عنه وكتب له الإنشاء مدة يسرة بالديار المصرية.

وكان فقيهًا مالكي المذهب، عالمًا مبرزًا في كلّ فن، وله رسائل فصاح، وأشعار

ص: 163

ملامح، وتصانيف. وتوفي سنة ست عشرة وستمائة.

أنشدني أبو عبد الله محمد بن عبد الله إبراهيم العمري المحلي المصري، قال: أنشدني محمد بن فارس بن حمزه لنفسه: [من الكامل]

لولا تحّديه باية سحره

ما كنت ممتثلًا شريعة أمره

رشا أصدقه وكاذب وعده

يبدي لعاشه أدلة كفره

ظهرت نبوة حسنه في فترة

من جفنه وضلاله من شعره

فأطاعه حتّى العذول وما عصى

في الحب من قام العذار بعذره

ولقد دعا ظمئي عذيب رضابه

أفلاهداه ببارق من ثغره

وأنشدني أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد المنعم بن عمر المحلي لنفسة، يمدح الصاحب عبد الله بن علي بن عبد الخالق الحري الدميري، تمام الأبيات المتقدمة له:

[من الكامل]

قمر أعار الطذرف منزل نؤيه

لمّا نأى والقلب موئل ذكره

راقبته والفراغ غارب ليله

ورقبته والوجه طالع فجره

وزجرت شيطاني به وردعته

لمّا رميت بثاقب من هجره

غصن أقل من المحيّا روضة

تلهيك عن نور الربيع وزهره

حيّا الحياء عضيرها ونضريها

من مزن سلسال الجمال بدره

يفتن جانيها ويفتن فهو في

حلو يذاق من القطاف بمرّه

لدن القوام آماله خمر الصّبا فغدت معاطفه عرابد سكره

قعدت روافه وقام قوامه

فخشيت أن ينفد مخطف خصره

واعن كفّ الغدر عطفي وصله

فمتى يشل الوصل كفّي غدره

حلّ اللّوى ولوى مواثيق الغضا

ورمى الضلوع بلافح من جمره

وعلى الحمى نهب الحشاشة عنوة

وبأمره أسر الفؤاد بأسره

ص: 164

ولّى وما لى هواه لأنّه

ما زال عندي من ودائع سرِّه

من لي برجعته فيغدو منشرًا

ميت السّرور بقربه من قبره

ويعود عود الوصل نضرًا بعدما

أضحى حطامًا قد أحيط بثمره

ويروض روض اللهو من نور المنى

بيد النّسيم الرّطب جامح نشره

وأرى شمول الشَّمل كاسيةً كؤو

س العيش أمنًا من حوادث دهره

وأجول حيث أجيل طرفي في ربى

أنيسي بوضّاح النجاح أغرِّه

وأشيم من وجه الزّمان طلاقهّ

تفتر عن بشرى الوزير بنشره

الصّاحب بن علّي العالي على

فلك العلاء بمجده وبفخره

مولى الموالي سّيد الوزراء في

طرفي أعاصير الزّمان وعصره

وزر الملوك وأزرها وبه أحتمت

في الملك منقدر الزمان ومكره

سبق الأماجد آخرًا بمناقب

قد ترجمته أولًا في قدره

وأحتلّ من دست الوزارة منصبّا

أعلاه بعدله وبذكره

متهلّل القسمات تقسيم أنّه

بدر تجلّى من أزرَّة أزره

قد زان مخبره بأحسن صورة

وأعان صورته بأحسن خبره

ذو همّة رقته من طور العلًا

في رأسه ورست به في صدره

وعزيمة أجرته حيث تأخّرت

جرد القضاء عن اللّحاق بإثره

متنوع الطّمعين بين عفاته

في نفعه وعفاته في ضرّه

متآلف الحالين باطن سرّه

في الوعد والإبعاد ظاهر جهره

يهفو ارتياحًا وهو طود سكونه

ويلين عفوًا وهو قسور قشره

ويسيل جودًا وهو جاحم بأسه

ويروق شرفًا وهو صارم زجره

ندب إذا آنهلَّت يدا إحسانه

شاهدت عشرة أبحر من عشره

تروى أحاديث النّدى عن عرفه

كفِّه عن طبعه عن نجره

ما خاب قطُّ ولن يخيب مؤمِّل

ركن المهالك في مطالب برّه

أغني وأقنى آمليه فما ترى

في الخلق من يشكو فواقر فقره

كرم به أعدى الزّمان وعدّه

مع أنّه من سيله من قطره

نعت من الجود المؤكد عطفه

من راحتيه لزيده ولعمره

ص: 165

بحر جواهر فضله مشهورة

من مدِّه منظومة في جزره

حصرت معانيه اللُّغات وكرَّرت

من وصفه مالا يحاط بحصره

وله التصانيف الَّتي أبدت لنا

في كلِّ فنّ جوهرًا من بحره

بكرت بمبتكر الجنان وفضله

عقد البيان من اللِّسان بدرِّه

ورسائل هي للفتوح وسائل

شعرًا شواهدها دلائل نصره

ما استلأمت بكتائب من كتبه .. إلّا ثنت ريح العدوِّ بخسره

اوراقه منها فواضل بيضه

وحروفه فيها عواسل سمره

يا سيِّدًا لولا المسير لبابه

ما أشأمت مذ قطّ عصبة مضره

أحسنت بي وشكرت جهدي فاستدم

شكر الندى بزيادة في وفره

وابسط يدًا كانت لموسى آيةً

وأقم جدار العيش منّك بخضره

واهنأ بشهرك بل تهنَّ بمثله

ألفًا ودم ألفًا لوافد كرِّه

لا زال ليلك منه يوم صيامه

شرفًا ويومك منه ليلة قدره

وقال مكاتبًا لشخصٍ يلقّب البرهان: [من مجزوء الكامل]

وافى كتابك روضةً

تطوى أزاهرها وتنشر

بل جنّةً رقَّت ورا

قت مسمعًا حسنًا ومنظر

بل إنَّه ناديت لمَّا أعجزت الله أكبر

ماذا أقول وكلُّ معنّى

فيه بالبرهان جوهر

وقال متغزلًا: [من الكامل]

لله أيُّ مهفهف هزَّ الصَّبا

غصن الصِّبا من قدِّه أملودا

أبدى الأقاح مّن الثُّغور مباسمًا

والجلَّنار ومن الشَّقيق خدودا

والنرجس الغضُّ النَّضير نواظرًا

منه ورمَّان الصّدور نهودا

وكأنَّ كرمة فرعه أرخت له

من كلِّ صدغٍ للحيا عنقودا

وكأنَّما ألفاظه أضحت على

جيد المسامع جوهرًا منضودا

رشأ رجوت وصاله فأحاله

بنفاره دون الرَّجاء صدودا

لو جاد لي بالقرب منه ساعةّ

لأعاد حظِّي كاسمه مسعودا

ص: 166

وقال بديهًا: [من مخلَّع البسيط]

بدا بوجه علاه فرع

كالبدر من فوقه غمامه

في خدِّه للنِّدى تراه

لوث دمٍ يوجب القسامه

وقال أيضًا: [من مجزوء الكامل]

بعظيم قدرك واقتدارك

وصميم مجدك وافتخارك

وبحقِّ نعمتك الَّتي

غمت كثيرًا من بحارك

وبما تؤمِّل في الأما

جد من فروعك بل ثمارك

وبحرمة الخدم القديـ

ـمة حيث كادت في جوارك

أنظر إلى العبد الضَّعيـ

ـف بعين خيرك واختيارك

وامنن عليه بما يعو

د لذي الغنى فيه مشارك

لا زال جودك مرشدًا

ابدًا إلى نهي المدارك

وقال أيضًا مهينيًا بالصوم من قصيدة: [من الطويل]

صل الشَّهر بالصَّوم المجدَّد والفطر

وعدِّده اعوامًا إلى منتهى العمر

وكن واحدًا في اهله مثل ما غدت

وحيدة الف مثله ليلة القدر

وشنَّفه بالدِّين الَّذي أنت تاجه

وشرِّفه بالذكرّ الذي منك في الخير

وأودعه ما أودعته من محاسنٍ

تبسَّم منها جوهر الحمد عن ثغر

لك الله من مولى تهنَّى بكونه شهير الـ

ـمعالي كلَّ يوم من الشَّهر

وزير حبا دست الوزارة قوَّةً

فقام بأزرٍ لا يميل إلى وزر

وناء بعبء الملك فعلًا ونيَّةً

وباهى بحسن القول في النَّهي والأمر

وساس أمور النَّاس حتَّى تواقفوا

على شكر ما أولى آل بني شكر

فتى فات أهل الفضل سبقًا فمن سعى

ليدركه مرَّت مساعيه في خسر

عليم بأقسام العلوم وانَّها

بلا حصر قد قيِّدت منه في حصر

دري بغايات اللُّغات محدَّث

بما هو مبديه من النّظم والنَّثر

له قلم يستخرج القول جوهرًا

وينظمه في الطِّرس من لجَّة الفكر

وراحة جودٍ تنشئ المزن دائمًا

وليس لها إلَّا المواهب من قطر

ص: 167

إذا أمَّه رأجٍ رأى البرَّ رابحًا

وبشَّره قبل النَّدى بارق البشر

عليه يمين لا ونى بيمينه

ويسراه عن لاتٍ تسرُّ وعن يسر

[645]

محمد بن أبي الحسن بن يمن بن عليِّ بن أحمد بن محمد بن عثمان بن عبد الحميد الأنصاريّ.

هكذا أملى عليّ هذا النسب والده، وذكر لي أنَّ أصلهم من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وأنَّهم من أولاد سهل بن حنيف الأنصاري.

يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الأردخل، والأردخل هو البناء عند أهل الموصل.

خرج عن الموصل سنة ثلاث عشرة وستمائة، وقدم ميافارقين، واتصل بخدمة الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل سيف الدين ابي بكر صاحبها، وصار أحد ندمائه، وملازمي حضرته وشعرائه؛ ولم يزل مغتبطًا في جملته، معدودًا عنده من خاصته، إلى أن توفي في تاسع شوال سنة ثماني وعشرين وستمائة بميافارقين، وكان عمره يومئذ إحدى وخمسين سنة.

وهو شاعر حاذق ذو نظر في الكلام، خارق متقن لألفاظه ومعانيه، لا يماثله أحد في قوله ولا يدانيه؛ أشعر أبناء زمانه على الإطلاق، وأحسنهم طريقة في الشعر بالاتفاق.

وكان جسورًا على الهجاء، مقدامًا ذا عصبية لأصدقائه ومعارفه، وكان من قوة القلب والإقدام على المهاترات والمخاصمات ما لا مزيد عن ذلك، وربما عجز عنه غيره من أشد الناس.

ص: 168

أنشدني الشيخ أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن أحمد الأديب النحوي الموصلي؛ قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن الأردخل لنفسه، يمدح الإمام أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبا العباس أحمد –رضوان الله عليه-:[من الطويل]

شكوت هوى من زخرفت لي وعوده

إلى البان حتَّى دقَّ عظمي وعوده

غزال كثرت الرَّمل من غزلي به

مزرَّد خدّ في فؤادي زروده

يقوم بحبِّي للقضيب قوامه

ومبعث وجدي للغزالة جيده

لثمت محيَّاه فجار لثامه

وعاودته ضمًا فغارت نهوده

وكم وقفة فضَّ البكاء له دمي

بها فتساوت أدمعي وعقوده

سقى ثمَّ حيًا عهده واكف الحيا

فأجدر ما يسقي العهاد عهوده

ليالي كادت من مصافحة الصَّبا

تبلَّل بالطَّلِّ البرود بروده

ومنها:

وهاجرة من هجره حرُّ نارها

لدى الشَّوق قود اليعملات وقوده

صحبت بها حدَّي حسامٍ [كأنّه]

إذا قلت ينضى من لساني حديده

أتيت ولي آراء عزم تقوم بي

على قدمي خطّ طويل قعوده

وكيف ينام اللَّيل صاحب همَّة

يريد من الأيَّام ما لا تريده

ولا الدهر لا يستطيع إعدام معدمٍ

وجود أمير المؤمنين وجوده

مليك إذا ظلَّت تعوّذ بأسمه

قوابل حيِّ نال عيسى وليده

وإن سار في جيش العدا ذكر بأسه

غدت صيد عقبان المنيَّة صيده

تناهى فلا عين الكمال تروعه

بنقص ولا مدح البليغ يزيده

لئن كان موسى فخر هارون معجزًا

فهارونه عزُّ الفخار ورشده

لقد وسع الأقطار كرسيُّ ملكه

محيطًا ولكن حفظها لا يؤوده

وسارت له فوق الورى بيت رحمةٍ

يقوم على كلِّ الأنام عموده

وليس بقاض بعض حقِّ مديحه

سوى شاعر أمُّ الكتاب قصيده

فيا ربعه المحجوج إنَّ رجاءنا

لصائم دهرٍ يوم قصدك عيده

وأنشدني أبو عبد الله محمد بن العباس الموصليُّ؛ قال: أنشدني محمد بن

ص: 169

الأردخل لنفسه، يمدح مولانا المالك الملك الرحيم، بدر الدنيا والدين، عضد الإسلام والمسلمين، شرف الملوك والسلاطين، نصير أمير المؤمنين_أعلي الله شأنه وأوضع برهانه_:[من المنسرح]

لله نفس بكم أسوّفها

تقضي وما ينقضي تأسُّفها

وذات عرفت منكم تجلّدت للَّاحي فأنكرتها وأعرفها

وقفت فيها وآي أرسمها

ممحوّة بالمحول أحرفها

مكفكفًا عبرتي وودِّي أن

أبكي عليها ولا أكفكفها

ماذا علي الرّكب من إراقتها

هل هي إلّا بلوي أخفِّفها

وكيف أمسوا لا بل أصبحّ وبيّ

ألمي مريض الجفون أوطفها

لم أدر حتَّى تقسَّمتني ظبا

عينيه أنَّ الفتور يزهقها

عهدي به والحمام فاعله

في الشَّب فعل الشَّراب هيفها

في دوحة منذ بان تنجزها

الوعد جفوني والمزن تخلفها

فضّي جسمٍ تكسوه أكؤسنا

أثواب تبر من حيث يرشفها

فالرّاح شمس ووجهه قمر

يكسب من نورها ويكسفها

وقد أجوب الفلا بخرف تق

ود اللحظ وخدا ولا يكيّفها

كأنّها من غواة عبقر وال

جوّ بشهب الهجيرة يقذفها

تكاد من خفّة بها تطأ الـ

ـعين مرارًا وليس تطرفها

فسهلة تارة ومحزنة

وليس إلّا إليك يصرفها

لا زلت بدرًا للدين ما استبق الـ

ـبيت بأولى الركاب موجفها

من غمّة بالعطاء وتحيي ومن

غمّاء بالمشرفيّ تكشفها

حكمت حتى للشاة في الأسد

واستدرجت حتّى ارعوي تغطرفها

وقمت في أنفس الطّغاة مقا

م الموت لا تستفيق تتلفها

في كل يوم يلفي حماك إلي

حيّاتهم حياةً تلقّفها

فلا سيوف ولا تثلّمها

ولا رماح ولا تقصّفها

ص: 170

تشكو أليك الدنيا وقد شرقت

بالظلم أقطارها فتنصفها

بكل بيضاء مرّها يرضخ

الصّخر ومر الصّبا يهفهفها

ما وقفت للقضاء في ملأ

إلا ومشي الجبال موقفها

معاقل رضتها فراحت تلقَّي

الأمن من أوجه تخوّفها

حتّى غدت والغنيّ افقرها

تواضعًا والقويّ أضعفها

إن يدع جود فأنت خاتمها

أو يدع حلم فأنت أحنفها

أفكرت في المال والمعالي

فأقبلت بتفريقه تولّفها

أدعوك يا خير شأنه

الإفصاح عما يثير مصحفها

إذ ليس لي في القريض من

فطرة تأتيه من حيث لا أكلّفها

لكنّني ذو بضاعة منه

مزجاة بري عيرها تعفّفها

أأطلب الكيل من سواك

وكل الأرض مصر وأنت يوسفها

ميتة نفس تقضي إلي شرفٍ

خير مني النفس ما يشرفها

وأنشدني سليمان بن مليان الصائغ الإربلي؛ يمدح السلطان الملك الأشرف شاه آرمن موسي بن أبي بكر بن أيوب بن شاذي، وقد مر نسرا ببندقة:[من الكامل]

لو زارني فأضم ما ضم القبا

منه وألثم أقحوانًا أشنبا

قمر يريك من الأسنّة أنجمًا

سيارةً ومن العجاجة غيهبا

ميال مركبه فهل راح الّصبا

تعتاده فيميل أم ريح الصّبا

فأعجب له يقني الصوارم والقنا

وقوامه ولحاظه أمضي شبا

ويصدّها عند الصّيال مخالبًا

ومتي رأى الرّائي لظبي مخلبا

لبس الحديد علي الخرير وجال في

زي الفتاة موشّحا ومنقّبا

لا يستفيق إذا تلمّح أسكرت

ألحاظه وإذا تكلّم أطربا

بين الفوارس فوق أجرد ضامرٍ

ضمر الهلاك ودهره مرعي الظّبا

فكأنّه من تحت فاضل درعه

ريح ترفّع عن سحاب هيدبًا

أرقي لبرقي وعده ووعيده

لو كان شرّهما علي الخلّبا

وتألمّي لمعنبر من صدغه

لما تمكّن من حشاي تعقربا

أكذا يسيل الدّمع كلّ مسلسلٍ

أضحي إلي حبّ القلوب محبّبا

ص: 171

لا بل إمارات تغر أخا الهوى

ففيفي لغدّار .... مذنبا

يا قاتل الله الخليّ فلم يزل

فيه رقيبًا أو عذولًا مطنبا

أضحي يعيّر بالخمول مشمخرًا

لم يبق في عصب المطالب مضربًا

وأنا الّذي جدلت رحب فجاجة

مستدركًا نار الحديد وأرحبا

من حيث لا يجد الهوي إلا امرؤ

لم يتّخذ [عن] شاه أرمن مذهبا

لله أنت ممدّح ألف النهي

إلف الرضاع فما أبرّ وأنجبا

وجه كلمع البرق بل أسني حيًا

ويد كصوب المزن بل أندى حبا

أغنيت عن قصد الوري من لم يرد

إلا وكان الخالع المتعصّبا

وركبت كلّ محجّة بكر الندي

تأبى لفرط شماسها أن تركبا

كالنّسر لما خرّ وهو مقارب

في فلك الخيبة كوكبا

ولقد وطئت خلاط وطأة خالط

بالطّعن أعظم سوقها والأكعبا

في كلّ عاديّ الصّدام لو التقي

حبلًا لمرّ به أخف من الهبا

ترك الغبار لكلّ نقع بجائد

بالصبح ليلًا والمعذّر أشيبا

أدعوك دعوة ذي طوى لم يرع مذ

هدرت شقاشقه مكانًا معشبا

هذا وكم سامي الذّرى خلّفته

نضوًا يحمل الشوق نحوك متعبا

عهدي به وكأنما ليلاته

يطلين بالقطران منه أجربا

واليوم لم يلق الشتاء لرأسه

رأسًا يشيبه فشّيب منكبا

وأنشدني محمد بن علي النيليّ؛ قال: أنشدتي محمد بن الأردخل لنفسه: [من الكامل]

ألق اليراع فدون من يهوي الفتي

وادي المنّية بين نفسك والمني

لا تطمعنّ القلب منك بعالج

ورد الحميم ولا ورود المنحنى

ودع التعرّض بالدّيار فربما

كان الفنا المحتوم من دون الفنا

عن يسرة الحدباء مل يا صاحبي

بالعيس واجتنب المحلّ الأيمنا

فهناك من لولاه ما كان الهوى

للناس بل لولاي ما هلق الضني

ظبي تخاف الأسد من سطواته

قمر يعير البدر في التّمِّ السَّني

لو هدد الله الغصاة بهجره

قبل ارتكاب الفخش ما عرف الخنى

ص: 172

مر التّماطل والعواذل والجفا

حلو الشّمائل والمراشف والجني

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه: [من البسيط]

قومي أنظري من امير الخسن في البلد

الظّبي والبدر فوق الغصن والأسد

ولا تفوهي بثأري إن قتلت فما

يا هذه لقتيل الحبّ من قود

هذا الذي عند بعثي من دعا جدثي

به يردّ الإله الروح في جسدي

يا أعدل الناس قدًا وهو أحورهم

ها قد أتيتك مظلومًا فخذ بيدي

وأنشدني الشيخ الأديب أبو عبد الله بن الخبّاز النحوي؛ قال: حدثني محمد بن الأردخل أنه جلس في مجمع ينشد قصيدة في أبي اليمن نجاح الشرابي الناصري أولها: [من المتقارب]

أرقت لبرق بتيماء لاحا

كأنّ علي الجوّ منه صفاخا

فمرّ عليه مودود بن صباح الشاعر، فاستوقفه وقد فرغ من القصيدة؛ فقال له: ما تريد؟ فقال: نسمع تمامها؛ فارتجل هذه الأبيات، وأنشد [من المتقارب]

وقافية كبغيّ ألمّ

بها مدّع فبغاها سفاحا

وما زال يكذب حتّى دعوه

مسيلمةً ودعوها سجاحا

وذلك مودود أعني العتل نجل الزّنيمة أعني صباحا

فلما سمع الأبيات سبه وانصرف.

وأنشدتي أيضًا؛ قال: أنشدني ابن الأردخل لنفسه، وكان واقفًا بباب أسد الدين ..... ، فلم يجد إليه طريقًا، فأقبل بعض أصحابه بشمعة فأخذها، ونقش عليها قوله:[من الكامل]

قبلت شفاعة شمعة تفنى فما

ظنّ الأمير بشمعة لا تنطفي

صقلت معانيها البلاغة فارتوت

منها كصقل القين .... المشرفي

وأنشدني أيضًا؛ قال: أنشدني له من مبدأ قصيدة: [من الكامل]

سل وجهه البدريّ عن كماله

في مقلتي العبرى وقلبي الواله

أو فأثن عنّي قوس حاحبه فلي

كبد أمام النزع من نبّاله

ألمي رشيق القد أرجو الريّ من

معسوله وأخاف من عسّاله

ص: 173

أعريت شجوًا اربعه فالبان في

سكراته والورق في أغلاله

وحملت مثل الردف منه غيرة

لما رأيت الهصر خلف هزاله

لله قلبي كيف خانرة الهوي

أذلاله جلد على إذلاله

قد شفني طلب الشفاء وملبسي

ثوب البلي من لا أمرّ بباله

ومن العجب أنني بصدودع

أشقي وغيري ناعم بوصاله

قم فأستعر لي من خليّ رقدة

فهي الوسيلة نحو طيف خياله

لم أنس سكري حين أمسي ساقيًا

وجفونه تغنيه عن جرياله

ومقالتي والكأس منه منوطة

بيمين ظبي مهجتي بشماله

يا مرسل التفتير رائد لحظه

ودليل قطع السّيف لمع دباله

عطفًا علي عانٍ دعوت همومه

فأقمتها وقعدت عن آماله

قلق الضاجع لو لقيت أقل ما

يلقي لما استحسنت سيّئ حاله

وأنشدني أيضًا، قال: أنشدني لنفسه، يهجو ابن صباح الشاعر:[من الكلمل]

لو لم يجنّ علي خلالك كلّها

ليل الغبأ لم تدع بابن صباح

إذهب فقد وضعتك من خيث اشتهت

ما منك ما يرحي لغير نطاح

وأنشدني أحمد بن عبد الرحمن القزويني؛ قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن أبي الخسن لنفسه: [من الطويل]

سألت مناجاة الوزير ورؤية المحلّ الذي من ساكنيه المقادير

فلمّا أميط الشر عن نور وجهه

صعقت كموسي دكّ من تحته الطّور

وأنشدني؛ قال: أنشدني أيضًا من شعره: [من مجزوء الخفيف]

لك في الدّمع راحة

فانتهز فرصة البكا

وأدر [ها] إنَّ المشو

ق لو مات وجدًا لاشتكا

وأنشدني؛ قال أنشدني لنفسه: [من الطويل]

أقول وقد قالوا: نراك مقطبًا

إذا ما أدعي دين الهوى غير أهله

يحق لدود القّز يقتل نفسه

إذا جاء بيت العنكبوت بنثله

وأنشدني؛ قال: أنشدني أيضا قوله: [من البسيط]

ص: 174

خلقت للشر لا للخير تفعله

طبعًا وتسلك فيه كلّ منهاج

كأنّك الحجر الصمّاء أرسلها

بعض المجانيق في دكان زجّاج

وأنشدني؛ قال: أنشدني محمد له من قصيدة: [من الكامل]

قوم إذا سلّوا الصّوارم في الوغي

كانت قمام البيض من أغمادها

رمقوا قباب النازلين بأعمد

ممّا تقصّف في صدور جيادها

[646]

محمد بن أبي بكر بن عمر بن منصور، أبو عبد الله الأمويّ الباملّيُّ.

وباملّي قرية من قري ميّافارقين.

كان شابًا فاضلًا بارعًا، قرأ القرآن، وسمع الحديث من جماعة من المتأخرين، وتأدّب علي رافع بن رفاعة النحوي الخصّاوي.

أنبأني عبد الرحمن بن عمر بن شحاتة الحرّاني؛ قال: أنشدتي محمد بن أبي بكر بن عمر لنفسع، بشاقرد من نواحي إربل، يضّمن:[من البسيط]

(الصبر لا شكّ محمود عواقبه) ....

......

.......

فقال أبو عبد الله: [من البسيط]

لما استقلّوا علي الأكوار وارتحلوا

عن العذيب ونحو المنحني قفلوا

وخلّفوني علي الأطلال أندبها

والدّمع من مقلتي يا صاح منهمر

تزايدت زفراتي بعد بعدهم

وعزّ صبري وقد ضاقت بي الحيل

طفقت أنشد في آثارهم أسفًا

بيتًا من الشّعر أغراني به الأمل:

(الصبر لا شكّ محمود عواقبه

لكنّني خائف أن يسبق الأجل)

ص: 175

[647]

محمد بن عليّ بن محمد، أبو عبد الله النعمانيّ، المعروف بابن الأستاذ.

والنعمانيّة من نواحي بغداد.

شيخ بلده في الأدب والشعر، يقرأ عليه ىمدح الإمام أمير المؤمنين المستضيء بالله، والناصر لدين الله، ومن بعدهما من الخلفاء –صلوات الله عليهم-؛ له شعر مليح عذب الألفاظ، وموشحات مستحسنة.

أنشدني أبو زكريا يحي بن المظفر الواعظ الصابوني الواسطي؛ قال: أنشدني أبو عبد الله بن الأستاذ لنفسه: [من الرجز]

بين قباب المنحنى فالحاجر

تسبي العقول مقل الجاذر

وفي الحمى مرابع تخبر عن

دعص مهيل وقضيب ناضر

أقول لما إن برزن للسرى

وهتكّت سجائف السّتائر

يا للقنا من هز أعطاف النّقا

يا للظّبا من ظبيات عامر

ثم يراق دم أبناء الهوى

ويصبح الوافي أسير الغادر

يا حادي الأظعان لا ذقت الوجى

ولا عرتك روعة من ذاعر

خذ يمنة الجرعاء من كاظمة

واستهدها نصيحةً من خابر

فإن ربات الخدور بالحمى

فاتكه بكل ليثٍ خادر

[648]

محمد بن حميرٍ قرّيّ.

هو من نهر قرّة من أعمال البصرة

ص: 176

أنشدني أحمد بن داود المذاري؛ قال: أنشدني محمد بن حمير لنفسه: [من الرمل]

أيّ صبر بعد أن بان القطين

وسلوّ لأخي القلب الحزين

طال ليلي ساهرًا منفردًا

أرقب النّجم ومالي من معين

أتبع الزفرة أخرى بعدها

وكذا أتلو حنينًا بأنين

لم يدع لي البين إلّا أدمعًا

وعظامًا من نحول ما تبين

وضلوعًا مذ نأى أهل الحمى

طويت منهم على الدّاء الدّفين

[649]

محمد بن علوان بن مهاجر بن عليّ بن مهاجرٍ، أبو المظفر بن أبي المشرّف، الفقيه الشافعيّ المدرس.

كانت ولادته، فيما أخبرني القاضي ولده أبو الفضل عبد الكريم، سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وتوفي ثالث المحرم سنة خمس عشرة وستمائة –رحمه الله تعالى-.

سمع الحديث علي أبي أحمد عبد الوهاب بن علي بن علي الصوفي البغدادي، وأبي الفرج يحي بن محمود بن أسعد الثقفي الأصفهاني وغيرهما، ويفقه على الإمام الزاهد أبي أحمد عبد الله بن الحسن بن المثنى المعروف بابن الحداد؛ ثم على أبي البركات عبد الله بن الخضر بن محمد بن الحسن بن الشيرجي، وأبي الحجاج يوسف بن محمد مقلد التنوخي الدمشقي.

وكان رئيس أصحاب الشافعي في وقته، إمامًا في الفقه والخلاف، وله كتب مصنفة في الخلاف والفقه.

ص: 177

وكان دينًا صالحًا خيرًّا، كثير الذكر لله تعالى، حجّ وجاور بمكّة، وكان ناقص الحظّ في علم العربية والأدب، قد فطره الله على ..... ذلك، وله أشعار ساقطة غير مستقيمة الأوزان، لا يوجد فيها معنى البتة.

أنشدني القاضي ولده المذكور، قال: أنشدني والدي لنفسه يصف القلم:

[من الوافر]

ثلاثة أحرف نطمت فدلّت

على معنى به نظم المعاني

وقد نظمت على عكس فدلّت

على معنى يعين على الزمان

وله أشعار كثيرة على هذا النمط، خالية من المعاني، وربما هذا الذي ذكرته وأوردته هو أصلح شعره.

[650]

محمد بن عبد القادر بن ناصر بن الخضر بن عليّ، أبو المظفر الأنصاريّ الدّمشقيّ.

تفقه وتأدّب، وقال شعرًا حسنًا، وصحب الملك الناصر صلاح الدين داود بن عيسى بن أبي بكر بن أيوب بإربل، قبل خروجه منها، وسار معه إلى دمشق في حياة أبيه الملك المعظم عيسى.

أنشدني أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عمر الإربلي؛ قال: أنشدني أبو المظفر محمد بن عبد القادر نفسه، في غلام اسمه عسكر:[من السريع]

وأسمر يخجل من لحظه

وقده الأبيض والأسمرا

قال: ألقني إن كنت لي عاشقًا

وكيف يلقى واحد عسكرا

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه: [من السريع]

أيام هجرانكم أشهر

والوجد من أن يختفي أشهر

عودوا وعودوا مستهامًا به

منذ هجرتم مرض مخطر

ص: 178

يغار أن يشكو إلى غيركم

بلا بلًا أنتم به أخبر

ومن بنى الأتراك بي فاتر الا

لحاظ عن هجري لا يفتر

قام يجر الرمح مع قده

فما درى أيّهما الأسمر

ريقته الكوثر ألحاظه

تنحر شانيه وهو الأبتر

[651]

محمد بن منصور بن جميل بن شدّاد بن محفوظ بن حمضيّ، أبو عبد الله بن أبي العزّ الهيتي الكاتب.

هكذا نسبه لي بعض بني عمّه بمدينة السلام.

وكان مولده بقرية تعرف بجبا من نواحي هيت، سنة سبعة وستين وخمسمائة، وقدم بغداد صبيًا، وقرأ القرآن، وسمع الحديث على جماعة، وتأدّب على أبي الخير مصدّق بن شبيب بن الحسين النحوي الواسطي.

وفهم الفرائض والحساب ونظم شعرًا كثيرًا، وامتدح الإمام الناصر لدين الله –رضي الله عنه بعدة قصائد، وكان يوردها في المواسم والهنات، وخدم في أشغال الديوان الناصري، ونظر في ديوان التركات الحشرية، وتولى كتابة المخزن المعمور. ثم يتلو القرآن العزيز، ويدرس العلم، ويحافظ على الصلوات؛ إلى أن توفى يوم السبت النصف من شعبان سنة ست عشرة وستمائة ببغداد، ودفن بجانبها الغربي بمقابر قريش –رحمه الله تعالى-.

وكان ذكيًا متصرفًا في الكلام شاعرًا مترسلًا، مقتدرًا حسن البلاغة في الإنشاء، ذا كتابة مرضية، وأشعار متقنة، وكان يبتدئ بإنشاء الرسالة من آخرها إلى أولها، وذلك بقوة قريحته، واقتداره على الترسّل.

ص: 179

أنشدني الشريف أبو علي المظفر بن الفضل الحسيني الموصلي الشاعر؛ قال: أنشدني أبو عبد الله بن جميل لنفسه، من قصيدة يمدح بها الناصر لدين الله –رضوان الله عليه:[من الكامل]

يا ابن الصفا والمروتين ومن له

معنى الرشيد وصورة المسترشد

لك من أبيك المستضيء مراحم

وعزائم من جدك المستنجد

وأنشدني أيضًا؛ قال: أنشدني لنفسه: [من البسيط]

إن الكتائب في يوم النزال لها

في السلم من كتب الشهم الأبي أب

فأسمر الخط موصول له نسب

بأسمر الخط إذ يحويهما الغضب

قد شاب رأسأهمأ عزمًا فلونهما

بالخطر طورًا وبالحناء يختضب

وحدثني أيضًا من لفظه وحفظه، أبياتًا يتشوقه فيها، وكان بتكريت، ثم كتب إليه عقيب مكاتبته أخي هذه الأبيات من جملة صدر كتاب:[من البسيط]

بني جميل لقد جملتم زمنًا

موسومة بكم فينا مواسمه

أحرزتم المجد موروثًا ومكتسبًا

فالمجد معلم فينا معالمع

هشنا إليه وقد طار العدو فلم

تلحق بأقدامكم منه قوادمه

قال: فكتب إلينا الجواب في موضع واحد: [من البسيط]

هبت عليّ نسيم من قريضكما

كأنها الند في لطف وفي أرج

للخالدين منها حين أنشدها

من الحياء محيا غير مبتهج

كأنما صغتماها من صفاتكما

أو من صفاتكما في الرحب والحرج

أو من خلائق من تغنى خلائقه

وناظماها له سر من الحجج

وهذه شاهد عدل بأنكما

فوق الرضيين في درج وفي درج

وأنشدني العدل أبو البركات علي بن عبد الله الموصلي؛ قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن جميل لنفسه يصف سيفًا وصنعهما بديهة: [من البسيط]

وصارم فيه ما لو [قد] ألم به

نوح على فلكه لم يأمن الغرقا

ص: 180

وبين أمواجه نار مسعرة

لو كان فيها خليل الله لاحترقا

وقال في صفة السيف والقلم: [من الطويل]

يراع إذا أبكيته ضحك العلا

وعضب إذا أضحكته بكت العدا

فشيمة ذا إن يعتدي فط رأسه

وشيمة هذا قطف رأس إذا اعتدى

ومن لطيف قوله يصف الخمر [من الكامل]

قم فأجلها يا فرحة الندماء

عذراء ترقص في يدي عذراء

كرمية الآباء إلا أنها

كرمية الأصهار والأبناء

عقد الشعاع لها لواء فوقها

فسرت علينا وهي تحت لواء

ومنها قوله:

وأشرب فقد وهب الزمان لأهله

صوتًا وصيتًا من غنى وغناء

وحدثني الشيخ فصيح الدين قال: كتبت بهذه الأبيات إلى مجد الدين محمد بن جميل –صاحب المخزن المعمور- في أيام الناصر لدين الله، وذلك في سنة ست وستمائة:[من البسيط]

يا من وجوههم في لحظ أعيننا

أحلى وأشهى لنا من لذة الغمض

أمر تمونا بأنا لا نزوركم

وقد سمعنا وأغضينا على مضض

وقد عرانا لبعض عنكم مرض

براكم برءنا من ذلك المرض

وأنتم بكم من غيرنا عوض

وما لنا عنكم والله من عوض

فكتب إلى جوابها نظمًا ونثرًا:

((تأملت لمعته الناطقة، ولمعته الصادقة، فرأيت معناها مخالفًا لمسماها، إذ المكاتبة تؤذن بعتق الأرقاء من الأنصار، وهذه مؤذنة بتعجيل استرقاق الأحرار، فأما الشوق، فقد شب عمرو عن الطوق:

[من البسيط]

وكيف يسكن ذو شوق يسامره

إلى بديل عن الأحباب أو عوض

ولا يجوز لمن فازت أنامله

بالجوهر الفرض أن يصبو إلى عرض

ص: 181

/134 ب/فالله يمتع بمودته، ويفسح في مدته)).

وقال أيضًا: [من الكامل]

إن حال دونك أسمر وسمير

فدما الظبى لدمى الظباء مهور

يا هند في أجفان لحظك فترة

الجفن هندي يكون فتور

أبليتني بقنا الأشم وطوله

وقنا المشيم أتم وهو قصير

أسد يغار على محاسن ظبيه

فيها نفار وهو فيه نفور

بيضاء مذهبة الشباب يزينها

وجه تحار إذا رأيته الحور

ويهز عطفيها الصبا ويد الصبا

فيميلها المدود والمقصور

تفتر ضاحكة وأندب باكيًا

فلها بحزي غبطة وسرور

دران إلا أن داك منضد

عذب وهذا مالح منثور

وقال أيضا يمدح: [من الكامل]

يا خير من مدت إليه يد

وسعت إلى أبوابه قدم

يا من على أبوابه أبدا

عصب من الآمال تزدحم

يا من إذا ذكرت مواهبه

فالكون لفظ والأنام فم

أيجوز أن أظمأ وبحرك لي

ورد وبعض صفاتك الكرم

فتولني بالبر أنت فما

في الناس لا كعب ولا هرم

والأرض لا يشفى لها ظمأ

إلا إذا ما جادت الديم

وقال أيضًا: [من البسيط]

أفعال هجرك يا أسماء لازمة

وضرها متعد غير منصرف

هجرت فاعتل جسمي بعد صحته

من غير واو ولا باء ولا ألف

ص: 182

[652]

محمد بن إسماعيل بن علي، أبو عبد الله الحصفكيّ.

وهو من حصن كيفا لامولدًا ومنشأ.

وكان من أصحاب أبي الحرم مكي بن ريان النحوي، وعليه اشتغل بالأدب والنحو بالموصل.

وكان فقيهًا حنفيًا شاعرًا، سكن ماردين، وتولى إعادة الدروس بالمدرسة الفخرية، ظاهر المدينة.

أنشدني الأمير أبو حفص عمر بن أسعد الموصلي؛ قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن إسماعيل في شهر ذي الحجة سنة خمس وعشرين وستمائة لنفسه، قال: نظمها بالموصل أيام الصبا: [من البسيط]

أهاج شوقك رسم دارس خالي

من زينب وسعاد مقفر خالي

وقفت أسأله يومًا وليس به

إلا الأثافي وهل يفقهن تسالي

وكيف تفقه دار ما بها أحد

إلا مرابع آرام وآجال

تبدلت ولبئس الفعل ما فعلت

من الأنيس بأسراب من الرال

أين الذين عهدنا قبل من مضر

من كل ناعمة الأطراف مكسال

كأن ظلم ثناياها لراشفها

ماء الغمامة ممزوجًا بجريال

وحولها من قنا أعامامها أجم

من كل أسمر خطي وعسال

ومرهف ذي شبا كالملح رونقه

ولاحق مشرف الأقطار صهال

وفتية من كماة العرب حامية

عن الحقيقة بسامين أبطال

لا يرهبون من الموت الذعاف ولا

يصدهم عن مراد خوف آجال

ص: 183

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه: [من الخفيف]

إن عندي من الملام لشغلا

فذر اللوم صاحبي والعذلا

كيف يصغي إلى الملام محب

سلبوه يوم الرحيل العقلا

خلفوه في الدار يندب ربعا

ليس فيه بعد الأحبة أهلا

ذو قذال قد شج من ألم الضر

ب وقد قلدوه مع ذاك حبلا

شاحب اللون في الديار مقيم

أشعث بعد بينهم لن يفلا

وأثاف كأنهن حمام

طليت من مواقع النار كحلا

أين سكانك الذين عهدنا

قبل بادتهم زمانا تولى

كل خمصانة أرق من الخمـ

ر بريق من المدامة أحلى

ذات فرع تريك منه دجى الليـ

ل وطرف تريش منه النبلا

حولها من بني العشيرة صيد

خادرات لا يرهبون القتلا

لو يروم الكمي يرفع طرفا

نحوها أتحفوه في الحال نصلا

وأنشدني أيضًا؛ قال: أنشدني لنفسه: [من الطويل]

صحا قلبه مما يجن من الوجد

وباع التصابي والغواية بالرشد

وأعرض عن ذكر العقيق وأهله

ولم يشجه أطلال هند ولا دعد

ولا شام برقا لاح في الأفق لامعًا

ولو أن مسراه من العلم الفرد

ولم يتصدى للجنوب مسائلًا

أهل حملت نشر الخزامى أم الرند

ولم يسأل الركبان هل أعشب الحمى

وهل مطرت تلك الخمائل من بعد

ألست ترى وخط المشيب بفوده

كفاه به من واعظ زاجر مهدي

أيجمل بالحر اللبيب وعقله

سلوك سبيل الغي والباطل المردي

وقد جاءه من غير شك وريبة

رسول التقاضي بالمسير إلى اللّحد

[653]

محمد بن عليّ بن أحمد، أبو الفضل البلخيّ.

كان من أهل الأدب والفضل له شعر.

أنشدني الشريف أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسين البلخي الحسيني؛ قال:

ص: 184

أنشدني محمد بن علي من شعره: [من الكامل]

ميدان وصلك فيه كيف أسير؟

والجسم في حبس الفراق أسير

فعقاب عقلي في عقاب هوائكم

مقصوص أجنحة فكيف يطير

وجواد فكري في خيال خيالكم

ألقى النعال فما يكاد يسير

[654]

محمد بن عمّار القصريّ الحديثيّ.

هو من موضع يعرف بالقصير من نواحي الحديثة، يقارب هيت.

لم يكن يشعر من شأنه، إلا أنه كان ينظمه طبعًا، فتأتي معانيه صحيحة؛ أنشدني أبو فراس بن عبيد الله بن أبي فراس الهيتي؛ قال: أنشدني محمد بن عمار لنفسه:

[من البسيط]

يا ضيعة السعي لا أهل حصلت بهم

ولا بحبل وداد منك أمتسك

فكنت كالصائد البحري فرط في

طماعة الصيد لا نوم ولا سمك

[655]

محمد بن محمد بن عبد المنعم بن مسكينٍ، أبو الفضل المصريّ.

كان أبوه من الشهود المعدلين بمصر، وكذلك جده وأسلافه من بيت الفصاحة والجلالة؛ وهو من أهل المعرفة والشعر، ومات في صفر سنة ثلاث وعشرين ةستمائة.

أنشدني أبو القاسم بن أبي النجيب بن أبي يزيد التبريزي؛ قال: أنشدني محمد بن محمد بن مسكين لنفسه، يمدح الناصر لدين الله –رضوان الله عليه-:

[من البسيط]

برد عليك الجوى من ريقك الشنب

ففي رضابك معنى ليس في العنب

فليس يشفي سقامًا حل في بدني

إلا برود بذاك الظلم والشنب

يا مانعي وصله والسقم ينحلني

وما نحى هجره ظلمًا بلا سبب

وما بأجفانك المرضى الصحاخ وما

يجن منك جناني حين يخطر بي

ص: 185

/137 ب/إرحم خضوع فتى قامت قيامته

عليك يا فضة فاقت على الذهب

وأنت يا قلب فاصبر في عناك به

فالدهر يأتي بأمر غير محتسب

يا سائق العيس يحدوها على مضض

من شدة الأين والإرقال والخبب

إن جئت أرض بلاد الشام حيي بها

كثبان جوشن والسفحين من حلب

وقف بنهر قويق وابك روضته

عني فماء جفوني غير منسكب

وأبلغ سلامي إلى قومي الذين نسوا

ودي وخانوا عهودي وافدهم بابي

وقل لهم بادروا دار السلام إلى

ظل الإمام تحوزوا غاية الطلب

تلقوا حياض رياض البر مترعة

جودا فراجي نداه جد لم يخب

الناصر الأعظم الهادي الخليفة وهاب الألوف وحامي الجحفل اللجب

عمت صنائعه الدنيا وساكنها

فنفسه لسوى الإحسان لم تطلب

قد طبق الأرض إحسانًا فنائله ال

غمر الهني سرى في العجم والعرب

ليث إذا ما سطا دهر على بشر

غيث إذا ضنت الأنواء بالسحب

وطول أقلامه أغنى وعزمته

عن الطوال الردينيات والقضب

فلو رآها ابن أوس لم يقل خجلًا

(السيف أصدق أنباء من الكتب)

جلت معاليه أن تحصى وتحصر في

نظم من الشعر أو نثر من الخطب

جبريل خادمه والله حارسه

من موبقات صروف الدهر والنوب

وحبه طاعة نلقى الإله بها

نرجو النجاة بها من ربقة العطب

خليفة الله يا ظل الإله ومن

كل الخلائق في إنعامه الخصب

ومن بأيامه الأيام طيبة

قد دل من خوفه الضرغام للشبب

لا زال ملكك يا من لا شبيه له

في المجد والفضل والإحسان والحسب

لا برحت طوال الدهر ممتطيًا

مملكًا صهوات السبعة الشهب

ونقلت من خطه، شعره ما كتبه في صدر مكاتبة إلى الصاحب صفي الدين بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الخالق بن شكر المصري –وزير السلطان الملك العادل-

ص: 186

سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب –رضي الله عنه: [من البسيط]

يا عمدة الملك بل با عمدة الدول

يا كعبة الفضل بل يا قبلة الأمل

قد أصبح الدهر يسعى سعي معتذر

إليك يعثر في ثوب من الخجل

وبات من كان ذا ود لقربك في

أمن ومن كان ذا حقد على وجل

والسعد ينشد من أضحى يحاوله

لدي سواك بأسياف من الحيل

لا أبتغي بدلًا عما ظفرت به

ولا أفارق باب الصاحب بن عليّ

[656]

محمّد بن محمّد بن هبة الله بن إبراهيم بن شماس، أبو عبد الله الإربليّ، المعروف بالمرنديّ.

كان كاتبًا جميلًا، عنده ذكاء وفطنة، صاحب طبع في الحساب؛ أخذه عن القاضي أبي محمد جعفر بن محمد الكفر عزي، صرفه حب البطالة عن الأشغال؛ سافر إلى الديار المصرية سنة اثنتي عشرة وستمائة، واستخدم بها جنديًا.

أنشدني أبو الثناء محمود بن محمد الإربلي؛ قال: أنشدني المرندي لنفسه:

[من البسيط]

إن الذي كنت أرجوه لمعضلتي

وأدعي أنه ذخر الملمات

فتشت عنه فما رد الذي حضرت

من أسهل الأمر كيف المشكل الآتي؟

[657]

محمّد بن محمّد بن أبي حرب بن عبد الصمد بن النرسيّ، أبو الحسن بن أبي الفرج الكاتب.

من أهل بغداد.

ص: 187

كان ناظرًا على عقار الخليفة الخاص؛ وكان قد سمع الحديث الكثير بإفادة أبي أحمد البصري؛ من أبي أحمد محمد بن أحمد بن عبد الكريم بن المادح، وأبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سلمان، ومن جماعة .....

وكان شيخًا فاضلًا دينًا، يقول الشعر، ويحفظ الحكايات والنوادر، إلا أنه كان سييء الطريقة، مذموم الأفعال في ولايته.

ولد في يوم الإثنين ثاني عشر في أحد الربيعين، سنة أربعة وأربعين وخمسمائة، وتوفي ليلة الثلاثاء التاسع عشر من جمادي الآخر سنة ست وعشرين وستمائة ببغداد، ودفن بالوردية؛ ومن شعره:[من البسيط]

ليت العواذل للعشاق ما خلقوا

كم عذبوا بأليم اللوم مشتاقًا

أشجاه نوح حمامات فصاغ لها

من أسود العين يوم البين أطواقا

وبات يرعى أحمر النجم يحسبه

في الليل سقط زناد مس حراقا

والأزرق اللون كالكبريت ذي شعب

أطرقن عند اقتباس منه إطراقًا

وله في امرأته يرثيها: [من الكامل]

لما تعذر أن أكون لها الفدى

فتعيش [بعدي] أو نموت جميعا

اتبعتها حلل السواد فما بقي

فسواد عيني قد أذيب دموعا

وأنشدني أبو العو مفضل بن علي بن عبد الواحد المصري؛ قال: أنشدني أبو الحسن ابن النرسي لنفسه، في الشيخ شهاب الدين أبي عبد الله عمر بن محمد السهروردي حين عاد من الحج:[من الكامل]

جددت في تلك المواقف وقفة

سرت بها بالمأزمين قلوب

وتباشر الركن المقبل والصفا

فرحًا كما يلقى المحب حبيب

فجزى الخليفة خير ما جزي امرؤ

غصن الحياة بما يجود رطيب

منحتك همتك الشريفة قوة

حملتك في سن القنى لا النيب

ليجاب منك بمكة رفع الدعا

فيما يفوح بها الثنا ويطيب

ص: 188

حادت مطاياك الغرائب في الثرى

عجبًا وما الإنعام منه غريب

فاشكر له شكر المبالغ في الدعا

والله في الإخلاص منك يجيب

ولقد أردت القرب منك فعاقني

دون المرام موانع وخطوب

قسم الأحاظي من مصابي بالشقا

منها فمالي في النعيم نصيب

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه: [من البسيط]

إن كان ميثاق عهدي بالصريم وهي

وحان من دونه يا مي أعذار

فهل حداة مطاياهم تخبرني

أأنجدوا أم ترى من بعدنا غاروا

واحر قلباه مني يوم بينهم

وإذا خلت لا خلت من أنسها الدار

فلا تثني قضيب البان بعدهم

ولا تمتع من قرب الحمى جار

ولا صبا قلب ذي وجد بغانيه

ولا تحرك في المزموم أوتار

حتى أبثهم الشكوى فتكنفنا

دار بنجد عذّال وسمّار

[658]

محمد بن محمود بن الحسن بن عليً بن محمد بن المنتجب بن أبان، أبو عيد الله الطائيً الإربليً المعروف بابن غميضا.

كان أحد شعراء الأندلس، ممن اشتهر بها، ذا طبع عمل الشعر، وقريحة حسنة في نظمه.

توفي بإربل يوم الأحد سادس عشر من رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

أنشدني أبو عبد الله محمد بن مكي بن عبد الملك الإربلي الصيرفي؛ قال: أنشدني عبد الله محمد بن غميضا لنفسه: [من الخفيف]

يا نديمي صرّفا بالشراب

هم قلبي ولوعتي واكتئابي

وانهضا بي والصبح في غسق اللي

ل ووجه الضياء تحت النقاب

واقصدا بي باب السرور لعلي

استرد السرور مع اترابي

ص: 189

واسقياني خمرًا تفعل في الكأس

فعال القنديل في المحراب

بين ورد حكى السوالف في الحسـ

ـن احمرارًا أو صبغة العناب

فإذا سكرت وأبصر تماني

لا أطيق الحراك في أثوابي

وسداني في وسط دن كبير

وارفعاني على رؤوس صحابي

ثم لا تقربا بشيء أمامي

غير شعري إلى المعاني العذاب

إنه لا يصح شعر لراو

دون تقديم لفظة المستطاب

مثلما لا تصلح طاعات عبد

في صلاة بغير أم الكتاب

فإذا ما وصلتما عمكابًا

ذ فحطا ببعض تلك الهضاب

ثم قولا من ذا يصلي على الشيـ

ـخ صريع الكؤوس والأكواب

فإذا ما أتاكما كل شيخ

يتولون سكره كالمصاب

قبلاتي وقلباني إلى الشر

ق لكي تسخرا بأهل العذاب

جاعلين المسيح في قدم الدهر

سبيلًا للواحد الوهاب

وهو سبحانه يجل عن الوصـ

ـف بذكر الأولاد والأصحاب

فإذا ما لهجتما في صلاة

ليس بعلو فويق عند الباب

فادفناني بين الرياحين والور

د لدى من أحب من السرداب

أنشدني الصاحب أبو البركات المستوفي؛ قال: أنشدني ابن غميضا لنفسه في غلام بخده خال: [من البسيط]

يا من يتيه دلالًا في غلائله

ويحمل الغصن لينا في تمايله

أخذت حبة قلبي فاتخذت بها

خالًا بخد أسيل في مخايله

كأن وجهك صمصام بصفحته

أدنى ضدأ ليت كفي من صياقله

وأنشدني أيضًا، قال: أنشدني ابن غميضا لنفسه في صبي يرمي بالنشاب:

[من الكامل]

ومهفهف كالغصن قد مرامه

والشمس عند طلوعها في حسنه

يرمي بقطعي لحظه وسهامه

فكأن قلب جفيره في جفنه

ص: 190

وأنشدني؛ قال: أنشدني في صبي يدعى ((سلك)) تركي: [من البسيط]

يا طاعن الطعنة السلكي بقامته

والاسم مستخرج من ذاك يا سلك

من أجلك الترك تحلو لي شمائلهم

وقد فليت البوادي أية سلكوا

دمي الذي حرسته كل غائرة

شعواء عندك بالألحاظ ينسفك

وأنشدني أيضا؛ قال: أنشدني لنفسه: [من المتقارب]

غرير إذا رمت تسويفه

أديرت على سقا ريقه

إذا رمت قبلًا دنا خده

وإن رمت رشفًا سقا ريقه

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه في معناه: [من المتقارب]

غرير إذا رمت تسويفه

أحيدت على أباريقه

فإن رمت قبلًا أبى خده

وإن رمت رشفًا أبى ريقه

ومن شعره ما كتبه إلى أولاد جلال الدين الوزير بن شماس، حين حبس والدهم –رحمه الله تعالى- متأسيًا لهم عند نكبتهم:[من الخفيف]

يا بني المكرمات يا معدن السؤدد

والمجد يا بني شماس

لكم الله من أناس تعالوا

بفخار على جميع الناس

وأقروا على الريا أساسًا

ثابتًا في الفخار خير أساس

لا ترعكم نوائب الدهر بالسطـ

ـوة فيكم فإنما الدهر قاسي

وتأسوا بآل أحمد عقلا

وقياسًا مشابهًا للقياس

لكم السبق والمعاد إلى السبـ

ق وأنتم منابت الأغراس

ستعودون ظاهرين بأمر

نافذ خالصين من كل باس

وتظنون ما بكم من منام

وترون اضطرابكم في نعاس

وتنادي هذا هو الغرض الأقـ

ـصى هنيئًا في جملة الجلاس

وتكيدون كل من كاد بالطعـ

ـن وترسون كالجبال الرواسي

لا تخافوا أذى من الدهر فالدهـ

ـر مضر والله نعم النطاسي

ص: 191

وقال فيهم أيضًا: [من المنسرح]

يا سادة أرهف الزمان على

رتبتهم سيفه وقد ندما

لا تيأسوا في الضيق من فرج

لا تشتكوا من زمانكم ألمًا

فليس بين المكروب والفرج الـ

ـعاجل إلا كبارق بسما

صبرًا على حكم حادث حكمت

أسبابه في ديار من حكما

فأل طه لم يعد قسمهم

عنهم ولم يبرحوا لنا قسما

لكم به أسوة وقدركم

عال وإن كان دهركم دهما

سيرجع الدهر مبرمًا سببًا

ويضرب النصر ضاربًا خيما

ويكتب الله من سلامتكم

حظًا ويجري بذلك القلما

وقال أيضًا: [من البسيط]

هب النسيم فأجري نشر أهله

فعاود القلب من رياه بلبال

سقيًا لأيامنا بالدار حين خلت

من السواري رحيب الجيب هطال

ما كان أسبغ ما كنا على ثقة

من الزمان وغض الوصل ميال

ما أم سقب أظلته بمقفرة

زيزاء يرقص في معزائها الآل

لها حنين إذا ما بالعراء أدركت

سقبها ثم إدبار وإقبال

يومًا بأوجع من قلبي إذا خطرت

خواطر الذكر فيه والأطيفال

وقال أيضا: [من البسيط]

لأهملنك عن نفسي وإن تلفت

شوقًا إليك وعن قلبي لو تلفا

حتى تعود من الهجران معتذرًا

أو تنثني بالذي أنكرت معترفًا

وقوله أيضًا: [من البسيط]

إذا تغير من ترجى إقامته

عن الجميل فكيف الظّن باللحّز

إذا الرياض تحامتها السوام فهل

يرجى لها الخصب من ديمومة جرز

ص: 192

إن دام هذا أين الفراق يوجد بيـ

ـن والتبن والتبر ثم الدّر والحرز

وقال أيضًا: [من الطويل]

إذا كان المرء في ذات نفسه

فليس له في العالمّين قبول

ومن كان لؤم الطّبع في ذات أصله

وبالفسق يسمو دهره ويطول

فلا تعذلوني في ولعي يعرضه

فما ذاك من يحنو عليه عذول

ولي خاطر بالمدح والذم نافذ

بأفكاره في الخافقين يجول

[659]

محمّد بن نصر بن عقيل، أبو عبد الله بن أبي المظفر القرظي الإربلي.

من بيت مشهور بفقه وعلم.

كان فقيهً شافعي المذهب، قرأ الأصولين والخلاف، وتميز في ذلك ، وهو بيت عريق في العلم والدين، ودرّس الفقه بإربل في المدرسة العقلية نيابه عن والده.

ثم خرج عن إربل ونزل آمد، ودرس بها الفقه مشتملًا، وكان يحضر درسه جماعة من الفقهاء المعتبرين، برهة من الزمان، ثم سافر عنها إلى عّدة بلاد، وشخص إلى مصر ممتدحًا بجائزة.

ثم عاد وهو على حاله يقصد الملوك بالشعر، وتردد إلى الموصل، وشغل نفسه بقول الشعر من صباه، واستقرّ قراره بدمشق، فجذبه الملك الأشر ف إلى منادمته، فترك ماكن عليه من الاشغال بالفقه والتدريس، وملابس الفتيا، وبزيّ الجند، ولميمكنه الخروج عن ذلك الزيّ لتعليقه بخدمة السلطان، وصار من جملة

ص: 193

ندمائه وجلساته.

وكان ظريفًا معاشرًا متأدبًا، له اعتناء بصنعة الدّوبيب، فاق بها كثيرا من الناس، وأشتهر عنه الكثير، وغنّى به القالون، وتوفي على تلك الحال- سامحه الله تعالى- بعد مرض سنتين.

وسمعت أنّهلما طعن في السّن، رجع الله تعالى، وقضى صلاته أربع عشرة سنة، وكانت وفاته يوم الثلاثاء أو الأربعاء الثامن من محرم سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بدمشق، ودفن بمقابر الصوفيه غربي المدينة- رحمه الله تعالى-.

أنشدني أبو الثناء محمود بن محمد بن الأنجب الإربلي، قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه، وكتبها إلى من بغداد سنة تسع وتسعين وخمسماة، وأنشدها لأبس الدر الرومي فاستحسنها، وكان بجامع القصر، وقال: لولا أنّني بالجامع لرقصت منها عجبًا: [من الوافر]

وقّاتله رأت كلفي ووجدي

بإربل قد يرى جسديّ وأبلى

فريعي عند من أهوىّ هواه

أحب إلى من نهر المعلّى

وأطيب لي من الدّنيا جميعًا .... وأعذب من نهر المعلّلى

وأنزه رقعة من نهر عيسى .... وأشرف بقعةّ عندي وأغلى

بها رشا عليه الحسن وقف

يفوق النّيرين إذا تجلّى

بجفنيه جفون ماضيات

بها يسطو إذا ما رام قتلا

غريب الحسن لو فكرت فيه

لما نظرت له عيناك مثلا

كساني سقم ناظره وولى

قّريرآ لا يراقب فيه إلاّ

وشرّدنى فها أنا ذا غريب

وألبسني بعهد العز ذلاّ

أردد ناظري في كلّ وقت

فلا خدناّ أراه لي وخلاّ

فقل يا خير من ناداه صب

قتيلك كم بنار الشّوق يصلى

ص: 194

وكم قلب وكم فؤاد

سلبت تجنيًا وعقلت عقلا

أقول للاّئمين فيه تأيد

وحسبك كف قد أكثرت عدلا

سقاني حبه فثملت منه

فلا أصحو إذن حاشا وكلًا

أرى العبء العظيم أخف من أن

يقولوا عن هواه قد تسلّى

فإن اك لا يفارقني هواه

فشيء قد ربيت عليه طفلا

وقال أيضًا، الأمير العالم العادل ركن الدين أبو شجاع أحمد بن قرطايا- أدام الله أيامه-، قال: أنشدني محمد بن نصر بن عقيل لنفسه: [من المديد]

لا سقي من بعدك الطّلل

ولام المنزل الهبل

بنت عن عين فلا أكتحلت

بكرى أو ينجح الأمل

كلّ ربع لا تحل به

لا سقاه الصّيب الهطل

ومغان لا أراك بها

إقطعوا حبلى ولا تصلوا

كلّ شئ منكم حسن

سائغ عندي ومحتمل

لا تقيسونى أخا كلف

فبوجدي يضرب المثل

رق لي يا من أؤمله

وعليه الدّهر أتكل

كف ساطي اللّحظ عن دنف

آفتاه الغنج والكحل

لا أبالي بالمنون إذا

سالمتني تلكم المقل

وقال أيضًا: [من مجزوء الكامل]

شوقي إليك يجل عن

إدراكه كلّ الأنام

فلفكرتي ولحيرتي

فيه أقتصرت على الّلام

وله في اجتماع الملك الأشرف موسى، والملك الحافظ أرسلان شاه أبناء الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، وأنشدنيها الأمير العادل ركن الدين- ثبت الله دولته- عن قائلها:[من الطويل]

وكم قائل لي هل رأيت عجيبةّ

تعظيمها في حالة القرب والبعد

فقلت نعم ها قد حللت بمرشد

يريك سبيل الحّق والسّبب المهدي

ص: 195

أصخ تستبن عيسى وموسى وصنوه

أرسلان أباب العلا وأولي المجد

فلا زالت الدّنيا إلى الحشر ملكهم

وأمرهم بالحل فيها وبالعقد

بمطلع سعد قد جمعن ومارؤي

ثلاثة أقمار ببرج من السّعد

كان أبو عبد الله محمد بن عقل، له على بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل رسم، وكان يركب في المواكب معه، ويذكره برسمه، فطال عليه تردده، فقال في ذلك:[من الطويل]

تسائلني عن شرح حالي وقصّتي

وما قد ألاقي من نوى ونوائب

خذي شرح حالى بيّنا وأكتفي به

ففي شرح حالي عبرة للنوادب

لكلّ من القصّاد ررفد موفّر

وما حظّنا إلاّ غبار المواكب

فوصلت الأبيات إلى الأمير بدر الدين، فوصله بما كان يصله به.

[660]

محمّد بن محمّد بن محمّد بن أحمد بن أبي الفتح، أبو عبد الله المرزباتيّ.

ينسب جده إلى المرزبانية، التي من العلث، وهي غير المرزبانية التي ينهر عيسى، كذلك ذكر لي ولده عبد الحميد، وزعم أنّهم من أولاد عمرو بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي، قال: كان مولده في شعبان سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، فاستوفى ثمانين سنة وشهرًا واحدًا وخمسة عشر يومًا.

وهو المعروف بسبط هداب، كان من أهل التصرف والحساب والكتابة، عارفًا بالحبر والمقابلة والمساحات، وتولى في عهد الناصر لدين الله- رضي الله عنه أعملًا.

وينتمي إلى مذهب الإمامية، وله أشعار معظمها في التجنيس، ومات سلخ شهر رمضان سنة ستّ وعشرين وستمائة، وقيل يوم عيد الفطر.

ص: 196

أنشدني الياس بن توما بن عيسى البوزايجي، قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه، ما كتب إلى بعض الشرفاء العلويين:[من البسيط]

إن رمت إبقًا وإنكارًا لحقكم

فليس لي والدّ حرّ ولا خال

وكيف أنكر إنعامًا تملكني

وميسم البّر في وجهي له خال

ما قال هذا بنو هدّاب قاطبةّ

قلبي ولا حسبوا هذا ولا خالوا

وأنشدني، قال: أنشدني أيضًا لنفسه: [من البسيط]

ماذا يريد الهوى مني وقد ذهبت

شيبتي ومشيت الرّأس قد وخطا

فليمض عنّي فإني إن ولعت به

لقيت ربي بوزر موبق وخطا

عصيته والصّبا غض الأديم فتى

أطيعه وزماني قّد عدّا وسطا

لا أقبل النصح منه حين ينصحني

ولو توعّدني مستقمًا وسطا

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه، وهي مسألة في الجبر والمقابلة:

[من الرجز]

مدينة حاضرها معسكر

وسورها مدرهم مدنّر

وبين كلّ فارسين منهم

قدر ذراعين كما قد ذكروا

فافتتحوها عنوة واقتسموا

أرضًاحواها سورها المدّبر

فكان سهم فارس مخاصمًا

سبعا وسبعين ذراعا مكسر

فكم يكون سورها وقطرها وكم يكون يا حبيبي العسكر

فإن أتيت بالجواب شافيا

أصبحت في الحساب ممّن يشكر

وأنسدني، قال: أنشدني أيضًا لنفسه من أبيات قالها في الظاهر بأمر الله- رضي الله عنه: [من الكامل]

بكرت تؤنبني وتشده خاطري

وتلومني لتعسفي ومفاقري

وتقول كم هذا التغرب والنوّى

مااآن أن تلقى عصاّ لمسافر

فأجبتها لا تجزعني وتوكّلي

فالرّزق يأتي من مليك قادر

قد عنّ لي أحوز به الغنى

بتمسكي بأوّاصر أبن النّاصر

وأنشدني، قال: أنشدني أيضصا لنفسه: [من الطويل]

ص: 197

وأقسم بالأبرار من آل أحمد

آلّيه حر طيب الأصل واللّبن

لأني إلى رؤياك في كلّ لحظه

أحسن حنين الغئبين إلى الوطن

أنشدني، قال: أنشدني أيضًا قوله: [من الطويل]

وأقسم بلأبرار من آل أحمد

آلّيه حر طيب الفرع والأصل

لأني إلى رؤياك في كلّ لحظة

أحن حنين النّازحين إلى الأهل

[661]

محمد بن حياة بن يحيى بن صدقة، أبو عبد الله الخابوري الشيباني المجدلي.

المعروف بالحيص بيص، لقب نفسه بذلك، لسلوكه طريقة الحيص بيص الشاعر أبي الفوارس.

صحب أبا الحرم مكي بن ريان الماكسي، وقرأ عليه النحو والأشعار، وفن الأدب، وكان شاعرًا يتعاطى الصناعة في نظمه، ويمتّ بعلم العروض والقوافي، ومات بنصيبين في العشر الوسطى من شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة.

أنشدني أبو عبد الله محمد بن حيدر بن الدبندار الوسطي الشاعر قال: أنشدني ابو عبد الله محمد بن حياة لنفسه، يمدح فلك الدين بن الميري:[من الكامل]

هبني كتمت صبابتي وهيامي

اني ودمعي فوق خدي هامي

حلّت عقود الدّمع لوعة مغرم

واشبّها في الخد وقد ضرام

كم عبرة مشفوعه أرسلتها

مشفوعة أفرادها بتؤام

لا تسألو صّواب السّحاب فأدمعي

كلفت لكم منها بفيض غمام

ص: 198

إيه عن الاطان ما شعفي بها

إلا لعظم تحر في وهامي

يا نازحين لعبرتي

والنازلين منازلي وخيامي

إني أبثكم جوى حملته

اوهى أقوى جلدي وفتّ عظامي

وملاعب قضيت أيام الصًبا

فيها وروض اللهو غض نامي

فعلى مرابع دجلة الحدباء فالـ

ـجسرين فضل تحيتي وسلامي

أيام أسحب في الغوية في طرفي

طربًا وألبس مطرف الاثام

أختال في برد الشباب وأجتلى

ثغر الحباب من أنتهاب مدام

حمراء كالقبس المنير بها أهتدى

من ظلّ في كفر عن الإسلام

وأغن منها في يديه أساور

ولجيده بالدرّ عقد نظام

إني سأدّرع الدّياجي والفلا

وأخوض كلّ مهامه ومواميّ

وأصدّ عن ورد يشأب بذلّة

وأعود عنه بغير نقع أوام

والود بالفلك الوزير ومن له

يومان: يوم ندّى ويوم حمّام

الوهب البدر النّضار وعاقر

الكوم العشار بذابل وحسام

معطي الجزيل مغرسين سواله

كرما ولا يصغي للآم ملام

حاط المملك عزمه فأحلّلها

ما بين كيوان إلى بهرام

ما إن يهاب الخطب عند حلوله

رأس يناط بيذبل وشمام

ذو مفخر لو لبست شمس الضّحى

منه السّنى لم تشمل بظلام

حلّ الحضيرا فهي كعبة حجّنا

وبها طواف السّعي والإحرام

وكمكّمة أضحيت ولولا وردها

عذاب لقلنا زمزم بمقام

يا أيها المجرجو من دهر غدا

ونوازل توهي الجليد جسام

ما ديمة وطفاء يحدوها الصّبا

مشفوعة بالهطل والإرزام

فوراء سارية همت بمرابع

فيح محلّ الغيد والآرام

جادت بنوء المرزمين فغادرت

غدر الحمائل بالنصاف طوامي

سحبت عليها السحب أذيال الحيا

فقتحن بالآكام كلّ كمام

ص: 199

/148 ب/ضاعت بمسكي النسيم معطرًا

وتأرجت بشذا ونشر خزام

سقيًا لدّهر جادلي بلقائه

حتى شرقت وقادني بزمامي

أنى يحلّ فكلّ ربع مخبا

ومتى يصول فكلّ قرن دامي

لا زالت الأيام تجري بالذي

تختاره في سائر الأيام

وأنشدني عبد الرحمن بن عبد الله الصقيل الشاعر الموصلي، قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه في غلام نحوي: [من الكامل]

ومهفهف خفضت عوامل حسنه

حظي ورحمته جفاه وصده

يا حضرة المعتل بل يا حظّي الـ

ـمنقوص أنى جاز عندك مده

[662]

محمّد بن عبد العزيز بن القاسم محمد بن عمر بن سليمان بن الحسن بن إدريس بن يحيى العلي بن عليّ العالي بن حمّود بن ميمون بن أحمد بن عمر بن عبيد الله بن عمر بن أدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علىّ بن أبي طالب، أبو جعفر الأدريس الحسني المصري.

وجده المعتلي، هو الخارج بالغرب، والمستولي على بلاد الأندلس.

وأبو جعفر: نسابة الأشراف بالديار المصرية، وصنف في علوم القرآ ن والأحاديث النوبة، واللغه العربية والتوريخ، وفنون الآدب والعلوم، مصنفات

ص: 200

جليلة. وله منثور ومنظوم، ومزدوج وجز ومخمس، وخطب ورسائل وشعر كثير.

وهو منآية العلماء في عصره، كبير الشأن، عالم أظفر بشئ من شعره إلى ما اذكره.

انشدني أبو حامد بشر بن حامد التبريزي الفقيه الشافعي، قال: أنشدني الشريف أبو جعفر الحسني لنفسه: [من البسيط]

كلّ العلوم سوى علم الكتاب وما

يروى عن المصطفى وسواس إبليس

وللنصوص سيوف قط ما ضربت

إلاّ وطارت بها روس المقاييس

ومالك

فيما ذكرت ما

أدري لهذا خلافا لأبن إدريس

وأنشدني أبو عبد الله محمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن النصيبي بحلت، قال: أنشدني الشرف أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الأدريسي يصف كتاب [دلايل]

الأحكام الذي صنعه القاضى بهاء الدين بن شداد: [من الكامل]

بدلائل الأحكام ذي الإحكام

علمت معالم شرعة الإسلام

وتبين السنن الذي وضحت به

سنن الهدى منشورة الأعلام

وتألقيت أنواره للمهتدي

وتدفقت أنواؤه للظامي

تصنيف من بهر الأئمّة علمه

وأختص بالإجلال والاكرام

قاضي القضاة أبي المحاسن يوسف

فخر العراق جميعه والشام

[663]

محمّد بن مسلم، أبو عبد الله الأسدي المعروف بالفارقي.

الفقيه الأديب المقرئ.

أخبرني أنه ولد بماردين، ونشأ بمياّفارقين برهية من الزمان، وذلك عرف بها.

ص: 201

قال أبو المجد ابن باطيش في كتاب طبقات الفقهاء الشافعية: انحدر إلى العراق، وقرأ القرآن العزيز بواسط، وتفقه ببغداد بمدرسة الخلفة الناصر لله، بالجانب الغربي على الفخر النوجاني. وقرا ايضًا بها الأدب، وصعد إلى الموصل، وصحب بها الشيخ أبا حامد محمد بن يونس بن منعة بن مالك الموصلي الفقيه المدرس الشافعي، والشييخ أبا الحرم مكّي بن ريان بن شبة الماكسي النحوي، وتميز في الفقه والأدب، وانتهت إليه المعرفة بالقرآن العزيز، وحسن آدابه، وتفرد بجودة التلاوة، وحسن الأداء.

وأشتهر بالموصل، وتصدر للإقراء وانتشر صيته، وكان يقرئ القرآن والأدب وغيرهما من علوم الشريعة.

وكان حسن السيرة، ظاهر النسك، لم يزل على ذلك إلى سنة سبع وعشرين فحجّ إلى بيت الله تعالى، وقضى الحج ورضي من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم في عوده، ولم يزل مريضًا إلى أن توفي بالنجف ليلة الإثنين ثاني عشر المحرم سنة ثماني وعشرين وستمائة، ودفن بمشهد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه-ز

وعمل أبياتًا ضمنّها كتابًا كتبه إلى الأمير أبي الفضل شمس الدين لؤلؤ بن عبد الله- نائب الأتابك شهاب الدين أبي سعيد طغريل بن عبد الله بن الطاهري- بحلب في مدح الاتابك- وكان محساناً إليه، يبره ويتفقده مع بعد الدار، ويعتدّ ببركته، ويرغب في دعائه وهي:[من الكامل]

يا طالبا بحرآ يجود على الورى

عذبًا فراتًا نيله مبذول

عرج على حلب ويّمم منزلا

فيه شهاب الدين ذاك السول

ما زال مذ عقدت يداه إزاره

يسمو إلى دوح العلا ويطول

حتى تنزّ منزلًا لورامه

فلك الزّمان لفاته المأمول

لله در يديه ما أنداهما

سيف الأله على العدا مسلول

الله أسأل أن يديم بقاءه

مترقّيًا وحسوده المقتول

ص: 202

قال أبو أحمد المجد: نقلت هذه الأبيات من خطه، وهي كما ترى.

وأنشدني أبو عبد الله بن الخضر الموصلي المقرئ، قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه: [من الرمل]

قل لسكّان الحمى أين مضوا

فعليهم من محبيهم سلام

فارقوا فاتّقدت بين الحشا

نار وجد تتلظى وغرام

آه من صرف زمان غادر

جار في الحكم رزاياه تؤم

[664]

محمّد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب، الملك المنصور ابو المعالي بن الملك المظفر أبي المناقب- صاحب حماة-.

ولي حماة في سنة سبع وثمانين، وتسلّم وما كان لأبيه بالشام ، وهو شيخ المعرّة وحماة وسلمية، له تصانيف، منها تاريخه الكبير الموسوم "بمضمار الحقائق في علوم الخلائق"، واختصر كتاب"الشامل" لابن الصباغ في الفقه، وله كتاب في أسماء شعراء عصره.

وكان أوفى الملوك في وقته، سياسة، وذكاء، وفضلًا قد قرأ الأداب، وتميز فيها، ودرس المنطق، ومن مصنفاته كتاب " در الآداب في التأريح" أيضًا ، وكتاب"شغف وطرب" في حق العاشق والمعشوق، وكتاب"طبقات الشعراء"، وأشعار كثيرة مدونة.

ص: 203

حدثني القاضي أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة، قال: أخبرني من رآه أنه كان قليل العلم، وأنّ التصنيف بعيد منه، وكذلك قول الشعر، وكان يدعيه.

وقيل إنه استخدم جماعة يصنفون له التصانيف، وكان يأخذ نفسه بعلوم الأوئل والحكمة، وكان كردبازوه مولى أبيه قد استولى على منبهج، وحجر على ذرية والده الصغار، فافتتحها الملك المنصور في جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين وخمسمائة، واستنقذها منه وأخرجه عنها.

أنشدني أبو بكر محمد بن نصر الله الدمشقي الشاعر، قال: أنشدني الملك المنصور لنفسه: [من الكامل]

قسما بمجدك إنه لعظيم

ما العيش إلا القرقف المختوم

وسماع مطربة بلحن مطرب

يصيبو إليه البابلي الريم

وأنشدني أيضًا بمحروسة حلب يوم الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة خميس وثلاثين وستمائة، قال انشدني الملك المنصور أبو المعالي لنفسه:

[من البسيط]

حيّا المنازل من قلبي صورانا

حيًا بنا كرّرها سحًا وتهتانا

فهي الدّيار التى تحوى مرابعها

من الكواعب أقمارًا أغصانا

كواعب بفنون من محاسينها

تهز أعطافها بالدّل افنانا

فهل قدود دماها أم مثقفة

تضحى لأسيافها الأجفان أجفانا

وما تريك بنودآ من ذوائبها

حتى تربيك من الآلحاظ خرصانا

من كلّ سمراء في سمراء قامتها

لدى تعطفها ما بخجل البانا

وللشباب جنى ورد بوجنتها

ماء الحياء به كم شب نيرانا

وفوق غصن الّنقا من دعص قامتها

إذ قام تحسب بدر التم هيفانا

تهز رمحا له من طرفها طرف فلا عدمناه فتاكًا وفتانا

خود غدا ردفها الريان ذا شبع

لمّا غدا خصرها الظّان غرثانا

ص: 204

تسقيك من فمها راحًا معتّقَة

ومن سوالفها تجنيك ريحانا

ويوم أضحكها من لؤلؤ نسق

بكيّ طرف بدمع فاض مرجانا

فارقتها ومناي لو يلائمني

بعد السّهاد رقاد فيه ملقانا

فطيفها لو إلينا نائية

أهدى تحيّتها وهنا لأحيانا

وأنشدني أيضًا، قال: أنشدني الملك المنصور لنفسه في النسيب والغزل من قصيدة أولها: ] من البسيط [

سح الدّموع فإنّ الحيّ قد بانوا

وأقفر الصّبر لمّا أقفر البان

وأسعدني بوجد بعد بينهم

فالشّأن لما نأوا عنّي له شأن

وخبّرا أهل ذاك الحيّ من إضم

بأنني ساهر العينين حيران

وأنّني من غرامي واله ذنَف

وفي فؤادي على الأحباب أشجان

لا درّ درّ اللّيالي بعد فرقتهم

ولا سقى الغيث ربعًا عنه قد بانوا

إن كان خان حبيب كنت آلفه

فما أنا في الهوى للعهد خوّان

سأذكر العهد من نجران بعدهم

وأين ممّن ثوى بالشّام نجران

إقر السّلام علي من كان لي سكنًا

أيام كنا وهم بالغور جيران

ففرقت بيننا الأيّام عن كثِب

وحال من دوننا قفر وكثبان

وأذكر العهد من سلمى بذى سلم

والعيش صاف ودار القوم نعمان

فإن نأوا عن سواد العين مذ طعنوَا

فإنهم في سويدا القلب سكّان

أحبابنا إنّني ولهان بعدكم

وحامل الحب طول الدّهر ولهان

وإنّني منذ غبتم ليس لي جلد

يا ناز حين على الأيّام عتبان

إن كان قد نسيوا وصلي ببعدهم

فما أنا للذيذ الوصل نسيان

يا ظبية البان هل وصل نسر به

لتنجلي بلذيذ الوصل أحزان

تعطفوا وارحموا صبًا بكم كلفًا

فدمعة إذ حرى بالشوق غدران

لا تبعثوا في نسيم الريح نشركم

فإنّني من نسيم الريح غيران

عودوا بعود زمان كان منشرحًا

فها أنا بكؤوس الهمّ نشوان

ص: 205

لا تشمتوا حاسدًا يختار فرقتنا

فإن إحسانكم للصبّ إحسان

طعنتم ففؤادي في طعائنكم

معذّب مذ سرت في البيد أظعان

كيف السلوّ ولي صبر يغالبني

وفي الهوادج أقمار وأغصان

سقاكم الغيث من قبليّ كاظمة

سحّا وروّى ثراهم أينما كانوا

وأنشدني أيضًا، قال: أنشد الملك المنصور لنفسه في المعنى المذكور:

] من البسيط [

سار الحبيب فدمع العين مدرار

لا استقلّت بهم للبين أكوار

وخلفوني على الأحزان منهمكا

عندي من الوجد آيات وأخبار

وفي الظّعائن من قحطان لي قمر

كأنّما لحظة للفتك بتار

يا ظبية البان مالي عنك مصطبر

وفي حشاي وجفني الماء والنار

كيف السّلوّ عن الأحباب مذ ظعنوا

وفي فؤادي صبابات وتذكار

يا راحلين وفي الأحشاء قد نزلوا

وغائبين وهم في القلب حضّار

وأفدي غزال نقًا تصمي لواحظة

وفي وجهه لي جنات وأنهار

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه الغزل: ] من الطويل [

عليك لقلبي لوعة وغليل

وأحوال وجدي فيك ليس تحول

وبين ضلوعي منك داء كآبة

أقام بأحشائي فليس يزول

وما نال تبريحي كثّير عزّة

ولا ذاق وجدي عروة وجميل

وطلت على مجنون ليلى صبابَة

بها تقصر الأيّام وهي تطول

ويا حبّذا قرب الديار الّتي بها

ظلال وصال الغانيات ظليل

ديّار تصح الرّوح في عرصاتها

إذا هبّ فيها الرّوح وهو عليل

وتمنحنا فيها الغرام عقائل

فتسلب منّا بالغرام عقول

وبيض الظبا تستلّها من جفونها

ظباء على أسد العرين تصول

فأعطافها إما تهزّ ذوابل

والحاظها أنّى تسلّ نصول

وفيها مهاة صاغها الله من مهًا

بأعطافها ماء النّعيم يجول

لها كفل سال وخصر متيّم

فذا منعم راب وذاك نحيل

ترنح منها بالدلال شمائل

لألبابنا منها تدار شمول

ص: 206

ومن ظلمها المعسول وهو ممنّع

بماض من الألحاظ وهو كليل

تحوم القلوب الصاديات من الأسى

على سلسبيِل ما إليه سبيل

وفوق محيّاها ترفّ خميلة

بنور جمال ما لديه جميل

وهيفاء أمّا خدها فمورّد

أسيل وأما طرفها فكحيل

أجود لها بالنّفس وهي بخيلة

علي بوصل ما إليه وصول

فتاة لديها من سني الشّعر بارق

له وابل من مقتليّ هطول

يحبّ فؤادي طرفها وهو قاتل

.... بحب السّيف وهو صقيل

فلا زال معناها بطيب تحيّتي

تمرّ عليه شمال وقبول

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه في الغزل: ] من الخفيف [

أيّ دمع يوم الفراق أجابا

أيّ قلب يوم التفرّق ذابا

أيّ حزِن أصابنا يوم بانوا

أي صبر يوم التباعد غابا

شاب قلب المحبّ في الحب لما

أن رأي مفرقي من الحب شابا

هل إلي الوصل من سليمي سبيل

وسليمى بوصلها تتغابى

صاب قلبي من الحبيب سهام

تركت عيشتي من الهجر صابا

كلّ وصل سوى وصال محلك

وأرى لذة الوصال عذابا

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه في الغزل أيضًا: ] من الطويل [

لعينيك في قلبي الكئيب ندوب

وما لسقامي في هواك طبيب

وحيّا الحيا هيفاء أما قوامها

فغصن وأمّا ردفها فكثيب

أحن إليها كلما هبت الصّبا

وما آن من شمس النهار غروب

وحيا محلًا أنت فيه مقيمة

سحائب أجفان عليه تصوب

وأنت الّتي لولاك ما جئت زائرًا

ولا خلبتني زينب وخلوب

وعندي من الأشواق ما لو شرحتها

لقصر عنها مالك وحبيب

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه في الغزل من كلمة أولها: ] من الطويل [

خليليّ عوجا نحو سلمى فسلّما

فقد تركتني في هواها متيّما

قفا علّماها ساعة كي ترق لي

فما علّم الإنسان إلاّ ليعلما

ص: 207

وقولا لها إرثي لصب فإنه

غدا بكم دون البرية مغرما

وحنّي عليه وارحميه فإنه

حقيق بأن يحنى عليه ويرحما

ولا تقتليه بالقطيعة والجفا

فإن دم الإنسان أضحى محرّما

وها هي قد أضحت تصيب مقاتلي

وقد فوقت نحوي من اللحظ أسهما

إذا حدثت فالدر تبديه ناثرًا

وإن بسمت فالدر تبدي منظّما

وقائلة هذا الجنون إلى متى

فقلت إلى إن يرجع الضوء مظلما

وقلت لها لا تكثري اللّوم للفتى

فمن لام صلًا في الهوى كان ألاما

فقالت/ دع الأهواء إن كنت عاقلًا

وشمر إلى العلياء كفًا ومعصما

فقلت لها: أنّي إلى المجد سابق

وأعجز في العلياء قيسًا وجرهما

ولا بدّ ما أسلوا عن البيض والدّمى

وأكلف بالبيضات والبيض الدّما

فأنفق في العلياء مالي وإنّما

تعيمي أن أغدوا على النّاس منعما

فما أنا ممّن يجعل الجود مغرمًا

ولا أنا ممّن يجعل البخل مغنما

سأشغل نفسي بالمكارم والعلا

واجعل لهوي مشرفيًا ولهذما

ولا بدّ أسطو بجيش عرمرم

أفل به في الكفر جيشًا عرمرما

فأعمل رمحي أو أرأه مقصدًا

وأعمل سيفي أو أراه مثلّما

لأظهر حقًّا أو لأخفي باطلًا

وأنصر دينًا قد أتانا من السّما

وأنصر دين الهاشمي محمّد

علي كل دين في الورى متحكّما

وأنشر ما أضحى من النصر طاويًا

وافتح ما أمسى من الأرض مبهما

وأبني للإسلام بيتًا مشيّدًا

كما شاده الكفار أضحي مهدّما

وأسهر أجفانًا من الشرك دائمًا

بضرب غدا للمؤمنين مسوًاما

لئن كان عصري في العصور مؤخّرًا

فإني أغدوا في المعالي مقدّما

أنا الفارس المعروف أعزى وأتنمي

إلى آل أيّوب وهم خير منتمى

هم القوم ما من مالك أو معظّم

على الناس إلّا قد غدوا منه أعظما

مظفّرهم في الجود والبأس والنّدى

وأقدمهم يوم الوغى متقدّما

وما زال في يوم الجلاد مجالدًا

بسيف غدا للمشركين مكلّما

فمهلًا بني الإفرنج إنّي معيدها

عليكم كحطّين الأولى وكأنّما

ص: 208

فمن كان بالبيض القواضب ضاربًا

فلابدّ أن يرقى من العزّ سلّما

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه في الغزل من قصيدة أوّلها: ] من الطويل [

سقى الله أيام الصّبا ما يسرّها

وشرخ شبابي عند غيرك شافع

وحيّا ليال قد تقضّت بقربكم

وروّى ثري تلك الربوع المدامع

وإني لمشتاق إلي حسن وجهها

ويمنعني عنها أسود موانع

عسى الدهر أن يقضي بطيف خيالها

ومن لي بأيّام مضين رواجع

وعمري بها حتّي الممات مذلّة

قياليت شعري ما الّذي أنا صانع

وهاتفة بالبان وتشجي بنوحها

فما هجعت شوقًا ولا أنا هاجع

فلله ما هاج الهوى من هديلها

ولله ما تحنو عليه الأضالع

فسرّي بمن أحببته لا أذيعه

فلا يطمعن في ذاك ما عشت طامع

وقلت وقد أبديت وجدًا وحسرًة

وقد غيّبت عني بدور طوالع:

سلوا مضجعي عنّي وعنها فإننا .. رضينا بما تخبرن عنّا المضاجع

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه في الرجز: ] من الرجز [

يا من يساميني ويذكر أسمي

فإنّي من قوم كراِم شمّ

بحار علم وجبال حلم

فمن كلّ ذي بأس شجاع شهم

يذب عن هام العلا ويحمي

فيسعى إلى الغنم بها بالغرم

في رتبة فوق السّها والنجم

فبلغتها قبل بلوغ حلمي

أنبيك عن معرفتي وفهمي

فإنّ علوم ذا الورى من علمي

وحزمهم قلامة من حزمي

قولي لسان قوله كالسّهم

ينفذ بالصخر الصّلاب بالصّمّ

فولي يد مثل السّحاب تهمي

على العفاة بالنوال تهمي

فينتعش العافي بها وينمي

يسبح من عظائها في يمّ

فولي حسان مشرع في الجسم

يكلم قبل ضربه ويدمي

فطوبى لمن حاول يومًا سلمي

رب حسود لي ولا أسمّي

فيهرب من سهمي حين أرمي

أغفل عنه عفلة الأصمّ

ولا يمر قلبه بوهمي

لو حلّ من خوفي محل العصم

فإذا سمت في شاهق أشمّ

ص: 209

أدركه بهمّتي وعزمي

فأظلمه ولا يطيق ظلمي

ومن محلّي في العلا وعظمي

إنّي من نسل ملوك شمّ

أيوب جدّي يا سديد الفهم

فويوسف خير الرايا عمّي

من مثلنا في عربها والعجم

فبجدّنا نعلو فويق النّجم

] 665 [

محمّد بن أبي بكر بن عليّ بن شابي، أبو عبد الله الموصليّ

الفقية الشافعيّ المدرس المفتي في العلوم الشرعية المعروف بابن الخباز.

كان والده خبازًا من العامّة، واصله من بلاد العجم.

ونشأ أبو عبد الله محبًا للعلم، راغبًا في تحصيله، ودروس الفقه على الشيخ المظفر محمد بن علوان بن مهاجر الموصلى، وعلق عن المسائل الخلافية، وبرع في ذلك وتمهّر، وتولّي إعادة درسه، وجدّ واشتغل حتي فاق أبناء عصره، مذهبًا وخلافًا، وأصولًا، ونظرًا.

وهاجر إلي مدينة حلب واستوطنها، إلي أن مات بها، واتصل بقاضي قضاتها أبي المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بن شداد الموصلي الأسدي، فأكرم مورده، وأقبل عليه إقبالًا لم يقبله على أحد من أبناء زمانه.

وكان يحضر درسه، ويناظر في مجلسه، فيحسن ويجيد، حتي يعجب الحاضرون من حسن عبارته، وجودة بيانه، ورحل صحبته إلي الديار المصرية حين سار إليها رسولًا، وفوض إليه تدريس المدرية التي أنشأها الأمير أبو الحسن علي بن سليمان بن جندر، تحت القلعة المحروسة، وكان يلقي بها علي فقهائها في كل يوم

ص: 210

ثماني دروس من علوم متعددة، ما لم يذكره أحد الفقهاء المجودين، مع كمال فصاحته.

وكان من وجوه الفقهاء الشافعية في وقته، ورؤوسهم في أيامه، وإليه انتهت جلالة الفقه الشافعي في معرفة أصولة وفروعه وأحكامه، وأقرّ بفضله والموافق والمخالف، وكانت فتاويه تنبئ عن غزارة علمه، وفرط ذكائه.

وكانت وفاته يوم الثلاثاء سابع ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ودفن بمقبرة الجبيل، شمالي القلعة- رحمه الله وكانت ولادته بالموصل في سنة سبع وسبعين وخمسمائة.

وكتب إليه الضياء بن المغربي، وكان مريضًا يعاتبه: ] من السريع [

لو غاب من أصحابنا واحد

من ملّة العلم افتقدناه

كذا عهدنا النّاس من قبلنا

والناس أمثال وأشباه

فقد تألّمنا ولم تسألوا

عن حالنا حسبكم الله

فأجاب أبو عبد الله بن الخباز: ] من السريع [

يا من إذا غاب محياه

غاب سروري يشهد الله

خادمك الدّاعي لم ينقطع

عنك لإهمال وحاشاه

وقاك ربّي ووقانا الّذي

نحذره فيك ونخشاه

أنشدني أبو عبد الله محمد بن عبد القاهر بن هبة الله النصيبي بحلب، أنشدني أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن علي بن شابي الموصلي لنفسه، بطرق مصر، في منزلة يقال لها الجديدة، في صحبة بهاء الدين أبي المحاسن بن شداد، فاختار بهاء الدين علي الجماعة أن يعمل كل منهم في مرج المنزلة شيئًا، وقد نزلوها ضحى، فقال أبو عبد الله بن الخباز: ] من الكامل [

لله حسن مقيلنا في روضة

تحكي خلائق يوسف بن تميم

بسطت بساط زمرّد وطرازه

نهر من الكافور والتّسنيم

فكأنّنا في جنّة قد عجّلت

من فضله في نعمة ونعيم

ص: 211

[666]

محمَّد بن إبراهيم بن أبي عبد الله بن هنديٍّ، أبو عبد الله المازنيُّ البكريُّ.

كان جدُّه قاضيًا بحمص، وأصله من طرابلس، فلما تملّكها الفرنج- خذلهم الله تعالى- انتقلوا إلى حمص، فسكنوها وتولوا بها القضاء إلى الآن.

وأبو عبد الله/ 159 ب/ هو في خدمة الملك الناصر، ناصر الدين بن جنديّ، وهو من أهل الفضل والشعر.

أنشدني الأمير أبو حفص عمر بن أسعد الموصلي؛ قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه سنة تسع وعشرين وستمائة بالديار المصرية؛ قال: قلت في الملك الأشرف لما أبلَّ من مرضه، وكان بالرّقة:[من المتقارب]

سألت الفرات وقد أظهرت

بشاشة وجه وكان عبوسا

ابيني بقدرة مجريك لي

فقالت: تعافى أبو الفتح موسى

وحدثني الأمير أبو جعفر؛ قال: حدثني أبو عبد الله؛ قال: كنت قاعدًا في مجلس الأمير زين الدين يعقوب بن الحمصي بالقاهرة في دار مظفر، وقد قدمها رسولًا من الملك المجاهد أسد الدين شركوه بن محمد بن شركوه بن شاذي- صاحب حمص- إلى خدمة الملك محمد، فناولني قدحًا، فقبلت يده؛ وقلت:

/159 أ/ وكم من يد قبلتها

...

.... ............

ثم فطنت إلى ما قلت؛ فسكتُّ ولم أتمّ البيت، فسألني أن أتمّه لأنه كان يحفظه، وألح عليّ إلحاحًا شديدًا، فلم أجد بدًا أن قلت بديهًا:[من الطويل]

وكم من يد قبَّلتها دام بطشها

بأعدائها والدَّهر يسعدها معا

سعى قاصدًا يبغي نداها إجابةً

فنادى الندى يهنيك يا ساعيًا سعى

قال: فأعجب زين الدين يعقوب ارتجالي، وأعطاني خلعة نفسية، ودراهم ناصرية.

ص: 212

وأمّا البيت المشهور الذي همَّ بإنشاده، ثم سكت عنه، فقول الشاعر:

[من الطويل]

وكم من يد قبَّلتها عن ضرورة

وكان بودي قطعها لو أمكَّن

ولكن صروف الدَّهر تأتي سريعةً

أداري أموري بالَّتي هي أحسن

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه في الملك الأشرف موسى: [من الطويل]

نعمت صباحًا بالصبوح وبالسعد

هنيئًا مريئًا عشت في عيشةٍ رغد

ولا تتوانى في انتهازك فرصةً

فجارك في أمن ومجدك في جدِّ

/159 ب/ أعيذك من عين الكمال بهل أتى

وبالنحل والأعراف والنَّمل والرَّعد

ركبت على متن الفرات سفينةً

تسير ببحر الجود في طالع السَّعد

[667]

محمَّد بن الحسين، أبو عبد الله السلمانيُّ.

كان فاضلًا في علم الحساب والفرائض والجبر والمقابلة، وقرأ شيئًا من علم العربية، وله أشعار ركيكة الألفاظ جدًا.

أنشدني منها أبو الجود محمود بن مسعود بن إسماعيل السلماني؛ قال: انشدني محمد بن الحسين السلماسي لنفسه، ما كتبه إلى القاضي تاج الدين محمد السامانيّ:[من الوافر]

لسوق العشق راج لها رواج

توالى في فؤادي واختلاج

طلبت لنيلها فيها فجاجًا

حرمت منالها التبس الفجاج

طراوتها كتل الماء لطفًا

ولكن قبلها حجرٌ وساج

طمرة حسنها الميدان أغدت

نصيبي منه قد كان العجاج

ومنها:

أتاج الدِّين حصِّل منه تاجًا

وإلَّا فات لو لم تغن تاج

/160 أ/ لنا بك في الشَّريعة ابتهاج

وعن سنن الأباطيل انزعاج

ص: 213

متى ما قدّمانا إعتمامٌ

عرانا من روائك ابتهاج

عدمنا التَّاج لكن قد وجدنا

كأنَّ الدَّهر تختٌ أنت تاج

كأنَّ النَّاس لعلٌ في زجاج

فأنت اللَّعل والنَّاس الزُّجاج

ومرضى درهنا إحتاجوا علاجًا

بهمَّتك انتشى لهم العلاج

رعاك الله شمعًا لا سراجًا

فعند الشَّمع ينطمس السِّراج

[668]

محمَّد بن سعد بن عبد الله بن سعدٍ [بن أحمد] السعديُّ الأنصاريُّ، أبو عبد الله.

من أهل دمشق؛ شاهدته بها في شهر ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة، وسألته عن ولادته؛ فقال: يكون تقريبًا في سنة سبع وسبعين وخمسمائة بدمشق.

وهو رجل يخضب بالسواد، يخدم كاتب إنشاء في ديوان الملك الصالح أبي الفداء إسماعيل بن أبي بكر- صاحب دمشق-.

وأنشدني قطعة من أشعاره، وهو من الفضلاء الأخيار في عصرنا، ولم يزل من صغره، مقبلًا على الاشتغال بالعلم والأدب؛ تفقه على مذهب/ 160 ب/ الإمام

ص: 214

أحمد بن حنبل- رضي الله عنه على الموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد المقدسي؛ واتصل بالملك الصالح أبي الفداء إسماعيل بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب، وكتب له الإنشاء.

وهو كاتب حسن، شاعر جيد المنظوم، طاهر اللسان، نظم شعرًا كثيرًا، وكان في بدو أمره معلم صبيان، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة طويلة.

أنشدني محمد بن سعد لنفسه من قصيدة: [من الطويل]

أجارتنا إنِّي عليك غيور

وإنِّي على نيل الوصال قدير

ولكنَّني أرعى ذمامًا وحرمةً

واصبر كرهًا والمحبُّ صبور

وأنشدني أيضًا بظاهر مدينة دمشق، بالسهم الأعلى على شاطئ نهر في يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة لنفسه يمدح النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر مناقبه ومعجزاته عليه الصلاة والسلام:[من الطويل]

تذكَّر مشتاقٌ وأنَّى له الذِّكرى

ولم يستطع للجد صرفًا ولا أمرا

/ 161 أ/ أخو لوعةٍ ما فارق الشَّوق قلبه

ولا واصل السُّلوان يومًا ولا الصَّبرا

كبيت غدا للهمِّ والحزن آلفًا

وما أنكر الأحزان من عرف الدَّهرا

إذا نهنه الطَّرف القريح عن البكا

جرى مستهلًا لا بكيًا ولا نزرا

وإن رام كتمان الصَّبابة عبَّرت

عن الوجد والأشواق أجفانه العبرى

كأنَّ عليه الدَّمع ضربة لازب

إذا شام برقًا أو رأى منزلًا قفرا

تخال به ممَّا جنى الوجد جنَّةً

وتحسب من مبدا الغرام به سكرا

يروم بلوغ الوصل من أهل رامة

ولم ينو أهل النيربين له هجرا

ويهوى مقرًا بالعقيق وداره

على طيِّها بالسَّهم بالقرب من مقرا

محلٌّ إذا أقسمت أن ليس مثله

على الأرض حسنًا كنت في القسم البرَّا

إذا ذكرت جنات عدن وطيبها

وكن به حلًا حسبت له الذِّكرى

تنافس فيه الحسن مرأى ومنظرًا

ولم تبلغ الأخبار عن طيبه الخبرا

لسكَّانه ما في الجنان سوى البقا

فطوبى لمن أفنى مطيعًا به العمرا

منى الدِّين والدُّنيأ ميسَّرةٌ به

فباليسر يحظى معتفيهم وباليسرى

ص: 215

تعجَّلُّ في الدُّنيا بسكناه جنَّةً

وينقل في الأخرى إلى الجنَّة الأخرى

تتمنَّى النَّوى عن ذاك لا عن ملالةٍ

ولكن نوى ما يوجب الأجر والفخرا

/ 161 ب/ زيارة قبرٍ كلُّ قلب وناظرٍ

يودُّ اشتياقًا أن يكون له قبرا

به عصمةٌ للعالمين ورحمةٌ

تعمُّهم من ساء منهم ومن سرَّا

به المصطفى خير الأنام محمَّدٌ

وأكبرهم فخرًا وأشرفهم قدرا

أسيِّد أهل الأرض طرّاً وصادقًا

أقول وخير الخلق كلِّهم طرّا

هدانا بك الرَّحمن بعد ضلالةٍ

وكفرٍ على الدِّين القويم أبى كفرا

وقد طبَّق الأرض الضَّلال فلم يدع

من الجهل من أقطارها خاليًا قطرا

وقد هجر التَّوحيد واغتيل أهله

وأصبح قول الحقِّ عند الورى هجرا

ومال عمود الدِّين إذ ثلَّ عرشه

وصال عدوُّ الله في الأرض واستضرى

وبثَّ بها أشراك شرك وباطلٍ

وجبت وطاغوت تصيد النُّهى قهرا

وذلَّل للغرِّ الأغر سفاهةً

وما هجر الأدنى يعوق ولا نسرا

فقمت بأمر الله بالحق صادعًا

ولمَّا تهب فيه الوعيد ولا الزَّجرا

وعاديت أهل الأرض طوعًا لأمره

وأنت الوحيد الفرد مستبطنًا فقرًا

ولمَّا طما بحرٌ من الغيِّ زاخرٌ

ومدَّ له مدًا أتيت له جزرا

وحين جا ليل الضَّلالة حالكًا

طلعت به بدرًا وكنت له الفجرا

وجاهدت في الرَّحمن حقَّ جهاده

إلى أن أتاك الفتح يتَّبع النَّصرا

لك المعجزات البينات التي غدت

محققةً كالشَّمس طالعةً ظهرا

/ 162 أ/ فمنها كلام الله جاءك منزلًا

به جبرئيلٌ ضلَّ من ظنَّه سحرا

ومن قال مخلوقٌ ومن قال مفترىً

ومن قال لم يكتب برقٍّ ولم يقرا

ولو كان ما قالوه ما كان منزلًا

ولا جاء عنه النهي أن يصحب السَّفرا

ولمَّا يقَّل هذا إليه إشارةً

ولا منعوا من مسه عادمًا طهرا

ولمَّا تحدَّاهم بإتيان مثله

واسمع من في أذنه جعل الوقرا

ص: 216

{إذا قرئ القرآن فاستمعوا له}

غدت من أمانيهم الفهم صفرا

لك المرتقى الأعلى الذي عنه هيبةً

تأخر جبريلٌ وحسبك ذا فخرا

دليلًا من البيت الحرام بمكَّة

إلى المسجد الأقصى بك الله قد أسرى

ركبت على ظهر البراق محلِّقًا

إلى سدرة للمنتهى فاقت السِّدرا

رأيت كما أخبرت رَّبك ما له

شبيهٌ ومن آياته الآية الكبرى

وحيَّاك منه بالسَّلام ولم ينل

سواك نبيٌّ هذه اللَّيلة الغرَّا

ومن ثمَّ تخفيف الصَّلاة على الورى

وخمسين كانت تلزم العبد والحرَّا

فمازلت في تخفيفها متردِّدًا

إليه فأبقى الفرض من ذلك العشرا

وذلك عن رأي الكليم وإنَّها

لساقطةٌ فعلًا ومحسوبةٌ أجرا

وأنت شفيع الخلق في يوم عرضهم

وقد ألبسوا رعبًا وقد أبلسوا ذعرا

/ 162 ب/ أنلتهم أمنًا وقلت: أنا لها

وكل فتىً منهم طلبت [له] العذرا

فتعطى لواء الحمد آدم تحته

ومن دونه يرجون من فضلك البرَّا

وتدنو أمام العرش لله ساجدًا

لتشرح للراجي شفاعتك الصَّدرا

فيوليك فخرًا يجمع السُّؤل والرِّضا

ويؤتيك حمدًا يجمع الحمد والشُّكرا

يقول لك ارفع رأسك اليوم راضيًا

فأنت لها أهلٌ وأنت بها أحرى

لك الكوثر المورود والحوض من يرد

زلالهما لم يعرف الخمس والعشرا

وقل يستمع واشفع تشفَّع وسل تنل

فيومك هذا مشبه ليلة الإسرا

وشقَّ لك البدر المنير كرامةً

وقد قال قوم لن يشقَّ لك البدرا

وأيوان كسرى انشق ليلة بشَّرت

بك الأرض مولودًا فأعظم به بشرى

وفيها خبت نار المجوس ولم تكن

خبت ألف عام قبل سرّا ولا جهرا

وأيضًا بها غارت بحيرة ساوة

وقد كان رائيها يساوي بها البحرا

وفي ملك رؤيا المؤبذان وقد غدا

سطيحٌ بتعبير لها عالمًا حبرا

ولمَّا لمست الأرض ألقيت ساجدًا

وبانت قصورٌ عمَّها النٌّور من بصرى

ص: 217

ويوم بحيرا إذ أتاك مسلِّمًا

ومستخبرًا عمَّا أحاط به خبرا

رأى منك آيات النُّبوة قد أتت

بها رسل الآفاق يتلونها تترى

/163 أ/ فأثبتها في الحال مرأى ومسمعًا

وطاب بها نفسًا وعينًا بها قرَّا

فأشرب إيمانًا وما زاغ قلبه

وآمن إيقانًا ولم يسترد فكرا

رآك وظلٌّ للغمامة سابغٌ

عليك وباقي الركب عن ظلِّها حسرى

وقد خرَّت الأشجار في البرِّ سجَّدًا

لرؤياك لمَّا شرَّفت ذلك البرَّا

وعاين أيضًا للنبوَّة خاتمًا

به ختمت فازداد في أمره إمرا

وردَّ أناسًا قد أتوك لغيلة

وأوسعهم نصحًا وحذَّرهم غدرا

وتوبة نسطور ببصرى وقد اتى

يؤمَّهم فيما يباع وما يشرى

رأى منك ما قد سطروه بكتبهم

من الحق والآيات ما أعوزت سطرا

فأقسم بالله العظيم تيقَّنًا

لأنت الَّذي جاءت بمبعثه البشرى

وأنت رسول الله تبعث رحمةً

إلى أمَّه تدعى محجَّلة غرَّا

ونعتك بالأمِّي في الكتب عندنا

وأنَّك عنَّا بالهدى تضع الإصرا

وتأمرنا بالعرف والعدل والتُّقى

وتأبى لنا الفحشاء والبغي والنُّكرا

لنا طيِّبات الأكل شرعًا تحلُّها

كما هو في التَّوراة من قلبه يقرا

كذلك في الإنجيل يتلوه دائبًا

كما هو في التَّوراة من قبله يقرا

وصحبك لمَّا أعوز الماء واختشوا

بأنَّهم لم يدركوا الوقت والعصرا

/ 163 ب/ جعلت لهم من كفِّك البحر منهلًا

فصلَّوا وكلُّ القوم قد أسغ الطهرا

وألفًا وبضع الألف ريًا سقتهم

بنانك من نور جعلن به غمرا

وكم ماء عين قد مزجت محبَّةً

وكانت بكيئًا ثمَّ عادت بها نهرا

ولمَّا استقلَّ الحارث الماء حقَّقت

له يدك البيضا بها آيه الكثرا

وروَّيت من ماء المزادة أنفسًا

عطاشًا وأكبادًا نقعت به حرَّى

ولم ينفذوا من مائها ورد قطرة

وقد أوسقوا منه الكواهل والظهرا

ومن تمرات كلت للجيش زاده

وأبدلته من بعد إعساره اليسرا

وأشبعت من أقراص خبز لحائرٍ

ومن سخلة ألفًا وما نقصوا القدرا

وأوفيت عنه ثقل دين بصبرةٍ

من التَّمر فازدادت بتنقيصها وفرا

ص: 218

وسبعين من أقراص خبزٍ أتى بها

أبو طلحة أشبعتهم مرَّةً أخرى

منحت أباهر من التمر مزودًا

فما زال ممتارًا مميرًا به دهرا

وجهَّزت جيش الشَّام منه فقد غدوا

وما منهم إلَّا ومنه احتوى وفرا

وخمسين وسقًا منه قد جاد منعمًا

بها في سبيل الله نغتنم الأجرا

ثلاثة أعواد منحت ثلاثةً

فعادت سيوفًا في أكفِّهم تترى

فمنهنَّ في بدر قضيب ابن أسلم

وعودٌ به أيضًا عكاشة منه قد سرَّا

/ 164 أ/ وفي أحد أيضًا ابن جحش عبيسةً

غدا مرهفًا من حدِّة يحلق الشَّعرا

وعين ابن نعمان وعين رفاعة

رددتهما من بعد أن بانتا ندرا

وكم هاتف أضحى بفضلك صادحًا

تؤلِّفه نثرًا وتنظمه شعرا

وأقبلت الأشجار لمَّا دعوتها

يشقُّ لها السُّوق السُّهولة والوعرا

ولمَّا دعوت العذق من رأس نخلة

أتاك فقلت ارجع فما خالف الأمرا

وحنَّ إليك الجذع شوقًا وسلَّمتً

عليك جهازًا ظبيةٌ لم ترم نفرا

كما الحجر القاسي ابتداك مسلِّمًا

عليك ومشتاقًا كأنَّ به حجر

بكفِّك بحر الجود قد سبَّح الحصا

وقبَّل رجليك البعير لها شكرا

وخلَّصت يوم الغار طرف ابن مالك

فغرَّ لذاك المشركين وما أغرى

وخافت عليك العنكبوت من العدًا

فأرخت بباب الغار مكرًا بهم سترا

ووافقها في الذَّب عنك حمائمٌ

أتين سريعًا فابتنين به وكرا

فما أتى الكفَّار طور خديعة

فحيَّا الحيا تلك الخديعة والمكرا

ويوم حنين إذ أتوك بجمعهم

يجرُّون من أبطالهم عسكرًا مجرا

وراموا بلوغ الثأر منك رميتهم

بكفِّ تراب فانثنى جرهم كرَّا

وعجفاء لا نقيٌ بها قد مسحتها

فدرَّت ولم يعرف لها ربُّها درَّا

/ 164 ب/ لك الضَّبُّ أمسى بالرِّسالة شاهدًا

كما الذِّئب أضحى باليمين به برَّا

كما شهد الكفَّار حقًا وشاهدوا

ملائكةً للنصر إذ حضروا بدرا

ولمَّا أتى للبرد والحرِّ شاكيًا

إليك عليٌّ وقِّي البرد والحرَّا

ص: 219

وما كتمت عنك الذِّراع الَّذي بها

من السُّم إذ خافت عليك له الضُّرَّا

وبالرُّعب أيضًا قد نصرت على العدا

مسيرة أيَّامٍ يعدُّونها شهرا

وأعطيت أصحابًا كرامًا أعزاةً

والاتخال النُّطق في ذكرهم عطرا

فمنهم رفيق الغار والصِّدق والوفا

أبو بكر الثَّاني أشدُّهم أزرا

وصاحبك الفاروق ذو العدل والتُّقى

وعثمان ذو النُّورين أكرم به صهرا

وقاتل أبطال الوغى عالم الورى

أخوك عليٌّ زوج بضعتك الزَّهرا

وريحانتاك أبناه سبطاك سيِّدا

شباب جنان الخلد أهواهما ذخرا

وحمزة والعبَّاس جدُّ إمامنا

أبي جعفر المنصور لا عدم النَّصرا

أولئك خير الصَّحب حقًا وكلَّهم

أولو الخير والمعروف لم يعرفوا نكرا

هم الصَّادقون القانتون أولو النُّهى

أولوا الصَّبر في البأساء والبأس والضَّرَّا

هم الصَّائمون الحافظون فروجهم

هم الذَّاكرون الله لم يفتروا ذكرا

هم الأنجم الزُّهر الَّتي يهتدى بها

إلى أيُّهم يمَّمت أرشدك المسرى

/ 165 أ/ غدا قولهم حقًا وفعلهم هدىً

وحبُّهم قربى وبغضهم كفرا

فضائل لو أنَّ الورى كلِّفوا لها

بيانًا وحصرًا ما أطاقوا لها حصرا

إذا نثرت خلت الَّلآلي وإن غدت

منظَّمةً يومًا تحقَّقتها درَّا

فما قدر قدري أن أرى ناظمًا لها

وقد جاءت الآيات في وصفها نثرا

ولا قدر شعري أن يكون سحابها

ولو كان من ألفاظه الشَّمس والشِّعرى

ولكنَّني شرَّفته بمديحهم

وأبقيت لي في الصَّالحات به الذِّكرا

عليك صلاة الله ثمَّ عليهم

سلامٌ يعير المسك من طيبه النَّشرا

سلامٌ كنشر الرَّوض حمَّله الصَّبا

لتبلغ عنه شكره السحب والقطرا

سلامٌ كلطف الله جاء لخائف

فقير بأمر يعدم الخوف والفقرا

فيا خير مأمولٍ ويا خير شافعٍ

ويا ملجأ العاصي المقرِّ الَّذي غرَّا

سل الله يعطيني إليك زيارةً

أشدُّ بها أزرًا وأرمي بها وزرا

وكن شافعي فيها قريبًا فإنَّني

بحبِّك أرجو أن أفوز بها حشرا

لأنَّك قلت المرء مع من أحبَّه

وإنِّي امرؤٌ صبٌّ بحبِّكم مغرى

إلهي أحاطت بي الذُّنوب وليس لي

من البِّرِّ مأ أرجو به العفو والغفرا

ص: 220

سوى حسن ظنِّي فيك ثمَّ شهادتي

بأنَّك وترٌ فاز من عبد الوترا

/ 165 ب/ وأنِّي محبٌّ للنبيِّ وآله

وأصحابه فاجعله يا ربِّ لي ذخرا

وقال أيضًا، يتشوق وطنه وإخوانه بجبل قاسيون:[من الطويل]

إذا ما بدت من قاسيون قبابه

وبانت لعينيك الغداة لصابه

ولاحت قصور السهم بيضًا كأنَّها

قلوعٌ ببحر قد تعبَّى عبابه

رأيت جنان الخلد لولا نفادها

ونلت لذيذ العيش لولا ذهابه

وأيقنت أنَّ الدَّهر همَّ بغيرها

وفيها على ما كان منه شبابه

خليليَّ ما في العين فضلٌ لمنظرٍ

إذا لاح سرب السهم لي أو سرا به

ولا في قوى سمعي استماع ملامه

إذا ناح لي قمريٌّه أو غرابه

فواعجبًا حتَّى م يعتب عاذلٌ

وما شبَّ نار الوجد إلَاّ عتابه

يكلِّفني ما لا أطيق استماعه

ويطلب منِّي ما يعزُّ طلابه

ولا نار إلَّا ما ضلوا علي زنادها

ولا ماء إلَاّ ماء جفني سحابه

يصبِّرني عن قاسيون وأهله

لقد جلَّ عندي لو فعلت مصابه

وبالسَّفح منه منزلٌ لو يحلُّه

تحقَّق أن المسك طيبًا ترابه

وإخوان صدق لو يحاور بعضهم

لما شكَّ أنَّ السِّحر حلَّى خطابه

/ 166 أ/ سقى الله أيامًا ما تقضَّت لنا به

هي العيش لا بل صفوه ولبابه

ليالي لا أخشى الوشاة ولا أرى

من الناس إلا من يسر اقترابه

وبرد الصِّبا ضاف عليَّ لباسه

وورد الهوى صاف لديَّ شرابه

وشيطان حبِّي ماردٌ في مراده

نصيب عذولي نصبه وعذابه

وإذا أنا معط للعفاف نصيبه

كمالًا ولم يكمل لعمري نصابه

فللَّه ما أبقى النَّوى من متيَّم

تنافس فيه وجده واغترابه

يكاد جوى يقضي من العذل نحبه

ويخفى عن العدَّال لولا انتخابه

يفيض اشتياقًا نحو ثورا اصطباره

ويزداد من ذكرى يزيد اكتئابه

إذا شام برق الشَّام أسبل جفنه

بدمعٍ كفيلٍ بالسُّيول انسكابه

ص: 221

ويذكره بالنيربين منازلًا

إليها إضافات الهوى وانتسابه

منازل سعد من رآها وعنده

من الخلد شكٌ زال عنه ارتيابه

وأيقن أن القرب منها تقربٌ

إلى ربِّه والبعد عنها عقابه

وأقسمت لو أعطيت من دهري المنى

ووافق رأي رشده وصوابه

تمنَّيت أنَّ السَّهم سهمي من الرُّبى

وأنَّ ثوائي فيه عمري ثوابه

وقال أيضًا: [من الطويل]

/ 166 ب/ وحرمه ما بيني وبينك في الهوى

أليَّة صبٍّ في المحبَّة صادق

لقد بلغت مِّني المحبَّة غايةً

تخلَّف عنِّي دونها كلُّ سابق

فلو أنَّ أهل الأرض طرًا عواذلي

وما تحتوي الدَّانيات علائقي

لقطَّعتها طوع الهوى وعصيتهم

ولم أتعلَّل فعل كلِّ مماذق

فمن يتهمني بالسُّلو فإنَّما

يجيل محالًا في صدور الحقائق

هل الوجد إلَاّ ن يهيج صبابتي

تذَّكر طيف من جنابك طارق

وإن أراد الماء الزُّلال مهيَّمًا

فيمنعني من شربه لمع بارق

وإنَّ محبًا صدَّت النَّار وجهه

أو البحر عن أحبابه غير عاشق

[669]

محمَّد بن إبراهيم بن الخضر، أبو النصر بن البرهان المنجم

أصله من طبريَّة؛ وولد بحلب وله شعر حسن.

حدثني القاضي الإمام أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحنفي- أيده الله تعالى- قال: اجتمعت بأبي نصر الحلبي بحرّان، فأنشدني لنفسه:[من الكامل]

من لي بأهيف قال حين عتبته

في قطع كلِّ قضيب بان رائقٍ

/ 167 أ/ يحكي معاطفه الرِّشاق إذا انثنى

ريَّان بين جداولٍ وحدائق

ص: 222

سرقت غصون البان لين معاطفي

فقطعتها والقطع حدُّ السَّارق

وأنشدني؛ قال: أنشدني أبو نصر لنفسه: [من الكامل]

ومهفهفٍ ريحان نبت عذاره

في ورد خدَّيه الجنيِّ الأحمر

أصلى بنار الخدِّ عنبر خاله

فبدا العذار دخان ذاك العنبر

وأنشدني؛ قال: أنشدني محمد بن إبراهيم قوله: [من السريع]

يا حلبًا حيِّت من مصر

وجاد مغناك حيا القطر

أصبحت في جلِّق حيران من

وجدي إلى مربعك النَّضر

والعين من شوقٍ إلى العين والـ

ـفيض غدت نابعةً تجري

ما بردى عندي ولا دجلةٌ

ولا مجاري النِّيل في مصر

أحسن مرأى من قويق إذا

أقبل في المدِّ وفي الجزر

يا لهفتا منه على جرحه

تبلُّ منِّي غلَّة الصَّدر

كم قبل من يومٍ ومن ليلةٍ

مرَّ لنا من غرر الدَّهر

ما بين رطياس وحيلان والـ

ـميدان والجوسق والجسر

وروض ذاك الجوهريِّ الَّذي

أرواحه أذكى من العطر

/ 167 ب/ وزهره الأحمر [في الحسن]

كالياقوت والأصفر كالتبر

والنَّور في أجياد أغصانه

منتظمٌ أبهى من الدُّرِّ

منأزل الآراك خلف الحيا

على رباها دائم الدَّرِّ

تالله لازلت لها ذاكرًا

ما عشت في سرِّي وفي جهري

وكيف ينساها فتىً صيغ من

طينتها الطَّيِّبة النَّشر

فكلُّ يومٍ مرَّ في غيرها

فغير محسوب من العمر

إن حن لي قلبٌ إليها فلا

غرو حنين الطَّير للوكر

يا ليت شعري هل أراها وهل

يسمح بالقرب لها دهري

وقال في غلامه اسمه هلال: [من السريع]

ص: 223

هذا هلالٌ كهلال الدُّجى

من شعره قد لاح في غيهب

إنعطف الصدغ على خدِّه

فانظر إلى المرِّيخ في العقرب

وقوله: [من الكامل]

ومهفهفٍ خيلانه

كفتيت ندٍّ في لهيب

وكأنَّ نمل عذاره

يسعى بحبَّات القلوب

وقوله: [من الكامل]

/ 168 أ/ ومهفهفٍ هزَّ الصِّبا أعطافه

هزَّ الصَّبا الغصن الرَّطيب بزهره

ساق [أدارت] جلنار كأسه

في سوسنٍ غضٍ أقاحة ثغره

وقوله: [من مجزوء الرجز]

أفدي كحيل النَّاظر

مثل القضيب النَّاضر

مرسل صدغٍ جاء في

فترة طرف ساحر

إذا سرى يتبعه

إنسان كلٍّ ناظر

وقوله في صبيّ نحوي: [من مجزوء الرجز]

يا حسن نحويِّ بدا

واللَّيل مرخي السِّتر

فلاح من غرَّته

لألاء نور البدر

قد زارني لم يخش من

زيد ولا من عمرو

فبات تحت الهمز

مفعولًا به في صدري

ولم يزل يرفعني

بالفعل فوق الظهر

آخر يفتح من

دخول حرف الجرِّ

لأنَّه لم ينصرف

حتى طلوع الفجر

وقوله: [من الخفيف]

/ 168 ب/ لا تلمني على هوى العذري

فعذار الحبيب قام بعذري

نمل مسك العذار دبَّ على الوردات تنهد أقحوان الثَّغر

ص: 224

وقال أيضًا: [من السريع]

أفدي الَّذي يفعل بي في الهوى

وهو حبيبي فعل أعدائي

قد جمع الأضداد في طلعة

تزهى بإشراقٍ ولألاء

من وجهه والشَّعر [والعين] والخدِّ

أرانا فتنة الرَّائي

شمس الضحى واللَّيل والبراء والسُّقم ونار الحسن في الماء

وقال أيضًا: [من البسيط]

بمهجتي فارسٌ في لامه ألفٌ

في عينه يقتل الرَّائي بإيماء

إنَّ هزَّ قامته واستلَّ مقلته

فالموت ما بين هيفاءٍ ونجلاء

كأنَّه قمرٌ من حسن صورته

يعشي العيون بإشراقٍ ولألاء

أما ترى صدغه قافًا ومبسمه

ميمًا وشاربه تعريقة الرَّاء

في التُّراب خدِّي وفي قلبي الهوى وعلى

خدَّيه تضرم نار الحسن في الماء

وقوله: [من الطويل]

أدار بهار الرَّاح في السَّوسن الرَّطب

وحيَّا فأحيا الرُّوح ريحانه الشَّرب

/ 169 أ/ بنرجس عينيه واس عذاره

وصدغيه كم يصبي القلوب وكم يصبى

يطوف بكأسٍ لونها لو خدِّه

وأفعالها أفعال عينيه في اللُّبِّ

ألم يكفه سلب العقول بلحظه

إلى أن أعانت لحظه الكأس في السَّلب

من التُّرك سهل الخدِّ صعبٌ مرامه

وهل آفتي إلَّا من السَّهل والصَّحب

بدا مرسل الأصداغ للناس فتنةً

بفترة طرف عن نبوَّته تنبي

ظلت به في الحبِّ بعد هدايةٍ

ولا غروكم قد ظلَّ قلبي في الحبِّ

طلى منبت الياقوت صفحة خدِّه

ومورد فيه معدن اللُّؤلؤ الرِّطب

غنِّي جمال لا يواسي بوصله

فقيرٌ إلى تقبيل مبسمه العذب

لئن كان أفنى كنز صبري بصدِّه

فيا ليت أبقى لي ولو حبَّة القلب

تقلِّبه أيدي الصَّبابة والأسى

إذا صدَّ من يهواه جنبًا إلى جنب

ص: 225

هوىً أضرب النِّيران بين ضلوعه

وعاود فيض الدَّمع سلبًا على سلب

وأنشدني أبو عبد الله محمد بن عبد القاهر بن هبة الله النصيبي بحلب؛ قال: أنشدني أبو نصر محمد بن إبراهيم/ 169 ب/ بن الخضر الحلبي لنفسه من أبيان:

[من الكامل]

سيقًا لوادي النِّيربين بجلِّقٍ

لله ما أبهى رباه وأحسنا!

فاضت مياه عيونه وتسللت

في ظلِّ بانات تروق الأعينا

وكأنَّما نزلت ثراه كتيبةٌ

ألقت سوابغها وركَّزت القنا

وأنشدني أيضًا؛ قال: أنشدني لنفسه: [من مجزوء الكامل]

ومهفهفٍ ماء الحيا

ة رضابه العذب الخصر

أو ما ترى ظلمات صد

غيه وشاربه الخضر

وقال أيضًا يتغزل: [من الوافر]

وأهيف مثل غصن البان قدًا

يجول على معاطفه الوشاح

على خدَّيه فوق الورد آسٌ

وحول الورد في فيه الأقاح

حبيبٌ راح يبسم عن حباب

له من ريقه المعسول راح

أتاني زائرًا والليل داجٍ

فأشرق من محيَّاه الصَّباح

فرضت جماحه بكميت راحٍ

إلى أن فارق المهر الجماح

فبتُّ ولي بلثمي عارضيه

ورشفي راح ريقته ارتياح

ولي من ليل طرَّته اغتباقٌ

ولي من صبح طرَّته اصطباح

/ 170 أ/ وقال: [من الطويل]

فيا شادنًا قد أنبت الورد خدُّه

ومن حبب الصَّهباء يدعى الأقاحيا

إذا غربت شمس المدام بثغره

ترى شفقًا منها بخدَّيه باديا

فكم ليلة من كأسه ورضابه

مزجت سلاف الرَّاح بالرَّاح صافيا

وانفذ حكمي في مراشف ثغره

كأنِّي لذاك الثَّغر أمسيت واليا

ص: 226

إذا ما جلت يمناي كأس مدامةٍ

عليه تلوَّى صدغه في شمالينا

تجاسرت لمَّا ذقت درياق ريقه

على خشن الشَّعر المبلل حاويا

وأنشدني أبو عبد الله محمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن النصيبي بحلب؛ أنشدني أبو نصر محمد بن إبراهيم لنفسه: [من البسيط]

بشرى لجلِّق بل بشرى لأهليها

ففي نعيمٍ مقيمٍ من ثوى فيها

جنَّات عدن بها قد أزلفت ودنت

قطوفها من مجانيها تجانيها

ترى بها السَّبعة الأنهار جاريةً

جرى الشَّعانين في بطحاء واديها

فللخدود حياءٌ من شقائقها

وللثغور ابتسامٌ عن أقاحيها

إذا تثنَّت بها البانات مائسةً

حكت قدود الغواني في تثنِّيها

/170 ب/ يصفِّق الماء والأغصان راقصةٌ

على غناء القماري في أعاليها

حيث التفتَّ فأنهار مسلسلةٌ

تنساب في ظلِّ أشجار تواريها

وكم بدور على الأغصان طالعة

هزَّ الصِّبا لا الصَّبا أعطافها تيها

أرضٌ بها الحور والولدان حائرةٌ

فيهنَّ أفكارنا وصفًا وتشبيها

من كلِّ أحور كاد البدر يشبهه

وكلِّ حوراء كاد الظَّبي يحكيها

تبدي ثعابين أصداغٍ مبلبلةٍ

على سوالفها طوبى لحاويها

فما ترى غير ملدوغ الحشا دنف

شفاؤه رشفه الدِّرياق من فيها

واحسرتاه على ما فات من عمري

إذ لم أقضِّ زماني كلَّه فيها

وقال أيضًا: [من البسيط]

امزج كؤوسك بالسَّلسال من فيكا

وعاطني الرَّاح تسقيني وأسقيكا

قم فاجل يا قمري شمس المدام فيا

طوبى لمن بات يجلوها ويجلوكا

يا شادنًا صار ستري في محبَّته

بين البريَّة بعد الصَّون مهتوكا

ما قلت: إنَّك تحكي الظَّبي ملتفتًا

بالجيد واللَّحظ لكن قلت: يحكيكا

أغار بدر الدُّجى حسنًا سناك كما

أغار غصن النَّقا لينًا تثنيَّكا

قد فاز من بات يا ريحان عارضه

باللَّثم بين كؤوس الرَّاح يجنيكا

ص: 227

/ 171 أ/ لم أخش من حنش الشَّعر المبلبل لمَّا

بتُّ حاويه في صدري وحاويكا

وكيف يخشى من الثُّعبان يلدغه

من بات يرتشف الدِّرياق من فيكا

كن كيف شئت فإنِّي لا أحبُّ ولا

أهوى سواك وعمري لست أسلوكا

وقال في الأوّل من الطويل، والقافية من المواتر:[من الطويل]

وأحور أحوى فاتن الطَّرف والطِّرف

حييِّ المحيَّا ليِّن العطف والعطف

تجلَّى فخلت البدر أشرق في الدُّجى

وماس فقلت الغصن مال على الحقف

هو البدر لولا قربه من محبِّه

هو الغصن لولا نفره الشَّادن الخشف

يحلُّ إذا ما حلَّ عقرب صدغه

منازله في القلب منِّي وفي الطَّرف

ترى أبدا الأبصار في صبح وجهه

تسر وتسري في دجى شعره الوحف

أتى زائرًا فينصف شعبان خفيةً

وهيهات يخفى البدر في ليلة النِّصف

فقابلت منه الخدًّ والقدَّ واللُّما

إلى الفجر بالتَّقبيل والضَّمِّ والرَّشف

لئن كان ولَاّني الدُّجى رشف ثغره

فقد قدم الإصباح لا كان بالصَّرف

وقال في الثاني من الطويل، والقافية من المتدارك:[من الطويل]

/ 171 ب/ وريم أعار الغصن لين قوامه

كما قد أعار الظَّبي حسن أحوراره

سقاني طلًا فيه على ورد خدِّه

ونرجس عينيه وآس عذاره

وقال في الثالث من الطويل أيضًا، والقافية من المتدارك:[من الطويل]

أرقت بعضب اللَّحظ من طرفك الدِّما

ورقت بعذب اللَّحظ من طرفك الدُّمى

أيا قمر الأرض الَّذي نور وجهه

على القمر التَّمِّ السَّماويِّ قد سما

ويا حادي الحسن الَّذي من عذاره

وخدَّيه أبدى جنَّةً وجهنَّما

لويت لنا تيهًا من الصُّدغ عقربًا

وأرسلت من شعر الذُّؤابة أرقما

سلمت أما ترقى السليم ليسلما

فبي ألم يشفى إذا وجدت باللُّما

وبي مرضٌ أعيا فليس طبيبه

سواك ولو كان ....................

ص: 228

وقال في الثاني من الطويل، والقافية من المواتر:[من الطويل]

أنا المرء لا يخفى عليَّ صواب

ولا خانني عند السُّؤال جواب

ولا زانني في محفل غير مقولي

إذا زان غيري ثروةٌ وثياب

/ 172 أ/ فما أنا إلَّا السَّيف راق فرنده

وراغ غيري حليةٌ وقراب

وإنِّي كماء المزن غير مكنَّد

وما في للثَّاني الحسود معاب

ولي بيت مجد بالصوارم عامرٌ

ولي بيت مال بالنَّوال خراب

وكم خضت بحرًا من دجى اللَّيل طافيًا

عليه من الزُّهر النُّجوم حباب

ومالي إلَّا السَّيف والرُّمح صاحبٌ

إذا خانني عند الخطوب صحاب

وكم من عظيم قد وقفت ببابه

ومن دونه للُّؤم منه حجاب

فما جادني من راحتيه سحابةٌ

ولا أخضر لي في ساحتيه جناب

فللدهر عندي لو أفاق شكايةٌ

وللحظ عندي لو أصاخ عتاب

وقال في الثاني من السريع، والقافية من المتدارك:[من السريع]

يا معشر العشَّاق ما فيكم

من نال ما قد نلت من دهره

عانقت من أهوى وقبلته

في خدِّه ألفًا وفي ثغره

قد فاز بالدُّنيا ولذَّاتها

من بات من يهواه في صدره

وقال في المجتث، والقافية من المتواتر:[من المجتث]

/ 172 ب/ مولاي رفقًا بصبٍّ

في الحبِّ لاقى صغارا

قد كان يهوى العذارى

فصار يهوى العذارا

وقال أيضًا في الأول من الهزج من الكامل، والقافية من المتدارك من المتواتر:

[من الهزج]

أما والمبسم العذب

كعقد اللُّؤلؤ الرَّطب

ولحظ فاترٍ يسبي

ولفظ فاتنٍ يصبي

أميرًا مطلق الدَّمع

كبيرًا طائر القلب

وقال في الثاني من الرجز، والقافية من المتواتر في مغنٍّ حسن الصورة:

[من الرجز]

ص: 229

يا شاديًا بلفظه غنَّاني

وشادنًا بلحظه عنَّاني

هل أنت قمريٌ شدا أم قمرٌ

بدا على قضيب [غصن] البان

وقال في الخامس من الرمل، والقافية من المتواتر:[من الرمل]

يا نديميَّ اسقياني

من لما ساقي الشَّراب

فاتكٌ وهو ظبيّ

فتك آساد الشَّرى بي

/ 173 أ/ إنَّ قلبي في العذاب

من ثناياه العذاب

كم غدا يمزج كاسي

في الرِّضا بي بالرُّضاب

وقال في الأول من البسيط، والقافية من المتراكب:[من البسيط]

وأمردٍ كان لي في وصله أربٌ

فصار لمَّا التحى في هجره أربى

بالأمس وجنته كانت أبا لهبٍ

والآن قد أصبحت حمَّالة الحطب

وقال أيضًا: [من البسيط]

وشادن ذي عذارٍ كنت أعشقه

فصار يحلق لمَّا أن طغى الشَّعر

فاليوم قد زاد موسى طور عارضه

وكان بالأمس في أرجائه الخضر

وقال أيضًا: [من البسيط]

لي في عذار الَّذي أهواه أعذار

وفي هواه أحاديثٌ وأسمار

أمير حسنٍ على العشَّاق حاجبه

بالوصل والصَّدِّ نهَّاءٌ وأمَّار

كأنَّ صدغيه لمَّا أن حنا علمٌ

ولحظه لهذمٌ والقدُّ خطَّار

ممنَّع ثغره ثغر وعارضه

سور حماه من الألحاظ أسوار

في خدِّه وثناياه كمنتزهي

ورد وورد وأنوارٌ وأنوار

/ 173 ب/ جذلان يسخر بي لفظًا ويسحرني

لحظًا وبي منه سخَّار وسحَّار

لئن تهتَّك ستري في محبَّته

فكم تهتَّك للعشَّاق أستار

في التُّرب خدِّي وفي قلبي وفي بصري

وفي حشاي الهوا والماء والنَّار

لا عار لا عار في حبِّ الملاح فما

في حبِّهم عند أرباب النُّهى عار

وقال: [من البسيط]

ويلاه من فاتر الألحاظ فتَّان

وسنانه وسنان الرُّمح سيَّان

ص: 230

ظبيٌ من التُّرك في شربوشه قمرٌ

وفي غلالته غصنٌ من البان

يجني ثمار الرِّضا من جاء معتذرًا

عن الإساءة من جان ومن جان

ديباج ورد الحيا في وجنتيه بدا

مطرَّزًا من عذاريه بريحان

فالقلب من صدغه مسلوب وعقربه

ومن ذؤابته ملدوغ ثعبان

يا مخجل الرَّشأ الوسنان ملتفتًا

جيدًا بجيدٍ وأجفانًا بأجفان

أنى إلى ريقك العذب البرود لذّة

قلبٌ به ظمأٌ حرَّان حيران

مولاي ما حلَّ في قلبي سواك ولا

أحاله عنك لا ثان ولا ثاني

أبيت منك بأحشاء مولَّهةٍ

ظمأى وطرفٍ بفيض الدَّمع ريَّان

حاشاك تسمع من قول الوشاة وما

قد زخرفوا فيَّ من زور وبهتان

/ 174 أ/ إنِّي لما كان مِّني سالفًا سفهًا

لقارعٌ طول دهري سنَّ ندمان

ما أقبح الهجر من بعد الوصال وما

أحلى وأحسن وصلًا بعد هجران

وقال أيضًا [من السريع]

هذا النَّقا والزِّند والبان

يا هاتف الأيك متى بانوا

دعني أفيض الدَّمع من شانه

لي في البكاء مثله شان

يا منزل اللَّهو ومغنى الهوى

سقاك هامي المزن هتَّان

أين شبابٌ فيك قضَّيته

وأين عيشٌ مرَّ فينان؟

أصبحت يا دار كأن لم يكن

لي فيك أوطارٌ وأوطان

إذا أنت للغيد الظِّبا وجرةٌ

وللأسود الغلب خفَّان

يا وحشة الدَّار بعيني إذا

فارقها أهلٌ وسكَّان

يا دهرنا الماضي هل عودةٌ

ترجع أحبابي كما كانوا

وفاتر الألحاظ قلبي إلى

رضابه البارد ظمآن

في فيه لي وردٌ وراحٌ وفي

خدَّيه لي وردٌ وريحان

الأقحوان الغضُّ ثغرٌ له

والنَّرجس الذَّابل أجفان

أغيد قاس ساخطٌ لا ترى

لي رحمة منه ورضوان

/ 174 ب/ أحور أحوى ساحرٌ ساخرٌ

هجيره هجرٌ وهجران

يجني وأغضي خوف إعراضه

عنِّي وأرضى وهو غضبان

ص: 231

بيض الظُّبى من سود أجفانه

تشهر والأجفان أجفان

كم قلت لمَّا مرَّ يختال بي

تيهًا كما يختال نشوان

يا غصن حسنٍ مونقًا مورقًا

كلُّ زمان منك نيسان

من ثغرك النَّور ومن صدغك الآس ومن أعطافك البان

في خدِّك التُّفَّاح عضّا لمن

يجني وفي صدرك رمَّان

الغصن في البستان عهدي به

وأنت غصنٌ فيه بستان

مولاي كم هذا الجفا والقلى

أما لذنبي منك غفران

لا تستمع قول وشاةٍ سعوا

فقولهم زورٌ وبهتان

هب أنَّني كنت مسيئًا أما

عندك يا ذا الحسن إحسان

وقال أيضًا [من الوافر]

وريميِّ اللِّحاظ رأى غرابًا

فأوتر قوسه ورمى بسهم

فخلت البدر أرسل عن هلالٍ

إلى اللَّيل البهيم شهاب رجم

وقال أيضًا: [من المديد]

/ 175 أ/ حظُّ طرفي الدَّمع والسَّهر

وفؤادي الهمُّ والفكر

[في هوى] ريمٍ رميت به

ما لقلبي عنه مصطبر

من بني الأتراك حاجبه

قوسه والأسهم الحور

قمرٌ في الأرض تحسده

في السَّماء الشمس والقمر

كعبةٌ للحسن وجنته

وبها من خالها الحجر

إن سخا دهري بقبلته

كلُّ ذنبٍ منه مغتفر

وقال أيضًا: [من المنسرح]

يا ملبس جسمي السَّقاما

يا سالب مقلتي المناما

ما أسعد في هواك صبّا

من ريقك ينقع الأواما

في الصُّبح يقبِّل الثَّنايا

في اللَّيل يعانق القواما

ص: 232

ما أعشق في الملاح إلَّا

من أسهر مقلتي ناما

ما حسن وجنتيه وردًا

ما أطيب ريقه مداما

ما أرشق قدَّه قناةً

ما أفتك لحظه حساما

لا يرحم عاشقًا كئيبًا

لا يحفظ في الهوى ذماما

إن سرَّاك بالوصال يومًا

قد ساءك بالصدود عاما

/ 175 ب/ من لامك في هواه جهلًا

بالحبِّ فقل له سلاما

وقال أيضًا: [من الكامل]

سقيًا لوادي النَّيربين بجلِّقٍ

لله ما أبهى رباه وأحسنا

فاضت مياه عيونه وتسلسلت

في ظلِّ بانات تروق الإعينا

فكأنَّما نزلت ثراه كتيبةٌ

ألقت سوابغها وركَّزت القنا

وقال أيضًا: [من الكامل]

عجبًا لمن يخشى العقا

ب ولا يكفُّ عن المعاصي

ولمن غدا يرجو الثَّوا

ب وليس يعجل للخلاص

فاحتل لنفسك في نجاتك

يوم يؤخذ بالنَّواصي

[670]

محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن عبد الملك بن عليِّ بن محمَّد بن عليِّ بن العباس بن محاسن بن عليٍّ، أبو حامد بن أبي جعفرٍ الهاشميُّ الحلبيُّ.

سمع بحلب الخطيب أبا طاهر هاشم بن أحمد بن عبد الواحد الأسدي، وابن المهنا؛ ومات بحلب في إحدى الجماديين من سنة ثماني عشرة وستمائة.

/ 176 أ/ أنشدني القاضي الإمام أبو القاسم بن أبي الحسن العقيلي- أسبغ الله ظلاله- قال: أنشدني الشريف أبو حامد لنفسه؛ وكتبها إلى الوزير بن أبي يعلى:

[من الخفيف]

ص: 233

حال دون اللِّقاء وحلٌ وبرد

وسحابٌ يروح طورًا ويغدو

وظلامٌ كأنَّه وجه نصرٍ وسجاياه حين يطلب رفد

فاعذر العبد إن تأخَّر أو

قصَّر يا من إحسانه لا يحد

وابق في نعمةٍ تدوم على الدَّهـ

ـر إلى أن يرى لمجدك ندُّ

فكتب إليه ابن أبي يعلى: [من الخفيف]

أيُّها السَّيِّد الشَّريف الفرد

قد تغشَّى القلوب بعدك وجد

إن يكن حاجز اللِّقاء البرد

فوصال الأرواح ما لا يصدُّ

غير أنَّ الحواس تطلب حظّاً

من سجايا خلالها لا تحدُّ

فابق للفضل قدوةً وإمامًا

ما تعالى لأهل بيتك مجد

وأنشدني القاضي الإمام السعيد الأجل بهاء الدين أبو محمد الحسن- أدام الله ظلاله- قال: أنشدني الشريف أبو حامد محمد بن عبد الله/ 176 ب/ بن محمد الهاشمي الحلبي لنفسه؛ يتشوق ريحا وجبل بني عليم، وكان كثير الاهتمام بها، والتردد عليه، وهو موضع بغربي محروسة حلب سنة ثلاث عشرة وستمائة في جمادى الأولى:[من المنسرح]

قد زدت شوقًا وزدت تبريحا

إلى ظلال الكروم من ريحا

فهل ترى يسمح الزَّمان بأن

أزور تلك الأماكن الفيحا

وهل تراني يومًا بأرض .... .... بين الأشجار مطروحا

قد أصبح القلب من تذكُّرها

مكتئبًا والفؤاد مجروحا

واهًا لدهرٍ عاشرت فيه بها

عصابةً سادةً مساميحا

أيَّام كان الزَّمان يترك لي

بابًا إلى ما أريد مفتوحا

دهرٌ قضيناه بالسُّرور فقد

مرَّ وأبقى لنا تباريحا

يكاد طيب النَّسيم فيها إذا

ما هبَّ يهدي للميِّت الرُّوحا

يا راكبًا يقطع الفلاة على

حروفٍ أمونٍ تسابق الرِّيحا

بلِّغ سلامي إلى معرَّة ما

رين سقاها الغمام مسفوحا

واطلب إذا جئت منطقًا و ....

زان فؤادًا هناك مجروحا

ص: 234

/ 177 أ/ محمَّد بن القاسم بن هبة الله بن القاسم بن عليِّ بن محمَّد بن الحريريِّ، أبو عبد الله بن أبي محمدٍ الطبيب الحكيم.

من أهل دنيسر، كان والده ممن يشار إليه في زمانه في علم الطب والمداواة، وله الإصابة في الإنذار في غالب أوقاته.

وابنه هذا قرأ على المهذب أبي الحسن علي بن أحمد بن هبل البغدادي الخلاطيِّ بالموصل، شيئًا من كتابه ((المختار))؛ ورحل إلى بغداد، فظهر له بها القبول عند الناس وعالج بها خلقًا كثيرًا بالأدوية، وبعمل اليد؛ ثم رحل منها إلى بلاد العجم.

قال صاحب كتاب ((حيلة السريين من خوّاص الدنيسريين)): أنفذ كتابه إلينا من نيسابور، بأنه يقرأ على الإمام فخر الدين أبي عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرَّازي المعروف بابن الخطيب. وله خطّ مليح، كتب على الأمير أمين الدين أبي الدُّرِّ ياقوت الموصلي زمن اشتغاله بالطب على ابن هبل، وتقدّم بعلمه عند الملوك والسلاطين، ورغبوا في استخدامه لاسيما في دولة الملك الأشرف؛ فإنه حظي لديه، وصنّف له كتابًا/ 177 ب/ سمّاه ((الروضة)) على وضع ((كليلة ودمنة))، وكتاب ((البلغة)).

ومع ذلك له مشاركة قويّة في الفنون الأدبية، وقرض الشعر، وله خاطر سريع في

ص: 235

ارتجاله، ويد طولى في صناعته.

أنشدني الشيخ الحافظ صدر الدين أبو علي الحسن بن محمد البكري بدمشق، بمنزله المحروس في ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة؛ قال: أنشدني أبو عبد الله محمد ابن السيزري لنفسه بسنجار في ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وستمائة؛ وأنشدها السلطان الملك الأشرف شاه أرمن- رحمه الله تعالى- ونظم ذلك بديهة: [من الكامل]

يا أيُّهأ الملك الَّذي بعلومه

أصبحت بين يديه كالمتعلِّم

أبدعت فيما قلت حتَّى لم يقل

أحدٌ بأنَّ الفضل للمتقدِّم

وقال أيضًا: [من الكامل]

أهدي لمولانا دعاءً صالحًا

يدعو به في الصُّبح بعد صلاته

وسوى الدُّعاء فلست أملك غير ما

أحويه من صدقاته وصلاته

[672]

محمَّد بن عليِّ بن زيد بن محمَّد/ 178 أ/ بن محمَّد بن زيد بن أحمد بن محمَّد بن محمَّد بن عبيد الله، أبو البركات بن أبي الحسن العلويُّ الحسينيُّ الموصليُّ.

من أبناء النقباء الأشراف بالموصل.

وكانت ولادته في شهر رمضان سنة ستين وخمسمائة؛ وتوفي في إحدى الجماديين سنة إحدى عشرة وستمائة بالموصل، ودفن قبليها في تربة لهم بمشهد الرأس.

أنشدني أبو الحسين القاسم بن أحمد بن زيد العلوي الحسيني؛ قال: أنشدني ابن عمِّي أبو البركات لنفسه؛ وكان أبو البركات يسمِّيه أتابك نور الدين أبو الحارث أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر- صاحب الموصل- المنائري. وذلك أنه كان يسأله عمّا يحصل في يده من ذهب، فيقول أبو البركات: صارت منارة، ثم يسأله مرّة أخرى، فيقول: صارت منارتان، صارت ثلاث منائر، يكنّى بذلك عن

ص: 236

المائة الدينار، وكان يداعبه بهذا القول، وينبسط معه، وكان نديمه وجليسه:

[من الكامل]

مولاي لم يخطر فديتك

غير ذكرك لي بخاطر

إن كنت يا خير الأنا

م نسيتني فالعبد ذاكر

أوليتني منك النَّدى

والحرُّ للإحسان شاكر

/ 178 ب/ لا تستمع قول الأحينف

فهو معتل معتلُّ الضَّمائر

الصِّدق شيءٌ عنده

في الدَّهر من طرف النَّوادر

يقفو بذاك خلال وا

لده أبي الفتح المخامر

إن كنت تسمع قوله

فاقر السَّلام على المنائر

[673]

محمَّد بن إسماعيل بن محمود، أبو عبد الله الدمشقيُّ الأصل، المصريُّ المنشأ، المعروف بالصفيِّ الأسود الكاتب.

حدَّثني القاضي الإمام أبو القاسم عمر بن أحمد الحنفي- أيده الله تعالى- من لطفه، قال: كان أبو عبد الله الأسود كاتبًا مجيدًا، حسن الإنشاء، مليح الخط، جيد النظم، كثير التواضع، طيب المفاكهة، خيرًا فاضلًا.

اشتغل في صدر عمر بالفقه، وحصل منه طرفًا صالحًا، وكذلك علم العربية؛ ثم برع في الإنشاء، وكتب للملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب- رحمه الله تعالى- ثم اتصل بخدمة ولده الملك الأشرف موسى، وصار كاتب أسراره، ورأس كتّاب الإنشاء، وحظي عنده/ 179 أ/ وتقوَّى عليه.

ص: 237

قدم حلب في صدر عمره، وأقام بها مدّة، وكتب بها لسلطانها الملك الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف بن أيوب- رحمه الله تعالى- ثم انفصل عنها وخدم للملك العادل سيف الدين أبي بكر، وعاد إليها مع الملك الأشرف.

واجتمعت به بها، ثم اجتمعت به برأس عين الخابور، وكتب منها بها شيئًا من نظمه، وقرأت عليه بحرَّان جزءاً يرويه عن والده، من جمع الأقليشي رواية والده عنه.

وسألته عن مولده، فقال: ولدت في ذي القعدة سنة ستين وخمسمائة، وتوفي بالرّقة في تاسع عشر جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وستمائة، ودفن بها بباب مشهد أمير المؤمنين علي- عليه السلام وبني له تربة على قبره.

ثم قال: ومما أنشدني لنفسه في الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل عند مقدمه من الحج، ويذكر فيها توديعه عند سفره إليه:[من الكامل]

ما بال قلبك للنوى لا يخفق

أتراك كنت بحبِّهم تتلمَّق

إن أتهم الأحباب لست بمتهمٍ

معهم ولست بمعرقٍ إن أعرقوا

ما أقطعوك سوى القطيعة عندما

جمعوا همومك في الحشا وتفرَّقوا

/ 179 ب/ ولئن كتمت هواهم وسترته

فبكلِّ جارحة لسانٌ ينطق

ولقد جننت بهم فقيَّدك الهوى

وعن السُّلوِّ عليك بابٌ مغلق

فلذاك دمعك في الخدود مسلسلٌ

وأسير قلبك بالصَّبابة موثق

جدَّ الحداة بهم ولو علموا بما

لاقيته لتعطَّفوا وترفَّقوا

حطموا بقصدهم الحطيم مخلَّفًا

وبدمعةٍ تلك المشاهد خلَّقوا

وأظنُّ قلبك من جمارهم الَّتي

كانوا بها عند المحصَّب حلقوا

لو كنت شاهدنا عشيَّة ودَّعوا

وقلوبنا بيد المطيِّ تشقَّق

وعيوننا عين تجود بعبرةٍ

ممزوجةٍ بدمٍ وأخرى تخفق

لحسدت من أنف التَّعبُّد للهوى

وعلمت أنَّ الحر من لا يعشق

ص: 238

خلق اللَّيالي ما علمت فإن أتت

بخلافه فتطبُّعٌ وتخلُّق

ولأشكرنَّ صروفها إن أنعمت

وتضمَّنتنا بعد بين جلِّق

هي جنَّة الدنُّنيا فماءٌ سلسلٌ

ونسيم أسحارٍ وغصنٌ مورق

وشباب حسنٍ لا يشيب ومنظرٌ

بهجٌ عليه من النضارة رونق

ولكفِّ أنواء الرَّبيع تمهُّرٌ

في نسج حلَّة حسنها وتأنُّق

ولرُّبما من معجزات سميِّه

إحياء ميت أو نوالٍ يخلق

/ 180 أ/ ملكٌ رقى في المجد أرفع ذروةٍ

من تحتها الشَّمس المنيرة تشرق

وتجاوز الأفلاك يطلب غايةً

ما فوقها المؤمِّل متسلَّق

الفاعل الفعلات عن أمثالها

عمر الزَّمان ومن حواه ضيِّق

لم ترض همَّته تجوُّز واصفٍ

فسمت إلى ما لم ينله الأسبق

ورمى العلوم بفيصلٍ من فهمه

يعنو لفتكته السِّنان الأزرق

فأحاط منها بالدَّقيق عن النُّهى

فهمًا وبالمعنى لمن يتحذَّق

سبَّاق غايات لكلِّ فضليةٍ

عنق الزَّمان بحليها متطوِّق

أسدٌ يهاب الأسد شدَّة بأسه

أبدًا وتحذر من سطاه وتفرق

كم للملوك ببابه من سجدةٍ

شكرًا لأنعمه الَّتي لا تخلق

تلقاه خاشعة العيون تكاد من

عظم المهابة والجلالة تصعق

لذخائر الآمال فيه تجمُّعٌ

وذخائر الأموال منه تفرَّق

في حربه صار القنا متدقِّقٌ

في سلمه صوب الحيا متدفِّق

لله منه مجاهدٌ متهجِّدٌ

متوزِّع متواضعٌ متصدِّق

ساع إلى البلد الحرام مؤدِّيًا

فرضًا تخبُّ به إليه الأنيق

يجرين في بحر السَّراب سفائنًا

طورًا تطوف به وطورًا تغرق

/ 180 ب/ خطَّت على وجه التُّراب نسوعها

مدحًا له وبكلِّ أرض مخرق

متجرِّدٌ في حلَّيتي إحرامه

كالبدر لاحقه سحابٌ مغدق

إنِّي لأعجب كيف حرَّم طيبه

إحرامه وثناه مسك يعبق

ولكنه محجوجة من كعبه

رمز العفاة بها تطوف وتحدق

ما زارها إلَّا وعند حطيمها

ومقامها شوقٌ إليه تعلُّق

ص: 239

ولو استطاعت أو درت لمسيره

كانت زيارتها إلهي تسبق

مولاء خذها حرَّةً عربيَّةً

يعشي النَّواظر نورها المتألِّق

جرَّت جريرًا والفرزدق خلفها

وعلت على أرق ومثلي يأرق

ما سقتها إلَّا لسوق فضائل

في مثلها درر المعاني تنفق

فاخلد وسيفك فالقٌ هام العدا

أبدًا وصيتك في المسامع فيلق

لا الدَّهر يقعد عن مرادك في الورى

يومًا ولا لأسير حبِّك مطلق

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه في السلطان الملك الأشرف- أعّز الله نصره- يعارض بها قصيدة ابن النبيه التي أوَّلها: [من الرجز]

(يا طيف يا أكرم ضيف قد طرق)

.........................

/ 181 أ/ ما طبعوا سيوفهم من الحدق

إلَّا لأنَّها أحدُّ وأدق

فواتر بواترٌ ما رمقت

قطُّ فأبقت للمحبِّين رمق

كم أودعت يوم الغرام لوعةً

لهيبها لو لمس الماء احترق

ترى هم رقُّوا لما لقيته

بعدهم من الفراق والفرق

يكذِّبون ما ادَّعيت من هوىً

وشاهد الحال لدعواي صدق

أنفقت عمري في انتظار وصلهم

فضاع ما أنفقته ما اتَّفق

وابأبي من جمعت وجنته

ماءً ونارًا وصباحًا وغسق

كأنَّما في قسمات وجهه

بين مسائين ابتسامات فلق

ريمٌ له قلوبنا مراتعٌ

غصنٌ له ملابس الحسن ورق

ذو هيف كيف أطاق خصره

حمل الَّذي رصِّع فيه من حدق

أسهرني ونام ملء جفنه

موسَّدًا من الفؤاد ما خفق

ص: 240

قد فتحت لي فيه أبواب عنًا

لأيِّها شاء الغرام بي طرق

ألَّف ما بين اللَّهيب والحشا

فليته بين الجفون ما فرق

صاحب ديوان الغرام خاله

له على النَّاس بقايا وعلق

مذ سلِّمت خزائن الحسن له

فكَّ جميع ما عليها من غلق

/ 180 ب/ وحازها فلم يجد أحسن من

صفات مولانا فخان وسرق

مظفَّر الدِّين المليك الأشرف الكريم حقًا وسواه مختلق

اللَاّبس المجد جديدًا والورى

عليهم منه الفتيق والخلق

مسني العطايا والزَّمان باخلٌ

مردي الأعا والمنيَّات حزق

حمَّ السَّحاب خجلًا من جوده

فرعده الرِّعدة والغيث العرق

جرى به الفضل إلى نهاية

سابق فيها العالمين فسبق

كالغيث في أيِّ مكان حلَّه

يرجى ويخشى منه ريٌّ وغرق

ساحرةٌ ألفاظه وإنَّما

معجزه إبطال سحرٍ غير حق

لو صافح الصَّخر الأصمَّ كفُّه

لانبجس الصَّخر بماءٍ ودفق

يكاد أن يدرك من ذكائه

ما في الضَّمير واللِّسان ما نطق

لو أنَّ أملاك السَّماء كلِّفوا

إحصاء ما تبذل كفَّاه لشق

أيَّ أسير لم يفكَّ جوده

من أسره وأيَّ حرٍّ ما رزق

من درَّةٍ مكنونةٍ صوَّره

خالقه والنَّاس بعد من علق

فليهنه العيد وألفٌ مثله

في نعمٍ واردةٍ على نسق

يا مدحتي خذي أمانًا كل من

(يا لطيف يا أكرم ضيف قد طرق)

/ 182 أ/ واعتذري إلى مجيدٍ شاعرٍ

رهن القوافي في يديه قد غلق

وأنشدني؛ قال: أنشدني لنفسه: [من الرمل]

أقداحٌ في جفونٍ أم قدح

أسكر السَّاقي بها لمَّا جرح

ص: 241

بأبي من وجه لي روضةٌ

أنبت الحسن بها كلَّ الملح

نصبت عيناه قلبي شركًا

صادتا طرفي به لمَّا لمح

سلَّم الحسن إليه فانتقى

منه ما اختار فؤادي واقترح

زارني واللَّيل ..... فلو

لم يلح برق الثَّنايا ما افتضح

أيُّ بدرٍ لاح من أفق قبًا

وغزالٍ غير وحشينٍّ سنح

سمت منه قلبةً في فمه

كان في النَّوم بها الطَّيف سمح

وتعمَّدت يمينًا برَّةً

أنَّ أسرار هواه لم تبح

فأدار اللَّحظ عنِّي معرضًا

قاتل الله فؤادي ما ألح!

كلَّما استعطفته أنشدني:

(صلح النَّاس وهذا ما صلح)

قال: وأنشدني لنفسه صدر كتاب: [من الطويل]

وأحسن ما في جود كفِّك أنَّه

أتاني ولم أشعر بأنَّك فاعله

/ 182 ب/ فقلت له من أين جئت؟ فقال لي:

أتيتك ممن يخجل السُّحب نائله

من المبتدي بالمكرمات عبيده

ولم يسع عافيه ولم يشق سائله

وقال؛ وكتب إليه تاج الدين بن الكعكي صاحب ديوان الجيش يطلب منه ورقًا: [من الرجز]

يا من نداه قد فهق

فوجوده مثل الوهق

أمنن عليَّ بالورق

فكما مننت بالورق

أفنت بالفضل أحق

فأجابه مرتجلًا: [من الرجز]

يا من إلى الفضل سبق

بشكرك الدَّهر نطق

من درًّة خلقت والنَّاس جميعًا من علق

أنت بما وصفته

من سائر النَّاس أحق

قد سيَّر الخادم ما

أمكنه من الورق

ص: 242

ولو أطاق كسر [هـ] الـ

ـرَّاء ولكن ما اتفق

وقال: وكتب إليه النجيب التاجي: [من الوافر]

/ 183 أ/ أيا مولى يشرِّف كلَّ وقت

بإنعامٍ يقرُّ له الكرام

أتتني منك ألفاظٌ فصاحٌ

يتابعهنَّ أشعارٌ جسام

تجرُّ جرير ما يحويه فضلًا

ومثل بديع فضلك لا يرام

فأجابه: [من الوافر]

فديتك لا عدمتك من خليل

تباكرني أياديه الجسام

يوافيني قريضك كلَّ يومٍ

وما ألفاته إلَاّ السِّهام

قريضٌ ملء أبحره لهيبٌ

قوافيه الصَّواعق والسَّلام

وأنشدني القاضي أبو القاسم، قال: أنشدني أبو عبد الله الأسود لنفسه:

فديته ليس عليه جناح

وإن تعدَّى طور كلِّ الملاح

دمي له حلٌّ وعرضي لمن

يلوم أو يعذل فيه مباح

أطلعت في شرع الهوى حكمه

كطاعة السُّحب لأمر الرِّياح

مفقَّه الألحاظ لكنَّها

لم تقر إلَاّ في كتاب الصِّحاح

سكران من خمر الصِّبا لم يفق

وكيف يصحو وجنى فيه راح

أودعت أسرار هواه الصَّبا

فاهتزَّ منها الرُّوض طيبًا وفاح

/ 183 ب/ هل طال ليلي فيه أم تاه في

ضلال صدغيه ضياء الصَّباح

يا روضةً أجفانها نرجسٌ

وخدُّها وردٌ وفوها أقاح

أوصلت الحسن إلى غايةٍ

زادت على التَّأميل والاقتراح

وقال: وأنشدني لنفسه هذه الأبيات، كتبها إلى ابن عنين الشاعر جوابا عن أبيات سيّرها إليه مع هديّة:[من المجتث]

أبيات مولاي عندي

بديعةٌ لا تحدُّ

وكلُّ شعرٍ سواها

فساقطٌ لا يعدُّ

وقد صوت إليها

فبي غرامٌ ووجد

ص: 243

ورحت أنظم منها

عقدًا لآليه حمد

لمن له حرُّ مدحني

على الحقيقة عبد

أهدى إليَّ وخيرٌ

من الهديَّة ودُّ

مؤكَّدٌ كلَّ يمٍ

منه إلى الحشر عقد

قال: وأنشدني/ 184 أ/ له في كتاب تعزية: [من الوافر]

ولو كان البكاء يردُّ ميتًا

إلى دار الحية من القبور

لأجرينا ليرجع من فقدنا

دموعًا كالبحور على النُّحور

قال: وأنشدني لنفسه: [من الوافر]

ولو ردَّت إلى ميتٍ حياةً

دموعٌ تستهلُّ من الجفون

صددنا الموت عن من يشتهيه

بإجراء العيون من العيون

وقال: وأنشدني أيضًا قوله: [من الكامل]

عنّا بعذلك والزَّمان مواتي

والخدُّ نقلى والعيون سقاتي

والرَّوض قد حمل النَّسيم تحيَّةً

عن زهرةٍ مسكيَّة النَّفحات

ركعت أباريق المدام وصاح حيَّ على الصَّبوح مؤذَّن الصَّلوات

وتجاوبت أوتارنا بلغاتها

فالتفَّت النَّغمات بالنَّغمات

فاستجل بكرًا توجِّت بحبابها

لمَّا عقدت لها على ابن فرات

كالشَّمس إلّا أنَّ مشرقها يدي

...... ومغربها فمي ولهاتي

من نور عيسى حلَّ في ناسوتها

أو نار موسى صاحب التَّوراة

/ 184 ب/ شرع السُّجود لها اتِّحاد ثلاثة

منها ومن ماء ومن كاسات

وتجاوزت لطف الهواء فلم تزد

في الكأس عمَّا لاح في المرآة

موجودةٌ معدومةٌ فكأنَّها

جرى على أدوارها .....

من كف معتدلٍ القوام مهفهفٍ

خنث الشّمائل شاطر الحركات

ص: 244

فطنٍ يكاد من الذَّكاء يرى الَّذي

في أنفس النُّدماء من حاجات

يهوى فتكتب في الثَّرى أصداغه

لك نسخةً من جامع اللَّذات

في خدِّه وعذاره ورضابه

كم للهوى واللَّهو من آيات

كالماء إلَّا أنَّه متماسك

وطيء المحبّ به على الجمرات

يسقيك من فيه ومن ألحاظه

سكرين ممزوجين في الوجنات

هذي تميت وهذه تحيي فيا لله من موتي به وحياتي

[674]

محمَّد بن المظفر بن محمَّد بن الحسين بن إسماعيل بن المبارك، أبو عبد الله الموصليُّ المعروف بابن جعرة؛ من أولاد قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريِّ

كان والده عدلًا بالخزانة لبني أتابك

رأيت أبا عبد الله شابًا طويلًا/ 185 أ/ أشقر مقرون الحاجبين، صوفيًا، وكان ذا تديُّن وصلاح، خيِّرًا تقيًا، وكان مواظبًا على الصلوات الخمس، مداوم الصوم، طلق النفس، لم يقبل من أحدٍ شيئًا، يورّق ويقتات من كسب يده، لم يدخر شيئًا من عرض الدنيا.

صار إلى بغداد، وأقام بها مدّة، وتوفي بها بالجانب الغربي، بمارستانها العضدي في ليلة الجمعة الخامسة عشر من شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. وكان يسمّى نفسه عبد الله تواضعًا، وتارة يكتب اسمه المبارك، والاسم الذي سمّاه به والده فهو محمد.

أنشدني أبو الحسن علي بن المظفر بن محمد الموصلي، قال: أنشدني أخي أبو عبد الله محمد لنفسه، يمدح شرف الدين أبا البركات المستوفي بإربل:

[من مجزوء الرجز]

قيل سلا المكلَّف

وأنكر المعترف

ص: 245

وعاد عن لجاجه

القلب الحزون المدنف

وما دروا أنَّ الهوى

تعظم فيه الكلف

وأنَّ أستار الغرا

م بالدُّموع تكشف

جهَّالة لاموا على

شمس ضحى لا تكسف

/ 185 ب/ لمَّا خلت قلوبهم

من الغرام عنَّفوا

وقلَّ ما يوجد في

شرع الهوى من ينصف

يا قمر أوصافه

كاملةٌ لا توصف

في الخدِّ منك وردٌ

باللَّحظات تقطف

ومن سناك طرف من يدنو إليك يطرف

أرطب من غصن الأراك

ك قدُّك المهفهف

والرِّيق في فيك ترى

أم السُّلاف القرقف

وثغرك الدُّرُّ على

صافي العقيق يرصف

فحبَّذا كأسٌ به

من الرَّحيق ترشف

يتعب فيك الكاشح الـ

ـمرتاب والمعنِّف

وقائل لي والركا

ب في الفلاة تعسف

أين تريد بالمطيِّ في السُّهوب تجف

فقلت حيث يعتلي

الفخر ويسمو الشَّرف

ربع المبارك الَّذي

على النُّجوم يشرف

طود حمى رأسٍ إذا

خفَّ لخطب أحيف

/ 186 أ/ لولا التُّقى لقلت في

علاه جاء المصحف

يجود بالطَّبع إذا

ما فضح التَّكلُّف

فكم لنا من جوده

روضة جودٍ أنف

يكره أن تبدو له

عارفةٌ ويأنف

ثبتٌ وقورٌ والجبال

ل الشَّامخات ترجف

لا يخلف الوعد وأنـ ـواء السَّحاب تخلف

يأتي بنصِّ الشَّرع والأحكام فيها جنف

ص: 246

مقتبل السَّعد على

رغم العدا ما تنف

فهو وبيت الله من

روح الوصال ألطف

يا أوحد العصر الَّذي

أوصافه تختلف

لين النسيم غبَّه

نزوة نار تخلف

حجَّك مفروضٌ وبالـ

ـبيت الحرام أحلف

خذها إليك حرَّةً

لباسها مفوَّف

تلطف من ألطافكم

طباعها وتطرف

تظلُّ عن غيركم

من الأنام تعزف

/ 186 ب/ كأنَّها أخلاقك الـ

ـحسنى بها تشرِّف

[675]

محمَّد بن محمود بن محمَّد بن مقدار بن فارسٍ الحرَّانُّي، أبو عبد الله بن أبي الثناء.

كان والده وزير الملك المعظم المظفر الدين كوكبوري بن علي بن بكتكين بإربل، واستصحبه من حرّان.

وأبو عبد الله قدم إربل في خدمة مظفر الدين، ولي المظالم مدَّة طويلة بإربل.

حدثني الصاحب أبو البركات المستوفي بإربل-[رحمه] الله- قال: كان أبو عبد الله عنده قحة، وله هيبة يخافه الناس لهما، وصحبته مدّة، وأخذ عني جملة من النحو، إلّا أنه لم يكن له في ذلك طبع، فلم يحصل منه على شيء ولم أعلم زمن ولايته مع ترددي إليه، أنه يحسن عمل شيء من الشعر؛ فلما عزل وقبض هو ووالده وأقاربه وحاشيته وإخوته كان يكتب في رقاعه أشعارًا غريبة من مثله.

وتوفي بإربل ليلة الجمعة ثالث وعشرين شهر ربيع الآخر من سنة اثنتي عشرة وستمائة، ودفن في يومها ظاهر البلد، بالقرب من باب المدينة/ 187 أ/ المعروف بباب عشائر.

ص: 247

وكان لما خرج من الحبس فقيرًا على أشدّ ما يكون من الفقر، واتسعت الحال؛ فكان يجتدي بشعره الأمراء، وأصحاب الولايات والمناصب.

وكتب إليّ لنفسه هذه الأبيات: [من الوافر]

بأيمن طالع وأجلِّ سعد

قدمت فحلَّت الأفراح عندي

أجرني من لظى سجنٍ وضرٍّ

يقطِّع بعضه أعلاق كبدي

فقد أصبحت حلف ضنًى وسقمٍ

أكابد لوعتي في اللَّيل وحدي

أديم الأرض من تحتي فراشي

وساعدي الوسادة تحت خدِّي

وأنت ذخيرتي يا خير مولًى

عليه معوَّلي وإليه قصدي

فعاملني بعفوك لا بفعلي

وهب لي زلَّتي بقديم ودِّي

وأنقذني بحقِّ إمام صدق

أباد الكفر في بدر وأحد

شرابكم الرحَّيق وسلسبيلٌ

وشربي الدَّمع ممزوجًا بدردي

وقد وافى الشِّتاء وليس عندي

لردِّ البرد شيءٌ غير جلدي

فلا تعدل إلى مطلٍ ووعدٍ

فأعذب ما يكون البرُّ نقدي

وأنشدني الصاحب أبو البركات/ 187 ب/ المبارك بن أحمد المستوفي الإربلي، قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن الحراني هذه الأبيات، وكتبها لي بخطه، وطلب مني أن أصلح منها ما فيها من خلل فأصلحته، وعملها في الأمير الكبير شهاب الدين أبي الوفاء قرطايا بن عبد الله المعظمي المظفري، يستعطفه لوالده- رحمهما الله تعالى-:[من الكامل]

يا صاح قد صاح الهزار وغرَّدا

وشدا بألحان فأخرس معبدا

والزَّهر مبتسم الثُّغور فأبيضٌ

يققٌ وأصفر ظلَّ يحكي العسجدا

مع أخضر يحكي الزَّبرجد ناصعٍ

في جنب أحمر قد زها وتورَّدا

قد زانه بسواد آخر حالكٍ

يحكي عذار مقرطقٍ لمَّا بدا

هذا وقد وشي الجميع بأزرقٍ

شبه الأسنَّة لا ترى فيها صدا

في روضة فيحاء باكرها الحيا

طورًا شاميًا وطورًا منجدا

ومدامة صفراءٍ تحسب كأسها

ذهبًا وسمط الدُّر فيه منضَّدا

ص: 248

حضرت مناجاة الكليم وشاهدت

زمن المسيح وعتِّقت في صرخدا

ورأت بني مروان في سلطانهم

وروت بما فعلوا حديثًا مسندا

وهي الَّتي كان الوليد يصونها

فإذا بدت خرُّوا لديها سجَّدا

/ 188 أ/ وبمدحها نال ابن هاني رتبةً

علياء نازعها الأمين محمدا

فهناك تستلب العقول جاذرٌ

مرضى العيون بكلِّ أجيد أغيدا

يصر على آساد الرِّجال بأعينٍ

كظبى شهاب الدِّين في هام العدا

القائد الجرد العتاق ومن له

شهد الأكارم بالسَّماحة والندى

ما نازل القرن المناجز في الوغى

إلَّا وأضحى في يديه مصفَّدا

يلقاك مبتسمًا متى وافيته

بتواضع بعلا [هـ] يعلو الفرقدا

أيحلُّ يا مولاي قتلي عامدًا

بمقال واشٍ قد تجنَّى واعتدى

حاشا طباعك أن يشوب صفاءها

كدرٌ أرى عيشي له متنكِّدا

وقال لي: أريد أن تتم عليها شيئًا آخر؛ فعملت وذلك في سنة إحدى وستمائة:

[من الكامل]

وأجلُّ مثلك وهو يعلم حالتي

أن لا يمدَّ إلى مراعاتي يدا

ما لي رأيتك ملت عنِّي جانبًا

أغفلتني معه إلى هذا المدى

ولقد عهدتك لا تزال تبرُّني

بندى يديك فما عدا ممَّا بدا

عد لي إلى الحسنى الَّتي عوَّدتني

إنَّ الكريم يهمُّه ما عوَّدا

ودع الوضاة وما أتوه فإنَّه

إفكٌ وخلِّ لحاسدٍ أن يحسدا

/ 188 ب/ أنا ذلك العبد الَّذي أنقذته

ممَّا يخاف وقد أطلَّ على الرَّدى

كم منَّة لك عنده مشكورةٍ

أمسى بزاكي طولها متقلِّدا

لو همَّ لا عمدًا ليجحد فضلها

لأبى عليه مكانها أن يجحدا

ص: 249

[676]

محمَّد بن عيسى بن عليِّ بن مطر بن محمَّد بن هياجٍ، أبو عبد الله الموصليُّ.

حدثني الصاحب أبو البركات المبارك بن أحمد الإربلي؛ قال: ورد أبو عبد الله الموصلي إربل تاجرًا، في سنة إحدى عشرة وستمائة، وذكر إنَّ هياجًا جدّه الأعلى كان من جملة نواب شرف الدولة قرواش وزيرًا.

عنده معرفة بشيء من النحو واللغة، وذكر أنَّه قرأ شيئًا من الطبّ على أبي الحسن علي بن أحمد بن هبل الحكيم.

وأنشدني لنفسه: [من الطويل]

إذا قيل هل في ثغر دمياط من يؤمل أو جار الرئاسة والكرم

أجابك جواب البلاد بأنَّ من

فواضله عمَّت على العرب والعجم

[677]

محمَّد بن أبي الحسن بن مازل/ 189 أ/ بن حمادٍ، أبو عبد الله، الإربليُّ المولد والمنشأ.

جدُّه منازل أصله من أسعرد.

قرأ شيئًا من علم العربية على أبي عبد الله محمد بن أبي الوفاء النحوي المعروف بابن القبيصي، واشتغل بالفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة- رضي الله عنه.

من بيت العدالة والتجارة بإربل إلَاّ أنه قد قلّ ما بأيديهم فتضعضوا.

خرج أبو عبد الله من إربل ممتدحًا مكتسّبًا؛ وتوفي بالموصل في سادس عشر جمادى الأولى سنة ست عشرة وستمائة.

أنشدني الصاحب أبو البركات المستوفي، قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه:

[من مخلّع البسيط]

ظبيٌ من الحسن في شعار

قد عزَّ في حبِّه اصطباري

ص: 250

قد زانه الله بالعذار

خلعت في حبِّه عذاري

قد جمع الحسن بين ماء في

وجنتيه وبين نار

والخال في خدِّه ينادي

حذار من ناره حذار

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من الكامل]

يا ليلةً قضَّيتها مع شادن

كالغصن عند تمايلٍ وتلفُّت

/ 189 ب/ ما زلت أسقيه وأشرب كأسه

مملوءةً برضابه قد شجَّت

لمَّا انثنى سكران يخفض صوته

ويداي منه تحلُّ عقد التِّكة

نبَّهته سحرًا وقلت له اصطبح

فلقد ظفرت بمنيتي يا منيتي

وأنشدني؛ قال: أنشدني من شعره: [من البسيط]

وأهيف في رداء الحسن والخفر

يزري على النَّيَّربين الشَّمس والقمر

بدا فأبدى لنا من نور غرَّته

بدرًا أحاط به ليلٌ من الشَّعر

له من الصَّخر قلبٌ حلَّ في جسد

تكاد تشربه عيناي بالنَّظر

لم أنسه زارني عمدًا بلا عدةً

وعمر ليلتنا في غاية القصر

تجري علينا كؤوسًا خلتها شهبًا

تردي فوارس خيل الهَّمِّ والفكر

[678]

محمَّد بن المفضل بن الحسن بن مرهوبٍ، أبو عبد الله الحمويُّ، المعروف بابن الإمام.

من أهل حماة.

حدثني القاضي الإمام أبو القاسم عمر بن أحمد الحنفي العقيلي- أيده الله تعالى- قال: محمد بن الـ[ـم]ـفضل الحموي رجل فاضل فقيه/ 190 أ/ بارع، حسن النظم والنثر، قادر على ذلك.

أقام عندنا بحلب سنين، ثم خرج إلى بلده حماة، وانتقل إلى حمص، فأقام بها، في خدمة الملك المجاهد زعيمها، يسيَّره رسولًا عنه إلى جهات مثل حلب ودمشق

ص: 251

وغيرها؛ وكان حسن الأخلاق، ظريفًا، طيب المفاكهة.

أنشدني لنفسه: [من البسيط]

يا أيُّها المتنائي عن أحبَّته

بعد اقتراب متى يدون بك الوطن

أهل تعشَّقت دارًا غير دارهم

وجيزةً وهم دون الورى السَّكن

بمن تعوَّضت عنهم حين لا بدلٌ

وهم على الحالتين الرُّوح والبدن

خف وقفة العتب منهم حيث يخرس عن

ردِّ الجواب الفصيح المدره اللَّسن

يا جيرةً كان في الأحشاء منزلهم

والقلب مسكنهم والعين والأذن

يا راحة القلب أنتم منتهى أملي

فإن عطفتم فلا حزنٌ ولا حزن

أنتم مرادي من الدُّنيا ولذَّتها

وأنتم لجفوني في الكرى الوسن

لا أوحش الله منكم حيثما اتَّجهت

ركابكم إن أقام الركب أو ظعنوا

وأنشدني أيضًا؛ قال أنشدني أبو عبد الله محمد بن المفضل الحموي لنفسه:

[من البسيط]

/ 190 ب/ ولي إليك اشتياقٌ زاد لاعجه

وجدًا ونارًا على الأحشاء يضطرم

وأرتجي القرب من رؤياك يا أملي

عسى يعود زمانٌ كلُّه نعم

وكلَّما مرَّ وقت قلت مجتهدًا

لا أوحش الله منكم من يحبُّكم

[679]

محمَّد بن يوسف بن عليِّ بن عبيد الله الشَّيبانيُّ.

من أهل البوازيج.

كان أبوه رجلًا قصابًا.

وكان أبو عبد الله؛ من صغره يميل إلى الأدب ويعاني الكتابة، ويتولّع بذينك الفنّين.

ثم هاجر من وطنه، ودخل ديار بكر، واستقرّ مقامه بآمد، واتصل بخدمة الوزير ضياء الدين أبي القاسم أحمد بن شيخ السلاميّة، وصار يكتب بين يديه؛ فلمّا هاجر الوزير إلى الموصل، استكتبه الملك الصالح أبو الفتح محمود بن محمد بن داود بن

ص: 252

سلمان- صاحبها- في ديوان الإنشاء؛ ثم كتب بعده لولده الملك المسعود أبي المظفر مودود.

وكانت ولادته في حدود سنة سبعين وخسمائة، وعلقت من شعره بخط يده؛ قوله:[من الخفيف]

/ 191 أ/ كم يريني اعتدالك الإعداءا

وانثناء القوام منك انثناءا

يا أخا السَّمهريَّ لونًا ولينًا

وسنًى عند هزِّه وسناءا

أيَّ سحرٍ موَّهت في المقلة الخو

صاء حتَّى أرسلتها نجلاءا

ما غزت في كتيبة الحسن حتَّى

عقدت من ذؤابتيك لواءا

أنزلت وحيها على مرسلي صد

غيك في كلِّ فترة أجزاءا

وأتت حجَّة التَّأوُّل فيه

بدليلٍ فأصبحت أهواءا

بأبي نضرة النَّعيم بخدَّيـ

ـك الَّتي لا تبيح إلَّا الشَّقاءا

يا لها جمرةً طغت فوق ما

أمنت في التجرح الإنطفاءا

إنَّ عينًا جادت عليَّ وكانت

في ليالي الصُّدود تبكي دماءا

لا تلمها إن أهدت الدُّر البيـ

ـضا وكانت ياقوتةً حمراءا

صعَّدتها نار الصَّبابة لمَّا

طلبت من وصالك الكيمياءا

يا غزال الأتراك راحوا أسودًا

في سروجٍ وفي مروجٍ ظباءا

كيف أرسلت فوق كافورة الصُّبـ

ـح من المسك ليلةً ليلاءا

وأمرت .... السُّود أن تطـ

ـبع بيضًا سقَّيتهن الضِّياءا

ما اعتقدت الحلول يا بدر في مثـ

ـلك حقّا حتَّى حللت القباءا

/ 191 ب/ لا تعدلي .... في الخضـ

ـراء إذ كنت بانةً غنَّاءا

واختصر لي منك السِّناد إلى

الهجر فقد أصبح الهوى إيطاءا

حبَّذا الدَّوح في رياضك أعوا

دًا وقينات ورقه خطباءا

والرُّبى لا تريك في حلل السُّنـ

ـدس إلَاّ ديباجةً رقشاءا

يوم تثني لحاظك الخمر سكرى

فترينا المدامتين سواءا

ص: 253

وجلا شمسها الهلال فقلنا

في الثُّريَّا حلَّ الصَّباح مساءا

ومنها في المدح:

الحليم الأوَّاه والقانت الأوَّاب يهمي حيًا ويغضي حياءا

نبوي تنجاب عن نوره الحجـ

ـب فتخفي شمس الضُّحى الآلاءا

أمناء الوحي الهداة المياميـ

ـن الشُّخوص الَّتي خلقن ضياءا

هاشميُّ الأعطاَّف إن صال أوصا

ب أراك الأنوار والأنواءا

طود حلم رسا فألقى عليه

الله من جدِّه النَّبيِّ رداءا

فانتهز فرصة السُّكوت فقد أنـ

ـطق ياسين فيه والشُّعراءا

واحترز أن يضوع فكرك في معنـ

ـى المثاني تملي عليك الثَّناءا

يمتطي كاهل التأني فإن

سدَّد سهمًا للنصر سدَّ الفضاءا

/ 192 أ/ أرسلت فكرتي إليه المعاني

كلَّ معنى يجاوز الجوزاءا

كلَّما استرفعت حجابًا من القد

رة نادى بها الجلال وراءا

حلَّ فيه السِّرُّ الإلهيُّ فانظر

تره في جبينه سيمياءا

من يكن علمه مثل علمي

لا يرى أن يقلِّد العلماءا

وله: [من المديد]

حبَّذا الطَّيف الَّذي سنحا

فرآني مثله شبحا

رام أن يخفى فنمَّ به

رائد الطِّيب الَّذي نفحا

زورةٌ كانت لمرسله

مرهم القلب الَّذي جرحا

يا أصيحابي مغالطةً

نزح الدَّمع الَّذي نزحا

إعذروني إن بكيت دمًا

الكرى في ناظري ذبحا

واقفًا بالربع أندبه

ما على العذَّال صدحا

آه واشوقا إلى ملحٍ

منه أمست في الهوى لمحا

وبنان البدر حامله

في ثريَّا الكأس شمس ضحى

وليال بات من كرمٍ

سيِّدي في الخصر متشَّحا

كلَّما عنَّت مناطقه

زادني في كفِّه قدحا

/ 192 ب/ شمت برقًا من مقبَّله

فأراني خدُّه قزحا

ص: 254

أسكرتني بابليَّته

يوم حيَّاني بها وصحا

سلَّمت راحي لريقته

حجَّة التفضيل واصطلحا

وثنايا الليل ما ابتسمت

وخليج الطَّبع ما طفحا

حار فيه النَّجم حين رأى

أدهم الظَّلماء قد جمحا

وله في صفة نهر: [من الكامل]

ومبر ينحو الصَّدى باكرته

والجوُّ روضٌ والهلال نديم

سلساله متدفِّقٌ من كوثر

في جنَّةٍ ورحيقه مختوم

صقلته وانية النَّسيم فماؤه

الفضيُّ في ذهب العقار نسيم

ينساب أرقمه فتحسب متنه

نصلًا يريك البرق وهو هزم

نازعت قمريَّ التَّرنُّم كأسها

وكأنَّه بخلوقها ملطوم

وجدي به حيٌّ وسلواني به

ميتٌ ولكن ناظري قيُّوم

حيَّته راقصةً فقبَّل ثغرهأ

فكأنَّما لثم الغزالة ريم

وكأنَّ دهم اللَّيل أول سابق

منها على حوض الصَّباح يحوم

صرفًا كما حكم المزاج فإن يكن

نارًا تشُّبُّ فإنَّها تنسيم

/ 193 أ/ ومنها في صفة الراووق:

ومهينم ألفاظه لغزيَّةٌ

يشدو فلا رملٌ ولا مزموم

من قاسم بالمعدن التِّبريِّ تظـ

.ـهره الزُّجاجة إنَّه لحكيم

يبكي وما هو باليتيم فلا ترى

إلَّا ابتسام الدُّرِّ وهو يتيم

وله من أبيات: [من الكامل]

يوم الفريق سقيت كأس فراق

فاسق الطُّول سحائب الآماق

أنفقت بعدهم التَّجلُّد فأبكهم

بمدامع تزكو على الإنفاق

وأغنَّ وكل بي سقام جفونه

فضنيت وهو مطالبي بالباقي

لمَّا سرقت بناظري من خدِّه

وردًا حمته صوارم الأحداق

قطع الكرى عن ناظريَّ تعمَّدًا

والقطع حدُّ جناية السُّرَّاق

ناديته وهو النَّديم ومطربي

ومنازعي الصَّهباء وهو السَّارقي

ص: 255

يا بدر لولا أنَّ صدغك مرسلٌ

ما آمنت بك أمَّة العشَّاق

لك آيةٌ من ليلةٍ تدعو إلى

توحيد وجهك ساعة الإشراق

أو ما .... وهي كأنَّها

دمع الأسى وحشاشة المشتاق

ولها من الدُّرِّ الثَّمين قلادةٌ

صانته بين ترائب وتراقي

/ 193 ب/ إنِّي إذا ساقي الحميَّا شاقني

شمَّرت في شربي [الطِّلا] عن ساق

سيما إذا اعتلَّ النَّسيم وغنَّت الـ

ـورقاء خلف ستائر الأوراق

لحنًا ترى الإعراب فيه ظاهرًا

ترويه نصّا عن أبي إسحاق

وله: [من المتقارب]

ألا عاطنيها فثوب الأصيل

رقَّ فضمِّح بالزَّعفران

إلى أن تجرِّد كفُّ الصَّباح

على حبشيٍّ الدُّجى هندواني

وحتَّى تراه قتيلًا به

ومن دمه ضرِّج الخافقان

وله: [من مجزوء الرمل]

ناظر الظَّماء ادعج

وجبين الصُّبح أبلج

أترى صدغك يا تر

كيُّ بالسَّالف عرَّج

كيف أبقى ظلَّه المسـ

ـكيَّ في الورد البنفسج

ورد خدٍّ كلَّما شو

فه بالعين تضرَّج

يا له روضًا متى ما

صوَّح الرَّوض تارَّج

فيه من فيه غديرٌ

للحميَّا يتموجَّ

هكذا من طلب الدُّر من المعدن لجَّج

/ 194 أ/ ربَّ ليلٍ طرفه الأد

هم بالظَّلماء مسرج

رعته بالكأس .....

..... حتَّى تتبلَّج

يا نديمي فاختيِّ الـ

ـجوّ والرَّوض المدَّبج

ص: 256

فاسقنيها جذوةً

أبهى من الشَّمس وأبهج

وله: [من الكامل]

إنِّي إذا قعد الملوك عن العلا

وطلابها ألفيت مجدي قائما

وأبيت يقظان العزائم ساهرًا

أسعى لها إن بات غيري نائما

وأعدُّ بذلي للألوف مغانمًا

إن عدَّها يومًا سواي مغارما

أهب المضمَّرة العتاق صوافنًا

وأبثُّها يوم الطِّراد صلادما

في أيِّ يوم لم أجرِّد صارمًا

منِّي وأغمد في المفارق صارما

كالنار والماء اجتماعًا عالم أزل

في الحالتين محاربًا ومسالما

أتشام غير بروق جودي لا ومن

أنشا أنامل راحتيَّ غمائما

ويلوذ ملهوفٌ بغير صنائعي

لا والَّذي أنسى بذكري حاتما

وله في الملك الأشرف موسى بن الملك العادل: [من السريع]

/ 194 ب/ علمت أن الجيرة المتهمين

أمسوا لجفني بالكرى متهمين

لا والهوى إنَّ يميني به

راية صدق رفعتها اليمين

ما زال إنساني من دمعه

يعوم في بحر ويطفو سفين

ولؤلؤيُّ الثَّغر صهباؤه

نشوتها تعزى إلى أندرين

وما انتسب اللَّيل إلى رفعه

حتَّى أعار الصُّبح صبح اليقين

وأظهرت آية برهانه

في سبّه المسك طريق اليقين

لولا هدىً آمنني نوره

لحقت تيهًا في الضَّلال المبين

نبيُّ حسنٍ آمنت بالَّذي

يوحى إليه أمم العاشقين

تقول أسباب غرامي به

كفى بنا يا مدَّعي حاسبين

سامرته أسمر لو لم أكن

بأزرق الكحلاء منه طعين

يدير منها جلَّناريَّةً

يطفو عليها حبب الياسمين

ما انتشرت لليل راياته

واتَّقدت في الكأس إلَّا طوين

ولا غزاني الهمُّ إلَاّ ولي

من نصرها يوم فراري كمين

عجوز خدرٍ ما اجتلاها فتى

إلَّا فتاةً وهي في الغابرين

إن أظهر البدر لها كوكبًا

كانت له الشَّمس من السَّاجدين

ص: 257

/ 195 أ/ كيف التسلِّي إن نهاني النُّهى

عنها وقد أمست من الآمرين

في طاعة العشق لها لم يزل

قلبي عليها مثل ثوبي رهين

لا والَّذي رايات إحسانه

مستورة العدل على العالمين

ملكٌ له آية ملك أتت

بحجَّة الرَّدِّ على المبطلين

برهانها من غير سوء يدٌ

يخرجها بيضاء للناظرين

تقتبس الأعين من نورها

هدىً لمن جاء من المطلين

آيته الكبرى إذا ما طغى

فرعون دهر يوسفيُّ السِّنين

تنبجس الأنواء في كفِّه

تبرًا على أسباطه المجتدين

إن شاقه الهنديُّ يوم الوغى

كان إلى الرّوح من المسلمين

فمن تلا من وحيه آيةً

رأى المنايا فيه حقَّ اليقين

معجزةٌ لو بلغتها العصا

ما كان موساها من الآمنين

من شكَّ في السَّاعة واختار أن

يظهرها وهو من الموقنين

فلينتظر رحمته وليخف

عقابه فهو القويُّ الأمين

شدَّة بأسٍ رحمةٌ بينهما

مع لذَّة العفو لين

يا واهب الدُّنيا على ظنَّة

بأنَّه فيها الجواد الضَّنين

/ 195 ب/ لو أنَّ أهل العجل أصحبتهم

سناك ما زالوا من المهتدين

ولو رأى سحرك ملقي العصا

ما كان للبحر من الضَّاربين

نوديت من جانب طور العلا

إنَّك يا موسى من الظَّاهرين

وله: [من الكامل]

إن رمت أن تسلو فسل موسى إذا

وهب الجزيل سجيَّة الإقلال

أو كنت تطمع في الخيال فقل له

يخلي ذراه من بني الآمال

أو شئت أن أحنو فقل ليمينه

تحنو مواهبها على الأموال

ملكٌ إذا حاولت قبله كفِّه

قابلت منها قبلة الإقبال

فحديثها في الجود يروى مسندًا

عن كوثريِّ بنانه السًّلسال

ص: 258

فلسيبه ولسيفه ما ينثني

أو يقتني من أنعمٍ ومعالي

وله في الصفي بن شكر، وزير الملك العادل:[من الكامل]

لو هبَّ مسكيُّ النَّسيم عليلا

لشفى على بعد المزار عليلا

فاستنش من نفحاته خبر الحمى

إن كان يلقى السَّائل المسؤلا

علَّ الكحيل الطَّرف يرسل هجعةً

فيروز طرفًا بالسُّهاد كحيلا

/ 196 أ/ الملبسي من خصره ونحوله

ثوبي نحول لم يكن منحولا

قمرٌ أرتِّل ذكره فيزيدني

شعفًا بتذكاري له ترتيلا

ألقى عليه الكاشحون برودهم

قولًا عليَّ من السُّلوِّ ثقيلا

أفتيك مقلته متى يجد الشِّفا

من كان يومًا بالعيون قتيلا

وسليم صدغيه سبيلك لا ترى

يومًا إلى برء الغلام سبيلا

يا سمهريَّ القدِّهل من نهلة

من فيك تأبى أن تبلَّ غليلا

هجر الرُّقاد عداة هجرك مقلتي

هجرًا على مرِّ الزَّمان طويلا

إرقد فإنَّ لناظري في دمعه

سحّا إذا جنَّ الظَّلام طويلا

ويلاه من عضبٍ بجفنك جفنه

أبدًا تراه مغمدًا مسلولا

فكأنَّه عزم الوزير استلَّه

فرآه مشحوذ الغرار صقيلا

الصَّاحب الصَّدر الَّذي أضحت له

في المجد تيجان الملوك ذويلا

ملكٌ إذا ماهزَّ عطفًا للندى

فكأنَّه اغتبق العداة شمولا

ألقى عليه الله سمت نبيِّه

وتعبّد ما لم يكن معقولا

فالوحي منه يحوك وشك ثنائه

لولا القريض لجاءه تنزيلا

والدِّين لولا أن صاد صفيِّه

شرعًا وبدَّل وصفه تبديلا

/ 196 ب/ وعلاه لمَّا أحكمت آياتها

بالنَّصِّ حقًا فصِّلت تفصيلا

يا سيِّد الوزراء دعوة مخلصٍ

يتلو ثناءك بكرةً وأصيلا

يا من تكفَّل خاطري بمديحه

حتَّى يكون بما أتاه كفيلا

إن كان عن فحوى صفاتك قاصرًا

فالطّول منك يزيده تطويلا

ص: 259

يا كاشف الغمَّاء إن هي أظلمت

واستبهمت طرقاتها تأويلا

إنَّ الحبى لا تستتبُّ لعاقد

ما دام يومًا بالحباء نحيلا

فاقدح زناد العزم فيَّ بهمَّةً

تذر القضاء بحدِّها مغلولا

فأثيل مجدك لم يزل يبني لمن

والاك مجدًا لا يزال أثيلا

وقفت صفاتك في طريق مدائحي

فبهتُّ لا وصفًا ولا تمثيلا

وعجزت عن إدراكها فانظر أخا

فضل أقام على القصور دليلا

وله من أبيات: [من البسيط]

ما دمت أوضح إعجامي بإفصاحي

طورًا وأشرح إشكالي بإيضاحي

لا أشرقت في يد السَّاقي المدير لها

في حندس اللَّيل إلَّا شهب أقداحي

نيران أرواحها بالماء مظلمةٌ

من الزُّجاجات في أشباه أشباح

درُّ الفواقع مسباحي وغرَّتها

إن أسبلت طرَّة الظَّلماء مصباحي

/ 197 أ/ فداو دائي بها فهي الدَّواء له

وأقبل بها توبتي إن رمت إصلاحي

واطرد شياطين أحزاني إذا تليت

بشربها في الدُّجى آيات أفراحي

وقل لمن لام فيها لست تاركها

وكيف أدفع فضل الرَّاح بالرَّاح

وما وجدت لحظِّ الهمِّ إن سطرت

حروفه مثلها في القلب من ماحي

يا صاح إن صاح داعيها فلبِّ وقل

قد ضلَّ من ظلَّ من كاساتها صاحي

أطع هواها ودع عصيان ما أمرت

لعاذل في هوى الصَّهباء ملحاح

واقدح زناد مسرَّات القلوب بها

في نور أقداحها أو نور قدَّاح

وله من أبيات، طلبها منه الملك الصالح محمود بن محمد بن أرتق، لمعنى ذلك في نفسه، سقطت من الأصل:[من المتقارب]

. الجود له إذ رأيت

ثمَّ نعيمًا وملكًا كبيرا

سقاني من كفِّه الكوثريِّ

لا لغو فيه شرابًا طهورا

فآمنني أن أرى في الزَّمان

يومًا عبوسًا ولا قمطريرا

فرد ظلَّه مستجيرًا تجده

لا شمس فيه ولا زمهريرا

نظرت إليه فأهدى إليَّ

من بشره نضرةً بل سرورا

وزيرٌ معاليه منصوصةٌ

عليه ولكن أياديه شورى

ص: 260

/ 197 ب/ متى جزم الشَّرط من أمره

أصاب الصَّواب فأمضى الأمورا

يمين الخلافة طلت النُّجوم

على شأوها فادَّعين القصورا

نبوَّة فكرك آياتها

سطورٌ من الغيث تشفي صدورا

بعثت بها فمنحت الشَّكور

على شكره ومنعت الكفورا

فأخبار مبتدات الوغى

بنصرة رأيك تأتي أخيرا

تبارك منزل تأييده

عليك في الدَّست أرسى ثبيرا

ومن سدادك سدُّ الثُّغور

فأمسى سوارًا عليها وسورا

إلى ابن عليّ المهيب الوقور

فليت الفلاة وهادًا وقورا

فلا وخدت بي إليك الرِّكاب

إذا لم أكن لك عبدًا شكورا

ومن منثوره في دعاء الشاعر:

((لا زال وجه البيان منقولًا من تسويده، إلى تبييضه، وخاطره يذبّ عن الممالك بأسياف قريضه، ويخلع على الحمائم أطواقًا من أعاريضه)).

وله:

((لا زالت بوارق بشره تبسط الآمال، وفي مرآة خلائقه/ 198 أ/ تتراءى وجوه الإقبال)).

ومن كتاب كتبه:

((أعزّ الله سلطان المقام العالي، ولا زالت درج المعالي، مواطئ صعوده، ومواطن سعوده، وجعل خوفه بأسه، ومن عفوه هذا مصدّقًا لوعيده، وهذا محققًا لوعوده، وأمدّ جند كتائبه بكتائب جنوده، ولا برحت حباة الأيام متحدة، محال سجودها مجالس سجوده.

هذا البشرى تنقل أحاديث النصر مسلسلة، وتشافه بحملها مفصّلة، مسندة عن صفائح القضب، لا صحائف الكتب؛ فإنَّ السيوف أصدق منها

ص: 261

إنباءً، والرياح أقصد منها إيحاءً، مسفرة عن صباح بالنصر كفيل، ويوم عرض في الفخار طويل)).

ومنها:

((إنَّ العدو ينهض من مجثمه في يوم كذا في جيش غصّت به لهوات الأرض، كأنَّ عرضه يوم العرض، تتموج غمرات أهواله، وتتأجّج جمرات أبطاله، قد امتطت عقبان الخيول منهم أجادل، وسلّت على غدران الدروع من السيوف جداول)).

/ 198 ب/ وله:

((ولا زالت مبارّه تفوت الميادين، وداره بعبق الشَّذا دارين، وعلى ناره هدًى للسارين)).

وله:

((صرت لكلّ غربة خدنًا، ولكلّ تربة ابنًا، حتى إذا عانيت عيناي جبال رملها، رميتها من همومي بمثلها، تارة أقذف في لهواتها، وافتلي نواصي فلواتها، إن أظلم ليل كنت له زميلًا، أو ضلَّ نجم كنت له دليلًا، فلا مجلس إلِّا سرج تطرب نغمات صهيله، ولا منادم إلَّا من يعرب عن ..... )).

[680]

محمَّد بن عبد الملك بن عبد الله، أبو عبد الله الوظائفيُّ الحاجب.

كان أحد حجاب الديوان العزيز- مجّده الله تعالى- ويتولى حمل ما ينعم به على الرسل الواردين إلى أبواب الديوان العزيز، من ملوك الأطراف.

وكان عنده أدب، ويقول الشعر جيدًا، وتوفي في شهر ذي الحجّة/ 199 أ/ سنة تسع وعشرين وستمائة، في إحدى القرايا المقاربة لبغداد، وكان قافلًا من سفر.

أنشدني الأجل العالم تاج الدين أبو الحسن علي بن أنجب بن عثمان بن عبيد الله

ص: 262

البغدادي، بمدينة السلام- أدام الله سعادته- في أوائل جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وستمائة؛ قال: أنشدني محمد بن عبد الملك الوظائفي لنفسه هذه الأبيات، يعرض فيها بذكر الوزير أبي الحسن محمد بن محمد بن عبد الكريم القمي، وولده حين قبض عليهما الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين، ويذكر سوء صنيعهما، ويحرض فيها على قتلهما بألفاظ رماة البندق، المصطلح عليها، وتوصل في عرضها، لكونه كان موتورًا منه، وحكى أنه عرضها وهي:[من الكامل]

لقد انتحى المستنصر المنصور

يوم المكين كما انتحى المنصور

ملك الخراسانيُّ ذاك بعينه

وكذا خراسانينا المأسور

يشير إلى أبي مسلم الخراساني- صاحب الدولة- وقد جعل قم من خراسان.

لا تبقه يا خير من وطئ الثَّرى

فالرَّأيُّ أن لا يهمل الموتور

/ 199 ب/ وأقصم عرى عنق القصير فدونه

في المكر والكيد الوكيد قصير

القصير الأول القميّ؛ لأنه كان قصيرًا؛ والثاني قصير الذي احتال في أخذ ملك الزَّباء.

مولاي في وجه الغداة صرعت مصـ

ـطبحًا وطير المخِّ فيه وكور

أخليت منه الجوَّ في ندب وكم

حاملت عليه ولم تنله نسور

خيَّشته لكن مفيقًا فاتَّبع

ما سنَّه في البندق الجمهور

والرأي تذكية المفيق فإنِّه

ما زال يسكن روعه فيطير

فالكيُّ مخلفه لديه واضعٌ

في خدِّه عضدٌ له وظهير

لا تأمنن عليهما في مجلسٍ

ضنكٍ فعندهما له تدبير

كم هارب من قلَّة في قلعةٍ

ولكم نجا بقيوده مطمور

فاقتلهما بالسَّيف أحوط فارسٍ

لهما وهذا أول وأخير

ضلَّ المكين بكلِّ ما صنعت به

آراؤه في دسته المغرور

ص: 263

وتر الخلائف بالخلاف ولم يكن

قد ردَّ مرسوم الملوك وزير

فعزمت فيه عزمةً نبويَّةً

كادت لسطوتها السَّماء تمور

حرست ثغور المسلمين بعزله

وتبسَّمت للعالمين ثغور

/ 200 أ/ بأسٍا شديدًا لو يمرُّ بيذبل

وثبير زلزل يذبل وثبير

وسحاب أنعمك الجسام إذا همى

لم يبق في الأرض الوقور فقير

فاسلم أمير المؤمنين تكفُّ عنَّا الجور من أربابه وتجير

[681]

محمَّد بن الحسين بن محمَّد بن الحسين بن عليِّ بن محمَّد بن عبد الصمد، أبو المؤيد بن أبي إسماعيل الطغرائيُّ، الأصبهانيُّ الأصل، الموصليُّ المولد، الدؤليُّ.

هو من أولاد أبي الأسود الدؤلي، في رواية أبي حامد محمد بن محمّد الكاتب الأصبهاني.

كانت ولادته في سنة تسع وأربعين وخمسمائة؛ روى عن الأمير أبي المظفر أسامة بن مرشد بن علي بن منقذ الكناني، وأبي عبد الله محمد بن يوسف البحراني شيئًا من أشعارهما.

وهو الكاتب الوزير العالم النحرير، حكيم عصره، وفيلسوف دهره، من بيت وزارة وجلالة، [لم] يرثهما عن كلالة، درس العلوم الحكمية، واسترقّ رقابها، وتبحر في ضروب الفضائل وكشف نقابها، فذلّل له حرونها، وتسهَّلت/ 200 ب/ لديه حزونها، فأضحت منشورة أعلامها، مطرزة أكمامها، ولم يذر منهجًا من البلاغة إلّا سلكه، ولا حرّاً من بديع الكلام إلّا ملكه، حتى صار الإمام الكامل، يشار إليه في وقته بالأنامل.

ص: 264

حدثني الصاحب أبو البركات المستوفي- رحمه الله من لفظه بإربل سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، في تاريخ إربل من تأليفه، وساق ذكر أبي المؤيد، فقال: ((الوزير الإمام سيد الأفاضل، وصدر الأماثل، وواحد الأكابر، ومن يضرب بفضله المثل السائر، ذو الفكرة المتوقد شعاعها، والبديهة المرضية رويتها وسماعها، المفتن في علوم الأوائل والأواخر، الضارب في فنون الفضائل بالسهم القامر.

ولي والده أبو إسماعيل الوزارة بإربل مدّة، ثم عزل عنها، وكان أبو المؤيد هذا في رفاهية من النعمة ناعمة، وبلهنيةٍ من العيش دائمة، لا تنزل الأحزان ساحته، ولا يعقب التعب راحته، حتى عزل والده، فسلبه الدهر دعته، وارتجع منه العيش الهنيّ وديعته، فتنكرت منه ومن والده معالمها، واستوى في الرقة/ 201 أ/ لهما شامتهما وراحمهما، ورحلا إلى الموصل، فأقاما بها على أنكد عيش وأمِّره، وأكره منقلب وأضرِّه.

وكان مجاهد الدين أبو منصور قايماز بن عبد الله الزيني- رحمه الله تعالى- يصل والده في كل شهر، بما يقوته، ولا يفضل منه ما يصل أبا المؤيد، فرثَّت بّزته، وساءت حالته؛ فرأيته في الموصل يرد إلى شيخنا أبي الحرم مكي بن ريان المكي النحوي- رحمه الله يأخذ عنه شيئاً من النحو، وهو خامل الذكر، مقسم الفكر، مخالطًا أكثر أمانيه؛ بقوله:[من الوافر]

((ألا موتٌ يباع فأشتريه))

وكان بينه وبني أبي عبد الله محمد بن يوسف البحراني الإربلي صداقة وكيدة، مملوءة من المودة عبابها، فسألته أن يكتب له، إلى خاله أبي غالب عبد الواحد بن مسعود ابن عبد الواحد بن أحمد بن العباس بن الحسين وكان بواسط يتصرف في الأعمال الإمامية أبياتًا يشكو فيها والده، ويذم زمانه، فقال على لسانه:[من الطويل]

ص: 265

أشكُّ بأنَّ الحال رقَّت وليس لي

إليك سوى المعروف من يتوسَّل!

/ 201 ب/ وأنَّ أبي والحادثات تعاونا

عليَّ ولا يصفو مع الضَّيم منهل

وما نزغ الشَّيطان بيني وبينه

بشيءٍ سوى أنِّي إمرؤٌ ليس يجهل

إذا ما رأيت المرء ليس بنافعٍ

لديه جميلٌ فالقطيعة أجمل

ولمَّا دعاني البين وانشقَّت العصا

أتيتك لمَّا لم يكن [عنك] معدل

ثم أنفذها في كتاب إلى خاله، فأظنّه- إن شاء الله- أمره أن يصل إليه، فمضى وأقام عنده مدَّة، فنكب خاله؛ ورحلا إلى السلطان الملك الناصر يوسف بن أيوب ابن شاذي- رحمها لله- فأنزل خاله أحسن منزل، وولاه النظر في أموال خزانته، وأقاما إلى أن توفي السلطان- رحمه الله واتصلا بولده الملك الظاهر غياث الدين غازي- رحمه الله فخدمه خاله مدّة.

ثمّ عرض له مرض منعه عن الخدمة، فتوصل أبو المؤيد إلى خدمته فخدمه، فما زال يهمي عليه سحائب نواله، وتسري إليه سرى الخيال طوارق أفضاله، حتى صار ذا جدةٍ وافرة، وسعادة فاخرة؛ وألقى إليه مقاليد أموره، واكتفى به في غيبته وحضوره.

فلقد حدثني من أثق به؛ أنه وصله من/ 202 أ/ غير الحسابة بمال جزيل، ونوال جليل، يقارب العشرة الآلاف الدينار، فلم يزل ينمى غرسه، وتشرق شمسه، حتى صار أحدوثة الرُّكبان في الحجة على تقلّب الأعيان.

أخذ علم الأوائل عن شرف الدين المظفر الطوسي، وكان عنده منه معرفة كتاب أوقليدس، والعمل بالبركار التام؛ وأشياء كثيرة تليق بمثله من الصدور.

وله رسائل عذبة، وألفاظ رطبة، ومعانٍ أرق من النسيم، وفصول أحسن من نضرة النعيم؛ وأنا ذاكر منها ما ذكرته من خطّه، ووقفت عليه من غيره، ما تروق الأسماع أسجاعه، وتشوق الطباع أوضاعه.

وكتب إلى أبي عبد الله محمد بن يوسف البحراني: [من الوافر]

وأبرح ما يكون الشَّوق يومًا

إذا دنت الدِّيار من الدِّيار

لو أن أشواقي إلى المجلس الفلاني؛ أسماه الله وأيده، وكبت أعداءه وحسَّده،

ص: 266

وزنت لرجحت على ثبير وشمام، ورجحان سيدي بمروءته على الأنام، وقد كنت واصلت تقصيري في إصدار الخدمات إلى أعالي مجلسه تزجية مني للآمل، والوعد أن سيكون ذلك منّي ضمن أمور في نفسي، حال بيني وبين بلوغها الأقدار التي لم تزل/ 202 ب/ تحول دون الأغراض وتفرض، وتعدو على الآمال وتمرض؛ وبالجملة ففحوى أحوالي علمه محيط بها قياسًا واستقراء، وإن لم يحط بتفصيلها أخبارًا.

حدثني القاضي الإمام أبو القاسم عمر بن أبي الحسن الحنفي- أدام الله سعادته- قال: ((كان الوزير أبو المؤيد فاضلًا عالمًا، واسطة خير عند مخدومه، محبًا لأهل العلم، فصيح العبارة، حسن الإنشاء، قد أخذ من العلوم بحظٍ وافر؛ وكان قيّمًا يعلم الهندسة.

وكانت وفاته يوم الخميس الخامس والعشرين من صفر سنة سبع وستمائة بحلب، ودفن في داره، ولم يزل مدفونًا بها، إلى أن بيعت على ورثته، ونقل منها إلى مشهد بمقام إبراهيم الخليل- عليه السلام.

ثم قال: وأنشدني إسماعيل بن محمد بن الحسين قال: أنشدني أبي لنفسه، ولم أعرف له نظمًا غير هذين البيتين:[من البسيط]

إنَّ العذارين ما إن زادني بهما

إلّا فؤادٌ تذوب النَّار من حرقه

ما شان حمرة خدَّيه اخضرارهما

أغضُّ شيء يكون الورد في ورقه

[682]

محمَّد بن المنذر بن عبد الرحمن/ 203 أ/ بن أبي عقيلٍ، أبو عبد الله اليابريُّ.

كان والده من بلاد المغرب.

وولد أبو عبد الله ببغداد، وأمّه بغدادية، وتفقه بها على يوسف بن محمد

ص: 267

الدمشقي، وسافر الكثير، وسمع بدمشق الحافظ أبا القاسم علي بن الحسن الدمشقي، وقرأ عليه معظم تاريخ دمشق، وأبا المظفر مظفر بن أسعد بن الحكيم.

ثم اتصل بخدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب- رضي الله عنه وولي له أعمالًا، ثم من بعده بخدمة ابنه الملك العزيز عماد الدين عثمان- صاحب الديار المصرية- ثم انتقل بعد موته إلى حلب، وسكنها، واستخدمه الملك الظاهر غياث الدين غازي على قناة حلب، وأجرى له رزقًا حسنًا.

حدثني القاضي أبو القاسم- أيده الله تعالى- قال: كان أبو عبد الله يمتنع عن إسماع شيء من الحديث النبوي؛ فإنَّني فاوضته في ذلك مرارًا؛ فقال: أنا لا أستجيز رواية الحديث، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها)) الحديث .. وأرى المحدثين، يأخذون عن من لا يفهم شيئاً، وتقع منهم أوهام إلى أشياء من هذا القبيل؛ وباحثته في ذلك مرارًا، وهو مصرّ على ما سوّلت/ 203 ب/ له نفسه.

وسألته عن مولده، فقال لي: تقديرًا إلى هذا التاريخ ثمانون سنة؛ فإنني أدركت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة؛ وكان سؤالي له في سنة إحدى وعشرين وستمائة؛ قال: وولدت ببغداد.

وتوفي بحلب في تاسع عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وستمائة، ودفن خارج باب النصر، في مقبرة مشهد الدعاء.

وأنشدني القاضي أبو القاسم- أيده الله تعالى- قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن المنذر، إملاءً من لفظه لنفسه، في الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب- رضي الله عنه:[من الطويل]

بدت فرأيت البدر في حلَّة الصَّبا

وماست فخلت الغصن ميَّله الصَّبا

وهزَّت قوامًا كالرُّدينيِّ وانثنت

مغادرةً قلبي المعنَّى وقد صبا

وراشت نبالًا من جفونٍ وجرَّدت

حسام لحاظٍ فلَّ صبري وما نبا

فساومتها وصلًا فقالت مجيبةً

أخلت وصال الغانيات مسيَّبا

إذا ما طلبت الوصل منهنَّ لم تجد

إلى ذهبٍ يومًا إلى ذاك مذهبا

وإن تك ذا مالٍ فأنت الَّذي إذًا

نعيد بعيد الشَّيء منك مقرَّبا

ص: 268

فقلت لها إنِّي امرؤٌ ربع ماله

غدا مقفرًا من ساكنيه مخرَّبا

/ 204 أ/ فقالت تزوَّد حسن ظنِّك واصطحب

رجاءك واجعل صدق قصدك مركبا

إلى ملك لو لامست كفُّه الثَّرى

لعاد الثَّرى باللَّمس في الحال مخصبا

إلى من له أضحت لنا مصر جنَّةً

ومسكنها من جنَّة الخلد أطيبا

وأنشدني، قال: أنشني أيضًا لنفسه من أبيات فيه: [من الكامل]

يا عاذلي دع عنك عذل الواله

فالعذل منك يزيد في بلباله

لو كنت شاهدت الَّذي هو مغرمٌ

من أجله ما كنت من عذَّاله

رشا يحاكي الغصن في حركاته

ويفوق نور البدر عند كماله

لم أنسه أشكو إليه تحصفًا

ويدي لفرط الوجد في أذياله

ناديته يا من بسهم لحاظه

قلبي أصاب ولم يجد بوصاله

وأذاقني كأس التَّفرق عامدًا

وجنى عليَّ بمنع طيف خياله

رفقًا بمن أمرضته ببعاده

واعطف على من لم تغب عن باله

واسأل عن الباكي عليك بأدمعٍ

تحكي ندى من عمَّ فيض نواله

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه من أبيات: [من الكامل]

/ 204 ب/ ثمر المعالي لا ينال وإن دنا

إلّا بأطراف الصَّوارم والقنا

وإلى رفيع المجد يومًا ما ارتقى

في راحة إلَّا الَّذي اقتحم العنا

وعلى المراد من الرِّيادة ما احتوى

إلا الَّذي أعطى صوارمه المنى

فانهض نهوض أخي اعتزامٍ صادقٍ

ما قام يدعو الأمر إلَّا أذعنا

كصلاح دين الله والملك الَّذي

يرجى ويخشى إن تباعد أو دنا

فيه لأيَّام الزَّمان محاسنٌ

إذ جاء يدعى في الملوك المحسنا

كم من يد أسدى وكم من منَّة

غطَّى بها فعل المسيء فأحسنا

كم وقفةً شهدت له وثباته

وثباته فيها بمشهور الغنا

سل عنه ألسنة الرِّماح فإنَّهأ

تنبيك عمَّا أودعته الألسنا

واستمل تملي المرهفات حديثه الـ

ـمروي عن يوم الكفاح الأحسنا

ما بات إلَاّ مستجيشًا عزمه

فتراه في سفرٍ إذا ما استوطنا

ص: 269

وأنشدني، قال: أنشدني محمد بن المنذر لنفسه: [من السريع]

بالجدِّ تعطى الجد لا بالمزاح

وما أفاد الحمد إلَّا السَّماح

والطَّير لا تحصل يوم الثنا

على المنى إلَّا بخفق الجناح

/ 502 أ/ وما حوى الرَّاحة إلَّا الَّذي

سعى إلى كشف الغنا ثم راح

فدع تصابيك وخلِّ الصِّبا

ولا ترح يومًا إلى شرب راح

واسع إلى نيل العلا مثل ما

سعى إلى الملك المهيب الصَّلاح

وأنشدني، قال: كتب أبو عبد الله لنفسه: [من السريع

يا قلمي نب في الثَّناء المقيم

على كمال الدِّين ابن العديم

وقل له عنِّي إذا جئته

في منصب الدَّرس الجليل العظيم

يا من عدمنا المثل في فضله

يا وارث المجد الأثيل القديم

قد قيل لي إنَّك قد بعتني

بالغبن والغبن فداء السَّليم

قدَّمت غيري ثمَّ أخَّرتني

في هذه الدَّار الَّتي لليتيم

وأنت بالفرض فأدرى وبالأصلح والمفسد طلٌّ حكيم

يسرّ بالدَّهر من عالم

ولا يرى دينار .... العليم

فارجع إلى ما أنت أهلٌ له

من سؤد كلُّ لديه خديم

والأجر والأجرة حصَّلهما

بعد الثَّنا الباقي عليك المقيم

من ناظمٍ درَّ اليتيم الَّذي

يطرب من يسمعه والنَّظيم

/ 205 ب/ فكتب إليه القاضي أبو القاسم جوابها: [من السريع]

يا أيُّها الصَّدر الفقيه العليم

ومن له الإحسان والفضل خيم

أرسلت نحوي أسطرًا نظَّمت

جواهر اللَّفظ بمعنًى قويم

تعير ماء المزن من لطفها

وتكسب الرِّقَّة مجرى النَّسيم

تضمَّنت عتبي ولا ذنب لي

يا أيُّها المولى الصَّديق الحميم

ص: 270

أقسم بالله وآياته

ونعمة المولى المليك الرَّحيم

ما بعت مولاي ولكنَّني أشـ

ـتريته وهو العزيز الكريم

وأنَّ بيع الدرِّ في سمطه

ومشتري البهرج حمقٌ عظيم

والعذر قد أبديته قبل أن

يأتيني [منك] العتاب الأليم

فاعذر سديد الدِّين أو لا فجد

بالصَّفح عن ذنبي فأنت الحليم

إنِّي على حبِّك يا سيِّدي

وصدق ودِّي لك ما إن أريم

وقال: [من الخفيف]

قال عبد الله يعزى إلى المنذر

يرجو الخلاص يوم العرض

بالَّذي يغفر الذُّنوب سوى

الشِّرك إله السَّما معًا والأرض

/ 206 أ/ قل لمن قال: إنَّني رافضيٌّ

لست تبرا في العرض من دين عرضي

إذا أثني على الَّذي رفض البا

طل في كلِّ سنَّة مع فرض

وبحبِّ النَّبيِّ والآل والأصـ

ـحاب في البسط دائمًا والقبض

والَّذي لا يرى المودَّة في القر

بى عليه فرضًا رهين الرَّفض

ونصوص الآيات جاءت بلا ريـ

ـب على الآل بالثَّناء المحض

وبذاك الأخبار جاءت بإسنا

د صحيح البنا عديم النَّقض

وإذا لم على النَّبيِّ مع الآل

تصلِّي وقت التَّشهُّد تقضي

وإله العبد يعلم ما في الـ

ـقلب خاف من فرط حبٍّ وبغض

ومسيء الظُّنون بالخلق لا ينـ

ـفكُّ يومًا عن إثمه في البعض

وإذا أنت لم تكن حسن الظَّنِّ فأعرض عن سوء ظنِّك وامض

إذا لم يقر شخصٌ بشيءٍ

فبماذا عليه في الصَّمت تقضي

وعن الخوض قد نهينا قديمًا

في الَّذي مرَّ قبلنا غير مرضي

من نزاع بين الصَّحابة والآ

ل خاف إليه يفضي

والخطا والصَّواب لا بدَّ أن يحـ

ـدث بين الخصمين في كلِّ مفضي

مع علم بأنَّ هذا وهذا

عادما عصمة بها الشَّرع يقضي

/ 206 ب/ وغبيٌّ من قال من غير علمٍ

كطبيب لم يدر جسَّ النَّبض

مثل كم يزعم الجهول وقال

الفرس لم اعتد الحامي العض

ص: 271

واعتقادي هذا وعقدي وقلبي

لم يقابل إبرامه بالنَّقض

والبراهين كالسَّماء إذا جاء

تك أغنتك عن دليل الأرض

فافخروا الآن يا ذوي العلم بالعلـ

ـم على من لم يدر معنى الرَّفض

وهو التَّرك في الحقيقة للشَّيء إذا ما قابلته بالدَّحض

واشكروا الله رَّبكم واسألوه

أن يديم النُّعمى لأهل الأرض

ببقاء الملك العزيز عماد الدِّين بن الغازي الشَّهيد المفضي

برضى رَّبه الكريم إلى فر

دوس دار البقاء جزاء القرض

وبقا كافل الملوك مع الملـ

ـك فلا زال قائمًا بالمرضي

ذي الأيأدي الملك الرَّحيم شهاب الدَّين غوث الورى زمان البرض

لا خلت رتبة الممالك منه

أمره نافذٌ بختمٍ وفضِّ

وعلا جدُّه وخصُّ برفعٍ

وثوى ضدُّه وخصَّ بخفض

كلَّما لاح نور زهر السَّماو

ت وما فاح نور زهر الأرض

[683]

محمَّد بن النفيس بن مسعود/ 207 أ/ بن أبي سعد بن عليٍّ، أبو سعد المعروف بابن صعوة الفقيه السَّلاميُّ.

قال أبو الحسن القطيعي: شاب حسن الشارة والخلق، من أهل القرآن والفقه، كان يسمع معنا الحديث، وروى اليسير.

وتوفي في ذي القعدة سنة أربع وستمائة، ودفن بمقبرة الزرادين بالجانب الشرقي من بغداد.

ص: 272

قال: وأنشدني لنفسه: [من المديد]

رقَّ يا من قلبه حجر

لجفون حشوها سهر

ولجسم ما لناظره

منه إلَّا الإسم والأثر

فغرامي لو تحمَّله

صخر رضوى كاد ينفطر

إنَّ لومي في هواك لمن

شرِّ ما يجري به القدر

يا بديعًا جلَّ عن شبه

ما يداني حسنك القمر

صل ووجه الدَّهر مقتبلٌ

فزمان الوصل مختصر

كما رأينا وجنةً فتنت

فمحا آثارها الشعر

[684]

محمَّد بن معمر بن عبد الواحد/ 207 ب/ بن رجاء بن عبد الواحد بن محمَّد بن الفاخر بن أحمد بن محمَّد بن القاسم بن الفاخر بن محمَّد بن النعمان بن إسماعيل بن اللقيط بن إسماعيل بن عبد الرحمن ابن كثير بن ربيعة بن سمرةً بن حبيب بن عبد شمس بن عبد منافٍ.

قال أبو الحسن القطيعي: هو بخطّ اللفتواني، وافق لهذا إلى الفاخر الثاني، ثم بعده محمد بن النعمان بن المنذر بن إسماعيل بن اللقيط بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن كثير؛ ثم وافق إلى آخره، وهو بخط محمد بن عبد الواحد بن الحافظ الدقاق، عم معمر من قبل الأم: معمر بن عبد الواحد بن جابر بن عبد الرحمن بن محمد بن الفاخر بن محمد بن بشر بن المنذر بن النعمان بن إسماعيل بن سعيد بن

ص: 273

إسماعيل بن عبد الرحمن بن سمرة، قال لي محمد بن معمر. وهذا هو الأصح في ظني، أبو عبد الله الأصفهاني الفقيه الشافعي.

قال أبو الحسن القطيعي: أنشدني محمد بن معمر بن عبد الواحد لنفسه:

[من الكامل]

شوقي إلى من بالعراق براني

يا صاحبي نجران ما تريان

فجوًى حكى وخز القنا من شانه

وهوًى حكى نيل المنى من شاني

والبرق والورقاء من أعوانه

والدَّمع والإرنان من أعواني

/ 208 أ/ فإذا شجا برقٌ أعان مدامعي

وإذا شدا ورقٌ شفى إرناني

لو لم يكن إلَّا معرسَّ ساعة

في ظلِّ رايات بها لشفاني

بيض الذُّرى سود الذَّوائب ظلُّها

مأوى الهدى وتبوُّء الإيمان

تهفو الرِّياح على الرِّماح بها فهل

تعلو ومن مطلوبها القمران

إذ لا يرى في ذي البسيطة كلِّها

إلَّا مطيعٌ للخليفة عاني

والنَّيِّران وإن نأى أوجاهما

أيضًا له عبدان مؤتمران

وقال: وأنشدني لنفسه: [من الوافر]

تبدَّت مثل ما بزغت براح

وآذنت الكواكب بالبراح

فقلت فضحت حين وضحت ليلًا

وطال لسان واشٍ في رواح

فقالت بعدما جادت ومادت

وأبدت عن ثغورٍ كالأقاحي:

وهل تستنجح الحاجات إلَّا

بوجهٍ في مساعيه وقاح

كانت ولادة أبي عبد الله محمد بن معمر، ليلة الإثنين خامس عشري جمادى الآخرة سنة عشرين وخمسمائة، وتوفي في ربيع الآخر سنة ثلاث وستمائة بأصفهان.

[685]

محمَّد بن زهرٍ الإسعرديُّ.

/ 208 ب/ وهو ابن أخت أبي محمد الأسعرديّ، الذي مرّ شعره.

ص: 274

وأنشدت لمحمد هذا، يمدح الملك المسعود مودود بن محمد بن محمد بن قرا أرسلان ابن أرتق- صاحب آمد- حين شرع في عمارة خندق آمد وسورها:

[من الكامل]

يا أيُّها الملك الَّذي سعدت به الدُّنيا وأشرق غربها والمشرق

الدِّين من علياك ركن مفاخر

يسمو على أفق السَّماء ويسمق

ما آمد [و] السُّور إلَاّ مقلتةٌ

أضحت بناظرها ابن أرتق ترمق

ماذا تحاول في عمارة خندقٍ

يحمي وبأسك سورها والخندق

لو رام أهل الأرض منها نظرةً

لتعذَّرت والباب رحبٌ مطلق

لك في قلوب العالمين مهابةٌ

أضحى فؤاد الدَّهر منها يخفق

وستملكنَّ من البلاد أدانيًا

وأقاصيا وضياء سعدك مشرق

مولاي شاعرك الشَّكور بحاله

نقصٌ وجودك زائدٌ متدفِّق

أمنن بإشفاقٍ عليه مثل ما

كان الشَّهيد عليه قدمًا يشفق

[686]

محمَّد بن عليِّ بن عليٍّ القامغار، أبو طالبٍ اللغويُّ العراقيُّ، المعروف بابن الخيميِّ.

/ 209 أ/ قيل إنَّ اسمه عقيل، وقيل عبد الله، وقيل محمد.

كان مولده بالعراق في آخر شوال سنة تسع وأربعين وخسمائة، بالقرية بدار

ص: 275

الخلافة؛ هكذا قرأت نسبه ومولده بخطّ يده.

نزل الديار المصرية وسكنها، وهو إمام في علم اللغة والعربية، ومعرفة القرآن والحديث؛ رواية شاعر، مصنِّف، له رسائل وأشعار ومصنَّفات، ومن تصنيفه: كتاب ((الأمثال في علم القرآن)) وكتاب ((حرف في علم القرآن)) وكتاب ((قد في علم النحو)) وكتاب ((نزهة الملك في اللغة والصيد)) وكتاب ((الملخص الديواني في علم الديوان)) وكتاب ((لزوم الخمس)) استغفرك وكتاب ((المطاول على ديوان أبي العلاء المعريّ)) وكتاب ((إسطرلاب الشعر)) وكتاب ((شرح التحيات في اللغة)) و ((رسالة أهل الإخلاص والمودة إلى الناكثين من أهل الغدر والرّدة)) وكتاب ((شجرة الإيمان في علم القرآن)) وهو من أغرب ما صنف، وكتاب ((الأربعين الأحاديث الأساميات)) وكتاب/ 209 ب/ ((مجموع ترجمة جهينة الأخبار وجنينة الأزهار)) وكتاب ((مقصورة الوزير)) وإلى غير ذلك من التواليف، أجازني سائر مصنفاته، وجميع أشعاره ورواياته، وما يندرج تحت ذلك.

ومن شعره، يقول:[من الطويل]

أقمت بمصر جلَّ عمري فلم أجد

بها أحدًا يجدي ولا عالمًا يهدي

أزاحم منهم ألف ألفٍ بمنكبي

وأمسي كأنِّي بتُّ في فقرةٍ وحدي

وقال أيضًا: [من الكامل]

يا جاعلًا سلع القريض بضائعًا

صفها وفي خسرانها لا تمتري

فالشِّعر بائعة بحيث رأيتني

والمشتري أبدًا مكان المشتري

فارفضه إنَّك لا تجيء بجيِّد الـ

ـطَّائيِّ منه ولا رديء البحتري

وأخبرني الشيخ صدر الدين أبو علي الحسن بن محمد البكري بدمشق المحروسة، بمنزله في ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة؛ قال: قال أبو طالب محمد بن علي بن الخيمي: رأيت في المنام، وكأن شخصًا ينشدني، وق منعني شخص من الصلاة على ميت مات، ومنع من الصلاة عليه:[من مخلع البسيط]

ص: 276

/ 210 أ/ صلِّ على المسلمين جميعًا

واغتنم الأجر قبل فوته

من ذا الذي ليس فيه

شيءٌ يقوله الناس عند موته!

وقال أيضًا: [من الطويل]

وقالوا: التحى من كنت تهوى فخلَّه

فقلت لهم والنَّار حشو حشائي

وقد كان رأيي أن أكون وراءه

فعدت ورائي أن يعود ورائي

وأنشدني أبو عبد الله محمد بن عبد القاهر بن هبة النصيبي بحلب، قال: أنشدني أبو طالب محمد بن علي لنفسه: [من الطويل]

أأصنام هذا الجيل طرّاً أكلُّكم

يعوق أما فيكم يغوث ولا ودُّ

لقد طال تردادي إليكم فلم أجد

سوى رَّ شان في الغنى شأنه الرَّدُّ

ودعوى كرامٍ يستحيل قبولها

وتقبل إذ حدُّ الحسام لها حدُّ

وأنشدني أيضًا، قال: أنشدني أبو طالب، قال: لمّا دخلت دمشق كان من جملة من صحبه ابن ..... الوزير، فسألني عمّا وصلت إليه من البلاد، ومن خالطت من الناس، ومن وجدته/ 210 ب/ من أهل الكرم، فسهرت ليلتي، وكتبت إليه بكرة تلك الليلة بهذه الأبيات:[من الخفيف]

كم أطلت الإتهام والإنجادا

وطلبت الإسعاف والإسعادا

وتقلَّبت فيَّ البلاد فما أحـ

ـمدت ناسمًا ولا شكرت بلادا

وبلغت المراد من رحلٍ قـ

ـضَّين عمري وما بلغت مرادا

وإذا لم يساعف المرء جدٌّ

فمن الجهل عدُّ الأجدادا

مشعرٌ يفترون فرية عادٍ

وثمود وهم يسبُّون عادا

ما أعدُّوا للبعث زادًا فإن فهـ

ـ بذكر المعاد عدت معادا

إن أقلَّ الفتى جفوه وإن أكـ

ـثر أمسوا طرًا له حسَّادا

كلَّما زدت فضل علمٍ لأحظى

بنفاقٍ في النَّاس زدت كسادا

فكأنَّي إذا دعوت رئيسًا

لوذعيًا منهم دعوت جمادا

ص: 277

كم رأى ناظري محرَّم مال

ردَّه برد عذره لي جمادى

نعتوا لي الزُّهاد خبًا فلمَّا

جدت بالفلس لم أجد زهَّادا

وادَّعوا أنَّ معشرًا من ذوي الصَّو

ف مشوا فوق دجلة عبَّادا

وإذا ذلك الطّفو من الخفَّة لا من إخلاصهم اخنفادا

/ 211 أ/ ولعمري ما زيَّف الدِّرهم الجا

ئز إلَّا تجويدك الإنتقادا

كم تبينَّت من صديق عدوّاً

كاشحًا مضمرًا لي الأحقادا

وأرتني الأيَّام من كلِّ من كا

ن عتادًا للحادثات عنادا

وسعت بي جماعةٌ طمعت من

حلو فضلي ما فتَّت الأكبادا

كم رأى ناظري لئيمًا ولكن

ما رأى في سوى كتابٍ جوادا

[687]

محمَّد بن الحسن بن عليٍّ، أبو عبد الله الكوفيُّ المصريُّ، المعروف بأعجوبة الفلك.

كان شاعرًا خبيث اللسان، كثير الهجاء، مسترفدًا بأشعاره.

ومن شعره ما أنشدني القاضي الإمام أبو القاسم بن أبي الحسن العقيليّ- أدام الله أيامه- قال: أنشدني أعجوبة الفلك لنفسه، يهجو راجح بن إسماعيل الحلي الشاعر:

[من الخفيف]

يا بعيد الصَّواب فيما يعانيه

سخيفًا مبخَّرًا وهو يفسو

هبَّ أنت النَّؤوم يا بادي الرَّأ

ي رويدًا فأين منك الحسُّ؟

خاب ظنِّي ولا عجبت وقد قلَّ قديمًا لديك عقل وحسُّ

/ 211 ب/ ولقد سمتك الخسيس فلمَّا

تسخ لؤمًا فأنت منه الأخسُّ

كيف تقني شكر الرَّجال وقد ضا

ع الرَّئيسان منك قلبٌ ونفس

ونقلت من خطه، قوله يمدح القاضي الأجل الفاضل العالم بهاء الدين أبا محمد الحسن بن إبراهيم بن سعيد بن الخشاب بحلب:[من الطويل]

ألا يا بهاء الدَّين حزت نباهةً

فليس لمثلي عن جنابك معدل

تفضَّلت حتَّى لم تذر متفضِّلًا

يطول فطل يا خير من يتطوَّل

ص: 278

فأوليتني منك الجميل تفضُّلًا

حنانيك يا من دأبه يتفضَّل

وسدت بني الدُّنيا فخارًا وسؤددًا

نبيلًا فهل إلَّا عليك المعوَّل!

فأنت امرؤٌ لولاك ما خلق النَّدى

وأنت لهذا الملك تاجٌ ومنصل

ولي منك رسمٌ قد تضاعف شكره

عليك وبرٌّ من صلاتك مقبل

(فإن تولني منك الجميل فأهله)

لعمري وأوفى من يقول ويفعل

وفي حلب لي منذ عامين مفلسًا

مقلًا وحسي ما أجنُّ وأحمل

على أنَّني في الصَّبر أيُّوب دائمًا

وبفضله والصَّبر بالحرِّ أجمل

/ 212 أ/ فدم سالمًا يا با محمَّد راقيًا

بنصرٍ تعمُّ المجتدين وتشمل

وقرأت أيضًا من خط يده، قوله يمدح:[من مجزوء الكامل]

يا أيُّها المولى الزَّكيُّ ومن غدا للخلق عمده

أنت امرؤ أوصافه

شادت غداة الفخر جدَّه

يا سيِّدًا عوَّدت نطـ

ـقي بين أهل الأرض حمده

وأريد من شكري له

بين الورى وأشيد مجده

فأقول أين حللت قو

لًا لا أخاف الدَّهر ردَّه

هذا الزَّكي محمَّدٌ

هو لي من الَّلأواء عدَّه

أعددته سيفًا لصرف

الدَّهر أرهف منه حدَّه

سيفًا إذا صقل الزَّما

ن متونه أبدا فرنده

يا سيِّدًا إن كنت لا

أثني عليه منعت رفده

وأذاقني الرَّحمن من

جدواه بعد القرب بعده

عجِّل وسمِّ سيِّدي

فوصوله ثمر المودَّه

وتهنَّ بالعيد السَّعيـ

ـد بنعمةٍ تترى مجدَّه

/ 212 ب/ وأنشدني القاضي الإمام بهاء الدين أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن

ص: 279

سعيد بن الخشاب- أدام الله أيامه- قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن الحسن بن علي المضري لنفسه، من قصية يمدح الملك الظاهر غياث الدين- رحمه الله:

[من الكامل]

يا للحميَّة خدَّني الخدُّ

أشقائقٌ يعلوه أم رد

وبنفسجٌ بالسَّالف المصقول أم

تفويف رقم لاح أن ندُّ

صدُّوا غرير صريم وجرتكم

عن صدِّه أفما اشتفى الصَّدُّ

وسلوه هل لعسٌ بفيه بدا

أم سلسبيل الرَّاح أم شهد

رشا طمعت بقرب زورته

وأرى المسافة منه تمتدُّ

طبعت لواحظه ظبى حدقٍ

سودٍ فلا يمنٌ ولا هند

وغدا الرُّقاد محجَّبًا

بالحاجب المقرون عمَّن قدَّه القدُّ

يا سعد إسعادًا ومن

كلفٍ وكآبة ناديت يا سعد

بأبيك إن وافيت رامة أو

لاحت لك العلمان والزَّند

/ 213 أ/ ورأيت محمرَّ الرَّمال فقف

فهناك تقنص بالظبا الأسد

وسل المويلك بهجتي كمدي

أنَّى ألمَّ عساه يرتدُّ

قل عن لسان جو أقلَّ جوًى

بيسيره ثهلان ينهدُّ

حتَّى م تعرض عن أخي وله

أودى به الهيمان والوجد

ما قبله قبلٌ بحبِّك لًا

كلِّا ولا من بعده بعد

أضحت ضلالته بكم رشدًا

يا حبَّذا ذيالك الرشُّد

مولاي يا من ليس لي بدلٌ

عنه ولا عوضُّ ولا بدُّ

كن كيف شئت عليَّ محتكمًا

يا ذا الملاحة إنَّني عبد

ملَّكت رقِّي مثل ما ملك الـ

ـملك المليك الظَّاهر الجعد

[688]

محمَّد بن فضائل بن عبد السَّاتر، أبو عبد الله، المقدسيُّ الأصل، المعروف بابن المعيد:

كان جدُّه من أهل بيت المقدس.

ص: 280

ولد أبو عبد الله بمنية ابن الخصيب، من صعيد مصر. وكان حيًا في نيف وستمائة، ومات بعد ذلك بقليل ولم يبلغ الأربعين. وكان أديبًا فاضلًا له نظم ونثر.

/ 213 ب/ مدح الملك الظاهر غياث الدين صاحب حلب بقصائد عدّة.

أخبرني أبو الربيع سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الريحان المكي، كتابة فيما أذن لي الرواية عنه، قال: أنشدني محمد بن فضائل لنفسه، وذكر أنه ضمنه ورقة إلى الملك الظاهر بحلب:[من البسيط]

فما تعرَّض بي يأسٌ أساء به

إلَّا وعجَّل ما يأسو به أملي

ولا توغَّلت في شكري فضائله

إلَّا أقرَّ بعجزي عنه لي أجلي

وقال: وأنشدنا أيضًا لنفسه، ما كتبه أيضًا إليه:[من السريع]

يا من به يأمن كلُّ الورى

إن عنَّ خطبٌ أو عنى حادث

ما بال حظِّي منكم قد غدا

حظَّ وفيٍّ حبُّه ناكث

[689]

محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن خميس، المغربيُّ الأصل، الموصليُّ المولد، أبو عبد الله الوكيل.

حدثني القاضي أبو القاسم- أدام الله عزّه- قال: كان أبو عبد الله هذا؛ شيخًا حسنًا ظريفًا، مطبوع النظم.

قرأ/ 214 أ/ الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة- رضي الله عنه على علاء الدين الكاساني، وسمع منه شيئًا من إملائه بحلب. وسمع بالموصل الخطيب أبا الفضل عبد الله بن أحمد بن الطوسي، وأبا الهنا سعيد بن عبد الله بن الشهرزوري، وحدث بحلب وسمعنا منه بها.

وسألته عن مولده، فقال: ليلة الأحد تاسع المحرم من سنة اثنتين وأربعين

ص: 281

وخمسمائة. وتوفي يوم الجمعة السابع من جمادى الأولى من سنة اثنتين وعشرين وستمائة بحلب، ودفن بقابر باب الجنان.

قال: وسمعت الصاحب قاضي القضاة أبا المحاسن يوسف بن رافع بن تميم الأسدي الموصلي يثني عليه كثيرًا، ويقول: كان عين المجلس ووجهه، وله في صحبتنا هذه المدَّة، لم نطَّلع منه إلّا على الصحة والخير.

وأنشدني القاضي أبو القاسم- أيده الله تعالى- قال: أنشدني أبو عبد الله الوكيل من شعره، وذكر أنَّه كان له محبوبة تدعى عائشة، وبلغه أنها تعرضت لأسود:

[من السريع]

عشت زمانًا عيشتي عيشتي

ما طرق البين لنا بينا

قالت: تسلايت احتقارًا بنا

قلت تسلَّيت تسلَّينا

/ 214 ب/ لا تنكري سلوتنا هذه

رمت تلافًا فتلافينا

ألجأك الدَّهر إلى أسودٍ

يصرف عن عشاقك العينا

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه، وذكر أنَّه أنشدها قاضي القضاة أبا المحاسن يوسف بن رافع بن تميم، عند فراغ قراءة الملك الناصر صلاح الدين- رضي الله عنه عليه جميعه:[من الكامل]

يا سيَّد الحكّام سيرة يوسف

نظَّمتها كالعقد زين بدرِّه

وجمعت يا قاضي الممالك فضل من

أرضى الإله بسرَّه وبجهره

ملكٌ قضى الله العزيز له بأن

خضع الملوك لنهيه ولأمره

فسما بني سام وحام على بني

حامٍ عقاب عقابه في نصره

قهر الألى قهر الألى وأعادهم

حيَّ المعاد بأسرهم في أسره

أفديه لا نظمٌ يقوم بمدحه

أبدًا ولا نثر يقوم بشكره

لو حاز في الشَّرع السُّجود لملحد

سجد الملوك من البلاد لقبره

نشر الثُّغور فطيب نشر حديثه

يبقى إلى يوم الحساب ونشره

/ 215 أ/ فتهنَّ يا قاضي الممالك أجر ما

أوتيت من عمل تفوز بأجره

إن أصبح العلماء شهر صيامنا

شرفًا فقد أصبحت ليلة قدره

ص: 282

[690]

محمَّد بن يوسف بن الخضر بن عبد الله بن أبي محمَّد عبد الرحيم بن القاسم بن عبد الله، المعروف بابن الأبيض، الفقيه الحنفيُّ الحلبيُّ.

هكذا أملى علي نسبه ولده شرف الدين، بمدينة حلب المحروسة، وكان يكنى أبا القاسم أيضًا.

تفقه على والده، ثم على علاء الدين الكاساني، وبرهان الدين مسعود الحنفي؛ وقرأ علم الحساب والفرائض على الشيخ أبي محمد طاهر بن جعل، وسمع بحلب أبا علي بن إبراهيم بن إسماعيل الغزنوي الحنفي، ووالده المذكور، وأبا الفرج يحيى بن محمود الثقفي وغيرهم.

وأخبرني القاضي أبو القاسم- أيده الله تعالى- قال: كان أبو عبد الله- رحمه الله دمث الأخلاق، حسن المعاشرة، كريم الطباع، غزير العلم، كثير الورع، مليح النظم والنثر.

ولد بحلب في رابع صفر من سنة ستين وخمسمائة، ونشأ بها، حتى انتقل أبوه إلى دمشق، وولي القضاء بها، / 215 ب/ فسار إلى والده، إلى دمشق.

وقدّمه القاضي محيي الدين أبو المعالي محمد بن علي بن محمد بن يحيى الفرسي، ومال إليه حتى نفق على السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذي- رحمه الله فقلده قضاء العسكر، وسيّره إلى الملوك والرسائل. وقلّده عدّة مدارس بدمشق، منها مسجد خاتون- ظاهر مدينة دمشق- ومدرسة باب البريد، ومدرسة خاتون أيضًا.

ولم يزل كذلك إلى أن حدثت بينه وبين وزيره الصفي محمد بن عبد بن علي بن

ص: 283

شكر وحشة، خاف منها على نفسه. وكان الملك العادل قد سيّره رسولًا إلى حلب المحروسة وإلى الديار الشرقية؛ وكان قد اتصل إلى والدي- رحمه الله فلما ورد حلب، عرض عليه السلطان الملك الظاهر المقام بحلب، وضمن له أشياء، فأجابه إلى ذلك. وسار إلى الديار الشرقية لأداء الرسالة، وعاد إلى حلب، فأقام بها، وسير جواب الرسالة إلى الملك العادل. وولّاه الملك الظاهر مدرسة شاذبخت- رحمه الله.

وحكى لي أنه؛ لما سيّره الملك العادل في هذه الرسالة، تلطف في طلب

، بألطف حيلة، وذلك أنه؛ قال: قد علم مولانا أنَّني قد تأهلت بحلب/ 216 أ/ وأنا أستخدم الإذن الكريم عند أهلي، عند قضاء شغل السلطان، فأذن له في ذلك، ظنًا منه أنه يقيم مدة ثم يعود.

ولم يزل بعد ذلك مقيمًا بحلب، إلى أن ولّى الملك الظاهر؛ افتخار الدين أبا هاشم عبد المطلب بن الفضل العباسي الهاشمي- رحمه الله رئاسة أصحاب أبي حنيفة، فاستوحش لذلك، وترك منصبه، وسار إلى حماة. فأنزله الملك المنصور أبو المعالي محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب بها، وأكرمه وولاه المدرسة النورية بها.

ثم إنَّ الملك الظاهر- رحمه الله طلب عوده من والدي- رحمه الله فسار- وكنت صحبته إلى حماة- وأعاده إلى حلب المحروسة، إلى منصبه.

قرأت عليه الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة- رضي الله عنه وشيئًا من الحديث. وسمعت منه أشياء من المذاكرة، وأجاز لي رواية مسموعاته ومروياته.

وكانت وفاته- رحمه الله ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان، من سنة أربع عشرة وستمائة فجأة. كان قد استدعى فقهاء المدرسة، في تلك الليلة على عادته في شهر رمضان للإفطار على مائدته، وأكلوا وخرجوا عنه. ثم صلّى العشاء الآخرة والتراويح، وسجد وحضرته الوفاة/ 216 ب/ فلم يتكلم بشيء؛ إلى أن مات، واستدعيت إليه، وهو في الحياة، فلم يزل إلَّا يسيرًا حتى مات، ودفن صبيحة تلك الليلة، بتربتنا بمقام إبراهيم- عليه السلام إلى جانب والديَّ- رحمهما الله-.

قال القاضي- أيده الله تعالى- ومما أنشدني القاضي أبو عب الله لنفسه:

[من الطويل]

ص: 284

أشدُّ المحبِّين اشتياقًا ووحشةً

لمحببوه صبٌّ يبيت على وعد

يخاف اجتنابًا واضعًا عن تعمُّد

وأصعب ما كان التَّجنُّب عن عمد

وقد كان يرجو قبل ذلك وصلة

ويحب أنَّ الهجر ما كان عن قصد

فإن صدَّ بعد الوعد ظنَّ بأنَّه

جفاه على علمٍ فمات من الوجد

وأنشدني؛ قال: أنشدني محمد بن يوسف لنفسه: [من مخلّع البسيط]

لا تهجعن تحظ بالأماني

هجر الكرى حلية الجدود

واسع إلى الفضل غير وانٍ

تقطع إذًا دابر الحسود

وأنشدني، قال: أنشدني محمد بن أبي محمد، قوله أبياتًا كتبها إلى الوزير صفي الدين عبد الله بن شكر معتذرًا ومتنصلًا:[من الطويل]

لعبدك من ضعف لمنقبع متى

دعا أجبت وكان العفو عنه جوابا

/ 217 أ/ ويؤمنني حلمٌ وجود وقدرةٌ

لمالك رقِّي إن خشيت عقابا

ولست وإن أذنبت أوَّل من جنى

على نفسه ثمَّ استقال ونابا

وأنشدني، قال: أنشدني المذكور لنفسه، ما كتبه إلى الصفي محمد بن إسماعيل الكاتب المصري، سأله حسن المناب عنه، عند ابن شكر الوزير:[من الخفيف]

كن شفيعي عند الوزير فإنِّي

واثقٌ إن شفعت لي بالقبول

أنت أهلٌ لكلِّ قولٍ جميلٍ

وهو أهلٌ بكلِّ فعلٍ جميل

وأنشدني، قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه، ما كتبه إلى المبارز يوسف بن خطلخ- رحمه الله وكان قد تكلم في حقّه عند الملك الظاهر بكلام حسن من غير أن يطلب منه ذلك:[من مجزوء الكامل]

أهنا العوارف ما أتى

عفوًا بلا طلبٍ مهنَّا

والوجه موفور الحيا

ء وقد تعجَّل ما تمنَّى

ما غاض منه ماؤه

بل زاد إشراقًا وحسنا

لم يبغ فيه ولا تقلِّد للشفيع يدًا ومنَّا

/ 217 ب/ كيد المبارز أخجلت

بسماحها بحرًا ومزنا

مطرت ولم يفتح لها

للوعد بالإيماض جفنا

ص: 285

بل سحَّ وابلها ولم

نستقها سحّا وهتنا

[691]

محمَّد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن بن هبة الله، أبو عبد الله بن أبي الفضل البغداديُّ المعروف بابن النجار.

وكان النجار والده.

كانت ولادة أبي عبد الله في ليلة الأحد الثالث والعشرين من ذي القعدة، من سنة ثماني وسبعين وخمسمائة ببغداد.

ص: 286

أخذ شيئًا من علم العربية، عن جماعةٍ من النحاة البغداديين؛ كأبي بكر المبارك بن المبارك الواسطي النحوي، وأبي الحسن علي بن المبارك بن بابويه النحوي، وأبي البقاء عبد الله بن الحسين النحوي العكبري، وأبي الخير مصدّق بن شبيب بن الحسين الواسطي.

ثم اشتغل بالحديث وكتابته، وسمع ببغداد في سنة ثماني وثمانين وخمسمائة، وهو أول سماعه، ثم طلبه بنفسه في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، فقرأه على أبي الفرج عبد المنعم ب/ 218 أ/ عبد الوهاب بن صدقة بن كليب الحرّاني، وأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي، وأبي أحمد عبد الوهاب بن علي بن علي بن سكينة البغدادي، وأبي طاهر المبارك بن المبارك بن هبة الله بن المعطوش العطار، وأبي القاسم ذاكر بن كمل بن غرائب الخفاف، وعلى جماعة سواهم.

رحل إلى الحجاز، وأقام بمكّة سنة سبع وستمائة، وسمع بها وبالمدينة على جماعة، ثم دخل الشام من مكة في سنة ثماني وستمائة، فقرأ بدمشق على أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي، وأبي القاسم الحرستاني وجماعة غيرهم. وقدم حلب فسمع بها أبا هاشم عبد المطلب بن الفضل الهاشمي، وأبا محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الأسدي وغيرهما.

ثم سمع في طريقه بحران وبلاد الجزيرة والموصل وتكريت، ودخل بغداد، وخرج منها إلى بلاد الجبل، فسمع بهمذان من أصحاب أبي المحاسن نصر بن المظفر البرمكي، ودخل أصفهان، فسمع من أصحاب أبي بكر محمد بن علي بن أبي ذر الصالحاني، وإسماعيل بن الفضل بن أحمد بن الأخشيد السراج، وغانم بن خالد التاجر، وزاهر بن طاهر الشحامي.

ثم رحل على خراسان، فسمع بنيسابور المؤيد/ 218 ب/ ب محمد بن علي الطوسي، وأبا بكر القاسم بن عبد الله بن عمر بن أحمد الصفار، وزينب بنت عبد الرحمن بن أحمد الشعري وغيرهم، وبهراة: أبا روح عبد المعمر بن محمد بن أبي الفضل البزاز الصوفي، وبمرو: أبا المظفر عبد الرحيم بن عبد الكريم السمعاني وغيرهم؛ ثم عاد راجعًا إلى بغداد، فسمع ببسطام ودامغان والريّ وساوة وهمذان وأسد

ص: 287

آباذ، وغير ذلك من البلاد.

ثم أقام ببغداد سنة، ثم عاد ودخل أصفهان، فسمع في طريقه بنهاوند والكرج، وأقام بأصبهان إلى استولى الكفار على البلاد، وهو بها يكتب ويسمع إلى أن يسر الله الخروج سالمًا منها، مع كتبه وما جمعه وألفه إلى بغداد، فدخلها في سنة عشرين وستمائة، وأقام بها ثلاثة أشهر. ثم رحل عنها إلى البلاد الشامية، فحدّث بها.

ثم توجه نحو الديار المصرية، فكتب بها عن الشيوخ، وعلق الفوائد، وأكرمه سلطانها الملك الكامل، وأطلق له شيئًا، وسأله المقام، فلم يجب إلى ذلك.

ثم عاد من الديار المصرية، قاصدًا مدينة السلام، فدخلها وهو مقيم بها، يسمع الحديث، ويفيد الناس وألّف على ((تاريخ الخطيب)) مذيّلًا في عدَّة/ 219 أ/ مجلدات، ولي منه إجازة بجميع مؤلفاته ومسموعاته ومروياته.

[من مصنفاته: كتاب ((التاريخ المجدد لمدينة السلام، وأخبار علمائها الأعلام، ومن وردها من فضلاء الأنام))؛ وهو ذيل على تاريخ أبي بكر الخطيب في مائتين واثنين وثلاثين جزءاً، وكتاب ((التاريخ الكبير)) في ذكر الأعلام من سائر البلاد، المذيل على تاريخ أبي عبد الله محمد بن إسحق بن مندة الأصفهاني، الذي به على تاريخ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الإمام- رضوان الله عنهما-. وكتاب ((المحكم في ترتيب المفحم))، يشتمل على مشايخه الذين كتب عنهم الحديث، وعلى من كتب من رفقائه الفضلاء ومن الشعراء والأدباء، يدخل في عشرة أجلاد، ولم يبيض. وكتاب ((الكمال في تكملة الإكمال، في معرفة المؤتلف والمختلف من الأسماء والكنى والألقاب والأنساب في أسماء النساء والرجال))؛ ذيل به على كتاب الأمير أبي نصر بن ماكولا، يشتمل على خمسة أجلاد، وكتاب ((الرائق في معرفة السابق واللاحق))؛ ذيله على كتاب أبي بكر الخطيب، وكتاب ((كشف النقاب عن المنمق في الأنساب)) - خطًا ولفظًا- في معرفة الصحابة، وكتاب ((المنمق والمغترب))؛ ذيل به على كتاب أبي موسى محمد بن عمران بن أبي عيسى الأصفهاني، وكتاب ((المنتخب في معرفة النسب))، وكتاب ((مناقب الإمام الشافعي)) رضي الله عنه وكتاب ((الألقاب))، وكتاب ((الذيل على خريدة القصر وجريدة العصر)) لأبي عبد الله محمد بن

ص: 288

محمد بن حامد الأصبهاني الكاتب، وكتاب ((التاريخ على السنين)) في أخبار الملوك والحوادث والوفيات، ابتدأ فيه من سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وهو أول تأريخ

].

أنشدني الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن بن النجار لنفسه؛ وذكر لي أنَّ بعض الأصدقاء رآه بأصبهان مكتئبًا، يوم عيد، وسأله عن السبب الموجب لذلك، فقال ارتجالًا:[من البسيط]

وقائلٍ قال يوم العيد لي ورأى

تململي ودموع العين تنهمر:

مالي أراك كئيبًا باكيًا قلقًا

كأنَّ قلبك فيه النَّار تستعر

فقلت: إني بعيد الدَّار عن وطني

ومملق الكفَّ والأحباب قد هجروا

وأخبرني الحافظ أبو عبد الله بن النجار، بمدينة السلام، يوم السبت العشرين من ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وستمائة، قال: اجتزت بدورق مدينة من نواحي خوزستان، فحضر عندنا غلام تركي، مليح الصورة، فسألناه عن واقعة وقعت له، وأطال الكلام. ثم ذهب فرمدت في الحال، ومرضت عيني، /219 ب/ وكان معنا فقيه كرماني، فقال: هذا خلاف القياس وكان ينبغي بنظرك إليه، أن لو كانت عينك رمدةً، أن تبرأ، فأنشدته مرتجلًا:[من المنسرح]

وقائلٍ قال: قد نظرت إلى

وجه مليح فاعتادك الرَّمد

فقلت: إنَّ الشَّمس المنيرة قد

يعشو لها النَّاظر الَّذي يقد

وقال الشيخ الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود البغدادي، في غلام اسمه أوحد، وهي أوائل الأبيات:[من المنسرح]

إن الغزال الَّذي يتيَّمني

منه بقدٍّ كالغصن معتدل

ووجنةٍ وردها الجنيُّ جنى

قتلي لمَّا أومأت للقبل

حشاي مجروحةٌ بأسهم عيـ

ـنيه وما فيهما من الكحل

ص: 289

دواء دائي ريقٌ يجود به

من فيه أحلى ذوقًا من العسل

إنَّ اسمه ملغزًا أوائل أبيا

تي بلا خفيةٍ ولا خلل

[692]

محمَّد بن مسعود بن محمَّد المالينيُّ الهرويُّ.

ومالين من رستاق هرات، أبو يعلى.

كان أديبًا/ 220 أ/ فاضلًا عارفًا بالنحو واللغة، ويقول شعرًا جيدًا بالفارسية والعربية، ويذهب إلى مذهب الكرَّاميَّة.

أخبرني أبو عبد الله الدبيثي، إجازة منه إلي إن لم يكن سماعًا، قال: قدم أبو يعلى بغداد حاجًا، في سنة ثمان وستمائة، وكتب عنه بها من شعره، فحجّ وعاد إلى بلده، وسألت عنه، فقيل: لم يكن محمود الطريقة، وأنَّه كان متسامحًا في الأمور الدينية.

ومن شعره العربي قوله ما أنشدني الشيخ الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود البغدادي، قال: أنشدني أبو يعلى محمد بن مسعود لنفسه بمنزلة في سنة إحدى عشرة وستمائة: [من الطويل]

أصون المحيَّا لا أرقرق ماءه

إذا ابتذلت عند الطَّماعة أوجه

أأنزل بالأدنى ومن تحت أخمصي

من الفلك الأعلى تطامن أوجه

[693]

محمَّد بن الفضل بن بختيار بن أبي نصرٍ الواعظ، أبو عبد الله بن أبي المكارم.

ص: 290

من أهل باعقوبا.

سكن دقوقا؛ وعقد مجلس الوعظ، وصار له قبول عند أهلها.

/ 220 ب/ روى بها عن أبي الوقت، وذكر أنه سمع منه ببغداد، ومن جماعة مجاهيل، روى عنهم.

وكانت ولادته في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة في ربيع الأول، وتوفي بدقوقا، ثاني عشر جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة، ودفن بها.

وكان يتولّى الخطابة ببعقوبا في الجمع، ويعظ. أخبرني أبو عبد الله الدبيثي في تاريخه، قال: قدم أبو عبد الله بغداد، وأقام بها مدّة، وسمع بها، فيما يقول من أبي الوقت وعب القادر الجيلي وغيرهما، وببعقوبا من أبي إسحاق إبراهيم بن بدر بن أبي طالب النباري- ونبارى المنسوب إليها من قرى إبراز الروز- ومن أبي طاهر المؤمل بن نصر بن المؤمل وغيرهم.

وسكن بأخرةٍ دقوقًا، ولقيته بها، وكتبت عنه شيئًا يسيرًا، وكان قد حدث بأحاديث من سنن أبي عبد الرحمن النسائي؛ ذكر أنها ثلاثيات للنسائي، وكانت وهما وقع في نسخه له، ذكر أنَّه سمعها من إبراهيم بن بدر المذكور، فعرف الخطأ في ذلك، فترك روايتها.

سألته عن مولده، فقال: في شهر ربيع الأول، سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وكتب لي بخطه، وأنشدني لنفسه من كتاب، كتبه إلى صديق له:[من الطويل]

/ 221 أ/ وأخلصه قلبي الولاء حقيقةً

كإخلاصه في الحبِّ سفن النَّجا حقَّا

موالٍ مواليهم ينال المنى بهم

فلا زال طول الدَّهر في حبِّهم يرقى

ص: 291

[694]

محمَّد بن حازمٍ السَّمَّان، أبو عبد الله الحلبيُّ.

من أهل حلب.

وكان قد ولاّه بعض أمراء حلب، كتابة شيخلية الحاضر السُّليماني، لكونه مدحه أولًا بقصيدة.

وكانت وفاته في سنة سبع عشرة وستمائة. كان شاعرًا يمدح الأكابر والرؤساء، وله يد في حلِّ الألغاز، وعنده فضل وتميز.

ومن شعره يقول: [من الطويل]

أعاذل مهلًا إنَّ سلوانهم عار

ومن لي بأن أسلو وقد شطَّت الدَّار

أعد ذكر نعمان الأراك فإنَّه

ليعتادني منه على البعد تذكار

وقصَّ أحاديث العذيب فإنَّني

رحلت ولي فيهم حديثٌ وأسمار

سلا بانة الوادي متى خطرت به

ففي إثرها للمندل الرَّطب آثار

تأرَّج ريَّاها بذي البان والنَّقا

ففي كلِّ ميَّالٍ هنالك عطَّار

وأنشدني أبو محمد القاسم بن محمد بن سراج/ 221 ب/ الحلبي، قال: أنشدني محمد بن حازم لنفسه: [من المتقارب]

أما آن أن تتلافى تلافي

وأن تتجافى سبيل التَّجافي

وأن تتجنَّب ذا الاجتناب

وتعرف عهد المحبِّ الموافي

ص: 292

ألا يا غزالًا غزا مهجتي

وأضعفني بالجفون الضِّعاف

عيونٌ تفيض عيونًا عليك

فطر في لجَّة الدِّمع طافي

وشاهد شاهد سقمي فعاد .. صفا قلبه يشبه الماء صافي

وقد زار تحت إزار الدُّجى

وخالف عذَّاله في خلافي

فقبَّلت قبلة ورد الخدود

وصيَّرت شافي لماه ارتشافي

وما عاقني من لذيذ الوصال

سوى الخوف من هول يوم المخاف

فنفس النَّفيس تعاف الفساد

ورسم الخنا قد عفا في عفافي

[695]

محمَّد بن أبي الخير بن أبي الفضل بن الفضل بن أبي الفضل بن سطيحٍ، أبو عبد الله الحموي الحكيم الطائفيُّ.

من خواص أصحاب الملك المنصور أبي المعالي محمد بن/ 222 أ/ عمر بن شهنشاه- صاحب حماة-؛ ولديه فضل، وعلم، وأدب، ودراية، ومعرفة، وفصاحة، وله شعر جيد مستحسن.

لقيت ولده أبا الفضل أحمد الحكيم الفاضل بحلب المحروسة، وذكر لي أنَّ والده توفي في ربيع الأوّل سنة سبع وثلاثين وستمائة.

ومن شعره يمدح الملك المنصور- صاحب حماة-: [من الطويل]

أما والهوى يوم استقلَّت حمولها

وأضحت خلاءً من حبيبٍ طلولها

لقد غادرت بين الضُّلوع صبابةً

ولوعة حزن ليس يشفى عليلها

وسارت فقلب المستهام محرَّقٌ

بنار الأسى والعين تجري سيولها

لعمري لقد جدَّ البلاء وأعلن الـ

ـمشوق بشجوٍ يوم جدَّ رحيلها

وضنَّت بتقبيل البنان وإنني

لينفعني ممَّا تنيل قليلها

سقى دار ليلى حيث حلَّت وخيَّمت

من المزن منهلُّ الرَّباب هطولها

لك الله هل بعد الصُّدود تعطُّفٌ

وهل بعد هذا النَّأي يقضي وصولها

هي القمر الوضَّاح والشِّمس للضحى

تنير ولكن لا يخاف أفولها

لها مقلتا ريمٍ وخدٌّ مورّدٌ

أسيلٌ ألا خير الخدود أسيلها

ص: 293

وخصرٌ دقيقٌ عاد يشكو نحوله

وأحسن ممشوق الحصور نحولها

/ 222 ب/ تمايل من سكر الصِّبا فكأنَّما

تدار علينا بالكؤوس شمولها

ومنها في المديح:

نشير إلى ملكٍ رفيع عماده

وحيث يرى جمُّ العطايا جزيلها

له حملاتٌ في الوغى مستبينةٌ

وصولات طعنٍ لا تزال نصولها

تقصِّر عن إدراك شأو علائه

ملوك زماني شيبها وكهولها

هو الملك المنصور والماجد الَّذي

له كلَّ يومٍ عارفاتٌ ينيلها

علا بك شاذي وابنه وقبيله

ذرى شرفٍ ما كان قدمًا يطولها

ما برسول الله حقًا تشرَّفت

قريشٌ ولولاه لطال خمولها

[696]

محمَّد بن بدران بن مليل، أبو البدر الكرمونيُّ.

من قرية شرقي تكريت، من أعمالها تدعى كرمي.

[كان] رجلًا ذا عقل ودين، وأمانة ومعرفة، يفوق بصفاته على أضرابه وأشكاله، ويتميّز بها من أصحابه وأمثاله؛ ولذلك كثر خلاّنه وأصدقاؤه، وركن إلى صدقه وحذقه ولاته وأمراؤه، ينزل نفسه في نصرة/ 223 أ/ صحابه، ويكرم قاصده، ويقوم بواجبه، وعنده من الشجاعة والنجابة والأخلاق العذبة المستطابة، ما يرغِّب اللبيب في معاشرته، ويحبِّب البعيد والقريب في مصاحبته وأخوته.

ما زال الأمراء بقلعة تكريت، يأتمنونه في أشغالهم، ويطلعونه على ما يحتاجون إليه فيه من بواطن أحوالهم.

وكان معين الدين ارنقش الخاص؛ حين تولى إمارة تكريت من جانب الديوان العزيز- مجّده الله تعالى- لما صار أمرها إليه، اعتمد عليه في بعض مهام الدين العزيز، وأنقذه إلى بلد ماردين، وكذلك من بعده من الأمراء بتكريت. وكانت له عناية تامة، ولجماعة أخوته من الأمير فلك الدين آقسنقر الناصري، حين ولي تكريت، ودقوقًا،

ص: 294

وبين النهرين.

وهو مع اشتغاله بخدمة السلطان، محافظ على أداء الصلوات، متجنّب للحرام والشبهات، خدم متجنِّدًا بقلعة تكريت من زمن معين الدين ارنقش لحاجته إلى طلب الرزق.

وحضر عند القاضي تاج الدين ابن زكريا، بتكريت كثيرًا، وسمع ما يذكره، وما يقرأ عليه من العلوم، وقرأ عليه جميع كتاب ((العقود اللمع)) لابن جني.

/ 223 ب/ وكان له ميل إلى فن الأدب والنظم، وعنده معرفة حسنة في منازل الشمس والقمر ومسيرهما، ومعرفة الأنواء، وقد صحبته عدّة مرار في تردداته إلى مدينة السلام. وسألته حين كثرت معه صحبته، وصحت له إرادته، أن يلبسه خرقة التصوف، ليتسم بسمة التلاميذ والأصحاب، ويتمسك منه بأجمل الوسائل، وأحسن الأسباب، فالبسه الخرقة.

وكان ينتمي في لباس الفتوة إلى الشيخ شهاب الدين يوسف القصاب، وهو من جملة رفقائه وأصحابه، وله معرفة بجماعة من صدور مدينة السلام، حسن التوصل إليهم، فيما يحتاج إليهم فيه من أشغالي وأشغال رفقائه وجماعته.

ولما أقام القاضي تاج الدين أبو زكريا بالمدرسة النظامية، مدرسًا لها، كتب إليه الرئيس أبو البدر، كتاب استيحاش، وضمنه أبياتًا من نظمه وهي:[من السريع]

يا سادتي من ذا الَّذي قد رمى

بالعين أصمانا بسهم لخطوب

كنتم مصابيحًا بها نهتدي

في الدِّين والدُّنيا ونور القلوب

واليوم مذ فارقتمونا نرى

قد بان في تلك القلوب الغيوب

/ 224 أ/ أنتم رضيتم غيرنا خبرةً

نحن لمن يرضى بكم في الشُّعوب

شوقي إلى الزَّوراء ما ينحصي

ولو تعاناه حساب الضُّروب

إذا تذَّكرت زمانًا مضى

قلت لعلَّ الدَّهر يومًا يؤوب

وحقَّكم ما مرَّ بي طيفكم

في اللَّيل أو هبَّت رياح الجنوب

إلَّا وفاضت مقلتي أدمعًا

شوقًا إليكم وفؤادي يذوب

يا سادتي بالله لا تقطعوا

أخباركم عنِّي فعندي كروب

ص: 295

[697]

محمَّد بن موسى المتانيُّ.

ينسب إلى متانة قرية من أعمال حوران.

رجل شديد سمرة اللون، قيل إنَّ أصله من بلاد المغرب، من أنزق خلق الله، وأشرسهم أخلاقًا، يلزم نفسه العزلة عن الناس والرياضة والمجاهدة على ما كان عليه. ويدّعي علومًا كثيرة، ويحضر مجلس الفقهاء، ويبحث معهم، ويسفه عليهم في فلك المناظرة والجدل؛ ولم يخرج عن الأخلاق الغريبة، لضيق عطنه، وكثرة شرّه. وكان يغضب على من يخاطبه ويسمعه كلامًا غليظًا لرداءة طباعه وقحته.

/ 224 ب/ واجتمعت به كثيرًا بالمدرسة المنسوبة إلى بني عصرون بحلب، وكان نازلًا بها.

أنشدني القاضي عماد الدين أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عصرون التميمي؛ قال: أنشدني محمد بن موسى المتاني لنفسه: [من الخفيف]

تلفت مهجتي فوامهجتاه

من غزالٍ سبى الفؤاد هواه

رشأ أهيفٌ أغنُّ كحيلٌ

تحتوي سحر بابلٍ مقلتاه

فاق بالحسن حسن كلِّ مليحٍ

فشهدنا أن لا مليح سواه

هل تراه يجود لي بوصال

بعد طول الصُّدود فيه تراه

أيها القاتلي بطول الأماني

وعدك الصَّبَّ بالوصال شي هو

اتَّق الله كم تعذِّب قلبي

يا هواه وسؤله ومناه

أحيي بالوصل مستهامًا كئيبًا

مغرمًا منك داؤه ودواه

أيها النَّاس من معينٌ لصبٍّ

طال بالنَّجم وجده وعناه

وأنشدني أيضًا، قال: أنشدني محمد المتاني لنفسه [من البسيط]

أهل الصَّبابة هل صبٌّ من البشر

لاقى من الوجد ما لاقيت من عمر

/ 225 أ/ يرنو فينضو لنا من لحظه صقل

ماض مضاربه أمضى من القدر

ص: 296

[698]

محمَّد بن الحسين بن أسعد بن عبد الرحمن بن الحسن بن طاهر بن محمَّد بن محمَّد بن الحسن بن عليِّ بن يزيد الكرابيسيُّ النيسابوريُّ، أبو المعالي بن أبي عبد الله بن العجميِّ.

من أهل حلب، ومن أكبر بيت بها، وأقدمه في الحشمة الظاهرة، والثروة الوافرة.

كانت ولادته في شهر ذي القعدة سنة أربع وستين وخمسمائة، وتوفي بدمشق عائدًا من الحجّ، وكان موته يوم الإثنين في فندق ابن المقدم على باب الفراديس، وكان ذلك اليوم الحادي والعشرين من صفر سنة خمس وعشرين وستمائة، وحمل تابوته إلى محروسة حلب، فدفن بها، وكان وصوله يوم الأربعاء مستهل ربيع الأول، ودفن بالجبل صبيحة ذلك اليوم.

وكان فقيهًا شافعي المذهب، له معرفة بالخلاف والأصولين، مدرسًا درس بالمدرسة السلطانية الظاهرية، خارج مدينة حلب قبليها. وكان قد سافر إلى البلاد الخراسانية، وتجّول فيها، واشتغل هنالك مدّة، ثم عاد إلى مدينة حلب، درس الفقه على أبي الحسين عبد الملك/ 225 ب/ بن نصر الله بن جهبل الحلبي، وقرأ بالموصل على أبي حامد محمد بن يونس بن محمد بن منعة ابن مالك الموصلي الفقيه الشافعي المدرس.

أنشدني أبو عبد الله الحسين، قال: أنشدني والدي لنفسه؛ وأنشدنيها أيضًا الشيخ الأجل الأمين محيي الدين أبو صالح عبد الكريم بن عثمان بن عبد الرحيم بن العجمي- أيده الله تعالى- قال: أنشدني أبو المعالي محمد بن الحسين بن العجمي

ص: 297

لنفسه: [من الطويل]

ألا هل بنعمان الأراك مقيل

لذي لوعةٍ منه ويسمع قيل؟

وهل لليالينا برامة عودةٌ

وطرف الأعادي والوشاة كليل؟

وهل يرد الصَّادي رضاب رضاكم

فشفى عليلٌ أو يبلَّ غليل؟

أحبَّه قلبي قد ضنيت من الظَّما

فهل لي إلى ماء العذيب سبيل؟

أرى منهلًا عذبًا غزيرًا ووروده

ألا عنه لي حتى الممات سبيل

أيحسن في شرع الهوى أنَّ ظلَّكم

ظليلٌ وأنِّي مدنفٌ وقتيل

ولا عجبٌ أنِّي أموت صبابةً

وقد مات قلبي عروةٌ وجميل

وله: [من الطويل]

تغيَّرت الأيَّام واسودَّ بيضها

وساد سواد النَّاس فيها قرودها

/ 226 أ/ وفي الموت فوزٌ للكريم وراحةٌ

إذا ملكت أحرار قومٍ عبيدها

ومما ينسب إليه أيضًا، وأنشدنيه عنه أبو البركات محمد بن عثمان بن المنبجي:

[من الطويل]

لئن قرَّب الله التداني وقوِّضت

خيام النَّوى واعتضت عن بعدكم قربا

غفرت لصرف الدَّهر كلَّ جريمةٍ

وإن كنت ممَّن لا أبيح له سبَّا

وأنشدني ولده أبو عبد الله الحسين، قال: أنشدني والدي لنفسه [من البسيط]

يا نازلي البلد الأقصى ومنزلهم

وسط الضَّمير وهم في القلب سكَّان

أفنيت صبري وأبقيت الغرام فلا

صبرٌ ولا عنك لي يا عين سلوان

نفيت عزمي عن أهلي وعن وطني

يا من إذا ماس فيه يخجل البان

هل تذكرون محيّا قد فنى أسفًا

أفناه في حبِّكم همٌّ وأشجان

لا يطعم الغمض مذ شطَّت دياركم .. وليس يؤنسه أهلٌ وخلَّان

أشكو إلى الله عمرًا قد مضى عبثًا

لا الدَّار دارٌ ولا الجيران جيران

ص: 298

ضدّان قد لازماني في محبَّتكم

في العين ماءٌ وفي الأحشاء نيران

/ 226 ب/ من لي بكتمان ما الأحشاء تضمره

وفيض دمعي على الخدِّين عنوان

قد كان دمعي لآلي قبل بينكم

والآن مذ غبتم فالدَّمع مرجان

قد كنت ذا طربٍ في قربكم فغدا

لبعدكم [في الحشا] همٌّ وأحزان

ونقلت من خطه شعره: [من السريع]

وإن كنت لا أطمع في وصلكم

ولا أنال الفوز في الآخره

وقد مضى عمري ضياعًا بكم

فيا لها من ضفقةٍ خاسره

[699]

محمَّد بن إبراهيم بن خشنام بن أحمد، أبو حامدٍ الحلبيُّ.

كان له عناية بالحديث وسماعه، ورحلة في طلبه، وسمع الكثير منه، وله مع ذلك يد في معرفة الطبّ، وعلم الأدب، وكان فاضلًا.

صار إلى من تأليفه، مجموع حسن في معناه، صنعه باسم بعض الكبراء في ذلك الوقت، محتوٍ على فنون من محاسن الأشعار، ولطائفها، وقد رتَّبه أبوابًا وفصولًا، وأورد فيه نبذًا من شعره.

وحدثني أخوه نجم الدين أبو الحسن بن إبراهيم بن خشنام الفقيه الحلبي، بحلب المحروسة، قال: توفي أخي أبو حامد/ 227 أ/ بعد الستمائة؛ لأنه كان الأكبر، وكنت صغير السن يومئذ.

ومن شعره يقول في كتاب ورد عليه من بعض أصدقائه: [من الكامل]

ورد الكتاب فمرحبًا بوروده

من عند خير مكاتبٍ ومراسل

فلثمته من بعد قولي ناشطًا

يا مرحبًا بقدومه من واصل

وخضعت للرحمن جل جلاله

أن يجمعن ما بيننا بالعاجل

وقال في مثله: [من المتقارب]

أتاني الكتاب وفصل الخطاب

لبرد الشَّباب وعهد الصَّبا

من البحر فصلًا من القطران

تراه إلى نشر علمٍ صبا

ص: 299

فبرَّد عنِّي غليل البعاد

كما الصَّبُّ هبَّت عليه الصَّبا

وقبَّلته العشر من بعد أن

تأمَّلته قائلًا مرحبا

وقوله يمدح: [من الكامل]

صدرٌ يداه مقبل الإقبال

وعلى نداه معوَّل الآمال

إن كان لا يأتي السَّحاب بنقله

فبكفِّه يأتي سحاب المال

وقوله: [من المتقارب]

إذا نشر الصُّبح أعلامه

...... يد البين أكمامه

/ 227 ب/ فقم يا غلام وهات المدام

وناد الصِّبوح ومن رامه

ولا تهملن زقَّ بنت الكروم

إلى ابن الكرام وإكرامه

فما عاقلٌ من يعقُّ العقار

ومن يصغ سمعًا لمن لامه

وقال أيضًا: [من الطويل]

سلامٌ كأنفاس الشَّمال تبسَّمت

على نفس مهموم يودُّ نسيمها

نسيمٌ ينسِّي طيب ريَّاه ربربًا

ترَّبى بجنَّات النَّعيم نعيمها

[700]

محمَّد بن أحمد بن رافعٍ، أبو المحامد الهلاليُّ.

ينسب إلى جبل بني هلال من أعمال صرخد، من الشعراء الدمشقيين.

أخبرني القاضي السيد بهاء الدين أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن سعيد بن الخشاب- أيده الله تعالى- بحلب، قال: كان أبو المحامد رجلًا أسمر، وافي اللحية، عبل الجسم، وأوّل ما وخطه الشيب يسلك سلوك الأعراب في إنشاده الشعر، جهوري الصوت. يفد إلى حلب، ويمدح سلطانها الملك الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف- رحمه الله فيجيزه على شعره، ويكرمه، وينصرف عنه شاكرًا لأياديه، وسمعنا منه كثيرًا من شعره.

ص: 300

ذكره أبو الحسن بن محمد بن أحمد بن عمر القطيعي/ 228 أ/ في تاريخه المذيل على تاريخ السمعاني أبي سعيد، وقال: قدم أبو المحامد هذا بغداد، أيام قاضي القضاة ابن الشهرزوري، ثم قدمها سنة إحدى وستمائة.

وأنشدني لنفسه: [من الطويل]

عفا الربع من سلمى فأقوت منازله

وعيفت لبعد الحيِّ عنه مناهله

وناحت به ورق الحمام كأنَّها

تحاول من سكَّانه ما تحاوله

خليلي إنَّ الحبَّ داءٌ دواؤه

فراق حبيب أو حبيبٌ تواصله

إذ الوجد لا ينفكُّ في مذهب الهوى

كسبًا إذا لم يخرج الحقَّ باطله

وليل بثٍّ بتُّ فيها كأنَّما

بجفني من شوك القتاد عوامله

أراصد منها كلَّ نجمٍ كأنَّما

حرامٌ عليه أن يرى الغرب مائله

وكم رمت إسعاف الرُّقاد وقد دنت

أواخر ليلي أرَّقني أوائله

لعلَّ خيال العامريَّة موهنًا

يغازلني في جنحه وأغازله

وهيهات أن يحنو على ذي صبابةً

حليف هوًى قد ملَّ منه عواذله

له أنَّه الشَّاكي إذا ما ترنَّمت

على الدَّوح من وادي الأراك بلابله

وأنشدنا أبو الحسن محمد بن إبراهيم بن سعد بن الخشاب؛ قال: أنشدنا أبو المحامد الهلالي لنفسه، / 228 ب/ هذه القصيدة الدالية، يمدح السلطان الملك الظاهر- رحمه الله تعالى-:[من الكامل]

بالمشرفيَّة والقنا الميَّاد

ملكت معاقل يعرب وإياد

وبحثِّ والدك الصَّوافن ضمَّرًا

تختال تحت قساور الأمجاد

دانت ملوك المشرقين وزعزعت

بالمغربين شوامخ الأطواد

فعلام يا خير الملوك أبًا ومن

خلقت صوارمه بلا أغماد

لم تورد البيض القواضب والقنا

مهج العداة فإنَّهنَّ صوادي

وتقيدها بدم الكماة كأنَّما

خضبت عواملها يد العرصاد

فانظر غياث الدِّين يا خير الورى

وأجلَّها من حاضر أو باد

يا ابن الَّذي ملك الطُّغاة وأصبحوا

رهن الحقوف لديه والأضداد

ص: 301

واغتر لدين المسلمين فقد سمت

ظلمًا ثعالبه على الآساد

وانهض إلى الدُّنيا بكلِّ غضنفر

ندب لكلِّ وقيعةٍ معتاد

ثبتٍ يودُّ لدى الطِّعان بأنَّه

لعلاك من دون البريَّة فادي

وافتح حصون الخافقين فإنها

وافتك طائعةً على ميعاد

لا تخش من كيد الملوك فإنَّهم

نعمٌ وأنت لها بسيفك حادي

/ 229 أ/ تالله لا بلغو مداك ولا شأوا

علياك يا ابن السَّادة الأجواد

أنَّى وأنت لهم إذا اشتجر القنا

ليث الشَّرى وإلى المكارم هادي

غرست رماحك في الجوارح منهم

رعبًا تبقِّيه على الأولاد

إن يحسدوك على المكارم والعلا

والمجد لا يخلو من الحسَّاد

كم بين من نسخ الكرام وأصبحت

أمواله وقفًا على الوفَّاد

نال المدى يوم السِّباق ومجده

إرثٌ عن الآباء والأجداد

ومدمَّم بخلت يداه فلا يرى

طرف الفخار إليه بالمنقاد

كم رام ذو خطر ليدرك بعض ما

أوتيت من شرف وبذل أيادي

فرآك كالنَّجم الَّذي لا ترتقي

يومًا إليه طبائع الأجساد

أنت الَّذي عمَّت سحائب جوده

سحّا على الأغوار والأنجاد

وغدا لنشر مديحه بين الورى

وثنائه في كلِّ قطر شادي

أغياث دين الله يا من لم يزل

عزِّي إذا طلب الزمان عنادي

يا خير من جرًّ الجيوش وخير من

تليت مناقبه على الأعواد

إنِّي ولجت فناء جودك راجيًا

مننا تبلِّغني لديك مرادي

فاجمع رعاك الله شملي عاجلًا

يا ابن الكرام الغرِّ بالأولاد

/ 229 ب/ فلقد وعدتهم بأنَّك منجحٌ

قصدي وأنَّك عدَّتي وعمادي

واسلم فخير النَّاس أنت وللندى

أهلٌ وأنت بكلِّ خير بادي

وتهنَّ شهر الهاشميِّ محمدٍ

وبشهر أمَّته وبالأعياد

ص: 302

[701]

محمَّد بن عليِّ بن محمَّد بن عليِّ بن محمَّد بن عليٍّ اليحصبيُّ، أبو عبد الله القرمونيُّ الأندلسي.

كان طويلًا من الرجال، خفيف الروح، مداعبًا معاشرًا. نزل دمشق وخالط صدورها، واتصل بأماثلها.

وكان طول دهره، لم يزل مكشوف الرأس، ما وضع على رأسه عمامة ولا قلنسوة. ويعتني بالتصوف، وطريقة التوكل، ويميل إلى السياحة والفقر، ولبس الصوف. وكان له شعر حسن، وفيه أدب وفضل.

حدثني أبو الفضل عمر بن علي بن محمد بن هبيرة، قال: رأيت بدمشق، ومدح والدي بهذه الأبيات:[من مجزوء الكامل]

يا طالبًا معنى الزَّمن

إلق الوزير أبا الحسن

تلق المكارم والنُّهى

والخلق والخلق الحسن

/ 230 أ/ ما مثل نجل هبيرةٍ

لا بالشَّام ولا اليمن

فإذا ظفرت بحبله

ظفرت يمينك بالمنن

وركنت منه إلى يدي

طود ترفَّع عن قنن

يا أيها الشَّمس الَّذي

حاز الفرائض والسُّنن

يا فجر بغداد الَّذي

أضحت لمجدكم سكن

إن لم تكن أنت الَّذي

ترجى لمكرمةٍ فمن؟

ومنها:

لا زلت من ريب الحوا

دث لابسًا أوفى الجنن

[702]

محمَّد بن صالحٍ المعلم، أبو عبد الله الواسطيَّ.

شاعر، له دراية بالأدب؛ نزل البصرة، وهو بها مقيم، يمدح وجوه أهلها، ولم يكن له حرفة سوى التكسب بالشعر، والاستجداء به. وهو من سواد واسط.

ص: 303

أنشدني أبو عبد الله محمد بن شعيب الواسطي، قال: أنشدني محمد بن صالح الواسطي لنفسه: [من البسيط]

/ 230 ب/ هل نازح الدَّار بعد البعد يقترب

فيستريح فؤادٌ كله كرب

أما اللَّيالي الَّتي جاد الزَّمان بها

تعود من بعد ما فاتت فترتقب

أيَّام قد كنت يا لمياء راضيةً

فلم أبل رضي الواشون أم غضبوا

ما بال أثواب وصلي بعد جدَّتها

قد أخلفت وجلابيب الصِّبا قشب

إذا نهضت إلى مجد أوثِّله

تقاعدت بي عن إدرأكه النوَّب

يستضحك الفضل منِّي حين يخطبني الـ

ـعلا ويدركها عريٌ فينتحب

ومنها:

يا من أغات على قلبي لواحظه

ببيضهنَّ ألا فليهنك السَّلب

صل مدنفًا قلبه شوقًا إليك على

مثل اللَّظى يتلظَّى حين ينقلب

ما راق بعدكم شيءٌ له أبدًا

ولا دعاه إلى مستحسنٍ طرب

وأنشدني، قال: أنشدني أيضًا لنفسه، من ابتداء قصيدة:[من البسيط]

أفنى وليس بفان ما أكابده

ولا عج الشَّوق ماينفك عائده

وأكتم الوجد والتَّبريح يظهره

وكيف [يكتم] داعي الحبِّ واحده

يا من صحبتهم دهرًا فما نظرت

عيناي منهم أخا صدقٍ أوادده

/ 231 أ/ من كان طالب خلٍّ يستعين به

على الزَّمان فقد أكدت مقاصده

[703]

محمَّد بن أحمد بن عليِّ بن محمَّدٍ، أبو أحمد الواسطيُّ الضرير، نزيل الموصل.

كان قارئًا مجودًا، ماهرًا في القراءات، فقيهًا جدلًا مناظرًا، حسن القراءة للقرآن وتجويده. وكان قد تفرّد بشيء ما انفرد به غيره؛ وذلك أنَّه كان يقرأ السورة من آخرها إلى أولها؛ آية بعد آية. ويأخذ من سورتين من أول واحدة، وآخر أخرى، فيقرأ من أول كل سورة آية، ومن آخر سورة أخرى آية؛ فيختم هذه إلى آخرها، ويختم تلك إلى أولها؛ ثم يأخذ من سور متعددة، من أول واحدة، ووسط أخرى، وآخر أخرى، ثم

ص: 304

يختم السور كلّها. قراءة مرضية من غير توقف.

لقيته بالموصل، وطلبت منه شيئًا من شعره، فوعدني ذلك؛ ثم توفي ليلة الاثنين بعد عشاء الآخرة، حادي عشر رجب سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

أنشدني ولده أحمد؛ قال: أنشدني والدي لنفسه من قصدية أوَّلها: [من الرمل]

/ 231 ب/ حظر الوجد عن العين كراها

فأتت ساهرةً إلَّا قذاها

وأبى البين فأصمى سهمه

كبدًا لم يخطها يوم رماها

[704]

محمَّد بن المؤمل بن فضلٍ البحرانيُّ، أبو عبد الله.

كان فقيهًا على مذهبه الإمامية، فاشتغل بالحلة المزيدية، ثم ورد الموصل، وأقام بها، إلى أن مات سنة خمس وعشرين وستمائة.

أنشدني الرئيس أبو العباس أحمد الموصلي- أيده الله تعالى- قال: حججنا سنة إثنين وعشرين وستمائة، ومضينا إلى البيت المقدس، وزيارة الخليل- عليه السلام وكان أبو عبد الله في صحبتنا، فأنشدنا لنفسه:[من الطويل]

حججنا وزرنا المصطفى ثمَّ إنَّا

عطفنا المطايا يا حسراتٍ ضوامرا

نؤمُّ كريمًا كان في الله بذله

وأنزل فيه: قانتًا لي وشاكرا

فكن يا خليل الله ذخرًا وعدَّةً

لنفس أتى بالمال والنَّفس زائرًا

وحاجته العظمى إذا جاء في غدٍ

تكون له عونًا معينًا وناصرًا

/ 232 أ/ وحاشا لجدِّ الهاشميِّ محمدٍ

يؤمِّله راجٍ ولم يك ظافرا

[705]

محمَّد بن يوسف بن خمر تاش بن سعيدٍ، أبو عبد الله القطبيُّ".

وكان يعرف بأمير علم، وخدم جنديًا لبني أتابك أوّلهم؛ عزّ الدين مسعود بن مودود بن زنكي، ثم ولده من بعده نور الدين أرسلان شاه، ثم ولده الملك الظاهر عزّ الدين مسعود- رضي الله عنهم.

ص: 305

وكان موصلي المولد والمنشأ، وتوفي بالموصل في السابع والعشرين من رجب سنة خمس عشرة وستمائة.

أنشدني ولده المبارك، قال: أنشدني والدي لنفسه، يمدح المولى المالك الرحيم، بدر الدنيا والدين عضد الإسلام والمسلمين، ملك أمراء الشرق والغرب، أبا الفضائل غرس أمير المؤمنين- ثبت الله دولته، وأدام الله عليه نعمته- يهنئه بالشهر:[من الطويل]

أمولاي بدر الدِّين ذا النَّائل الغمر

أهنِّيك يا خير البريَّة بالشَّهر

وإنَّك أهلٌ للهناء وصاحبٌ

له غزَّة كالشَّمس والقمر البدر

وكفٌ إذا مدَّت ببذل مواهبٍ

تقاصر عنها نائل البحر والقطر

/232 ب/ أنا السَّائل المملوك يرجوك للَّذي

تشرِّفه في حاله الطَّيِّ والنَّشر

فما أنا عبد عق مولا لا ولا

عصى أمره في حالة العسر واليسر

وأنشدني، قال: أنشدني والدي فيه أيضًا: [من الكامل]

ما قام يستجلي المدام بكفَّه

إلَّا حسبت البدر يحمل كوكبا

صنمٌ تفرَّد بالملاحة وحده

وسواه إن ذكرت ملاحته هبا

كالملك بدر الدِّين أفرد بالنُّهى

فغدا إلى كلِّ القلوب محبَّبا

ملك ظلت بعزِّه مستعصمًا

فأغاثني والسَّيل قد بلغ الزُّبى

يا مالك الحدباء بشرى إنَّه

الإقبال حولك كيف شئت تقلَّبا

[706]

محمَّد بن سعد الله النهرديريُّ.

نهر الدير من أعمال البصرة.

أنشدني أحمد بن عبد الله بن داود المذاري، قال: أنشدني محمد بن سعد الله لنفسه: [من الكامل]

ردي عليَّ تحيةً حيِّت

ثمَّ افعلي من بعدها ما شيت

ص: 306

ودعي الحليَّ وحمله يا هذه

فعن الحليِّ وحمله أغنيت

/ 233 أ/ والله ما أزداد منك على الَّذي

قد نالني خلِّيت أو خلِّيت

تيهي على الخفرات تيهًا فافخري

فخرًا فما أعطين ما أعطيت

الرِّبح راح لمن شراك ورحت في

أشراكه أرخصت أو أغليت

[707]

محمَّد بن عليِّ بن عبد الله بن الحسين بن سندٍ، أبو عبد الله بن أبي الرضا الموصليُّ.

كان والده من الأماثل بالموصل، وذوي الثروة والجاه، وورث لولده هذا مالًا كثيرًا، فأتلفه جميعه في الخمر والفساد والقمار. وكان مبتذِّلًا في مواطن اللهو والإنعكاف عليه، حتى افتقر، ونفد ما معه، وساءت حاله، واجتدى الناس بالشعر، ومات على أقبح حال بالموصل، بطاقات سور المدينة.

أنشدني الشريف منصور بن عبد الخالق الموصلي، قال: أنشدني أبو عبد الله بن سند لنفسه، يمدح الوزير أبا المظفر عبد الباقي بن محمد بن أبي يعلى بحلب، من قصيدة أوّلها:[من الطويل]

نسيم الصَّبا إن سرت في السَّحر الأعلى

قفي ساعةً في ساحة الشَّرف الأعلى

/ 233 ب/ رعى الله بالميدان والكجك ليلة

تقضت وكانت من أقاصي المنى أحلى

وحيَّا فنا الحدباء عنِّي فإنَّ لي

بها جيرةً ما اخترت غيرهم أهلا

وكم قد تثنَّى في ثنا الثِّني أهيفٌ

بصرف شمولٍ كأسها نظم الشَّملا

يميس قضيب البان تحت قبائه

وشمس الضُّحى من نور طلعته خجلى

يميت إذا رام القطيعة والجفا

ويحيي لموتاه إذا منح الوصلا

ص: 307

[708]

محمَّد بن أبي عليِّ بن سالمٍ، أبو بكرٍ الحلبيُّ.

وجدت له قصيدة بخط يده، يمدح بها بعض الرؤساء، أنشدنيها عنه أبو القاسم التبريزي، أولها:[من البسيط]

مرَّت على سرحة الوادي فلم تقف

وخلَّفتني حليف الدَّمع والأسف

لمياء ما في جفون الظبي من دعجٍ

فيها وما في قوام الغصن من هيف

يغار بدر الدُّجى منها إذ سفرت

عن واضحٍ من محيَّاها بلا كلف

تكامل الحسن من فرعٍ إلى قدمٍ

فيها وجلَّت معانيها عن الصَّلف

من منصفي من جفاها والهوى له

حكمٌ معانيه عانٍ غير منتصف

/ 234 أ/ ما كنت من قوم طالوتٍ فتأخذني

وما عرفت سواها أخذ معترف

من لي بساخرة الألفاظ ساحرة الأ

لحاظ تسلب قلبي سلب ملتقف

ذات المخلخل لو مرَّت نسيم صبًا

به لأدمته من لينس ومن ترف

[709]

محمَّد بن أبي الوفاء بن أحمد بن أبي طاهر، أبو عبد الله النحويُّ العدويُّ الموصليُّ، المعروف بابن القبيصيٍّ.

أصله من قرية من أعمال الموصل، تدعى القبيصة، شرقيها.

قرأ القرآن العزيز ببغداد بالقراءات، على القاضي أبي الفتح نصر بن علي الكيّال الواسطي؛ ثم قرأه أيضًا على جماعة من المشايخ، وأخذ علم النحو عن شيخه أبي الحرم مكي بن ريّان الماكسي، وحصل له معرفة جيدة بهذا العلم.

وتفقه على أبي القاسم يحيى بن علي بن فضلان البغدادي ببغداد، وسمع الحديث من أبي سعد بن حميه الصوفي، وتخرّج عليه جماعة في علم العربيّة والأدب بإربل والموصل، واستفادوا منه.

ص: 308

وخرج إلى بلاد الروم فسكنها مدّة، ثم رحل عنها إلى الشام. أصله من/ 234 ب/ أصفهان، وإنَّما نزل بعض أجداده القبيصة وتديَّرها، فنسب إليها.

وكانت ولادته في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، هاجر إلى حلب بأخرةٍ. وأقام بها مدّة، وتصدّر لإفادة علم النحو والعربية والأدب، إلا أن مات سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، ودفن من قبيلها بجوار مقام إبراهيم- عليه السلام.

وصنّف ثلاث مقدمات؛ مقدمة في النحو، ومقدمة في التصريف، ومقدمة في الحساب.

كان شخصًا قصيرًا، ضعيف العينين، وكان يقول شعرًا صالحًا؛ رأيته عدّة مرات ولم آخذ عنه شيئًا.

أنشدني أبو بكر بن محمد بن أمريكا الزنجانيّ، قال: أنشدني ابن القبيصيّ لنفسه، في غلام قصّاب:[من الوافر]

وأهيف قدُّه قدُّ العوالي

ولكن خدُّه خدُّ العوالي

بمديته ومقلته تصدَّى

لسفك دم المواشي والرِّجال

تراه قاطمًا ماظلَّ يفري

به الأودأج خلوًا لا يبالي

فلو ردَّت وقد نهلت رضابًا

كشهد شيب بالماء الزُّلال

إلى أعناقها من غير ذبح

لكلِّ قام يسعى غير آل

وأنشدني، قال: أنشدني أيضًا من شعره: [من الوافر]

/ 235 أ/ وريمٍ قد سقيت الرَّاح حتَّى

أمال برأسه فرط العقار

فأقسم أنَّه لابدَّ من أن

يريني الشَّيب في وسط النَّهار

فلمَّا أن تبسَّم قلت هذي

نجومٌ في النَّهار بلا تماري

لقد برَّت يمينك يا حبيبي

بما أبديت من تلك الدَّاري

وأنشدني أبو الفتح محمد بن بدل التبريزي- رحمه الله قال: أنشدني ابن القبيصي لنفسه: [من البسيط]

ما لذَّة الدَّهر إلَّا الرَّاح نشربها

أو الفم العذب مضروبًا به الضَّرب

ص: 309

تشابها لطف خلقٍ لا شبيه له

وطيب خلق فتمَّ الحسن والطَّرب

والورد والكأس ذا خدٌّ وذاك فمٌ

والخمر والحبب الأرياق والشَّنب

والخدُّ والفم ذا وردٌ وذا قدحٌ

والرِّيق والثَّغر ذا خمرٌ وذا حبب

وليلة جمعة شملي وشملهما

وبات يرتع في ميداني الأرب

حتَّى إذا ما تشمَّت في شمائلنا

كأس الشَّمول تمشَّى بيننا الأدب

وأنشدني أيضًا، قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه: [من الخفيف]

خذ على الدَّهر إن قدرت يمينًا

أن يديم الصَّبا وأن لا يمينا

/235/ ما تراه قد راق روضًا وقد رقَّ نسيمًا وقد تأرَّج حينا

زمنٌ طيب وعيشٌ رقيقٌ

وصال ما خلته أن يكونا

فكأنَّ السَّماء تنشر في الرَّو

ض من القطر لؤلؤًا مكنونا

وكأنَّ البهار حامل أطبا

ق نضار على سواعدنا مينا

وكأنَّ الأقأح أزرار تبرٍ كلِّلت لؤلؤاً يروق العيونا

فاغتنم لذَّة الزَّمان فليس الدَّهر كيف اعتبرته مأمونا

ونقلت من خطه، ما قاله لنفسه:[من المتقارب]

أطلعت الغواية فيما مضى

فعاص الغواية فيما بقي

وكن في التُّقى أبدًا راغبًا

فما إن يفوز سوى المتقي

وخالط أولي الخير تسعد بهم

فليس السعيد كمن قد شقي

وله دوبيت مردف:

بالله ترفَّقوا بصبٍّ عاني

فالصَّب غريب

قد ذاب فؤاده من الهجران

والهجر مذيب

تنهلُّ دموعه من الأجفان

والدَّمع مريب

/ 236 أ/ قد جلَّ غرامه عن الكتمان

فالصَّبر عجيب

وقال أيضًا: [من المتقارب]

على ذلك الخيف ظبيٌ ملول

لعينيه في كلِّ حيٍّ قتيل

تحار إذا عاينته العيون

وتصبو إذا عقلته العقول

ص: 310

ويتلف جسمي بهجرانه

وإتلاف روحي فيه قليل

تصبَّرت حتى فداني العدوُّ

على جوره ورثى لي العذول

أميل إليه وإن ملَّني

كذلك كلُّ محبٍّ يميل

تملَّك رقِّي فماذا يريد

وقد حرت فيه فماذا أقول

لساني كليلٌ إذا ما وصفت

وطرفي إذا ما رآه كليل

ونفسٌ تمكّن منها الهوى

وجسم تمكن منه النحول

فلم يبقى من تيك إلَّا المنى

ولم يبق من ذاك إلَّا الاليل

وقال من أبيات: [من الكامل]

دعني أمتِّع [منك] نفسي بالهوى

ما بعد هذا الحسن حسنٌ يعشق

أرَّقتني لمّا هجرت وشقتني

وكذاك هجرك شائقٌ ومؤرِّق

وتركتني حلف الصَّبابة مقلةٌ

عبرى عليك ومهجةٌ تتحرَّق

/ 236 ب/ ولقد فرقت من التَّفرق قبل أن

يلفى ومن مثل التَّفرُّق يفرق

وشفقت من نظري عليك وربما

كان الغنى ما كنت منه أشفق

قمرٌ له في كلِّ قلب مغربٌ

من ناظريه وكلِّ عين مشرق

غرقت عقول الناس فيه دائمًا

في مثل صورته تضلُّ وتغرق

وتجاوزت وصف اللَّبيب صفاته

فلديه كلُّ أخي اجتهاد مطرق

أهوى الهوى وأذب عنه لأنَّه

أبدًا إلى طرق العلا يتطرَّق

ويروق لي عذل العذول لأنَّه

أغرى ليقظان الصَّبابة أشوق

ويزيد رغبتي الملام كأنَّما

لفظ الملام على الترغُّب يطلق

[710]

محمَّد بن قيصر بن بلك، أبو عبد الله البغداديُّ.

كان شاعرًا فاضلًا، ذكيًا، ماجنًا، منتقدًا للشعر؛ سمع ذات يوم فقيهًا قد صنع قصيدة في الملك القاهر عزّ الدين، وهو ينشدها، فمرّ فيها على قوله:[من البسيط]

ص: 311

يا أيُّها الملك السَّامي ومن شهدت

له الخلائق حتَّى الطَّير والسَّمك

فقال للفقيه: ما كنت أعرف/ 237 أ/ أنَّ الملك القاهرة صيَّاد إلَّا الساعة.

قدم من بغداد إلى الموصل، فأقام متفقًا بالمدرسة العمادية، وكان مدرسها يومئذ للشافعية؛ أبو المظفر محمد بن علوان بن مهاجر الموصلي. فمكث عنده، وكان يختلف إلى أبي حفص عمر بن أحمد النحوي الضرير، فيسمع عليه شيئًا من شعر أبي الطيب المتنبي، فبغته أبو المظفر، فقطع جرايته من المدرسة، فأطنب في هجائه، وهجا بنيه، وشتر بهم أبلغ التشتير، وتركهم ضحكة بين الناس؛ فبلغ من مكروه ودهائه، أنَّه لم يسمع هجاءهم إلَّا لمن كان مفرطًا في بغضهم، ومخالفًا لهم في مذهبهم. فإنَّه أسمعه الجلال أبا جعفر محمد بن إبراهيم الحنفي الرازي، ونقيب العلويين.

وبحثت عن سبب قطع خبزه، فلم أعرف في ذلك شيئًا، ثم أخبرت أنَّ السبب في ذلك، أنه كان يشيع ما يعرض للشيخ أبي المظفر بن مهاجر من اللحن.

والشيخ- رحمه الله كان قد فطره الله على اللحن، وترك علم الإعراب، وله في ذلك أخبار عجيبة ولبنية.

أخبرني الإمام أبو عبد الله أحمد بن الحسين النحوي، قال: أخبرني شيخي أبو حفص النحوي، قال: لما: 237 ب/ قدم الشيخ أبو المظفر من مكة، مضيت لأهنئه بالقدوم؛ فحدثني ابنه أحمد الذي كان معه، أنه رأى مغربيًا بمكّة، مجاورًا يحفظ سيبويه هكذا لفظ به، ابن الشيخ، ولم أر أحدًا من العامة يقول إلّا سيبويه. فالعجب من عالم تقصر فطرته عن عامي.

وجمع هجاءهم في جزء، ووسمه ((برياضة الخاطر في هجاء ابن مهاجر))، وفيه هجاء مقذع، وكلام قبيح، وقول فاحش بذيء لا يليق سطره في هذا الكتاب، ولو وجدت له غير ذلك لأثبته.

ص: 312

أنشدني أبو عبد الله النحوي، قال: أنشدني محمد بن قيصر لنفسه: [من الكامل]

درست رسوم الفقه أيَّ دروس

مذ أهَّلوك لمنصب التَّدريس

وبكى عليه الشَّافعيُّ وكيف لا

يبكي وقد أفضى إلى إبليس

تبًا لدهر صرت فيه مدرِّسًا

من بعد رعي الثَّور والجاموس

قد نلت مالًا كنت تأمل عشره

فحويته بالنَّصب والتَّدليس

عجبًا تعاف الضَّأن شبعًا أكلت

وتبيت طاويةً أسود الخيس

إن كانت الأرزاق تقسم هكذا

أبدًا ............

وقال أيضًا/ 238 أ/ يعتذر عن ترك هجاء علوان وولده: [من السريع]

ولائم يوجعني عتبا

ولم أكن مقترفًا ذنبا

يقول لم لم تهج علوان أو

توسعه ثلبًا ولا سبَّا

فقلت ما أقعد عن هجوه

عتبًا ولا خوفًا ولا حبّا

لكنَّه كلبٌ وهل شاعرٌ

سمعته قطُّ هجا كلبا

وقال أيضًا، يخاطب رجلًا من قصيدةٍ امتدحه بها شكرًا على يد أسداها إليه:

[من الخفيف]

صنت وجهي عن بذله لوجوه

ليس تندى لؤما ويندى الصخر

بأكفٍّ في البحر لو غمسوها

كدَّرت صفوه وغاض البحر

ورثوا اللُّؤم عن جدودٍ لئامٍ

لا سقى تربةً ثووها القطر

وقال من قصيدة، امتدح بها الجلال الحنفي:[من الخفيف]

كيف ألحى ظلمًا بلومٍ أليم

بعد أن أصبح الغرام غريمي

صنت دين النَّبيِّ عن ناس سوء

حرَّفوه جهلًا بقول أثيم

/ 238 ب/ لبسوا الفقه جاهلين بفرقً

بين منع الدَّليل والتَّسليم

ويح نفسي أنا رضيت وغضَّ الرَّوض لي مملقٌ برعي الهشيم

وورود السَّراب والبحر مورو

دٌ ونبع المحمود والمذموم

ص: 313

ليس ديني صبرًا على الذُّل كلَّا

لا أريد الدُّنيا بعيشٍ ذميم

غير أنَّ القضاء في كلِّ حالٍ

عجبٌ غير مدركٍ مفهوم

[711]

محمَّد بن محمَّد بن أحمد، أبو الفضل المرنديُّ النحويُّ الأديب.

كان شيخًا مقدمًا في علم النحو والعربية، وصدرًا في معرفة اللغة والأشعار، كثير الحفظ، واسع المعرفة. وكان ينظر شعرًا باردًا، في ألفاظه تعسف.

أنشدني الخطيب الفقيه أبو بكر بن جبريل بن عبد الجليل الأزهري، قال: أنشدني محمد بن محمد المرندي لنفسه، ما كتبه إلى القاضي محيي الدين، قاضي مرند، يشكو إليه حاله:

كيف للحوت بغير الماء

قلقا يشوى على الرَّمضاء

كيف للصبِّ ولكن له

طمَّه الثَّلج على الأنداء

/ 239 أ/ كيف للداء الذي له

وللمراق رمين الدَّاء

كيف للطفل فطام لبنًا

وفراق الشَّمس للجرباء

كيف محمودٌ لدى غلَّته

كيف مخمورٌ بلا صهباء

كيف ظمانٌ ولا ماء له

وهو في دغدغة استسقاء

كيف مجنونٌ وليلاه نأت

ونوى الوامق والعذراء

كيف للظبي ويناه طلا

كابر الآساد في البيداء

كيف للروضة هجران صبًا

وهي قد تبدل بالنَّكباء

كيف للنملة سهلًا جرها

حبلًا في خطَّةٍ عسراء

في سحيق في سفا مخلولق

في محاكي قلَّة شمَّاء

صرت مأخوذًا بقاف عنوةً

فاعترتني رنَّة الفأفاء

وهي قصيدة طويلة، ويكفي هذا القدر منها.

ص: 314

[712]

محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن قدامة، أبو عمرٍو المقدسيُّ.

وهو أخو الشيخ الموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد.

وأبو عمرو كان من الشيوخ الصالحين الأولياء العاملين، إمام وقته/ 239 ب/ في الزهد والورع. وكان يقطع ليله تسبيحًا وتهجُّدًا، ولم يزل في علمه وعمله حظيًا مجتهدًا.

عمّر إلى أن جاوز التسعين عامًا. وكانت أنفاسه تحية من الله وسلامًا.

أنشدني أبو الفضل عمر بن علي بن هبرة، قال: أنشدني أبو عمرو لنفسه:

[من الطويل]

ألم يك منهاةً عن اللَّهو أنَّني

بدا لي شيبٌ الرَّأس والضَّعف والألم.

ألَّم بي الخطب الَّذي لو بكيته

زماني حتَّى ينفد الدَّمع لم ألم

[713]

محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن أبي الفضل السُّلميُّ، أبو عبد الله المرسي النحويُّ المقرئ المتكلم الأديب الفقيه المالكي الأصوليُّ.

ص: 315

صنّف التصانيف، وخرّج التخاريج.

رحل إلى بلاد خراسان، ووصل إلى مرو الشاهجان، ولقي مشايخ العلم، ورجال الأدب، وجال في بلاد الشام والعراق، وجاور بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وأقام بها على الدراسة والتعليم.

وهو أحد الأدباء المعدومين، من جملة الأئمة الأعيان، سلك طريق النسك والاجتهاد، وآثر العزلة عن الناس والإنفراد، /240 أ/ جامع لأشتات العلوم، حائز، ضارب فيها بسهم فائز، يتكلم فيها بعقل صائب، وذهن ثاقب.

ثم إنّه يقوم بعلم تفسير القرآن، وعلوم الصوفية، أحسن قيام، تكلّم على كتاب المفضل لأبي القاسم الزمخشري، وأخذ عليه عدة مواضع، وعمل كتابًا في تفسير القرآن المجيد، لم يصنف أحد من العلماء المتقدمين مثله، أورد فيه أشياء والتزمها؛ ولم يذكر غيره ممن كان له عناية بهذا الشأن.

وكان مولده سنة سبعين وخمسمائة. شاهدته شيخًا بدار الحديث، بمدينة حلب، يوم الأحد الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة أربع وثلاثين وستمائة.

ص: 316

وأنشدني لنفسه هذه المقطعات: [من الكامل]

قالوا محمَّد قد كبرت وقد أتى

داعي الحمام وما اهتممت بزاد

قلت الكريم من القبيح لضيفه

عند القدوم مجيؤه بالزَّاد

وقال وقد تماروا عنده في الصفات: [من الكامل]

من كان يرغب في النَّجاة فما له

غير اتِّباع المصطفى فيما أتى

ذاك السَّبيل المستقيم وغيره

سبل الغواية والضَّلالة والرَّدى

فاتبع كتاب الله والسُّنن الَّتي

صحِّت فذاك إذا اتَّبعت هو الهدى

/ 240 ب/ ودع السُّؤال بكم وكيف فإنَّه

من باب بحر ذوي البصيرة والعمى

الدِّين ما قال الرَّسول وصحبه

والتَّابعون ومن مناهجهم قفا

وقال ملغزًا في شخص اسم يحيى: [من الطويل]

أبثُّك ما بالقلب من لوعة الحبِّ

وما قد جنت تلك اللَّحاظ على لبِّي

أعارتني السُّقم الَّذي بجفونها

ولكن غدا سقي على سقمها يربي

على أنَّني في بثِّك الحبَّ مثل من

يبوح بما في الصَّدر منه إلى القلب

أما وهواك المذهبي إنَّ مهجتي

مقسَّمةٌ بين الصَّبابة والكرب

وإنِّي ما ذقت الكرى مذ نسيتني

وما حال من يصبو إذا صدًّ من يصبي

كتمت الَّذي بي من هواك عن الورى

على أنَّ دمعي ذو ولوع بأن ينبي

ولكن سأبديه إليك لأنَّني

أرى ذلك الإبداء من سنَّة الحبِّ

صبا بفؤادي نحوك اثنان سؤددٌ

وحسنٌ فعذرٌ واحدٌ منهما يصبي

فديتك من قاضٍ عليَّ لو أنَّه

يعدِّي اسمه لي ما قضيت أسى النَّحب

ص: 317

ودونكها بكرًا لها من حبابها

رداءٌ أتت فيه مروَّعة السِّرب

فمدَّ لها كفّا فمنك حياؤها

ولا تبدينها فهي من ذاك في رعب

وقال: [من الطويل]

/ 241 أ/ تقبَّل أبا بكر كتابًا وهبته

كقلبي لا أبغي إليَّ إيابه

وطبت به نفسًا فخذه بمثل ما

غدا آخذًا يحيى النبيُّ كتابه

وقال أيضًا: [من الطويل]

فؤادٌ كما شاء الحبيب الَّذي يهوى

يسعِّر فيه النَّار وهو له مثوى

وجسمٌ براه الحبُّ إلَّا أقلَّه

ويحمل ما ينهدُّ من حمله رضوى

بليت بداني الدَّار ناء بهجره

ولي صبر أيُّوب على هذه البلوى

على أن صبري كلَّما زاد قوَّة

تلقَّته من هجرانه هجرةٌ أقوى

إلى الله أشكو لا إليه لأنَّني

شكوت له حالي فلم تنفع الشَّكوى

طبيبٌ إذا استشفيته قال لي: اصطبر

أسى الحبِّ داءٌ لست تلفي له أسوا

وماؤٌ ولكن كدت يهلكني الصَّدى

فيا ماء هل لي من سبيل لأن أروى

وقالوا الهوى شهدٌ وصابٌ فذقته

فألفيته مرًا ولم ألفه حلوا

ولو أنَّ ما لاقيت منه أبثُّه

لكان حديثي فيه أعجب ما يروى

فرفقًا بصبٍّ كلَّما قيس حبُّه

بحبِّ سواه كان كلُّ هوًى دعوى

يرى حبَّكم فرضًا تأكد حكمه

ولكنَّ فرضًا ليس يحتمل السَّهوا

[714]

محمَّد بن يحيى بن أبي دلف/ 241 ب/ بن خشرم- بضم الخاء المعجمية من فوقها، وتسكين المهملة وبعدها ياء مهملة- أبو عبد الله البغدادي الواعظ المعروف بالشاعر.

واعظ حسن، له قبول عند طائفة من الناس، شاهدته عدّة مرَّات في سنة اثنتين

ص: 318

وثلاث وعشرين وستمائة، بمدينة السلام، في أيام الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد- رضي الله عنه يعظ الناس بباب البدرية، ولم يقدَّر لي الاجتماع به، لأعلق عنه من شعره.

ثم بعد ذلك انحدرت إلى بغداد في سنة تسع وثلاثين وستمائة، ولقيته بها؛ فاستنشدته فأنشدني أواخر ربيع الآخر من السنة السابق ذكرها، يمدح الإمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين- صوات الله عليه-:[من السريع]

خليفة الله أبو نصر

مؤيّدٌ بالعزِّ والنَّصر

من صفوة الله بني هاشم

الطَّيِّبين الأصل والذِّكر

أصبح وجه الدَّهر مستبشرًا

بوجهك المستحسن البشر

وظلَّت الشمسة شمس الضُّحى

فيه وأبدت طلعة البدر

ومنها قوله:

وهو عليه بردة المصطفى

وتاجه نور أبي بكر

/ 242 أ/ ورحت من طيب مناجاته

أهزُّ عطفيَّ من الشُّكر

وظلت في ظلِّ بساتينه

أخطر في روضاته الخضر

كأنَّني أخطر في جنَّة

أنهارها من تحتها تجري

لكلِّ شيء ثمرٌ يجتنى

منه وهذا ثمر الصَّبر

هذا كتابه دائما

ندعو له في جامع القصر

فانبسط السُّنِّيُّ في عصره

وغيره في القبض والعصر

إنَّ أمير المؤمنين اشترى

حسن ثناء الخلق بالتِّبر

ففاز بالرِّبح وحاز العلا

من ذا الَّذي يبتاع بالسِّعر

وأرخص البرَّ بإنعامه الـ

ـهامي وهذا غاية البرِّ

لم أر أبهى قطُّ من وجهه

كأنَّه يوسف في مصر

أنتم بني العباس ساداتنا

نطيعكم في السِّرِّ والجهر

طاعتكم بالنصِّ مفروضةُّ وأنتم حقًا أولو الأمر

ص: 319

عش ألف عامٍ يا إمام الهدى

ما أنت إلَّا غرَّة الدَّهر

وانشر لواء الحمد في ذروة الـ

ـعلياء بين الحمد والشكر

ما روَّحت ريح الصَّبا نسمةً

وروَّحتها نسمة الفجر

/ 242 ب/ تبت من الشِّعر ولكنَّني

في حبِّه عدت إلى الشِّعر

وأنشدني أيضًا من شعره، من أبيات أولَّها:[من الطويل]

بلي ببلاء الصَّبِّ من عذل الصَّبا

فما لامه إلَّا وما عرف الحبَّا

ولم يبقى حبُّ العامريَّة لي ذمًا

يرام ولا سمعًا يلام ولا لبَّا

أغالط عذَّالي فأذكر عزَّةً

ولبنى وأعني في ضميري الكنى عتبا

كلانا نصون الحبَّ خوف وشاته

فأنظمه شكوى وتنثره عتبا

وأنشدني أيضًا لنفسه، من أبيات، يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم:[من الوافر]

أنارٌ أم سنى برق أنارا

فأذكى في قلوب الركب نارا

تسامى يمنة العلمين وهنًا

ضريمًا ما ورى حتَّى توارى

يفوت تتابع اللَّحظات سبقًا

ويأخذ من بيوت الزَّنج نارا

عشيَّة كلُّ من في الرَّكب حيرى

فلو مرَّ الهدى بهم لحارا

فبينا نحن في سجف الدَّياجي

على الأحداج نرتقب النَّهارا

كوجهك يا رسول الله لمَّا

سفرت على زمانك فاستنارا

بك افتخرت قريشٌ في البرايا

أفضحت تملأ الدنيا افتخارا

/ 243 أ/ ولولا سعد جدِّك لم يعدُّوا

معدَّا في الجدود ولا نزارا

سبقت إلى العلا وسمعت أقصى

نهايتها فشأوك لا يجاري

معال أصبح الفصحاء فيها

ووصف صفاتك العليا حيارى

فمدحك لا تحيط به البرايا

ولو جعلوا مدادهم البحارا

ص: 320

[715]

محمَّد بن يوسف بن أبي بكر بن بقاء، أبو عبد الرحمن الموصليُّ.

كان شابًا ذكيًا من حفاظ القرآن، ومن أهل الفقه؛ وأخذ طرفًا من علم الحساب والفرائض، وله شعر حسن، رأيته ولم أكتب عنه من شعره شيئًا، لتوانٍ لحقني.

أنشدني أبو الفضل العباس بن ثروان بن طرخان الموصلي، قال: أنشدني أبو عبد الرحمن محمد بن يوسف لنفسه، يمدح الصاحب الوزير أبو البركات المبارك بن أحمد المستوفي- رحمه الله تعالى-:[من البسيط]

بي من لحاظك جرحٌ أنت مرهمه

وفي الحشا منك وجدٌ أنت تعلمه

أخفيت حبَّك جهدي أن أبوح به

فأعرب الدَّمع ما قد أعجمه

/ 243 ب/ ومن جوارحه تبدي مفاضحه

إذا طرا الحبُّ قل لي كيف أكتمه

لا غرو أن مات من يهوى الملاح جوًى

أو دام في حبِّ فتان يتيِّه

ما أعذب الحبَّ ما أحلى مغبَّته

لو أنَّ أيدي النَّوى منهًا تسلِّيمه

ترى يبلُّ غليلٌ من صدى دنف

أم هل يبلُّ عليلُّ عزَّ مرهمه

لجدَّه الوجد في أحشائه قدمٌ

وإنَّ أقتل داء الحبِّ أقدمه

جفاه كل حبيب كان يألفه

وملَّه كلّ خلٍّ كان يرحمه

فعاد ليس له بين الورى أملٌ

في الجود إلَّا ابن موهوب مقدِّمه

[716]

محمَّد بن حيدر بن مسعود بن محمَّدٍ، أبو عبد الله الأصفهانيُّ الأصل، الموصليُّ المنشأ والمولد.

قدم أبوه مع الملك السلجقي الموصل، من أصفهان.

ونشأ محمد ولده وأحبّ الأدب، فصحب الشيخ أبا الحرم مكي بن ريّان النحوي الماكسي مدّة، وقرأ عليه النحو واللغة والأدب والأشعار، حتى تميّز من بين تلاميذه

ص: 321

وكان ذا فضل ومعرفة، وكان نزقًا شرسًا، سريع الغضب، في طبعه/ 244 أ/ جفاء، بسفّه على من يخاطبه، خرج عن الموصل إلى ديار بكر، واتصل بجماعة من ملوكها.

ثم انقطع آخرًا بالملك المسعود ركن الدين مودود بن محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سليمان بن أرتق بامد سلطانها. ولم يزل في خدمته، يفيد الناس علم النحو والأدب إلى أن مات بجباني في أوائل شهر الله رجب سنة ست وعشرين وستمائة.

ومن شعره، يمدح الأمير فخر الدين أبا إسحاق إبراهيم بن سعد بن عمار المهلبي- رحمه الله تعالى- وذلك في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، من قصيدة:

[من الكامل]

ما راغ عنك على عظيم بلائه

قلبٌ أحلَّك منه في سودائه

قسمًا بمن أمَّت زيارة بيته

أممٌ تحاول من جزيل عطائه

وبمهجتي غفرت جرائم من به

يدعو الإله تبهُّلًا بفنائه

يفديك من لحن الزَّمان وصرفه

بك مغرمٌ يفنى ومن برحائه

ومن مديحها يقول:

لك يا أبا إسحاق رقِّي فاحتكم

أنت الَّذي أنا منه في آلائه

فخرت بفخر الدِّين آراءٌ له

إذ هنَّ فيه ولسن في نظرائه

/ 244 ب/ لو أنَّ من منح السناء بعقله

والمجد كان على ذرى علوائه

صومٌ يبشِّرك الصِّيام بمثله

ألفًا وفطرٌ ناطقٌ بإزائه

[717]

محمَّد بن خلف بن راجح بن بلال بن عيسى، أبو عبد الله المقدسي الأصل، الدمشقي المولد والدار.

ص: 322

كان رجلًا صالحًا متدينًا، سمع بدمشق أبا المكارم عبد الواحد بن محمد بن المسلم. كان من فقهاء الحنابلة؛ محدّثًا عالمًا مناظرًا، حسن العلم والكلام، عارفًا بالتفسير.

تفقه بمدينة السلام، وسمع الحديث من شهدة بنت الأبري، وابن تغوبا [وأبي محمد بن الخشاب، وأبي الحسين عبد الحقّ بن عبد الخالق بن يوسف] وغيرهم. وعاد إلى دمشق؛ حدّث بمسند مسدد بن مسرهد، عن أبي الحسن علي بن المبارك بن تغوبا، ووعظ الناس.

وتوفي في أواخر صفر سنة ثماني عشرة وستمائة. وكانت ولادته في سنة خمسين وخمسمائة.

رأيت له هذه الأبيات، رواها عنه إنشادًا من لفظه أحمد بن الحمزة أبو الحسين السلمي العدل:[من الكامل]

قربت وحانت أوبة التَّرحال

عن هذه الدُّنيا بلا إشكال

/ 245 أ/ الأرض قد منعت كلاها والسَّما

ضنَّت وذلك رائد الأهوال

ظهر الفساد ببرِّها وببحرها

وتنكَّرت أحوالها في الحال

لم يبق في الدُّنيا جميلٌ ظاهرٌ

إلَّا أقاصيص الزَّمان الخالي

هل في الورى متيقِّظ متحفِّظٌ

يدع التَّواني عنه في الأعمال

[718]

محمَّد بن المظفر بن عمر بن الحسين بن المظفر، أبو طاهرٍ- من أهل قزوين- الفقيه الشافعي الواعظ.

نزيل منبج، المدعو بالناصح.

ص: 323

كانت ولادة أبيه بقزوين، سنة ثلاثين وستين وخمسمائة. قدم منبج، واستقر بها مقامه، وأولد بها.

وكان فقيهًا عالمًا أصوليًا شاعرًا، يعرف الخلاف والحديث والمذهب والتفسير والنحو واللغة والأدب. وتوفي بمنبج في شهر شوال سنة إحدى عشرة وستمائة.

وكان يعظ الناس على أسلوب وعظ العجم؛ بملاحة إشارة، ولطافة عبارة.

وكان فصيحًا في إنشاده، وصحب جماعة في أسفاره من المشايخ المشهورين المعتبرين. وكان أكثر اعتماده في الاشتغال والصحبة على قطب الدين بن أبي المعال/ 245 ب/ مسعود بن محمد النيسابوري الفقيه الشافعي- رضي الله عنهما وكان يذكر الدليل من يديه، والأئمة يحضرونه- وهو صغير السن- وأنجب على يديه. وكان يتعجب من فرط ذكائه، ويؤيد دليله.

ومن شعره ما أنشدنيه ولده المذكور: [من الرجز]

اذكره ومض البروق الأبرقا

فأمطر الأجفان سحّا غرقا

هاج له الوجد دعاء ورقه

على غصون بانه تشوُّقا

اله أنشده يمين منشد

وقل له قل لي متى يوم الِّقا

ولائمٍ لام على تجلُّدي

ما درى أنِّي أداري الحرقا

يقول لي دمعك جفَّ أورقا

فلا رقا دمعك جفَّ أورقا

أإن صبرت جلدًا أو سلوه

فما رعيت للغرام موثقا

يا لك من قاسي الفؤاد أكذا

جزيت بعد البين جيران النَّقا

ماذا أقول إن جرى ذكركم

في أرضهم مات لكم طول البقا

ص: 324

[719]

محمَّد بن لؤيِّ بن محمَّد بن عبد الله، أبو منصور بن أبي محمَّدٍ القرشيُّ.

من الشعراء/ 246 أ/ البغداديين المتسمِّين بخدمة الديوان العزيز الخليفتيّ- مجّده الله تعالى- وله المدائح الكثيرة في الناصر لدين الله أبي العباس أحمد- رحمه الله تعالى- ومدح الظاهر بأمر الله، وكذلك المستنصر بالله.

وقد ذكرت والده في كتاب ((تحفة الوزراء المذيل على معجم الشعراء))، وكان أبو منصور ينشد في الهنآت وغيرها.

كتب عنه شيخنا أبو عبد الله محمد بن سعد بن الدبيثي، وأبو عبد الله محمد بن محمود ابن الحسن بن النجار البغدادي الحافظان؛ إلَّا أنَّ شعره نازل لا حلاوة عليه.

وكانت ولادته- فيما ذكر أبو عبد الله الدبيثي- في شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وخمسمائة.

وأخبرني أبو عبد الله بن النجار البغدادي بها، قال: مولد أبي منصور في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. وتوفي إما في سنة خمس أو ستٍّ وثلاثين وستمائة.

أنشدني أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن بن النجار البغدادي، قال: أنشدني أبو منصور لنفسه من أبيات: [من الخفيف]

تاه بالحسن شادنٌ عربيُّ

صار في القلب منه داءٌ دويُّ

بدر تمٍّ يسعى بغنج لحاظٍ

ساحراتٍ وسحرها بابليُّ

/ 246 ب/ يخجل البدر خاطرًا حين يبدو

وجهه المشرق البهيُّ المضيُّ

بعذارٍ كالنَّمل دبَّ على العا

ج ولكن له دبيبٌ خفيُّ

ص: 325

رشاٌ جسمه أرقُّ من الما

ء وأندى قلبه جلمديُّ

أنا من عظم هجره مستجيرٌ

بجوادٍ له النَّبيُّ سميُّ

[720]

محمَّد بن عبد الجليل بن أبي المجد بن أبي الفوارس التاجر الدمشقيُّ، أبو عبد الله.

ولد ببغداد، ونشأ بها، وقرأ القرآن، وتفقه بالمدرسة النظامية، وكتب بخطه الكتب الكبار في الفقه. وسمع الحديث من جماعة. ثم اشتغل بالكسب والتجارة، وسافر إلى الشام عدّة نوب.

قال محبّ الدين: سمع معنا الحديث؛ وهو أحد رفقائنا وأترابنا ربينا معه في المكتب، وفي قراءة الأدب، وسماع الحديث، ولم تر عيناي صاحبًا أسلم جانبًا منه في سفري وحضري، ولا أتم مروءة، ولا أصدق إخاءً، ولا أحفظ منه العهود، وحقوق الصحبة.

علقت عنه شيئًا من الشعر له، ولغيره/ 247 أ/ في المذاكرة، وسألته عن مولده، فقال: في يوم الأربعاء مستهل ربيع الآخر سنة ثمانين وخمسمائة ببغداد.

قال: وأنشدني لنفسه: [من البسيط]

قلبي إليكم من السَّاعات مشتاق

ودمع عيني على خدَّيَّ مهراق

والجسم من بعدكم حلف الضَّنى أبدًا

إذا ابتدا يتثنَّى وهو حرَّاق

صلوا لديغ صدودٍ في محبَّتكم

قصدُّكم موته والوصل ترياق

يا عاذلي خلِّ عذلي في محبَّتهم

فالعذل يغري بمن قد ضلَّ يشتاق

لولا تذكُّرهم لم أبق بعدهم

ولا سعت قدمٌ بي لا ولا ساق

لم أملك الصَّبر إذ ساقوا مطيَّهم

فليتهم ملَّكوني الصَّبر إذ ساقوا

[721]

محمَّد بن عبد الحميد بن عبد الله بن أسامة بن أحمد بن عليِّ بن محمَّد بن عمر بن يحيى بن الحسين بن أحمد بن

ص: 326

عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالبٍ، العلويُّ.

كانت ولادته في ثامن عشر من رجب، سنة تسع وخمسين وخمسمائة، بمشهد علي بن أبي طالب- صلوات الله عليه- / 247 ب/ بالنجف.

كان أديبًا فاضلًا، له معرفة بالنسب؛ ويقول الشعر الحسن، ومنه قوله، وأنشدنيه تاج الدين أبو طالب علي بن أنجب بن عثمان بن عبد الله البغدادي، بمدينة السلام، رابع شوال، يوم الاثنين سنة تسع وثلاثين وستمائة، قال: أنشدني الشريف أبو طالب لنفسه: [من الطويل]

وصادحة باتت ترجِّع شجوها

وتظهر ما ظمَّت عليه ضلوعي

تنوح إذا ما اللَّيل أرخى سدوله

فتذكر أشجاني بكم وولوعي

فيا ليت شعري والأمانيُّ ضلَّةٌ

هل الله يقضي بيننا برجوع

فنبلغ أوطارًا ونقضي مآربًا

ويلتذَّ طرفي من كرًى بهجوع

وما ذاك من فعل الإله وصنعه

غريبٌ ولا من حوله ببديع

[722]

محمَّد بن إسماعيل بن عبد الجبار بن يوسف بن عبد الجبار بن شبل بن عليِّ الصويتيُّ- من صويت فخذ من اليمن- أبو الحسين ابن أبي طاهر بن أبي محمَّدٍ المقدسيُّ.

من أهل الديار المصرية.

ص: 327

وكان والده كاتبًا في ديوان العرض هناك. وأبو الحسين فاضل أديب له أنسه بالتواريخ، وأخبار الأدباء.

وكانت ولادته في ليلة الأربعاء تاسع صفر سنة أربع وسبعين وخمسمائة.

قدم بغداد طالبًا للحديث، وسمع من شيوخها/ 248 أ/ وحصّل وجمع واستفاد، وانحدر إلى واسط، وسمع من أبي الفتح المندائي، ومن غيره. وعاد إلى بلاده.

أنشدني أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار البغدادي بها، في سنة تسع وثلاثين وستمائة، قال: أنشدني أبو الحسين محمد بن إسماعيل لنفسه:

[من المتقارب]

فلا تعجبا لاختلاف الأنام

وما قد نرى من صروف الزَّمن

بهذا قضى الله في خلقه

فقومٌ سرورٌ قومٌ حزن

[723]

محمَّد بن الحسن بن محمَّد بن عليِّ بن إبراهيم، المعروف بابن الكريم، أبو عبد الله البغداديُّ.

الكاتب الشيخ الأديب.

كان فيه أدب وفضل، وله كتابة وشعر.

أنشدني وجيه الدين الإسكندري، أنشدني ابن الكريم النفسه:[من الخفيف]

إن يغب عن فنائك الرَّحب شخصٌ

فدعائي إليه سارٍ وشكري

وثنائي على معاليك مازا

ل مقيمًا في كلِّ سرٍّ وجهر

وانقطاعي عن الحضور لأمرٍ

سوف أنهيه فهو يوضح عذري

ص: 328

/ 248 ب/ وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من السريع]

ما صاحبٌ يسعى على رأسه

للنفع بين النَّاس والضُّر

معكوسه منقصةٌ في الورى

لا ترتضى للماجد الحرَّ

حوى علوم الخلق من عابر

وغابر في سالف الدَّهر

وهو إذا استودع سرًا فلا

يحفظ ما استودع من سرَّ

وطالما أجرى دماء وكم

فرَّج بعد العسر باليسر

وقد تراه صامتًا ناطقًا

ممتهنًا مرتفع القدر

فاعجب لناهٍ آمرٍ لم يزل

ممتثل النَّهي مع الأمر

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من الخفيف]

قلت لمَّا سئلت عن كنه حالي

من هوى نجمه فكيف يكون؟

أنا ممَّن أصابه حادث الدَّهـ

ـر فأمسى لريبه يستكين

أتمنَّى خلًا أمينًا على الدَّهـ

ـر أراه وأين خلُّ أمين!

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من الكامل]

إنَّ البلاغة إن أردت بيانها

فضلٌ لمعنًى زانه الإيجاز

كالوعد أحسن ما يكون لآملٍ

من ذي النَّوال أتمَّه الإنجاز

/ 249 أ/ وقال يصف زهر الخشخاش، وأنشدنيه:[من البسيط]

أمأ ترى زهر الخشخاش حين بدا

تقلُّه في الرِّياض الخضر قضبان

كأنَّه لعيون النَّاظرين يرى

مشاعلًا أضرمت فيهنَّ نيران

وله أيضًا فيه، وأنشدنيه عنه:[من الوافر]

سقى صوب الحيا روضًا نزلنا

به مذلاح للإصباح فجر

وقد أبدى به الخشخاش وردًا

يحيِّر ناظرًا فيه وفكر

كأنَّ بدائع الأزهار فيه

مطارد عسكر بيضٌ وحمر

وله: [من المتقارب]

قنعت بميسور قسم الإله

وقد كان من باليسر اقتنع

وأصبح راض بخاء الخمول

ونون النَّباهة عنه رفع

ص: 329

وأنشرت نفسي بقاف القنوع

وألزمتها طيَّ طاء الطَّمع

وإن وفق الله كنت امرءاً

يرى لازمًا رأي راء الورع

وقوله: [من السريع]

وصاحب لي بالنُّهى لم أزل

أعرفه والفضل موسوما

يقول يومًا حين ناديته

ما أحسن المنثور منظوما

/ 249 ب/ مثل عقود الدر تفصيلها

تراه بالياقوت مفهوما

أهداه لي عصر الرَّبيع الَّذي

إحسانه مازال معلوما

فاسعد به لازلت في نعمةٍ

ولا أراك الدَّهر مهموما

وله: [من الطويل]

إذا ما بدا من صاحب لك زلَّةٌ

وأخفيتها ثمَّ ابتدرت عقابه

فإنَّك قد عاقبته ظالمًا له

ولورمت انصافًا نشرت عتابه

وله: [من مجزوء الكامل]

متحلِّفٌ إن جئته

لم تلقه للهمِّ فارج

وتراه يستمع المدا

ئح ثمَّ لا يقضي الحوائج

وله: [من المنسرح]

أمسيت في جلِّق أسير أسى

رهين همٍّ محالف الكمد

لا مسعدًا أرتجيه يسعدني

على زمان يفت في عضدي

يا بلدة السُّوء ويك لست أرى

فيك معينًا يعين ذا رشد

لأرحلن عن فنان لا ندمًا

أقرع سنِّي ولا أعضُّ يدي

وكون مثلي يسير عن بلدٍ

عارٌ على أهل ذلك البلد

/ 250 أ/ وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من الخفيف]

أيُّها الماجد الَّذي لست عن حفـ

ـظ ودادي ما غبت عنه أحول

وثنائي عليه كالرَّوض غضٌّ

لا يدانيه ما حييت المحول

ص: 330

لي عذرٌ عن التَّأخُّر لمَّا

أصبحت بيننا الوحول تحول

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من البسيط]

أرى بجلَّق أقوامًا مودَّتهم

إذا تبينتها منحلَّة السَّبب

إن أولموا لم يلمُّوا بالصَّديق وإن

دعوه لم تك إلَّا دعوة النَّشب

ونشدني عنه أيضًا: [من البسيط]

حتَّى م ترضى بضنك العيش مغتربًا

ناء عن الأهل والجيران والسَّكن

وأنت من سعة البيداء في رحلٍ

تمسي وتصبح فيها ضيِّق العطن

لا تستقرُّ بدار غير نازحة

تجد سيرًا كثير الحضر في المدن

فاثن العنان وسر بالعزم مرتحلًا

من بعد طول النأي واربع على الوطن

وإن حللت بدار العزِّ مغتربًا

فالضُّرُّ والذُّلُّ بالتَّغريب في قرن

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من السريع]

تغيَّر النَّاس وأحوالهم

فما ترى منهم فعالًا جميل

/ 250 ب/ لا صادقًا ألقى ولا ألقى

لما ناب نبيها نبيل

قد عدم المشفق في عصرنا

حتَّى فقدنا وعزَّ المنيل

فعدت بالوحدة مستأنسًا

وحسبي الله ونعم الوكيل

وأنشدني وجيه الدين، قال: أنشدني ابن الركيم لنفسه: [من الطويل]

إذا فرصةٌ لاحت فخذها ولا تكن

بمعتذرٍ عن أخذها بسبيل

ولا ترجها إن أمكنتك إلى غدٍ

فمن لغدٍ من حادثٍ بكفيل

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من الرمل]

لم أزل أعفو ويهفو صاحبي

وإذا أبصرت عيبًا أتعامى

ولكم راءيت غمرًا جاهلًا

وإذا خاطبني قلت سلاما

وأنشدني، قال: أنشدني من شعره: [من المتقارب]

إذا ما نظرت إلى جاهلٍ

سفيه يفوه بغير الصَّواب

وقد جاء مستهترًا عابثًا

يخاطب جهلًا بسوء الخطاب

فلا تحفلنَّ به واطَّرحه

مهانًا ولا تلقه بالجواب

ص: 331

فما إن لعمري يضرُّ السَّماء

إذا ما فهمت نباح الكلاب

/ 251 أ/ وأنشدني أيضًا وجيه الدين أبو المظفر الأسكندري، في المحرم سنة أربعين وستمائة، قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن إبراهيم المعروف بابن الكريم البغدادي، بدمشق لنفسه:[من المنسرح]

أهدى إليَّ النِّظام مبتديًا

مكفَّنًا يبتغي له سترا

من فوق عرش مزخرف بهرت

ألوانه ثمَّ حيرت فكرا

يخبر في الطَّعم عن خلائقه

وعرفه قد غدا له نشرا

دفنته في الفؤاد من حزنٍ

وظلَّ صدري إذًا له قبرا

فهو حقيقٌ منه بكلِّ ثنًا .. أهديه نظمًا وتارةً نثرا

ما زال يهدي برًا إليَّ وما

زلت بجهدي أهدي له شكرا

فلا عداني إفضاله كرمًا

ولا عدته مدائحي تترى

وأنشدني، قال: أنشدني أيضًا لنفسه: [من مجزوء الكامل]

قل للَّذي خضب المشيـ

ـب مغالطًا حكم القدر

هلَّا ادَّعيت تصابيًا

وغدوت تخفي ما ظهر

/ 251 ب/ وسترت شيبك بالخضا

ب فكيف تصنع بالكبر؟

وأنشدني، قال: أنشدني من شعره: [من مجزوء الكامل]

صارحت إخوان الوداد

فعل اللَّبيب أخي السَّداد

لمَّا تكَّر منهم

صفو الأخوة والوداد

وأطلعتهم وجفوتهم

كالعضو يقطع للفساد

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من المتقارب]

قبول المديح بغير اعتذارٍ

يدلُّ على سوء رأيٍ قبيح

ولكنَّ هذا جزاء امرئٍ

أتى كاذبًا لكم في المديح

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من السريع]

وباخلٍ جادلنا غالطًا

بالنَّزر من فاضل إنعامه

في عامه الماضي ولكنَّه

استقضاه في الحاضر من عامه

ص: 332

وأنشدني، قال: أنشدني من شعره: [من الخفيف]

أنكرتني لمَّا علا الشَّيب فودي

وضننت حتَّى بطيف المنام

ليس شيبي من طول عمري ولكن

شيَّبتني وقائع الأيَّام

/ 252 أ/ وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من الكامل]

ولقد مررت على الدِّيار مسائلًا

عن جيزةٍ كانوا بها مستخبرا

فأجابني الرَّسم المحيل بها حدا

حادي المنون بهم وقد سكنوا الثَّرى

هذي قبورهم وتلك قصورهم

فانظر وقف بفنائها مستعبرا

والله ما نعمت حياتي بعدهم

كلَّا ولا التذَّت جفوني بالكرى

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من الكامل]

هل بعد ما شاب العذار يرى

في اللَّهو لي إن عدت من عذر؟

ما كان ذا حدَّ المشيب، بلى:

هذا غبار وقائع الدَّهر!

غادرتني غرضًا لأسهمها

ورميتني من حيث لا أدري

وخفضن أحوالي الخطوب بما

قد حطَّت الأقدار من قدري

فغدوت في الأحداث معتصمًا

لمَّا نزلن بأجمل الصَّبر

أجرى مع الأيَّام كيف جرت

لا فوز عند الصَّبر بالأجر

لا أشكينَّ لوقع نائبةٍ

والصَّبر أحسن بالفتى الحرِّ

[724]

محمَّد بن أحمد بن أبي عيسى/ 252 ب/ أبو عبد الله المايرقيُّ.

الناسخ الأديب، نزل دمشق.

أنشدني أبو المظفر منصور بن سليم بن منصور الإسكندري، قال: أنشدني أبو عبد الله الناسخ لنفسه بدمشق: [من البسيط]

قالوا: تحبُّ ترى بغداد قلت لهم

إنِّي بحبِّ ثرى بغداد مشغوف

وكيف لا وبها البدر المنير بدا

من في الأنام عليه الحسن موقوف

ص: 333

[725]

محمَّد بن محمَّد بن الحسين ابن الخراسانيِّ الوراق، أبو عبد الله.

من أهل بغداد، ومن أولاد المحدثين.

قال محب الدين: سمع الكثير من شيوخنا، وكتب بخطه، وقرأ بنفسه، وكان يكتب خطًا حسنًا، ويورّق للناس. كتب الكثير من الكتب الكبار والصغار والكراريس، والإجزاء؛ وكتب لي كثيرًا، وسمعت معه وبقراءته.

وكان شابًا فاضلًا صالحًا ورعًا زاهدًا تقيًا متعففًا، لازمًا لمنزله، لا يخرج منه إلَّا في يوم الجمعة لأجل الصلاة، ويأكل من كدّ يده.

وما رأيت أحدًا أبلغ احتياطًا منه في أداء الأمانة، وصحة المعاملة، والخروج/ 253 أ/ من مظالم العباد، لحقته أمراض متعبة، وطالب به إلى أن مات شابًا، قبل أوان الرواية، يوم الأربعاء الخامس من رجب سنة ستٍّ وستمائة، ودفن من الغد بباب حرب- رحمه الله تعالى-.

حدّث بالسير عن ابن زريق؛ وحدّث الحديث قديمًا من أبي الحسين بن يوسف، وأبي السعادات القزاز.

ثم قال: قرأت بخط محمد بن الحسين بن الخراساني: ولد الولد أبو عبد الله في تاسع عشر من صفر سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وقرأت بخط ابن الخراساني محمد بن محمد في كتابه، قال: رأيت كأني أنشد هذه الأبيات في المنام لنفسي:

[من الخفيف]

غرَّدت في الأراك أيكة سلع

فوق غصنٍ سقيته ماء دمعي

ص: 334

فاعتراني إلى الحبيب اشتياقٌ

وتذكَّرت موقفي بالربع

يا عذولي دع عنك لومي فإنِّي

عن ملام العذول قد صمَّ سمعي

كتبه محمد بن محمد بن الحسين الخراساني.

قال: وقرأت بخط محمد بن محمد بن الخراساني، قلت:[من السريع]

/ 253 ب/ جدُّو إلى طاعة مولاكم

فإنَّما دنياكم ذاهبه

فقد حظي بالفوز من ربِّه

من كان برًا للورى ذاهبه

[726]

محمَّد بن معمر بن عبد الواحد بن الفاخر، أبو عبد الله القرشيُّ.

من أهل أصبهان.

كان شيخًا حسنًا فاضلًا عالمًا ثقة نبيلًا؛ سمّعه والده الكثير من أبي الفضل جعفر بن عبد الواحد بن الثقفي، وأبي نصر أحمد بن عمر الغازي وغيرهما من المشايخ المعتبرين.

وكانت ولادته ليلة الإثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة عشرين وخمسمائة. وتوفي في ربيع الآخر سنة ثلاث وستمائة.

قال ابن القطيعي؛ أنشدني أبو عبد الله محمد بن معمر لنفسه: [من الوافر]

تبدَّت مثل ما بزغت براح

وآذنت الكواكب بالرَّواح

ص: 335

فقلت فضحت حين وضحت ليلًا

وطال لسان واشٍ فيَّ لاحي

فقالت بعدما جادت ونادت

وأبت عن ثغورٍ كالأقاحي:

وهل تستنجح الحاجات إلَّا

بوجه في مساعيه وقاح

[727]

محمَّد بن النفيس بن مسعود بن محمَّد بن عليِّ الدقاق، أبو سعدٍ المعروف بابن صعوة البغداديُّ.

كان شابًا حسنًا، وفقيهًا فاضلًا، حافظًا لكتاب الله، كيّسًا متوددًا، ظريفًا لطيفًا؛ قرأ الفقه على أبي الفتح بن المنى، وتكلم في مسائل الخلاف، وحصل طرفا صالحا من العلم.

وسمع الحديث من أبي علي أحمد بن علي الرحبي، وأبي عبد الله بن منصور بن هبة الله الموصلي، وأبي الحسن عليّ بن عساكر البطائحي. وحدّث باليسير، لأنه توفي شابًا، قبل أوان الرواية.

قال محبّ الدين: علقت عنه شيئًا من الأناشيد في المذاكرة، وكان صديقنا- رحمه الله تعالى- وسألتها عن ولادته، فقال: في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. ومات ليلة الجمعة ثاني عشر شوال سنة أربع وستمائة ببغداد، وصلينا عليه، من الغد بجامع القصر؛ وحمل على رؤوس الناس إلى الزرادين، فدفن بها.

قال القطيعي: أنشدني ابن صعوة لنفسه: [من المديد]

ص: 336

رقَّ يا من قلبه حجر

لجفون حشوها سهر

/ 254 ب/ ولجسمٍ ما لناظره

منه إلَّا الرَّسم والأثر

فغرامي لو يحمَّله

صخر رضوى كاد ينفطر

إن لومي في هواك لمن

شرِّ ما يجري به القدر

يا بديعًا جلَّ عن شبه

ما يداني حسنك القمر

صل ووجه الدَّهر مقتبلٌ

فزمان الوصل مختصر

كم رأينا وجنةً قتلت

فما آثارها الشَّعر

[728]

محمَّد بن أبي الفرج بن معالي بن بركة، الفقيه الشافعيُّ [المقريء، أبو المعالي الموصليُّ.

قال أبو الحسن القطيعي: رفيقنا من أهل القرآن والفقه والأدب، قم بغداد في المحرم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة].

قال القطييعي: أنشدني لنفسه، يمدح بعض الصدور:[من الوافر]

وقد أوتيت أخلاقًا

تحيِّر ضارب المثل

فأنت الكامل المتفرد الخالي من الخلل

ص: 337

لقد أصبحت للوفَّا

دمن حافٍ ومنتعل

مسيح مروةٍ تحيي

لدينا ميِّت الأمل

[729]

محمَّد بن أحمد بن هبة الله/ 255 أ/ ابن تغلب، أبو عبد الله النحويُّ، الفرزانيُّ.

من قرية تدعى فرزينيا، من قرى نهر ملك.

كان مقربًا عارفًا فاضلًا، وقيِّمًا بعلم العربية والقراءات. قرأ على الإمام أبي محمد بن الخشاب، وغيره، وسمع من أبي منصور مسعود بن عبد الواحد بن الحصين.

وكانت ولادته في سنة ثلاثين وخمسين، وتوفي يوم الثلاثاء السابع والعشرين من صفر سنة ثلاث وستمائة ببغداد، ودفن في باب حرب، بمقابر الشهداء.

فمن شعره قوله: [من المجتث]

يا هاجري ادلالا

هجرتني أم ملالا

أم كاشحٌ أم عذول

أراك قتلي حلالا

يا غصن بانٍ رطيبٍ

فاق الغصون اعتدالا

ارفق بمهجة صبٍّ

أضحى يحاكي الخلالا

تظنُّه عنك سال

حاشاك هيهات لا، لا

وكيف يسلوك صبٌّ

يذوب فيك اشتعالا

ص: 338

ولو أطاق سلوًا

أبى هواه انتقالا

إيهًا على طيب عيشٍ

ألذَّ ما كان زالا

/ 255 ب/ أنالنا الدَّهر وصلًا

ثمَّ استردَّ النوالا

[730]

محمَّد بن عليِّ بن الحسن بن محمَّد بن رضى، أبو حامد بن أبي المكارم الموصليُّ العمرانيُّ.

كان أحد أجداده من العمرانيّة، قرية من نواحي الموصل شرقيها.

وقد تقدم شعر أخيه.

ورد أبو حامد مدينة إربل، في عهد سلطانها الملك المعظم مظفر الدين- رضي الله عنه وأقام بها متوليًا نظارة ديوانها، ثم حبس بعد ذلك، وآلت به الأحوال إلى أن ضمن جهبذة الديوان؛ فأقلع عن ظلم فاحش، وسيرة غير حميدة، فلم تطل أيامه بها، حتى أتت عليه منيته، وذلك يوم الاثنين أواخر صفر سنة إثنتين وعشرين وستمائة.

وكان حسن الحظ والشعر، له كتاب سمّاه:((بهجة الناظر في الخيال الزائر)) ذكر فيه مدائح الملك القاهر عزّ الدين مسعود.

ومن شعره، وكان سائرً مع بعض الأكابر، وذكر له، أن عمل بيتين يتضمن شرح من يكتب بليقة حمراء في كاغد أصفر، فعمل أبو حامد فيمن يكتب بالأسود في الكاغد الأبيض:[من الطويل]

/ 256 أ/ كتبت بخطِّي فوق خطِّ معذِّبي

سطورًا تحاكي أضلعي وسقامي

وأوردت فيها بعض ما بي من الجوى

وأودعتها وجدي وفرط غرامي

ومن شعره أيضًا، ما كتبه إلى بعض الرؤساء:[من الطويل]

سلامٌ كأنفاس الخزامى وقدهما

عليه سحيرًا دائمًا سبل القطر

ص: 339

تهبُّ به ريح الشَّمال معطَّرًا

وتهديه من صبٍّ نحيل أخي فكر

أدام له الله الكريم بفضله

سعادات جدٍّ لا تزال مدى الدِّهر

ألا أيُّها المولى الَّذي جاد باللُّهى

وإحسانه عمَّ البريَّة بالوفر

ومن سابقت آلاؤه وتتابعت

إليَّ أياديه ونعماه كالقطر

أبثُّك أشواقي وفرط صبابتي

تقلِّب أحشائي على مسعر الجمر

فلو كانت الأرض الفسيحة صفحةً

لسطري عليها والمداد من البحر

وأوغلت إفصاحًا وأطنبت شارحًا

وأسهبت بالإفراط لم آت بالعشر

فيا ليت أنِّي كنت بين سطوره

لأحظى برؤيا وجهه المشرق البدر

ولولا عوادٍ أشغلتني عن السُّرى

لجئت إليه ساعيًا عوض السَّطر

وقال غزلًا: [من الرجز]

/ 256 ب/ وغادة شبَّهتها في حسنها

بالقمر الزَّاهر في جنح الدُّجى

قلت لها: يا منية القلب إلى

أورثت الجسم سقامًا وضنى

صلي محبّا ذائبًا فؤاده

أذابه الهجر وأفناه الجوى

قالت أجبت القول فيما تبتغي

إن كان ما قد قلت حقًا يا فتى!

وله من صدر كتاب: [من الطويل]

كتابي عن شوق إليك وغبطة

........ لا يزال يزيد

ولي بعد بعدي عن لقائك زفرةٌ

لها بين أحناء الضُّلوع وقود

وقال أيضًا: [من البسيط]

يا ربَّ قد أخذ البلوى مآخذها

منِّي ولم يبق لي صبرٌ ولا جلد

فليس لي ملجأ إلَّا إليك ولا

ركن ألوذ به إلَّاك يا صمد

وله أيضًا: [من الوافر]

عساها عن صباح النُّجح تجلى

وترفع من دجى الغمرات سدلا

وتعقب بعد شدَّتها لباثًا

وتنشط من عقال الهمِّ حبلا

فقد طاولت ناصية اللَّيالي

أريد تجلُّد وأريد مطلا

/ 257 أ/ إلى أن أنفدت صبري وأفنت

سهام خطوبها حطمًا وفلَّا

ص: 340

أرح قلبي بذكراهم فإنِّي

أحنُّ على الجوانح منه طلَّا

فلي طرفٌ بحرِّ الدَّمع يدمى

ولي كبدٌ بنار الشَّوق تصلى

وله وقد سأله بعض أصدقائه، أن يضع أبياتًا يلغز فيها اسمًا، فصنع هذه الأبيات، وألغز فيها اسم ((كلبهار)):[من البسيط]

يا من تحلَّ لديه كلُّ مشكلةٍ

ومن وجدنا إليه الفضل منسوبا

ما اسمٌ إذا ما عكست الثُّلث مختبرًا

منه يصير من الأصباغ محسوبا

وإن عكست بالَّذي يبقى يكن رجلًا

يبغي رضا الله قلا، أن يرى طوبى

فأوضح الاسم لازالت منائح ذي

الإفضال تأتيك مهديًا وموهوبا

وقال يلغز باسم سلطان: [من البسيط]

يا من علا رتبًا في الفضل ساميةً

ومن وجدناه أكفى النَّاس في الأدب

ما اسم ما ذكرت خمسًا بدايته

يطل أمرًا لخرط النصل ذي الشطب

وإن ذكرت الَّذي يبقى يظلُّ كمن

رمَّ البناء بترب أحسن التُّرب

/ 257 ب/ وإن عكست المبقَّى منه صار كما

تعلَّق الأمر في هذا بذا السَّبب

وإن جمعتهما صارا بلا ريب

قيلًا عظيمًا كريم الأصل والنَّسب

فحقِّق الاسم واغنم فيه محمدةً

تبقى على قدم الأزمان والحقب

[731]

محمَّد بن عبد الله بن أحمد بن عبد الواحد، أبو عبد الله الآرسيُّ السبيُّ بحلب.

[عمران الغرناطي، قال: أنشدنا محمد: ][من البسيط]

قف بالدِّيار وحيِّي الأربع الدُّرسا

ونادها فعساها أن تجيب عسى!

وإن أجنَّك ليلٌ من توحُّشها

فاشعل من الشَّوق في ظلمائها قبسا

إذا تنشَّق أنفاس الصَّبا سحرًا

يكاد تسري إليهم نفسه نفسا

ص: 341

وإن يكن في قفار ظنَّها لججًا

وإن تنفَّس عادت كلُّها يبسا

مضى الزّمان الَّذي قد كنت أعهده

وكان بالأمس معمورًا فقد درسا

يا هل درى الغادون عن دنفٍ

يبيت وليل الدَّياجي يرقب الغلسا

ظبيٌ غريرٌ ولكن لحظ مقلته

يسطو على الصَّبِّ سطو اللَّيث مفترسا

كلَّمته فتشكَّى الكلم من كلمي

وكدت أجرحه باللَّحظ مختلسا

وابتزَّ قلبي قسرًا قلت مظلمة

يا حاكم الحبِّ هذا القلب لم حبسا

/ 258 أ/ غرست باللَّحم دمعًا فوق وجنته

حقًا لطرفي أن يجني الَّذي غرسا

وإن أبى فالأقاحي منه لي عوض

من عوِّض الثَّغر من خدِّ فما بخسا

فبات طوع يدي والشَّمل يجمعنا

في بردةٍ للتُّقى لا تعرف الدَّنسا

تلك اللَّيالي الَّتي اعتدُّ من عمري

وبالأحبَّة كانت كلُّها عرسا

لم يحل للعين شيءٌ بعد بعدهم

والقلب مذ أنس التَّرحال ما أنسا

يا جنَّة فارقتها النَّفس مكرهةً

لولا التأسِّي بدار الخلد متُّ أسى

[732]

محمَّد [بن] نصر بن أبي البيان، أبو عبد الله الأديب الدمشقيُّ.

كان يفهم صدرًا صالحًا من علم العربية، وينظم شعرًا حسنًا، وسمع الحديث ورواه عن أبي القاسم الحافظ، وحمل عنه، وسمع سعادة الأعمى، وروى عنه من شعره.

أنشدني أبو المظفر منصور بن سليم بن منصور الإسكندري، الفقيه الشافعي، قال: أنشدني الأديب أبو عبد الله بن أبي البيان لنفسه: [من البسيط]

لا تنكرن ضعف خطِّي وارتعاد يدي

فإنَّه خطُّ من قد جار سبعينا

/ 258 ب/ صرَّفتها بيد التَّسويف مرتجيًا

عفو الإله وأسلافي المطيعينا

قومٌ مضوا منذ كانوا قطُّ ما برحوا

إلى العفاف وفعل الخير ساعينا

لم يحملو لمليك منةً أبدًا

ولم يكن قصدهم جاهًا وتعيينا

نبا بناصية حتَّى لقد وجدوا

أصحابه في الورى غرًا ميامينا

ص: 342

طريقهم بالتُّقى والدِّين واضحةٌ

بالذكر لله لا بالرَّقص لاهينا

فالرَّقص نقصٌ عظيمٌ لا يقول به

قومٌ مصيبون بل قومٌ مصابونا

هذا مقالي وكلُّ الخلق يعرفه

فلا تكونوا لقول الحقِّ قالينا

فنسأل الله حقًا أن يثبِّتنا

عليه حتَّى نرى في الخلد ثاوينا

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من الخفيف]

قلت إذ لفَّع الزَّمان رداء الشَّيب بالثَّلج فهو ضاف قشيب

أنا ما نلت بغيتي في زماني

حيث غصن الزَّمان غضٌّ رطيب

أفأرجو نيل الأمانيِّ فيه

كيف ترجى وقد علاه المشيب

قد تلاقى مشيبة ومشيبي

فانتشا بينهن أمرٌ عجيب

من قريبٍ أراه وهو بعيدٌ

وبعيدٍ أراه وهو قريب

وزمان إذا تأمَّلت أهليه

فإنَّ الوفاء فيهم غريب

/ 259 أ/ ومن شعره يمدح القاضي الخويّ: [من المتقارب]

لقد أسعف الله أهل الشَّام

وأنقذهم من أذى يونس

وعادت دمشق بقاضي القضاة

تزيد على شرف المقدس

وصار الخويّ لمَّا به

تسمَّى أعزَّ من الأطلس

فيا حاكمًا قد ملكت القلوب

بلطف ينطِّق للأخرس

ومالت إليك نفوس الأنام

كأنَّك مغنيطس الأنفس

وأيَّك الله سبحانه

بفصل الخطاب لدى المجلس

فعشت مدى الدَّهر في أنعمٍ

وأعداؤك الآن في أبؤس

وكتب إلى بعض القضاة معتذرًا: [من البسيط]

قاضي القضاة عماد الدِّين سيِّدنا

سمت مناقبه بالعلم والعمل

فالعدل منبسطٌ والظُّلم منقبضٌ

والعلم في عزَّة والجهل في خذل

وليس تأخذه في الله لائمةٌ

وخالص الدِّين لا يخشى من الزَّلل

لا تحسبنَّ انقطاعي عنك من سببٍ

يصدُّني أو لأمر الحمَّق السَّفل

ومنها:

ص: 343

أعوذ بالله إلَّا أننَّي زمنٌ

عشر الثَّمانين قد ضاقت به حيلي

وقد بلغت إلى عمر يؤخِّرني

عن كلِّ خيرٍ ويدنيني إلى الأجل

/ 259 ب/ فاعذر لعبدك في التقصير وارع له

حقًا تقدَّم يا ابن السَّادة الأول

لا زال مجد عماد الدِّين مرتقبًا

إلى الكواكب والشِّعرى ولم يزل

وله: [من الطويل]

وقائلة لا ترض بالشِّعر خطَّةً

فإنِّي أرى أهليه من أرذل البشر

فقلت أنا الياقوت بين حجارة

وقد يشمل الياقوت تسمية الحجر

وله يمدح ابن مرزوق: [من الكامل]

سبحان من رزق ابن مرزوق النُّهى

وحباه منه بوافر الأقسام

لمَّا رأيناه رأينا سيِّدنا

بمناقبٍ أعيت ذوي الأفهام

متكبِّرًا عن أن يرى متكبِّرًا

متواضعًا وله المحل السَّامي

يحنو على الضُّعفاء منه تلطُّفًا

ويبرُّهم بالبرِّ والإنعام

فهو المجمَّل بالمناقب كلِّها

وهو المجمِّل ملَّة الإسلام

لا زال ماضي الأمر في مصرٍ وفي

حلبٍ وبغدادٍ وكلِّ الشَّام

وقال من قصيدة، يمدح بها الفلك بن المسيري:[من البسيط]

باليمن والنُّجح دار أنجم الفلك

تنمى سعادتها للصاحب الفلك

/ 260 أ/ مولى مدائحه كالمسك مسلكها

في النَّثر والنَّظم منه خير منسلك

لا زال يرفل في أثواب عافيةٍ

وصانه الله عن بؤسٍ وعن درك

وأنشدني أبو عبد الله محمد بن عبد القاهر بن هبة الله النصيبي بحلب، قال: أنشدني محمد بن نصر بن عبد الرحمن لنفسه: [من الكامل]

ولقد ضعفت فلم أزرك وإنَّ لي

قلبًا إليك صميمه يرتاح

ودعاؤنا لك صالحٌ ندعو به

فيؤمِّن الإمساء والإصباح

يا أيُّها القاضي الَّذي سرَّ الورى

بقدومه وتوالت الأفراح

لمَّا قفلت من الحجاز تباشروا

أهل الشَّام به فلاح فلاح

ص: 344

فاعذر لخادمك المقصِّر إنَّه

يفنٌ ضعيفٌ ما عليه جناح

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من البسيط]

عشر الثَّمانين قد أوهى قواي وقد

تضاعف الضَّعف في عشر الثَّمانينا

فاسأل الله لطفًا منه يلطف بي

باقي الحياة فقل بالله آمينا

[733]

محمَّد بن المبارك بن عليٍّ/ 560 ب/ حمى الله حوزته-. وكان ذا فضل وأدب، حافظًا للقرآن الكريم، شاعرًا؛ نظم أرجوزةً في النحو.

وقع إليّ قصيدة من قيله في البيت المقدّس، حين خرّبه الملك المعظم شرف الدين عيسى بن أبي بكر- صاحب دمشق-. وفي تلك السنة أخذ الفرنج- خذلهم الله تعالى- دمياط، وهي سنة ست عشرة وستمائة؛ فأنشأ أبو عبد الله هذه القصيدة:

[من الوافر]

مصاب القدس قد سلب الرُّقادا

وقد لبس الخطيب به حدادا

وقاضيه قضى نحبًا وإن لم

يمت لخراب ما أعلى وشادا

ونادى المسجد الأقصى أيرضى

بهذا الفعل من فرض الجهاد

ومنبره الشَّريف يئنُّ خوفًا

وممَّا حلَّ بالمحراب مادا

ولا ترقى لصخرته دموعٌ

فكم قد أقرحت أسفًا فؤادا

كذا محراب داود علته

الكآبة دمعه يحكي العهادا

ولازم باب رحمته عذابٌ

وسطَّح الطُّور أدمعه وجادا

/ 261 أ/ وأصبحت المدارس معولات

تريق محابر الفتيا المدادا

وما عن عين سلوان سلوٌ

لساكنه ولو ملك البلادا

وبيت خليله وجلٌ لما قد

أصاب سواه يرتعد ارتعادا

ص: 345

وعند قمامة اليوم التَّهاني

تتيه ككاعب جاءت تهادى

إذا سمعت بدمياط وما قد

أشيع تقول بلِّغت المرادا

ولكنَّ الكنائس ضاحكاتٍ

تعالى الله يفعل ما أرادا

ألا يا زائريه أبكوا ونوحوا

على الإسلام وافترشوا الرَّمادا

فلو بكت العيون دمًا عليه

تقاضى رزؤه الباكي ازديادا

فمكَّة ثاكلٌ عبرى فلمَّا

ألمَّ بأختها لبست سوادا

فترك الحجِّ أبكى كلَّ عين

وعن طيب الكرى اعتاضت سهادا

رضا الملك المعظَّم ذا عظيمٌ

ولو ملك البسيطة ما أفادا

ولكن ربنا ربٌّ غفورٌ

لطيف الصُّنع يمتحن العبادا

فخوَّلنا وبوَّأنا بلادًا

أرانا جاحدي نعماه عادا

أبعد خراب بيت القدس خطبٌ

أشدُّ ولو توسدنا القتادا

على الدُّنيا وما فيها عفاءٌ

ولو نلنا بها السَّبع الشِّدادا

/ 261 ب/ وأنشدني القاضي شهاب الدين أبو المحامد إسماعيل بن حامد بن عبد الرحمن القوصي بدمشق، في المحرم سنة أربعين وستمائة، قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن المبارك الضرير خطيب القدس، وقد أنشدته هذين البيتين:

وما طلب المعيشة بالتَّمنِّي

ولكن ألق دلوك في الدِّلاء

تجيء بملئها طورًا وطورًا

تجيء بحمأةٍ وقليل ماء

فقال مجاوبًا لي ما انحصرت القسمة، بل بقي قسمان آخران، وأنشدني لنفسه بديهة:[من الوافر]

وكم من مرسلٍ دلوا تردى

وطورًا عاد منقطع الرشاء

فأجمل في طلاب الرِّزق واعلم

يقينا أنَّ رزقك في السَّماء

فلا حرصٌ يقيك ولا توانٍ

يغيث فثق بسابقة القضاء

ص: 346

[734]

محمَّد بن محمَّد بن عبد الكريم بن يحيى بن عليِّ بن يحيى، أبو عبد الله ابن الأكّاف الموصليُّ المعروف/ 262 أ/ أبو عبد الله الموصليّ المقرئ.

كان ممن قرأ على الشيخ أبي بكر يحيى بن تمام بن سعدون القرطبي الأزدي، القرآن والقراءات، وتلمذ به، وجود عليه. وكان شيخًا شيعيًا متواليًا، له أشعار في المدح وغيره. وكان يعرف بابن نصيف.

قرأ عليه القرآن، خلق كثير من أهل الموصل، وتوفي في سنة اثنتي عشرة وستمائة. أدركت آخر زمانه، وهو شيخ كبير.

ونقلت من خطه، قوله يمدح أتابك نور الدين أبا الحارث أرسلان شاه بن مسعود بن مودود- رضي الله عنه:[من الكامل]

لعداك فرط صبابتي وغرامي

وعداك وجدي في الهوى وهيامي

يا من غدا متفرِّدًا بجماله

صل من غدا متفرِّدًا بسقام

رشا جموح الحسن طوع يمينه

يقتاده عنفًا بغير زمام

يرمي وترمي مقلتاه بأسهمٍ

فسهامه موصولةٌ بسهام

كيف التَّخلص من لواحظه الَّتي

جعلت مراميه وهنَّ مرامي

قسمًا بسحر كامن في جفنه

ولذاك عندي أوفر الأقسام

لأصاحبنَّ الدَّهر غير مسالمٍ

وأصول مقتدرًا على الأعوام

أأرأع يا دهري ونور الدَّين لي

مولًى وعونٌ إن سطوت وحامي

/ 262 ب/ ملكٌ يرى في سرجه ملكٌ له

سيما الهدى وسكينة الإكرام

متقلِّد من عزمه ذا رونقٍ

يرضيك في نقضٍ وفي إبرام

ص: 347

ليثٌ العرين إذا تثنَّى في وغًى

وإذا انثنى لندًى فبحرٌ طامي

تلقى أرسلانًا إذا اشتجر القنا

وتأخَّر المتقدِّمون يحامي

يا آل زنكي أنتم الصِّيد الألى

بكم حمى اللَّاجي وريُّ الظَّامي

ليقر عينًا يا فثٌ بكم فقد

أربى على سام بفخر سامي

مولاي عوة من أتى مستمطرًا

يرجو الرَّذاذ فجدته بركام

حكَّمته في دهره فتقهقرت

وتقاعست عنه خطى الأيَّام

حسدتني الدُّنيا عليك وباعدت

خدمي ولم يبعد نداك الهامي

فاعطف على العبد الَّذي أبدأته

بسجال قربك فهو ذاو ظامي

واسلم منيع الجار مبذول النَّدى

خصب الجناب مؤيَّد الأعلام

ونقلت من خطّه شعره، ما كتبه إلى بهاء الدين الربيب:[من السريع]

قل لبهاء الدِّين عنِّي شفاه

يسألك الله غدًا من سماه

شيمتك العدل وفيك التُّقى

وكلَّ أعمالك ترضي الإله

/ 263 أ/ فاسئل عن حالي وعن قصَّتي

وذبَّ عنِّي من أذًى قد أراه

غلمان إبن العجمي كلُّهم

قد حلَّلوا قتلي وقالوا: الغزاه

وكيف ألقى القتل في بلدة

ملك أبي الحارث رسلان شاه

ممهِّد الأرض بأطرافها

وليس في الأرض مليك سواه

مجَّدك الأبطا يوم الوغى

سائل ملوك الأرض عن ملتقاه

ما جاءه من خاف من ظالمٍ

إلَّا أزال الظُّلم لمَّا أتأه

وإنَّني أخوف من أرنب

يرى كلاب الصَّيد تعدو وراه

وذاك خوفي لم يكن منهم

ما يعجز الرَّامي عمَّن رماه

وإنَّما خوفي من بطشكم

أجتنب الشَّر وأخشى أذاه

إنههم مولاي عن فتنتي

وردَّهم عنِّي وإلَّا فاه

قد مضَّني فرط سؤالي لهم

وليس يزدادون إلَّا عماه

لو أنَّني قد جئت من خيبر

كنت أداريهم بوزن البراه

وإبن غازي هو أسُّ البلا

يؤلِّب القوم ويهوى هواه

يزوِّر الكتب كما يشتهي

مجاهد الدِّين لهذا اتَّقاه

ص: 348

وقد تأذَّى النَّاس من شرِّه

فازجره عن مسك القلم والدَّواه

/ 263 ب/ ولا خلوت الدهر من دعوةٍ

من نالها في الخلق يعطى مناه

واسلم ودم وأبق لدى نعمةٍ

ما سارت الركبان أرض الفلاه

[735]

محمَّد بن محمَّد بن محَّمد بن محمَّد بن الحسين، أبو البركات ابن أبي جعفرٍ النحويُّ البغداديُّ المولد والمنشأ.

وأصله من شهرستانة، وهي بلدة عند نسا من بلاد خراسان، مما يلي خوارزم، يقال لها: رباط شهرستانة؛ بناها عبد الله بن طاهر في خلافة المأمون.

كانت وفاة أبي البركات يوم الأحد سابع عشر ربيع الآخر سنة ثماني عشرة وستمائة ببغداد، ودفن بجانبها الشرقي بمقبرة الوردية. وكان مولده في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وخمسمائة.

أخذ النحو عن أبي محمد عبد الله بن أحمد بن الخشاب النحوي، وبعده على أبي الحسن علي بن المبارك المعروف بابن الزاهدة، ولازمه حتى حصل معرفة هذا العلم، وتميّز فيه على غيره، وسمع الحديث من جماعة، وله شعر حسن.

أنشدني أبو عبد الله/ 264 أ/ محمد بن سعيد الواسطي، قال: أنشدني أبو البركات لنفسه: [من الكامل]

لمَّا جفا من كنت آمل وصله

ظلمًا وجدَّ فديته من ظالم

أخفيت زرقة ملبسي من حاسدي

ولبستها من خشيةٍ في الخاتم

وأنشدني أيضًا، قال: أنشدني محمد بن محمد لنفسه: [من الطويل]

خليليَّ عوجا عرَّضا لي بذكر من

بها ينقضي عمري وأدفن في رمسي

ونوحا بشجو واندبا لي فرقتي

ليال تقضَّين فهل راجعٌ أمسي

غداة افترقنا غاب عقلي فما أرى

لي اليوم من عقل صحيح ولا حسِّ

ألا إنَّ نور الشَّمس من نور وجهها

فما لي أراها تستظلُّ من الشَّمس

ص: 349

ومن شعره ما كتبه إلى بعض الصدور، وقد أهدى إليه كتابًا ألّفه لأجله:

[من الكامل]

جمَّعت من غرر البلاغة لمعةً

أهديتها للكامل بن الكامل

أهديت للبحر الفرات لآلئًا

والدُّرَّ في تيَّاره والسَّاحل

ولذاك صيحانيُّ تربة يثرب

يهدى إلى نخل العراق الحامل

ومتى تأمَّلت النَّهار لديهم

أبصرت كلَّ غريبة في الحاصل

/ 264 ب/ وقبول ذلك جبر قلب مؤمِّل

لقبوله وكياسةٌ في القابل

لا زال كهفًا للعفاة وملجأ

للقاصدين وعدَّةً للآمل

ومن شعره أيضًا، وقد صنف كتابًا في الظاء والضاد، وأهداه إلى زعيم الدين يحيى بن جعفر، وكتب عليه:[من الكامل]

الفرق بين الضَّاد قل والظَّاء

أهدي إلى ذي الطَّول والنَّعماء

يحيى بن جعفر الزَّعيم أخي التُّقى

والمجد ربَّ جلاله وبهاء

فكأنَّني أهديت ما هو حفظه

لكنَّني ذاكرت في إهدائي

جهد المقلِّ فهل رأيت أخا حجًى

للبحر يهدي قطرةٌ من ماء

أم هل رأيت أخا سداد متحفًا

للبدر حال كماله ...............

لكن أخو الفضل العزي محقِّقٌ

لذوي الفضائل صورة الأشياء

[736]

محمَّد بن محمَّد بن أحمد بن عليٍّ، أبو عبد الله الحربويُّ.

هو من حربا، من قرايا العراق. من أهل بغداد، وكان مرتبًا بالمدرسة النظامية، وكان أديبًا فاضلًا، يقول الشعر الحسن.

دخل بغداد، وأقام بها إلى أن مات يوم السبت الثامن والعشرين من ربيع الأول

ص: 350

سنة ست عشرة وستمائة. وكان يؤدّب بها الأمراء والأتراك/ 265 أ/ وينوب عن النظَّار بطريق خراسان، وكان رجلًا سليم الجانب.

وهو القائل، وقد جاءه كتاب من صديق له:[من الكامل]

وافى كتابك فابتهجت مسرَّةً

بقدومه وتضاعفت أشواقي

وكأنَّني كنت السَّليم لبعدكم

عنِّي وكان هو الطَّيب الرَّاقي

وافى إليَّ وفيه منك هديَّةٌ

فيه الوفا ومكارم الأخلاق

ما زلت أرعى العين بين سطوره

في زهر روضٍ جداول وسواقي

فكأنَّني لمَّا فضضت ختامه

لك فيه بين زيارةٍ وتلاقي

وأنشدني محبّ الدين، قال: أنشدني الحربوي، في استرضاء قومين، كان يتردد إليهما، قاله لكل واحدٍ منهما:[من الوافر]

لهم ولكم عليَّ حقوق وبرٍّ

ومعرفةٌ تعزُّ ولا تهون

ولكنِّي إذا أنصفت كانوا

وكنتم بينكم فرقٌ مبين

هم العين اليسار بكلِّ حالٍ

لديَّ وأنتم العين اليمين

قال: فلم يرض أحدهما إلَّا بانقطاعه عن الآخرين، فاعتذر إليهما بأن قال:

[من الوافر]

/ 265 ب/ ولي عينان من كرمٍ وجودٍ

عليَّ تكاملا بصرًا ونورا

وقد أمست جفونهما مراضًا

ولم أر نافعًا لهما الذَّرورا

دوا إحداهما في داء أخرى

ومثلي في القضَّية لن يجورا

يهون عليَّ أن أدعى بأعمى

ولا أدعى بواحدةٍ بصيرا

فرضي كل واحد منهما.

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه في غلام مثاقفٍ: [من المنسرح]

قد سلَّ سيف الثِّقاف منتضيًا

من بعده مرهفًا من النَّظر

مثاقفٌ من سيوف مقلته

قد أصبحت مهجتي على خطر

ص: 351

ما همَّ في شدَّ عقد مئزره

إلَّا وقد حلَّ عقد مصطبري

يكاد في حفي من يثاقفه

بالسَّيف يحصي مغارر الشَّعر

كأنَّما وجهه لمبصره

في وجهه غيمةٌ على قمر

[737]

محمَّد بن مطرٍ البغداديُّ.

كان عاملًا بتكريت، من قبل أمير المؤمنين الناصر لدين الله- رضي الله عنه. وكان فيه فضل ومعرفة، شاعرًا متصرفًا؛ ومن شعره/ 266 أ/ ما كتبه إلى شهاب الدين أبي عبد الله عمر بن القاسم التكريتي الفقيه الشافعي:[من الخفيف]

ما يقول الإمام وفَّقه الله لسبل الهدى وفعل الصَّواب

في فتًى مات عن فتاةٍ رداح

ذي قوام بريقه كالسَّراب

ولها حقُّها من المهرعينٌ

وكتابٌ بنسخه في الكتاب

بشهود لا ينكرون مقالًا

مع مرِّ السِّنين والأحقاب

وله والدٌ وما كا

ن له قبل موته والذَّهاب

من حدادٍ ولا متاعٍ نراه

تحت حرزٍ له ولا بوَّاب

هل يجوز التماسها من أبيه

حقَّها خالصًا بغير عقاب

ثمَّ ما خلَّف الفتى من نتيج

بين حيٍّ بلاحق الأنساب

أفتنا أيُّها الإمام سريعًا

واكتسب أعظم الجزا والثَّواب

فأجاب أبو عبد الله ارتجالًا على وزن الشعر ورويّة: [من الخفيف]

قل لمن ألغز الخطاب الَّذي فا

ق وقد فاق فوق كلِّ خطاب

سائلًا عن فتًى كريم وقد ما

ت بلا علَّة من الأسباب

/ 266 ب/ عن فتاة إذا أتاها مريدٌ

أخذ المهر منه من لا يحابي

وله والدٌ كريمٌ من الكرم

له اشتقَّ اسمه في الصِّحاب

ثمَّ أم توطا لتبرز منها

مزنة تجتلى بغير نقاب

مهرها أربعون ممن أتاها

أو ثمانون في القياس الصَّواب

فاجتنبها وصن جنابك عنها

فهي للقتل خدعةٌ كالسَّراب

ص: 352

هاك ما حاك فيه فكري سريعًا

وبديهًا سطَّرته في الجواب

أيُّها السَّيِّد المؤمَّل شمس الدِّين ما هكذا حسبت حسابي

[738]

محمَّد بن الخضر بن محمَّد بن الخضر بن عليِّ بن عبد الله بن تيمية، أبو عبد الله ابن أبي القاسم الحزّاني الواعظ الحنبليُّ، الخطيب الكفر جديانيُّ.

خطيب حرّان ومحدّثها وعالمها على المذهب الأحمدي، وكفر جدايا قرية من قرى حرَّان. وكان واعظًا مفسِّرًا حافظًا عالمًا.

حدثني القاضي الإمام أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي- أيده الله تعالى- قال: أخبرني إبراهيم الصريفين، أنه سئل عن نسبه إلى يتيمَّة، /267 أ/ فقال: هي جدتي، وكانت من أهل العلم، واعظة البلد- يعني حرّان- فعرفنا بها.

وتفقه أبو عبد الله بمدينة السلام على أبي الفتح نصر بن فتيان النهرواني المعروف بابن المنى، وسمع بها أبا الفتح محمد بن عبد الباقي بن البطي، وأبا الحسن سعد

ص: 353

الله بن نصر الدجاجي، وأبا الفضل أحمد بن صالح بن شافع، وأبا بكر عبد الله بن حمد بن النقور، وأبا القاسم يحيى بن ثابت بن بندار وغيرهم- رحمه الله تعالى-.

كانت له معرفة حسنة بالتفسير والوعظ والأحاديث. وكان من صلحاء الناس ذا قبول عندهم؛ من تصنيفه، كتاب سمّاه:((تحفة الخطباء من البريّة في الخطب المبنرية)).

وكان مولده في شعبان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة. وكانت وفاته بحران فيما بلغني يوم الخميس وقت العصر عاشر صفر سنة اثنتين وعشرين وستمائة- رضي الله عنه.

ومن شعره قوله: [من الطويل]

إذا جنَّ ليلي جنَّ قلبي بذكركم

فيغلبني وجدٌ بكم وبكاء

وتعتاض عيني عن لذيذ رقادها

بحرِّ دموعٍ وقعهنَّ شفهاء

وتضعف عن حمل التَّجلُّد قوَّتي

إذا مضَّني داءٌ وعزَّ دواء

/ 267 ب/ ويظهر لي صدق الَّذي قال قبلنا

وهل لقوي لا أستجد بقاء

أنشدني الشيخ الحافظ محبّ الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار البغدادي بها، في سنة تسع وثلاثين وستمائة، قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن الخضر بن محمد بن تيميّة لنفسه ببغداد: [من الطويل]

أرى قوَّتي في كلِّ يومٍ وليلةٍ

تؤول إلى نقصٍ وتفضي إلى ضعف

وما ذاك من كرِّ اللَّيالي ومرِّها

ولكن صروف الدَّهر صرفًا على صرف

ص: 354

فراقٌ وهجرٌ واخترام منيةٍ

وكيد حسودٍ للعداوة لا يخفي

وذاك دخيلٌ للفؤاد مقلقل الـ

ـضُّلوع يجلُّ الخطب فيه عن الوصف

وعشرة أبناء الزَّمان ومكرهم

وواحدةٌ منها لهذا الهوى يكفي

بليت بها منذ ارتقيت ذرى العلا

كما البدر في النُّقصان من ليلة النِّصف

وما برحت تترى إلى أن بليت من

تضاعفها ضعفًا يزيد على ضعف

وأصبحت شبهًا بالهلال صبيحة الـ

ـثلاثين أخفاه المحاق عن الطَّرف

وأنشدني أبو عبد الله محمد بن أياس بن عبد الله الحرَّاني بحلب، قال: أنشدني أبو عبد الله بن تيمية لنفسه: [من المتقارب]

/ 268 أ/ إذا دهمتك عظام الأمور

فشاور لها العقلاء الألبَّا

ولا تستبدَّ بها دونهم

فتلقى خسارًا عظيمًا وتبَّا

فقد أمر الله خير الأنام

وأزكى البريَّة عقلًا ولبَّا

بأن يستشير أصيحابه

فشاورهم مستجيبًا ولبَّى

وقوله أيضًا: [من البسيط]

قدمت من سفر الدُّنيا على ملكٍ

يعدُّ للوافدين البرَّ والنِّعما

يقري الضيوف بإحسان وتكرمةً

قرى الكريم ويوليه المنى كرما

وما قدمت عليه مسلفًا عملًا

أرجو به من عطاء فضله قسما

لكن بفقري وإفلاسي ومسكنتي

وسيئاتي الَّتي تستوجب النِّقما

أرجو تجاوزه عمَّا أتيت به

من القبيح وإن جاز المدى عظما

وحسن ظنِّي به ركني ومعتصمي

حسبي بظنِّي به في ذاك معتصمًا

وقال أيضًا: [من المتقارب]

دنت رحلتي وتدانى المسير

وزادي من النُّسك نزرٌ حقير

وقلبي على جمرات الأسى

من الخوف من خالقي مستطير

وكم زلَّةٍ قد تقحَّمتها

فدمعي لها وعليها غزير

ص: 355

/ 268 ب/ مضى عمري وانقضت مدَّتي

ولم يبق من ذاك إلا اليسير

كأنِّي بكم حاملين السَّرير

لشخصي وناهيك ذاك السَّرير

يقلُّونه شرجعًا مثقلًا

علومًا لجنبيه فيها صرير

إلى منزل ليس في ربعه

أنيسٌ يساكنه أو نصير

سوى عملٍ صالحٍ بالتُّقى

فنعم الأنيس ونعم الخفير

وقال لما فرغ من تحرير تفسير القرآن الذي ألّفه: [من الرمل]

أيُّها النَّاظر بعدي في كتابي

مستفيدًا منه مرغوب الطِّلاب

قاطفًا منه ثمارًا سقيت

باجتهادي ماء شيبي وشبابي

اهد لي منك دعاءً صالحًا

واصلاٍ تحت أطباق التُّراب

[739]

محمَّد بن يوسف بن الدّخوار، أبو عبد الله السكاكينيُّ.

من أهل حلب، كان أصله فارسيًا.

وكان شاعرًا ينتجع بشعره ويرتزق به، وكان فقيرًا مملقًا، شديد الفاقة، ذا عائلة، وعنده دينٌ وخير. وكان مع خيره/ 269 أ/ ودينه بذيء اللسان، هجاءً شرِّيرًا، يتقى شره. وتوفي في سنة أربع وخمسين وستمائة.

أنشدني من نظمه أبو الوليد عبد الملك بن يوسف بن عبد الملك بن رستم ابن علي الديلمي الحلبي بها، في سنة أربعين وستمائة، قال: أنشدني ابن الدخوار لنفسه، يمدح السلطان الملك الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف بن أيوب- صاحب قلعة حلب، رحمه الله تعالى-:[من البسيط]

يا آمل البان ما بالبان مذ بانوا

أهل الحمى لك أوطار وأوطان

ولا مغاني الغواني بعد بعدهم

يغني مغازلها منهنَّ غزلان

ففيم يصبيك ربعٌ لا أنيس به

للصبِّ إلَّا صباباتٌ وأشجان

نعم هي الدَّار من نعمان لو جمعت

نعمٌ نعمت بها يومًا ونعمان

وأين منك لياليها الَّتي سلفت

وللصِّبا من قلوب العير أعوان

من كلِّ خودٍ رداحٍ في لواحظها

أسياف فتكٍ لها الأجفان أجفان

ص: 356

تبدو فتغدو لديها الشَّمس كاسفةً

وينثني خجلًا من قدِّها البان

إنسيَّةٌ ما لعين بعد رؤيتها

خوف الفراق بسحِّ الدَّمع إنسان

أقول للبين إذ بأنت ظعائنه

وللحداة وقد سنُّوا النَّوى شان

/ 269 ب/ رفقًا عليَّ فلي إن رمتم تلفي

ببينها من غياث الدِّين سلطان

من مالك ما لصرف الدَّهر خيفته

إلَّا على حائن عاداه عدوان

بحرٌ إذا هطلت جودًا أنامله

فالبحر منحسرٌ والغيث خجلان

وإن غزا ظلَّت الأرضون راجفةً

واستشعر الثَّقلان الإنس والجان

مؤيَّد الرَّأى والرَّايات منتصرٌ

للنصر في نصله إن سلَّ برهان

في درعه ليث حرب كلُّ منزلة

أضحى بها مستقرًا فهي حفان

للدِّين منه وللدُّنيا إذا انتصرًا

يوما وغى وحجًى أمنٌ وإيمان

يا ابن الذي لم تكن تلفى خزائنه

لها إذا قدم العافون خزان

وابن الهمام الَّذي أغماد صارمه

لدى القرى والوغى بدنٌ وأبدن

إليك أشكو زمانًا لا يقوم بما

حمِّلت من ثقله رضوى وثهلان

حظٌّ غدا كحضيض الأرض منتقلًا

وهمَّه همُّها للعلو كيوان

فمن زماني بإسعادي ترى رجلًا

لجامح الفضل إذ ناداه إذعان

فما ألم بمن وافاك منتصرًا

كلٌّ ولا مسَّ من يرجوك حرمان

واستجلها بنت فكرٍ لا يدنسها

تبذل فهي يا مأمون بوران

/ 270 أ/ لها بكلِّ لسانً صان روايةٌ

نعم وفي كلّ قلب دان ديوان

لفارسيٍّ به يبدو إذا فخرت

قيسٌ وإن لم تلده العرب عدنان

وأنشدني أبو الفتح بن بيان بن علي الحلبي بها، في شوال سنة أربعين وستمائة، قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن يوسف بن الدخوار لنفسه: [من الطويل]

أتطمع أجفاني بطيب رقاد

وقد سلَّمتهن النَّوى بقتاد

وآمل دهري على البين مسعدًا

وقد عزَّ ما بيني وبين سعاد

فلا مخبرٌ إلَّا صبا كلَّما بدت

نوافحها شبًّ الأسى بفؤادي

ص: 357

ولمع بريقٍ مستطير كأنَّه

لبعد المدى في اللَّيل قدح زناد

فيا ريح هل تلقينها بتحيَّة

ويا برق هل تعتادها بودادي

ويا طيفها هل لي إليك وسيلة

فتدنو بك الأيَّام بعد بعاد

وأنشدني أيضًا أبو الفتح، قال: كان ابن الدخوار، قد مدح القاضي زين الدين- قاضي حلب- فلم يجزه، وكان قد تردد إليه مرارًا فلم يعطه شيئًا، فقال فيه: وأنشدنيه: [من البسيط]

/ 270 ب/ رددتني عنك يا هذا بلا صلة

وقد علمت بإعساري وإعدامي

وعاد برقك عندي خلَّبا ونبًا

قصدي فيا لسراب غرَّ بالظَّامي

يا مشبه البحر أظما ما يكون به

السَّاري إذا لجَّ في تياره الطَّامي

تبًا لشعري أما تجدي جوائزه

سوى التَّفكير في نقضي وإبرامي

وهكذا السَّهم ما أنهاه حامله

للنزع إلَّا وأدمى إصبع الرَّامي

فإن سمت بك زين الدِّين مرتبةٌ

فليس تهوى من الدُّنيا سوى السَّامي

إذ لا غناك ولا فقري فإن عظما

بين الأنام سوى أضغاث أحلام

وله وقد استهدى بعض الأشراف مركبّا، وضمن البيت الثالث:[من الكامل]

أضحت دواتي بالبياض مناطةً

يا ابن المشاعر والمحصَّب من منى

وامتاز خطَّي بالسَّواد لشقوتي

فظللت أنشد في التَّضادد معلنا:

يا قلبه القاسي ورقًّة خدِّه

هلَّ نقلت إلى هنا ممَّا هنا

وقال أيضًا: [من السريع]

في فم من أهوى وفي خدَّه

ستَّة أنواع وأجناس

شذًا وشوٌ وطلًا عزَّرت

بالورد والنَّرجس والآس

[740]

/ 271 أ/ محمَّد بن نصر الله بن محمَّد بن محمَّد بن عبد الكريم بن عبد الواحد، أبو عبد الله بن أبي الفتح الشيبانيُّ الموصليُّ.

ص: 358

وقد تقدّم شعر عمَّه أبي السعادات المبارك بن محمد.

كانت ولادته بالموصل في شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وتوفي صبيحة يوم الإثنني ثاني جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

كان يتعاطى فن الترسل والشعر، ويدّعي الفصاحة في النثر؛ ذا حمق ورقاعة، كثير العجب بنفسه، متكبر على أبناء جنسه.

وخبرت عنه، أنه كان يطعن في القرآن، ويتسامح في حقِّ العلماء الأعيان، ويضع منهم، ويعرض بحمقه عنهم؛ وله تواليف منها كتاب سمّاه:((غرّة الصباح في أوصاف الإصطباح)) ذكر ما قيل في الصبوح وأيام الربيع، وما وصفت به الخمر من طيب أنفاسها، واختلاف ألوانها وأجناسها، وما يلتئم بذلك من لطافة ندمانها، ومحاسن قيانها، ونعت الساقي، وما يوصف به من الحسن والجمال، والظرف والكمال، وأورد فيه مقطعات من أقاويل الشعراء، ورتبها على حروف/ 271 ب/ المعجم، ثم أتبع كل حرف من الحروف بشيء من شعره. وكتاب ((الأنوار في نعت الفواكه والثمار)) ذكر ما قيل في الرياحين والفواكه والأزهار، وما قالت الشعراء من محاسن أقوالهم. وكتاب:((روضة النديم)) مجموع أشعار مرتّب أبوابًا.

شاهدته عدّة مرّات بمجلس والده وعمّه أبي الحسن علي بن محمد، ولم أكن من قبل أعلم أنَّ له شعرًا، فلما وقع الاجتماع به، سألته أن ينشدني شيئًا من شعره، فأجاب إلى ذلك، ووعدني أن يكتب لي منه جزءًا، فلم تطل به الأيام حتى انتقل إلى جوار ربّه- رحمه الله تعالى-.

ومن شعره، ما نقلته من خط يده يصف الخمر، من قطعة وأوردها في كتابه ((غرّة الصباح)):[من الكامل]

باكر بها قبل الصَّباح نديمي

بنت الكروم وأمُّ كلِّ كريم

صفراء في حلل الكؤوس مزاجها

من قبل كون الشَّمس من تسنيم

ص: 359

كانت وليس من الكواكب كوكبٌ

مقصورةً في جنَّة ونعيم

حتَّى إذا فضَّ الختام تكوَّنت

شمسٌ وزيِّنت السَّما بنجوم

وتنفَّست فتنفَّست أرواحنا

وتحرَّكت شوقًا لكلِّ قديم

/ 272 أ/ جاء النَّسيم بها إليَّ ولم تزل

نفسي مرنَّحةً لكلِّ نسيم

وسعى بها ريمًا أغنَّ ومن رأى

شمسًا مطالعها بكفِّ الرِّيم

يشدو على كأس المدام كأنَّه

صوت المخيَّب فيه والمزموم

ووددته لو كان يمزج كأسه

من ريقه برحيقه المختوم

ونقلت أيضًا من خطّه قوله: [من الخفيف]

إسقياني فالصبح مرخي اللِّثام

بنت كرم شجَّت بماء غمام

خنريسا تدني السرور وقد أصـ

ـبح عن شربها بعيد المرام

شبه نار الخليل في بردها وهـ

ـني كنار الكليم في الأضرام

وفتاة مذكراتٌ لها الأفعال

لكن مؤنثات الأسامي

زعموا أنَّها حلالٌ فدعني .. من حلال في شربها أو حرام

واقتصد في الملام إنِّي خليعٌ

مستمرٌ على سماع الملام

وأدرها حتَّى تراني لا أفـ

ـرق بين الأعراف والأنعام

ليِّن العطف بعد طول جماحي

أخرس اللَّفظ بعد حسن كلامي

وقال أيضًا: [من السريع]

قد أسفر الصُّبح لنا عن نقاب

وزفَّت الكأس ورقَّ الشَّراب

/ 272 ب/ فقم بنا نشرب من قهوة

تلمع بالشُّرب كلمع السَّراب

من قبل أن تلفظ شمس الضُّحى .. من أعين النَّرجس درَّ السَّحاب

أما ترى الكأس وإيماضها

كالسَّيف والكأس لها كالقراب

فهزَّها في كأسها هزَّةً

تجن بها أثمار شرخ الشَّباب

وقال يمدح: [من مجزوء الرمل]

ص: 360

يا مليكا زانه جو

دٌ وحلمٌ وحياء

والَّذي يكفي لمن نـ

ـائل جدواه الثَّناء

والَّذي يومان دا

ءٌ للبرايا ودواء

إصطبح دام لك الإقـ

ـبال واجتدَّ البقاء

في نعيم لا يدانيـ

ـه زوالٌ وانقضاء

دمها يسقي سرورًا

إن سقى الأشجار ماء

وافن أيامك لهوًا

قبل أن يأتي الفناء

قهوةً تذكر إسما

عيل حيَّاه الفداء

إنَّما العيش استماعٌ

وانخلاعٌ وانتشاء

وقال خمرية: [من الخفيف]

/ 273 أ/ يا نديمي قد أقبل الصُّبح في الشَّرق

وولَّت حنادس الظَّلماء

فالق ثوب الوقار عنِّي ودعني

من ملام يزيد في إغرائي

واسقنيها حتَّى تراني لا أفـ

ـرق بين الخضراء والغبراء

من مدامٍ أيدي المزاج عليها

سمط درٍّ كأنجم الجوزاء

فهي شمسٌ لكن بغير مغيب

ولهيبٌ لكن بغير انطفاء

وهي نوحيَّة الغراس فلو تنـ

ـطق قصَّت سوالف الأنباء

أطربت كأسها فلو لم تدرها

كفُّ ساق دارت على النُّماء

عجبًا ما رأيت والكأس تجلى

وهي شيءٌ من أعجب الأشياء

مجمع النَّار والزُّجاج مع الما

ء ودٌّ يدور فوق الماء

يا له منظرًا وعيشًا لو أن الله لم يبل جمعنا بالفناء

وقال أيضًا: [من مخلّع البسيط]

للروض عند الصَّباح طيب

نمَّت إلينا به الجنوب

واستمتع الطَّرف من كراه

فملَّت المضجع الجنوب

والطير فوق الغصون تدعو

طاب لكم وقتكم فطيبوا

والكأس في كفِّ ذي قوامٍ

يخجل من لينه القضيب

/ 273 ب/ لولا لباسٌ يقيه طرفي

لكاد من لحظه يذوب

ص: 361

ما سعد الوالدان فيه

إلِّا لتشقى به القلوب

راحٌ إذا الرَّاح أبرزتها

صبا إلى شربها اللَّبيب

لها إذا الماء جال فيها

في قعر كاساتها وثوب

إذا سرت في عروق شخص

هانت على قلبه الخطوب

وقائلٍ: تب، فقلت: كلَّا

هيهات عن شربها أتوب

إذا استقام الأنام طرّا

قل لي لمن تغفر الذُّنوب

وله أيضًا من أبيات فيها: [من الخفيف]

فكأنَّ الصَّهباء في الحسن السَّا

في لها والحباب فوق المدام

شمس ظهرٍ في كفِّ بدرٍ عليه

سمط درٍّ تحكي نجوم الظَّلام

وقال فيها أيضًا: [من الرمل]

باكر الشَّرب الكرام

فاسقني طاب المدام

من كميت خسرويٍّ

قبل أن يدنو الحمام

قهوةً عتَّقها في

دنَّها سامٌ وحام

شجَّها أحور قد أد

نف عينيه السَّقام

/ 274 أ/ فاسقنيها بقنان

بعدها طاسٌ وجام

وأدرها مترعاتً

زانها ميمٌ ولام

فالرُّبى قبَّلها الزهـ

ـر وحيَّاها الغمام

وجيوش الصُّبح قد أقـ

ـبلن إذ ولَّى الظَّلام

خمسةٌ في ستَّةٍ والـ

ـقوم عن ذاك نيام

فإذا ما زدت كأسًا

فعلى الدُّنيا السَّلام

وقال فيها أيضًا: [من مجزوء الرجز]

طاب الصَّبوح فاشرب

هذا أوان الطَّرب

ودع ديار لعلعٍ

وخلِّ ذكر الربرب

من قهوةٍ صافية

تفوق ماء السحب

صفراء مثل الياسميـ

ـن أو كصافي الذَّهب

ص: 362

تريك في الظَّلماء إن

شجَّت شواظ اللَّهب

ترقص من فوق أعا

ليها لآلي الحبب

كراكبٍ مستعجلٍ

قلوصه في خبب

فالغيم في تصعُّد

والغيث في تصبُّب

/ 274 ب/ والعيش واللَّذَّة في

احتساء بنت العنب

يديرها مقرطقٌ

نشوان تركي النَّسب

ولا تؤخِّر عاجلًا

لآجل مغيَّب

وثق بربِّ غافرٍ

لكلِّ عبدٍ مذنب

وقال فيها أيضًا: [من الكامل]

قم يا ندييم للمدام فاتها

عجلان فالأيَّام في غفلاتها

واشرب على طيب الرِّياض وسقنِّي

صفراء كالأقمار في هالاتها

كرخنَّةً لا تعتزي مع جهلها

بسنيِّها إلَّا إلى خاناتها

أو ما ترى الأوتار حيث ترجَّعت

فأجابت الأطيار في نغماتها

فابق البلابل في احتساء سلافة

لا تنزل الأحزان في ساحاتها

والبس لأيَّام الصَّبوح غلائلًا

شيعيَّةً في كلِّ ما أوقاتها

واخلع عذارك في الصَّبوح تنل من الأ

فراح في الدُّنيا منى لذَّاتها

قال أيضًا يعنيها: [من الكامل]

ذكر المدامة في الصَّبوح فعرَّجا

ورأى الصِّباح وقد بدا متبلِّجا

وتصعَّدت أنفاسه طربًا وقد

صاح الهزار على الغصون وهزَّجا

/ 275 أ/ وتلاعبت أشجانه لمَّا رأى

زهر الرِّياض المستنير مدَّبجا

وتنفَّست أنفاس علويِّ الصَّبا

فغدا به ربع الصِّبا متأرِّجا

فغدا إلى الخّار يصحب فتيةً

شمَّ الأنوف مصوَّرًا ومتوَّجا

عافت نفوسهم الدَّنيَّة فالدُّجى

من نور أوجههم تراه مسرجا

وقال فيها أيضًا: [من مجزوء الرمل]

يا لبيني باكري الرَّا

ح بمحكوك الزُّجاج

ص: 363

واصبحي الشَّرب فقد أيـ

ـقضهم صوت الدَّجاج

وأديريها كميت اللَّون شجَّت بالمزاج

قهوةً لم تبصر النَّا

ر ولا ضوء السِّراج

فإذا ما دارت الكا

سات من قبل الأجاج

فأمري المطرب أن يقـ

ـطع إرسال الحجاج

ويغني بانخفاض الـ

ـصَّوت من غير انزعاج

لا تضق ذرعًا نعم

كل ضيقٍ لانفراج

وقال أيضًا: [من الرمل]

يا نديمي قم بنا مصطحبًا

غرَّد الطَّير فهات القدحا

/ 275 ب/ واسقنيها بنت كرمٍ لم يدع

من قواها الدَّهر إلَّا شبحا

تطرد الهمَّ إذا ما عبَّها

شاربوها وتفيد الفرحا

وتعوِّض عن مثاني معبدٍ

بمثاني عندليبٍ صدحا

وقال في مثله: [من مجزوء الرمل]

غرَّد الطَّير الفصاح

فاسقني لاح الصَّباح

وأدرها قهوةً يعـ

ـذب فيها الافتضاح

خدرها الدَّن مدى الأز

مان والقار الوشاح

جسمها من ألطف الأ

شياء والطَّبع السَّماح

إنما اللَّذة في الدُّنيا سماعٌ واصطباح

وقال في المعنى: [من مجزوء الخفيف]

إسقني يا ابن معبد

من شراب مورَّد

قهوةً تذكر المسيـ

ـح بشيرًا بأحمد

من يدي شادن حييَّ الطَّرف بضِّ المجرَّد

فجيوش الظَّلام مثـ

ـل طريد مشرد

والعصافير ضللن

بين مغنٍ ومنشد

/ 276 أ/ واصطخاب الأوتار بيـ

ـن مثنى ومفرد

ص: 364

ويد اللَّهو والتَّهتُّك جرَّت بمقودي

فاعص فيها قول العدا

وملام المنفنِّد

واصطحبها وغنِّني

فلقد طاب مشهدي

عين قري عين أسعدي

طلع البدر فاسجدي

وقال أيضًا: [من مجزوء الرمل]

إسقني قد أسفر الصُّبـ

ـح سلاف الخندريس

ودع الربع وتذكا

ر سعادٍ ولميس

بين مزمارٍ وعودٍ

ونديمٍ وجليس

قهوةً عتَّقها في

هيت بهرام المجوسي

فأدرها في قنان

وبواطٍ وكؤوس

فهي في الدَّنِّ عروسٌ

خدَّررها لعروس

وإذا أودعت الأقـ

ـداح أزرت بالشُّموس

تم الجزء السادس من قلائد الجمان

/ 276 ب/ وتمَّ بتمامه الجزء الثالث من الأصل

ويتلوه إن شاء الله الجزء السابع، بقية من اسمه محمد

والحمد لله أولًا وآخرًا

وصلى الله على محمد النبي الأميّ وآله وصحبه وسلَّم

ص: 365