المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: الإذن النبوي العام لمن سمع منه صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما سمع ورد الشبه عن ذلك إجمالا - كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأثرها في حفظ السنة النبوية

[أحمد بن معبد عبد الكريم]

الفصل: ‌المبحث الأول: الإذن النبوي العام لمن سمع منه صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما سمع ورد الشبه عن ذلك إجمالا

كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأثرها في حفظ السنة

إعداد الأستاذ الدكتور/ أحمد معبد عبد الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

‌المبحث الأول: الإذن النبوي العام لمن سمع منه صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما سمع ورد الشبه عن ذلك إجمالا

لكن رغم هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل الكتابة وأذن في استعمالها في حفظ السنة النبوية طالما توافر تمييزها عن المكتوب من القرآن الكريم من جهة، وكانت الكتابة محققة لغاية الحفظ المطلوب للسنة أو لتبليغها للغير من جهة أخرى.

وبهذا صارت السنة النبوية تحفظ عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن صحابته بطريقين متكاملين ومتزامنين في أوقات كثيرة.

الأولى: طريقة التلقي بالسماع أو المشاهدة أو غيرهما، وحفظ المُتلَقّي في الذاكرة فقط دون كتابة.

والثانية: طريقة الكتابة بجانب الحفظ في الذاكرة وذلك في ما كان متيسرًا مما يكتب عليه حينذاك، من العظام والجلود والأوراق.

لكن هذه الطريقة الثانية لم تأخذ حظًا كافيًا من إظهار دلائلها وصور العناية بها، وتعداد من قام بها من الصحابة والتابعين في مباحث خاصة بذلك، ولعل ذلك لأنها لم تكن محل شك أو إنكار في عصور تدوين السنة في مصنفات خلال القرن الثاني والثالث.

لكن جاء في العصور المتأخرة غير واحد، ممن ينسبون إلى البحث والاطلاع والتمحيص ينتقدون السنة النبوية من جهة عدم العناية بكتابتها وتدوين مروياتها وتصنيفها في مصنفات متداولة إلا في وقت متأخر عن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، ويرتبون على ذلك الزعم بكثرة الدخيل فيها عند

ص: 4

تصنيفها المتأخر عن عصر النبوة والصحابة.

وقد نهض -بحمد الله- من الباحثين المخلصين مَن ناقش هذه الانتقادات وردها جملة وتفصيلاً بالأدلة المناسبة، وذلك مثل الشيخ المعلمي رحمه الله في كتاب:"الأضواء الكاشفة" والدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه: "السنة قبل التدوين" يعني قبل كتابتها كتابة عامة بأمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في مدونات جامعة، والأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه:"دراسات في الحديث النبوي"(1) وغير هؤلاء كثير.

وما أقدمه اليوم هو مساهمة متواضعة في البيان الواقعي للعناية الظاهرة بكتابة السنة النبوية في عصره صلى الله عليه وسلم وعصر صحابته الكرام، مع الإذن العام في ذلك فمن وقائع عنايته صلى الله عليه وسلم بكتابة السنة: ما رواه رافع بن خديج رضي الله عنه قال: مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا ونحن نتحدث فقال: "ما تحدثون؟ " فقلنا: ما سمعنا منك يا رسول الله، قال:"تحدثوا وليتبوأ مقعده مَن كذب عليَّ من جهنم" ومضى لحاجته، وسكت القوم فقال:"ما شأنهم لا يتحدثون؟ " قالوا: للذي سمعناه منك يا رسول الله. قال: "إني لم أرد ذلك، إنما أردت مَن تعمد ذلك" فتحدثنا، قال: قلت: يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها؟ قال: "اكتبوا ذلك ولا حرج"(2) .

(1) وهذه الكتب الثلاثة طبعت عدة طبعات.

(2)

أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل واللفظ له حديث (331) ، والخطيب في تقييد العلم (ص72- 73) ، والطبراني في الكبير 4/ حديث (4410) مع اختصار القصة في أوله، ثلاثتهم من طريق عبد الرحمن ابن ثوبان قال: حدثني أبو مدرك، قال: حدثني عباية بن رفاعة بن رافع، ابن خديج عن رافع به؛ وأبو مدرك هو عبد الله بن مدرك الأزدي شامى – ذكره ابن عبد البر في الاستغناء (1911) ولم يذكر في حاله شيئا ولا ذكر راويًا عنه سوى ابن ثوبان وينظر تهذيب الكمال (14/ت3149)«عباية بن رفاعة» وعلى هذا فأبو مدرك هذا مجهول، وهو غير «أبي مدرك» المذكور في الميزان (4/10589) ، «واللسان» (7/1117- 1118) مع وصف الدارقطني له بأنه متروك.

ص: 5

وفي الحديث كما نرى أمر بمعنى الإذن في كتابة الحديث عمومًا مع اجتناب الكذب عليه صلى الله عليه وسلم قولاً وكتابة.

وللحديث شواهد منها:

ما أخرجه الحاكم في المستدرك (1/106) من طريق عبد الله بن المؤمل، والنسائي في الكبرى (التحفة 3/ 8885) من طريق الوليد بن مسلم، كلاهما عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قيدوا العلم" قلت: وما تقييده؟ قال: "كتابته".

وروي الحديث عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا (1) وتضعيف المرفوع ينجبر بالشاهد السابق والآتي.

ولفظ رواية النسائي: إن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: يا رسول الله إنا نسمع منك أحاديث أفتأذن لنا أن نكتبها؟ قال: "نعم" فكان أول ما كَتبَ: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة. "لا يجوز شرطان في بيع واحد، ولا بيع وسلف جميعًا

" الحديث.

وما في سند هذا الحديث من عنعنة ابن جريج ينجبر بباقي الطرق

(1) تقييد العلم (ص97) ، وجامع بيان العلم 1/395) ، والمستدرك (1/106) ، ومسند الشهاب (637) .

ص: 6

السابقة واللاحقة فيرتقي إلى الصحيح لغيره (1) وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال:"اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق"(2) .

وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب (3) .

وفي رواية لأحمد وغيره أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه، وكنت أعي ولا أكتب بيدي، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأذن له (4) .

وبهاتين الروايتين ينجبر ضعف غيرهما مما تقدم، من حديث رافع بن خديج وأنس وبعض طرق حديث عبد الله بن عمرو ويكون ما ذكره الشيخ رشيد رضا رحمه الله في مجلة المنار (5) وتابعه غيره (6) من الاقتصار على تضعيف بعض طرق حديث عبد الله بن عمرو، وحديث أنس -رضي الله

(1) ينظر مختصر استدراك الحافظ الذهبي لابن الملقن (1ح 19) بتحقيق د/ سعد الحميد.

(2)

أخرجه الإمام أبو داود حديث (3646) ، وبنحوه أخرجه الإمام أحمد (2/207/ح 6930) ، والحاكم (1/105) وصححه، وأقره الذهبي، وقال الحافظ في الفتح (1/207) : إن طرقه يقوي بعضها بعضًا.

(3)

صحيح البخاري (مع الفتح) كتاب العلم حديث (113) .

(4)

المسند (2/403/ح 9231) ، والفتح (1/ 207) .

(5)

مجلة المنار (10/ 763- 766) .

(6)

ينظر تقييد العلم للخطيب بتحقيق يوسف العش (73 حاشية 143) .

ص: 7

عنه- مِنْ بعض طرقه مردود عليه بوجود ما يشهد له من الصحيح والحسن كما ترى.

كما أن حديث أبي هريرة السابق ينبغي أن يلاحظ فيه أمران متعلقان بموضوعنا:

الأمر الأول: المنافسة الظاهرة بين أبي هريرة وبين عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم في حفظ ما تلقياه عن الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدل على علو همة مَنْ تصدَّى لهذه المهمة من الصحابة الكرام، وحرصه على القيام بها على أتم وجه.

الأمر الثاني: توافر عوامل طريقتي الحفظ معًا وهما حفظ الصدور من أبي هريرة، وحفظ الصدور والسطور من عبد الله بن عمرو -رضي الله عن الجميع- بحيث لا يُظن من اقتصار أبي هريرة عن حفظ الصدور أن محصلته كانت أقل أو ضبطه كان أضعف.

وذلك لأن ابن الجوزي وغيره ذكروا أن أبا هريرة قد رُوي عنه (5374) حديثًا (1) في حين ذكروا أن عبد الله بن عمرو قد روي عنه (700) حديث وقيل أقل من ذلك (2) .

كما أن أبا هريرة أتيحت له فرصة ذهبية جعلت لحفظه مزية عليا حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّث يومًا وقال: " أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لم ينس شيئًا سمعه؟ " قال أبو هريرة: فبسطت بردة عليّ حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدري فما نسيت

(1) ينظر تلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي (363) وسير النبلاء (3/594) .

(2)

تلقيح فهوم أهل الأثر: 363.

ص: 8

بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به (1) . ومن أجل ذلك قال الذهبي: كان حفظ أبي هريرة الخارق، من معجزات النبوة (2) ، وشهد له به غير واحد من الصحابة عن رؤية ومعايشة علمية، واختبار (3) .

(1) أخرجه البخاري كتاب الحرث والمزارعة برقم (2350) ومسلم، واللفظ له، في فضائل الصحابة برقم (2492) كلاهما من حديث أبي هريرة.

(2)

السير (2/594) .

(3)

سير النبلاء (2/ 598، 603، 604، 606، 607) .

ص: 9