المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع: الأمر الوجوبي من الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتابة ولا سيما للولاة والقبائل والمعاهدات، ورؤساء الدول - كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأثرها في حفظ السنة النبوية

[أحمد بن معبد عبد الكريم]

الفصل: ‌المبحث الرابع: الأمر الوجوبي من الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتابة ولا سيما للولاة والقبائل والمعاهدات، ورؤساء الدول

‌المبحث الرابع: الأمر الوجوبي من الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتابة ولا سيَّما للولاة والقبائل والمعاهدات، ورؤساء الدول

فلم يقتصر صلى الله عليه وسلم على الإذن الخاص والعام لصحابته الكِرام بالكتابة بأنفسهم أو بواسطة بعضهم لبعض ما تلقوه عنه من السنن، وإنما صدرت منه أوامر متعددة ونُفذت فعلاً على جهة الوجوب، مع تضمن المكتوب أنواعاً من التشريعات والأحكام.

فمن ذلك ما تقدم من أمره صلى الله عليه وسلم بالكتابة لأبي شاه، وتنفيذ الصحابة فعلاً لذلك، حيث كتب بعضهم لأبي شاه ما سمعه حين ذاك من الرسول صلى الله عليه وسلم من أحكام الحج.

ومن ذلك ما أمر بكتابته لولاته على البلاد والقبائل من الصحابة، مثل عمرو بن حزم الأنصاري رضي الله عنه وكان ممن شهد غزوة الخندق، وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على نجران، وكتب له كتابا إلى أهل اليمن، فيه الفرائض من صلاة وزكاة وديات وغيرها، وقد أخرج ابن حبان في صحيحه نسخة هذا الكتاب في نحو ست صفحات، وذلك من طريق محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن وهذه نسختها: ثم ساقها، وقد أخرجها غير ابن حبان أيضا مختصرة ومطولة (1) .

(1) ينظر معرفة الصحابة لأبي نعيم (4/ حديث 4971) والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (14/501) ذكر كِتْبة المصطفى صلى الله عليه وسلم كتابه إلى أهل اليمن حديث (6559) وعزاه الحافظ في الإصابة إلى أبي داود والنسائي وابن حبان والدارمي/ الإصابة مع الاستيعاب (2-ترجمة 5810) .

وأخرج ابن خزيمة بعضه – كتاب الزكاة (4/ حديث 226) والحاكم بطوله في المستدرك (1/394- 397) وما في سنده عند هؤلاء ينجبر بطرقه الأخرى وشواهده الصحيحة/ ينظر المستدرك الموضع السابق، وحواشي الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان- الموضع السابق ذكره وجمهرة النسب لابن حزم (199) .

ص: 29

فكتابة هذا الكتاب وأمثاله، كانت بأمر وجوبي منه صلى الله عليه وسلم إلى بعض من كان يكتب له، ووجود نسخة هذا الكتاب وأمثاله في كتب الحديث المعتمدة التي بين أيدينا حتى اليوم، دليل الالتزام بكتابتها وتداولها، حتى وصلت إلينا بأسانيدها المتصلة إليه صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك ما كتب به صلى الله عليه وسلم إلى بني زهير، في قطعة من أديم، وبعث بها مع النمر بن تولب بن زهير بن أقيش العكلي الصحابي الشاعر، وقد أخرج ابن حبان من حديث يزيد بن عبد الله بن الشخير أنه هو وآخرين التقوا بـ "النمر" هذا في موضع يقال له " المربد " من أحياء البصرة قال: فقلنا له: ناولنا هذه القطعة الأديم التي في يدك، فأخذناها فقرأنا ما فيها:" فإذا فيها من محمد رسول الله إلى بني زهير، أعطوا الخمس من الغنيمة وسهم النبي، والصَّفيِّ (1) وأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله"، قال ابن الشخير فقلنا: من كتب لك هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلنا ما سمعت منه شيئا قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " صوم شهر الصبر"(الحديث)(2) .

(1) الصَّفِيُّ هو: ما اصطفاه صلى الله عليه وسلم من عُرْض المغنم قبل القسمة من فرس أو غلام أو سيف أو ما أحب.

(2)

ينظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (14/ حديث 6557) وحواشيه.

ص: 30

يلاحظ في هذه الرواية بيان ما كان يكتب فيه حينذاك وهو الجلود بعد دباغتها وتنظيفها، وبيان محتويات المكتوب وأنه في صيغة معاهدة لأهل هذه القبيلة فيها أمرهم ببعض التشريعات والالتزام لهم كذلك بحق الأمان المكفول من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم.

كما أن في الرواية أن الصحابي الذي حمل إليهم هذه المعاهدة المكتوبة قد حفظ أيضا في صدره غيرها مما سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم وأداه لمن سألوه من أهل البصرة وهو في طريقه إلى قومه بالكتاب المذكور.

وعن الضحاك بن سفيان الكلابي - ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان والياً على قومه، وقد روى سعيد بن المسيب عنه:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها"(1) .

وعن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال لمروان بن الحكم: إن مكة إن لم تكن حراماً، فإن المدينة حرم، حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مكتوب عندنا في أديم خولاني، إن شئت أن نقرئكه فعلنا، فناداه مروان: أجَلْ بلغنا ذلك (2) وله شاهد في صحيح مسلم يرقيه إلى الصحيح لغيره (3) والأديم الخولاني نوع من الجلود، وسبق في الحديث السابق أنه كان مكتوبا في جلد أيضا.

ومن هذا الحديث يستفاد أن رافعاً رضي الله عنه كان يحتفظ ببعض الأحاديث المكتوبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرجع إليها في مناسبتها للاحتجاج بها.

(1) ينظر الإصابة (2/ ترجمة 4166) والمنتقى لابن الجارود مع تخريجه غوث المكدود (حديث / 966) وجامع الترمذي حديث (2110) وقال: حسن صحيح.

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (4/ 141 حديث 17272) .

(3)

صحيح مسلم (حديث/ 1361، 457) .

ص: 31

وقد سبق روايته حديث إذنه صلى الله عليه وسلم له بالكتابة لما سمعه منه خشية النسيان.

ومن كتبه لأهل الولايات وحكام الدول أيضا: ما أخرج ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى "حبر تيماء" فسلم عليه (1) .

وأخرج ابن حبان أيضا في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر، وأُكيدر دومة، يدعوهم إلى الله جل وعلا (2) وسيأتي ذكر مصدر جامع لمشتملات تلك الكتب بأسانيدها. ومن أشهر ما أمر صلى الله عليه وسلم بكتابته إلى الملوك ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سفيان ابن حرب أنه في مدة الهدنة التي كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين كفار مكة بمن فيهم أبو سفيان - قال أبو سفيان: فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، جاء به دحية الكلبي فدفعه إلى عظيم بُصرى فدفعه بدوره إلى هرقل (الحديث)(3) .

ومما أمر صلى الله عليه وسلم بكتابته أيضا ما كان ردًّا على مكاتبات تُرسل إليه.

فقد أخرج البيهقي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم كتاب رجل قال لعبد الله بن الأرقم: أجب عني، فكتب جوابه، ثم قرأه عليه، فقال:"أصبت وأحسنت اللهم وفقه"، فلما ولى عمر- رضي الله عنه كان يشاور عبد الله بن الأرقم هذا (4) .

(1) الإحسان (14/497 حديث 6556) مع حاشية المحقق، وفيها: أن «تيماء» بلد تقع شمال المدينة المنورة وتبعد عن تبوك (150) ميلا.

(2)

الإحسان (14/ حديث 6554) .

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه برقم 7، وابن حبان كما في الإحسان (14/ حديث 6555) مع حواشيه.

(4)

السنن للبيهقي (10/ 126) ك أداب القاضي وإسناده حسن.

ص: 32

وأخرج البيهقي أيضا من حديث عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب عبد الله بن أرقم فكان يكتب عبد الله بن أرقم (1) وكان يجيب عنه صلى الله عليه وسلم الملوكَ فبلغ من أمانته أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب، ثم يأمره أن يكتب ويختم ولا يقرأه لأمانته عنده، ثم استكتب أيضا زيد بن ثابت، فكان يكتب الوحي، ويكتب إلى الملوك أيضا، وكان إذا غاب عبد الله بن أرقم وزيد ابن ثابت واحتاج أن يكتب إلى بعض أمراء الأجناد والملوك، أو يكتب لإنسان كتاباً بقَطِيعةَ (2) أمر جعفراً أن يكتب، وقد كتب له عمر وعثمان، وكان زيد والمغيرة، ومعاوية وخالد بن سعيد بن العاص وغيرهم ممن قد سُمِّي من العرب (3) .

هذا وقد ألف الإمام محمد بن طولون الدمشقي المتوفى سنة 953هـ كتابًا بعنوان: "إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين"(4) وقد أورد فيه (49) كتابًا، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عددًا من أصحابه بكتابة كل منها على لسانه، بعضها إلى ملوك دول العالم والحكام في وقته، في فارس، والروم، واليمن،

(1) يعني يكتب آخر الكتاب: أن كاتبه عبد الله بن أرقم كما يفهم ذلك من رواية للبيهقي قبل هذه مباشرة (10/126) في إسناده «محمد بن حميد الرازي» وهو ضعيف (التقريب:5834، والمغني للذهبي2/573) ويشهد له حديث ابن عمر المتقدم فيرتقي إلى الحسن لغيره.

(2)

كذا في بعض نسخ السنن للبيهقي وفي بعضها «يُقطعُه» والمعنى يستقيم على ما أثبته أكثر والمراد أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب لبعض من يفد عليه من رؤساء القبائل ببعض المساحات من الأرض لاستغلالها مثلما أخرج ابن حبان وغيره أن أبيض بن جمال وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يُقطعه «الملح» الذي بمأرب فأقطعه إياه ثم استعاده منه الإصابة (1/17) مع الاستيعاب.

(3)

أخرجه البيهقي في السنن وقال الحافظ في الفتح (13/183- 184) كتاب الأحكام باب يستحب للكاتب أن يكون أمينا - قال: إسناده حسن.

(4)

طبع أكثر من مرة.

ص: 33

والشام، ومصر، والبحرين، وبعضها إلى قبائل وشخصيات معينة في أنحاء جزيرة العرب وما حولها، وبعضها إلى بعض من عينهم من الولاة على بعض مناطق الجزيرة العربية التي دخلت في الإسلام.

وتعد مشتملات هذه الكتب عمومًا من سنته صلى الله عليه وسلم القولية، أو الفعلية أو التقريرية في عامة أمور الدين، العقدية والتشريعية وأحكام المعاهدين من غير المسلمين. ونجد ما ذكره الإمام ابن طولون في هذا الكتاب قد جمعه مما هو مُفرَّق في كتب السنة والسيرة النبوية المدونة والتي وقف عليها في عصره، والمتداولة بيننا الآن، وفي مقدمتها صحيحا البخاري ومسلم، وكتب السنن، والمسانيد، وبعضها يرويه المؤلف بسنده إلى أحد المسانيد التي تعد حاليًا مما افتقدت نسخه الخطية للأسف، وهو مسند بقي بن مخلد الأندلسي (1) المتوفى سنة 276هـ قال عنه ابن حزم الذي اطلع عليه: ليس لأحد مثله (2) .

ومن يقرأ هذه الكتب النبوية يتضح له من مضمونها، ومناسبة كتابتها، ومَنْ كُتبت لهم أن الكثير منها كان بعد غزوة الحديبية، في أواخر السنة السادسة للهجرة، وخلال السنة السابعة وما بعدها، وهذا يؤيد تأييدًا واقعيًا أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة أحاديثه كان متقدمًا، وأن إذنه صلى الله عليه وسلم بالكتابة، وكذا أمره بها وجوبًا كان متأخرًا كما في مكاتبة الملوك والحكام، لدعوتهم إلى الإسلام وإبلاغهم مجمل عقائده، وأحكامه.

ونكتفي هنا بتقرير الخطيب البغدادي حيث يقول: "ولو لم يكن في

(1) ينظر إعلام السائلين لابن طولون – ط مؤسسة الرسالة – بيروت سنة 1407هـ، ص52، 65، 74، 89، 91، 103، 134.

(2)

الرسالة المستطرفة للكتاني (74، 75) .

ص: 34

هذا الباب إلا وقوع العلم بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتبه من عهود السعاة على الصدقات، وكتابه لعمرو بن حزم لما بعثه إلى اليمن لكفى، إذ فيه الأسوة، وبه القدوة" (1) .

وسيأتي في المبحث التالي مصداق ما ذكره الخطيب.

(1) تقييد العلم للخطيب (72) وحاشيتها.

ص: 35