المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: مما كتبه وصنفه الصحابة - كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأثرها في حفظ السنة النبوية

[أحمد بن معبد عبد الكريم]

الفصل: ‌المبحث الثاني: مما كتبه وصنفه الصحابة

‌المبحث الثاني: مما كتبه وصنفه الصحابة

قد سبق أن ذكرت أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قد أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يكتب عنه كل ما يصدر منه في كافة أحواله من الغضب والرضا، وأن العلماء استدلوا بهذا على جواز ذلك أيضًا لغير عبد الله ابن عمرو من الصحابة.

وقد جاء عن عبد الله بن عمرو نفسه ما يفيد وقوع ذلك فعلاً، فعن أبي قبيل المعافري قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وسُئِل: أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية (1) أو رُومِيَّة؟ (2)، قال: فدعا عبد الله بن عمرو بصندوق له حَلَق، قال: فأخرج منه كتابًا فجعل يقرؤه، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً: قسطنطينية أو رومية؟

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل مدينة هرقل أولاً تفتح"(3) يعني القسطنطينية.

(1) هي «إسطنبول» الموجودة في تركيا، حاليا. ينظر: معجم البلدان لياقوت (4/ 247) .

(2)

ذكر ياقوت الحموي أن «رومية» تطلق على بلدتين إحداهما تقع شمال غربي القسطنطينية السابق ذكرها، والثانية بالمدائن – يعني من بلاد فارس. ينظر: معجم البلدان 3/ 100.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/329- 330 كتاب) الجهاد، واللفظ له، والباقون بنحوه.

وأحمد في المسند (2/176) حديث (6645) .

والدارمي في سننه (1/133) حديث (492) كتاب العلم.

والحاكم في المستدرك (4/ 422، 555) كتاب الفتن.

أربعتهم من طرق، عن يحيى بن أيوب عن أبي قبيل – حيي بن نافع المعافري – عن عبد الله بن عمرو، به. وصححه الحاكم في الموضع الأول على شرط الشيخين، وفي الموضع الثاني قال:«صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي في الموضعين.

وأخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر (285) بتحقيق الأخ الدكتور علي عمر -حفظه الله- من طريق سعيد بن عفير عن يحيى بن أيوب به.

وقال الذهبي: «هذا حديث حسن غريب» السير (3/87) .

ص: 10

وتقدم في حديث عبد الله بن عمرو هذا أيضًا: قلت: يا رسول الله إنا نسمع منك أحاديث لا نحفظها، أفلا نكتبها؟ قال:"بلى فاكتبوها" فمن قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنه "أفلا نكتبها"، وقوله صلى الله عليه وسلم "اكتبوها". ومن قوله في الحديث السابق "بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب" يستفاد أن الكتابة للسنة كانت تقع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، بعلمه وموافقته، وأن عبد الله بن عمرو استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه ولجماعة معه، وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لجماعتهم فقال:"اكتبوها". وبمقتضى هذا الإذن كانوا يجتمعون حوله صلى الله عليه وسلم ويكتبون كتابة جماعية، كما يستفاد من الحديث الأول أن عبد الله بن عمرو كان يعتني بصيانة ما كان يكتبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صندوق خاص حتى لا يتطرق إليه تلف أو ضياع أو دخيل، وهذا يعد تأصيلاً لما ذكره علماء المصطلح في ضبط الكتاب، دون أن يذكروا له مثالاً كهذا، ويستفاد كذلك أن عبد الله بن عمرو كان يخرج المكتوبات التي في هذا الصندوق، ويحدث منها بقراءته ويسمع منه جماعة الحاضرين، ومنهم من يسأله، كما يفيده قول الراوي عنه: "كنا عند عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وسئل

" وقول الراوي: إن الصندوق الذي أخرج عبد الله منه المكتوب الذي حدثهم به كان له "حلق" إشارة منه لتأكده من مناسبة الحديث وملابساته، ووجود تلك الحَلَق في الصندوق تفيد، إما كبر حجمه، بحيث وُضع له حَلَق تُسهل حملَه ونقلَه، وإما مزيد العناية بوضع حلق فيه لإحكام إغلاقه.

ص: 11

كما أن هذا يدل على أن ما كتبه عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن صحيفته المشهورة فقط، والتي كان يعتز بها، ويسميها (الصادقة) كما سيأتي ذكره، ولكن كان ما كتبه عنه صلى الله عليه وسلم أكثر، بحيث احتاج في حفظه وصيانته إلى صندوق له حَلَق مما يدل على أنه كان كبير الحجم.

وقد حكم الذهبي بتحسين حديث الصندوق المذكور، ثم قال: "وهو دال على أن الصحابة كتبوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بعض أقواله

، ثم قال: وكتبوا عنه كتاب الديات، وفرائض الصدقة، وغير ذلك" (1) .

وقال أيضًا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه:"وكَتَبَ الكثيرَ بإذن النبي صلى الله عليه وسلم وترخيصه له في الكتابة بعد كراهيته للصحابة أن يكتبوا عنه سوى القرآن، وسوَّغ ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثم انعقد الإجماع بعد اختلاف الصحابة رضي الله عنهم على الجواز والاستحباب لتقييد العلم

ثم قال الذهبي أيضًا: والظاهر أن النهي كان أولاً لتتوافر هممهم على القرآن وَحْدَه، وليمتاز القرآن بالكتابة عما سواه من السنة النبوية، فيؤمن اللبس، فلما زال المحذور واللبس ووضح أن القرآن لا يشتبه بكلام الناس، أذن في كتابة العلم، والله أعلم" (2) .

وقد تقدم أن مجمل مرويات عبد الله بن عمرو بن العاص بلغت (700) حديث أو أقل، ولو أننا استعرضنا ما توافر لدينا من أدلة معتد بها على ما كتبه عبد الله بن عمرو بنفسه، وما كتبه عنه بعض من سمع منه، فسنجد أن ذلك يكوِّنُ نسبة غير قليلة من مجموع ما تقدم ذكره من أحاديثه المدونة في كتب الحديث الأصلية من الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها.

(1) سير أعلام النبلاء (3/87- 88) ونصب الراية للزيلعي (2/335، 344) .

(2)

السير (3/ 80- 81) .

ص: 12

كما جاءت عنه بعض روايات أنه كان يحتفظ ببعض الآثار الموقوفة:

فروى عمرو بن شعيب قال: وجدنا في كتاب عبد الله بن عمرو، عن عمر بن الخطاب قال:"إذا عبث المعتوه (1) بامرأته، أُمر وَليُّهُ أن يُطلِّق"(2) .

وفي رواية أن عمر كتب إلى عمرو بن العاص: "أنه يُؤجَّل سَنَةً، فإن برئ، وإلا فرق بينه وبين امرأته"(3) .

وجاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن مما كتبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيفة سماها (الصادقة) فعن مجاهد قال: أتيت عبد الله بن عمرو فتناولت صحيفة من تحت مفرشه، فمنعني، قلت: ما كنت تمنعني شيئًا، قال: "هذه الصادقة، هذه ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه (فيها) أحد، إذا سلمتْ لي هذه، وكتاب الله تبارك وتعالى والوَهْط (4) فما أبالي ما كانت

(1) أي المجنون، وشبهه.

(2)

أخرجه الإمام الدارقطني في سننه (4/65) حديث (159-161) من طرق عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عمرو بن شعيب قال: وجدنا في كتاب عبد الله بن عمرو عن عمر بن الخطاب

(الحديث) . ومدار طرق الحديث كما ترى على حبيب بن أبي ثابت، ومع ثقته وجلالته، فإنه يدلس، تدليساً قادحاً/ ينظر التقريب (1084) ، وطبقات المدلسين (ص84) ولم يذكر هنا ما يفيد الاتصال، فتكون روايته ضعيفة لانقطاعها، لكن للحديث طريق آخر يعضده، وهو الآتي عقب هذا، حاشية (3) ، وبمجموع الطريقين يرتقي الحديث إلى الحسن لغيره.

(3)

أخرجه الإمام الدارقطني أيضًا في سننه كتاب النكاح - باب المهر (3/ 267) حديث (86) من طريق هشيم بن بشير عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب في مسلسل يخاف على امرأته منه، فكتب إليه

(الحديث) وهذا إسناد رجاله ثقات إلى حجاج، وهو ابن أرطاة وهو صدوق كثير الخطأ -كما في التقريب (1119) فيكون ضعيفاً من جهة ضبطه، كما أنه يدلس تدليساً قادحاً / طبقات المدلسين (125) ، وقد عنعن هنا، فتكون روايته هذه ضعيفة لأجله، ولكن تعضدها الرواية السابقة في الحاشية رقم (2) كما قدمت، فتكون حسنةً لغيرها.

(4)

سيأتي تفسير معناه في الرواية الآتية.

ص: 13

عليه الدنيا" (1) ، ومن ذلك يفهم أن عنايته بكتابة السنة، لم تشغله عن عنايته بالقرآن الكريم.

وجاءت عنه رواية أخرى قال فيها: أما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الوَهْط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص، وكان يقوم عليها (2) .

ونقل الذهبي عن بعض العلماء قوله: ينبغي أن تكون تلك الصحيفة أصح من كل شيء؛ لأنها مما كتبه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم والكتابة أضبط من حفظ الرجال (3) .

ويذكر الدارسون: أن هذه الصحيفة الصادقة هي التي رواها عمرو بن

(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات (4/262) والخطيب في تقييد العلم (84) كلاهما من طريق إسحق بن يحيى عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص، به. وليس في رواية ابن سعد قوله: إذا سلمت لي هذه

(الحديث) . وفي هذا الإسناد إسحق بن طلحة التيمي، وهو ضعيف/ التقريب (390) .

وأخرج ابن سعد أيضاً عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن صفوان بن سليم عن عبد الله بن عمرو قال: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة ما سمعته، فأذن لي، فكتبته، فكان عبد الله يسمي صحيفته تلك الصادقة / الطبقات (4/262) .

ورجال هذا الإسناد ثقات غير شيخ ابن سعد، (أبو بكر بن عبد الله) فلم أقف على ترجمته.

وأيضاً هناك رواية أخرى ستأتي في حاشية (3) من طريق آخر، وبمجموع تلك الطرق يرتقي الحديث إلى الحسن لغيره.

(2)

أخرجه الدارمي في سننه -كتاب العلم- باب من رخص في كتابة العلم 1/حديث (502) والخطيب في تقييد العلم (84) من طريق شريك عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو، به وأخرجه الخطيب في تقييد العلم (85) من طريق عنبسة بن سعيد عن ليث، به، ومن طريق الحسن بن عرفة عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد الألهاني عن أبي راشد الحبراني عن عبد الله بن عمرو، به بمعناه مع زيادة في آخره. وهذان الطريقان مع ماتقدم في حاشية رقم (2) ، يرتقي بطرق الحديث إلى الحسن لغيره.

(3)

تاريخ الإسلام (وفيات سنة -118?. ص334) .

ص: 14

شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو (1) .

فإذاً ومَنْ يقف على وصف محتوياتها يظهر له أن تسميتها صحيفة ليس معناه أنها عبارة عن ورقة واحدة كما هو المتبادر؛ بل كانت أوراقًا كثيرة، فقد وقف ابن حبان على نسخة منها ورواها عن شيخه أبي يعلى الموصلي وقال: في نسخة كتبناها عنه طويلة (2) .

فالمراد بالصحيفة أو النسخة في اصطلاح المحدثين: مجموعة الأحاديث التي رُويت بإسناد واحد ولو بلغت أوراقًا كثيرة مثل صحيفة أو نسخة عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده (3) .

وقد أطلق ابن معين وغيره على صحيفة عمرو بن شعيب اسم "الكتاب"(4) .

ومن آخر البحوث المتخصصة عن عدد أحاديثها ما قرر فيه صاحبه أنها تبلغ (231) حديثًا غير المكرر أكثر من مرة، وذلك بعد إحصائه لها من عدد من كتب السنن والمسانيد، وعلم الرجال حيث روى كل منها بعض أحاديثها (5) .

لكن بعض تلاميذ عبد الله بن عمرو غير: شعيب والد عمرو هذا،

(1) ينظر كتاب «صحيفة عمرو بن شعيب، وبهز بن حكيم عند المحدثين والفقهاء» للأستاذ محمد علي بن الصديق (10-11، و129- 134) .

(2)

المجروحين لابن حبان (2/72) .

(3)

ينظر تهذيب التهذيب (1/ترجمة)(924) و (3/12) .

(4)

الميزان للذهبي (3/263- 265) .

(5)

ينظر كتاب صحيفة عمرو بن شعيب وبهز بن حكيم (ص: 132- 134) وتحفة الأشراف للمزي (6) حديث (8655- 8817) . وإتحاف المهرة لابن حجر (9/حديث 11700- 11871) .

ص: 15

ومحمد بن عبد الله بن عمرو، جد شعيب، جاء عنهم أيضًا ما يفيد وجود مكتوبات متعددة عنده، وكان يُسمعهم منها.

فتلميذه أبو راشد الحمراني (1) قال: أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت له: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى بين يدي صحيفة فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت فيها فإذا فيها: أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت

" الحديث (2) وقوله: "هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: أذن لي بكتابته عنه، كما في الروايات الأخرى التي سبق بعضها.

وكلام أبي راشد هذا، يفيد أنه كان بمفرده عندما جاء إلى عبد الله بن عمرو وأطلعه على صحيفة مما كتبه، ويعتبر صنيع عبد الله بن عمرو هذا مع تلميذه أبي راشد، من تأصيل التحمل بالمناولة، حيث ألقى بين يديه الصحيفة المكتوب فيها الحديث، وأخبره بأنها مما أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابته عنه، ثم مكنه من النظر فيها، وقراءة الحديث المذكور منها. ويبدو أن جماعة غير أبي راشد قد رأوا هذه الصحيفة أيضًا، وتحملوا منها رواية الحديث السابق نفسه بلفظ مقارب، فقد قال أبو عبد الرحمن الحُبلي المصري، تلميذ عبد الله بن عمرو أيضًا: أخرج لنا عبد الله بن عمرو قرطاساً (3) وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) تهذيب التهذيب (12/91) .

(2)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 196) حديث (6852) بإسناد حسن.

(3)

القرطاس: ما يكتب فيه. انظر المفردات للراغب الأصفهاني، مادة قرطس.

ص: 16

يعلمنا، يقول: "اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت رب كل شيء

" الحديث (1) .

فقول أبي عبد الرحمن الحبلي: "أخرج لنا" يفيد أنهم كانوا جماعة، وأن عبد الله بن عمرو قرأ عليهم المكتوب. ومن تلاميذه من روى بعض الأحاديث التي كتبها عبد الله بن عمرو وأرسل بها إليه، فأرض "الوهْط" التي كانت ل عبد الله بن عمرو - كما تقدم - كان له فيها عامل زراعيّ يقال له:"سالم مولى عبد الله بن عمرو" وعرض عليه جيرانه أن يشتروا منه ما يفيض عن حاجة عبد الله بن عمرو من المياه، قال سالم: أعطَوْنِي بفضل الماء من أرضه بالوهْط ثلاثين ألفًا، قال: فكتبت إلى عبد الله بن عمرو، فكتب إلي: لا تبعه، ولكن أقِمْ قِلْدَك (2) ثم اسق الأدنى فالأدنى، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع فضل الماء (3) .

وجاء عن أحد تلاميذ عبد الله أنه أملى عليه بعض حديثه وكتبها عنه في صحيفة وهو: أبو سبرة الهذلي، فقد قال لعبيد الله بن زياد - لما سمعه يجادل في حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له في الآخرة -: ألا أحدثك حديثًا فيه شفاء هذا، إن أباك بعث معي بمالك إلى معاوية، فلقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فحدثني مما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأملى عليَّ، فكتبت بيدي فلم أزد حرفًا، ولم أنقص حرفًا، حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يحب

(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 178) حديث (6597) وإسناده حسن لغيره.

(2)

يعنى اسق ما عندك من نوبتك من الماء، ثم أعط ما زاد لمن يليك دون بيع.

(3)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 183) حديث (6722) ، والإمام البيهقي في سننه (6/16) ، وله شاهد عند الإمام النسائي في سننه (7/307) بإسناد صحيح.

ص: 17

الفحش، أو يبغض الفاحش والمتفحش، قال: ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش وقطيعة الرحم وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن، ويُخوَّن الأمين، وقال:"ألا إن موعدكم حوضي عرضه وطوله واحد وهو كما بين أيلة (1) ومكة".. الحديث وفيه: "من شرب منه لم يظمأ بعده أبدًا" فقال عبيد الله: ما سمعت في الحوض حديثًا أثبت من هذا، فصدق به، وأخذ الصحيفة فحبسها عنده (2) .

وفي رواية أخرى للحديث: أنه لما حبس عبيد الله بن زياد الكتاب عنده، قال أبو بُسرة: فجزعت عليه، فلقيني يحيى بن يعمر، فشكوت إليه، فقال: والله لأنا أحفظ له من السورة من القرآن فحدثني به كما كان في الكتاب سواء (3) .

وهذه الرواية تفيد أن حفظ الصدور، وحفظ الكتاب كانا متضافرين على صيانة السنة وتعويض أحدهما ما فُقد من الآخر، وأن حفظ الصدور كان من القوة بحيث يطمأن إلى نيابته عن الكتابة عند افتقادها.

وجاء أيضًا عن أحد تلاميذ عبد الله بن عمرو من التابعين المصريين، وهو شُفَى بن ماتع الأصبحي المصري (4) : أنه سمع من عبد الله بن عمرو كتابين:

(1) هي المعروفة الآن باسم «العقبة» في جنوب الأردن على شاطئ البحر الأحمر، وفيها ميناء العقبة.

(2)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 162- 163) حديث (6514) .

والحاكم في المستدرك من طريق الإمام أحمد وغيره (1/175) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

(3)

أخرجها الإمام أحمد في المسند (2/199) حديث (6872) .

(4)

تهذيب الكمال (15/357-359 و12/543- 544) .

ص: 18

أحدهما: عبارة عن أحاديث قولية وفعلية مرفوعة.

والآخر: فيه ما يتعلق بما يقع آخر الزمن من الفتن وعلامات الساعة إلى يوم القيامة، وذكر ابن يونس: أن نسختي هذين الكتابين قد افتقدتا بإلقاء أحد الناس لهما في النيل (1) ووصفهما بأنهما كتابان، مع بيان مشتملاتهما إِجمالاً، يستفاد منه أن حجمهما كان كبيرًا، لكن قد عوضنا الله - تعالى- عنهما بما حفظه لنا بعض تلاميذ شُفَي هذا، إما صدرًا، وإما كتابة، ووصل إلينا مدونًا في بعض كتب السنن (2) والمسانيد وغيرها (3) .

وهكذا يظهر لنا من خلال ما تقدم: أن ماكتبه عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قدرًا كبيرًا، فمنه ما كان يحفظه في صندوق ذي حلقات، ومنه ما كان يعتز به أكثر فيحفظه تحت فراشه؛ ليكون قريبًا منه.

وبلغت نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحدها قرابة مائتين وخمسين حديثًا مرفوعًا بدون المكرر منها مرة فأكثر لما قدمت.

كما يظهر لنا أن عددًا آخر من تلاميذ عبد الله بن عمرو من غير أهله، قد تلقوا عنه مدونات في أكثر من كتاب، مشتملة على سنن فعلية، أو قولية، في العقيدة والشريعة، كما اشتملت أيضًا على بعض سنن الخلفاء الراشدين.

ويظهر لنا أيضًا أن ما أملاه عبد الله بن عمرو، أو كتب عنه عمومًا، قد

(1) تهذيب التهذيب (4/360) ، وخطط المقريزي (2/332)، وتذهيب تهذيب الكمال للذهبي: 1/ق 148 أ، ب (مخطوط) .

(2)

ينظر تحفة الأشراف (6/ حديث 8825- 8827) .

(3)

ينظر إتحاف المهرة (9/ حديث 11872، 11872 مكرر، 11873) ، والمعجم الكبير للطبراني (13/ حديث 16- 19) .

ص: 19

انتشر بواسطة تلاميذه في أقطار الإسلام شرقًا وغربًا، كالشام، ومصر، والعراق، وغيرها.

ولم تقتصر عناية الصحابة على الكتابة الإجمالية لمروياتهم دون تنظيمها في مصنفات وأبواب موضوعية، بل وجدنا منهم من يجمع مما تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث متعلقة بموضوع واحد في تصنيف خاص به.

من ذلك أن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنه المتوفى سنة 78هـ بالمدينة المنورة قد عُرف بأنه حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا نافعا، وعرف بالفقه والفتوى والرحلة في طلب الحديث، ومروياته المسندة -كما ذكر الحافظ الذهبي - (1540) حديثاً.

ويعد من أول من صنف الحديث على الموضوعات من الصحابة حيث ذكر الذهبي أن له منسكاً (1) صغيراً في الحج، أخرجه مسلم في صحيحه (2) .

وعند مراجعة صحيح مسلم نجد مصداق ذلك فعلا حيث إنه في كتاب الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم أخرج من طريق حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر ابن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم (3) حتى انتهى إلىَّ فقلت أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زِرّي الأعلى (4) ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثدْيَيَّ وأنا يومئذ غلام شباب فقال مرحبا بك يا بن أخي، سل عما شئت، فسألته وهو أعمى

(1) أي كتاب يتناول بيان أحكام مناسك الحج، كما يوضحه بقية عبارة الذهبي.

(2)

ينظر تذكرة الحفاظ (1/43) وسير النبلاء (3/ 189- 194) .

(3)

أي جماعة الرجال الداخلين عليه حينذاك.

(4)

زر قميصه الذي كان يلبسه.

ص: 20

وحضر وقت الصلاة، فقام في نساجة (1) ملتحفا بها، كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب (2) فصلَّى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله (3) ، ويقع في ست صفحات من المطبوع، ثم أخرج رواية أخرى هذه من طريق غياث بن طلق عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: أتيت جابر بن عبد الله فسألته عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحال ببقية المتن على الرواية السابقة بنحوها، ثم ذكر زيادة في هذه الرواية تبلغ ثلاثة أسطر، وأتبعها برواية ثانية من طريق غياث أيضا بذكر زيادة نحو سطرين، ورواية ثالثة من طريق سفيان عن جعفر عن أبيه به بزيادة نحو سطرين، ورواية من طريق مالك وخامسة من طريق مالك وابن جريج كلاهما عن جعفر بن محمد عن أبيه، بزيادة تتعلق بالطواف (4) وقد انفرد مسلم عن البخاري برواية هذا الحديث فعلا (5) . ويلاحظ أن الحديث اشتمل على سنة فعلية في أوله وهي صلاة جابر رضي الله عنه بجماعة الحاضرين عنده إمامًا وعليه لباس معين، كما اشتملت الرواية على وصفه في هذه الحالة بأنه كان أعمى، والمعروف أنه رضي الله عنه عَمِيَ في آخر عمره - ومقتضاه أنه حدثهم الحديث بطوله من حفظه، لا من كتاب، لكن جاء في روايات أخرى أن راوي الحديث عن جابر وهو محمد بن علي بن الحسين كان يذهب مع مجموعة إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه

(1) نوع من الملاحف المنسوجة.

(2)

ما يُعلق عليه الثياب.

(3)

صحيح مسلم – الحج- باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ح 8/ 12) .

(4)

ينظر صحيح مسلم (2/ 892- 893) باب ما جاء أن عرفة كلها موقف وص921- باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة والطواف الأول في الحج.

(5)

ينظر الجمع بين الصحيحين للحميدي (2/ 372- 377) .

ص: 21

ويتلقون عنه الحديث كتابة وتعلما فأخرج ابن عدي والخطيب من طريق يعقوب القُمي عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال: كنت أنطلق أنا ومحمد بن علي أبو جعفر ومحمد بن الحنفية إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، فنسأله عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صلاته، فنكتب عنه ونتعلم منه (1) .

ويلاحظ أن هذه الرواية معبرة عما جاء في رواية مسلم السابقة لأنها ذكرت سؤال محمد بن علي ومن معه لجابر عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي منها مناسك حجته صلى الله عليه وسلم التي أمر بأن تؤخذ عنه، وفيها الصلاة وفيها كتابة السائلين لما حدثهم به، وتعلمهم منه كيفية الصلاة. وفي لفظ آخر من طريق يعقوب القمي أيضا: أن عبد الله بن محمد بن عقيل قال: كنا نأتي جابرا فنسأله عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكتبها (2) .

وفي رواية من طريق محمد بن علي السلمي عن ابن عقيل قال: كنت أختلف أنا وأبو جعفر إلى جابر بن عبد الله فنكتب عنه في الألواح (3) وفي لفظ للخطيب "معنا ألواح نكتب فيها"(4) .

ومن ذلك يستفاد أن جابراً صنف منسكه هذا وهو مبصر، وكان مع ذلك يحفظه في صدره، ويسمعه إملاء لمن سأله عنه، وبذلك تلازم وتزامن الحفظان معا: حفظ الصدور وحفظ السطور. ولو من صحابي واحد.

(1) ينظر الكامل لابن عدي (4/ 1447) وتقييد العلم للخطيب (104) .

(2)

ينظر الكامل وتقييد العلم الموضع السابق.

(3)

ينظر الإحالة السابقة.

(4)

تقييد العلم (104) .

ص: 22

ومما صنفه الصحابة أيضا كتاب الفرائض لزيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو المعروف بكتابة الوحي القرآني أيضا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن قام بجمعه في مصحف واحد، وكان مبرزاً في علم الفرائض، وباشر القضاء وتوفي سنة 45هـ على الراجح (1) وتعد وفاته مبكرة جدا عن وفاة جابر رضي الله عنه كما تقدم ذكرها.

وقد أخرج الفسوي بسنده إلى الزهري قال: لولا أن زيد بن ثابت كتب الفرائض رأيت أنها ستذهب من الناس (2) .

فيعد كتاب زيد هذا مؤلفا مخصصاً لموضوع المواريث الشرعية، وتاريخ وفاة زيد سنة 45هـ يجعل تأليفه هذا مبكرًا جدا، ومن الروايات التي توافرت عنه، يفهم أن زيداً جمع في كتابه هذا بين الأحاديث المرفوعة، وبين الآثار التي رواها عن بعض الخلفاء الراشدين، وبين تفسير منه لبعض آيات المواريث، وبين اجتهاد منه هو (3) .

كما يفهم أنه كتب بعض هذا الكتاب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سأله في الجد، وقرأه عمر رضي الله عنه ناسباً إياه إلى زيد مع إقراره له (4) .

(1) ينظر سير النبلاء وحواشيها (2/426) والمعجم الكبير للطبراني (5/ 4)(4748) .

(2)

المعرفة والتاريخ (1/486) والسير (2/ 436) والمراد ذهاب ما لم يوجد عند غيره من أحاديث أو اجتهادات منه أو من غيره ممن أدركهم من الصحابة، لأن الفرائض أصولها في القرآن الكريم وتفاصيل الكثير منها مما شارك زيد في روايته غيره من الصحابة كما هو معروف.

(3)

ينظر المعجم الكبير للطبراني (5/ حديث 4860، 4941- 4957) والسنن الكبرى للبيهقي

(6/ 225- 227، 229- 234، 236- 239، 245، 247، 449- 451) .

(4)

سنن البيهقي (6/ 246) .

ص: 23

ثم كتب به إلى معاوية رضي الله عنه في خلافته، وذكر له فيه ما أقره عليه عمر وعثمان رضي الله عنهما (1) وقد صار الكتاب يُروَى وينقل مجموعا ومتفرقا بالأسانيد عن زيد بواسطة الرواة عنه وبخاصة كبراء أولاده وآله مثل سعيد بن سليمان بن زيد، عن أبيه عن جده (2) وعن خارجة بن زيد عن أبيه، ومن هذا الطريق اشتهرت رواية الكتاب عند المتقدمين ومن بعدهم من المشارقة والمغاربة (3) .

ويفهم من مراجعة نصوص هذا الكتاب المتفرقة في المصنفات الحديثية كما سبقت الإحالة عليها أن كتاب زيد رضي الله عنه في الفرائض، كان أكبر حجما من كتاب جابر رضي الله عنه في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أمّا ما أخرجه الطبراني من امتناع زيد بن ثابت عن كتابة مروان بن الحكم للحديث عنه، وروايته أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يكتبوا حديثه (4) فإنه لو صح عنه أو عن غيره فالجواب عنه مع مثله من أحاديث النهي، قد ذكره الحافظ ابن حجر حيث قال: إن هذه الأحاديث الصحيحة المفيدة لإذنه صلى الله عليه وسلم في كتابة الحديث عنه، والأحاديث أيضاً التي اشتملت على نهيه عن ذلك كحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا

(1) سنن البيهقي (6/ 245، 246- 249و 250- 251) .

(2)

ينظر سنن البيهقي (6/ 247) .

(3)

تنظر الإحالات السابقة على المعجم الكبير للطبراني وسنن البيهقي الكبرى، وفهرس ابن خير الأشبيلي ص263 وقد رواه من طريق سعيد بن منصور صاحب السنن، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت رضي الله عنه.

(4)

ينظر المعجم الكبير للطبراني (5/ حديث 4871) .

ص: 24

تكتبوا عني شيئاً غير القرآن" (1) يمكن الجمع بينها بوجوه متعددة ومعتبرة، وقال الحافظ: إن أقربها أن النهي متقدم زمنا، والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس، ثم قال: وقيل إن النهي خاص بمن خُشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أُمِنَ منه ذلك، ثم قال الحافظ قال العلماء: كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث، واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا، كما أخذوا حفظا، لكن لما قصرت الهِمَمُ وخشِيَ الأئمة ضياع العلم دونوه.

ثم قال: وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة، بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين، ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد (2) .

(1) ينظر صحيح مسلم (4/ حديث 3004) ولفظه لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه (الحديث) .

(2)

ينظر فتح الباري لابن حجر (1/208) .

ص: 25