الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اجزاء العلوم
قالوا: كل علم من العلوم المدوّنة لا بدّ فيه من أمور ثلاثة: الموضوع والمسائل والمبادئ، وهذا القول مبني على المسامحة، فإنّ حقيقة كل علم مسائله، وعدّ الموضوع والمبادئ من الأجزاء إنّما هو لشدّة اتصالهما بالمسائل التي هي المقصودة في العلم.
أمّا الموضوع فقالوا: موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية؛ وتوضيحه أن كمال الإنسان بمعرفته أعيان الموجودات من تصوّراتها والتصديق بأحوالها على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية، ولمّا كانت معرفتها بخصوصها متعذّرة مع عدم إفادتها كمالا معتدّا بها لتغيّرها وتبدّلها أخذوا المفهومات الكليّة الصادقة عليها، ذاتية كانت أو عرضية، وبحثوا عن أحوالها من حيث انطباقها عليها، ليفيد علمها بوجه كلّي علما باقيا أبد الدهر. ولمّا كانت أحوالها متكثّرة وضبطها منتشرة مختلفة متعسّرا، اعتبروا الأحوال الذاتية لمفهوم مفهوم، وجعلوها علما منفردا بالتدوين وسمّوا ذلك المفهوم موضوعا لذلك العلم، لأن موضوعات مسائله راجعة إليه، فصارت كلّ طائفة من الأحوال المتشاركة في موضوع علما منفردا ممتازا في نفسه عن طائفة أخرى متشاركة في موضوع آخر، فجاءت علومهم متمايزة في أنفسها بموضوعاتها؛ وهذا أمر استحساني إذ لا مانع عقلا من أن يعد كل مسئلة علما برأسه ويفرد بالتعليم، ولا بدّ من أن تعد مسائل كثيرة غير متشاركة في موضوع واحد علما واحدا ويفرد بالتدوين، فالامتياز الحاصل للطالب بالموضوع إنّما هو للمعلومات بالأصالة، وللعلوم بالتبع.
والحاصل بالتعريف على عكس ذلك إن كان تعريفا للعلم، وإن كان تعريفا للمعلوم فالفرق أنه قد لا يلاحظ الموضوع.
ثم إنهم عمّموا الأحوال الذاتية وفسّروها بما يكون محمولا على ذلك المفهوم، إمّا لذاته أو لجزئه الأعم أو المساوي؛ فإنّ له اختصاصا بالشيء من حيث كونه من أحوال مقوّمه أو للخارج المساوي له، سواء كان شاملا لجميع أفراد ذلك المفهوم على الإطلاق، أو مع مقابله مقابلة التّضاد، أو العدم، والملكة دون مقابلة السلب والإيجاب، إذ المتقابلان تقابل السلب والإيجاب لا اختصاص لهما بمفهوم دون مفهوم، ضبطا للانتشار بقدر الإمكان، فأثبتوا الأحوال الشاملة على الإطلاق لنفس الموضوع والشاملة مع مقابلتها لأنواعه، واللاحقة للخارج المساوي لعرضه الذاتي، ثم إنّ تلك الأعراض الذاتية لها عوارض ذاتية شاملة لها على الإطلاق، أو على التقابل، فأثبتوا العوارض الشاملة على الإطلاق لنفس الأعراض الذاتية، والشاملة على التقابل لأنواع تلك الأعراض، وكذلك عوارض تلك العوارض، وهذه العوارض في الحقيقة قيود للأعراض المثبتة للموضوع ولأنواعه إلّا أنّها لكثرة مباحثها جعلت محمولات على الأعراض، وهذا تفصيل ما قالوا: معنى البحث عن الأعراض الذاتية أن تثبت تلك الأعراض لنفس الموضوع أو لأنواعه أو لأعراضه الذاتية أو لأنواعها، أو لأعراض أنواعها، وبهذا يندفع ما قيل إنه ما من علم إلّا ويبحث فيه عن الأحوال المختصّة بأنواعه فيكون بحثا عن الأعراض الغريبة، للحوقها بواسطة أمر أخصّ كما يبحث في الطبعي «1» عن الأحوال
(1) الطبيعي (م).
المختصة بالمعادن والنباتات والحيوانات، وذلك لأن المبحوث عنه في العلم الطبعي «1» أن الجسم إمّا ذو طبيعة أو ذو نفس، آلي أو غير آلي، وهي من عوارضه الذاتية، والبحث عن الأحوال المختصّة بالعناصر وبالمركّبات التامة وغير التامة، كلّها تفصيل لهذه العوارض وقيود لها.
ولاستصعاب هذا الإشكال قيل: المراد بالبحث عن الأعراض الذاتية حملها على موضوع العلم، كقول صاحب علم أصول الفقه: الكتاب يثبت الحكم قطعا، أو على أنواعه كقوله: الأمر يفيد الوجوب، أو على أعراضه الذاتية كقوله: يفيد القطع، أو على أنواع أعراضه الذاتية كقوله: العام الذي خصّ منه يفيد الظنّ. وقيل معنى قولهم: يبحث فيه عن عوارضه الذاتية أنه يرجع البحث فيه إليها، بأن يثبت أعراضه الذاتية له أو يثبت لنوعه ما هو عرض ذاتي لذلك النوع أو لعرضه الذاتي ما هو عرض ذاتي لذلك العرض او يثبت لنوع العرضي الذاتي ما هو عرض ذاتي لذلك النوع. ولا يخفى عليك أنه يلزم دخول العلم الجزئي في العلم الكلّي كعلم الكرة المتحرّكة في علم الكرة وعلم الكرة في العلم الطبعي «2» ، لأنه يبحث فيها عن العوارض الذاتية لنوع الكرة أو الجسم الطبعي «3» ، أو لعرضه الذاتي، أو لنوع عرضه الذاتي.
ثم اعلم أنّ هذا الذي ذكر من تفسير الأحوال الذاتية إنّما هو على رأي المتأخرين الذاهبين إلى أنّ اللاحق للشيء بواسطة جزئه الأعم من أعراضه الذاتية المبحوث عنها في العلم، فإنّهم ذكروا أنّ العرض هو المحمول على الشيء الخارج عنه، وان العرض الذاتي هو الخارج المحمول الذي يلحق الشيء لذاته، بأن يكون منتهاه الذات كلحوق إدراك الأمور الغريبة للإنسان بالقوة، أو يلحقه بواسطة جزئه الأعم كلحوق التحيّز له لكونه جسما، أو المساوي كلحوق التكلّم له لكونه ناطقا، أو يلحقه بواسطة أمر خارج مساو كلحوق التعجّب له لإدراكه الأمور المستغربة؛ وأما ما يلحق الشيء بواسطة أمر خارج أخصّ أو أعم مطلقا أو من وجه أو بواسطة أمر مباين فلا يسمّى عرضا ذاتيا بل عرضا غريبا.
والتفصيل أنّ العوارض ستة: لأن ما يعرض للشيء إمّا أن يكون عروضه لذاته أو لجزئه أو لأمر خارج عنه سواء كان مساويا له أو أعمّ منه أو أخصّ أو مباينا، فالثلاثة الأول تسمّى أعراضا ذاتية لاستنادها إلى ذات المعروض أي لنسبتها إلى الذات نسبة قوية وهي كونها لا حقة بلا واسطة أو بواسطة لها خصوصية بالتقديم أو بالمساواة، والبواقي تسمّى أعراضا غريبة لعدم انتسابها إلى الذات نسبة قوية. أمّا المتقدمون فقد ذهبوا إلى أن اللاحق بواسطة الجزء الأعم من الأعراض الغريبة التي لا يبحث عنها في ذلك العلم، وعرّفوا العرض الذاتي بالخارج المحمول الذي يلحق الشيء لذاته أو لما يساويه، سواء كان جزءا لها أو خارجا عنها.
قيل هذا هو الأولى إذ الأعراض اللاحقة بواسطة الجزء الأعم تعمّ الموضوع وغيره، فلا تكون آثارا مطلوبة له لأنها هي الأعراض المعيّنة المخصوصة التي تعرضه بسبب استعداده المختص، ثم في عدّ العارض بواسطة المباين مطلقا من الأعراض الغريبة نظر، إذ قد يبحث في العلم الذي موضوعه
(1) الطبيعي (م).
(2)
الطبيعي (م).
(3)
الطبيعي (م).
الجسم الطبعي «1» عن الألوان مع كونها عارضة له بواسطة مباينة، وهو السطح.
وتحقيقه أن المقصود في كل علم مدوّن بيان أحوال موضوعه: أعني أحواله التي توجد فيه ولا توجد في غيره ولا يكون وجودها فيه بتوسّط نوع مندرج تحته، فإن ما يوجد في غيره لا يكون من أحواله حقيقة بل هو من أحوال ما هو أعم منه؛ والذي يوجد فيه فقط لكنه لا يستعد لعروضه ما لم يصر نوعا مخصوصا من أنواعه، كان من أحوال ذلك النوع حقيقة، فحقّ هاتين الحالين أن يبحث عنهما في علمين موضوعهما ذلك الأعم والأخص، وهذا أمر استحساني كما لا يخفى.
ثم الأحوال الثابتة للموضوع على الوجه المذكور على قسمين: أحدهما ما هو عارض له، وليس عارضا لغيره إلّا بتوسّطه، وهو العرض الأولى. وثانيهما ما هو عارض لشيء آخر وله تعلّق بذلك الموضوع بحيث يقتضي عروضه له بتوسّط ذلك الآخر، الذي يجب أن لا يوجد في غير الموضوع، سواء كان داخلا فيه أو خارجا عنه، إمّا مساويا له في الصدق، أو مباينا له فيه ومساويا في الوجود، فالصواب أن يكتفى في الخارج بمطلق المساواة، سواء كانت في الصدق أو في الوجود، فإن المباين إذا قام بالموضوع مساويا له في الوجود ووجد له عارض قد عرض له حقيقة لكنه يوصف به الموضوع كان ذلك العارض من الأحوال المطلوبة في ذلك العلم، لكونها ثابتة للموضوع على الوجه المذكور.
واعلم أيضا أنّ المطلوب في العلم بيان إنّية «2» تلك الأحوال، أي ثبوتها للموضوع، سواء علم لمّيتها «3» أي علّة ثبوتها له أو لا.
واعلم أيضا أنّ المعتبر في العرض الأولي هو انتفاء الواسطة في العروض دون الواسطة في الثبوت التي هي أعم، يشهد بذلك أنهم صرّحوا بأنّ السطح من الأعراض الأولية للجسم التعليمي مع أن
(1) الطبيعي (م).
(2)
الأنّية: أنّى كلمة معناها كيف وأين. لسان العرب، مادة أنن. فالنسبة إليها الأنيّة بالهمزة المفتوحة. وفي لغة تميم بمعنى كيف وأين وللتوكيد. أما إنّي فتثنية إنّا، وكان في الأصل إنّنا فكثرت النونات فحذفت إحداها، وقيل إنّا، وقوله عز وجل إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ، المعنى إنّنا أو إنّكم
…
كما تقول إنّي وإيّاكم، معناه إنّي وإنك. والنسبة إلى ذلك الإنّية بالهمزة المكسورة. وقد استعمل هذه الكلمة الكندي (المتوفي 256 هـ) دلالة على الذات وعين الأنا المفردة.
ثم عبّر الحلاج (المتوفي 309 هـ) عن هذا الفهم في طاسين الالتباس والأزل ص 28 في تفسيره للفظ عزازيل- إبليس- بالقول: «عين عزازيل لعلو همته والزاء لازدياد الزيادة في زيادته والألف آراؤه في إنّيته
…
» وهناك تفريق بين الإنّية والأيّية في الفلسفة ومنذ الكندي القائل: «الفصل هو المقول على كثير مختلفين بالنوع منبئ عن أيّية الشيء» رسالة الكندي في الفلسفة الأولى، تحقيق أبي ريدة القاهرة، ص 129. وبهذا تتميز الإنّية من الأيّية بمثل تميّز الجوهر عن الفصل. الفارابي، المنطق، تحقيق العجم، ج 3، ص 132. ثم إن الأمر التبس على اللاحقين.
فذكر طاش كبرى زادة (المتوفي 968 هـ) في مفتاح السعادة، تحقيق بكري وابو النور، القاهرة ج 1، ص 93، تحت علم إملاء العربية:«هو علم يبحث بحسب الأنّية واللميّة عن الأحوال العارضة لنقوش الألفاظ العربية» بينما ورد عند حاجي خليفة (المتوفي 1067 هـ) في كشف الظنون عن اسامي الكتب والفنون، مط. المثنى، ص 169، تحت علم املاء الخط:«هو علم يبحث فيه حسب الأنّية والكمية عن الأحوال العارضيّة لنقوش الخط العربي.» ونرجح أن خطأ مطبعيا وقع بين اللميّة والكميّة أدّى لاختلاف الشرح بين حاجي خليفة وطاش كبرى زادة. والأرجح أن معنى الاصطلاح للإنّية واللميّة هو أين توضع الحروف والتنوين وما شابه وكيف يكون الشكل لمواضع الحروف ومواقع التنوين، ولا سيما أن الأصل والفصل لهما مصطلحاتهما الفلسفية كالماهيّة والأيّية والإنّية.
(3)
اللميّة: من لمى: اللمّة: الجماعة من الناس أو المثل يكون من الرجال والنساء. واللمّة: الشكل: لسان العرب، مادة لما. وبهذا التعريف تلتقي اللفظة مع ما سبق أن شرحناه من معنى الأنّية.