الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-[ص:
باب حَبَّذا
أصلُ «حَبَّ» من «حَبَّذا» : حَبُبَ، أي: صار حبيبًا، فأُدغِم كغيره، وأُلزِم مَنعِ التصرف وإيلاءَ «ذا» فاعلاً في إفرادٍ وتذكير وغيرهما. وليس هذا التركيب مُزيلاً فعليَّة حَبَّ، فيكون مع «ذا» مبتدأً، خلافًا للمبرد وابن السراج ومن وافقهما، ولا اسميةَ «ذا» فيكون مع حَبَّ فعلاً فاعلُه المخصوص، خلافًا لقوم.
وتدخل عليها «لا» ، فتحصل موافقهُ «بِئسَ» معنًى.]-
ش: حَبَّذا ولا حَبَّذا من الصيغ التي وُضعت للمدح والذم عمومًا كِنعمَ وبئسَ، والعامّ ما أُجملت فيه الصفات المحمودة أو المذمومة بحيث لا يخصُّ اللفظ واحدًا منها إبلاغًا في ذلك؛ لأنَّ التخصيص يتطرق إليه احتمال أنَّ له الوصف الآخر.
قيل: والفرق بينهما وبين نِغمَ وبئسَ أنَّ حَبَّذا تُشعر مع دلالتها على المدح بأنَّ الممدوح محبوب وقريب من النفس، ولا حَبَّذا بالعكس، ولا تُشعر بذلك نِعمَ وبئسَ.
وقيل: ليستا للمدح والذم بالوضع، وإنما وَضعُها للمبالغة في تمكُّن الحب، فتكون أبلغ من أَحَبَّ، لكن الحبَّ قريب من المدح؛ لأنَّ المحبوب ممدوح في الأكثر.
وقوله أصلُ حَبَّ من حَبَّذا حَبُبَ أي: صار حبيبًا يدلُّ على ذلك كونه لا يتعدى، ولأنَّ ما بُني للمدح من هذا النوع يكون على فَعُلَ أصلاً أو تحويلاً، ولأنه إذا لم يُستعمل مع «ذا» جاز نقل حركة العين إلى الفاء، وروي بالوجهين:
...............
…
وحُبَّ بها
…
مَقتُولةً
…
حينَ
…
تُقْتَلُ
ولا يجوز مع ذكر «ذا» إلا الفتح، فتقول: حَبَّذا.
وأصله قبل استعماله للمدح فَغَلَ، وهو متعدِّ، تقول: حَبَبْتُ زيدًا ــ وهو أقلُّ من أَحْبَبْتُ ــ فهو محبوب، وهو أكثر من مُحَبّ، وهو حبيب، أي: محبوب، وقرأ أبو رجاء العُطارِديّ {فاتَّبِعُوني يَحبَّكُمُ الله} ، بفتح الياء وكسر الحاء، وكان قياسها الضم؛ لأنَّ المضعف من فَعَلَ المتعدي قياسُه يَفعُل، نحو شَدَّه يَشُدُّه.
وقوله فأُدغِم كغيره متى كان ثلاثيَّا مضعفًا وجب الإدغام، وسواء أكان على وزن فَعَلَ كشَدَّ، أو فَعِلَ كشَلَّ، أو فَعُلَ كلَبَّ، وقد جاء في بعض ذلك الفك، نحو: لَحِحَتْ عينُه.
وقوله وألزِمَ /منعَ التَّصَرُّف لأنه صار كالحرف الذي جيء به لمعنىً في غيره؛ إذ أصله ألا يدل على المدح، وذلك بخلاف غيره، فإنه يتصرف، نَحو: لَبَّ الرجلُ، تقول فيه: لَبُبْتَ ولم تَلْبُبْ، وفَعُلَ من المضاعف قليل النظير.
وقولهوإيلَاء «ذا» فاعلاً أي: وأُلزِم إيلاءَ «ذا» فاعلاً، ذكر بعض النحويين الاتَّفاق على أنه لا يكون بعدها إلا «ذا» اسم الإشارة، وقد ورد فيها رفعها لغير الإشارة، كقوله:
......... وحُبَّ مَنْ يَتَجَنَّبُ ..................................
فقيل: هو استعمال للأصل، وإنما الكلام بعد التركيب.
وقوله في إفرادٍ وتذكير وغيرهما مثال الإفراد والتذكير:
يا حَبَّذا جَبَلُ الرَّيَّانِ مِنْ جَبَلٍ
…
..........................................
ومثال التثنية قوله:
حَبَّذا أنتما خَليلَيَّ إنْ لَمْ
…
تَعْذلانِي في دَمْعِيَ المُهَراقِ
ومثال الجمع قوله:
وحَبَّذا نَفَحاتٌ مِن يَمانِيةٍ
…
تأتيكَ مِن جَبَلِ
…
الرَّيَّانِ أحْيانا
وتقول: حَبَّذا الزيدون. ومثال التأنيث:
ألا حَبَّذا هندٌ وأَرضُ بِها هندُ
…
......................................
وقول الآخر:
يا حَبَّذا القَمْراءُ واللَّيلُ الداجْ
…
وطُرُقُ
…
مِثلُ
…
مُلاءِ
…
النَّسَّاجْ
وهذا الذي ذهب إليه المصنف من أنَّ «ذا» هو الفاعل هو على قولِ مَن لم يَّدعِ التركيب، وهو مذهب ابن كسيان، وابن دستوريه، والفارسي في
«البغداديات» وابن بَرهان، وابن خروف، وظاهر مذهب الخليل وس على زعم المصنف.
واختلف الذاهبون إلى هذا المذهب في علة إفراد اسم الإشارة وتذكيره وإن اختلف المخصوص بالتثنية والجمع والتأنيث:
فقيل: امتنع أن يطابق المخصوص لأنه جرى كالمثل، نحو:«أَطِرَّي فإنَّكِ ناعِلة، و «الصَّيفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ» .
وقال أبو علي: (ذا) جنس شائع، فلا يختلف كما لا يختلف الفاعل في نِعمَ وبئسَ إذا كان ضميرًا.
وقال ابن كيسان: إنما كان (10) ذلك لأنَّ الإشارة فيه أبدًا إلى مذكر محذوف. والتقدير عنده: حَبَّذا حُسنُ زيدٍ، وحَبَّذا أمرُه وشأنُه، وكذلك تثنيةً وجمعًا وتأنيثًا، ثم حُذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
قال في «البسيط» : «وهذا فاسد من وجوه:
منها: أنه دعوى لا دليل عليها؛ إذ لم يتكلموا به في موضع، وإنما يُدَّعَى الإضمار إذا تُكُلَّم به في موضع.
الثاني: أنَّ ما بعد الإشارة وصف له، ولا يُحذف لأنه هو العمدة؛ لأنه لازم الوصف في مواضع الإبهام كما في النداء، ولأنه كالمضمر في التفسير.
والثالث: أنَّ حذف المضاف مع الإقامة لا يُخرج الملفوظ به عن أن يُعتبر في التثنية والجمع والتأنيث، فتقول: اجتمعتِ اليمامةُ، ولا تقول: اجتمعَ اليمامةُ» انتهى.
وعلى هذا الوجه اعتمد ابن عصفور في رده على /ابن كيسان، قال:
وهذا الذي ذكراه ليس كما ذكراه، بل إذا حُذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مُقامه في الإعراب ــ لا يتعين أن تكون الأحكام على حسب ما أُقيم مُقامه، بل في ذلك طريقان: أحدهما ما ذكراه، وهو الأكثر. والثاني مراعاة المحذوف، وقد جاء ذلك في أفصح كلام، قال تعالى {أو كظلمت في بحر لجي يغشه موج} ، التقدير: أو كذي ظلمات، فأعاد الضمير على ذي المحذوف.
والرابع: لو كان كذلك لجار أن تقول: حَبَّذا، ويتم المقصود؛ لأنه ليس لازم الوصف لجواز الحذف بالفرض، ولأنَّ بعض العرب ينصب بها التمييز لما أراد بيان الذات، ولو كان كما قال لكان الأَولى ردّ الأصل» انتهى.
وقوله وليس هذا التركيب إلى قوله ومَن وافقهما قال المصنف في
الشرح: «صرَّح المبرد في (المقتضب) وابن السراج في (الأصول) بأنَّ حَبَّ وذا جُعلتا اسمًا مرفوعًا بالابتداء.
ولا يصحُّ ما ذهبا إليه من ذلك؛ لأنهما مُقرَّانِ بفِعليَّة حَبَّ وفاعلية ذا قبل التركيب، وأنهما بعد التركيب لم يتغيرا معنًى ولا لفظًا، فوجب بقؤهما على ما كانا عليه، كما وجب بقاء حرفية (لا) واسمية ما رُكِّبَ معها في نحو: لا غلامَ لك، مع أنَّ التركيب قد أَحدثَ في اسمِ (لا) لفظًا ومعنًى ما لم يكن، فبقاءُ جزأي حَبَّذا على ما كانا عليه أولَى؛ لأنَّ التركيب لم يغيرهما لا لفظًا ولا معنًى.
وأيضًا لو كان تركيب حَبَّذا مُخرجًا من نوع إلى نوع لكان لازمًا كلزوم تركيب إذما، ومعلوم أنَّ تركيب حَبَّذا لا يلزم لجواز الاقتصار على حَبَّ عند العطف، كقول بعض الأنصار رضي الله عنه:
فَحَبَّذا
…
رَبَّا، وحَبَّ ديِنا
أراد: وحَبَّذا دِينا، فحَذف ذا، ولم يتغير المعنى، ولا يُفعل ذلك بـ (إذْما) وغيرها من المركبات من المركبات تركيبًا مُخرجًا من نوع إلى نوع، فعُلم بذلك أنَّ تركيب حَبَّذا ليس مُخرجًا من نوع إلى نوع.
وأيضًا لو كان حَبَّذا مبتتدأ لدخلت عليه نواسخ الابتداء كما تدخل على غيره من المبتدآت؛ فكان يقال: إنَّ حَبَّذا زيدٌ، وكان حَبَّذا زيدًا، وفي مَنعِ ذلك دلالة على أنَّ حَبَّذا ليس مبتدأ.
وأيضًا لو كان مبتدأ لَلَزِمَ إذا دخلتْ عليه (لا) أن يُعطف عليه منفي بـ (لا) أخرى، فكان يمتنع أن يقال: لا حَبَّذا زيدٌ، حتى يقال: ولا المرضيُّ فِعلُه، ونحو ذلك، كما يُفعل مع المبتدأ الذي حَبَّذا مُؤَدِّ معناه.
واختار ابن عصفور اسمية حَبَّذا مُستَدلَاّ بأنَّ العرب قد أكثرتْ من دخول (يا) عليها دون استيحاش؛ وزعم أنَّ فِعْلَ ذلك مع غيرها مما فِعلِيتَّه مُحَقَّقة مُستَوحَش منه، كقوله:/
ألا يا اسْقيِاني قَبلَ غارةِ سِنْجالِ
…
.....................................
وعكسُ ما ادَّعاه أَولَى بالصحة؛ لأنَّ دخول (يا) على فعل الأمر أكثر من دخولها على حَبَّذا، فمن ذلك قراءة الكساني {ألا يا اسْجُدُوا} ، قال العلماء:
تقديره: ألا يا قوم اسجدوا، فكذلك يكون التقدير في يا حَبَّذا: يا قومِ حبَّذا، أو نحو ذلك، فإنَّ حذف المنادى وإبقاء حرف النداء مُجَوَّز بإجماع، ومنه قول الشاعر:
يا، لعنةُ اللهِ والأقوامِ كُلِّهِم
…
والصالحينَ على سِمعانَ مِنْ جارِ
وليس بشيء قولُ مَن قال في قراءة الكسائي: إنَّ معناها: ألا لَيِسْجُدوا، فحذف لام الأمر، وبقي الفعل مجزومًا؛ لأنه قد روي عن الكسائي أنَّ القاريء بروايته إذا اضطرَّ إلى الوقف على الياء يقف بالألف، ويبدأ بعدها (اُسْجُدوا) بضم الهمزة، فعُلِمَ بذلك أنه فعلُ أمرٍ قبلَه (يا).
وقد جعل بعض العلماء (يا) في مثل هذا لمجلاد التنبيه دون قصد نداء، مثل (ها) ومثل (ألا) الاستفتاحية. وهذا هو الظاهر من كلام س في (باب عدَّة ما يكون عليه الكلم). ويؤيد هذا كثرةُ دخولها على (ليت) في كلام مَن لا يَحضره منادًى، ولا يَقصد نداًء، كقوله {يليتنى كنت معهم} ، وكثرةُ معاقبتها لـ (ألا) الاستفتاحية قبل ليتَ وربَّ، كقول الشاعر:
ألا ليتَ شِعْرِي هل أَبِيتَنَّ ليلةً
…
بِوادٍ وحَولِي إذخِرٌ وجَلِيلُ
وكقول الآخر:
يا ليتَ شِعْرِيَ هل يُقْضَى انْقضاءُ نَوَى
…
فَيجمَعَ اللهُ بينَ الرُّوحِ والجسد
وكقول امرئ القيس:
ألا رُبَّ يومٍ صالحٍ لكَ منهما
…
ولا سِيَّما
…
يومٌ
…
بِدارةِ
…
جُلْجُلِ
وكقوله أيضًا:
فيا رُبَّ مَكْرُوبٍ كَرَرْتُ
…
وَراءَهُ
…
وطاعَنْتُ عنه الخَليلَ حتى تَنَفَّسَا»
انتهى.
قال أستاذنا أبو جعفر بن الزبير ــ رحمه الله ــ «لا تَعَلَّقَ لِمن يَنسُب إليه أنَّ حَبَّذا كله اسم بهذا اللفظ؛ إذ ليس صريحًا، بل لو قيل إنَّ ظاهره رَعْي الفصل لكان الوجه؛ ألا ترى تنظيره بـ (ابن عَمَّ)، وقوله (فالعَمّ مجرور)، وتعويله على تعليل بقاء (ذا) مع المذكر والمؤنث على صورة واحدة، فلهذا عَوَّل ابن خروف وأبو علي الشلوبين على هذا المفهوم» انتهى.
وممن ذهب إلى أنه بمجموعه اسم السيرافي وغيره، /وحملوا كلام س في قوله «وهو اسم مرفوع» على أنَّ «وهو» عائد على قوله «ولكنَّ ذا وجَبَّ بمنْزلة كلمة واحدة» أي: وحبَّذا اسم مرفوع. والقائل الآخر يقول: «وهو» عائد على «ذا» وحده.
واستَدلً مَن قال بِغَلَبة الاسم في التركيب بأنَّ جهة الاسمية أصل، والاسم أكثر تصرفًا؛ لأن الخبر يَستَقِلُّ به، ولأنَّ التركيب يكون من الأسماء، نحو بَعْلَبَكّ، ولا يكون من الأفعال.
ونَسب أبو الحسين بن أبي الربيع إلى الخليل وس هذا المذهب، قال:
«وعليه أكثر النحويين» . وقال في «اللباب» : «استَدَلَّ من قال بالتركيب وجَعَلَهما في تقدير اسم مفرد بحسن ندائه، وبقولهم: ما أُحَيبِذَه، فصغروه تصغير المفرد، وبأنَّ ذا لم يُثَنَّ ولم يُجمَع، وبأنه لا يُحذف، ويضمر في الفعل كما فُعل بِنعمَ. وهذا لا يعتمد عليه؛ لأنَّ المنادى محذوف، ولأنَّ التصغير شاذّ، ولأنَّ إفراده لكونه جرى المثل، والأمثال لا تُغَيَّر عن أَوَّليَّتها» .
وظاهر كلام المصنف أنَّ حبَّذا مع كون «حَبَّ» فعلاً ماضيًا، و «ذا» فاعل به مركب؛ ألا ترى إلى قوله «وأنهما بعد التركيب لم يتغيرا معنًى ولا لفظًا» ، وأنَّ تشبيهه بقولك: لا غلام. على أنه يحتمل أن يُتأوَّل كلامُه على أنه يريد بالتركيب نقلَه إلى معنى المدح العامّ، وكونَه لم يبق على مدلوله الأول من أنه يدلُّ على معنًى خاص من المحبة، وكونه كان متصرفًا. وينبغي هذا التأويل لنصهم على أنَّ من قال بأنه فعل وفاعل لا يدَّعي التركيب.
وقوله ولا اسمية ذا إلى قوله خلافًا لقوم استَدَلَّ مَن قال بغلبة الفعل على الاسم في التركيب في حَبَّذا بأنه هو المبدوء به، وهو أكثر حروفًا. ورَجَّحَ بعضهم هذا بأنه لا يبقي معه شذوذ، وهو كون أحدهما مفردًا والآخر مثنَّى، فلا
يتبعه، نحو: حَبَّذا الزيدان، ولأنه يفسَّر، والمبتدأ ليس فيه إبهام حتى يكون التمييز من تمامه.
وممن ذهب إلى كونه مركبًا وأنه كله فعل، والمخصوص فاعل ـ أبو الحسن الأخفش وأبو بكر خَطَّاب.
وليس في قول العرب «لا تُحَبَّذْه» دلاله على أنَّ حَبَّذا كله فعل؛ إذ ليس مضارعَ حَبَّذا، وإنما هو مضارع لـ «حَبَّذْ» ، ومعنى لا تُحَبِّذه: لا تقل له حَبَّذا، كما تقول: لم يُبَسْمِلْ زيدٌ، أي: لم يقل باسمِ الله.
وقال بعض أصحابنا: استدلُ القائلون بالتركيب بإفرادِ اسم الإشارة، وبكونِ حَبَّ لا يتصرف بحسب المشار إليه، وبكونِ العرب لا تَفصل بين (حَبَّ) و (ذا) بشيء، لا تقول: حَبَّ في الدار ذا زيدٌ، وأنت تريد: حَبَّذا في الدار زيدٌ.
وقوله وتَدخل عليها (لا) فتَحصل موافقة بئسَ معنًى إذا دخلتْ «لا» على حَبَّذا كانت للذمّ كما كانت دون «لا» للمدح، وقال الشاعر:
لا حَبَّذا أنتِ يا صَنعاءُ مِنْ بَلَدٍ
…
ولا شَعُوبُ هَوًى مِنِّي ولا نُقُمُ
وقال الآخر: /
ألا
…
حَبَّذا عاذِرِي في الَهوَى
…
ولا
…
حَبَّذا
…
الجاهِلُ
…
العاذِلُ
وقال الآخر:
ألا حَبَّذا أهلُ الَملا غيرَ أنَّه
…
إذا ذُكِرَتْ مَيُّ فلا حَبَّذا هِيَا
ودخول «لا» على حَبَّذا لا يخلو من إشكال؛ لأنك إمَّا أن تُفَرَّع على أنَّ حَبَّذا كلُه فعل، أو حَبَّ فعل، و «ذا» اسم، وكلاهما لا ينبغي أن تدخل عليه «لا» ؛ لأنَّ «لا» لا تدخل على الماضي غير المتصرف، وتدخل على المتصرف قليلاً. أو تُفَرَّع على أنه بمجموعه اسم، ولا ينبغي أن تدخل عليه؛ لأنه إمَّا أن تقدِّره منصوبًا بها، وليس بجيد؛ لأن النصب على العموم، نحو: لا رجلَ، ولا يصح هنا لأنه خصوص. وإمَّا أن تقدَّره مرفوعًا، وليس بجيد؛ لأنَّ الأصح تكرار «لا» ، فلا بُدَّ منه، ولا يجوز أن تكون غير مكررة إذا ارتفعت الأسماء بعدها بالابتداء إلا على مذهب الأخفش والمبرد.
ص: ويُذكَر بعدهما المخصوصُ بمعناهما مبتدأً مخبرًا عنه بهما، أو خبرَ مبتدأ لا يظهر، ولا تعمل فيه النواسخ، ولا يُقَدَّم، وقد يكون قبلَه أو بعدَه تمييزٌ مطابق أو حالٌ عاملُه حَبَّ، وربَّما استُغني به أو بدليل آخر عن المخصوص. وقد تُفرَد حَبَّ، فيجوز نقلُ ضمة عينها إلى فائها، وكذا كلُّ فَعُلَ حلقيّ الفاء مُراد به مدحٌ أو تعجُّبٌ. وقد يُجَرُّ فاعلُ «حَبَّ» بباءٍ زائدة تشبيهًا بفاعِلِ أو أفْعِلْ تعجُّبًا.
ش: الضمير في «بعدهما» عائد على حَبَّذا وعلى لا حَبَّذا، ولَّما كان المصنف قد اختار أنَّ حَبَّ فعلٌ ماضٍ، وأنَّ الفاعل به «ذا» ـ فَرَّعَ الإعراب على ذلك، فيجوَّز فيه وجهين:
أحدهما: أن يكون مبتدأً مخبرًا عنه بهما، والرابط للجملة بالمبتدأ هو اسم الإشارة، كقوله تعالى {ولباسُ الَتقْوَى ذَلِكَ خيرُ} ، هذا إذا قلنا بأنَّ «ذا» أريد به الخصوص، وإن قلنا إنه شائع فالعموم هو الرابط.
الوجه الثاني: أن يكون خبرَ مبتدأ محذوف واجب الحذف، كأنه قيل لمن قال حبَّذا: مَن المحبوب؟ فقال: زيدٌ، يريد: هو زيدٌ.
قال المصنف في الشرح: «والحكم عليه بالخبرية هنا أسهل منه في باب نِعمَ؛ لأنَّ مصعِّبه هناك نشأ من دخول نواسخ الابتداء، وهي هنا لا تدخل؛ لأنَّ حَبَّذا جارٍ مجرى المثل، والمثل وما جرى مجراه لا يغيَّران» .
وقال ابن كيسان: ليس مبتدأ، بل هو تابع لـ «ذا» على البدل تبعًا لازمًا.
وأمَّا من قال بالتركيب وتغليب الاسم فاختارأبو علي أن تكون حَبَّذا خبرًا، والمخصوص مبتدأ. وقال المبرد: حَبَّذا مبتدأ، والمخصوص خبره. وأباه أبو علي.
وأجاز بعضهم فيه هذين الوجهين ووجهًا آخر، وهو أن يكون مبتدأُ محذوف الخبر كالأوجه الثلاثة التي أجازوها في: نِعمَ الرجلُ زيدٌ.
وذهب بعض النحويين إلى أنه عطف بيان، وبعضهم إلى أنه بدل لازم.
وأبطل كونَه مبتدأَ محذوف الخبر أو خبرَ مبتدأ محذوف جوازُ حذف المخصوص، فيَلزم حذف الجملة بأسرها من غير دليل على حذفها، وكونها تكون جملةً مفلتة مما قبلها /لا موضع لها من الإعراب.
ويُبطل عطفَ البيان مجيء المخصوص نكرة واسم الإشارة معرفةً، فقد اختلفا تعريفًا وتنكيرًا، وذلك لا يجوز في عطف البيان، ولذلك خطِّئ الزمخشري في إعرابه {مَقَامُ إبراهِيمَ} عطف بيان من {ءايت بينت} للتخالف في التنكير والتعريف. ومما جاء فيه التخالف في حبَّذا قول الشاعر:
وحَبَّذا نَفَحاتٌ مِن يَمانيةٍ
…
تأتيكَ مِن جَبَلِ الرَّيَّانِ أَحْيانا
ويُبطل البدلَ أنه على نَّية تكرار العامل، ولا يجوز له أن يلي حَبَّ، وعدمُ مطابقة اسم الإشارة للبدل.
وأمَّا مَن قال إنه كله فِعل، فغَلَّبَ جَنْبة الفعلية ــ فإنَّ المرفوع بعد حَبَّذا فاعل به. ويُبطل هذا الإعرابَ أنه يجوز حذفُه، والفاعلُ لا يُحذف.
وقوله ولا تَعمل فيه النواسخ فلا تقول: كان حبَّذا زيدٌ، لا برفع زيد ولا بنصبه، بخلاف نِعمَ وبئسَ، فإنه قد تقدَّم لنا ذكر جواز ذلك، فتقول: كان نعمَ الرجلُ زيدٌ. ولا تظهر علةٌ في منع ذلك، وإنما الرجوع في ذلك للاستقراء.
وقوله ولا يُقَدَّم يعني أنه لا يقال: زيدٌ حَبَّذا، وذلك بخلاف نِعمَ وبئسَ، فإنه يجوز تقديمه عليهما، فتقول: زيدٌ نعمَ الرجلُ، مع أنَّ التقديم مرجوح في نِعمَ لانهم
أرادوا الإبهام، فكان التأخير أحسن لأنه موضع تفسير، ولَزِمَ في حَبَّذا تأخيره. وما نقصَ حَبَّذا من التصرف الذي في نِعمَ وبئسَ فلأنها فرع عنهما، فلا يكون فيها ما يكون في الأصل من وصفٍ وتأكيدٍ وتقديمٍ وغير ذلك، قاله في البسيط.
وقال المصنف في الشرح ما معناه: «إنَّ علة امتناع دخول النواسخ على حَبَّذا وامتناع تقديم المخصوص عليها هو أنها جَرَت مجرى المَثَل، وما جرى مجراه لا يُغَيَّر. وأغفلَ أكثر النحويين التنبيه على هذين الحكمين، ونَبَّهَ ابن بابشاذ على امتناع التقديم، لكن جَعل سببَ ذلك خوف توهُّم كون المراد: زيدٌ أَحَبَّ ذا، وتوهُّمُ هذا بعيد، بل المانع إجراؤه مُجري الَمثَل» انتهى.
وقوله وقد يكون قبله أو بعده تمييز مطابق مثال مجيء التمييز قبله قول الشاعر:
ألا
…
حَبَّذا قَومًا سُلَيمُ، فإنَّهُمْ
…
وَفَوْا
…
إذ
…
تَواصَوْا بالإعانِة والنَّصْرِ
ومثال مجيء التمييز بعده قول رجل من طِّيئ:
حَبَّذا الصَّبرُ شِيمةً لامْرىٍء را
…
مَ مُباراةَ مُولَعٍ بالَمعالي
ومعنى قوله مطابق أي: للمخصوص المذكور بعد حَبَّذا، يطابقه في إفراد وتذكير وفروعهما، فتقول: حَبَّذا رجلاً زيدٌ، وحَبَّذا رجلين الزيدان، وحَبَّذا رجالاً الزيدون، وحَبَّذا امرأةً هندٌ، وحَبَّذا امرأتين الهندان، وحَبَّذا نساءً الهندات. وكذا لو تأخر التمييز عن المخصوص، فإنه يطابقه أيضًا، نحو: حَبَّذا زيدُ رجلاً، إلى آخر المُثُل.
وظاهر قول المصنف وقد يكون قبله أو بعده /تمييز أن الأولى أن يتقدم التمييز على المخصوص، وذلك من حيث قُدِّم تقديمه على المخصوص على تأخيره
عنه، وقد صرَّح بذلك في الشرح، قال فيه:«وإذا قُدِّم عليه المخصوص، وأُخِّر هو ــ يعني التمييز ــ فهو سهل يسير، واستعمالُه كثير، إلا أنَّ الأوَّل أَولى وأكثر» ، ويعني بالأوَّل تقديم التمييز على المخصوص.
وهذا الذي اختاره المصنف هو مخالف لقول أبي علي الفارسي، قال أبو علي:
«ضَعْفُ حَبَّذا رجلاً زيدٌ يؤكَّد عندك ضَعفَ حَبَّ؛ ألا ترى أنهم إنما ينصبون بعد تمام الكلام، ولّما لم يستقلّ حَبَّ بـ (ذا) ــ وإن كان في الأصل فعلاً وفاعلاً ـ ضَعُفَ،
نحو: حَبَّذا رجلاً زيدٌ؛ لأنَّ الجملة لم تتمّ بعد وإن كان قد تقدم فعل وفاعل، فإذا تأخَّر بعد زيد جاء بعد استقلال الكلام، فحسُن النصب» انتهى كلامه، ويظهر منه أنَّ الناصب لهذا المنصوب ليس حَبَّ، وإنما هو منتصب عن تمام الكلام من: حَبَّذا زيدٌ.
وكذا المتفهَّم من كلام أبي محمد بن السِّيْد، قال في قوله:
يا
…
حَبَّذا
…
جَبّلُ الرَّيَّانِ مِنْ جَبَلٍ ...............................
«مِن جبلٍ: في موضع نصب على التمييز، والعامل فيه معنى الجملة المقدمة، كما قال الآخر:
يا فارِسًا ما أنتَ مِن فارسٍ! .................................
كأنه قال: هو حبيب إلي من بين الجبال، أو اختصصته بمحبتي من بين الجبال، كذا قال الكسائي والفراء» انتهى كلام ابن السَّيْد.
ونقول: مَن أَبقى «حَبَّ» و «ذا» على أصلهما من الفعل والفاعل ــ كما ذهب إليه المصنف ــ فالذي يقتضيه مذهبه هو ما قاله المصنف من أنَّ تقديمه أجود؛
وأنَّ تأخيره ضعيف؛ لأنَّ العامل فيه عنده هو حَبَّ، فيكون ذلك فصلاً بين العامل والمعمول بالمخصوص. ويَقوى ضَعفُه إذا أعربنا المخصوص خبر مبتدأ محذوف، فيصير فصلاً بجملة بين العامل والمعمول، وليست جملةً اعتراضية، فكان القياس يقتضي ألاً يجوز ذلك.
وقوله أو حالٌ مثال مجيء الحال قبل المخصوص قول الشاعر:
[يا حَبَّذا مَرْجُوَّا الُمثرِي السَّخِي
…
مَنْ يَرْجُهُ فَعَيشُهُ العَيشُ الرَّخِي]
ومثال تأخير الحال عنه قول الشاعر:
يا حَبَّذا المالُ مَبذُولاً بلا سَرَفٍ
…
في أَوْجُهِ
…
البِرِّ إسْرارًا وإعْلانَا
وقول الآخر:
يا حَبَّذا الجَنَّةُ واقْتِراُبها
…
طَيِّبَةً وباردًا شَرابُها
على أنَّ طَيِّبةً يحتمل أن يكون حالاً من الضمير المجرور في «اقترابها» . وحكم الحال في مطابقة المخصوص قبله وبعده حكم التمييز.
وأمَّا التقديم للحال على المخصوص والتأخير عنه فيظهر من عطف قوله «أو حالٌ» أنها مساوية للتمييز، فيكون تقديمها أولى من تأخيرها. وقيل: التمييزُ ينبغي تقديمه، وأمَّا الحال فيستوي فيها /الأمران.
وقال المصنف في الشرح: «فأما التمييز فكثير ومتفق على استعماله» . وقال أيضًا: «والتزم بعض المتأخرين كونَ المنصوب بعد (ذا) تمييزًا، وليس ذلك ملتزمًا؛ لأنَّ الحال
قد أغنت عنه في النظم والنثر» انتهى.
وهذا الذي ذكره المصنف من أنَّ التمييز مُتَّفَق على استعماله إن عنى الاتفاق من العرب على فهمه عنهم أنه تمييز فيمكن؛ وإن عنى أنَّ الاتفاق من النحاة فليس كذلك، فنقول:
اختلف النحويين في هذا المنصوب بعد حَبَّذا:
فذهب الأخفش، والفارسي، والرَّبعيّ، وخَطَّاب المارِدِيّ، وجماعة من البصريين ـ إلى أنه منصوب على الحال لا غير؛ وسواء أكان جامدًا أم مشتقَّا.
وذهب أبو عمرو بن العلاء إلى أنه منصوب على التمييز لا غير، وسواء أكان جامدًا أم مشتقَّا. وأجاز نصبَه على التمييز الكوفيون وبعض والبصريين.
وفَصَّل بعضهم، فزعم أنه حال إن كان مشتقَّا، وتمييز إن كان جامدًا.
وقبول الجامد والمشتقّ دخول مِن عليهما يرجَّح أن ينتصبا على التمييز؛ لأنَّ الحال لا تدخل عليها مِنْ.
والذي يظهر أنه إن كان جامدًا كان تمييزًا، وإن كان مشتقَّا فمقصدان للمتكلم: فإن أراد تقييد المبالغة في مدح المخصوص بوصف كان ذلك المنصوب
حالاً، ولا يصح دخول مِن عليه إذ ذاك. وإن أراد عدم التقييد بل تبيين جنس المبالَغ في مدحه كان ذلك المنصوب تمييزًا، مثال الأول: حَبَّذا هندٌ مُواصِلةً، أي: في حال مُواصلتها. ومثال الثاني: حَبَّذا راكبًا زيدٌ، وهذا الذي تدخل عليه من.
وفي «البسيط» جواز نصب هذا المنصوب بإضمار «أعني» . فلا يكون إذ ذاك لا تمييزًا ولا حالاً، بل هو مفعول بهذا الفعل المضمر، وهو قول غريب.
وقوله ورُبَّما استُغني به أو بدليل آخر عن المخصوص فمثال ما استغنى بذكر التمييز عن المخصوص قول الراجز:
باسمِ الإلهِ، وبهِ بَدِينا
…
ولو عَبَدْنا غيرَه شَقِينا
فحَبَّذا رَبَّا وحُبَّ دِينا
أي: فحَبَّذا رَبَّا الإلهُ.
ومثالُ ما حُذف فيه المخصوص لدليل آخر غير التمييز، وذلك للعلم به، كما حُذف في نِعْمَ وبئسَ إلا أنه في حَبَّذا قليل ــ قولُ الشاعر:
ألا حَبَّذا لولا الحياءُ
…
، ورُبَّما
…
مَنَحتُ الَهوى مَنْ ليسَ بالُمتَقارِبِ
يريد: ألا حَبَّذا حالتي معكِ، يشير إلى أنَّ هواه إياها، وزيارته لها، وما ترتَّب على ذلك في قوله:
هَوِتُكِ حتى كادَ يَقتُلُنِي الهَوى
…
وزُرتُكِ حتى لامَنِي كُلُّ صاحِبِ
وحتى رأي مِنَّي أدانِيكِ رِقّةً
…
عليكِ، ولولا أنتِ ما لانَ جانِبِي
وبعد ذلك البيت:
بأهلي ظباٌء منْ رَبيعة عامر
…
عِذابُ الثْنايا، مُشْرِفاتُ الحَقائِبِ
وفي جواز حذفه دليلٌ على فساد قولِ مَن ذهب إلى أنَّ حَبَّذا كله فعل، وأنَّ المخصوص فاعل به؛ إذ الفاعل لا يجوز حذفه. ودليلٌ على أنه لا يكون خبرَ مبتدأ محذوف؛ إذ يلزم حذف /الجملة بأسرها من غير عِوض عنها ولا قائم مقامها، وذلك لا يجوز.
ومِن أحكام حَبَّذا جوازُ الفصل بالنداء بينها وبين مخصوصها، كما قال كثَّير:
فقلتُ ــ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ ــ
…
ألا حَبَّذا ــ يا عَزّ ــ ذاكِ التَّشايُرُ
وجواز تأكيدها التأكيد اللفظي، أنشد أبو الفتح في «المنصف»:
ألا حَبَّذا حَبَّذا حّبَّذا
…
حَبيبٌ تَحَمَّلتُ فيه الأَذَى
ويا حَبَّذا بَرْدُ أنْيابِهِ
…
إذا أّظْلَمَ اللّيلُ واجْلَوَّذا
ومجيءُ المخصوص اسم إشارة مخالفًا في الرتبة لـ «ذا» المتصلة بحَبَّذا نحو ما
أنشدناه من قوله:
...................
…
ألا حَبَّذا ــ يا عَزّ ــ ذاكِ
…
التَّشاُيرُ
وقول الآخر:
فقد بَسْمَلَتْ ليلى غَداةَ لَقِيتُها
…
فيا حَبَّذا ذاك الحَبيبُ المُبَسْمِلُ
ويُقَوِّي هذا كونَ حَبَّذا مركبة، وأنَّ «ذا» ليس فاعلاً بـ «حَبَّ» ؛ لتحالفه مع «ذاك» رتبةً؛ لأنَّ «ذا» موضوع للقريب، و «ذاك» موضوع للبعيد على قول، أو للوسط على قول، ولا يمكن أن يكون الشيء في الحالة الواحدة قريبًا بعيدًا، أو قريبًا متوسطًا، إلا بتجوُّز.
وأمَّا ما ذكره المصنف من أنه يجوز حذف ذا، واستدلاله على ذلك بقوله:
فَحَبَّذا رَبَّا، وحَبَّ دِينا
وتقديره «وحَبَّذا دينًا» فإنَّ القواعد تأبى ذلك؛ لأنه إن كان فاعلاً فلا يجوز حذفه، وإن كان جزءًا من المركب الذي حُكم عليه بأنه اسم كله أو الذي حُكم عليه أنه فعل كله فلا يجوز حذفُه؛ لأنه حالة التركيب صار جزءًا من أجزاء الاسم أو أجزاء الفعل، فكما لا يصحُّ حذف الاسم ولا بعض الفعل كذلك لا يصحّ في
حَبَّذا.
وأمَّا قوله «وحَبَّ دينا» فلا حجة فيه على حذف ذا؛ لأنَّ لِحَبَّ استعمالين: أحدهما: أن تليها «ذا» ، وتُضَمَّن المبالغة في المدح.
والثاني: ألا تليها «ذا» ، وتكون مما بُني على فَعُلَ، وأجري مُجرى نِعمَ وبئسَ، ويتخرَّج «وحَبَّ دينا» على أن تكون «حَبَّ» استُعملت هذا الاستعمال الثاني، فيكون في حَبَّ ضمير يفسِّره قوله «دِينا» ، ويكون قد حذف المخصوص،
وتقديره: وحَبَّ دينًا ديُننا، كما أنك تقول لمن ذكر زيدًا: نِعمَ رجلاً، تريد: نِعمَ رجلاً زيدٌ، فيكون مثل قول الشاعر:
وزادَهُ كَلَفًا بالحُبِّ أَنْ مَنَعَتْ
…
وحَبَّ شيئًا إلى الإنسانِ ما مُنِعا
وإذا احتمل أن يكون من باب نِعمَ وبئسَ لم يكن في قوله «وحَبَّ دِينا»
دليل على جواز حذف «ذا» .
ومِن ذهب إلى أنَّ «ذا» فاعل بـ «حَبَّ» في قولهم «حَبَّذا زيدٌ» فهو لا يجيز إتباعه لا بنعت ولا عطف ولا تأكيد ولا بدل؛ ويجوز ذلك في المخصوص.
وقوله وقد تُفْرَدُ حَبَّ، فيجوز نقل ضمة عينها إلى حائها يعني أنها تفرد مِن ذا، فيجوز أن يكون مرفوعها /كل اسم يصحّ أن يكون فاعلاً، فيجوز أن تبقى الحاء مفتوحة استصحابًا لحالها من الفتح السابق فيها، ويجوز ضم الحاء نقلاً لضمة عين الكلمة إلى الفاء؛ إذ قد بُني حَبَّ على وزن فَعُلَ، ولا يسوغ هذا النقل إلا حيث لا يكون الفك، فإن كان الفك ــ كإسناد حَبَّ إلى ما يسكن له آخر الفعل ـ لم يجز النقل، فتقول: حَبُبْتَ يا هذا، وحَبُبْتِ يا هند، وكذلك ما أشبهه، وإنما يجوز النقل فيما لم يكن فيه فكٌّ، نحو حُبَّ زيدٌ في حَبَّ زيدٌ.
وقوله وكذا كلُّ فَعُلَ حلقيّ الفاء مراد به مدح أو تعجُّب يعني أنه يجوز نقل ضمة فَعُلَ إلى الفاء إذا أريد به المدح أو التعجب. وقال المصنف في الشرح:
«وهذا النقل جائز في كل فِعلٍ على فَعُلَ مقصود به التعجب، كقول الشاعر:
حُسْنَ فِعلاً لقاءُ ذي الثروة المُمْـ
…
ـلقَ بالبِشْرِ
…
والعَطاءِ الجَزيلِ»
فخصَّ النقل بما قُصد به التعجب، وقال في المتن «مراد به مدح أو تعجب» .
وظاهر كلام المصنف أنَّ النقل مختص بما فاؤه حرف حلقيّ، نحو حَبَّ وحَسُنَ وخَبُثَ وغَلُظَ، وكان على وزن فَعُلَ مرادًا به مدحٌ أو تعجب. وليس مختصَّا بذلك،
بل كل فَعُلَ أو تحويلاً لمدح أو ذم يجوز فيه النقل، فتقول: لَضُرْبَ الرجلُ، بضم الضاد.
وقوله وقد يُجَرُّ فاعِلُ حَبَّ بباءٍ زائدة تشبيهًا بفاعِلِ أفْعِلْ تَعَجُّبًا ظاهر قوله وقد يُجَرُّ التقليل، وهو مخالف لظاهر ما قال في آخر باب نِعمَ وبئسَ بأنه يَكثُر انجرار فاعله بالباء، وبعض الشواهد التي استدلَّ بها هناك استدلَّ بها هنا، وذلك قول الشاعر:
فقلتُ: اقْتُلُوها عَنكمُ بِمِزاجها
…
وحُبَّ بها مَقتُولهً حينَ تُقتَلُ
قال هنا في الشرح: «يُروى بضم الحاء وفتحها. وحكى الكسائي:
(مررتُ بأبيات جادَ بهنَّ أبياتًا، وجُدْن أبياتًا)، فحذف الباء، وجاء بضمير الرفع، وهذا الاستعمال جائز في كل فعل ثلاثي مضمَّن معنى التعجب» انتهى. فبيَّن بهذا أنَّ الجر بباءٍ زائدة لهذا النوع ليس مختصَّا بفاعلِ حَبَّ. وتقدمت لنا شواهد كثيرة علي جواز جرِّ فاعل هذا النوع بباء زائدة في آخر باب نِعمَ وبئسَ، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا.