الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-[ص:
باب اسم الفاعل
وهو الصَّفةُ الدالَّة على فاعِلٍ جاريةً في التذكير والتأنيث على المضارع من أفعالها لمعناه أو معنى الماضي. ويُوازن في الثلاثي المجرَّد فاعِلاً، وفي غيرِه المضارعَ مكسورَ ما قبلَ الآخر مبدوءًا بميمٍ مضمومة. ورُبَّما كُسِرَتْ في مُفْعِلٍ أو ضُمَّتْ عينُه، ورُبَّما ضُمَّتْ عينُ مُنْفَعِلٍ مرفوعًا. ورُبَّما استُغنِيَ عن فاعِلٍ بِمُفْعِلٍ، وعن مُفْعَلٍ بِمَفعُولٍ فيما له ثلاثيٌّ وفيما لا ثُلاثيَّ له، وعن مُفْعِلٍ بفاعِلٍ ونحوه، أو بِمُفْعَلٍ، وعن فاعِلٍ بمُفْعَلٍ أو مِفْعَلٍ. ورُبَّما خَلَفَ فاعِلُ مَفعُولاً، ومَفعُلٌ فاعِلاً.]-
ش: قوله وهو الصفة هذا جنس يشمل جميع الصفات من اسم فاعل واسم مفعول وصفة مشبَّة وغير مشبَّهة وأمثلة المبالغة. وقال المصنف في الشرح:
«ذِكُر الصفة مُخرج للأسماء الجامدة» انتهى. والجنس لا يُذكر لإخراج شيء، إنما يُذكر لإخراجِ الشيءِ الفصلُ، والجنسُ إنما يؤتى به جامعًا لأشياء، ثم تخرج بالفصل حتى يتميز المحدود. ثم قد ذَكر هو ما استُعمل وصفًا وهو جامد، كلَوْذَعِيّ وجُرْشُع وشَمَرْدَل وصَمَحْمَح وغير ذلك في باب النعت، وهي جوامد؛ إذ ليست مشتقَّة من شيء، ولكن العرب استعملتها صفات، وأُجريت مُجرى ما ليس بجامد من المشتقَّات.
وقوله الدالَّةُ على فاعِل فصلٌ مُخرجٌ لا سم المفعول، وما أدَّى معناه، كالمصدر الموصوف به في نحو: هذا درهمٌ ضَربُ الأميرِ.
…
وقوله جاريةً في التذكير والتأنيث على المضارع من أفعالها يعني في الحركات والسكنات وعدد الحروف، وهو شامل لا سم الفاعل لفظًا لا معنًى، نحو: ضامِر الكَشح، ومُنطَلِق اللسان، ولنحو أَهْيف وأَعْمى /من الصفات التي على أَفْعَلَ وفعلُها على فِعِلَ. وهو فصل يَخرج به ما ليس بجارٍ على المضارع مما هو جارٍ على الماضي، كفَرِحٍ ويَقظٍ وما ليس بجارٍ عليه، كسَهْلٍ وكَريم. وخَرج به أيضًا باب أَهْيَفَ؛ لأنَّ مؤنثه على فَعْلاء، فلم يَجر على المضارع إلا في حال التذكير، بخلاف اسم الفاعل، فإنه لا تتغير بنيته، فالجريان يصحبه في التذكير والتأنيث؛ لأنَّ التأنيث بالتاء في نيَّة الانفصال. وخَرج به أيضًا أمثلة المبالغة.
وقوله لمعناه أي: لمعنى المضارع من الحال والاستقبال، أو معنى الماضي. وهذا فصل يَخرج به بابُ ضامِر، فإنه لا يُنوى به استقبال ولا مضيّ، وإنما يراد به معنًى ثابت، قال المصنف في الشرح:«ولذلك أضيف إلى ما هو فاعل في المعنى كما تضاف الصفة التي لا تجري على المضارع، فيقال: ضامِرُ الكَشْح، كما يقال: لَطيفُ الكَشْح» .
وقوله ويُوازِنُ في الثلاثيَّ الْمُجَرَّدِ فاعِلاً يعنى: المجرَّد من حروف الزيادة. وهذا الذي ذكر هو القياس، فإذا أردت أن تبني اسم الفاعل من نحو فَرِحَ وثَقُلَ وهو مذهوب به مذهب الزمان قلت فارِحٌ وثاقِلٌ، فتأتي به على مناسبة المضارع في الحركات والسكنات وعدد الحروف.
وهذا الذي ذكر المصنف من أنَّ اسم الفاعل من الثلاثيِّ يكون على فاعِلٍ شاملٌ لأَضرُبه الثلاثة: فَعَلَ، وفَعِلَ، وفَعُلَ.
وقال النحويون: قد جاء اسم الفاعل من فَعِلَ المتعدي على غير فاعِل، ولا ينقاس، فجاء على فَعِيل، نحو عَشِيق، وعلى فَعِلَة، نحو عَلِقَةٍ، وفَعَلْنة، نحو عَلَقْنة، من عَلِقَتْ نفسُه الشيء، وعلى فَعِلٍ، قالوا رَضِعَ فهو رَضِعٌ.
وأمَّا مِن فَعِلَ اللازمِ ففاعِلٌ فيه قليل، نحو: سَلِمَ فهو سالِمٌ. وقد جاء فيه فَعِيل، نحو حَزِين وسَمين. وقال المصنف في بعض تصانيفه:«قياسه فَعِلٌ وفَعْلانُ وأَفْعَلُ، نحو: أشِرٍ وصَدْيانَ وأَجْهَزَ» .
وقال بعض أصحابنا: قياسه أن يكون في الآفات والخِلَق والألوان على أَفْعَلَ،
نحو: عَمِيَ فهو أَعْمَى، وشَنِبَ فهو أَشْنَبُ، وشَهِبَ فهو أَشْهَبُ. وفي الامتلاء وضدَّه على فَعْلانَ، نحو: رَيَّانَ وصَدْيانَ، وفيما سوى ذلك على فَعِلٍ نحو أَشِرٍ. وإذا كان معتلَّ اللامِ لَزِمَ فَعِيلاً، نحو: حَيِيَ فهو حَيِيُّ، وغَنِيَ فهو غَنِيٌّ، وشَقِيَ فهو شَقِيُّ.
وقد جاء اسم الفاعل من فَعَلَ على غير زنة الفاعِل، ففي المتعدي على فُعَلٍ، نحو قُطَعٍ، من قَطَعَ رَحِمَه، وفَيْعِلٍ، نحو سَيَّد، من سادَ قومَه. وفي اللازم على فَعِيلٍ، نحو عَرِيف وعَرِيج، من عَرَفَ وعَرَجَ. وفَعَّالٍ، نحو جَوادٍ، مِن جادَ. وفَيْعِلٍ، نحو مَيِّتٍ، من ماتَ، وفَيْعِلان، نحو بَيَّحان، من باحَ، وقد خُفِّفا، فقيل: مَيْتٌ وبَيْحان. وفَعْلان، قالوا: نَعْسان ونَعْسى، من نَعَسَ. وفَوْعَلٍ، نحو خَوْتَعٍ، مِن خَتَعَ: صار تحت الظُّلمة.
/وأمَّا فاعلٌ من فَعُلَ فقليل، قالوا في نحو حَمُضَ ومَثُلَ وكَمُلَ وطَهُرَ وفَرُهَ وفَضُلَ ووَدُعَ: حامِضٌ وماثِل وكامِل وطاهِر وفارِه وفاضِل ووادِع، وقال
ابن خالويه: لم يشذ إلا قولهم فَرُهَ فهو فارِه، وباقيها فيها الفتح والضم، فاستُغني باسم الفاعل من فَعَلَ عن اسم الفاعل من فَعُلَ.
وذكروا أنَّ باب اسم الفاعل من فَعُلَ بابه فَعِيل، وهو القياس، ولا ينقاس فيه غيره.
وقال المصنف في بعض تصانيفه: جاء فيه فَعْلٌ، نحو: سِهْلٍ وحَزْنٍ وصَعْبٍ. ومَن قاسه لعدم السماع فمُصيب.
وقد جاء فيه على غير هذين الوزنين، فجاء فيه جَبَانٌ وشُجاعٌ وفُراتٌ وأشْجَعُ وشُجَعَةٌ وصَرْعانُ وحَصِفٌ وحَسَنٌ ووُضَّاءٌ وعَفِرٌ وغَمْرٌ وحَصُورٌ،
أي: ضاقَ مجرى لبنها، وماضيها كلها على فَعُلَ.
وقوله وفي غيره ــ أي: في غير الثلاثي ــ المضارع إلى آخره نحو مُكْرِم ومُقْتَدر ومُستَخرج، وكذا من باقي أوزان ما زاد على ثلاثة.
وقوله ورُبَّما كُسِرت في مُفْعِل أي: كُسرت الميم، قالوا أنْتَنَ فهو مُنْتِن، على القياس، وقالوا أيضًا مِنْتِن، بإتباع الميم العين، ومُنْتُن باتباع العين الميم، وقالوا في الُمغِرة مِغِيرة.
وقوله ورُبَّما ضُمَّتْ عينُ مُنْفَعِلٍ مرفوعًا حكاه ابنُ جِنِّيْ وغيرُه في مُنْحَدِر مرفوعًا.
وقوله ورُبَّما استُغنِي إلى آخره قالوا: حَبَّه فهو مُحِبٌّ، ولم يقولوا حابُّ.
ومثالُ الاستغناء عن مُفْعَل بِمَفْعُول فيما له ثلاثي قولُهم: أَحْزَنَه الأمرُ فهو مَحزُون، أَغْناهم عن مُحْزَن، وأَخَبَّه فهو مَحُبوب، أَغْناهم عن مُحَبّ، وندرَ قولُ عنترة:
.................................
…
مَّني بِمَنْزلةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ
ومثالُه فيما لا ثلاثيَّ له قولُهم مَرْقُوق، مِن أَرَقَّه، أي: مَلَكَه، وقول الشاعر:
مَعِي رُدَيْنيُّ أَقْوامٍ، أَذُودُ بهِ
…
عن عِرْضِهِمْ، وفَريصِي غيرُ مَرعُودِ
ولم يقولوا: رَعدَ ولا رَقَّ، إنما قالوا: أُرعِدَت وأُرِقَّ.
ومثال الاستغناء عن مُفْعِلٍ بفاعِلٍ ونحوه قالوا: أَيْفَعَ الغلامُ ــ إذا شَبَّ ــ فهو يافِعٌ، وأَوْرَسَ الرَّمثُ ــ وهو شجرٌ ــ: إذا اصفرَّ، فهو وارِسٌ، وأَقْرَبَ القومُ فهم قارِبون: إذا كان إبلُهم قوارِب، ولا يقال: هم مُقْرِبُون، وأَوْرَقَ الشجرُ فهو وارِق، كما قال:
..................................
…
......... تَعْطُو إلَى وارِقِ السَّلَمْ
والقياس مُوفِعٌ ومُورِسٌ ومُقْربٌ ومُورِقٌ، وقد سُمع: وَرِسَ الشجرُ، ويَفَعَ الغلامُ، فيكونون قد استغَنوا عن اسم فاعل أَوْرَسَ وأَيْفَعَ باسم فاعل يَفَعَ ووَرِسَ.
وقالت العرب: أعَقَّتِ الفَرَسُ فهي عَقُوقٌ: إذا حَمَلَتْ، قال أبو علي القالي:«ولا يقال مُعقّ» . وقالوا: أَحْصَرَتِ الناقةُ فهي حَصُور: إذا ضاقَ مَجرى لبنها، وقالوا عَقَّتْ وحَصرتْ، فيكون ذلك من باب الاستغناء.
ومثالُ ما استُغنِي فيه بمُفْعَل أَسْهَبَ الرجلُ في الكلام ــ إذا كَثُرَ كلامُه ــ فهو مُسْهَبٌ، وكذلك إذا ذهبَ عقلُه من لدغ الحية، وأَلْفَجَ ــ ذهبَ مالُه ــ فهو مُلْفَجٌ، وفي الحديث:(ارْحَمُوا مُلْفَجيكم)، وأَحْصَنَ فهو مُحْصَنٌ، وقالوا أُلْفِجَ ذو المال، وأُسْهِبَ اللديغُ، وأُحْصِنَ، /مبنيَّا للمفعول، فيكون في بنائه للفاعل قد استَغنَوا باسم المفعول عن اسم الفاعل. وقالت العرب: اجْرَأَشَّتِ الإبلُ ــ إذا سَمِنَت ــ فهي مُجْرَأَشَّة، بفتح الهمزة، وهو شاذّ.
ولم يَرد في «أَسْهَبَ في الكلام» إلا مبنيَّا للمفعول، وإذا كان أَسْهَبَ بمعنَى فَصُحَ، أو بَلَغَ الرَّملَ في حفره، أو أَكَثرَ العطاءَ، أو تغيَّرَ وجهُه، أو نزولَ السَّهْبَ ــ
أي: المكانَ السَّهل ــ أو أَسْهَبَ الفرسُ: سَبق ــ فاسم الفاعل منه بكسر الهاء على القياس.
ومثالُ ما استُغنِي فيه عن فاعِلٍ بِمُفْعِلٍ أو مِفْعَلٍ قولُهم: عَمَّ الرجلُ بمعروفه، ولَمَّ متاعَ القوم، فهو مُعِمُّ ومِعَمٌّ، ومُلِمٌّ ومِلَمٌّ، ولم يُقل بهذا المعنى عامٌّ ولا لمٌّ، ولا نظير لهما، حكاه ابن سيده.
ومثالُ ما خَلَفَ فاعِلٌ مَفعولاً قولُ الشاعر:
لقد عَيَّلَ الأَيتامَ طَعنةُ ناشِرَهْ
…
أَناشِرَ، لا زالتْ يَمينُكَ آشِرَهْ
أي: مأشورة، والمأشورة: المقطوعة بالمئشار.
ومثالُ ما خَلفَ مَفعُولٌ فاعِلاً قولُهم: قَطَّ السَّعرُ: غلا، فهو مَقْطُوطٌ، ولم يقولوا قاطُّ، ذكره ابن سيده وهو نادر. وقال المصنف في الشرح:«كاسٍ بمعنى مَكْسُوّ» انتهى. والأصحُّ أنَّ كاسٍ اسمُ فاعِلٍ من كَسِيَ الرجلُ، كما قال:
وأنْ يِعْرَيْن إن كَسِيَ الجواري
…
...........................................
-[ص: فصل
يَعملُ اسمُ الفاعلِ غيرُ المصغَّرِ والموصوفِ، خلافًا للكسائي، مفردًا وغيرَ مفردٍ عَمَلَ فِعلِه مُطلقًا.]-
ش: اختلفوا في اسم الفاعل إذا كان ماضيًا بغير أل هل يرفع الفاعل، فالظاهر من كلام س أنه يرفع الفاعل، وأنَّ الماضي وغيره مشتركان في ذلك.
ومن النحويين من قال: لا يرفع الفاعل، وإنه صار كالكاهل. وهذا الخلاف في الفاعل الظاهر. والجمهور على أنه يرفع المضمر. وبعضهم قال: ولا يرفع المضمر.
وإذا صُغَّر اسم الفاعل ففي إعماله في المفعول به خلاف:
ذهب البصريون والفراء إلى أنه لا يعمل، وأنه تجب إضافته، فتقول: هذا ضُوَيْرِبُ زيدٍ. وعلَّة منعه من ذلك أنه إذا صُغِّرَ دخلته خاصَّة من خواصَّ الاسماء، فَبعُدَ عن شبه المضارع بتغيير بنيته التي كانت عمدة في الشبه.
وذهب الكسائي وباقي الكوفيين، وتابعهم أبو جعفر النحاس ــ إلى أنه يجوز إعماله مصغَّرًا؛ لأنه ليس من أصول الكوفيين شبهه له في الصورة بل في المعنى. واستدلَّ الكسائي على ذلك بقول العرب: أَظُنُّنِي مُرتَحِلاً فَسُوَيْئِرًا
فَرْسَخًا. ولا حجة فيه؛ لأنه لم يعمل في مفعول به صريح، وإنما عمل في الظرف، وروائحُ الأفعال قد تعمل في الظروف والمجرورات.
وقال النحاس: ليس تصغيره أعظم من تكسيره، وهو يعمل إذا كان مكسَّرًا، فأحرى أن يعمل إذا كان مصغَّرًا؛ لأنَّ التصغير قد يوجد في ضرب من الأفعال، والتكسير لا يوجد فيها.
والجواب عما قاله أنَّ التكسير إنما وقع في اسم الفاعل بعد اسقرار العمل فيه قبل التكسير بسبب الجريان، فلم يؤثر فيه.
والصحيح أنه لا يجوز إعماله مصغَّرًا؛ لأنَّ /ذلك لم يُحفظ من كلامهم.
وقال بعض شيوخنا: إذا كان الوصف لا يُستعمل إلا مصغَّرًا ولم يُلفظ به مكبَّرًا جاز إعماله، ومن ذلك قول الشاعر:
فما طَعْمُ راحٍ في الزُّجاجِ مُدامةٍ
…
تَرَقْرَقُ في الأيدي كُمَيْتٍ عَصيرُها
وقوله والموصوف هذا معطوف على المصغر، أي: وغيرُ الموصوفِ. إذا وُصف اسم الفاعل قبل أن يأخذ معموله؛ لأنه زال شبهه للمضارع بالوصف؛ لأنه من خواص الأسماء ــ فإنْ أخذَ معموله جاز أن يوصف بعد ذلك، فلا يجوز: هذا ضاربٌ عاقلٌ زيدًا، ويجوز: هذا ضاربٌ زيدًا عاقلٌ. هذا مذهب البصريين والفراء.
وأجاز الكسائيُّ وباقي الكوفيين إعماله موصوفًا قبل أن يأخذ معموله، فأجازوا: هذا ضاربٌ عاقلٌ زيدًا. وأجاز الكسائيُّ أن يقال: أنا زيدًا ضاربٌ أيُّ ضارب، على أن يكون زيد منصوبًا بضارب وقد وُصف بـ «أيّ ضارب» ، وهي صفة لا يُفصل بينها وبين موصوفها بشيء لا بمعمول ولا بغيره.
واستدلَّ مَن أجاز ذلك بالسماع، قال:
إذا فاقِدٌ خَطْباءُ فَرخَينِ رَجَّعَتْ
…
ذَكَرْتُ
…
سُلَيْمَى
…
في الخَلِيطِ الُمبايِنِ
وقال الآخر:
وقائلةٍ تَخْشَى عليَّ: أَظُنُّه
…
سَيُودِي بهِ
…
تَرْحالُهُ وجَعائلُهْ
وقال الآخر:
وراكِضةٍ ما تَسْتَجِنُّ بِجُنَّةٍ
…
بَعيرَ حِلالٍ، غادَرَتهُ، مُجَعْفَلِ
فـ «فَرخَين» عندهم منصوب بـ «فاقد» ، وقد وُصف بـ «خَطباء» ، و «أظنُّه» معمول لـ «قائلة» ، وقد وُصف بـ «تخشى عليَّ» ، و «بعير» منصوب بـ «راكِضة» ، وقد وُصف بـ «تَستَجِنُّ» . وتأوَّلَ مَن منعَ هذا كلَّه.
أمّا ما أجازه الكسائيُّ من التمثيل المذكور فلم يَقل إنه رواه عن العرب، وإنما هو من تمثيله، على أنه لو كان سماعًا من العرب لجاز أن يكون منصوبًا بضارِب، وضارِب خبر عن أنا تقدَّم معموله، و «أيُّ ضاربٍ» خبرٌ ثانٍ لا وصفٌ لضارِب.
وأمَّا «إذا فاقدٌ خَطْباءُ فَرخَين» فتُؤوِّلَ على أنَّ فَرخَينِ منصوب بإضمار فعلٍ يفسِّره فاقدٌ، ويدل عليه، وتقديره: فَقَدَتْ فَرخينِ. ويؤيد أنه ليس منصوبًا بفاقد أنَّ فاقدًا صفة غير جارية على الفرخين في التأنيث؛ ألا ترى أنَّ اسم الفاعل إذا لم يَجر على الفعل في تذكيره وتأنيثه لم يعمل، لا يجوز: هذه امرأةٌ مرضعٌ ولدَها؛ لأنَّ اسم الفاعل لا يُذهب به إذ ذاك مذهب الفعل، إنما ذُهب به مذهب النسب، فإذا قلت امرأةٌ مُرضعٌ فالمعنى ذات رَضاع، كما تقول: رجلٌ دارِعٌ، أي: ذو دِرع، فإن ذَهبتَ بمُرْضِعٍ مذهبَ /الزمان فلا بدَّ من التاء، ويعمل إذ ذاك، كما قال:
فأمَّا البيتان الآخران فُتؤُوِّلا على أنَّ قوله: ما تَستَجِنُّ بِجُنَّة، وتَخشى عليَّ ــ حال من الضمير المستكنِّ في اسم الفاعل. أو معمولان لمحذوف، تقديره:
قالتْ أو تقول أَظُنُّه، أو رَكَضَتْ بَعيرَ [حِلالِ].
وقال المصنف في الشرح ما نصه: «ووافق بعضُ أصحابنا الكسائيَّ في إعمال الموصوف قبل الصفة؛ لأنَّ ضعفه يحصل بعد ذكرها لا قبلها، فأجاز: أنا زيدًا ضاربٌ أيُّ ضاربٍ، ومنع: أنا ضاربٌ أيُّ ضاربٍ زيدًا. واستدلَّ صاحب هذا الرأي بقول الشاعر:
وَوَلَّى
…
كَشُؤْبُوبِ العَشِيِّ
…
بِوابلٍ
…
ويَخْرُجْنَ
…
مِن جَعْدٍ
…
ثَراهُ
…
مُنَصَّبِ
فرفع ثَراه بِجَعْدٍ، ثم نعته بِمُنَصَّب» انتهى.
وهذا الذي ذكره لا نعلم فيه خلافًا من أنه إذا وُصف بعد أخذه مفعولَه جاز ذلك؛ وليس وصفه بعد أن أخذَ معمولَه قادحًا في عمله. ويظهر من كلام المصنف أنه متى وُصف لم يعمل، ولذلك ذكرَ وصفَه بعد العمل عن بعض أصحابنا.
وقوله مفردًا وغيرَ مفرد أي: يعمل مفردًا ومثَّنى ومجموعًا جمع سلامة وجمع تكسير، وإذا جاز أن يعمل مكسَّرًا وقد تغيرتْ فيه بنيته التى بها أَشبَهَ المضارعَ فعملَ فالأَولى أن يعمل مع جمع التصحيح والتثنية؛ إذ لم يتغير نظم المفرد فيهما.
وإذا كان اسم الفاعل مثنَّى أو مجموعًا جمع سلامة بالواو والنون في موضع يعرى فيه الفعل فلا يعمل، تقول: مررتُ برجلٍ ضارباه الزيدان، وبرجالٍ ضاربوهم إخوتهم، صار كالاسم، كقولك: مررتُ برجلٍ أخواه الزيدان، وعليه
(أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ)، فلا يجوز: مررتُ برجلٍ ضاربين غلمانُه زيدًا، بل يُقطع على مذهب س والخليل وجماعة النحويين.
وخالف المبرد، وقال: إنه يعمل؛ لأنه حالَ اللحاق قَوِيَ شبهُه بالفعل؛ لأنه لحقه ما لحق الفعل، وسلم بناؤه، وإذا كان في المكسَّر لا يُقطَع وقد تغيَّر بناؤه فأحرى فيما لا يتغير بناؤه.
ورُدَّ عليه بأنه لا يشبهه؛ لأنه لحقه شيء لا يلحق الفعل لو كان ثمة، ولأنَّ الفرق بينه وبين المكسر أنَّ المكسَّر حُكمُه حُكمُ مفرده؛ لأنه لا يُعرب وفيه هذه الحروف، ويُصغر
وغير ذلك، فجرى مجرى المفرد، بخلاف المسلَّم، فلذلك كان القطع فيه دون المكسَّر. انتهى من البسيط. ويأتي في آخر الصفة المشبهة الكلام على إسناد الصفة للظاهر بعدها.
وقوله عَمَلَ فِعلِه مطلقًا يعني أنه إن كان فعله لا زمًا كان اسم الفاعل لازمًا، وإن كان متعديًا إلى واحد كان اسم فاعله متعديًا إلى واحد، وإن كان لاثنين كان اسم الفاعل متعديًا إلى اثنين، وإن كان إلى ثلاثة تعدى اسم الفاعل إلى ثلاثة.
-[ص: وكذا إنْ حُوَّل للمبالغة من فاعِلٍ إلى فَعَّال أو /فَعُولٍ أو مِفْعال، خلافًا للكوفيين. ورُبَّما عَمِلَ مُحَوَّلاً إلى فَعِيلٍ وفَعِلٍ. ورُبَّما بُنِيَ فَعَّالٌ ومِفْعالٌ وفَعِيلٌ وفَعُولٌ مِن أَفْعَلَ.]-
ش: هذه تسمى بالأمثلة الخمسة، وهي فَعُولٌ وفَعَّالٌ ومِفْعالٌ وفَعِيلٌ وفَعِلٌ.
وهذه الأمثلة في إعمالها خلاف:
ذهب الكوفيون إلى أنها لا تعمل؛ لأنها لَمَّا جاءت للمبالغة زادت معنًى على الفعل؛ لأنَّ أفعالها لا مبالغة فيها، فلا يجوز إعمالها.
وذهب س إلى جواز إعمالها بالشروط التي هي مُشتَرَطة في اسم الفاعل. ومنعَ أكثرُ البصريين ــ منهم المازنيُّ، والزَّياديُّ، والمبردُ ــ إعمالَ فَعِيلٍ وفَعِلٍ.
وفرق الجرمي بينهما، فأجاز إعمال فَعِلٍ، ولم يُجز إعمال فَعِيلٍ.
وفرق أبو عمرو بينهما، فأجاز إعمال فَعِلٍ على ضعف، وخالف في فَعِيلٍ،
قال: تقول: أنا حَذِرٌ زيدًا وفرِقٌ عمرًا، تريد: مِن زيدٍ ومِن عمرٍو.
والصحيح مذهب س لورود السماع بذلك نثرًا ونظمًا، فمِن إعمال فَعُولٍ ما رواه الكسائي عن العرب من قولهم: أنتَ غَيُوظ ما عَلمتُ أَكبادَ الرجال، وقال الشاعر:
هَجُوم عليها نَفْسَه غيرَ أنَّهُ
…
مَتَى يُرْمَ في عَينَيةِ بالشَّبْحِ يَنْهَضِ
وقال الآخر:
عَشِيَّة سُعْدَى
…
لو تَراءتْ لِراهبٍ
…
بِدَوْمةَ
…
، تَجْرٌ عندَه
…
وحَجِيجُ
قلى دِينَهُ، واهْتاجَ للِشَّوقِ، إنَّها
…
على الشَّوقِ إخْوانَ العَزاءِ هَيُوجُ
وقال الآخر:
ضرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيفِ سُوقَ سِمانِها
…
إذا عَدمُوا زادًا
…
فإنَّكَ
…
عاقِرُ
وقال الآخر:
بَكَيتُ أخا لاوراءَ، يُحْمَدُ يَومُهُ
…
كرَيمٌ،
…
رُؤُوسَ الدَّارِعِينَ ضَرُوبُ
وقال الآخر:
................................
…
على جَرْداءَ مِسْحَلَها عَلُوكا
وقال الآخر:
طَحُورانِ عُوَّارَ القَذَى، فَتَراهُما
…
كَمَكْحُولَتَيْ مَذْعُورةٍ
…
أُمِّ
…
فَرْقَدِ
وقال آخر في جمع فَعُول:
ثُمَّ زادُوا أَنَّهُمْ في قَومِهِمْ
…
غُفُرٌ ذَنْبَهُمُ غَيرُ فُخُرْ
فغَفُور مفرد غُفُر.
ومن إعمال فَعَّال قولُ مَن سمعه س: «أمَّا العَسَلَ فأنا شَرَّابٌ» ، وقال الشاعر:
أخا الحَربِ لبَّاسًا إليها جِلَالها
…
وليسَ
…
بِوَلَاّجِ
…
الَخوالِفِ
…
أَعْقَلا
وقال الآخر: /
رأى الناسَ إلا مَن رأى مثلَ رَأيِه
…
خَوارِجَ تَرَّاكينَ قَصدَ الَمخارِجِ
وقال الآخر:
أَبْيَض ضَرَّاب بِجَدّ الَمْنصُلِ
…
قَوانِسَ البَيضِ كَنَقْفِ الَحنْظَلِ
وقال رؤبة:
حتى وَقَمْنا كَيدَهُ بالرِّجْزِ
…
بِرَاسِ دَمَّاغٍ رُؤوسَ العِزِّ
وقال آخر:
أَبابيلُ دَبْرٍ شُمَّسٍ دُونَ لَحْمِهِ
…
حَمَتْ لَحْمَ شَهَّادٍ عَظيمَ الَملاحِمِ
ومِن إعمال مِفْعال قولُ بعض العرب: إنه لَمِنْحارٌ بَوائكَها، وقال الشاعر:
شُمِّ مَهاوِينَ أبْدانَ الَجزُورِ مَخا
…
مِيصِ العَشِيَّاتِ، لا خُورٍ ولا قَزَمِ
فمَهاوين جميع مِهْوان، وكان أصله مُهِينًا، فبُني على مِفْعال لقصد المبالغة،
واستُصحِب العمل له مفردًا ومجموعًا كما أَعمَلوا فُعُلاً جمع فَعُول. ولو كُسِّر فَعَّالٌ
لاستُصحَب له العمل، إلا أنَّ العرب استَغنَت بتصحيحه عن تكسيره.
وقوله ورُبَّما عَمِلَ مُحَوَّلاً إلى فَعِيلٍ وفَعِلٍ مثالُ ذلك في إعمال فَعِيلٍ قولُ بعض العرب: إنَّ الله سَميعُ دُعاءَ مَن دَعاه، رواه بعض الثقات، وقالوا: هو حَفيظٌ عِلمَه وعِلمَ غيره، وقال الشاعر:
فَتاتانِ: أَمَّا مِنهُما فَشَبِيهةٌ
…
هِلالاً، وأُخرَى منهُما تُشْبِهُ الشَّمْسَا
أَعملَ شَبيهة مؤنث شَبيه مع كونه مِن أشْبَهَ، كنَذِير مِن أَنْذَرَ. وقد يقال إنه على إسقاط حرف الجر، أي: فشَبِيهةٌ بِهلالٍ؛ لأنَّ شبيهًا يتعدى بالباء، قالوا: ما زيدٌ كعمرٍو
ولا شَبيهًا به.
ومِن إعمال فَعِلٍ قول زيد الخيل:
أتانِي أَنَّهُمْ مَزِقُونَ عرضي
…
جحاشُ الكِرْمِلَينِ لها فَديدُ
فأعمل مَزِق، وهو مصروف للمبالغة من مازق، وأنشد س:
حَذِرٌ أُمُورًا، لا تَضِيرُ وآمنٌ
…
ما ليسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأَقْدارِ
وقد طُعن في هذا البيت بما رواه المازني، وهو أنَّ اللاحقي قال: سألني س عن شاهد في تعدي فَعِلٍ، فعلمتُ له هذا البيت. ويُنسب مثل هذا القول أيضًا إلى ابن المقنع. /وكونهم اختلفوا في تسمية هذا الواضع دليل على أنها رواية موضوعة. وأيضًا فقد أقرَّ هذا الواضعُ على نفسه بالكذب والوضع على العرب، فلا يُقبل قوله. وأيضًا فلم يكن س ليروي عن وَضَّاع، وإنما يروي عن ثقة.
وأنشد س قول ساعدة بن جُؤَيَّة:
حتى
…
شآها كَلِيلٌ
…
مَوْهِنًا
…
عَمِلٌ
…
باتتْ طرابًا، وباتَ الليلَ لم يَنَمِ
على إعمال فَعِيل، ففهم منه أصحابنا أنَّ كَليلاً بمعنى مُكِلّ، ومَوهِنًا منصوب على أنه مفعول به، أي: يُكلَّ أوقاتَ الليل من كثرة العمل. وتوزعوا في ذلك، فقيل: كَليل بمعنى كالّ، ومَوهِنًا منصوب على الظرف. وهذا التأويل ليس بجيد؛ لأنه يتنافى صدر البيت وعجزه؛ لأنه قال: وباتَ الليلَ لم ينم، ولا يمكن أن ويوصف بأنه كالَّ في أوقات الليل. وأيضًا فانه قال: عَمِلٌ، وهو يدلُّ على كثرة العمل. ولا التفات إلى قول أبي الحكيم بن بَرَّجان اللغويّ من أنَّ عَمِلاً في البيت معناه تَعِبٌ؛ لأنَّ آخر البيت يدفع هذا التأويل.
وأنشد س:
أو مِسْحَلٌ شَنِجٌ عِضَادةَ
…
سَمْحَجٍ
…
........................................
البيت. ففَهم منه أصحابنا أنه أعمل شَنِج بمعنى مُشْنِج في عِضادة، فهي منصوبة مفعولاً.
وخرَّجه أبو عمرو بن العلاء على أنه منصوب على الظرف؛ لأنَّ شَنِجًا لا يتعدى، أي: متقبَّض في عِضادة سَمْحَجٍ. وهذا ضعيف لأنَّ الأسماء لا تنصب ظروفًا بقياس.
وقال بعض أصحابنا: أمَّا فَعِلٌ وفَعيلٌ، نحو ضرِبٌ زيدًا، ولَبيسٌ الثيابَ ــ فغير مشتقِّ من المتعدي، هذا على جهة الإعمال، وكيف يُتكلم على ما لم يسمع من العرب؟ وكيف يَتركب الخلاف على غير موجود؟ وهل هذان إلا كضَرْوَب وضَيْرَب وضَرْيَب وغير ذلك من الأبنية التى لم تكلم بها العرب، ولا سُمعت من العرب في معنى اسم الفاعل، وما لم يُسمع لا يقاس على ما سمع، ولا يُبنَى عليه اتفاق ولا اختلاف.
وقال ابن عصفور: «حكى ابن سِيْدَه عن العرب: هو عَليمٌ علمَك وعِلمَ غيرك» .
قال: «وهو نَصُّ لا يحتمل التأويل» انتهى.
ويحتمل /أن يكون مصدرًا تشبيهيَّا، نحو: هو ضارِبٌ ضَربَك، أي: عَليمٌ عِلمًا مثلَ عِلمِك وعِلمِ غيرِك.
وإنما وافق الجرميُّ س في إعمال فَعِلٍ لأنه على وزن الفعل، فجاز أن يجري مجراه، ويحق أن يكثر استعماله لأنه مقصور فاعِل، ومنه قول الشاعر:
أَصبحَ قلبِي صَرِدَا
…
لا يَشتَهي أنْ يَرِدَا
إلا عَرَدًا عَرِدَا
…
أو صِلِّيانًا بَرِدَا
أراد: عارِدًا، وبارِدًا. وكثُر ذلك في المضاعف، كقولهم بَرُّ وسَرٌّ، بمعنى: بارّ وسارّ.
وذهب ابن وَلَاّد وابن خروف وبعض النحويين إلى أنَّ فعِّيلاً من أبنية المبالغة يجوز له أن يعمل كما أُعمل فَعَّال وأخواته؛ فأجاز: هذا رجلٌ شِرِّيبٌ الماءَ، وطِبيخٌ اللحمَ. والصحيح المنع؛ لأنه لم يُسمع.
والإنصافُ في هذه المسألة القياسُ على فَعُولٍ وفَعَّالٍ ومِفْعالٍ، والاقتصارُ في فَعِيلٍ وفَعِلٍ على مورد السماع.
وأمَّا الكوفيون فتأوَّلوا السماع على أنه على إضمارِ فعلٍ يفسِّره المثال، فتقول في نحو: أنتَ غَيُوظٌ ما علمتُ أكبادَ الرجالِ، أي: تقديره: تَغيظُ أَكبادَ الرجالِ، وكذلك في الباقي. قالوا: وهذه الأمثلة خارجة عن بناء الفعل وجارية مجرى الأسماء التى يُمدَح بها ويُذَمّ، ولذلك لا يجوز تقديم المنصوب بعد هذه الأمثلة؛ لأنَّ الفعل إنما أُضمر في هذا الباب لدلالة الاسم المنصوب لم يكن له ما يدلُّ على الفعل.
وما ذهبوا إليه فاسد لكثرة ورود السماع به، فالأصل أن يكون معمولاً لهذه الأمثلة؛ لأنَّ الإضمار على خلاف الأصل؛ ولأنَّ تقديم هذا المفعول على المثال مسموع، وقد تقدَّمت شواهد على ذلك.
ولَّما كانت هذه الأمثلة موضوعة للتكثير فلا يقال: هذا قَتَّالٌ زيدًا، ولا من الموت موَّات، ويقال: هذا قّتَّالٌ الناسَ، فأمَّا قول حُميد بن ثَور:
مُحَلاًةُ طَوقٍ لَم يَكُنْ عن
…
تَميمةٍ
…
ولا ضَرْبِ صَوَّاغٍ بِكَفَّيهِ
…
دِرْهَمَا
فأعلموا صَوَّاغا في درهم، وهو واحد ــ فالمراد هنا: درهًما فما فوقه، كما تقول: ما رأيتُ نافِخَ ضَرَمةٍ كزيد واحدًا فما فوقه. وهذا العموم يكون مع النفي كما كان في البيت حيث قال: ولا ضَرْبِ صَوَّاغٍ.
وأحكام هذه الأمثلة أحكام اسم الفاعل، إلا أنّ ما كان منها بغير أل في جواز إعماله خلاف: ذهب أبو بكر بن طاهر وتلميذه ابن خروف إلى جواز إعماله ماضيًا، وذلك لِما فيه من المبالغة وللسماع الوارد بذلك، قال:
بَكَيتُ أخا لاواء ..................
…
....................................
البيت؛ ألا ترى أنه يَندب ميِّتًا، فدلَّ ذلك على أنه يريد بضَرُوب معنى الماضي.
ورُدَّ هذا بأنه محمول على حكاية الحال، كما قالوا في قوله {وكلبهم بسط ذراعيه} .
/وقوله ورُبَّما بُني فَعَّال إلى آخره مثال ذلك: دَرَّاك مِن أَدْرَكَ، وساِّر مِن أَسأَرَ، ومِعْطاء ومِهْداء ومِعْوان مِن أعطى وأَهدى وأَعان، ونَذير وأَليم وسَميع مِن أنْذَرَ وآلَمَ وأَسْمَعَ، ومنه قول الشاعر:
أَمنْ رَيحانةَ الدَّاعي السَّميعُ
…
يُؤَرِّقُنِي، وأَصْحابِي هُجوعُ
ورَهُوق من أَرْهَقَ، قال الشاعر:
جَهُولٌ، وكانَ الَجهلُ منها سَجِيَّةً
…
غَشَمْشةٌ، لِلقائدينَ رَهُوقُ
يصف ناقة، ومعنى غَشَمْشة: عزيزة النفس، ورَهُوق: كثيرة الإرهاق لمن يقودها.
ص: ولا يَعمل غيرُ المعتمِد على صاحبٍ مذكورٍ أو منويِّ، أو على نفيٍ صريحٍ أو مؤوَّلٍ، أو استفهامٍ موجودٍ أو مقدَّرٍ، ولا الماضي غيرُ الموصول به
«أل» أو محكيُّ به الحال، خلافًا للكسائي، بل يَدُلُّ على فعلٍ ناصبٍ لِما يقع بعدَه مِن مفعولٍ به يُتَوَهَّمُ أنه معموله. وليس نصبُ ما بعدَ المقرونِ بـ «أل» مخصوصًا بالمضيِّ، خِلافًا للرُّمَّانيَّ ومَن وافَقَه، ولا على التَّشبيه بالمفعول به، خِلافًا للأخفش، ولا بفعلٍ مُضمَرٍ، خِلافًا لقومٍ.
ش: أمَّا اشتراط اعتماده على ما سنذكر فهو مذهب جمهور البصريين، وذهب الأخفش والكوفيون 1 إلى أنه لا يُشترط في إعماله الاعتماد. واستدلَّ الأخفش على إعماله غيرَ معتمد بقوله تعالى {ودانية عليهم ظللها} في قراءة من رفع (دانية)، فـ (دانيةٌ) عنده مبتدأ، و (عليهم) متعلق به، و (ظلالُها) فاعل بـ (دانية).
وقد تقدَّم هذا المذهب في باب المبتدأ. ولا حجة له في هذه الآية لاحتمال أن تكون (دانيةٌ) خبرًا مقدمًا، و (ظلالُها) مبتدأ.
ومثال اعتماده على صاحبٍ مذكورٍ ما مثْل به المصنف من قوله: زيدٌ مُكرِمٌ رجلاً طالبًا العلمَ مُحَقِّقًا معناه، فمَثًلَ بما وقع خبرًا وصفةً وحالاً، واكتفى بقوله مُكرِمٌ رجلاً عن أن يعتمد ثانيًا لأداة النسخ، نحو: كان زيدٌ ضاربًا عمرًا، وإنَّ زيدًا ضاربٌ عمرًا، وأعلَمتُ زيدًا عمرًا ضاربًا جعفرًا.
وأصحابنا يفصَّلون الاعتماد، فيقولون: شرطه أن يعتمد على أداة نفي أو أداة استفهام، أو يقع صلةً أو صفةً أو حالاً أو خبرًا لذي خبر، أو ثانيًا لظننتُ، أو ثالثًا لأَعلَمتُ.
ولو تقدَّم الوصف على ما هو خبر له، نحو: مررتُ برجلٍ ضاربٌ أخوه زيدًا، على معنى: أخوه ضاربٌ زيدًا، بالابتداء والخبر ــ لكان قبيحًا. ومنهم من جوَّزه على ضعف.
ومثالُ اعتماده على صاحب مَنْوِيِّ قولُ الشاعر:
وما كُلُّ ذي لُبِّ بمُؤْتِيكَ نُصْحَهُ
…
وما كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ
وقولُ الآخر: /
إنِّي حَلَفْتُ بِرافِعِينَ
…
أَكُفّهُمْ
…
بينَ الَحطيمِ وبينَ حَوضَيْ
…
زَمْزَمِ
وقولُ الآخر:
فَريقانِ: مِنهم جازِعٌ بَطْنَ نَخْلةٍ
…
وآخَرُ مِنهمْ قاطِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ
وقولُ الآخر:
إنَّ النَّدَى وأبا العَباسِ فارتْحِلُوا
…
مِثلُ الفراتِ إذا ما مَوْجُهُ زَخَرَا
إن تَبْلُغُوه تَكُونُوا
…
مِثْلَ مُنْتَجِعٍ
…
غَيْثًا
…
يَمُجُّ ثَراهُ
…
الماءَ
…
والزَّهَرَا
وقال السهيلي: «يقبح إعماله في المفعول إذا جعلتَه فاعلاً أو مبتدأ، أو أدخلتَ عليه عوامل الأسماء كحروف الجر، أو جعلتَه مفعولاً لِما تمحض معنى الاسم» انتهى كلامه. ولذلك شرط في إعماله أن يعتمد على أداة نفي أو استفهام، أو يقع صلةً أو صفةً أو حالاً أو خبرًا. قال السهيليُّ: «وأمَّا:
وكَمْ مالِئٍ عَينَيهِ مِنْ شيءِ غَيرِهِ
…
إذا راحَ نحوَ الَجمرةِ البيضُ كالدُّمَي
فحَسُنَ إعماله لأنه نعت، والمعنى: وكم رَجُلٍ مالئٍ عينيه. ولا يشبه: هذا غلامُ ضاربٍ زيدًا وإن كان معناه: هذا غلامُ رجلٍ ضاربٍ زيدًا؛ لأنك إذا حذفت المنعوت بعد «كم» كانت كم هي ذلك الاسم في المعنى، بخلاف قولك: غلامُ رجلٍ ضاربٍ زيدًا؛ لأنَّ الغلام ليس هو الرجل في المعنى، فمِن ثَمَّ لم يَنُب مَنابَه إذا حُذف؛ لأنه غيره، فهذا الفرق بينهما. ويجوز على هذا القياس: كلُّ مُكرِمٍ زيدًا فأَكرمْه؛ لأنَّ كلَاّ بمنْزلة كم في النيابة عن المنعوت؛ إذا ليس بغير له» انتهى.
والسماع في الأبيات السابقة يردُّ على السهيليَّ ما قاله.
وقوله أو مؤوَّل يعني بالنفي الصريح، ومن ذلك قولُ الشاعر:
وإن امرأ لم يُعْنَ إلا بصالحٍ
…
لغَيرُ مُهِينٍ نَفسَهُ بالمطامِعِ
وفي البسيط: «وأمَّا ما هو معمول للتابع الحقيقي فهل هو في حكم ما هو تابع، كقولك: مررتُ برجلٍ غيرِ ضاربٍ أخوه عمرًا، وهذا رجلٌ غيرُ ضاربٍ أخوه عمرًا، فجوَّزه بعضهم لم يجوز هذا، بل قال: يحتاج فيه إلى اعتماد.
وإنما جاز هذا المثال المذكور لأنَّ غيرًا فيها معنى النفي، فهو معتمد على النفي، فلو قلت زيد مثلُ ضاربٍ أخوه عمرًا لم يجز، وفيه نظر».
وقوله أو استفهامٍ موجودٍ مثاله قوله:
أناوٍ رِجالُكَ قَتلَ امْرئٍ
…
مِنَ العِزِّ في حُبِّكَ اعْتاضَ ذُلاً
وقوله أو مُقَدَّرٍ مثاله:
ليتَ شِعْري مُقيمٌ العُذْرَ قَومي
…
لِيَ أَمْ هُمْ في الُحبَّ لِي عاذِلُونا
/تقديره: أَمُقيمٌ.
وذكر المصنف في غير هذا الكتاب من وجوه الاعتماد أن يعتمد على حرف النداء، وأنشدَ قول الشاعر:
فيا مُوِقدًا نارًا لغيرِكَ ضَوءُها
…
ويا حاطِبًا في غَيرِ حَبْلِكَ تَحْطِبُ
ولم يذكر ذلك أصحابنا.
وقد نازع المصنفَ ابنُه بدر الدين، فقال:«المسّوغ في النداء هو اعتماده على موصوف محذوف، وليس حرف النداء؛ لأنه ليس كالاستفهام والنفي في التقريب من الفعل؛ لأنَّ النداء من خواص الأسماء» .
وزاد بعض النحويين في وجوه الاعتماد أن يعتمد على إنّ، فأجاز: إنَّ قائمًا زيدٌ، على أن يكون قائمًا اسم إنَّ، وزيد فاعل به أغنى عن الخبر. ونسبه الصَّيْمَريُّ إلى البصريين. والصحيح أنَّ «إنَّ» حرفٌ غيرُ طالب للفعل، وأنه يختصُّ بالمبتدأ، ولا يُبطل عملَه تأخيرُه؛ لأنه قويُّ كالفعل.
وذهب بعض النحويين إلى أنه إذا تباعد عنه معموله مقدَّمًا عليه لم يعمل فيه، كقولك: عبدَ اللهِ جاريتُك أبوها ضاربٌ، وأكثر النحويين يجيزونه، كأبي العباس وغيره.
وقوله ولا الماضي غيرُ الموصول به إلى آخر المسألة اسمُ الفاعل إذا كان ماضيًا وليست فيه أل في إعماله خلاف:
ذهب البصريون إلى منع إعماله؛ لأنَّ اسم الفاعل إنما شثبَّهَ بالمضارع، فهو يعمل بمعنى الحال والاستقبال.
وذهب الكسائيُّ وهشام وأبو جعفر بن مضاء صاحب «كتاب الُمشرق» ــ
قيل: والعراقيون ــ إلى جواز إعماله ماضًيا. ويسميه العراقيون إذا عمل فِعلاً، وإذا لم يعمل اسمًا، ولا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح. واستدلُّوا بأنه إنما عَمل لكونه في معناه ومشتقُّا منه، ولأنه يَطلب ما يَطلب الفعل، والفعلُ إنما عَمل لكونه يَطلب في المعنى، وكذلك هذا، فليعمل، ولا يتخصص به ماضٍ من مستقبل. واستدلُّوا على جواز
ذلك من السماع بقوله تعالى {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} وبقول الشاعر:
ومَجْرٍ
…
كَغُلَاّنِ الأُنَيْعِمِ
…
بالغٍ
…
ديارَ
…
العَدُوِّ ذي
…
زهُاءٍ
…
وأَرْكانِ
وبقول الآخر:
فَرِيقانِ: مِنهُم جازِعٌ بَطْنَ نَخْلةٍ
…
.........................................
البيت. فـ «باسِطٌ» بمعنى بَسَطَ؛ لأنه إخبار عما مضى. وواو رُبَّ كرُبَّ، تخلص ما تدخل عليه إلى الماضي. و «جازِعٌ بَطنَ نخلة» إخبار عما مضى؛ بدليل قوله: /
ولِلِه عَيْنَا مَنْ رأى مِنْ تَفَرُّق
…
أَشَتَّ وأَنْأَى مِنْ
…
فِراقِ
…
الْمُحَصَّبِ
وقالت العرب: هذا مارُّ بزيد أمسِ فَسُوَيْئرٌ فَرْسَخًا.
وتأوَّلَ مَن منع ذلك هذا السماعَ بأنَّ ذلك حكاية حال، قالوا: والدليل على أنَّ اسم الفاعل إذا أُعمل والمعنى على المضيَّ المرادُ به حكاية الحال أنه لا يوجد عاملاً إلا في موضع يَسوغ فيه وقوع الفعل المضارع؛ نحو قولك: كان زيدٌ ضاربًا
عمرًا، فالضرب ماضٍ من جهة المعنى، وقد عَمل اسم الفاعل، ولو صَرَّحتَ هنا بالفعل كان مضارعًا. ووقوعُ الماضي ضعيف، فلولا أنهم أرادوا حكاية الحال في هذا الموضع ما كان وجهٌ لوقوع المضارع فيه. وكذلك: جاء زيدٌ واضعًا يدَه على رأسه، لو أتيتَ بالفعل لقلت: جاء زيدٌ يضعُ يدَه على رأسه، فدلَّ على أنهم قصدوا حكاية الحال. ولذلك أعربه النحويون في هذا الكلام حالاً وإن كان المعنى على المضيَّ. فالواو في {وكَلُبهُم بسِطُ} واو الحال، فهو إذًا من المواضع التي يقع فيها المضارع وإن كان ماضيًا من جهة المعنى، تقول: جاء زيدٌ وأبوه يَضحك، ولا يَحسُن: وأبوه ضَحِكَ.
وأمَّا «بالغٍ ديار» فساغ ذلك لأنك لو أتيت مكانه بمضارع لساغَ؛ لأنَّ؛ لأنَّ رُبَّ تَصرف معناه إلى المضيِّ دون لفظه. وخرَّجه ابن طاهر على إضمار فعل، أي: يَبلُغ ديارَ العدوّ.
وإنما يثبت ما قال الكسائيُّ ومَن معه أنْ لو حُكي من كلامهم: هذا ضاربٌ عمرًا أمسِ؛ لأنك لو أتيت منها بالفعل وجب أن يكون ماضيًا، فكنت تقول: هذا ضربَ زيدًا أمسِ، ولا يحسُن: هذا يضرب زيدًا أمسِ. وأمَّا هذا مارُّ بزيدٍ أمسِ فلا حجة فيه؛ لأنه عَمل في المجرور، وليس بمفعول صحيح، والظرف والمجرور يعمل فيهما اللفظ المتحمَّل لمعنى الفعل وإن لم يكن مشتقَّا، فالأَحرى أن يعمل فيه اسم الفاعل بمعنى المضيِّ لأنه مشتقّ.
ومما يُبين فساد هذا المذهب أيضًا تعريف اسم الفاعل الماضي بالإضافة إلى المعرفة؛ ولو كانت إضافتُه مِن نصبٍ لم يتعرَّف، كحاله إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال؛ ومن تعريفه بالإضافة قول الشاعر:
لئن كنتَ قد بُلَّغْتَ عَنِّي خِيانةً
…
لَمُبْلِغُكَ الواشي أَغَشُّ
…
وأَكْذَبُ
فـ «مُبْلِغُكَ» اسم فاعل بمعنى الماضي، وقد تعرَّف بالإضافة، ولذلك وصفه بالمعرفة، وهو الواشي، ولا يوجد من لسانهم: مررتُ بضارب هندٍ أمسِ ضاحكٍ.
وزعم الفراء 1 أن َّ مِن العرب مَن لا يُعَرَّف اسم الفاعل بمعنى المضيَّ بالإضافة، كما أنه بمعنى الحال والاستقبال كذلك، وأنشد:
يا رُبَّ
…
هاجي
…
منْقَرٍ
…
يَبتَغي به
…
لِيَكْرُمَ
…
لَمَّا
…
أَعْوَزَتْهُ
…
الْمَكارِمُ
واستدلُّوا على المضيَّ بقوله: لَمَّا أَعْوَزَته. قال: «وسَمع أعرابيًا يقول بعد انصرام /رمضان: يا رُبَّ صائمِه لن يَصومَه وقائمه لن يَقومَه» . قال: وكَثُرَ في كلامهم: الضارِبُه
والشاتِمُه، لّما لم يتعرَّف بالإضافة.
وهذا عند البصريين متأوَّل، أمَّا «يا رُبَّ هاجِي منْقَر» فقد يكون هاجي أضيف بمعنى الحال. وأمَّا «يا رُبَّ صائمه» فيريد: يا رُبَّ مُقَدِّر في نفسه صومَه،
والعرب تقول: إنه مسافرٌ غدًا، أي: يُقَدَّرُ في نفسه السفرَ غدًا، ومنه: مررتُ برجلٍ معه صقرُ صائدًا به غدًا. وأمَّا «الضاربُه» فالهاء عند البصريين مفعوله. وإنما بَنى الفراء على أصله في جواز: الضاربُ زيدٍ.
وحكى بعض شيوخنا الإجماع على أنَّ اسم الفاعل الماضي يتعرف بما أضيف إليه.
وهذا الخلاف الذي ذكرناه في عمل اسم الفاعل الماضي دون «أل» هو بالنسبة إلى المفعول به، فأمَّا هل يرفع الفاعل فمسألة خلاف: ذهب بعضهم إلى أنه
لا يعمل في الفاعل كما لا يعمل في المفعول به، وبه قال ابن جني، قال في حرف الواو من «سر الصناعة» له:«إنَّ اسم الفاعل بمعنى المضي لا يرفع الظاهر» . وهو اختيار الأستاذ أبي علي والمتأخرين من أصحابنا.
وذهب بعضهم إلى أنه يرفع الفاعل. واختاره ابن عصفور. وهذا الخلاف إذا كان الفاعل ظاهرًا.
فإن كان مضمرًا فحكى ابن عصفور اتفاق النحويين على أنه يرفعه. وليس كما ذكر، بل في ذلك خلاف: ذهب الجمهور إلى أنه يرفعه. وذهب أبو بكر بن طاهر وابن خروف إلى أنه لا يرفع المضمر. والذي تلقفناه أنه لا شتقاقه يتحمل الضمير.
وهنا فرع اختلف فيه البصريون، وهو إذا كان اسم الفاعل ماضيًا، وكان فعله مما يتعدَّى إلى أكثرَ من واحد، وذلك نحو: هذا مُعطي زيدٍ درهمًا أمسِ، فذهب الجرميَّ والفارسيُّ والجمهور إلى أنَّ الثاني منصوب بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره اسمُ الفاعل. ووقفوا في ذلك مع الأصل، وهو أنَّ اسم الفاعل بغيرِ «أل» لا يعمل إذا كان ماضيًا، فالتقدير: أعطاه درهًما.
وذهب السيرافيُّ والأعلمُ وبعض المحققين كأبي عبد الله بن أبي العافية والأستاذ أبي عليَّ وأكثر أصحابه إلى أنه منصوب بنفس اسم الفاعل وإن كان بمعنى الماضي. وهو اختيار أبي جعفر بن مضاء. قالوا: لأنه قَوِيَ شَبَهُه بالفعل هنا، وذلك أنه يطلب ما بعده من جهة المعنى، ولايُمكِنُ إضافتُه إليه؛ لأنه قد استقلّ لإضافته إلى الأول، فأشبهَ الفعلَ بهذا؛ لأنَّ الفعل يطلب ما بعده، ولا يُمكن إضافته إليه، وصار في ذلك كالمعرَّف بالألف واللام، فكما أن َّ اسم الفاعل المعرَّف بالألف واللام يعمل ــ وإن كان بمعنى المضي ــ لنيابته مناب الفعل، على ما سيذكر إن شاء الله ــ فكذلك يَعمل في الثاني إذا كان معرَّفًا بالإضافة إجراءً له مُجراه لِشَبَهِه به من حيث كونه معرفة مثله.
واستُدِلً لصحة هذا القول باسم الفاعل من باب ظَنَّ إذا قلت: /هذا ظانُ زيدٍ قائمًا أمسِ، فظانّ يطلب اسمين، ولا يجوز حذف أحدهما اقتصارًا، فلو نصبتَ قائمًا بمضمر لزِمك حذف الثاني الذي يطلبه ظانّ، ولا يجوز حذفه اقتصارًا، فيبقى حذفه اختصارًا، والمحذوف اختصارًا بمنْزلة الثابت، فيلزم أن يكون اسم الفاعل عاملاً فيه، أو تقدّر لذلك المحذوف عاملاً فيه، أو تقدّر لذلك المحذوف عاملاً، فيلزم حذف الثاني لاسم الفاعل، ويرجع الكلام في هذا المحذوف الثاني، وبتسلسل إلى ما لا نهاية له. وبهذا اعتَرضَ أبو الفتح على أبي عليِّ، فسكت.
قال بعض أصحابنا: «وإذا لزم إعمال ظانّ بمعنى الماضي في الاسم الثاني وجب أن يُعتقد مثل ذلك في مُعطي زيدٍ أمسِ درهمًا وأمثاله. وهذا الإلزام لا مخلص
منه لمن يعتقد أنّ الثاني منصوب بفعل مضمر إلا أن تقول إنَّ العرب لا تقول هذا ظانُّ زيدٍ أمسِ قائمًا. وإنما استغنت عنه بقولها: هذا ظَنَّ زيدًا أمس قائمًا، وفي ذلك خروج عما عهد في الأفعال المنصرفة من أنه يجوز أن يعني اسم الفاعل منها الحال والاستقبال والمضي» انتهى كلامه.
وسألت شيخنا الأستاذ أبا الحسن بن الضائع عن هذه المسألة، وذكرتُ له هذين المذهبين واعتراض ابن جني وسكوت أبي علي عنه، فقال: سكوت أبي علي استهزاء به وبضعف اعتراضه لا قصور، والصحيح ما ذهب إليه أبو علي. ثم أملى عليَّ ما نصه:
«فإن قيل: هذا لا يُتَصَوَّر في باب الظن مِن قَبَلِ أنه لا يجوز فيه الاقتصار، وكذلك الاختصار؛ لأنَّ المحذوف اختصارًا كالمنطوق به، فإن قدَّرتَ عاملاً لزم التسلسل.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنَّ قولهم هذا ظانُّ زيدٍ إنما يكون على حد قولهم: ظننتُ بزيد، ثم جئت باسم الفاعل منه، فقلت: هذا ظانُّ زيدٍ، فأصله: ظانُّ بزيدٍ، ولا يحتاج هذا مفعولين ثم حَذفتَ وأَضَفتَ، فـ «زيد» في الموضعين ليس مذكورًا على أنه مفعول به، بل على أنه محلَّ لوقوع الظن» انتهى هذا الوجه، وهو إحالة لصورة المسألة؛ لأنَّ الخلاف إنما وقع في اسم الفاعل الماضي المضاف إلى المفعول الأول والجائي بعده المفعول الثاني منصوبًا؛ فهل يُنسب العمل في الثاني إليه أو إلى فِعلٍ محذوف؟ ولم يقع الخلاف في هذا التركيب إلا على هذا التقدير.
وأمَّا إجازته على أنه اسم فاعل من قولهم ظننتُ بزيدٍ، أي: جعلتُه مَوضِعَ ظَنَّي، ولا يتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، نحو قوله
فَقُلتُ لهمْ: ظُنُّوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجِ
…
سَراتُهُمُ في السَّابِريَّ الُمسَرَّدِ
فليس المتنازع فيه، بل تخريج هذا التركيب على هذا التأويل هو إقرار بصحة الإلزام.
وقد تنبه المصنف في الشرح لقريب مِن هذا التخريج الذي خَرّجه شيخنا أبو الحسن، فقال:«وأمَّا هو ظانُّ زيدٍ فاضلاً ــ يعني وهو ماضٍ ــ فليس فيه إلا حذف أوَّل مفعولي ظنّ /المدلول عليه بظانّ، وذلك شبيه بحذف ثاني مفعولي ظنَّ المحذوف في: أزيدًا ظننتَه فاضلاً، وأمَّا ظانّ فليست إضافته على نية العمل فيطلب مفعولا ثانيًا، ولكن إضافته كإضافة اسم جامد، وكاستعماله غير مضاف في نحو: هذا ظانُّ أمس زيدًا فاضلاً، على نصب زيد وفاضل بـ «ظَنَّ» مدلولاً عليه باسم الفاعل، فهذا وأمثاله لا خلاف في جوازه، وبه يُتَخلَّص من إعمال اسم الفاعل الماضي غير موصول به الألف واللام» انتهى كلامه.
قال شيخنا أبو الحسن: «انفصل بهذا شيخنا أبو زكرياء بن ذي النون عما ألزم أبو علي في قوله: إنه منصوب بإضمار فعل، وهو انفصال صحيح، ولم أره لغيره» انتهى.
وهذا الوجه الذي انفصل به أبو زكرياء عن الاعتراض قد تقدَّمه إلى مثله الأستاذ أبو جعفر أحمد بن الإمام أبي الحسن بن الباذش، نقلتُ من خطه:«مما يدلُّ على أنَّ قوله {وجاعِلُ اللَّيلِ سَكَنًا} منصوب بإضمار فعل ما يذهب إليه أبو علي قولُهم: عبدَ الله أظنُّه ذاهبًا، ولولا التباس إحدى الجملتين بالأخرى ما جاز أن تقول: أظنُّ عبدَ الله؛ لأنَّ الاقتصار لا يجوز، ولكنَّ الحذف لدلالة المفعول في الجملة الثانية» ما نقلته من خطه.
ولما كان هذا الاعتراض قويَّا عند الأستاذ أبي الحسين بن أبي الربيع أنكرَ مجيء ذلك من لسان العرب، وقال:«لايجوز: هذا ظانُّ زيدٍ شاخصًا أمسِ؛ لأنك إن نصبتَ شاخصًا بإضمارِ فعلٍ كنتَ قد اقتصرتَ على واحد، ولا يجوز في باب ظنَّ، وإن نصبتَ بظانّ أعلمتَ اسم الفاعل بمعنى الماضي، وهذا لم يثبت» .
وقال أيضًا: «كان الأستاذ أبو علي يأخذ في الانفصال عنه وجهين، يعني عن اعتراض ابن جني على أبي علي:
أحدهما: أن يُفرق بين باب ظننتُ، فينصب باسم الفاعل لعدم جواز الاقتصار، وبين باب أعطيت، فينصب فيه بإضمار فعل لجواز الاقتصار.
الثاني: أن يُدَّعى أنَّ العرب لا تقول: هذا ظانُّ زيدٍ شاخصًا أمسِ، وإنما تقول: هذا الظانُّ زيدًا /شاخصًا أمسِ؛ لأنَّ شاخصًا يتعذر أن يُنصب بظانّ؛ لأنه بمعنى الماضي، واسمُ الفاعل بمعنى الماضي لا يعمل، ويتعذر أن يُنصب بإضمارِ فعلٍ لِما فيه من الاقتصار حيث لا يُقتصر» انتهى، وفيه بعض تلخيص.
وقال أبو عبد الله بن هشام الخضراوي: «انقطاع أبي عليَّ لأنَّ الفعل متصرف متعدِّ إلى اثنين، فيقاسه أن يجوز كسائر الأفعال المتصرفة، ولو رَكب أصله فقال: هذه المسألة لا تجوز لهذا الذي ذكرته، لم يُثبت فسادَ قوله إلا سَماعُها، وقد بحثتُ عن هذه المسألة، فما رأيتُ أحدًا حكاها مسموعة» .
وفي «الإفصاح» : ويتخلص أبو علي بعد إجازة هذه المسألة لوجه قاله الناس، وشيخه ممن خالف فيه، وهو أنَّ ما حُذف واستُغنِي عنه لمفسَّر يُفَسِّره إنما يُقَدَّر للاحتياج إليه وإصلاحًا للَّفظ لا لعمل يعمل فيه طالبه من جهة المعنى؛ نحو ما يجوز في الشعر من قوله: كي زيدٌ يقومَ، وقوله:
.................................
…
أينما
…
الريحُ
…
تُمَيِّلْها
…
تَمِلْ
فـ «زيدٌ» يرتفع عندهم بالفعل المقدَّر، وذلك الفعل غير منصوب بـ «كي» ، وكذلك «الريحُ» مرفوعة بـ «تَميل» مقدرة، وهي غير مجزومة، والمنصوب الفعل الظاهر. وكذلك قوله: زيدٌ الخبزَ آكلُه، إذا نُصب الخبز بآكِل مضمرة لا يكون ذلك المضمر خبرًا لزيدٍ ولا مرفوعًا به، وهذا الظاهر هو الخبر المرفوع بالمبتدأ.
وكذلك: هذا مُعطي زيدٍ، وظانُّ زيد، قد عُلم مفعولهما، ولا يجوز ظهورهما في اللفظ لإغناء المذكور عنهما، ولا يُقَدَّر فيهما عمل كما تقدَّم، فإذا لم يُقَدَّر في محذوف ظانّ عمل، وكان في حكم الموجود ــ لم يلزم فيه إجازته.
وقد مثَّل السيرافي بظانّ زيدٍ قائمًا، وذكر أنَّ النحويين ينصبون قائمًا، وذكر أنَّ النحويين ينصبون قائمًا بالمضمر، فلا يكون هذا القول إلا على هذا الوجه.
إلا أنَّ شيخه أبا بكر كان يقول: العامل في الظاهر كي أخرى، وأينما أخرى، وضاربًا ذُكر عوضًا مما أُضمر. ويقول في آكِل الظاهر: هو خبر مبتدأ، والضمير هو خير الأول.
وكان ابن خروف يقول في هذه المسألة: «الظاهر تابع للمضمر في إعرابه المقدَّر» .
وخطَّأه أشياخنا حين قال هذا القول؛ لأنَّ التابع لم يوجد بدلاً من المتبوع.
وقد رأيت أبا بكر بن طاهر أشار إلى هذا القول، فقال في «طُرَره على الإيضاح»:
«هذا عالُم زيدٍ أخاك، تنصبه بقول مضمر، وتحذف من الأول ما يكون في الثاني كما تحذف من الثاني» . يعني: إذا قلت: هذا ظانُّ زيدٍ منطلقًا وعمرٍو ــ تحذف منطلقًا لدلالة الأول عليه، وأصله أنَّ ما حذف من هذا فالمذكور عوض منه، وهو غير مقدَّر، كحذف الاستقرار في: زيدٌ عندك، وحذف الفاعل في: ضُرِبَ زيدٌ، والمفعول في: وُلد له ستون عامًا.
وقوله وليس نَصبُ ما بعدَ المقرون بـ «أل» مخصوصًا بالُمضِيِّ، خلافًا للرُّمَّانيِّ ومَن وافَقه اسم الفاعل إذا دخلتْه «أل» عمل مطلقًا ماضيًا ومستقبلاً وحالاً.
/وإنما عمل ماضيًا ــ وإن كان لا يشبه المضارع ــ لأنَّ عمله بالنيابة، فنابت أل عن الذي وفروعه، وناب اسم الفاعل عن الفعل الماضي، فقام تأوُّله بالفعل مع تأوُّل «أل» بـ «الذي» مقام ما فاته بالشبه اللفظي، كما قام لزوم التأنيث بالألف وعدم النظير في الجمع مقام سببٍ ثان في منع الصرف؛ وصار وقوعه صلة لـ «أل» مصححًا لعمله بعد أن لم يكن عاملاً، وقال الشاعر في إعماله ماضيًا:
والله لا يَذهَبُ شَيخي باطِلا
…
حتى أُبِيرَ مالِكًا وكاهِلا
القاتلِينَ الَملِكَ الُحلاحِلا
…
خَيَر مَعَدِّ حَسَبًا ونائلا
وزعم قوم منهم الروماني أنه إذا دخلتْه «أل» لا يعمل إلا ماضيًا، ولا يعمل حالاً ولا مستقبلاً. وحملهم على ذلك أنَّ س حين ذكر اسم الفاعل بـ «أل» لم يُقَدِّره
إلا بـ «الذي فعل» . وس إنما أراد أن يبين أنه إذا دخل عليه «أل» عمل بمعنى الماضي؛ لأنه كان قبل دخولها لا يعمل وهو ماضٍ، وأمَّا إذا كان بمعنى المضارع فإنه لا يحتاج إلى ذكره؛ لأنه كان قد صحَّ له العمل قبل أل، فإذا اقترنت به أل كان أحقَّ بالعمل وأَولَى؛ لأنها إذا كانت مصحِّحة لعملِ ما كان لا يعمل فأَحْرَى أن يكون أَولَى بالعمل ما دخلت عليه مما كان عاملاً دونها، وقد وردَ السماع بذلك، قال الشاعر:
إذا
…
كُنتَ مَعْنِيَّا بِجُودٍ
…
وسُؤْدَدٍ
…
فلا تَكُ إلا الْمُجْمِلَ القَولَ والفِعْلا
وقال عمرو بن كلثوم:
وأنّا الُمنْعِمُونَ إذا قدَرْنا
…
وأنّا الُمهْلكونَ إذا أُتِينا
وأنَّا الشَّارِبُونَ الماءَ صَفْوًا
…
ويَشْرَبُ غيرُنا كَدَرَّا وطِينا
وقال تعالى {والحفظين فروجهم والحفظت والذكرين الله كثيرا والذكرات} .
ولقائل أن يقول: عمل في الظرف، ورائحة الفعل تعمل في الظرف، وما عمل في المفعول احتمل أن يكون بعضه ماضيًا.
ومما يدلُّ على عمله غيرَ ماض قوله:
الشاتِمَيْ عِرْضي، ولَمْ أَشْتُمْهُما
…
والناذِرَينِ إذا لَمَ الْقَهُما دَمِي
وقوله ولا على التشبيه بالمفعول به، خلافًا للأخفش أل عند الجمهور إذا دخلت على اسم الفاعل كانت موصولة. وذهب الأخفش إلى أنها ليست موصولة، بل هي حرف تعريف كهي في الرجل، ودخولُها على اسم الفاعل يُبطل عمله كما يُبطله التصغير والوصف؛ لأنه يَبعُد عن الفعل بدخول ما هو من خواصَّ الاسم عليه، والمنتصف بعده إنما هو على التشبيه بالمفعول به، ومثل الوجه في قولك: الحسنُ الوجهَ، فلذلك لا يتقدم /عليه، كما لا يتقدم الوجه على الحسن.
ورُدَّ هذا المذهب بأنَّ المنصوب بالصفة المشبهة لا يكون إلا سببيَّا مشروطًا فيه شروط تُذكر في باب الصفة المشبَّهة؛ وهذا ينصب السَّبَبِيَّ والأجنبِيَّ، نحو: مررتُ بالضاربِ غلامَه، وبالضاربِ زيدًا.
ورُدَّ أيضًا بأنَّ اسم الفاعل بمعنى المضيَّ لو كان المنتصب بعده على طريق التشبيه لجاز أن ينتصب الاسم بعده وإن لم تدخل عليه أل؛ فلمَّا لم ينتصب بعده دلَّ على بطلان مذهبه. ويبين أنه مفعول باسم الفاعل ــ وعمل اسم الفاعل كما قلنا إذا لحقته أل في الأحوال الثلاثة ــ أنَّ عمله إذ ذاك من جهة أنه ناب مناب الفعل لا للشَّبه، فإذا قلت الضارب فهو في معنى: الذي ضرب، أو: الذي يضرب.
ويدلُّ على ذلك عطف الفعل عليه في نحو {إن المصدقين والمصدقت وأقرضوا} ، والرجوع إلى الفعل في الضرورة، قال:
ما أنت بالَحكَمِ التُّرْضَى حُكُومتُهُ
…
....................................
وأصحاب الأخفش يقولون: إن قُصد بأل العهد فالنصب على التشبيه، وإن قُصد معنى الذي فالنصب باسم الفاعل.
وقوله ولا بفعلٍ مضمرٍ، خِلافا لقوم فإذا قلت: جاءني الضاربُ زيدًا،
فيقدرونه: ضربَ، أو: يضربُ زيدًا. وهذا إضمار غير محتاج إليه، فلا يُتَكَلَّف.
وتبيَّنَ بذكر هذا الخلاف في إعمال اسم الفاعل وفيه «أل» عدمُ اطَّلاع بدر الدين محمد ابن المصنف، فإنه ذكر في شرحه أرجوزة أبيه ما نصه:«وإعمال اسم الفاعل مع الألف واللام ماضيًا كان أو حاضرًا أو مستقبلاً جائز، مرضيُّ عند جميع النحويين» .
-[ص: يُضافُ اسمُ الفاعلِ المجردُ الصالُح للعمل إلى المفعول به جوازًا إن كان ظاهرًا متصلاً، ووجوبًا إن كان ضميرًا متصلاً، خلافًا للأخفش وهشام في كونه منصوبَ المحلّ. وشذَّ فصلُ المضافِ إلى الظاهرِ بمفعولٍ أو ظرفٍ.]-
ش: يعني بـ «المجرد» العاريَ من «أل» ، وستأتي إضافة المقرون بـ «أل» .
والصالحُ للعمل احتراز من الذي يُراد به المضيّ، فإنه يضاف إلى متعلقه وجوبًا كإضافة الأسماء الجوامد، ويسقط منه التنوين والنون للإضافة كما تسقط من نحو غلام وغلامين، وتبين، فتقول: هذا ضاربُ زيدٍ أمسِ، وهذان ضاربا زيدٍ أمسِ.
وقال بعض المتأخرين في هذا قاتلُ عمرٍو أمسِ: «هي محال» . ولا أدري ما الذي جعله به محالاً.
وقوله إلى المفعول يعني أو ما يشبه المفعول، نحو ما قال الخليل: هو كائنُ أخيك، وكان ينبغي ألا يضاف؛ لأنَّ الشيء لا يضاف إلى نفسه، والخبر هو
الاسم في باب كان، وكونهم قد أضافوه دليل على أنَّ الإضافة على نية التنوين، ولولا ذلك ما ساغت الإضافة.
وقوله جوازًا يعني أنه تجوز الإضافة، / ويجوز النصب، فيثبت التنوين والنون، قال تعالى {هديا بلغ الطكعبة} ، وقال {غير محلى الصيد} ، وقال {إنك جامع الناس} ، وقال تعالى {ولا ءامين البيت الحرام} ، وقال {والله مخرج ما كنتم تكتمون} .
ولا يجوز حذف النون من المثَّنى والمجموع إلا شاذَّا، كقراءة أبي السَّمَّال العَدَوِيّ {إنكم لذآيقوا العذاب الأليمـ} بالنصب، وقال أبو زيد: لَحَنَ أبو السَّمَّال في هذا الحرف بعد أن كان فصيحًا. ولا ينبغي أن يُلَحَّن؛ لأنَّ غيره قد قرأ {غير معجزي الله} بالنصب، و {إنا مرسلو الناقة} ، وقال سُوَيْد (10):
ومَساميحُ بِما ضُنَّ بِهِ
…
حابِسُو الأَنْفُسَ عن سُوءِ الطَّمَعْ
وقال آخر (11):
يقولون: ارْتَحِلْ قَتِّلْ قُرَيشًا
…
وهُمْ مُتَكَنَّفُو البيتَ الَحراما
بنصب الأنفس والبيت، والأمثلةُ الخمسة حكمُها في ذلك كاسم الفاعل.
وظاهر كلام س يدلُّ على أنَّ النصب أَولى من الجرّ، وقال الكسائي:«هما سواء» . والذي يظهر لي أنَّ الجر بالإضافة أَولى؛ لأنَّ الأصل في الأسماء إذا تعلق
أحدهما بالآخر الإضافة، والعمل إنما كان بجهة الشَّبَه للمضارع، فالحملُ على الأصل أَولى، وهو الإضافة.
واحتراز بقوله متصلاً من ألَاّ يتصل المفعول باسم الفاعل، فانه إذ ذاك ينتصب لا غير، كقوله {إنى جاعل في الأرض خليفة} .
ومثالُ ما كان ضميرًا متصلاً قولك: زيدٌ مُكرمُك، وهذان مُكرماك، وهؤلاء مُكرِمُوك. ويعني باتصاله أن يتصل باسم الفاعل، فإن لم يتصل فالنصب، نحو قوله:
لا تَرْجُ أو تَخْشَ غيرَ اللهِ، إنَّ أَذًى
…
واقِيكَهُ
…
الله
…
لا يَنْفَكُّ
…
مَأمُونا
فالهاء في «واقيكَهُ» ضمير لم يتصل باسم الفاعل، فهي في موضع نصب لا غير. وما ذكرناه من أنه تجب الإضافة إذا كان ضميرًا متصلاً باسم الفاعل هو مذهب س والمحققين.
وذهب الأخفش وهشام إلى أنَّ الضمير في موضع نصب، وأنَّ التنوين والنون حُذفا لِلَطافة الضمير. قالا: وموجب النصب المفعوليَّة، وهي محقَّقة، وموجب الجر الإضافة، وهي غير محقَّقة؛ إذ لا دليل عليها إلا حذف التنوين
والنون، ولحذفها سبب غير الإضافة، وهو صون الضمير المتصل من وقوعه منفصلاً.
وما ذكراه ضعيف؛ لأنَّ النصب الذي تقتضيه المفعوليَّة لا يلزم كونه لفظيَّا، بل يُكتفى فيه بالتقدير، ولذلك جاز أن يزاد بعض حروف الجر مع بعض المفعولات، نحو {رَدِفَ لَكُم} ، وخَشَّنتُ بصدره، ولو كان كما ذكراه لا متنعت إضافة اسم الفاعل إلى المفعول في نحو: هذا ضاربُ زيد، ولو جب النصب؛ لأنَّ مقتضي النصب موجود، وهو المفعوليَّة، وذلك لم يمتنع، فدلَّ على أنه ليس النصب لازمًا عن المفعوليَّة.
وأمَّا جعل سبب حذف التنوين والنون صون الضمير /المتصل من وقوعه منفصلاً فمستغنًى عنه؛ لأنَّ غلإضافة تحصّل ذلك، ولأنَّ مقتضى الدليل بقاء الاتصال بعد التنوين والنون؛ لأنَّ نسبتهما من الاسم نسبة نون التوكيد من الفعل، فاتصال الضمير لا يزول بنون التوكيد، فكذلك لا يزول بالتنوين والنون.
والصحيح ما ذهب إليه س؛ لأنَّ الظاهر هو الأصل، والمضمر نائب عنه والظاهر إذا حذف التنوين والنون من اسم الفاعل كان مجرورًا، فكذلك المضمر الذي ناب عنه، وإذا كانوا قد نسبوا الجر للمضمر حيث لا يصلح للظاهر في نحو لولاك وعساك فأَحرى أن يَنسبوا لما يظهر الجر في ظاهره.
وفي «البسيط» : وإنما يظهر الفرق بين المذهبين بالسماع، ولم أقف عليه، وذلك في العطف، فلو سمعناه معطوفًا عليه لظهر إمَّا الخفض وإمَّا النصب، وقال تعالى {إنا منجوك وأهلك} نصبًا، لكن لا حجة فيه لاحتمال أن يكون {وَأَهّلَكَ} منصوبًا بفعل مضمر، أو على الموضع.
ومما استُدلَّ به لـ «س» من جهة السماع أنَّ النون قد تثبت قليلاً مع المضمر، فدلَّ على أنه محذوف لا للمعاقبة، وجاء على الأصل مَنبَهة.
وذُكر أنَّ الأخفش استدلَّ على ذلك بأنَّ هذه الضمائر يلزم حذف التنوين لها لكونها لا تستقلُّ، فصارت بمنْزلة الألف واللام، والإضافة في المعاقبة هنا إنما هي تخفيف، وقد انحذف، فلزم النصب.
وأجاز هشام إثبات النون والتنوين وإن كان الضمير متصلاً، فأجاز: هذا ضاربُنك وضاربُني وضارِبانِي وضارِبونِي، وأنشد:
وما أَدري ــ وظَنِّي كُلَّ ظَنِّ ــ
…
أَمُسْلِمُنِي إلَى قَومِي شَراحِ
وقال آخر:
وليسَ بِمُعْيينِي، وفي الناسِ مُمْتَعٌ،
…
رَفيقٌ، إذا أَعيا رَفيقٌ ومُمْتَعُ
وقال آخر:
أَمُسْلِمُنِي لِلمَوتِ أنتِ فَمَيِّتٌ
…
.......................................
وقال الآخر:
.................................
…
وليسَ حامِلُنِي إلا ابْنُ حَمَّالِ
وقال آخر:
ولم يَرْتَفِقْ، والناسُ مُحْتَضِرُونَهُ
…
جَميعًا، وأَيدِي الُمعْتَفِينَ رَواهِقُهْ
وقرأ بعضهم {هل أنتم مُطْلِعُونِ} ، حذف نون الجميع، وأثبت نون الوقاية على سبيل الشذوذ، والوجه: هل أنتم مُطْلِعِيَّ، كقوله:(أَوَمُخْرِجِيَّ هُم).
وحمل غيره من النحويين هذا على أنه إنما جاء في الشعر، ولا يجوز في الكلام، وإثبات التنوين أو إدخال نون الوقاية تشبيهًا لاسم الفاعل بالفعل ضرورة.
ويَرد على قول المصنف ووجوبًا إن كان ضميرًا متصلاً وقد فسَّر هو الاتصال بأن يكون الضمير يتصل باسم الفاعل مسألة يكون فيها الضمير متصلاً باسم الفاعل، ويجوز فيه الجر بالإضافة، والنصب، تقول: زيدٌ كائنٌ أخاك، وزيدٌ كائن أخيك، أَجرَوا اسم الفاعل مِن كان الناقصة وخبره مُجرى اسم الفاعل /من غيرها والمفعول، فإذا أتيتَ بالضمير بعد اسم الفاعل من كان الناقصة جاز فيه وجهان: أحدهما الجرّ بالإضافة، فتقول: المحسنُ زيدٌ كائنه. والثاني نصبه، فينفصل، فتقول: المحسنُ زيدٌ كائنٌ إياه، فهذا ضمير قد اتصل باسم الفاعل، ولم يجب فيه الإضافة.
وله أن يقول: كلامنا إنما هو في اسم الطالب مفعولاً به، وهذا ليس بمفعول به حقيقة، وإنما هو مشبَّه بالمفعول.
وقوله وشَذَّ فصلُ المضافِ إلى ظاهرٍ بمفعولٍ أو ظرف مثالُ الفصل بالمفعول قراءةُ من قرأ {مخلف وعده رسله} بنصب (وعده) وجر (رسله). ومثالُ الفصل بظرف قولُ الشاعر:
وكَرَّارُ خَلفَ الْمُجْحَرِينَ جَوادِهِ
…
إذا لَمْ يُحامِ دونَ أُنْثَى حَليلُها
وقول الآخر:
رُبَّ ابْنِ عَمِّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ
…
طَبَّاخِ ــ ساعاتِ الكَرَى ــ زادِ الكَسِلْ
فصل بالظرف بين المثال والمجرور المضاف إليه، وحكمه حكم اسم الفاعل.
-[ص: ولا يُضافُ المقرونُ بالألف واللام إلا إذا كان مثنَّى، أو مجموعًا على حدِّه، أو كان المفعولُ به معرَّفًا بهما، أو مضافًا إلى معرَّفٍ بهما، أو إلى ضميره ولا يُغني كونُ المفعول به معرَّفًا بغير ذلك، خلافًا للفراء، ولا كوُنه ضميرًا، خلافًا للرمانِيِّ والمبرِّد في أحد قوليه.]-
ش: اسم الفاعل ذو «أل» مثنَّنى أو مجموعًا جمع سلامة لمذكر يجوز أن يضاف إلى المفعول مطلقًا، سواء أكان نكرة أم معرفة، بأيِّ جهة تعرَّف، وذلك إذا كان يليه، وإن لم يله فالنصب، وإذا وليَ فإن أثبتَّ النون فالنصب، وإن حذفتَها وقدَّرتَ حذفها للإضافة فالجرّ، وهو الأكثر، ولذلك أكثر القراء على الحرّ في قوله تعالى {والمقيمى الصلوة} ، وقال الشاعر في المجموع:
ليسَ الأَخِلَاّءُ بِالْمُصْغِي مَسامِعِهِمْ
…
إلى
…
الوُشاةِ
…
ولو كانُوا ذَوِي رَحِمِ
وقال آخر في المثنَّى:
إنْ يَغْنَيا عَنِّيَ
…
الُمسْتَوطِنَا عَدَنٍ
…
فإنَّنِي لَستُ
…
يومًا
…
عنهما
…
بِغَنِي
وإن حذفتَها وقَدَّرتَ حذفها للطول تخفيفًا نصبتَ وإن كان لم يجز ذلك قبل دخول أل؛ لأنَّ اسم الفاعل بأل من قبيل الموصولات، فكما أنَّ حذف النون يجوز من الموصول في الذين واللذين لطوله بالصلة فكذلك يجوز في هذا، وقال:
الحافِظُو عَورةَ العَشيرةِ لا
…
يَأتِيهمُ مِن وَرائنا وَكَفُ
وقال آخر: /
قَتَلْنا ناجِيًا بِقَتيل عَمرٍو
…
وخيرُ الطالِبِي التِّرةَ الغَشُومُ
هكذا رواه ابن جني بنصب التَّرة، وقرأ الحسن وبعض رواة أبي عمرو {وَاَلَمُقِيمِى الصلاةَ} ، بنصب التاء، وأنشد المصنف دليلاً على النصب في المثنَّى قولَ الشاعر:
خَلِيلَيَّ، ما إنْ أنتما الصَّادِقا هَوًى
…
إذا خِفْتُما فيه عَذُولاً
…
وواشِي
ولا دليل فيه لاحتمال أن يكون هوًى مجرورًا؛ لأنه مقصور، لا يظهر فيه نصب ولا جرّ
وقوله أو كان المفعولُ به معرَّفًا بهما يعني أنَّ اسم الفاعل إذا كان بأل وليس مثنَّى ولا مجموعًا فإنه تجوز إضافته إلى ما يليه مما ذكر؛ فمثالُ إضافته إلى ما فيه أل
قول الشاعر:
أَبَانا بِها قَتْلَى، وما في دِمائها
…
شِفاءٌ، وهُنَّ الشافِياتُ الَحوائمِ
ومثالُ إضافته إلى مضافٍ إلى عُرِّفَ بهما قولُه:
لقد ظَفِرَ الزُّوَّارُ أَقْفِيةِ العِدَا
…
بما جاوَزَ الآمالَ مِ القَتلِ والأَسْرِ
وقوله أو إلى ضميره أي: يضاف اسم الفاعل إلى مضاف لضمير ما فيه أل.
وهذه مسألة خلاف: ذهب المبرد إلى أنه لا يجوز في هذا إلا النصب، ومنع الجرّ.
والصحيح الجواز بدليل قوله 2:
الوُدُّ أنتِ الْمُسْتَحِقَّةُ صَفْوِهِ
…
مِنِّي وإنْ لَمْ أَرْجُ مِنكِ نَوالا
هكذا رُوي بإضافة «المستَحِقَّة» إلى «صَفوِه» ، و «صَفوه» مضاف لضمير مقرونٍ بأل، وهو الوُدّ. والأفصح في هذه المسائل الثلاث ترك الإضافة والنصب.
وقوله ولا يُغني كونُ المفعول به معرَّفًا بغير ذلك، خلافًا للفراء يعني بغير ذلك من أل؛ إذ الإضافة إلى معرَّف بهما أو إلى مضاف إلى ضمير ما عُرِّفَ بهما، فتعريف الإضمار والعلمية والإشارة والمضاف لضمير اسم الفاعل يجري عنده مجرى المضاف لواحد من تلك الثلاثة، نحو: هذا الضارِبُك، والضاربُ زيدٍ، والضاربُ ذَينك، والضاربُ عبده، فيجيز في هذه كلها الجرّ.
ومثَّل المصنف في الشرح بقوله: «المعينُ اللذين نصراك» ؛ لأنَّ أل فيه عنده زائدة. ومَن ذهب إلى أنه تعرَّف بأل كان ذلك عنده من قبيل «هذا الضاربُ الغلامِ» في الجواز.
وقال المصنف في الشرح 2: «ولا مستند له ــ يعني للفراء ــ في هذا نثر ولا نظم، وله من النظر حظُّ، وذلك بأن تقدر الإضافة قبل الألف واللام عند قصد التعريف، فإنَّ مانع اجتماعهما مع الإضافة إنما هو توفِّي اجتماع معرِّفين، /وهو مأمون فيهما نحن بصدده، فلم يضر جوازه، ولا يلزم من ذلك جواز: الحسنُ وجهِه؛
لأنَّ المضاف والمضاف إليه فيه وفيما أشبهه شيء واحد في المعنى، فحقه أن يمنع هو وغيره مما إضافته كإضافته، إلا أنَّ المستعمل مقبول وإن خالف القياس، وما خالفَ القياس ولم يُستعمل تعيَّن اجتنابه، كالحسن وجهِه».
وقوله ولا كونُه ضميرًا إلى آخره مثال ذلك، جاء الضاربُك والضارباك والضاربوك والضُّرَّابُك والضارباتُك والضَّواربُك.
فإذا كان اسم الفاعل غير مثنَّى ولا مجموع جمع سلامة في المذكر ففي الضمير خلاف: ذهب س والأخفش إلى أنه في موضع نصب؛ لأنَّ الظاهر أصل، والمضمر نائب عنه، فلو جعلت مكانه اسمًا ظاهرًا لم يكن إلا منصوبًا، فكذلك الضمير هو موضع نصب.
وذهب أبو العباس في أحد قوليه والرمانيُّ والفراءُ إلى أنه في موضع جرّ.
أمَّا الفراء فإنه يُجيز فيه الجرَّ والنصب على أصله في إجراء المعارف كلها مُجرى ما فيه أل، أو ما أضيف إلى ما هما فيه، أو إلى مضاف إلى ضمير ما عُرِّف بهما كما تقدَّم. وأمَّا الرمانيُّ وأبو العباس في أحد قوليه فإنهما يلزمان الحكم بالجرّ. وتبعهما في ذلك الزمخشريُّ مع منعه جرَّ الظاهر الواقع موقعه.
والذي يقتضيه النظر أنه لا ينبغي أن ينجرّ بعد اسم الفاعل بالإضافة إلا ما كان يسقط من اسم الفاعل لأجلها ما يسقط للإضافة من غيره؛ وهو التنوين أو نون التثنية والجمع، لكنه وجدت الإضافة إذا كانت فيه أل، وكان بعده معرَّف بها، أو مضاف إلى معرف بها، أو إلى ضمير ما عُرِّفَ بها وإن لم يسقط من اسم الفاعل شيء، حملاً على: الحسن الوجِه، والحسن وجهِ الأخِ، كما حُمل: الحسن الوجهَ، والحسن وجهَ الأخِ، في النصب، على اسم الفاعل، فينبغي فيما ورد من ذلك الاقتصار عليه دون التعدي إلى سائر المعارف.
فإن كان اسم الفاعل مثَّنى أو مجموعًا جمع سلامة في المذكر فقال المصنف في الشرح: «وأمَّا الضمير في نحو جاء الزائراك والمكرموك فجائز فيه الوجهان بإجماع؛ لأنهما جائزان في الظاهر الواقع موقعه» انتهى.
وإنما جاز لأنه يمكن حذف النون منهما للإضافة، فيكون في موضع جرّ، ويمكن حذفها منهما للطول، فيكون في موضع نصب، وقد تقدَّم أنَّ الجرَّ في الظاهر هو الأكثر، فالمضمر كالظاهر في ذلك لأنه نائب عنه.
ودعوى المصنف الإجماع على جواز الوجهين باطلة، بل في المسألة الخلاف: مذهب س ما ذكر من جواز الوجهين. وخالفه الجرمي والمازني والمبرد وجماعة، فجعلوا الضمير في موضع جرّ فقط، وكان سقوط النون أصلها أن يكون
للإضافة، واحتمل هنا أن تسقط للإضافة، واحتمل أن تسقط للطول، فحملناه على الأصل إذ لا ضرورة تدعو إلى ذلك، بخلاف الظاهر، فإنَّ ما ظهر فيه من النصب أحوج، واضطرنا إلى تقدير سقوطها /لغير الإضافة، ولا ضرورة تدعو هنا إلى ذلك، فالوقوف مع الأصل هو الواجب.
وفي «الإفصاح» تعليل منع تقدير النصب ما نصه: «لأنَّ النصب لا يكون إلا بالنون أو تقديرها، وإذا لم يصحّ هنا اللفظ بالنون فكذلك لا يصحّ تقديرها؛ لأنَّ ذلك يفصل، وإذا لم تكن نون ولا تقديرها وجب الاتصال، وهي الإضافة. وإنما تعاقبت الضمائر المتصلة مع التنوين لأنها متصلة لا تنفرد، فضارعت التنوين، ولأنَّ التنوين يفصل، وهي متصلة، فلم يجمعوا بين اتصال وانفصال» انتهى.
ولا يجوز إثبات النون مع الضمير إلا في ضرورة، نحو قوله:
هُمُ القائلونَ الخيرَ والآمِرُونَهُ
…
إذا ما خَشُوا مِنْ مُحْدَثِ الأمرِ مُعْظَما
وقد تأوَّل هذا البيتَ أبو العباس، وزعم أنَّ الهاء في «الآمِرونَهُ» هاء السكت، لحقت نون الجمع، فأصله: وألآمِرُونَهْ، ثم حرُكَّتَ بالضم على سبيل الضمير كما حركوها في قوله:
يا مَرْحَباهُ بِحِمارِ ناجِيَهْ
…
إذا دَنا قَرَّبْتُهُ لِلسَّانِيَهْ
وقيل: هو مصنوع، فلا حجة فيه.
وقياس مذهب هشام في جواز ضاربانِك أن يجيز ذلك في اسم الفاعل إذا كان مقرونًا بأل.
-[ص: ويُجَرُّ المعطوفُ على مجرورِ ذي الألف واللام إن كان مثله، أو مضافًا إلى مثله، أو إلى ضميره، لا إن كان غير ذلك، وِفاقًا لأبي العباس.]-
ش: مثال المسألة الأولى: جاء الضاربُ الغلامِ والجارية، ومثال الثانية: جاء الضاربُ الغلامِ وجاريِة المرأةِ، ومثال الثالثة: جاء الضاربُ المرأةِ وأخيها؛ لأنه بمنْزلة: جاء الضاربُ المرأةِ وجارية المرأة، فالضمير عائد على المرأة، وقال:
الواهِبُ المِئةِ الهِجانِ وعَبدِها
…
عُوذًا، تُزَجِّي خَلْفَها أَطفالَها
قال المصنف في الشرح: «فالمسائل الثلاث جائزة بلا خلاف» انتهى. وفي المسألة الثانية والثالثة خلاف، وهي أن يكون المعطوف مضافًا إلى ما فيه أل، أو إلى ضمير ما فيه أل، نحو: هذا الضاربُ المرأةِ وغلامِ الرجلِ، وهذا الضاربُ المرأةِ وغلامِها. قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: «وخالف المبرد في المضاف إلى ضمير ما فيه الألف واللام، فلم يُجز إلا النصب على الموضع، ومنعَ الجر، كما خالفَ في مفعول اسم الفاعل إذا كان مضافًا إلى ما فيه الألف /واللام. والسماع يردُّ عليه، قال:
الواهبُ المِئةِ الهجانِ وعَبدِها
…
....................................
روي بنصب (وعبدها) وخفضه».
وحكى الأستاذ أبو علي عن المبرد جواز: هو الضاربُ الرجلِ وغلامِه، وكأنَّ حكمه حكم ما فيه أل، وأنه بذلك المعنى جاز عنده، وعليه البيت، وأنَّ جوازه عند س لكونه تابعًا، والتابع يجوز فيه ما يجوز في المتبرع. فبين حكاية ابن عصفور والأستاذ أبي علي عن المبرد اختلاف، ويمكن أن يكون القولان له، واطلَّع
كل واحد منهم على ما حكى عنه.
وقوله لا إن كان غير ذلك وِفاقًا لأبي العباس أي: لا إن كان غيرَ واحد من المسائل الثلاث، كأنه يكون المعطوف علمًا، أو اسمَ إشارة، أو مضافًا إلى معرفة غير مصحلابة بأل، أو إلى ضمير ما يعود على أل، نحو هذا الضاربُ الرجلِ وزيدٍ.
قال المصنف في الشرح «فإنَّ س يجيز جرَّه، ومنعَ من ذلك أبو العباس
، وهو المختار عند أبي بكر بن السراج 3، وهو عندي أصحُّ القولين؛ لأنَّ العاطف كالقائم مقام العامل في المعطوف عليه. واسم الفاعل المقرون بالألف اللام على مذهب س وغيره من البصريين لا يَجُرُّ زيدًا ونحوه، فلا يصح أن يُعطف على المجرور به، ولا حُجَّة في نحو: رُبَّ رجلٍ وأخيه، ولا:
أيُّ فَتَى هَيجاءَ أنتَ وجارِها
…
...............................
لأنهما في تقدير: رُبَّ رجلٍ وأخٍ له، وأَيُّ فَتَى هيجاءَ أنتَ وجارٍ لها، ومثلُ هذا التقدير لا يتأتى فيما نحن بسبيله، فلا يصحُّ جوازه» انتهى.
ومثل ما حَكى المصنف عن س حَكى الأستاذ أبو على، قال:«مذهب س جواز: هذا الضارب الرجل وزيدٍ، وهو الذي منع المبرد» . وكذا قال صاحب «رؤوس المسائل» في مسائل الخلاف من تأليفه: «أجاز س: هذا الضاربُ الرجلِ وزيدٍ، وهذا الضاربُ الرجلِ وعبدِ الله، ومَنع ذلك المبرد» انتهى.
والذي يدل عليه ظاهر كلام س أنَّ مثل «هذا الضاربُ الرجلِ وزيدٍ» سماع من العرب، قال س:«والذي قال: هو الضاربُ الرجلِ ــ قال: هو الضاربُ الرجلِ وعبدِ الله» وكان قد قدَّم قبل هذا: «ولا يكون: هو الضاربُ عمرٍو كما لا يكون: هو الحسنُ وجهٍ 8، ثم ساق مسألة العطف. فظاهر قوله: «والذي قال
كذا إلى آخره» هو سماع من العرب. وأَرى س أنَّ حكم التابع بخلاف حكم المتبوع، وأنَّ الاسم بعينه يجوز فيه تابعًا ما لا يجوز فيه لو لم يكن تابعًا، وعلى هذا أَنشد:
أنا ابنُ
…
التارِكِ
…
الَبكرِيِّ بِشْرٍ
…
...................................
وفَرَّ مما يلزم فيه على أن يكون بدلاً إلى أنه عطف بيان.
وقد أَجحَفَ المصنفُ في حكم تابع معمول اسم الفاعل، فلم يَذكر من التوابع إلا العطف، ولم يَذكر إلا حكمه مع اسم الفاعل الذي فيه الألف واللام، ونحن نبسط الكلام في ذلك، ونستوفيه بالنسبة لاسم الفاعل وبالنسبة للتابع لمعموله، فنقول:
إذا أَتبعتَ معمولَ اسم الفاعل الصالح للعمل فإمَّا أن يكون منصوبًا أو مخفوضًا، /إن كان منصوبًا كان التابع منصوبًا، فتقول: هذا ضاربٌ زيدًا وعمرًا، لا يجوز في التابع إلا النصب.
وأجاز الكوفيون والبغداديون الخفض، نحو: هذا ضاربٌ زيدًا وعمرٍو، حملاً على موضع زيد؛ لأنه يكون مخفوضًا، وحملوا على ذلك قول امرئ القيس مستدلِّين به، وهو:
وَظَلَّ طُهَارةُ اللَّحمِ مِنْ بَينِ مُنْضِجٍ
…
صَفِيفَ شِواءٍ أو قَدِيرٍ مُعَجَّلِ
عطفوا «أو قديرٍ» على موضع «صفيفَ» ؛ لأنه يجوز خفضه بإضافة «مُنضِجٍ» إليه.
ولا حجة في ذلك ولا في كونه معطوفًا على الجواز، خلافًا لمن خرَّجه على ذلك؛ لأنه يمكن حمله على مُنْضِجٍ على تقدير محذوف، أي: ومُنْضِجِ قدير، فحُذف، وجُعل كالثابت لتقدُّم ذكره، وأو بمعنى الواو؛ لأنَّ «بينَ» تقتضي ذلك.
وخرَّجه بعض أصحابنا أيضًا أن يكون معطوفًا على «شِواءٍ» ، وتكون أو بمعنى الواو. وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ الَينيَّة إنما هي في الطهارة لا في معمول اسم الفاعل، فصار نظير: الناسُ بين قارئٍ كتابَ أصولٍ ونحو.
وإن كان المعمول مخفوضًا فإمَّا أن يكون التابع نعتًا أو تأكيدًا أو بدلاً أو عطفًا: إن كان نعتًا أو تأكيدًا فمن النحويين مَن قال: يتبع على اللفظ فقط، نحو:
هذا ضاربُ زيدٍ الفاضلِ نفسِه. ومنهم من قال: يتبعه على اللفظ والموضع، فتجرّ أو تنصب.
وإن كان بدلاً أو عطفًا فإمَّا أن يكون اسم الفاعل عاريًا من أل أو مقرونًا بها: إن كان عاريًا من أل فالجرُّ والنصب، نحو: هذا ضاربُ زيدٍ أخيك وعمرٍو، وهذا ضاربُ زيد أخاك وعمرًا. وهذا عند مَن لم يشترط الُمحْرز للموضع كالأعلم، وأمَّا من شَرَطَه فلا يجيز النصب، بل إن نَصب في العطف أَضمر له ناصبًا، وهو ظاهر قول س، قال س:«وإن شئتَ نصبتَ على المعنى، تُضمر له ناصبًا» .
وإن كان مقرونًا بأل فإمَّا أن يكون مثنَّى أو مجموعًا جمع سلامة في المذكر أو غيرها، إن كان مثَّنى أو جمع سلامة في المذكر فقال ابن عصفور: «جاز الخفض على اللفظ، والنصب على الموضع، نحو: هذان الضاربا زيدٍ أخيك وعمرٍو،
وهؤلاء الضاربو زيدٍ أخيك وعمرٍو، ويجوز النصب في البدل والمعطوف، فتقول: أخاك وعمرًا».
وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن الأُبَّذِيّ ذلك في مسألة العطف، قال:«والخفض والنصب» . قال: «إذ يُتَصَوَّرُ أن يكون مُحْرِزًا على أن يكون حذف النون للطول، نحو: هذان الضاربا زيدٍ وعمرًا وعمرٍو، وهؤلاء الضاربو زيدٍ وعمرًا وعمرٍو» . وقال أيضًا في البدل: «على اللفظ وعلى الموضع، نحو: هذان الضاربا زيدٍ أخيك وأخاك، وهؤلاء الضاربو زيدٍ أخيك وأخاك» انتهى.
وما أجازاه لا يجوز لفقد الُمحْرِز، وما ظنَّه شيخنا أبو الحسن مُحْرزًا ليس بمُحْرز، وقد وهم في ذلك لأنَّ النون تتنَزل منْزلة التنوين، فحذفها للإضافة كحذفه، فإذا حُذفت للإضافة لم يبق مُحْرِز للنصب؛ لأنَّ النصب لا يجوز مع تقدير حذفها للإضافة، كما أنه لا يجوز النصب مع حذف /التنوين. وغرّهما أنه يجوز النصب مع حذف النون للطول. وفرق بينهما؛ لأنَّ حذف النون للطول يجوز معه النصب كإثباتها، فتقديرها كالملفوظ بها، بخلاف حذفها للإضافة، فإنه لا يجوز فيه إلا الخفض، وهذا فرق فيه دِقَّة.
وإن كان غيرها ــ وهو أن يكون مفردًا أو مكسرًا أو مجموعًا جمع سلامة في المؤنث ــ فإمَّا أن يكون التابع عاريًا من أل، أو من إلإضافة إلى ما هي فيه، أو إلى ضمير يعود على ذي أل، أو شيئًا من ذلك: إن كان عاريًا فالنصب، نحو: هذا الضاربُ الرجلِ أخاك وزيدًا، والضُّرَّاب الرجلِ أخاك وبشرًا، والضاربات الرجلِ أخاك وبكرًا، ولذلك أعربوا:
أنا
…
ابنُ التارِكِ البَكْرِيِّ بِشْرٍ
…
....
عطف بيان، ولم يعربوه بدلاً؛ لأن عطف البيان يجري مجرى النعت، والبدل على نيَّة تكرار العامل. ولا يجوز إضافة شيء من ذلك إلى أخيك. وأجاز س العطف على اللفظ في ذلك، ومعه أبو العباس.
وإن لم يكن عاريًا من شيء من ذلك فتقدَّم اختلاف النقل عن المبرِّد في مسألة عطف المضاف إلى ما فيه أل، وعطف المضاف إلى ضمير ما فيه أل.
مسائل تتعلق باسم الفاعل:
الأولى: يجوز تقديم معمول اسم الفاعل عليه، فتقول: هذا زيدًا ضاربٌ تريد: ضاربٌ زيدًا، إلا إن كان موصولاً بـ «أل» فلا يجوز تقديم معموله عليه، وقد سُمع التقديم للظرف والمجرور عليه. وفي إجازة ذلك وتأوُّله خلاف. أو مجرورًا بإضافٍة أو بحرفِ جرِّ غير زائد فكذلك، لا يجوز في: جاءني غلامُ ملازمٍ بابَك، ومررتُ بضاربً زيدًا ــ إلا تأخيرُ المفعول.
وأجاز بعض النحويين التقديم إذا كان مضافًا إليه: غير، أو جدّ، أو حَقّ، أو أَوَّل، فأجاز: هذا زيدًا غيرُ ضاربٍ، وهذا زيدًا جدُّ ضاربٍ، وهذا زيدًا حَقُّ ضاربٍ، وهذا زيدًا أَوَّلُ ضاربٍ. والصحيح أنَّ ذلك لا يجوز.
وإن كان مجرورًا بحرف جر زائد، نحو: ليس زيدٌ بضاربٍ عمرًا ــ فالمشهور والصحيح جواز التقديم، فتقول: ليس زيدٌ عمرًا بضاربٍ. وحُكي عن أبي العباس منعه.
الثانية: يجوز تقديم المفعول على المبتدأ إذا عَرِيَ المبتدأ من مانعِ تقديم، مثاله: زيدًا عمروٌ ضاربٌ، في: عمرُو ضاربٌ زيدًا. فإن كان المعمول لشيء من سبب المبتدأ، نحو: زيدٌ ضاربٌ أبوه عمرًا ــ ففي تقديمه على المبتدأ خلاف: أجاز ذلك البصريون والكسائيّ، فتقول: عمرًا زيدٌ ضاربٌ أبوه، كما جاز ذلك حين رفع الضمير ولم يرفع السببِيّ. ومنع ذلك الفراء.
فإن كان اسم الفاعل خبرَ مبتدأ هو من سبب المبتدأ الأول، نحو: زيدٌ أبوه ضاربٌ عمرًا ــ فمنعَ تقديَمه على المبتدأ الأوَّل الكسائيُّ والفراء، وأجاز ذلك البصريون.
الثالثة: إذا كان اسم الفاعل وما عُطف عليه من اسمِ فاعلٍ خبرًا عن مثنَّى أو جمع، نحو: هذان ضاربٌ زيدًا وتاركُه ــ فالمنصوص /أنه لا يجوز تقديم المفعول على اسم الفاعل، فلا تقول: هذان زيدًا ضاربٌ وتاركُه. قالوا: لأنَّ الفعل لا يصلح هنا، لو قلت: هذان يضربُ زيدًا ويتركُه ــ لم يَجُز. وعلى هذا الذي نَصُّوا يجري المنع في: مررتُ برجلينِ ضاربٍ عمرًا وتاركِه، وجاءني رجلانِ ضاربٌ عمرًا وتاركُه.
الرابعة: يجوز فصيحًا في معمول اسم الفاعل المتأخَّر أن يُجَرَّ باللام، ولا يجوز ذلك في الفعل إلا مع التقديم، وأمَّا مع التأخير فبابُه الشعر، قال:
ومُشَقِّقاتٍ لِلْجُيُو
…
بِ، عليَّ كالبَقَرِ الَحوائمْ
وكذلك في أبنية المبالغة، قال تعالى {فعال لما يريد} {وما ربك بظلم للعبيد} وقال الشاعر:
........................
…
قَؤُولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُولُ
-[ص: فصل
يَعمل اسمُ المفعول عملَ فعلِه مشروطًا فيه ما شُرِطَ في اسم الفاعل. وبناؤه من الثلاثيِّ على زِنةِ مَفْعُول، ومِن غيره على زِنةِ اسمِ فاعلِه مفتوحًا ما قبلَ آخره، ما لم يُسْتَغْنَ فيه بمَفْعُولٍ عن مُفْعَلٍ.]-
ش: الضمير في قوله عَمَلَ فِعلِه عائد على المفعول، أي: عَمَلَ الفعلِ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، فيرفع المفعول به لفظًا أو محلَاّ، وما جاز أن يُقام مُقام الفاعل في الفعل جاز هنا.
وقوله مشروطًا فيه ــ أي: في عمله ــ ما شرطَ في اسم الفاعل يعني من كونه لا يعمل إلا معتمدًا، ولا يكون مصغَّرًا ولا موصوفًا قبل العمل. وحُكمُه في ذلك وفي اعتبارِ الزمان والحملِ على الموضع واتِّصالِ الضمائر به حُكمُ اسم الفاعل اتِّفاقًا واختلافًا، تقول: هذا مشروبٌ ماؤه، وممرورٌ به، ومَكْسُوٌّ ابنُه جُبَّةً، ومَظنونٌ أبوه قائمًا، ومُسَمَّى ابنُه زيدًا، ومُعْلَمٌ أخوه عمرًا ذاهبًا.
ومما جاء منه معتمدًا على موصوف منويِّ قولُ الشاعر:
ونحن تَرَكْنا تَغْلبَ بْنةَ وائلٍ
…
كَمَضْرُوبةٍ رِجْلاهُ مُنْقَطِعِ الظَّهْرِ
وقول الآخر:
فَهُنَّ مِن بَينِ مَتروكٍ، بهِ رَمَقٌ
…
صَرْعَى، وآخَرَ، لم يُتْرَكْ بهِ رَمَقُ
أي: كرَجُلٍ مضروبةٍ رِجلاه، ومِن بينِ رَجُلٍ مَتروكٍ به رَمَقٌ.
وذكر المصنف في أرجوزته أنه قد يضاف هذا ــ[أي] اسم المفعول ــ إلى الاسم المرتفع به معنًى، فقال:
وقد يُضافُ ذا إلى اسمٍ مُرتَفِعْ
…
مَعنًى، كـ «مَحمُودُ الَمقاصِدِ الوَرِعْ»
وهذا بخلاف اسم الفاعل، فإنه لا يجوز إضافة اسم الفاعل إلى فاعله، لا تقول في مررتُ برجلٍ ضاربٍ أبوه زيدًا: برجلٍ ضاربِ أبيه زيدًا، ويجوز ذلك في اسم المفعول، فيجوز في مررتُ برجلٍ مضروبٍ غلامٌ شتمَه أن تقول: مررتُ برجلٍ مضروبِ /غلامٍ شتمَه، لكن الصحيح أنَّ هذه الإضافة إنما هي من منصوب لا من مرفوع، وتبيين ذلك في باب الصفة المشبهة إن شاء الله.
وإذا تقرَّر هذا فإذا أضيف اسم المفعول إلى ما كان في الأصل مرفوعًا به فإن كان مما يتعدَّى لواحد فلا إشكال، نحو: مررتُ برجلٍ مضروبِ الظهرِ، أصله على الصحيح: مضروبٍ الظهرَ، فالإضافة من نصب. أو مما يتعدَّى إلى اثنين فأكثر فقياس هذا أن تقول: مررتُ برجلٍ مكسوِّ الأبِ جبَّةً، ومَظنونِ الأخِ قائمًا، ومُعْلَمِ الغلامِ عمرًا ضاحكًا، وقد منعوه. والسبب في منع ذلك أنَّ الإضافة هي من نصب على الصحيح، ورفضوا ذلك لأنه من حيث انتصابُ الثاني والثالث يكون حكمُه
حكمَ اسم المفعول الذي يتعدَّى إلى المفعول به، ومن حيث انجرارُ ما يليه يكون حكمُه حكمَ الصفة المشبهة، ويختلف إذ ذاك حكمه بالنظر إلى المنصوبات؛ ألا ترى أنه يجوز في ذلك تقديم المنصوب لأنه مفعول به، ويلزم ألَاّ يجوز تقديم ما يلي اسم المفعول لو نُصب لأنه معمول الصفة المشبهة، وكل ما يُجرّ في باب الصفة
يجوز أن يُنصَب؛ لأنَّ الجر هو من النصب، ولا يوجد في كلامهم عامل يَنصب اسمين أحدهما مفعول به والآخر مشبَّه بالمفعول به فيتقدم المفعول به عليه؛ ولا يتقدم المشبَّه به، بل ما وُجد من ذلك يجوز تقديمه على العامل، فإذا قلت: هذا ضاربٌ اليومَ زيدًا، واتَّسعتَ في اليوم، فنصبتَه على التشبيه بالمفعول به ــ فإنه يجوز تقديمه على ضارِب كما تُقدم زيدًا عليه، فلمَّا كان ذلك مؤديًا إلى المنع في باب اسم المفعول المضاف إلى ما بعده وما بعده منصوب رُفض جواز ذلك.
وقوله وبناءه من الثلاثي على زنة مَفْعُول تقول: زيدٌ مَضروبٌ، وعمرٌو مَمْرُورٌ به، وبَكرٌ مَغضُوبٌ عليه، وهذا مُطَّرِد لا ينكسر.
ويعني المصنف بقوله من الثلاثي أي: المتصرِّف، فإن كان لا يتصرف لم يُبْنَ منه اسم مفعول، نحو يَدَعُ.
وذكر بعض أصحابنا أنه قد بُني مَفعُول من غير فِعل، قالوا: رجلٌ مَفْؤُودٌ، ولم يُصَرَّف منه فِعل.
وذكر الأهوازي النحوي، وليس بأبي علي الأهوازي المقرئ، في «شرح الموجز» للرماني أنَّ نفعَ من الثلاثي المتعدي لا تقول في المفعول منه زيدٌ مَنفُوع.
فإن كان ذلك نقلا عن العرب وقفنا عنده، وإلا فالقياس لا يمنع منه.
وفي «البسيط» اسم المفعول جارٍ على فعله ــ يعني المضارع ــ في الحركات والسكنات، وهو فيما كان زائدًا على الثلاثة والشبه فيه حاصل وغير جارٍ فيعمل
لأنه في معنى الجاري. وأصله أن يكون من الثلاثي على وزن مُفْعَل، ثم عُدل عنه إلى مَفعول. قيل. لأنه يلبس بما هو من أَفْعَلَ، فأصل مَفعُول مُفْعَل بالزيادة، وكان الثلاثيُّ أَولى بالزيادة لِخِفَّتِه.
وهو على قسمين: منه ما هو مبنيّ للمفعول. ومنه ما /اشتُقَّ له اسم من الفعل على رأي ليس بجارٍ، وذلك نحو الحَلَب: اسم المحلوب، والطَّرَد: اسم للمطرود، وليس ذلك بقياس فتفعله في مَضروب من ضرب، والظاهر أنه يجري مجرى مَفعول في أنه لا يُراعى عدم جريانه، ولا يُذكَر مثله في الفاعل، أعني أن يشتقَّ له ما ليس جاريًا.
وقوله ومِن غيره ــ أي: من غير الثلاثي ــ على زِنةِ اسمِ فاعِله فتقول مُكْرَم ومُسْتَخْرَج ونحوهما.
وقوله ما لم يُسْتَغْنَ فيه بمَفْعُولٍ عن مُفْعَلٍ مَثَّله المصنف بِمَزْكُوم ومَحمُوم ومَحْزُون، قال:«ومنه مَحْبُوب في الأكثر» . وقد تقدَّم له ذكرُ هذا الاستغناء في أوائل باب اسم الفاعل.
-[ص: ويَنوبُ في الدّلالة لا العملِ عن مَفعُولٍ بقلَّةٍ فِعْلٌ وفَعَلٌ وفُعْلَةٌ، وبكثرة فَعيلٌ، وليس مَقيسًا، خلافًا لبعضهم، وقد يَنوبُ عن مُفْعَل.]-
ش: مثالُ فِعْلٍ ذبْحٌ وطِحْنٌ ورِعْيٌ وطِرْحٌ. ومثالُ فَعَلٍ قَبَضٌ ونَقَضٌ ولَقَطٌ ولَفَظٌ. ومثالُ فُعْلةٍ أُكْلةٌ وغُرْفةٌ ولُقْمةٌ ومُضْغةٌ. هذا كله بمعنَى: مَذبُوح ومَطحُون ومَرعِيّ ومَطرُوح ومَقُبوض ومَنقُوض ومَلقُوط ومَلفُوظ ومأكُول ومَغرُوف ومَلقُوم ومَمضُوغ.
ولا يجوز لشيء منها أن يَرفع الفاعل، فلا يقال: مررتُ برجلٍ ذِبْحٍ كَبشُه، ولا: طِحْنٍ بُرُّه. وفي كلام ابن عصفور ما يدلُّ على الجواز، قال في «شرح المقرب» في آخر باب ما لم يُسَمَّ فاعله:«واسم المفعول وما كان من الصفات بمعناه حُكمُه بالنظر إلى ما يطلبه من المعمولات حُكمُ الفعل المبنيِّ للمفعول» انتهى. ويحتاج ذلك إلى سماع.
ومثالُ نيابة فَعِيلٍ جَريحٌ وقَتِيلٌ وصَرِيعٌ ودَهِينٌ ورَمِيُّ وأَخِيذٌ ولَدِيغٌ وغَسِيل، وهو كثير في لسان العرب، ومع كثرته لا ينقاس، لا يقال ضَرِيب في مَضرُوب، ولا عَليِم في مَعلُوم، ولا قَوِيل في مَقُول، ولا بَيِيع في مَبِيع.
فعلى ما ذكره المصنف لا يجوز أن تقول: مررتُ برجلٍ أبوه؛ لأنه جرى مجرى مَفعول في المعنى لا في العمل، وقد أجازه ابن عصفور، ويحتاج في ذلك إلى سماع.
وقوله وليس مقيسًا، خلافًا لبعضهم ظاهره أنه أجاز بعضهم القياس على ما سُمع من ذلك، وكان ينبغى أن يقيّد ذلك، فإن الذي أجاز القياس على ما سُمع من ذلك شَرطَ فيه ألَاّ يكون له فَعِيل بمعنى فاعِل، فإن كان له ذلك لم يُجِزْه، نحو عَليِم بمعنَى عالِم، وقَدير بمعنى قادِر، وحَفيظ بمعنى حافِظ، فلا يُجيز أن يقال عَليم بمعنى مَعلوم، ولا قَدير بمعنى مَقدور، ولا حَفيظ بمعنى مَحفوظ؛ لئلا يُلبس، ويُجيز ذلك في نحو قَتيل، فإنه لا يُلبس.
وقد غاب عن ابن المصنف الخلافُ في هذه المسألة، فقال في شرحه أرجوزة أبيه: «فَعيل بمعنى مَفعول كثير في كلام العرب، وعلى كثرته لم يُقَس عليه
بإجماع». وقد ذكر أبوه الخلاف فيه، وقد تكرر لأبيه ذكر هذه المسألة في «باب التذكير والتأنيث» .
ودلَّ قولُ المصنف إنه يَنوب في الدّلالة لا العمل أنه لا يجوز أن يَعمل فتقول: مررتُ برجلٍ كَحيلٍ عينُه، ولا: مررتُ برجلٍ قَتيلٍ أبوه، فترفع /العين والأبَ كما يجوز ذلك إذا قلت: مررتُ برجلٍ مَكحولةٍ عينُه ومقتولٍ أبوه، ويحتاج في منع ذلك أو إجازته إلى نقل صحيح عن العرب.
وقوله وقد يَنوبُ عن مُفْعَلٍ مثالُه قولهم: أَعْقَدتُ العَسَلَ فهو عَقِيدٌ، بمعنَى مُعْقَد، وأَعَلَّه الَمرَضُ فهو عَليِلٌ، بمعنَى مُعَلّ.
تم بحمد الله ــ تعالى ــ وتوفيقه
الجزء العاشر من كتاب «التذييل والتكميل»
بتقسيم محققه، ويليه ــ إن شاء الله تعالى ــ
الجزء الحادي عشر، وأوله: