المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب أفعل التفضيل - التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل - جـ ١٠

[أبو حيان الأندلسي]

الفصل: ‌ باب أفعل التفضيل

-[ص:‌

‌ بابُ أَفْعَلِ التفضيل

يُصاغُ للتفضيل مُوازِنُ «أَفْعَلَ» اسمًا مما صيغَ منه في التعجب فعلاً على نحو ما سبقَ من اطِّرادٍ وشذوذٍ ونيابِة أَشَدَّ وشبهه، وهو هنا اسمٌ ناصِبٌ مصدرَ المُحْوِجِ إليه تمييزًا. وغَلَبَ حذفُ همزِة أَخْيَرَ وأَشَرَّ في التفضيل، ونَدَرَ في التعجب.]-

ش: أَفْعَلُ التفضيل هو الوصف المصوغ على أَفْعَلَ الدالّ على زيادةِ وصفٍ في محلِّ بالنسبة إلى محلِّ آخر. فـ «الوصف» جنس يشمل ما كان من الأوصاف على وزن أَفْعَلَ، و «الدالّ على زيادة إلى آخره» فصل يَخرج به أَحْمَرُ وأَرْمَلٌ.

وفي «البسيط» : أَفْعَلُ التفضيل هو الاسم المشتقّ لموصوف قائم به معنًى ليدلَّ على زيادة فيه على غيره. فقولنا «لموصوف» خرج منه الزمان والمكان، وقولنا «ليدلَّ إلى آخره» يَفصله مما عداه.

ولما قدَّم المصنف الكلام على التعجب أحالَ هنا في الصوغ على فِعلَيه، وكان قد ذكر ما شذَّ فيه في التعجب، وما يجوز القياس عليه، فكذلك الحكم هنا، فكما شذَّ قولهم أقْمِنْ به مما لم يُصَرَّح له بفعل شذَّ هنا قولهم: هو أقْمَنُ به، أي أحَقُّ، وقالوا «أَلَصُّ من شظاظ» ، أي: أكثر لُصُوصِيَّة، وهو /رجل من ضَبَّة، وأَقْيَرُ من هذا، أي: أَمَرُّ، وأَوَّل، وآخَر، ولا فعل لها.

قال المصنف في الشرح: «ومن أمثلة س فيما لا فِعل له: أَحْنَكُ الشاتين والبَعيرَين، أي: آكَلُهما، وآبلُ الناس، أي: أَرعاهم للإبل، وفي أمثالهم: آبلُ من

ص: 249

حُنَيْفِ الحَناتِم. ومن أمثلة غيره: هذا التمر أَصْقَرُ مِن غيره، أي: أَكثَرُ صَقْرًا، وهذا المكان أَشْجَرُ مِن هذا، أي: أَكثَرُ شَجَرًا، وفلان أَضْيَعُ مِن غيره، أي: أَكثَرُ ضياعًا.

والصحيح أنَّ أَخْتَك من قولهم: احْتَنَكَ الجرادُ ما في الأرض، أي: أكلَه، ولكنه شاذُّ لكونه من افْتَعَلَ، فهو نظير أَشَدَّ من اشتَدَّ، ونظير قولهم: هو أَسْوى من فلان، بمعنى: أَشَدُّ استواء.

والصحيح أنَّ آبل من قولهم أَبِلَ الرجلُ إبالةً وأَبِلَ أَبَلاً: إذا دَرِبَ بسياسة الإبل والقيام عليها، فلا شذوذ فيه أصلاً. وكذا الصحيح أنَّ أَصْقَرَ من صَقِرَ الرُّطَبُ: إذا كان ذا صَقْر، فلا شذوذ فيه أيضًا. أَشْجَر هو من قولهم أشجر المكان، أَي: صار ذا شجر، ولا شذوذ فيه على مذهب س» انتهى. وقد تقدَّم الخلاف في نسبة هذا المذهب إلى س.

فأمَّا قولهم «فلان أضيع من غير» من قولهم أَاع الرجل: كثر ضياعه، وقولهم هو أعطاهم للدراهم وأولاهم بالمعروف، وأَكرَمُ لي من زيد، أي: أَشَدُّ إكرامًا، وأَفلَسُ من ابن المُدَلَّق، وهذا المكانُ أَقْفَرُ من ذلك، وقول عمر «فهو لِما سواها أَضْيَعُ» ــ فهي كلها من أَفْعَلَ، والخلاف الذي في التعجب فيه جارٍ في بناء أَفْعَلِ التفضيل منه.

ص: 250

وشذَّ مما هو أَفْعَلُ فَعْلَاء قولُهم: أَسْوَدُ مِن حَنَكِ الغُرابِ، و (أَبْيَضُ مِن الَّلبَنِ)، وأَحْمَقُ مِنْ هَبَنَّقةَ، وأَهْوَجُ مِن زيد، وأَنْوَكُ منه.

وشذَّ من بناء المفعول من المزيد: هو أَخْصَرُ، من اختُصِرَ، وهو أَصْوَبُ مِن غيره، من أُصِيب بمكروه. ومن الثلاثي: هو أَشْغَلُ مِن ذاتِ النِّحْيَينِ، وهو أَعْذَرُ منه، وأَلْوَمُ، وأَشْهَرُ، وأَعْرَفُ، وأَنْكَرُ، وأَرجَى، وأَخْوَفُ، وأَحْمَدُ في أحد تأويليه، وأَزْهَى، وأَهْيَبُ، وأنا بهذا أَسَدُّ منك، وهم بشأنه أَعْنَى.

وخلاف المصنف في هذا كهو في فعل التعجب، قال:«فإن اقترن بما يمنع من قصد الفاعلية جاز وحسن، نحو قولهم: أَكْسَى مِن بَصَلة، وأَشْغَلُ مِن ذاتِ النِّحْيَينِ» . قال 5: «فيصح على هذا أن يقال: عبدُ الله بنُ أُبَيِّ أَلْعَنُ مِمَّن لُعِنَ على لسان داود، ولا أحْرَمَ ممن عدم الإنصاف، ولا أَظْلَمَ مِن قَتيل كَرْبَلاء. فلو كان مما لَزِمَ بناءَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه أو غَلَب عليه لم يُتَوَقَّف في جوازه لعدم اللبس وكثرة النظائر، كأَزْهَى وأَعْنَى» انتهى.

فأمَّا تمثيله بقولهم «أَكْسَى مِن بَصَلة» فلا يتعين أن يكون من المبنيِّ للمفعول ــ وهو كُسِيَ ــ لأنَّ العرب تقول: كَسِيَ الرجلُ ــ بفتح الكاف ــ مَبينَّا للفاعل، بمعنى اكْتَسى، قال:

ص: 251

............................

واقْعُدْ؛ فإنَّكَ أنتَ الطاعِمُ الكاسي

وقال:

وأنْ

يَعْرَيْنَ

إنْ

كَسِيَ

الجَواري

.....................................

فيحتمل أن يكون قولهم «أَكْسَى من بَصَلة» /من كَسِيَ المبنيَّ للفاعل لا كُسِيَ المبنيِّ للمفعول.

وأمَّا قوله «لم يُتَوَقَّف في جوازه» فهذا الحكم عنده، وأمَّا غيره فإنه لا يُجيز ذلك، وإن ورد منه شيْ فهو شاذّ.

وأمَّا قوله «مما لَزِمَ بناءَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه» فمن ذلك: ثُلِجَ فؤادُ الرجل: إذا كان بليدًا، وُختَ الرجلُ: إذا سَعدَ، وجيس: إذا فُعل به فعل قوم لوط مختارًا».

وأمَّا قوله «أو غَلَبَ عليه» فمنه قولهم: نُخِيَ الرجلُ نخوةً: إذا تكبَّر، ونَخا نَخْوًا، لغة حكاها ابن القطاع، وشُهِرَ، وبُهِتَ.

وقوله مما صيغَ منه في «صيغَ» ضمير يعود على مُوازن أَفْعَلَ، والضمير في «منه» عائد على «ما» في قوله «مما» ، أي: من اللفظ الذي صيغَ مُوازنُ أَفْعَلَ منه.

وقوله ناصبٌ مصدرَ المُحْوِجِ إليه تمييزًا أي: مصدرَ اللفظ الُمحْوج إلى نيابة

أَشدَّ ونحوه، فتقول: هو أَشَدُّ دحرجةً، وأَصَحُّ تعليمًا، وأَكْثَرُ اقترابًا، وهو أَفْظَعُ موتًا، وهو أَقْبَحُ عَوَرًا، وهو أَحْسَنُ كُحْلاً.

وقوله وغَلَبَ حذفُ همزِة أخْيَرَ وأَشَرَّ في التفضيل وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال نحو: هو خيرٌ من فلان، وشرُّ من فلان. وجاء الحذف في غيرهما نادرًا،

قال:

ص: 252

وزادَني كَلَفًا في الحُبِّ أَنْ مَنَعَتْ

وحَبُّ شيءٍ إلى

الإنسانِ ما مُنِعا

يريد: وأَحَبُّ شيءٍ. وندر إتمام خَير وشَرّ، قرأ أبو قِلابة {مَنِ الكذَّابُ الأَشَرُّ} ، قال:

بلالُ خَيرُ الناسِ وابنُ الأخْيَرِ

وقوله ونَدَرَ في التعجب يعني حذف همزة أَخْيَرَ وأَشَرَّ، قالوا: ما خَيْرَ اللَّبن للصحيح! وما شَرَّهُ للمَبطُون! وتقدَّم ذكر هذا. كما ندر حذفها في قوله:

ما شَدَّ أَنْفُسَهُمْ وأَعْلَمَهُمْ بِما

.....................................

-[ص: ويَلزَمُ أَفْعَلَ التفضيل عاريًا الإفرادُ والتذكيرُ، وأن يَليَه أو معمولَه

المفضولُ مجرورًا بـ «مِن» ، وقد يسبقانه، ويلزم ذلك إن كان المفضولُ اسمَ استفهام أو مضافًا إليه، وقد يُفصَل بين أَفْعَلَ و «مِنْ» بـ «لو» وما اتَّصل بها. ولا يخلو المقرونُ بـ «مِنْ» في غير تهكُّم من مشاركِة المفضَّل في المعنى أو تقديرِ مشاكته. وإن كان أَفْعَلُ خبرًا حُذف للعلم به المفضولُ غالبًا، ويقلُّ ذلك إن لم يكن خبرًا. ولا تُصاحب «مِن» المذكورةُ غيرَ العاري إلا وهو مضافٌ إلى غير مُعْتَدِّ به، أو ذو ألف ولام زائدتين، أو دالَّ على عارٍ تتعلقَّ به «مِنْ» ، أو شاذُّ.]-

ش: يعني بقوله عاريًا أي: من أل ومن الإضافة، فيلزمه إذ ذاك أن يكون مفردًا مذكرًا، سواء أكان لمذكر أو مؤنث، لمفرد، أم مجموع، فتقول: زيدٌ أفضَل من عمرٍو، والزيدان أَفضَلُ من عمرو، والزيدونَ أَفْضَلُ من عمرٍو، وهنٌ أَفضَلُ من دعد، والهندان أَفضَلُ من دعد، والهنداتُ أَفضَلُ من دعد.

ص: 253

قال أبو الفتح في «كتاب القد» له ما مختصره: «إنما كان بلفظٍ واحد مع مِنْ لأنَّ الغرض إنما هو تفضيل كَرَمِ زيدٍ على كَرَمِ عمرو، فهو في المعنى إخبار عن المصدر، فوجب التذكير لغلبته على المصدر، فرُفِض فيه فُعْلَى» انتهى. وهذه علةُ عدم تثنيته /وجمعه.

وقوله وأنْ يَليَه أو معمولَه المفضولُ مثال أن يليه: زيدٌ أَفضَلُ من عمرو، ومثال أن يليه المعمولُ قولُه تعالى (النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم}، وقوله {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله من المؤمنين)} 1، وقال تعالى {قال رب السجن أحب إلى يدعوننى إليه)، وقال الشاعر:

فلأنتَ أَسْمَحُ لِلْعُفاةِ بِسُؤْلِهِمْ

عندَ الشَّصائبِ مِنْ أَبٍ لِبَنينا

وقال:

ما زِلْتُ أَبْسَطَ ــ في غَضِّ الزَّمانِ يَدًا

لِلنَّاسِ بِالخَيرِ ــ مِنْ عَمرٍو ومِنْ هَرِمِ

وقال الراجز:

لأَكْلةٌ مِنْ أَقِطٍ وسَمْنِ

ألْيَنُ مَسَّا في حَوايا البَطْنِ

مِنْ يَثْرَبَّياتٍ قِذاذٍ خُشْنِ

يرمي بِها أَرْمَى مِنِ ابْنِ تِقْنِ

ص: 254

وقال كثِّير:

سَبُعُ الدارِ أَشْجَعُ حينَ يُبلَى

لَدَى الهَجاء مِنْ لَيثٍ بِغابِ

ففي الآيتين الفصل بجارّ ومجرور، وفي البيت الذي يليهما الفصل بجارّين ومجرورين وظرف، وفي البيت الذي يليه بتمييز وجار ومجرور، وفي الذي يليه بظرفين، وكل ذلك معمول لأَفْعَلِ التفضيل.

وقوله وقد يسبقانه مثال ذلك قول ذي الرمة:

ولا عَيبَ فيها غيرَ أنَّ سَريعَها

قَطُوفٌ، وأنْ لا شيءَ منهُنَّ أَكْسَلُ

وقال آخر:

فقالتْ لنا: أَهلاً وسَهْلاً، وَزَوَّدَتْ

جَنَى النَّحلِ أو ما زَوَّدَتْ مِنهُ أَطْيَبُ

وقال آخر:

إذا سايَرَتْ أَسماءُ يومًا ظَعينةً

فأَسماءُ مِن تلكَ الظَّعينِة

أَمْلَحُ

وقال الآخر:

ولولا النُّهى أَنْباتُك اليومَ أنَّنِي

من الطابنِ الطَّبِّ المُجَرِّبِ أَعْلَمُ

وقال الآخر:

ص: 255

فقلتَ لها: لا تَجزَعي، وتَصَبَّري

فقالتْ بِحَقِّ: إنَّني منكَ أَصْبَرُ

فقلتُ لها: واللهِ ما قلتُ باطلاً

وإنِّي بِما قد قُلتِ لي منكِ أَبْصَرُ

ومن علم الكوفيين قال الفراء وأصحابه في إنَّ عبدَ الله لمنكَ أفضَلُ: مستقبَح؛ لأنَّ أفْضَلَ لا يَقوَى على مِن كقوَّة الفعل على المجاز، ومنْ مع أَفْعَلَ موضع المفسِّر الذي موضعه آخر الكلام، فقبُح هذا لإشباهه إنَّ عبدَ الله لَوَجهًا حَسَنٌ. وهذا خَلْفٌ من القول لتقديم المفسِّر الذي موضعه التأخير، وأصله الخفض، وأن يقال فيه: إنَّ عبدَ الله لَحَسَنُ الوجه، فلما أشبهتْ «مِن» ما يأتي مفسَّرًا من النكرات ضعُف مذهب تقديمها، وازداد الكلام اختلالاً /بدخول اللام على ما يشبه حرفًا أصله الخفض والمجيء بعد الخبر.

وقال الفراء: إنَّ عبدَ اللهِ منك لأفضَلُ أَقَلُّ قبحًا من الأول؛ لأنَّ اللام لَمَّا دخلتْ على الخبر حصلتْ في موضعها، وأشبهتْ «مِن» في تقديمها في قيلهم: إنَّ عبدَ اللهِ منك لهاربُ، واستقبحَ: إنَّ منك لأفضلُ عبدَ الله، فإن جُوَّزَتْ على ما فيها من القبح شُبِّهت بإن بالجاريةِ لكفيلاً عبد الله.

وقال الفراء: إنَّ منك عبدَ الله لأفضلُ أَحسَنُ مِنَ التي قبلها لحصول اللام في مكانها المعروف لها.

وقوله ويَلزَم ذلك إن كان المفضولُ اسمَ استفهام مثال ذلك: مِمَّنْ أنتَ خيرٌ؟ ومن أيِّ الناس زيدٌ أفضلُ؟ ومِمَّ قوامُك أَعْدَلُ؟ والإشارة بـ «ذلك» إلى تقدُّم مِن والمفضول على أَفْعَلَ.

وينبغي أن ننبّه على سَبْقه أيضًا ما كان أَفْعَلُ خبرًا له، نحو ما مثًلنا، ونحو: ممَّنْ كان زيدٌ أَفضَلَ؟ ومِمَّنْ ظَنَنتَ زيدًا أَفضَل؟ لئلا يُتَوَهَّمَ أنه يجوز توسُّطهما بين المُخبَر عنه والخبر، فإنه لا يجوز: زيدٌ ممَّن أَفضَلُ؟ ولا: كان زيدٌ ممَّنْ أَفضَلَ؟ ولا: ظَنَنتُ زيدًا مِمَّنْ أَفضَلَ؟

ص: 256

وقوله أو مضافًا إليه مثاله: مِنْ وَجهِ مَنْ وَجهُك أَجْمَلُ؟ ذكر أصلَ هذه المسألة أبو عليّ الفارسيّ في «التذكرة» ، قال المصنف في الشرح:«وهي من المسائل المغفول عنها»

وقوله وقد يُفصل بين أَفْعَلَ ومِن بـ «لو» وما اتَّصل بها لَمَّا ذَكر أنه قد يُفصل بمعمولٍ لأَفعَلِ التفضيل ذَكر أنه قد يُفصَل بغير المعمول له، فذَكر الفصل بـ «لو» وما اتَّصل بها، نحو قوله:

ولَفُوكِ أَطْيَبُ لو بَذلْتِ لنا

مِنْ ماءِ مَوْهَبةٍ على خَمْرِ

المَوْهَبة: غديرُ ماء في صخرة.

وجاء الفصل بالمنادى، قال جرير:

لم يُلْقَ أَخْبَثُ ــ يا فَرَزْدَقُ ــ مِنكُمُ

لَيلاً، وأَخْبَثُ بالنَّهار نَهارَا

وقوله ولا يخلو المقرون بـ «مِن» في غير تهكُّمٍ من مشاركةِ المفضَّل في المعنى يعني أنه إذا قيل سيبويهِ أنْحَى من الكسائيُّ مشارك لسيبويه في النحو وإن كان سيبويه قد زاد عليه في النحو. قال المصنف في الشرح 1: «فيقال: الخبرُ أَغذَى من السَّويق، والعسلُ أَحلَى من التَّمر، ولا يقال: الخبزُ أَغذَى من الماء» . إنما ذلك ــ على زعمه ــ لأنَّ الماء لا يَغذو، فلم يُشارك الماءُ الخبز في ذلك، كما أنَّ الخبز لم يُشارك الماءَ في الريّ، فامتنعت عنده المسألتان. فليس الأمر كذلك، بل يجوز أن تقول: الخبزُ أَغذَى من الماء، والماءُ في لغة العرب يَغذو، قال الشاعر:

ص: 257

كَبِكْرِ مقُاناةِ

البَياضِ بِصُفْرةٍ

غَذَاها

نَميرُ

الماءِ غير الْمُحَلَّلِ

واحتزاز بقوله في غير تهكُّم من قول الراجز:

/لأَكْلةٌ مِن أَقِطٍ وسَمْنِ

أَلْيَنُ مَسَّا في حَوايا البَطْنِ

مِنْ يَثرَبيَّاتٍ قِذاذٍ

خُشْنِ

وقول الشاعر:

الحَزْمُ والقُوَّةُ خَيرٌ مِنَ الـ

ـإدْهانِ والفَكَّةِ والهاعِ

الفَكَّة: الضَّعف، والهاع: الجُبْن.

وزعم بعض العلماء أنه يقال: العسلُ أَحلَى مِنَ الخَلِّ. ووجَّهه المصنف بثلاثة أوجه:

أحدها: أن يكون قائل هذا أراد بالخَلَّ العنبَ، وسمّاه خلَاّ لمآله إليه، كما سُمي خمرًا في قوله تعالى {إنى أرئنى أعصر خمرًا} .

الثاني: أن يكون أَحْلَى من حَلِيَ بالعين: إذا حَسُنَ منظرُه.

الثالث: أن يكون أوقَعَ أَحلَى موقع أَطْيَبَ؛ لأنَّ الخَلَّ يُتأدَّم به، فله من الطَّيب نصيب، لكنه دون طيب العسل.

ص: 258

وقوله أو تقديرِ مشاركتِه يعني بوجهٍ ما، كقولهم في النقيضين: هذا أَحَبُّ إليَّ من هذا، قال تعالى {قال رب السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه)، وفي الشَّرَّينِ: هذا خيرٌ من هذا، وفي الصَّعبَينِ: هذا أَهْوَنُ مِن هذا، قال الراجز:

أَظَلُّ أَرعَى، وأَبِيتُ أَطْحَنُ

الَموتُ مِن بَعضِ الَحياةِ أَهْوَنُ

وفي القبيحين: هذا أحسنُ من هذا، وقال الراجز:

عُجَيِّيزٌ لَطْعاءُ دَرْدَبِيسُ

أَحْسَنُ مِن مَنْظَرِها إبليسُ

والمعنى: أَقَلُّ بُغضًا، وأَقَلُّ شَرَّا، وأَهْوَنُ صُعوبةً، وأَقَلُّ قُبحًا.

وقال بعضهم: الصَّيفُ أَحرُّ مِن الشتاء، ووجِّه ذلك بوجهين:

أحدهما: أن يكون أَحَرُّ من قولهم: حَرَّ القتلُ: إذا اسْتَحَرَّ، أي: اشتَدَّ، فكأنه

قيل: أَشَدُّ اسْتِحْرارًا من الشتاء؛ لأنَّ حروبهم في الصيف كانت أكثر.

والثاني: أنه يُتَحَيَّل لفصل الشتاء باتخاذ ما يقي البرد، والصيف لا يُحتاج فيه إلى ذلك، فحَرُّه أشدُّ من حرِّ الشتاء، أو يُعتبر بذلك حَرّ الأمزجة، فهو في الصيف أَحَرُّ منه في الشتاء.

وقوله وإن كان أَفْعَلُ خبرًا حُذف للعلم به المفضولُ غالبَّا قال تعالى

{أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير} ، {ذلكم أقسط عند الله

ص: 259

وأقوم للشهادة وأَدنى ألا ترتابوا}، {والله أعلم بما وضعت} ، {وما تخفى صدورهم أكبر} ، {والبقيت الصلحت خير عند ربك ثوابا وخير أملا} ، {أى الفريقين خير مقاما} ، {فسيعلمونأُ من هو شر مكانا وأضعف جندا} ،

وهو كثير، وقال الشاعر

فَخَرَتْ بَنو أَسَدٍ بِمَقْتَلِ مالكٍ

صَدَقَتْ بَنو أَسَدٍ، عُتَيبةُ أَفْضَلُ

أي: من الجماعة الذين قُتلوا به. وقال آخر:

إذا ما سُتُورُ البيتِ رْخِينَ لم يَكُنْ

سِراجٌ لنا إلا ووَجهُكِ أَنْوَرُ

وقال آخر: /

وما مَسَّ كَفُّ مِن يدٍ طابَ ريحُها

مِنَ الناس إلا ريحُ كَفِّكَ أَطْيَبُ

وقال آخر (10):

إذا المرءُ عَلْبَى، ثم أصبَحَ جلْدُهُ

كَرَحْضِ غَسيلٍ، فالتَّيمُّنُ أَرْوَحُ

ص: 260

أي: فدَفنُه على اليمين أَرْوَحُ له، وعَلْبَى: شَنِجَ علباؤه.

وإنما قال «حُذف للعلم به» لأنه إن لم يكن المفضول به معلومًا لم يَجز حذفه. وإنما قال «غالبًا» لأنه يجوز التلفظ به مع العلم به، قال تعالى {وإذا رأوا تجرة أو لهوا انفضوا إليهاوتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجرة} .

وشمل قوله «خبرًا» خبر المبتدأ، وخبر كان، وخبر إنَّ وثاني ظننت، فتقول:

كان زيدٌ أفضلَ، فتحذف المفضول للعلم به، قال الشاعر:

سَقيناهُمُ كأسًا سَقَوْنا بِمِثْلِها

ولكنَّهم كانوا على الموتِ أصْبَرَا

يريد: أَصْبَرَ منَّا. وتقول: إنَّ زيدًا أَفضَلُ، قال تعالى {إنما عند الله هو خير لكم}. وتقول: ظننتُ زيدًا أفضلَ، قال تعالى {تجدوه عند الله هو خيرٍا وأعظم أجرا}

وقوله ويَقِلُّ ذلك إن لم يَكُن خبرًا مثاله قولُه تعالى {فإنه يعلم السر وأخفي} ، وقول الشاعر:

أي: دنوتِ أجملَ من البدر وقد خِلناكِ مثلَه، فأجمَل منصوب على الحال، والعامل فيها دنوتِ، وقال:

ص: 261

ليُلْفِكَ

مَنْ

أَرْضاك قِدْمًا أَجَدَّ في

مَراضية، فالَمسبوقُ إنْ زادَ سابقُ

وقال رجل من طِّيئ:

عَمَلاً

زاكِيًا تَوَخَّ

لِكَي تُجْـ

ـزَى

جَزاءً ازْكَى، وتُلْفَى حَمِيدَا

أي: أزكى من العمل الزاكي. وقال:

تَرَوَّحي أجْدَرَ أنْ تَقِيلِي

قال المصنف في الشرح 1: «أي: تَرَوِّحي واتِي مكانًا أَجدَرَ بأن تَقيليه، أي:

بأن تَقيلي فيه، وهذا أغرب من الذي قبله لكثرة الحذف فيه» انتهى.

فإن كان أَفْعَلُ التفضيل في موضع الفاعل أو في موضع اسم إنَّ ففي ذلك خلاف: أجاز البصريون حذق المفضول للعلم به، ومنعه الكوفيون. ومثال ذلك: جاءني أفضلُ، وإنَّ أكبرَ الله. وزعم الرماني أنه لا يجوز الحذف إلا في الخبر، نحو: الله أكبرُ، قال: وأمَّا في الصفة فلا يُحذف، نحو: مررتُ برجلٍ أفضلَ من عمرو.

وقوله ولا تُصاحب مِن إلى آخره مثال الجمع بين الإضافة ومِن للتفضيل

قول الشاعر:

نحنُ بغَرْسِ الوَدِيِّ أعْلَمُنا

مِنَّا بِرَكْضِ الجياد في السَّدَفِ

ص: 262

/يريد: أعْلَمُ مِنَّا. وأُوَّلَ على أنه نوى طرح المضاف إليه، وهذا معنى قول المصنف «غيرِ معتدِّ به» .

ومثال المجيء بـ «من» مع أل قوله:

ولَستَ بالأَكْثَرِ مِنهُم حَصًى

وإنَّما العِزَّةُ لِلكاثِرِ

وأَوِّل علي زيادة «أل» . أو على تعلّقها بأكثرَ محذوفًا دَلّ عليه «الأكثر» ،

التقدير: ولستَ بالأكثرِ أكثرَ منهم حَصًى، كتأويل بعضهم في {وكانوا فيه من الزاهدين} ، وهذا أَولى لجواز تقدُّم الدليل على المحذوف، وهناك تأخَّر. أو على أنَّ مِن للتبيين، كأنه قال: لستَ مِن بينهم بالأكثرِ حَصًى، كقول ابن الزَّبِير الأسديّ:

أعِكْرِم

إنْ كانتْ

بِعَينكَ كُمْنةٌ

فَعندي لِعَينَيكَ الأَمَضُّ مِنَ الكُحْلِ

وإذا كان أفعل التفضيل مصوغًا مما يتعدَّى بـ «مِن» تعدَّى بها مجردًا ومضافًا ومع

أل، قال الكميت:

فَهُمُ الأَقْرَبُونَ مِنْ كُلِّ خَيرٍ

وَهُمُ الأَبْعَدُونَ مِنْ كُلِّ ذامِ

ويُجمع بينها وبين «مِن» الداخلة على المفضول إذا جُرِّد، تقول: زيدٌ أقرَبُ مِن كلِّ خيرٍ مِن عمرٍو. وإذا جُمع بينهما فيجوز تقدُّم «مِن» الداخلةِ على المفضول

ص: 263

على «مِن» الذي يتعدَّى أَفْعَلُ به، فتقول: زيدٌ أَقربُ مِن عمرٍو مِن كلِّ خيرٍ؛ لأنَّ كلَاّ مِن الجارَّين يتعلَّق بأَفْعَلَ. وكذلك لو كان حرف الجر غير «مِن» ، نحو: زيدٌ أَبصَرُ مِن عمرٍو بالنَّحو، وزيدٌ أَضْرَبُ مِن عمرٍو لِزيد، وبه جاء السماع، قال تعالى {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} . فإن اختلف المتعلَّق، نحو: زيدٌ أَضْرَبُ لِعمرٍو مِن خالدٍ لِجعفرٍ، وزيدٌ أَبْصَرُ بالنحو منه بالفقه ــ فالذي يظهر أنه لا يجوز تقديم المجرور الثاني على «مِن» ، فلو قلت: زيدُ أَضْرَبُ لِعمرٍو لجعفرٍ مِن خالد، وزيدٌ أَبْصَرُ بالنحوِ بالفقهِ منه ــ لم يجز. وعلَّة ذلك ــ والله أعلمُ ــ أنَّ أَفْعَلَ التفضيل متضمَّن معنَى شيئين، أحدهما مصدر، فمتى اختلف المتعلُق أدَّى إلى تقدُّم معمول المصدر المتضمَّن عليه، فالمعنى: زيدٌ يزيدُ ضربُه لعمرٍو على ضربِ خالدٍ لجعفر، وكذلك: زيدٌ يزيدُ بَصَرُه بالنحوِ على بَصَرِه بالفقه، وكان القياس يقتضي منع التقديم على أَفْعَلِ التفضيل إذا اتَّحد المتعلُق، نحو: زيدٌ بالفقه أَبْصَرُ من عمرو، إذ التقدير: زيدٌ يزيدُ بَصَرُه بالفقهِ على بَصَرِ عمرٍو به، ولولا أنَّ السماع ورد به لُمنع، قال:

.............................

وإنِّي لِما قد قُلتِ لي منكِ أَبْصَرُ

ص: 264

-[ص: فصل

إن قُرِنَ أَفْعَلُ التفضيلِ بحرفِ التعريف، أو أُضيفَ إلى معرفةٍ مطلقًا له التفضيلُ، أو مؤوَّلاً بما لا تفضيل فيه ــ طابَقَ ما هو له في الإفراد والتذكير وفروعهما، وإن قُيِّدت إضافته بتضمينِ «مِن» جاز أن يُطابِق وأن يُستَعمَل استعمالَ العاري، ولا يتعين الثاني، خلافًا لابن السراج، ولا يكون حينئذ /إلا بعضَ ما أُضيف إليه، وشَذَّ «أظْلَمُهْ» . واستعمالُه عاريًا دون «مِن» مجردًا من معنَى التفضيل مؤوَّلاً باسمِ فاعلٍ أو صفةٍ مشبهةٍ مُطّرِدٌ عند أبي العاس، والأَصَحُّ قصْرُه على السماع، ولزومُ الإفرادِ والتذكيرِ فيما وردَ كذلك أكثرُ من المطابقة.]-

ش: مثال اقترانه بأل ومطابقته ما قبله في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث قولك: زيدٌ الأفضلُ، والزيدان الأفضلان، والزيدون الأفضلون أو الأَفاضِل، وهندٌ الفُضلى، والهندان الفُضْلَيان، والهنداتُ الفُضْلَيات أو الفُضَل. وإنما لزمت المطابقة لأنه نقصَ شَبَهُه بأَفْعَلَ المتعجَّبِ به بكونه قُرن بأل، ولم يُطابق إذا استُعمل بـ «من» لشَبَهه إذ

ذاك لفظًا ومعنًى، فلمَّا دخلت عليه «أل» صار كسائر الأوصاف.

وقسم المصنف ما أُضيف إلى معرفة ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكون جاريًا على مَن أُطلق له التفضيل، فلا يُنوى بعده «مِن» .

والثاني: أن يؤوَّل بما لا تفضيل فيه.

ص: 265

وهذان القسمان يلزم فيهما المطابقة، ولا يلزم أن يكونا بعض المعرفة المضاف إليها هما. مثال القسم الأول: يوسفُ أحسنُ إخوته، أي: حَسَنُهم، أو الأحسنُ من بينهم، فهذا على الإخلاء من معنى «مِن» وإضافته إلى ما ليس بعضًا منه؛ لأنَّ إخوة يوسف لا يندرج فيهم يوسف. ومثال القسم الثاني: زيدٌ أعلمُ المدينة، تريد: عالم المدينة.

وهذان القسمان فيهما خلاف:

أمَّا الأول فمذهب البصريين أنَّ أَفْعَلَ التفضيل متى أضيف إلى معرفة فإنه لا بُدَّ أن يكون بعضَ ما أُضيف إليه، ولا يجوز عندهم: يوسفُ أفضلُ إخوته. وأجاز ذلك الكوفيون؛ لأنه عندهم على معنى «مِن إخوته» ، كما قالوا في زيدٌ أفضلُ القومِ إنه على تقدير «مِن القوم» وأنه لا يتعرف، وقد جاء قوله:

يا خيرَ إخوانِهِ وأَعْطَفَهُمْ

عليهمُ راضِيًا وغَضْبانَا

وقال جماعة ــ منهم الزمخشري ــ: هذا جائز على أنَّ أَفْعَلَ هنا كقولك فاعِل، فيضاف لمجرد التخصيص كقولك: فاضلُ إخوتِه.

وقد أثبتَ أَفْعَلَ صفةً لا للتفضيلِ والاشتراكِ في الصفة أبو العباس، ومنه عنده

«اللهُ أكبرُ» ؛ إذ لا كبير معه، ومنه {وهو أهون عليه} ، وقولُه:

ص: 266

لَعَمْرُكَ ما أَدري، وإنَّي لأَوْجَلُ

.......................................

أي: وَجلٌ.

وبه قال الفراء في قوله {أصحب الجنة يوميذ خير مستقرا} وجعل الزمخشري من هذا: «هو أَشْعَرُ أهلِ جِلدتِه» . وليس منه؛ لأنك تقول: بعضُ أهلِ جِلدته، وتقول: زيدٌ أَفضَلُ جماعِة إخوتِه؛ لأنه واحد من جماعتهم، ولا يكون واحدًا من إخوته. وعلى هذا خرَّج ابنُ طاهر: يا خيرَ إخوانِه، أي: يا خيرَ جماعةِ إخوانِه.

وقال جماعة: خيرٌ وشَرُّ قد يكونان صفتين لا يراد بهما تفضيل ولا اشتراك، فيخرجان من هذا الباب، بخلاف أَخْيَرَ وأَشَرَّ، وعليه الآية.

/وتقول: هندٌ خَيْرةُ النساءِ وشَرَّتُهنَّ، قال تعالى {فيهن خيرات حسان} جمع خَيْرة. وقال أبو العباس في البيت:«ليس بحجة لأنه لغير عربي ولمن لا يُحتَجُّ به؛ لأنه لأبي عبدالرحمن المعني» انتهى. وقد جاء مثل هذا من شعر العرب، قال زِيادة الحارثي:

ص: 267

لَمْ أَرَ قَومًا مِثلَنا خَيرَ قَومِهِمْ

أَقَلَّ

بهِ

مِنَّا

على

قَومِنا

فَخْرا

وأمَّا القسم الثاني ــ وهو أن يُؤَوَّل بما لا تفضيل فيه البتة ويصير كاسم الفاعل أو الصفة المشبهة ــ فهذا شيء ذهب إليه المتأخرون، واستدلُّوا على صحة ذلك بقولِه تعالى {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض} ، وقوله تعالى {وهو أهون عليه} وقولِ الشاعر:

إنَّ الذي سَمَكَ السماءَ بَنَى لنا

بَيتًا، دَعائمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ

وقولِ الآخر:

وإنْ مُدَّتِ

الأَيدي إلى الزادِ لم أَكُنْ

بأَعْجَلِهِمْ؛ إذْ أَجْشَعُ القَومِ أعْجَلُ

قالوا: التقدير: هو عالمٌ بكم؛ إذ لا مشارك لله في علمه بذلك، وهو هَيِّن عليه؛ إذ لا تَفاوُتَ في نسب المقدورات إلى قدرته، ودعائمُه طويلةٌ عزيزة، ولم أكن عَجِلاً، ولم يُرِدْ: لم أكنْ أَكثَرَهم عَجَلةً؛ لأنَّ قَصْد ذلك يستلزم ثبوت العجلة غير الفائقة، وليس غرضه إلا المدح بنفيِ العجلة قليلها وكثيرها. وأنشدوا أيضًا:

لئنْ كُنتَ قد بُلِّغْتَ عنى رِسالةً

لَمُبْلغُكَ الواشي أَغَشُّ وأَكْذَبُ

أي: غاشُّ كاذبٌ، ولا يريد: أَغَشُّ مِنِّي. وقال حسان:

أتَهجُوهُ وليستَ لَهُ بِكُفْءٍ

فَشَرُّكُما لِخَيرِ كُما الفداءُ

ص: 268

أي: فخَبيثُكما لطَيِّبكما. وقال آخر:

قُبحْتُمُ يا آلَ زيدٍ نَفَرَا

أَلأَمَ قَومٍ أَصْغَرًا وأَكْبَرَا

أي: صغيرًا وكبيرًا. وقريب منه قوله:

...................................

وَرِثْنا الغِنَى والْمَجْدَ أَكْبَرَ أَكْبَرَا

وقال الشافعي ــ رضي الله عنه ــ:

تَمَنَّى رِجالٌ أَموتَ، وإنْ أَمُتْ

فتِلكَ سَبيلُ، لَستُ فيها بِأَوْحَدِ

وقال آخر:

.........................

قَسَمًا

إليكَ مَعَ

الصُّدودِ

لأَمْيَلُ

أي: مائل. وقال تعالى {هولاء بنلتى هن أطهر لكم} أي: طاهراتُ، وقال {لا يصلها إلا الأشقى} أي: الشقيّ.

فأَفْعَلُ هذا إذا أُضيف إلى معرفة طابقَ ما قبله في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث كما يُطابق اسمُ الفاعل والصفةُ المشبَّهة؛ ولا يلزم أن يكون بعضَ المعرفة التي أضيف إليها. وهذا الحكم الذي ذكروه من المطابقة وكون /ما يضاف إليه لا يكون هو بعضها تفريع على ثبوت ذلك فيه حالة التنكير؛ وهو شيء

ص: 269

ذهب إليه أبو عبيدة، قال:«يكون أَفْعَلُ بمعنى فَعيل وفاعِل غير موجب تفضيل شيء على شيء» . واستدلَّ بقولِه تعالى {وهو أهون عليه} ، وبقولِ الأحوص:

إنِّي لأَمْنَحُكَ الصُّدُودَ، وإنَّني

قَسَمًا إليكَ مَعَ الصُّدُودِ لأَمْيَلُ

وزَرَى النحويون على أبي عبيدة هذا القول، ولم يسلِّموا له هذا الاختيار،

وقالوا: لا يخلو أَفْعَلُ من التفضيل. وعارضوا حججه بالإبطال، وتأوَّلوا ما استدلَّ به. ذَكر

هذا عن أبي عبيدة والنحويين أبو بكر بن الأنباريّ. فأمَّا ما استدلُّوا به على كون أفْعَلَ

يكون بمعنى فاعِل أو بمعنى الصفة المشبهة فهو محتمل فيه التفضيل.

وقوله وإن قُيَّدَتْ إضافُته بتضمين «مِنْ» جاز أن يُطابق وأن يُستَعمَل استعمالَ العاري قال المصنف في الشرح: «إن أُضيفَ مَنويَّا بعده مِنْ فإنَّ له شبهًا بالعاري الذي حُذفت بعده مِنْ وأُريدَ معناها، فجاز استعماله مطابقًا لِما هو له بمقتضى شبهه بذي الألف واللام، وجاز استعماله غير مطابق بمقتضى شبهه بالعاري، ولا يكون حينئذ إلا بعض ما يضاف إليه، فيقال على الإخلاء مِن معنى مِنْ: يوسفُ أَحسَنُ إخوته» انتهى.

وكونُ إضافته بتضمين «مِنْ» مبنيٌّ على أنَّ إضافته غي محضة، وأنه يُنوي بها الانفصال، وأنَّ أَفْعَلَ أحد ما يضاف إليه ــ هو مذهب ابن السراج والفارسيّ

ص: 270

وسيأتي تقرير ذلك والحجة لهذا المذهب وعلته في باب الإضافة إن شاء الله. وإلى أنَّ الإضافة على معنى «مِن» ذهب الكوفيون.

وقوله ولا يَتَعَيَّنُ الثاني، خلافًا لابن السرَّاج أي: يُستعمل استعمال العاري، فيبقى مفردًا مذكرًا، ولا يطابق ما قبله.

ورُدَّ على ابن السراج بالسماع والقياس، قال تعالى:{ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة ومن الذين أشركوا} ، وقال تعالى:{وكذلك جعلنا في كل قريه أكبر مجرميها} ، فأفرد (أَحْرَصَ)، وجمع (أكابِر)، وفي الحديث (ألا أُخبرُكم بأَحِّبكُم إلي وأَقرَبكُم مِنَّي مَجالسَ يومَ القيامة؟ أَحاسنُكُم أخلاقًا، المُوَطَّؤون أكنافًا، الذين يألَفون ويُؤلَفون)، فأَفردَ «بأَحَبِّكم» و «أَقرَبكم» ، وجمع «أَحاسنكم» .

وأمَّا القياس فشَبَهُه بذي الألف واللام أقوى من شَبَهِه بالعاري من حيثُ اشتراكُهما في أنَّ كلَاّ منهما معرفة؛ فإجراؤه مُجراه في المطابقة أَولى من إجرائه في الإفراد والتذكير مُجرى العاري؛ فإذا لم يُعطَ الاختصاص بجريانه مَجراه فلا أقَلَّ مِن أن يُشارك، وإلا لَزِمَ

ترجيح أضعف الشَّبَهين أو ترجيح أحد المتساويين دون مرجِّح.

وزعم أبو منصور الجواليقي أنَّ الأفصح من الوجهين المطابقة، فردَّ على ثعلب /في قوله:«فاخترنا أَفْصَحَهُنَّ» . وقال: «كان الأولى أن يقول: فاخترنا فُصحاهُنَّ؛ لأنه الأَفصح، كما شَرَطَ في الكتاب» .

ص: 271

وقال ابن الأنباري: «الإفراد والتذكير أَفصَح» . قال: «أغنَى تثنيةُ ما أُضيف إليه وجمعُه وتأنيثُه عن تثنية أَفْعَلَ وجمعِه وتأنيثه» . وقال: «هذا المحكيّ عن العرب» .

ثم قال: «وقد بُني أَفْعَلُ على فاعِل، فُيعطى حكم اللفظ، فُيثَنَّى ويُجمَع ويؤنَّث، فيقال: أَخَواكم أفضَلاكم، وإخوتُكم أفضَلُوكم وأَفاضِلُكم، وهندٌ فُضْلَى قومِها، والهندان فُضْلَيا قومِهما، والهنداتُ فُضْلَياتُ قومِهنَّ، وفُضَلُ قومِهنَّ» .

وفي «البديع» : «الثالث ــ يعني من تقسيم أَفْعَلَ التي للتفضيل ــ أن يكون مضافًا، نحو: زيدُ أفضلُ القومِ، ولا يخلو أن تُضمنه معنى مِن أو لا تُضمنه، فإن تضمنه فلا تُثَنيه ولا تجمعه ولا تؤنثه حملاً على ظهوره، وهذا هو الأكثر الأشهر، ومنه قوله تعالى {ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة} و {وأكثرهم الفسقون} و {أكثرهم لا يومنون} وكقول الشاعر:

وَمَيَّةُ أَحسَنُ الثَّقَلينِ جِيدًا

..................................

وكقوله:

أَلَسْتُمْ خَيرَ مَنْ رَكِبَ الَمطايا

..........................................

وكقوله:

.............................

وهُنَّ ضْعَفُ خَلْقِ للهِ أَرْكانا

وإن لم تُضمنه معنى مِن، وقَصدتَ بهذه الإضافة أنه المعروف بالفضل، كأنك قلت: زيدٌ فاضلُ القومِ ــ فليس داخلاً فيهم، ولا يجب أن يكون مفضَّلاً ولا أنهم

ص: 272

شاركوه في الفضل، بل يكون قد فُضَّل على غيرهم، وعُرف بذلك، فقيل: هو الأفضل، كما تقول: هو الفاضل، ثم نَزعتَ الألف واللام وأَضَفتَه، ويكون معرفة بخلاف الثاني، فلا يجوز أن يجوز أن تصف به النكرة، وحينئذ تُثنِّيه وتجمعه وتؤنِّثه، بخلاف الذي ضُمِّنَ معنى مِن، فإضافته قد جعلته واحدًا من القوم ومشاركًا لهم في الفضل،

وفضلته عليهم بالزيادة فيما اشتركوا فيه، وتصف به النكرة.

وفعْلَى أَفْعَلَ ليست مطردة، ولا تقول منه إلا ما قالوا. وبعضهم يجعله مُطَّردًا. والأول أكثر. ومن هذا النوع قوله

تعالى {أكبر مجرميها} و {إلا الذين هم أراذلنا} .

فإذا قلت: هندٌ أكبرُ بناتك، إن كان على معنى مِنْ لا تكون هند من بناته، كأنك قلت: هندٌ أكبرُ من بناتك. وإن جعلته على معنى غير مِنْ لم يجز أن تقول أَكْبَر، وإنما تقول كُبرى بناتك، أي: إنه الكبيرة منهم» انتهى، وفيه بعض تلخيص.

وقوله ولا يكون حينَئذٍ إلا بعضَ ما أُضيف إليه، وشَذَّ «أَظْلَمي وأَظْلَمُه»

أي: حين تنوي معه مِنْ، وذلك على اختياره أنها على معنى مِنْ، والصحيح أنها ليست على معنى مِنْ على ما يُبَيَّن في باب الإضافة. وقال ابن عصفور: الصحيح عندي أنها ليست أحدَ ما تضاف إليه.

فإن قلت: يدلُّ على ذلك امتناعُ: زيدٌ أفضلُ الحجارة، وجوازُ: الياقوتُ أفضلُ الحجارة.

فالجواب: أنَّ العرب لا تضيفها إلا لِما يصلح أن تكون بعضًا له في غير المفاضلة، فلذلك جاء: زيدٌ أفضلُ القومِ، وامتنع زيدٌ أفضلُ الحجارةِ، ولهذا لا يجوز:

ص: 273

/زيدٌ أفضلُ الرجلين، ولا: زيدٌ أفضلُ الثلاثةِ، وأنت تريد التفضيل؛ لأنه أحد الرجلين وأحد الثلاثة، وإذا كان أحدَ ما يضاف إليه لزِم من ذلك أن تُفضله على نفسه.

وإلى امتناع ذلك ذهب المبرد بدليل ما حكاه النحاس في «صنعة الكُتَّاب»

له أنه منع أن يقال: «هذا الكاتبُ أفضلُ الثلاثةِ» ، قال:«لأنه لا يُفَضَّل على نفسه» .

وقد ذكرنا الخلاف بين البصريين والكوفيين في جواز: يوسفُ أحسنُ إخوتِه. وقولُهم: يوسفُ أحسنُ إخوانِه، ونُصيبٌ أَشعَرُ أهلِ جلدته، وعليُّ أفضلُ أهلِ بيِته، على ما قرروه ــ لا يجوز لأنه ليس بعضًا مما أضيف إليه. وتأوَّله على أنَّ أحْسَنَ بمعنى حَسَن، وأشْعَرَ بمعنى شاعر، وأَفْضَلَ بمعنى فاضل. وأمَّا قول الراجز:

يا رَبَّ مُوسَى، أَظْلَمِني وأَظْلَمُهْ

سَلِّطْ عليهِ مَلَكًا لا َرْحَمُهْ

فهو شاذُّ مِن حيث أضاف إلى ياء المتكلم وضمير الغائب، وكان قياسه أن يقول: أظْلَمُنا.

وقوله واستعمالُه عاريًا دون مِنْ مُجردًا مِن معنى التفضيل قد تقدَّم الكلام على ذلك وانه شيء ذهب إليه المتأخرون.

وقوله مؤوَّلاً باسمِ فاعل مثاله {هو أعلم بكم إذا أنشأكم من الأرض} أي: عالمٌ بكم.

ص: 274

وقوله أو صفةٍ مشبهةٍ مثاله {وهو أهون عليه} أي: هَيِّن عليه؛ إذ لا تفاوت في نسب المعلومات والمقدورات إليه تعالى.

وقوله والأصحُّ قصرُه على السماع إنما كان ذلك عنده لقلَّة ما ورد من ذلك، فلم يجعله قياسًا مطردًا.

وقوله ولزومُ الإفراد والتذكير إلى آخره مثالُ إفراده وتذكيره قولُه تعالى {أصحب الجنة يوميذ خبر مسقرًا وأحسن مقيلا} وقوله تعالى {نحن أعلم بما يستمعون} و {نحن أعلم بما يقولون} .

ومثالُ المطابقة قولُ الشاعر:

إذا غابَ عنكمْ أسْوَدُ العينِ كُنتُمُ

كِرامًا، وأَنتمْ ما أَقامَ ألائمُ

أي: وأنتم ما أقامَ لئامٌ، فأَلائم جمع أَلأَم بمعنى لَئيم.

قال المصنف في الشرح: «فلذلك جمعه، إلا أنَّ تركَ جمعه أجود؛ لأنَّ اللفظ المسقرَّ له حُكم إذا قُصد به غير معناه على سبيل النيابة لا يُغَيَّر حكمُه، ولذا لم يُغيَّر حُكم الاستفهام في مثل: عَلِمتُ أيُّ القوم صديقُك، ولا حكمُ النفي في قوله:

ألا طِعانَ ولا فُرسانَ عادِيةً

.........................................

ص: 275

وإذا صحَّ جمع أَفْعَلَ العاري لتجرده من معنى التفضيل إذا جَرى على جمعٍ جاز أن يؤنَّث إذا جَرى على مؤنث. ويجوز أن يكون من هذا قول حُنَيف الحَناتم في صفات الإبل: سرعى وبُهْيَا وغُزْرَى. وكان الأجود أن يقال: أَسْرَع وأَسْرَع وأَبْهَى وأَغْزَر، إلا أنه لَمَّا لم يَقصد التفضيل جاء بفُعْلَى في موضع فَعيلة، كما جاء قائل ذلك البيت بألائم في موضع لئِام. /وعلى هذا يكون قول ابن هانئ:

كأنَّ صُغْرى وكُبْرَى ...................

..............................

صحيحًا؛ لأنه لم يؤنث أصغَرَ وأكْبَرَ المقصود بهما التفضيل، وإنما أنث أَصْغَرَ

بمعنى صَغير وأَكْبَرَ بمعنى كَبير».

-[ص: ونحو: هو أفضلُ رجلٍ، وهي أفضلُ امرأةٍ، وهما أفضلُ رجلين أو امرأتين، وهم أفضلُ رجال، وهنَّ أفضلُ نسوةٍ ــ معناه ثبوتُ المزيَّة للأوَّل على المتفاضلين واحدًا، أو اثنين اثنين، أو جماعةً جماعةً. وإن كان المضاف إليه مشتقَّا جاز إفرادُه مع كون الأول غيرَ مفرد.]-

ش: إذا أُضيف في التفضيل أَفْعَلُ إلى نكرة بقي أَفْعَلُ مفردًا مذكرًا كحاله إذا كان بِمِنْ، وكان معنى قولك هو أفضلُ رجلٍ: أفضل مِن كلَّ رجلٍ قيسَ فضلُه بفضله، وفي التثنية: أفضل مِن كلَّ رجلين قيسَ فضلُهما بفضلهما، وفي الجمع: أفضل مِن كلَّ رجالِ قيسَ فضلُهم بفضلهم، فحُذف «مِنْ» و «كلّ» ، وأُضيف أَفْعَلُ

ص: 276

إلى ما كان «كلُّ» مضافا إليه. والكلام في المؤنث كهو في المذكر. ولزم إفرادُه وتذكيره لشبهه بالعاري في التنكير وجواز ظهور مِنْ بعدها جارَّةً لـ «كُلّ» .

ولا يجوز أن تكون النكرة المضاف إليها أَفْعَلُ إلا من جنس ما أُسند إليه

أَفْعَلُ، فلا يقال: زيدٌ أفضلُ امرأةٍ.

والمجرور بالإضافة مطابق لِما قبلَ أَفْعَلَ في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث.

وزعم الفراء أنه يجوز أن تؤنَّث أفْعَلُ وتثنَّى إذا أُضيفت إلى نكرة مُدناة من المعرفة بصلة وإيضاح، فتقول: هندٌ فُضْلَى امرأةٍ تقصدنا، ودعدٌ خُورَى امرأةٍ تُلِمُّ بنا، والهندانِ فُضْلَيا امرأتينِ تَزورانِنا.

وأجاز الفراء أيضًا تأنيث المضاف إلى نكرة وتثنية المضاف إليه مع كون كلمه التفضيل خبرًا عن مفرد، فأجاز: هندٌ فُضلَى امرأتين تَزورانِنا، قال: شبَّهوا جاريتُك فُضلَى جاريتين مَلَكُتهما بـ «صاحبُك أكرمُ صاحبَينا» لإدناء الصلة الموصول من المعرفة. ويعنون بالصلة هنا الفعل الواقع صفة، وبالموصول هنا النكرة؛ إذ مِن مذهبهم أنَّ النكرة توصل بالفعل.

وقال أبو بكر بن الأنباري: إذا أُضيف أَفَعَلُ التفضيل إلى نكرة توافق معناه كان كلَّها، فقيل: أبوك أفضلُ عالمٍ، وأخوك أكملُ فارسٍ، وتقديره: أبوك العالمُ الأفضل، وأخوك الفارسُ الأكملُ، فأُضيف أَفْعَلُ إلى ما هوَ في المعنى كما فُعل ذلك في: حبة الخضراءِ، وليلة القَمراء، ومسجد الجامع، وباب الحديدِ.

ولهذا قال هشام والفراء: إذا أُضيف أَفْعَلُ إلى نكرة فهو جميع النكرة، إلا أنه يحتمل في الإضافة إلى النكرة طريقًا آخر يخالف المعنى الذي فسَّرناه، وهو أنه إذا أُضيف إلى نكرة تخالف معناه كانت النكرة حُكمها حُكمُ المميِّز والمفسَّر، تحتمل من النصب والخفض ما يحتمله المميِّز والمفسِّر، فتقول: أخوك أَوسَعُ دارٍ، ودارًا، وأخوك أبسَطُ جاهٍ، وجاهًا. مَن خَفض عمل على إضافة أَفْعَلَ إلى المفسَّر، وإنَّ حكمه الخفض كما يُرى مخفوضًا في: ثلاثةِ / أثوابٍ، ومئةِ دينارٍ، وعشرين دينارًا،

ص: 277

أصله: عشرو دينارٍ، وانتصب الدينار ادخول النون. ومَن نَصب فقال أبوك أَوسَعُ دارًا لزم الدارَ النصبُ حين سدَّت مسدَّ المضاف إليه، ولو ظهرتْ مِن لم يكن في الدار إلا النصب؛ لأنه لا يضاف حرف إلى حرفين مفردين متباينين.

والفرق بين هذا والذي قبله أنَّ المنكور بعد أَفْعَلَ في ذا الباب لا يثنَّى كما لا يثنَّى المفسَّر، وهو في الباب الأول لا يمتنع من التثنية، فمن قال أبوك أَوسَعُ دارًا لا يجوز له أن يقول: أبوك أَوسَعُ دارَين، وأخوك أكبَرُ دارَين، والباب الأول يثنَّى فيه ما بعد أَفعَلَ، فيقال: أَخواك أَكمَلُ فارسَينِ، وعَمَّاك أنبَلُ عالمَينِ.

واتفق النحويون على إبطال الخفض في «أنت أَكرَمُ أبًا من غيرك» للعلة التي ذكرت، فإن لم تذكر «مِنْ» كان الكلام على قسمين: إن نويت «مِن» نصبت الأب، وإن لم تنو خُفض، فكلام العرب: أنت أَكرَمُ أَب، وأبًا، والله أصدَقُ قيلٍ وقيلاً. فإنْ قيلَ «أحْسَنُ قيلاً مِنَ المخلوق» كان محالاً خفضُ القِيل مع ظهور مِن.

والمنكور الذي يضاف أفعَلُ فيه الذي يوافق معنَى أَفْعَلَ ولا يكون جنسًا إذا أُريدَ نصبه كان حالاً للفاعل، فقيل: أبوك أَكمَلُ فارسًا، وأخوك أَكرَمُ إنسانًا، فتنصب فارسًا على الحال، ولا يُنصب إنسان هنا إلا على الحال؛ لأنه وصف الأخ، وما لنصب التفسير هنا وجه؛ إذ كان نعت المحدَّث عنه والتثنية مستعملة فيه، وما يثَّنى المفسر، وما ينبغي أن يغلط في قول العرب «هو أنظفُ ثوبين» غالط؛ لأنَّ ثوبين هنا بمنْزلة ثوب؛ إذ كان أهل الحزم لا يُعرَف لهم إلا لبس ثوبين، فجرى ذلك مجرى: هو أحسنُ نَعلَين، وأنظفُ خُفَّينِ؛ لأنَّ الخُفَّينِ في ذا المعنى كالار المفردة مما لا يُحَدُّ، هو مفسُّر، وما يثَّنى ويُحَدُّ فهو حال، وفي قول العرب كم مِن درهمٍ عندك وامتناعهم من أن يقولوا كم مِن دراهم عندك دلالةٌ على استحقاق المفسَّر التوحيد وما يُشَكُّ في أنَّ الذي تدخل عليه مِن في هذا المكان تمييز. انتهى ما لُخِّصَ من كلام ابن الأنباريّ

ص: 278

وما ذكر من جواز الجر والنصب في النكرة بعد أفعَلَ إذا كانت تخالف ما قبل أفْعَلَ في نحو: أخوك أوسَعُ دارٍ، ودارًا، وأخوك أبسَطُ جاهٍ، وجاهًا، والله أصدَقُ قيل، وقيلا، وذلك إذا لم تُذكَر مِنْ، فإن ذُكِرتْ مِنْ فالنصب لا غير ــ شيء لا نعرفه، ولا يُنقل فيه عن شيوخنا إلا النصب، فلا يجوز في زيدٌ أحسنُ وجهًا ولا أوسعُ دارًا إلا النصب، ولا يجوز في ذلك الجر. وإن كان الاسم يحتمل وجهين،

نحو: زيدٌ أشرفُ أبٍ ــ فيجرّ إن كان زيد هوالأب، وينُصب أن كان المقصود ذكر شرف أبيه؛ لأنَّ أباه ليس إياه.

فروع: للكوفيين

/ ............................

وقوله وإن كان المضافُ إليه مشتقَّا إلى آخره قال المصنف في الشرح: «ولابُدَّ مِن كون المضاف إليه ــ أي: إلى أَفْعَلَ ــ مطابقًا لِما قبلَ المضاف ما لم يكن المضاف إليه مشتقَّا، فيجوز إفراده مع جمعية ما قبل المضاف، ومنه قول تعالى {ولا تكونوا أول كافر / به} ، وقد تضمَّن المطابقةَ والإفراد ما أنشد الفراء من

قول الشاعر:

فإذا هُمُ طَعِمُوا

فَأَلأَمُ

طاعِمٍ

وإذا

هُمُ

جاعُوا

فَشَرُّ

جِياعِ

ص: 279

وإنما جاز الوجهان مع المشتقَّ لأنه وأَفْعَلَ مقدَّران بِمَنْ والفعل، ومَن المعنيُّ بها جمع يجوز في ضميرها الإفراد باعتبار اللفظ والجمع باعتبار المعنى» انتهى.

ويدلَّ قوله مع كون الأول غير مفرد وتعليلُه جواز ذلك أنه يجوز الإفراد والمطابقة إذا كان قبل أَفْعَلَ تثنية، فتقول: الزيدان أَفضَلُ مؤمنٍ، وأفضلُ مؤمنَين.

وقد تُؤُوَّلَ قوله {أول كافر} علي حذف موصوف هو جمع في المعنى: أوَّلَ فريقٍ كافرٍ.

فأمَّا قوله تعالى {ثم رددنه أسفل سفلين} فأتى جمعًا، والذي قبله مفرد ــ فالذي سوَّغ ذلك كون ذلك المفرد أُريدَ به الجنس، فليس مفردًا بالشخص، وهو قوله {لقد خلقنا الإنسن} . والدليل على أنَّ المراد به الجنس كونه استُثني منه، فقيل {إلا الذين امنوا وعملوا الصلحت} . وحسن الجمع هنا على الإفراد لأنه فاصلة، فناسب {أسفل سفلين} قوله قبل {والتين والزيتون وطور سنين} وبعده {فلهم أجر غير ممنون} إلى آخر السورة. وفي قوله {ولا تكونوا أول كاف به} ليس فاصلة، فاختير فيه الإفراد لأنه أخفَّ، ويُغني عن الجمع.

وقال بعض أصحابنا: علَّةُ لزوم التنكير أنَّ أَفْعَلَ بعضُ ما يضاف إليه، فلا بُدَّ أن يكون المضاف إليه أفْعَلُ جمعًا؛ لأنَّ الواحد لا يكون بعضًا لواحد، فلما لزم أن يكون جمعًا، وعلم ذلك من جهة أفْعَلَ ــ اختُصر، فصُيَّرَ المفرد في موضعه لعدم

ص: 280

اللبس، ولم يمكن أن يكون فيه أل لأنه مفرد في معنى جمع، والمفرد إذا كان في موضع جمعًا لا بُدَّ أن يكون نكرة، فإن أتيت بالجمع فلا بُدَّ من أل؛ لأنهم إن آثروا الرجوع إلى الأصل من الجمع لم يكونوا ليرجعوا في بعض ولا يرجعوا في آخر؛ فلا يجوز: أفضلُ رجالٍ. وإنما لم يجز لأنه لا فائدة فيه؛ ألا ترى أنَّ كل شخص لا بُدَّ أن تكون له جماعة مجهولة يفضلها، وهذا غير مستنكَر، وإنما الفائدة في أن تقول:

أفضلُ الرجالِ، تريد الجنس أو جماعةً بأعيانهم.

فأمَّا قوله {ثم رددنه أسفل سفلين} فيتخرج على أن يكون ما أُضيفت إليه أَفْعَلُ محذوفًا، وقامت صفته مقامه، أي: أَسفَلَ قومٍ سافلين، ولا خلاف في أنه يضاف إلى اسم الجمع، فتقول: أفضلُ القوم، وأفضلُ الناس، ويجوز: أفضلُ قوم، وأفضلُ ناسٍ، تريد: أفضلُ القومِ، وأفضلُ الناس. وجاز تنكير هذا ولم يَجز في الجمع لأنَّ القوم ليس من ألفاظ الجموع، وإنما هو من الألفاظ المفردة، فلهم أن يخففوه بترك أل.

-[ص: وأُلحق بـ «أَسْبَقَ» مطلقًا «أَوَّلُ» صفةً، وإن نُيتْ إضافتُه بُني على الضمَّ، ورُبَّما أُعطي مع نِيَّتها ما له مع وجودها، وإن جُرِّدَ عن الوصفيَّة جَرى مَجرى أَفْكَل. وأُلحق «آخَرُ» بـ «أَوَّلَ» غير المجرَّد فيما له مع الإفراد /والتذكير وفروعهما من الأوزان، إلا أنَّ «آخَرَ» يُطابق في التعريف والتنكير ما هو له، ولا تليه «مِنْ» وتاليها، ولا يضاف، بخلاف «أَوَّلَ». وقد تُنَكَرُ «الدُّنيا» و «الجُلّى» لِشَبَهِهِما بالجوامد، وأمَّا «حُسنْى» و «سُءَى» فمصدران.]-

ش: «أوَّلُ» صفة أَفْعَلُ تفضيل، فيُفرد إذا أُضيف إلى نكرة أو استُعمل بِمِنْ،

فتقول: هذا أَوَّلُ رجلٍ وردَ إلينا، قال تعالى {إن أول بيت وضع للناس} ، وتقول:

ص: 281

ما رأيتُه مُذْ أَوَّلَ مِن أمسِ. ويضاف إلى معرفة، كقوله {وأنا أول المومنين} .

وتقول: الأَوَّلانِ والأوَّلون والأَوائل، والأُولى والأُولَيانِ والأُوَل. ويَثبت له جميع أحكام ما ثبت لأَفْعَلِ التفضيل، وإنما هو فرع من أصل أَفْعَلِ التفضيل، وإنما أُفرِد بالذكر لأنه قد يُجَرَّد عن الوصفيَّة، فيصير له حكم آخر.

وقوله وإن نُويتْ إضافُته بني على الضم قال س: «وتقول ابدا بهذا أَوَّلُ» ، يعني فيضمّ، والمعنى: أوَّلَ الأشياء، فُنويت الإضافة، وقُطع عنها، وبُني على الضم كما بُني {من قبل ومن بعد} ، ولا يجوز ذلك في غيره من أَفْعَلِ التفضيل، لا يجوز: ابدا بهذا أَسْبَقُ، تريد: أَسْبَقَ الأشياء.

وحكى الفارسي: ابدا بهذا مِ أَوَّلُ، بالضم ــ وتقدَّم توجيهه ــ وبالفتح، مُنع الصرف للوصف والوزن، وبالجر من غير تنوين على تقدير الإضافة إلى مقدَّرِ الثبوت، كما قال الراجز:

خالَطَ مِنْ سَلْمَى خَياشِيمَ وَفَا

حَذف المضاف إليه، وقَدَّر ثبوته، وترك المضاف على حاله.

وقوله وإنْ جُرِّدَ عن الوصفيَّة جَرى مجرى أَفْكَلٍ يعني أنه اسم لا صفة، فيكون مصروفًا إذ ليس فيه إلا علَّة واحدة، وهي وزن الفعل، فهو كأَفْكَلٍ، وهي الرِّعْدة، فهو مصروف نحو: ما له أولٌ ولا آخِرٌ. وفي محفوظي أنَّ مؤنث هذا أوَّله. إلا أن سُمَّي به فيمتنع الصرف، كما لو سَمَّيتَ بأَفْكَل، وصار فيه علتان:

وزن الفعل، والعلمية، وقال الشاعر:

ص: 282

أُوَمِّلُ أنْ أَعيشَ، وأنَّ يَومِي

بأَوَّلَ، أو بِأَهظءوَنَ، أو جُبَار

فـ «أوَّلَ» هنا علم ليوم الأحد ممنوع الصرف، قال معناه المصنف، ولا يلزم من كون أَوَّلَ علمًا ليوم الأحد أن يكون منقولاً من أَوَّلَ الذي هو وصف ممنوع الصرف.

وفي البسيط: وتقول: لقيتُه أَوَّلَ مِن أمس، فهو على معنى: لقيتُه يومًا أَوَّلَ من أمسِ، فحذف. وأَوَّلُ يكون صفة بمعنى أَفْعَلَ، ويكون اسمًا، كقولك: ما تركَ له أَوَّلاً ولا آخرًا، وظرفًا، نحو: مُذْ عامٌ أَوَّلَ، كأنك قلت: عامًا قبلَ عامنا، فتقول العرب على ما قاله اللحياني: مضى عامُ الأَوَّلِ بما فيه، والعامُ الأَوَّلُ، وعامُ أَوَّلٍ، وعامُ أَوَّلَ بما فيه، وعامٌ أَوَّلٌ، وعامٌ أَوَّلُ، فتضيف العام إلى أَوَّل، فتصرف ولا تصرف، وترفعه على النعت، فتصرف ولا تصرف؛ لأنَّ أول يكون معرفة /ونكرة. ويكون ظرفًا واسمًا، فتقول: ابدا بهذا أَوَّلُ، فتبنيه على الضم، والحمدُلله أَوَّلاً وآخِرًا، يُعرب وُصرف نكرة، وفعلتُ ذلك عامًا أَوَّلَ، وعامَ أَوَّلٍ وأَوَّلَ

وقوله وأُلْحِقَ آخَرُ بأَوَّلَ غيرِ المجرَّد يعني من الوصف، بل أُلحق بِأَوَّل الوصف. ومعنى فيما له مع الإفلااد والتذكير وفروعهما من الأوزان فتقول:

الآخَر والآخران والآخرون والأواخِر، والأُخرَى والأُخْرَيان والأُخْرَيات والأُخَر.

وقوله إلا أنَّ آخَرَ يُطابق في التعريف والتنكير ما هو له يعني أنه إن كان جاريًا على نكرة كان نكرة، أو على معرفة كان معرفة، نحو: مررتُ بزيدٍ ورجلٍ آخَرَ،

ورجلَين آخَرَين، ورجالٍ آخَرِين. وكذلك في التأنيث.

ص: 283

وكان مقتضى جعله من باب أَفْعَلِ التفضيل أن يلازمه في التنكير لفظ الإفراد والتذكير، وألَاّ يؤنث ولا يثنَّى ولا يُجمَع إلا معرَّفًا كما كان أَفْعَلُ التفضيل، فمُنع هذا المقتضى، وكان بذلك معولاً عما هو به أَولى، فلذلك مُنع آخَرُ من الصرف، وأجري مُجرى ثُلاثَ وأخواته.

وقوله ولا تليه مِنْ وتاليها وإنما لم تلها مِنْ وتاليها لأنه لا دلالة فيه على تفضيل بنفسه ولا بتأويل كما صلح في أَوَّلَ أَسْبَقُ، وفي أَلَصَّ أَسْرَقُ، وفي أَقْيَرَ أَمَرُّ.

وقوله ولا يضاف بخلاف أَوَّلَ تقول: أَوَّلُ الفُرسانِ، وأَوَّلُ أصحابِك، ولا يجوز ذلك في آخَرُ رجلٍ، ولا آخَرُ الرجالِ، ولا آخَرُ أصحابِك.

وقوله وقد تُنَكَّرُ الدُّنيا والُجلَّى لشَبَههما بالجوامد الدُّنيا والجُلَّى مؤنَّثا الأَدنَى والأَجَلّ، فحقهما ألا يُنَكَّرا إلا إذا ذُكَّرا، لكنهما كُثر استعمالهما استعمال الأسماء المحضة، فلذلك جاز تنكيرهما، كقولِ الراجز:

في سَعْيِ دُنيا طالما قد مُدَّتِ

وقولِ الآخر:

وإنْ دَعَوتِ

إلى

جُلَّى

ومَكْرُمةٍ

يومًا سَراةَ

كِرامِ

الناسِ فادْعِينا

وقولُه

وأمَّا حُسْنَى

وسُوءَى فمصدران قرئ في الشاذّ {وقولوا للناس حُسْنَى} ، وهو مصدر على فُعْلى كالرُّجْعى، والحُسْنُ والحُسْنَى، والعُذْرُ والعُذْرَى، والسُّوءُ والسُّوءَى ــ من المصادر التي جاءت على فُعْلٍ وفُعْلَى بمعنًى واحد.

ص: 284

-[ص: فصل

لا يَرفَعُ أَفْعَلُ التفضيل في الأعرَفِ ظاهرًا إلا قبلَ مَفضولٍ هُوَ مذكورٍ أو مقدَّرٍ، وبعدَ ضميرٍ مذكورٍ أومقدَّرٍ مفسَّرٍ بعدَ نَفي أو شبهِه يُصاحب أَفْعَل. ولا ينصبُ مفعولا به، وقد يدلُّ على ناصبه، وإن أُوَّلَ بما لا تفضيلَ فيه جازَ على رأيٍ أن ينصِبَه، وتتعلَّقُ به حروفُ الجرَّ على نحوِ تعلُّقِها بأَفْعَلَ المتعجَّبِ به.]-

ش: لأَفْعَل التفضيلِ شَبَهٌ بأَفْعَلَ في التعجب، فلذلك قَصُر عن الصفة المشبهة في الفظ بالتزام لفظ واحد حالة تنكيره، /وفي العمل بكونه لا يعمل رفعًا في اسم ظاهر.

واحترز بقوله في الأعرف مِن لغةٍ ضعيفةٍ يَرفع فيها الظاهرَ، فتقول: مررتُ برجلٍ

أَفضَلَ منه أبوه، أي: زائد عليه في الفضل أبوه، حكاها س وغيره.

وقوله إلا قبلَ مفضولٍ هُو هو مذكورٍ يعني أنه يرفع الظاهر بهذه الشروط التي ذكرها، وذلك عند جميع العرب، والمثال في ذلك: ما رأيتُ رجلاً أَحسَنَ في عينه الكُحلُ منه عينِ زيدٍ، فالكحلُ فاعلٌ بأحسنَ، والمفضول هو الكحل، وهو مذكور بقوله «منه» ، وهو الزائد في الفضل، فهو هو، ولكنه اختلف محلُّه. وقال الشاعر:

ما

عَلِمتُ امرأً أَحَبَّ إليه الْـ

ـبَذْلُ منهُ إليكَ يا بْنَ

سِنانِ

وقال الآخر:

ص: 285

لا قَولَ أَبعَدَ عنه نَفعٌ منه عن

نَهْي

الخَلِيَّ

عن الغَرامِ مُتَيَّمَا

أو مُقَدَّرٍ مثاله: ما رأيتُ كزيدٍ رجلاً أَبغَضَ إليه الشرُّ، التقدير: ما رأيتُ رجلاً أَبعَضَ إليه الشرُّ منه إليه كزيدٍ، فحذف المفضول، وهو: منه، وحذف «إليه» ، للعلم بهما. وقال الشاعر:

مَرَرتُ على وادي السِّباعِ، ولا أَرَى

كَوادي السِّباعِ حينَ يُظْلِمُ وادِيا

أَقَلَّ

بهِ

رَكْبٌ

أَتَوْهُ

تَئيَّة

وأَخْوَفَ، إلا ما وَقَى الله، سارِيا

الأصل: ولا أَرى واديًا أَقَلَّ به رَكبٌ منه بوادي السِّباع، فحُذف المفضول للعلم به، ولم يُقَم مقامه شيء. وقال الآخر:

ما إنْ رأيتُ كعبدِ الله مِن أحدٍ

أَولَى بهِ الحَمدُ في وَجْدٍ وإعْدامِ

وقد يُحذف ما دخلت عليه مِنْ، فتدخل على المحلّ أو على صاحب المحلّ،

مثال ما تدخل على المحلّ: ما رأيتُ رجلاً أَحسَنَ في عينه الكُحلُ مِن عينِ زيدٍ،

التقدير: مِن كُحل عين زيد، حذف كُحلاً، وأَقامَ المضاف إليه مُقامَه. ومن ذلك قولهم:

ما رأيتُ كذبةً أَكثَرَ عليها شاهدٌ مِن كَذبةِ أميرٍ على منبرٍ، التقدير: مِن شُهودِ كَذبِة أميرٍ، فحَذف شهودًا، وأَقام المضاف إليه مُقامه.

ومثال ما تدخل على ذي المحلّ: ما رأيتُ رجلاً أَحسَنَ في عينه الكُحلُ مِن زيدٍ، والتقدير: مِن كُحلِ عينِ زيدٍ، فحَذف مضافين كما حذف في قولهم: لا أَفعَلُ ذلك هُبَيرةَ بنَ سعدٍ، فحذف مضافين، أي: مدةَ مَغيبِ هُبَيرة.

ص: 286

وقال المصنف في الشرح: «وقد يُستَغنَى عن تقدير مضاف في: ما رأيتُ أحدًا أحسنَ في عينه الكحلُ مِن زيدٍ، بأن يقال: إنَّ تقديره: ما رأيتُ رجلاً أحسنَ بالكحلِ مِن زيدٍ. فأدخلوا مِنْ على زيد مع ارتفاع الكحل على حدِّ إدخالها عليه مع جَرِّه لأنَّ المعنى واحد. /وهذا وجه حَسَنٌ لا تَكَلُّفَ فيه، وله نظائر يُلحظ فيها المعنى، ويُرَتَّب الحكم عليه مع تناسي اللفظ. ومن نظائره قوله تعالى {أولم أن الله الذى خلق السموات والأرض ولم يعى بخلقهن بقدر} ، فدخلت الباء على خير أنَّ لتقدُّم {أولم يروا}

وجعلها الكلام بمعنى: أَوَليسَ الذي خلقَ السموات والأرضَ بقادرٍ. وعلى هذا التقرير يقدَّر: ما رأيتُ كَذبةً أَكثَرَ عليها شاهدٌ مِن كَذبةِ أميرٍ على منبرٍ. وكذلك ما أشبه ذلك حيث ما ورد» انتهى.

وينبغي ألا يجوز هذا الوجه الذي أجازه؛ لأنه ليس نظير ما مثَّل به؛ لأنَّ الباء في {بقدر} زائدة؛ لأنه خبر أنَّ، وليس بموضع زيادتها، ولكنه لمَّا انسحب النفي المقدم زيدت، ولا يقاس على زيادتها ما ليس بزائد؛ ألا ترى أنَّ الباء في تقدير ما رأيتُ رجلاً أَحسَنَ بالكحلِ ليست بزائدة، وهذا التقدير تركيب آخر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، أمَّا من حيث اللفظ فظاهر، وأمَّا من حيث المعنى فلأنه في قولك ما رأيتُ رجلاً أحسَنَ في عينه الكحلُ مِن زيدٍ المحكومُ عليه بالأَحسَنيَّة هو الكحل باعتبار محلَّيه، وأمَّا في التقدير فالمحكوم عليه بالأحسَنيَّة هو الرجل إذا حَسُنَ مسندًا إلى ضميره، وبالكحل فضله تُبين مِن أيِّ جهة حَسُنَ. ويحتمل أن تتعلق الباء بأحسن، وتكون الباء سببيَّة. ويحتمل أن تكون للحال، فوضح قُبح هذا الوجه الذي ذكره المصنف لا حُسنه.

ص: 287

وقوله وبعدَ ضميرٍ مذكورٍ أي: مذكورٍ بين أَفْعَلَ والظاهر المرفوع، وهو عائد على الموصوف بأَفعَلَ كما تقدَّم في المُثُل المذكورة، كقوله: أَحَبَّ إليه البَذلُ،

وقوله: أَبعَدَ عنه نفعٌ، وقوله: أَحسَنَ في عينه الكحلُ، وقوله: أَكثَرَ عليها شاهدٌ،

وقوله: أَبغَضَ إليه الشرُّ، وقوله: أقَلَّ به رَكبٌ، وقوله: أَولَى به الحمدُ.

وقوله أو مقدَّرٍ يعني أنه يجوز أن يُحذف الضمير إذا كان معلومًا، ومِن المسموع في ذلك قولُ بعضهم: ما رأيتُ قومًا أشْبَهَ بعضٌ ببعضٍ مِن قومِك، قدَّره المصنف في الشرح بقوله:«ما رأيتُ قومًا أَبْيَنَ فيهم شَبَهُ بعضٍ مِن شَبَهِ بعضِ قومِك ببعضٍ، ثم كمل الاختصار لوضوح المعنى» انتهى.

وعلى التقدير الذي تقدَّ ذكره يكون التقدير: ما رأيتُ قومًا أَبْيَنَ فيهم شَبَهُ بعضٍ ببعضٍ منه في قومِك، ثم حُذف الضمير الذي هو «من» العائد على شَبَه، وأُدخلت مِنْ على شَبَه، فصار التقدير: مِن شَبَه بعضِ قومِك ببعض، ثم حُذف «شَبَهٌ» و «بعض» ، وأُدخلت «مِنْ» على «قومك» ، وحُذف متعلَّق شَبَهٍ ــ وهو ببعض ــ كحذف ما تعلَّق به، فبقي: مِن قومِك، وهو على تقدير حذف اسمين.

وقال المصنف في الشرح 2: «ومَن قَدَّرَ (ما رأيتُ رجلاً أَحسَنَ في عينه الكحلُ مِن زيدٍ) بـ (ما رأيتُ أحدًا أحسنَ بالكحلِ مِن زيدٍ) يُقَدِّر هذا: رأيتُ قومًا أَشَدَّ تَشابُهًا مِن قومِك» انتهى. وقد تقدَّم لنا أنَّ هذا التقدير لا يسوغ لمخالفته في التركيب والمعنى.

وقوله مفسَّرٍ بعدَ نَفي أو شبهِه يُصاحب أَفْعَلَ أي: مفسَّر ذلك الضمير /المذكور أو المقدَّر يصاحب أَفْعَلَ، أي: المرفوع بأَفْعَلَ، وهو الكحل، فالضمير في «عينه» عائد على الموصوف، والضمير في «منه» عائد على الكحل.

ص: 288

قال المصنف في الشرح: «والسبب في رفع أَفْعَلِ التفضيلِ الظاهرَ في هذه الأمثلة ونحوها تَهَيُّؤه بالقرائن التي قارنَتْه لمعاقبةِ الفعلِ إيَّاه على وجهٍ لا يكون بدونها؛ ألا ترى أنَّ قولك: ما رأيتُ أحدًا أحسنَ في عينه الكحلُ منه في عين زيدٍ، لو قلت بدله: ما رأيتُ أحدًا يَحسُن في عينه الكحلُ كحُسِنِه في عينِ زيدٍ ــ لكان المعنى واحدًا، بخلاف قولك في الإثبات: رأيتُ رجلاً أَحسَنَ في عينه الكحلُ منه في عينِ زيدٍ، فإنَّ إيقاع الفعل فيه موقع أَفْعَلَ يغيِّر المعنى» انتهى.

وهذه خطابة، وليس معنى أَحْسَنَ يَحسُنُ، بل معناه: يَزيد حُسنُ الكحلِ في عينه على حُسنه في عين زيد، وعلى تقديره بـ «يَحسُن» لا يغيّر المعنى إلا من حيث إنَّ الإيجاب يغاير النفي، ولو جاء ذلك في الإثبات لكان صحيح المعنى، والتقدير:

رأيتُ رجلاً يَحسُن الكحلُ في عينه كحسنه في عينِ زيد، وهذا معنَّى صحيح لا ينكره عاقل.

وقال المصنف في الشرح: «فكان رفع أَفْعَلَ للظاهر لوقوعه موقعًا صالحًا للفعل على وجه لا يغيِّر المعنى بمنْزلة إعمال اسم الفاعل الماضي معنًى إذا وُصل بالألف واللام؛ فإنه كان ممنوع العمل لعدم شبهه بالفعل الذي في معناه، فلمَّا وقع صلة قُدِّر بفعل وفاعل ليكون جملة؛ فإنَّ المفرد لا يُوصَل به موصول، فانجبرَ بوقوعه موقع الفعل ما كان فائتًا من الشبه، فأُعطي العمل بعد أن مُنعه، فكذلك أَفْعَلُ الواقع المشار إليه، حدث له بالقرائن التي قارنته فيه معاقبتُه للفعل على وجه لم يكن بدونها، فرفعَ الفاعلَ الظاهر بعد أن كان لا يرفعه.

وأيضًا فإنه حدثَ له في الموقع المشار إليه معنًى زائدٌ على التفضيل، وذلك أنك إذا قلت: ما الكحلُ في عين زيد أحسن منه في عين عمرو، لم يكن فيه تعرض

ص: 289

لنفي المساواة، وإنما تعرض فيه لنفي المزية، بخلاف قولك: ما رأيتُ أحدًا أحسنَ في عينه الكحلُ منه في عين زيد، فإنَّ المقصود منه نفي المساواة ونفي المزية، ولهذا قدره سيبويه بما رأيتُ أحدًا يَعمل في عينه الكحلُ كعمله في عين زيد، فكان لأَفعَلَ في هذا الموضع ما للصفة المشبهة من تناول المساواة والمزية، فاستحقَّ بذلك التفضيل على أَفعَلَ المقصور على المزية، ففُضِّل برفعه الظاهر» انتهى.

وهو كلام فيه تكثير لا طائل تحته، ودعوى أنَّ قولك ما رأيتُ أحدًا أحسنَ في عينه الكحلُ منه في عينِ زيدٍ قُصد به نفي المساواة ونفي الزية لا دليل على ذلك؛ بل لا فرق بين قولك «ما رأيتُ أحدًا الكحلُ في عينه أحسنُ منه في عينِ زيد» وبين المثال السابق، كلاهما فيه نفي المزية لا نفي المساواة، وأَفْعَلُ التفضيل /سواٌء أَرَفَعتِ المضمرَ إنما تدلُّ على الزيادة في ذلك الوصف، فإن كان الكلام مثبتًا كانت تلك الزيادة ثابتة، وإن كان نفيًا كانت تلك الزيادة منفيَّة، ولا يدلُّ انتفاء تلك الزيادة على انتفاء المساواة بوجه.

وأمَّا قول المصنف «ولهذا قدَّره سيبويه إلى آخره» فليس على ما فهمه، وإنما أراد س أن يبيِّن أنَّ رفع الكحل بأَحسنَ هو على طريق الفاعلية، وأنه جرى في ذلك مجرى الفعل، فكما رفع الفعلُ الظاهرَ كذلك رفعه هنا أَفعَلُ التفضيل، وأمَّا أن يريد بذلك أنه انتفت المزية والمساواة فلا.

وأمَّا قوله «فكان لأَفْعَلَ في هذا الموضعِ ما للصفة المشبهة من تناول المساواة والمزية، فاستحق بذلك التفضيل على أَفعَلَ المقصورِ على المزية، ففُضِّل برفعه الظاهر» ــ فلا أدري كيف كان للصفة المشبهة تناول المساواة والمزية.

وقال المصنف في الشرح: «وأيضًا فإنَّ قاصد المعنى المفهوم من ما رأيتُ أحدًا أحسنَ في عينه الكحلُ منه في عينِ زيدٍ إمَّا أن يجعل أفعلَ صفة لِما قبلها رافعة

ص: 290

لِما بعدها، وإمَّا أن يجعله خبرًا للكحل. فهذا الوجه ممتنع بإجماع العرب لا ستلزامه الفصل بالمبتدأ بين أَفعَلَ و «مِنْ» مع كونهما بمنْزلة المضاف والمضاف إليه. والوجه الآخر لم يُجمع العرب على منعه، بل هو جائز عند بعضهم، فلما أَلجأت الحاجة إليه اتُّفق عليه» انتهى.

وقوله «مع كونهما بمنْزلة المضاف والمضاف إليه» ليس بصحيح؛ ألا ترى إلى جواز بينهما بالتمييو، والظرف، والمجرور، ولو ومتعلقها، وغير ذلك، وإلى جواز تقديم مِن ومجرورها على أَفعَلَ في موضع وجوبًا، وكل هذا دليل على أنهما ليسا كالمضاف والمضاف إليه.

وقال المصنف في الشرح أيضًا: «فإن قيل: لا نسَلِّم الالتجاء إليه لإمكان أن يقال: ما رأيتُ أحدًا الكحلُ أَحسَنُ في عينه منه في عينِ زيد.

فالجواب: أنَّ إمكان هذا اللفظ مسلَّم، ولكن ليس بمساَّم إفادته ما يفيده اللفظ الآخر من اقتضاء المزية والمساواة معًا، وإنما مقتضى ما رأيتُ أحدًا الكحلُ أَحَسنُ في عينه منه في عينِ زيد نفيُ رؤيةِ الزائدِ حُسنُه لا نفيُ رؤية المساوي، وإذا لك يُتَوَصَّل إلى ذلك المعنى إلا بالترتيب المنصوص عليه صحَّ القول بالالتجاء إليه» انتهى.

وقد بينَّا أنَّ ذلك دعوى لا تصح البتة، ولا فرق بين تقدُّم الوصف ورفع الاسم به، أو تأخُّره وجعله خبرًا للاسم؛ ألا ترى أنه لا فرق بين ما رأيتُ رجلاً قائمًا أبوه، ولا بين: ما

رأيتُ رجلاً أبوه قائمٌ.

وفي «الإفصاح» : لو رفعت أَحْسَنَ هنا فإمَّا بالابتداء، وخبره الكحل، أو تعكس، و «في عينه» و «منه في عين زيد» كله في صلة أَحسَنَ متعلَّق به، /فيفرق بينه

ص: 291

وبينها بـ «الكحل» الذي هو مبتدأ أو خبر. وسبيله أن يكون مؤخَّرًا عن الجميع أو مقدَّما، فإنْ أخَّرته فالهاء في (منه) للكحل، وقد قدَّمته على الكحل، ولا يجوز إن كان خبرًا لتقدُّمه لفظًا ومعنى، ويجوز إن كان مبتدأ، ويمتنع للفصل بين (أَحسَنَ) وبين (في عين)، فلمَّا كان رفع (أَحسَنَ) مع التقديم يؤدي إلى ما لا يجوز امتنع، ولزم حمله على الصفة، ولهذا قال جماعة من النحويين: إنَّ الإتباع هنا للموصوف ضروريّ ورفع الكحل به. فإن أرادوا ذلك والمسألةُ على ما هي عليه فصحيح، وإن أطلقوا فباطل، لا يمتنع تأخير الكحل مبتدأ وأَحسَنُ خبره، فتقول: أَحسَنُ منه في عينِ زيدٍ الكحلُ، كأنك قلت: برجلٍ الكحلُ أَحسَنُ في عينه منه في عينِ زيدٍ، فلم تَفصل هنا، ولم تقدَّم ضميرًا على متأخر في اللفظ والتقدير، وقد ذكر هذا أبو العباس. وإنما منعها س على جهة الابتداء والخبر على ما هي عليه كما سمعها من العرب.

وفي «البسيط» : أصل هذه المسألة أنَّ التفضيل إن كان للشيء الواحد على نفسه فيكون باختلاف صفاته وأحواله؛ والصفات تكون أحوالاً وغير أحوال، وبالجملة فيؤخذ من حيث هو فاضلٌ بأمر لا يؤخذ به من حيث هو مفضول، وذلك إمَّا بزمان أو مكان أو حال أو شرط، فتقول: الصومُ في أيام ذي الحجَّة أَحَبُّ إلى الله منه في شَوَّال، وزيدٌ في داره أَحسَنُ منه في السوق، ومثله: الكحلُ في عينِ زيدٍ أَحسَنُ منه في عينِ عمرٍو، وهي أصل المسألة، ويجوز: الكحلُ في عينِ عمرٍو أحسَنُ منه الكحلُ في عينِ زيدٍ، وكلُّ ذلك لا مانع فيه من الابتداء والخبر. ويجوز في أصل المسألة: زيدٌ الكحلُ في عينه أَحسَنُ منه في عينِ عمرٍو، وكان أيضًا على الابتداء. فإذا قلت: زيدٌ أَحسَنُ في عينه الكحلُ منه في عينِ عمرٍو، امتنع هنا

ص: 292

الرفع بالابتداء، فكذلك لو قلت أولاً: عمرٌو أَحسَنُ في عينه الكحلُ من عينِ زيدٍ، لم يَجز لِما نذكره، لكنه ينقلب المعنى، ولا يجزي على أصله إلا في النفي على ما نذكره؛ لأنَّ أَحْسَنَ لا يخلو إمَّا أن يكون خبرًا أو مبتدأ، فإن كان مبتدأً فصَلتَ بينه وبين ما هو صلته ــ وهو مِنْ ــ بأجنبي، وهو الكحل، ولو قدّمت مِنْ لعاد الضمير على الكحل، وهو متأخر لفظًا ومعنًى، ولا يجوز. وإن كان خبرًا فكذلك يوجد الفصل، فلزم رفعه بأحسَن حتى يكون من الصلة، وصار بمنْزلة الحال من النكرة إذا تقدَّمت، لم يجز غيره؛ لأنه لا يتأتى فيه الأصل، فكذلك الاستثناء المقدَّم في النفي إذا قلت: ما قام إلا زيًدا أحدٌ؛ لأنه لا يتأتى الأصل، كذلك هذا لَمَّا لم يُمكن القطع ــ وهو الأصل ــ ارتفع بالأول مع جواز ذلك في الأصل، وهذا ظاهر كلام النحويين.

وقوله بعدَ نفيٍ أو شِبْهِه النفي تقدَّم التمثيل به في الصور السابقة، وشِبهُ النفي هو النهي والاستفهام. قال المصنف في الشرح:«ولم يَرد هذا الكلام المتضمن ارتفاع الظاهر بأَفْعَلِ التفضيل /إلا بعد نفي، ولا بأس باستعماله بعد نهي أو استفهام فيه معنى النفي، كقولك: لا يَكُنْ غيرُك أَحَبَّ إليه الخيرُ منه إليك، وهل في الناس رجلٌ أَحَقُّ به الحمدُ منه بِمُحسِن لا يَمُنّ» انتهى.

وإذا كان لم يرد هذا الاستعمال إلا بعد نفي وجب اتِّباع السماع فيه والاقتصار على ما قالته العرب؛ ولا يقاس عليه النهي ولا الاستفهام الذي يراد به النفي، لا سيما ورفعه الظاهرَ إنما جاء في لغة شاذَّة، فينبغي أن يُقتصر في ذلك على مورد السماع، على أنَّ إلحاقهما بالنفي ظاهر في القياس، ولكن الأَولَى اتَّباع السماع.

ص: 293

وقوله ولا يَنصب مفعولاً به يعني أنه إذا كان مشتقَّا من مصدرٍ يتعدَّى فعلُه إلى مفعول به فإنه لا يَنصب المفعول به، بل يتعَدَّى إليه باللام إن كان الفعل يتعدَّى إلى واحد، تقول: زيدٌ أَبْذَلُ للمعروف، فإن كان الفعل يُفهم جهلاً أو علمًا تعدَّى بالباء، نحو: زيدٌ أَعْرَفُ بالنحوِ وأَجْهَلُ بالفقِه. وإن كان مبنيَّا مِن فِعل المفعول تعدَّى بإلى إلى الفاعل معنًى، نحو: زيدٌ أَحَبُّ إلى عمرٍو مِن خالدٍ، وأَبْغَضُ إلى بكرٍ من عبدِ الله، وب «في» إلي المفعول، نحو: زيدٌ أَحَبُّ في من خالدٍ، وأبْغَضُ في عمرٍو مِن جعفرٍ.

وقوله وقد يَدُلُّ على ناصبه مثاله قولُ الشاعر:

فلم أَرَ مِثْلَ

الحَيِّ

مُصَبَّحًا

ولا مِثْلَنا

يومَ

الْتَقَينا

فَوارِسا

أَكَرَّ وأَحْمَى لِلحَقيقةِ

منهمُ

وأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيوفِ، القَوانِسا

وقولُ الآخر:

فما ظَفِرَتْ نَفسُ امرئٍ يَبتَغي المُنَى

بأَبْذَلَ مِن يحيى، جَزيلَ المَواهِبِ

أي: نَضربُ القَوانس، ويَبذلُ جَزيلَ المواهب.

قال المصنف في الشرح: «ومنه قوله تعالى {الله أعلم حيث يجعل رسالته}

، فـ (حيث) هنا ليس بظرف، وإنما هو مفعول به، وناصبُه فعلٌ مدلولٌ عليه بـ (أعْلَم)، والتقدير: الله أَعلَمُ يَعلَمُ مكانَ جعلِ رسالتِه» انتهى.

ص: 294

وقد خرَّجناه نحن في كتابنا في التفسير المسمى بـ «البحر المحيط» على أن تكون حيثُ باقية على بابها من الظرفية؛ لأنَّ حيثُ من الظروف التي لم يُتَصَرَّف فيه بابتدائيَّة ولا فاعليَّة ولا مفعوليَّة، فَنصبُها على المفعولَّية بفعلٍ محذوفٍ مُخْرِجٌ لها عن بابها، والتخريجُ الذي خرَّجناه عليه هو.

/وقال المصنف في الشرح: «وإنْ كان من متعدِّ إلى اثنين عُدِّي إلى أحدهما باللام، وأُضمر ناصب للثاني، كقولك: هو أَكْسَى للفقراءِ الثيابَ، أي: يَكسوهم الثيابَ» انتهى. وينبغي ألا يقال هذا التركيب إلا إن كان مسموعًا من لسانهم.

وقوله وإنْ اوِّلَ بما تَفضيلَ فيه جاز على رأي أن ينصبه هذا الرأي ضعيف؛ لأنه وإنْ أُوِّلَ بما لا تفضيل فيه فلا يلزم منه تَعَدِّيه كتَعَدِّيه، والتراكيبُ خصوصيات؛ ألا ترى أنَّ فَعُولاً وأخواتها تعمل، وفَعِيل لا يعمل، نحو شَرِيب وطَبيخ، لا يقال: هذا شَرِيبٌ الماءَ، ولا: طَبِيخٌ الطعامَ، وإن كان يقال: هذا شَرَّابٌ الماء، وطَبَّاخٌ الطعامَ.

وقوله وتتعلق به حروف الجر إلى آخره قال المصنف في الشرح:

«فيقال: زيدٌ أَرغَبُ في الخير مِن عمرٍو، وعمرٌو أَجَمعُ للمال مِن زيدٍ، ومحمدٌ أَرْأَفُ بنا مِن غيره» انتهى. وليس قوله «وعمرٌو أَجمَعُ للمال مِن زيدٍ» من هذا الفصل، بل

ص: 295

من باب ما يتعدَّى الفعل فيه إلى مفعول به، فتقول: جَمَعَ زيدٌ المالَ، فـ «أَجْمَعُ للمالِ» من فصل: أَضْرَبُ لزيدٍ، وأَشْرَبُ لِلماءِ.

ص: 296