المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب التعجب - التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل - جـ ١٠

[أبو حيان الأندلسي]

الفصل: ‌ باب التعجب

/ص:‌

‌ باب التعجب

يُنصَب المتعجَّب منه مفعولاً بموازن «أفْعَلَ» فعلاً لا اسمًا، خلافًا للكوفيين غير الكسائي، مُخْبَرًا به عن «ما» بمعنَى شيءٍ لا استفهامية، خلافًا لبعضهم، ولا موصولة، خلافًا للأخفش في أحد قوليه.

ش: التعجب لغوي واصطلاحي: فاللغوي هو التأثير الحاصل للنفس عند الاستطلاع على أمر خارج عن المعهود للمتأثر، فـ «التأثر» جنس إذ هو من قبيل الانفعالات كالفرح والغضب والحزن، فتقول: عَجِبَ وحَزِنَ وغَضِبَ، ولذلك لا يجوز من الله تعالى لعلمه بجميع الأمور، فلا يتأثر بشيْ لأنه قديم، لا يقبل الحوادث، وسيأتي الكلام فيما جاء من ذلك وتأويله إن شاء الله. و «الحاصل للنفس» فصل يَخرج به الحاصل للجسم كالاضطراب ونحو. و «عند الاستطلاع» فصل يَخرج به ما يكون عند غيره من وقوع ما يسرّ، فيحصل الفرح أو ضده، فيقع الحزن. و «على أمر خارج عن المعهود» لأنه إن لم يكن كذلك لم يوقع الانتقال لحصول العلم به قبل ذلك في الجملة، ولذلك لا يكون التعجب من الله؛ لأنه معلوم أنه لا يتناهى جلاله، ولا يدخل تحت حصر العقول جماله، وسيأتي ما ورد من ذلك في حقه تعالى وتأويله إن شاء الله. و «المعهود» أعمُّ من أن يكون

له نظير، فتأثَّر استعظامي يقتضي تفضيله على نظيره بزيادة زادها عليه بعد حصول المشاركة، أو لا يكون له نظير؛ لأنه قد يوجد كذلك، والنظير: المِثل، فيكون ذلك مخترعًا بالنسبة للذي تعجب منه، وستأتي شروط الوصف الذي يُتَعَجَّب منه.

ص: 175

والاصطلاحي: هو التعجب الاستعظامي بتغيير الفعل الدال على المتعجَّب

منه إلى صيغة أخرى قصدًا للتعجب لفظًا أو تقديرًا، فـ «التعجب» جنس، وهو نوع من اللغوي. و «استعظامي بتغيير إلى آخره» احتراز من اللفظ الذي وضع للتعجب من حيث هو تعجب، نخو عَجِبَ وتَعَجَّبَ، فإذا أرادوا ما يتعلق به عَدَّوه بـ «مِن» ، نحو: عَجبت من زيد، وتعجَّبت منه. واحتراز أيضًا من التعجب الذي ضُمَّنَه الكلام معنًى وإن لم يكن في أصل الوضع له، فكلا هذين ليس بتغيير للفعل إلى صيغة أخرى، وهذا الأخير لم يُبَوَّب له باب في النحو، والتعجب فيه بعُرف أو بقرينة، وذلك ألفاظ كثيرة، منها: سُبحان الله! ولا إله إلا الله! وسُبحانَ الله من هو! ومررتُ برجلٍ أيِّما رجلٍ! وزيدٌ ما زيدٌ! ومنه {القارعة 1 ما القارعةـ} {الحاقة ما الحاقة} ، ووَيْلُمَّه رَجُلاً! ولِلِه دَرُّه فارسًا! وحَسبُك به فارسًا! وكفاك بزيدٍ رجلاٍ! وسُبحانَ الله رجلاً، ولك أن تُدخل «مِن» في هذه الأربعة، والعظمةُ لِلِهِ مِن رَبَّ! وحَسبُك بزيد فارسًا! ويجوز حذف الباء، فترفع زيدًا. ولِلِه دَرُّه! واعْجَبُوا لزيدٍ رجلاً، ومن رجلٍ! وكاليومِ رجلاً! وكالليلةِ قمرًا! وكَرَمًا وصَلَفًا! ويا لِلماءِ! ويا لِلدَّواهي! ويا حُسْنَه رجلاً! ويا طيبَها مِن ليلة! ويا لكَ فارسًا! وإنك مِن رجلٍ لَعالمُ! وما أنتَ من رجلٍ! ولا يجوز حذف «مِن» في قولك: إنكَ مِن رجلٍ /لَعالُم! فأمَّا «ما أنتَ من رجلٍ» فقيل: لا تُحذف، وأمَّا «ما أنت من رجل» فقد خَرَّجوا:

..........................

يا جارَتا، ما أنتِ جارَهْ

ص: 176

على أنَّ «جارة» تمييز، ويجوز: ما أنتِ مِن جارة. ولِلِه أنتَ! وواهًا له! ولِلِه لا يُؤخَّرُ الأجل! و «وا» في أسماء الأفعال، وأيُّ رجلٍ زيدٌ! و (كيف تكفرون بالله}! و (لأي يوم أجلت}! و {عم يتساءلون}! و:

......................... ....

لا كَلعَشِيَّة زائرًا ومَزُورَا

وقد رسم النحويون التعجب برسوم: فقال ابن طلحة في كتاب «الدلالة» : التعجبُ إفراطُ التعظيم لصفةِ المتعجَّب منه. وقال غيره: «التعجبُ تغييرٌ يَلحق النفس لِما خفي فيه السبب مما لم تَجرِ به عادة» . وقال ابن عصفور: «التعجب استعظامُ زيادة في وصف الفاعل، خَفي سببها، وخرج بها المتعجَّب منه عن نظائره، أو قَلَّ نظيره» وقال غيره: «التعجبُ استعظامُ فعلِ فاعلٍ ظاهرِ الَمزِيَّة» .

وقوله يُنصب المتعجَّب منه مفعولاً بموازن أَفْعَلَ هذا مذهب س والبصريين أنَّ نصب الاسم في: ما أَظْرَفَ زيدًا! هو على المفعول به.

وزعم الفراء ومن وافقه من الكوفيين أنَّ نصبه هو على حدِّ ما انتصب في قولهم: زيدٌ كريمُ الأبَ، فأصله: زيدٌ أظرَفُ مِن غيره، إلا أنهم أتو بـ «ما» ، فقالوا: ما أظرَفُ زيد؟ على سبيل الاستفهام، ونقلوا الصفة من زيدٍ، وأسندوها إلى ضمير «ما» ، وانتصب زيد بـ «أظرَفَ» فرقًا بين الخبر والاستفهام. والفتحة في «أَفْعَلَ» فتحة

ص: 177

إعراب، وهو خبر عن «ما» ، وإنما انتصب لكونه خلاف المبتدأ الذي هو «ما» ؛ إذ هو في الحقيقة حبرٌ عن زيد، وإنما أتي بـ «ما» ليعود عليها الضمير، والخبر إذا كان خلاف المبتدأ كان منتصبًا بالخلاف على رأي الكوفيين في: زيدٌ خلفَك.

قال السيرافي: «وهذا قول لا دليل عليه، ويُفسده أنه نصب أحسنَ وهو اسم في موضع خبر المبتدأ، والتفريق بين المعاني لا يُحيل الإعراب عن وجهه» .

وزعم بعض الكوفيين أنَّ «أَفْعَلَ» مبنيّ وإن كان اسمًا؛ لأنه تضمَّن معنى التعجب، وأصله أن يكون للحرف.

ورُدَّ هذا بأن التضمُّن إنما يكون للموجود لا للمعدوم، ولا حرف يدل على التعجب فيتضمنه الاسم.

وقوله فِعلاً لا اسمًا خلافًا للكوفيين غير الكسائي يعني أنَّ أَفْعِلَ في التعجب هو فعل عند البصريين والكسائي، والهمزة فيه للنقل. وهو اسم عند الكوفيين غير الكسائي. ونقل بعض أصحابنا أنه اسم عند الكوفيين، ولم يستثن منهم الكسائي، فلعلَّ له قولين.

واستدلُّوا على فعليته بكونه مبنيَّا على الفتح، وبنصبه المفعول به الصريح، وليس من قبيل الأسماء التي تنصب المفعول به، وبلزوم نون الوقاية له إذا نَصب ياء المتكلم، قال المصنف في الشرح: «ولا يَرِدُ على هذا عَلَيكَنِي ولا رُوَيدَني؛ فإنه

ص: 178

قد يقال فيهما: عليكَ بي، ورُوَيدَ لي، فُيستغنى فيهما عن نون الوقاية بالباء واللام، بخلاف: ما أَفْقَرَنِي، فإن النون فيه لازمة غير مستغنًى عنها بغيرها» انتهى.

وما ذكروه من لزوم نون الوقاية لفعل التعجب هو على طريقة البصريين، وأمَّا الكوفيون فإنهم يجيزون: ما أَظْرَفِي! يجعلون نون الوقاية جائزة مع ياء المتكلم لا واجبة، وحكَوه سماعًا عن العرب.

واحتجَّ من قال إنه اسم بكونه لا يتصرف، وبتصغيره، وبصحة عينه، فقالوا: ما أُحَيْسِنَه! وما أَطْوَلَه! كما قالوا: هو أَطْوَل من كذا، ولا يصحّ ذلك /في الفعل، وبكونهم تعجَّبوا من الله تعالى، فقالوا: ما أَعْظَمَ الله! ولا يصحّ: شيء أَعْظَمَ الله؛ لأنَّ عظمته لا سبب لها، ولا هي مجعولة.

وأُجيب بأنَّ امتناع تصرفه لأنَّ معنى ذلك غير محتاج إليه؛ لأنه لَزِمَ طريقة واحدة، وما لَزِمَ طريقة واحدة لم يتصرف، كليسَ وعَسى.

وبأنَّ تصغيره وصحة عينه لشبهه بأَفْعَل التفضيل في كون أَفْعَل التفضيل قد يكون للتعجب، ولأنَّ المشترك بنيَّة الزيادة والفضل، ولأنه على لفظه، وأنه يدُّل على المدح، ولذلك قد تسقط منه نون الوقاية.

وقيل: تصغيره ملاحظة لمصدره؛ لأنه لمَّا لم يَجر عليه صار تصغيره بدلاً من جريانه عليه. وقيل: لأنه بدل من التصرف الممنوع له.

قيل: ولا يقال في تصحيح عينه: إنه شذوذ؛ لوجوده في أَفْعَل، قالوا: أّطْوَلتِ، وأَغْيَمَتِ السماُء، ولأنه قد صحَّ في نحو حَوِلَ وعَوِرَ وصَيِدَ.

وأمَّا التعجُّب من الله تعالى فعلى تأويل السبب المُعْلِم بالسبب الموجب، أي: ما أعظمَ قُدرةَ الله، وسيأتي الكلام فيه.

ص: 179

وقال مَن زعم أنَّ أَفْعَلَ في التعجب فِعل: لو كان أَفْعَل اسمًا فإمَّا أن يكون للمفاضلة على أصله أو لغير المفاضلة، لا جائز أن يكون للمفاضلة لعدم استعماله لِما ذكرنا من التعجب، ولا جائز أن يكون لغير المفاضلة لأنه لا يُعهد في كلام العرب أَفْعَل إلا اسمًا أو صفة، لا جائز أن يكون صفةً، فيكون التقدير: شيءٌ أَحْسَنُ زيدًا أي: حَسَنٌ زيدًا؛ لأنَّ المعنى ليس على هذا، ولأنَّ أَفْعَل للصفة غير المفاضلة لا يُشتَقُّ قياسًا، وأَفْعَل هذا في التعجب قياس. ولا جائز أن يكون اسمًا للتعجب؛ لأنه يصير المعنى: شيءٌ تعجبٌ، وليس ذلك مرادًا، فثبت بهذا كله أنه فِعل.

وقوله مُخْبَرًا به عن «ما» بِمعنَى شيء، لا استفهامية، خلافًا لبعضهم أمَّا كونها بمعنى شيء، فتكون ما تامة، والفعل بعدها خبر عنها ـ فهو مذهب الخليل و «س» وجمهور البصريين، وأجمعوا على أنَّ ما اسم مرفوع بالابتداء إلا خلافًا شاذَّا، رُوي عن الكسائي أنه لا موضع لها من الإعراب.

واستدلَّ من ذهب إلى أنها تامَّة نكرة خبرية بأنه قد وُجدت تامَّة في كلام العرب في قولهم: غَسَلتُه غَسْلاً نِعِمَّا، أي: نِعْمَ الغَسْلُ، وقولهم: إنَّي مِمَّا أنْ أَصنَعَ، أي: مِن الأمرِ أنْ أَصنَعَ، لكنَّها في باب نِعْمَ لا تكون نكرة لِما ذكرنا في باب نِعْمَ وهي هنا نكرة لزم لفظها التعجب.

وذهب الفراء وابن درستويهِ 6 إلى أنَّ «ما» استفهامية، دخلها معنى التعجب. وتأوَّلَه ابن درستويه على الخليل، قال: «معنى قول الخليل في (ما أَحْسَنَ

ص: 180

زيدًا) إنه استفهام دخله معنى التعجب كأنه الذي من حقه أن يقال فيه: أيُّ شيءٍ حَسَّنَه؟». واستدلَّ عليه بإجماعهم على أنَّ قولهم (أيُّ رجلٍ زيدٌ) استفهام دخله معنى التعجب. وتقدَّم قول الفراء: إنَّ (ما أَحسَنَ زيدًا) أصله: ما أَحْسَنُ زيدٍ، وتقريره.

وقال المصنف: «أمَّا كونها استفهامية ــ وهو قول الكوفيين ــ فليس بصحيح؛ لأنه إمَّا أن تكون مجردةً للاستفهام، أو له وللتعجب معًا كما هي في {فأصحب الميمنه ما أصحب الميمنة). فالأول باطل بإجماع، ولأنَّ اللفظ المجرد للاستفهام لا يَتوجَّه ممن /يَعلم إلى من يَعلم، وما أَفْعَلَه صالح لذلك، فلم يكن لمجرد الاستفهام. والثاني باطل؛ لأن الاستفهام المشوب بالتعجب لا يليه عالبًا إلا الأسماء، نحو {وأصحب اليمين ما أصحب اليمين)، {وأصحب الشمال ما أصحب الشمال)، {والحاقة ما الحاقة)، و {القارعة ما القارعة)، ونحو قول الشاعر (10):

يا سَيَّدًا، ما أنتَ مِنْ سَيَّدٍ

................................

ص: 181

ومثله:

...............................

يا جارَتَا، ما أنتِ جارهْ

و (ما) المشار إليها مخصوصة بالأفعال، فعُلم أنها غير المتضمنة استفهامًا» انتهى.

ويقول الكوفيون: لا نُسلَلِّم أنها مخصوصة بالأفعال؛ ألا ترى أنَّ مذهبهم في أَحْسَنَ أنه اسم. وهل هو معرب أو مبنيّ، فيه خلاف بينهم.

قال المصنف في الشرح: «وأيضًا لو كان فيها معنى استفهام لجاز أن تخلفها أيُّ كما جاز أن تخلفها في نحو:

.......... ما أنتَ مِنْ سَيَّدٍ ................................

لأنَّ استعمال أيِّ في الاستفهام المتضمن تعجبًا كثير، كقوله:

أيُّ فَتَى هَيجاءَ أنتَ وجارِها

...........................

وأيضًا فإنَّ قصد التعجب بِما أفْعَلَه مجمع عليه، وكونه مشوبًا باستفهام أو ملموحًا فيه استفهام زيادة لا دليل عليها، فلا يُلتفت إليها».

وقال ابن الطراوة: الشيء إذا زاد على حده المتعارف، وخرج عما عليه نظائره ــ فإنَّ العرب تَضُمُّ له لفظًا ينقله عن بابه إلى معنى التعجب، وذلك قولهم في المتناهي الحسن: ما أَحْسَنَه! ومثله: ما أَشْجَعَه! وما أَظْرَفَه! ينقلون الفعل عمن هو له وبه إلى لفظ مبهم لا يَخُصُّ واحدًا من جمعٍ ولا جمعًا من تثنية؛ وهو (ما)، ولا تكون (ما) في الخبر بغير صلة إلا في هذا الباب؛ لأنَّ الصلة تبيِّن الموصول وتوضحه، والمتعجِّب لا يدري الضرب الذي تَعَجَّبَ منه كيف خَرج عن بابه، ولا

ص: 182

ما الذي أخرجه حتى صار إلى تلك الحال، ولو وَصل (ما) كان قد بَيَّنَ وأَوضح، وليس هذا طريق التعجب؛ ألا ترى أنهم لا يقولون: شيءٌ أَحسَنَ زيدًا؛ إذ كان (شيء) بهذا اللفظ يَخُصُّ الواحد، ويميز بينه وبين ما ليس بواحد، فعدلوا عنه لذلك إلى ما هو أعمُّ منه، وهو (ما).

وقال المصنف في الشرح ــ وقد ذكر المذاهب في (ما) ـ: «والقول الأول قول البصريين، وهو الصحيح؛ لأنَّ قصد المتعجِّب الإعلام بأنَّ المتعجب منه ذو مزية، إدراكُها جَلِيُّ، وسبب الاختصاص بها خَفِيُّ، فاستَحَقَّت الجملة المعَّبر بها عن ذلك أن تُفتَتَح بنكرة غير مختصَّة ليَحصل بذلك إبهام متلوُّ بإفهام، ولا ريب في أنَّ الإفهام حاصل لإيقاع أَفْعَلَ على المتعجَّب منه؛ إذ لا يكون إلا مختصَّا، فتعيَّن كون الباقي مقتضيًا للإبهام، وهو (ما)، فلذلك اختير القول بتنكيرها، ولا يمتنع الابتداء بها ـ وإن كانت نكرة غير مختصَّة ـ كما لم يمتنع الابتداء بـ (مَن) و (ما) الشرطيتين والاستفهاميتين» .

وقوله ولا موصولة خلافًا للأخفش في أحد قوليه الأجود أن يقول: «في أحد أقواله» ؛ لأنه روي عن الأخفش ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها نكرة تامة، كمذهب الجمهور.

الثاني: أنها موصولة، وأَفْعَل صلة لها، وبه قال طائفة من الكوفيين، ويكون الخبر محذوفًا لازم الحذف. قال المصنف في الشرح: «فيتحصل أيضًا بقوله هذا

ص: 183

إفهام وإبهام، فحصول الإفهام بذكر المبتدأ وصلته، وحصول الإبهام بالتزام حذف الخبر، إلا أنَّ /هذا القول يستلزم مخالفة النظائر من وجهين:

أحدهما: تقدُّم الإفهام وتأخُّر الإبهام، والمعتاد فيما تضمَّن من الكلام إفهامًا وإبهامًا تقديم ما به الإبهام وتأخير ما به الإفهام، كما قد فُعل بضمير الشأن

ومفسَّره، وبضميري نِعمَ ورُبَّ، وبالعموم والتخصيص، وبالمميَّز والتمييز، وأشباه ذلك.

الثاني: كون الخبر فيه مُلتَزَم الحذف دون شيء يسدُّ مَسَدَّه، والمعتادُ في الخبر المُلتَزَم الحذف أن يَسُدَّ مَسَدَّه، شيء تحصل به استطالة، كما كان بعد لولا، وفي نحو: لَعَمرُك لأَفْعَلَنَّ، فالحكمُ بموصولية ما وكون الخبر محذوفًا دون استطالة حُكمٌ بما لا نظير له، فلم يُعَوَّل عليه. ويقال له: الخبر المحذوف إن كان معلومًا فقد بطل الإبهام المقصود، أو مجهولاً فلا يصح حذفه، فإنَّ شرط صحة حذف الخبر ألا يكون مجهولاً» انتهى.

والثالث من أقوال الأخفش: أنَّ «ما» نكرة موصوفة، وأَفْعَلَ صفتها، والخبر محذوف، والتقدير: شيءٌ حَسَّنَ زيدًا عظيمٌ.

وقد رُدَّ مذهب الأخفش في كون «ما» موصولة، وأنَّ حذف الخبر قد يكون للإبهام ـ والمراد هنا الإبهام في وصف السبب ــ كما حُذف للإبهام في قوله

{أن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} ، كما حذف جواب لو في قوله {ولو ترى إذ وقفوا)، {ولو تري إذ الظلمون} ــ بأن الإبهام تمنعه الصلة؛ لأنه لا تجتمع معه؛ لأنَّ المراد هنا إبهام ذات السبب لا إبهام ما يُنسب إليه، وحَذفُ الخبر مع وجود الصلة إبهام ما ينسب إليه، وإيضاح للذات؛ لأنَّ الصلة توضح الموصول.

ص: 184

وبهذا يُرَدُّ عليه في زعمه أنَّ «ما» نكرة موصوفة؛ لأنَّ الصفة تُخَصِّص الموصوف، فهي قريبة من الصلة، فالإبهام إذ ذاك ليس في ذات السبب، إنما هو في الخبر المنسوب إلى السبب.

-[ص: وكأَفْعَلَ أَفعِلْ خبرًا لا أمرًا مجرورًا بعده المتعجَّب منه بباء زائدة لازمة، وقد تفارقه إن كان أنْ وصلتها. وموضعُه رفعٌ بالفاعلية لا نصب بالمفعولية، خلافًا للفراء والزمخشري وابن خروف. واستُفيد الخبر من الأمر هنا وفي جواب الشرط كما استُفيد الأمر من مُثبَت الخبر، والنَّهيُ من مَنفِيَّه، وربما استُفيد الأمر من الاستفهام. ولا يُتَعَجَّبُ إلا من مختصّ، وإذا عُلم جاز حذفه مطلقًا، ورُبَّما أُكَّدَ أَفْعلْ بالنون، ولا يؤكَّد مصدرٌ فعلَ تعجُّب ولا أفْعَلَ تفضيل.]-

ش: لا خلاف في فعلية أَفْعِلْ؛ إذ هذا الوزن لا يوجد في الاسم إلا قليلاً جدَّا، نحو أصْبع إحدى لغات الإصبَع، هكذا نقلوا، وفي كلام ابن الأنباري ما يدلُّ على أنَّ أَفْعِل اسم لا فعل، قال:«وإذا قلت: ما أحسنَ عبدَ الله! فأرادت أن تُسقط ما وتتعجب قلت: أحْسِنْ بعبدِ الله! وإذا أردتَ أن تأمر من هذا قلت: يا زيدُ أَحْسنْ بعبد الله رجلاً، وإذا ثَّنيت قلت: يا زيدان أَحْسنْ بعَبدَي الله رجلين، ويا زيدون أَحْسِنْ بعبيد الله رجالاً، وتنصب رجالاً على التفسير، وأحْسِنْ لا يُثَنَّى، ولا يُجمع، ولا يؤنث؛ لأنه اسم، وأَحْسِنْ ليس بأمرٍ من هذا» يدلُّ على أنه أمر.

وقوله أخيرًا «إنه اسم وليس بأمرٍ للمخاطب» يدلُّ على أنه تجوَّز /في قوله «وإذا أردت أن تأمر من هذا» . وإذا قلنا إنه اسم فإنه يُشكل؛ لأنه يكون إذ ذاك مبنيَّا على السكون، ولا أدري ما موضعه من الإعراب. ويعني ابن الأنباري بقوله «لا يُثَنَّى ولا يُجمع ولا يُؤنث لأنه اسم» أي: لا يكون فيه ضمير تثنية ولا جمع ولا تأنيث.

ص: 185

وقوله خبرًا لا أمرًا أي: معناه معنى الخبر، وهو الفعل الذي هو على صيغة أفْعِلْ، والهمزة فيه للصيرورة، وإن كانت صورته صورة الأمر، لكنه ليس بأمر حقيقة، هذا مذهب جمهور البصريين، فإذا قلت أحْسِنْ بزيدٍ فمعناه: أحْسَنَ زيدٌ أي: صار ذا حُسْن، كقولهم: أبْقَلَتِ الأرضُ، أي: صارت ذات بَقْل، وهو خبر معناه التعجب، فمدلوله ومدلول ما أَحْسَنَ زيدًا من حيث التعجب واحد؛ إذ ليس المعنى أنه كانت منه صيرورة إلى التعجب منه فيما مضى؛ إذ لا تقول ذلك إلا وأنت مُنشىئ للتعجب منه لا على حقيقة الإخبار.

وذهب الزجاج ومَن وافقه إلى أنه أمر حقيقة، وليس مرادًا به الخبر، والهمزة فيه للنقل، وسيأتي تقرير هذا المذهب.

وقوله مجرورًا بعده المتعجَّبُ منه بباءٍ زائدةٍ وهو نظير قول العرب: كفى بالله. والدليل على زيادتها في كفى باللهِ جواز حذفها ورفع الاسم بعدها، قال:

....................... كَفَى الشَّيبُ والإسلامُ لِلْمَرءِ ناهِيا

وسيأتي الخلاف في هذه الباء في حروف الجر إن شاء الله.

وقوله لازمةٍ يعني أنه لا يجوز حذفها، فلا يقال: أحْسِنْ زيدٌ، ولا: أَحْسِنْ زيدًا، على مذهب من يعتقد أنه فعل أمرٍ حقيقة.

ص: 186

وقوله وقد تُفارقه أن كان أنْ وصلتَها أي: وقد تفارق الباءُ المجرورَ بها إنْ

كان أنْ وصلَتها، فيجوز في أَجْوِدْ بأنْ يكتبَ زيدٌ أن تقول: أجْوِدْ أنْ يكتبَ زيدٌ، وقال الشاعر:

وقالَ نَبِيُّ المسلمينَ: تَقَدَّمُوا

وأَحْبِبْ إلينا أنْ نكونَ المُقَدَّما

وقوله وموضعُه رفعٌ بالفاعلية أي: وموضع المجرور رفع بالفاعلية، وتقدَّم بيان ذلك.

وقوله لا نصبٌ بالمفعولية، خلافًا للفراء والزمخشري وابن خروف هذا قولُ مَن ذهب إلى أن أَفْعِلْ أمر حقيقة، وليست الهمزة فيه للصيرورة، بل هي للنقل، كهي في: ما أَحْسَنَ زيدًا! والقائلون بأنه أمر حقيقة اختلفوا على قولين في الفاعل:

فقيل: المخاطب الحُسن، وإليه ذهب ابن كيسان، فكأنه قيل: يا حُسْنُ أَحْسِنْ بزيدٍ، أي: الْزَمه ودُمْ به، ولذلك كان الضمير مفردًا على كل حال، ووجهّ الفعل إلى الاسم المبهم عند المتعجب، وهو السبب الخفيّ الذي حَسَّن زيدًا في عين المتعجِّب الذي هو (ما) في قولك: ما أَحْسَنَ زيدًا! وصار الذي أبهم على المتعجِّب من حُسن زيد كالشيء تخاطبه، كأنك قلت: أَحْسِنْ يا حُسْنُ بزيدٍ، وافعلْ ما شئت به، أي: أنت على ذلك قادر، فالْزَمه، وصَرِّفه كيف شئت من التحبيب إلينا.

ص: 187

قال ابن طلحة: «وهذا قول حسنٌ لتتوفر حقيقة اللفظ في الفعل وفي الاسم، فاللفظ لفظ الأمر، فيجب /أن يكون بين البابين نسب حتى تصح الاستعارة، ولم يتمحَّض فيه الأمر، لأنَّ المواجَه به غير محصَّل، فالاعتماد على المتعجَّب منه، ولذلك صار المعنى: حَسُنَ زيدٌ جدَّا، ولَّما لم يتمحَّض فيه معنى الأمر لم يصح أن يجاب، وأمكن أن يقطع فيه على أحد محتملين» انتهى

وقال غيره في تقرير هذا القول: كان الأصل: حَسُنَ زيدٌ، ثم دخلت همزة النقل على معنى: أَحْسَنَ زيدًا أمرٌ ما وسببُ ما، ثم أرادوا أمر الفاعل بأن يقع به على جهة اللزوم مجازًا، فكأنهم أمروا السبب باللزوم، أي: الزمْه يا سببُ، فمعنى أحْسِنْ بزيد! أي: دُمْ له، فهو أمر حقيقة.

وقد رُدَّ هذا المذهب بأنهم يصرَّحون بخطاب الشخص، فيقولون: يا زيدُ أَحْسِنْ بعمرٍو، فكيف يكون الضمير لمخاطبين.

وقال المصنف في الشرح: «وقد يُتَوَهَّمُ أنَّ أَفْعِلْ أمرُ خوطب به المصدر على سبيل المجاز، كأنَّ من قال: أَحْسِنْ به! قائل: يا حُسْنُ أَحْسِنْ به، فلهذا لزم الإفراد والتذكير. أشار إلى هذا أبو علي في (البغداديات) منفَّرًا منه وناهيًا عنه. ومما يبيِّن فساده أنَّ من المصادر المصوغ منها أَفْعِلْ ما لا يكون إلا مؤنثًا كالسُّهولة والنَّجابة، فلو كان الأمر على ما تَوَهَّمَه صاحب هذا الرأي لَقِيل في أَسْهِلْ به، وأَنْجِبْ ِبه: أَسْهِلِي به، وأَنْجِبِي به، لكنه لم يُقَبلْ، فصحَّ بذلك فساد ما أدَّى إليه» انتهى.

ص: 188

ولا دليل في ذلك على فساد هذا القول؛ لأنَّ أصل المصدر ألا يجيء بتاء التأنيث، فرُوعِيَ في تذكير الضمير ما كان يستحقُّه المصدر من التذكير، وإن لم يُنطَق به مذكرًا، لكنه ذُكَّرَ على ما كان يستحقُّ أن يجيء عليه، ولأن يجري الأمر في ذلك مجًرى واحدًا، كما ذكروا في: ما أَحْسَنَ زيدًا! وإن كان مؤثِّر التعجُّب قد

يكون مؤنثًا ولأنَّ ذلك جرى مجرى الأمثالُ لا تحتمل التغيير.

والقول الثاني أنَّ المخاطب هو الشخص، فإذا قلت أَحْسِنْ بزيدٍ فالفاعل ضمير المخاطب، فكأنك قلت: أَحْسِنْ يا مخاطبُ بزيدٍ، ولا يبرز الضمير باختلاف المخاطب تثنية وجمعًا وتأنيثًا؛ لأنه جرى مجرى المَثَل، وكان الأصل: شيءٌ أَحْسَنَ زيدًا، أي: كان سببَه أو حَكَمَ بحسنه، ثم أَمروا المخاطب بذلك، فمعنى يا زيدُ أَحْسِنْ بعمرٍو، أي: احْكُمْ بحُسْنه، ولَزِمَت الباء في المفعول ليكون للأمر في معنَى التعجب حالة لا تكون له حالة غير التعجب.

وقال بعض أصحابنا: ويحتمل أن تكون الهمزة لا للنقل، بل على معنَى أَقْطَعَ النخلُ، ثم أَدخَلوا الباء على معنى انه صيَّره كذلك، أي: صَيَّرَه ذا حُسْنٍ وذا كَرَمٍ أمرٌ ما، ثم أُمر السبب أو الشخص على النَّحْوَين المتقدِّمَين، فتكون الباء

للتعديه.

وقد استدلَّ القائلون بأنه ليس بأمر حقيقة على ذلك بعدم بروز الضمير إذا كان المخاطب مثنَّى أو مجموعًا أو مؤنثًا، ولأنَّ الهمزة إمَّا للتعدية فيجب نصب ما بعد الفعل، وليس كذلك. وإمَّا لغير التعدية كأَقْطَفَ الكَرْمُ، فيكون فاعلاً، والأصل فعلَ زيدٌ، وأنت تقول: فعلَ بزيد، فتُدخل الباء في الأصل، فكذلك دخلت في الفرع.

وقال ابن طلحة: «الدليل على أنه ليس بأمر أنه محتمل للصدق والكذب؛ لأنَّ المخبِر به قد قطع على أحد /محتملين. ودليل آخر أنه لا يجاب بالباء، وما مِن

ص: 189

أمر إلا ويجوز أن يجاب بالباء، وإنما خصُّوا التعجب بلفظ الأمر لِما فيه مِن معنَى المبالغة، فقد قالوا: كُنْ ما شئتَ، إذا أرادوا المبالغة، وقال تعالى في التهديد والوعيد (قل كونوا حجارة أو حديدا}.

وقال الصَّيْمَريّ: (معناه معنَى ما أَفْعَلَه، إلا أنك إذا قلت ما أَحْسَنَ زيدًا فأنت وحدك متعجَّب، وإذا قلت أَحْسِنْ بزيد فقد استدعيت غيرك إلى التعجُّب). فآخر كلام الصيمري ناقصُ لأوله؛ إذ جعله في أوله خبرًا محضًا، وفي آخره جعله أمرًا لقوله: فقد استدعيتَ غيرك للتعجب». انتهى.

وقال المصنف في الشرح: «وفي أَفْعِلِ المتعجَّب به مع الإجماع على فعليتَّه قولان:

أحدهما: أنه في اللفظ أمر، وفي المعنى خبر إنشائيُّ مسند إلى المتعجَّب منه المجرور بالباء.

والثاني: أنه أمرُ باستدعاء التعجب من المخاطب مسندًا إلى ضميره، وهو قول الفراء، واستحسنه الزمخشريُّ وابن خروف.

والأول هو الصحيح لسلامته مما يَرد على الثاني من الإشكالات:

أحدها: أنه لو كان الناطق بأَفْعِل المذكور آمرًا بالتعجب لم يكن متعجبَّا، كما لا يكون الآمر بالحَلف والنداء والتنبيه حالفًا ولا منادًيا ولا منَّبهًا، ولا خلاف في كون الناطق بأَفْعِل الذكور متعَّجبًا، وإنما الخلاف في انفراد التعجب ومجامعته الأمرية.

الثاني: أنه لو كان أمرًا مع الإجماع على فعليته لَزم إبراز ضميره في التأنيث والتثنية والجمع، كما يَلزم مع كل فعل أمر، متصرفًا كان أو غير متصرف. ولا

ص: 190

يعُتَذَر عن ذلك بأنه مَثَل أو جارٍ مجرى المثل؛ لأنَّ يلزم لفظًا واحدًا دون تبديل ولا تغيير، نحو «أَطِرِّي فإنَّكِ ناعِلة، و «خَلا لَكِ الَجوُّ، فَبِيضِي، واصْفِرِي» .

والجاري مجرى الَمثَل يلزم لفظًا واحدًا مع اغتفار بعض التغيير، نحو: حَبَّذا، ولِلِه دَرُّك، فالتزم لفظ حَبَّذا، ولِلِه دَرُّك، وأجيز أن تختم الجملتان بما كان للناطق بهما غرض في الختم به، وأَفْعِل المذكور لا يلزم لفظًا واحدًا أصلاً فليس مَثَلاً ولا جاريًا مجرى المَثَل، فلو كان فعلَ أمرٍ مُسنَدًا إلى المخاطب لبرزَ ضميره في التأنيث والتثنية والجمع، كما يَبرز مع غيره من أفعال الأمر العارية من المَثَلية. وقيدت أفعال الأمر بالعارية من المَثَلية احترازًا من «خُذْ ما صَفا، ودَعْ ما كَدِر» ،

و «زُرْ غِبَّا تَزْدَدْ حُبَّا» ، على أنَّ قولهم «اذهبْ بِذِي تَسلَمُ» أشبه بالأمثال وأحق

ص: 191

بأن يجرى مجراها، ولم يمنع ذلك من بروز فاعلي الفعلين في التثنية والجمع والتأنيث، فلو كان أَفْعِل المذكور فعلَ أمرٍ جاريًا مجرى المَثَل لعوامل معاملة اذهبْ وتَسلَم.

الثالث من الإشكالات: أنَّ أَفْعِل المذكور لو كان أمرًا مسندًا إلى المخاطب لم يجز أن يليه ضمير المخاطب، نحو: أَحْسِنْ بك! لأنَّ في ذلك إعمال فعلٍ واحد في ضميري فاعل ومفعول لمسمَّى واحد.

الرابع من الإشكالات: أنَّ أَفْعِل المشار إليه لو كانت بمعنى الأمر لا بمعنى أَفْعَلَ تالي (ما) لوجب له من الإعلال إذا كانت عينه ياءً أو واوًا ما وجب لأَبنْ وأَقِمْ ونحوهما، /ولم يُقَلْ أبين به وأَقْوِم، فيلزم مخالفة النظائر، فإذا جُعلَ مخالفًا لأَبِنْ وأَقِمْ ونحوهما في الأمرية موافقًا لأَبْيَنَ وأَقْوَمَ من: ما أَبْيَنَة! وما أَقْوَمَه! في التعجب ــ سُلك به سبيل الاستدلال، وأُمن الشذوذ من التصحيح والإعلال» انتهى.

وتلخَّص من هذه النقول أنَّ أَفْعِلْ كالمجمع على فِعلَّيته، خلافًا لِما يَدُولَّ عليه كلام ابن الأنباريّ أنه اسم، وإذا كان فعلاً فهل هو أمرُ حقيقة أم أمرُ لفظًا بمعنَى أَفْعَلَ؟ قولان. وإذا كان أمرًا حقيقةً فهل الفاعل المخاطب أو ضمير المصدر الدالّ عليه أَفْعِلْ؟ قولان. وهل الهمزة في أَفْعِلْ للتعدية، فتكون الباء زائدة، أو للصيرورة فتكون الباء للتعدية؟ قولان. وإذا كان بمعنى أفْعَلَ فالفاعل هو المجرور بالباء، ولا ضمير في أَفْعِلْ.

ولو ذهب ذاهبُ إلى أنَّ أَفْعِلْ أمرٌ صورةً خبرٌ معنًى، بمعنى أفْعَلَ، والفاعل فيه مضمر، يعود على المصدر المفهوم من الفعل، و «بزيد» في موضع، مفعول، والهمزة في أَفْعِلْ للتعدية ـ لكان مذهبًا، فإذا قلتَ أَحْسِنْ بزيدٍ فمعناه: أحسَنَ هو ـ أي: الإحسانُ ـ زيدًا، أي: جعلَه حسنًا، وكذلك: أَكْرِمْ بزيد، أي: أكْرَمَ هو ـ أي: الإكرام زيداً، أي: جعله كريماً، فيوافق في المعنى: ما أكرم زيداً! أي شيء جعل زيداً كريماً، وهو الإكرام.

ص: 192

ولا يُعترض على هذا بخطاب في قولك: يا زيدُ أَكْرِمْ بعمرٍو؛ لأنَّ الفاعل مخالف للمخاطب، فالمعنى: يا زيدُ أَكْرَمَ الإكرامُ عمرًا، أي: جعلَه كريمًا، كما تقول: يا زيدُ ما أَكْرَمَ عمرًا! أي: شيءٌ جعلَه كريمًا. وأُضمر الفاعل في أَفْعِلْ ليكون بإضماره إبهام، ويحصل بعدم التصريح به جَوَلان الفكر فيه بما هو.

والدليل على أنَّ المجرور في موضع نصب شيئان:

أحدهما: جواز حذفه اختصارًا، كقوله تعالى (أسمع بهم وأبصر)،

واقتصارًا، نحو قوله:

.............................

.......... وإنْ يَسْتَغْنِ يومًا فأَجْدِرِ

والثاني: أنهم لَّما حذفوا الباء نصبوا الاسم، نحو قول الشاعر:

ألا طَرَقَتْ

رِجالَ

القَومِ

لَيلَى

فَأَبْعِدْ

دارَ

مُرْتَحِلٍ

مَزارَا

وقولِ الآخر:

............................... وأجْدِرْ

مثلَ

ذلك أنْ يَكُونا

ص: 193

أي: ما أَبْعَد دارَ مرتحلٍ مزارًا! وما أجْدَرَ مِثلَ ذلك! وأيضًا فإنه لا تُعهد صيغة أمر ترفع الاسم الظاهر وإن كان خبرًا في المعنى دون لام الأمر؛ ألا ترى إلى قوله (فليمدد له الرحمن مد} كيف هو أمرٌ صيغة خبرٌ في المعنى، ولما رَفع الظاهر كانت فيه لام الأمر.

وقد تأوَّلَ هذين البيتين مَن ذهب إلى أنَّ المجرور ليس في موضع نصب بأنَّ قوله «فأَبْعِدْ دارَ مُرتَحِلٍ» يمكن أن يكون «أَبْعدْ» فيه دعاءً؛ على معنى: أَبعَدَ الله دارَ مُرتَحِلٍ عن مزارِ محبوبه، كأنه يُحَرِّض نفسه على الإقامة في منْزل طُروق ليلى؛ لأنه صار بطروقها مَزارًا.

وبأنَّ «فأَجْدِرْ» أمرٌ عارٍ من التعجب، أي: اجْعَلْ مِثلَ ذلك جديرًا، وأَجْدِرْ به! أي: اجعلْه جديرًا بأن يكون، أى: حقيقًا بالكون، يقال: /جدُرَ بكذا جدارةً،

أي: صار جديرًا به، وأَجدَرتُه به، أي: جعلتُه جديرًا به، أي: حقيقًا. وأنه تعجُّب، ومثلَ في موضع رفع، وهو مبنيّ لإضافته إلى مبنيّ، نحو قوله {أنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} في قراءة مَن فتح اللام.

وقال المصنف في الشرح حيث اختار أَن فاعل أَفْعِلْ هو المجرور بالباء: «إنه لو اضطر شاعر فحذفها لرفع الاسم، وإنَّ الباء زيدت في الفاعل كما زيدت

في فاعل كفى، إلا أنه بينهما فرق من وجهين: أحدهما أنه يجوز حذف الباء قي فاعل كفى فصيحًا، ويرتفع الاسم. والثاني أنَّ كفى قد يُسند إلى غير المجرور بالباء، فيكون هو في موضع نصب، نحو قوله:

ص: 194

فكَفَى بِنا فَضْلاً على مَن غَيرِنا

حُبُّ النَّبِيَّ محمدٍ إيَّانا

ولا يُفعل ذلك بأَفْعِلْ» انتهى ملخصًا.

ولشيخنا أبي الحسن بن الضائع تخريج في هذا البيت، يأتي ـ إن شاء الله ـ في حروف الجر.

وقوله واستُفيدَ الخبر من الأمر هنا وفي جواب الشرط لَّما اختار أنَّ أَفْعِلْ هنا ــ وإن كان بصيغة الأمر ـ فمعناه الخبر، أخذ يذكر له نظيرًا، وهو ما وقع من ذلك في جواب الشرط، نحو قوله تعالى {قل من كان في الضللة فليمدد له الرحمن مدًا} ، وقول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ (مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتَعَمَّدًا فَلْيَتَبَوَّا مَقْعَدَه من النار»، وفي رواية (فَلْيِلجِ النار»، أي: فَيمُدّ، وفيَتَبَوَّأ، وفَيَلج.

وقوله كما استُفيد الأمرُ من مُثَبت الخبر والنهيُ مِن مَنْفيَّه أخذ يتأنس في هذا المجاز ــ وهو وضعُ الأمر موضعَ الخبر ــ بأنه قد نُطق بِمُثَبت الخبر ومعناه الأمر، كقوله {والمطلقت يتربصن} ، {والوالدات يرضعن} ، والمعنى: ليَتَرَبَّصْنَ، ولُرْضعنَ. وُنطق بالمنفي، والمراد به النهي، كقوله {لا تضار ولدة بولدها) في قراءة من قرأ برفع الراء، فهذا منفيّ أُريد به النهي، أي: لا تُضارِرْ، أو: لا تُضارَرْ. والجامع بين الأمر والخبر أنَّ الخبر هو إخبار بالثبوت، والأمر طلب للثبوت. والجامع بين النفي والنهي أنَّ النفي هو سلب الثبوت، والنهي هو استدعاء لسلب الثبوت

ص: 195

وتركه، فهذه هي العلاقة التي بين كل واحد من الخبر والأمر، وكل واحد من النفي والنهي.

وقوله ورُبَّما استُفيد الأمر من الاستفهام ومثاله {وقل للذين أوتو الكتب والأمين أسلمتم)} ، وقوله {(فهل أنتم منهون} أي: أسْلمُوا، وانْتَهُوا.

وقوله ولا يُتَعَجَّبُ إلا من مختصّ قال المصنف في الشرح: «المتعجَّب منه مُخبَر عنه في المعنى، فلا يكون إلا معرفة أو نكرة مختصَّة، فيقال: ما أَحْسَنَكّ! وما أَكْرَمَ زيدًا! وما أَسْعَدَ رجلاً اتَّقى الله! ولا يقال: ما أَحْسَنَ غلامًا! ولا: ما أَسْعَدَ رجلاً من الناس! لأنه لا فائدة في ذلك» انتهى.

وقد وقع الخلاف في مسائل:

الأولي: إذا كان معرفةً بأل للعهد، نحو: ما أَحْسَنَ الابنَ! تعني به ابنًا معهودًا بينك وبين المخاطب. ذهب الجمهور إلى جواز ذلك، ومنعه الفراء.

الثانية: إذا كان أيَّا الموصولة، أذا كانت صلتها فعلاً ماضيًا، نحو: ما أَحْسَنَ أيَّهم قال ذلك! منعها الكوفيون والأخفش، وأجازها غيرهم. فإن كانت صلتها مضارعًا جازت عند الجميع، /نحو: ما أَحْسَنَ أيَّهم يقول ذلك.

الثالثة: ما أَحْسَنَ ما كان ما كان زيدٌ! أجازها هشام، ومنعها غيره من الكوفيين. قال النحاس: وهي على أصل البصريين جائزة، أي: ما أَحْسَنَ ما كانت كينونة زيد، فالأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع.

الرابعة: ما أَحْسَنَ ما كان زيدٌ ضاحكًا. إذا كانت كان ناقصة أجاز ذلك الفراء، ومنعها البصريون. فإن جعلت كان تامَّة، ونصبت ضاحكًا على الحال ــ جاز عند الجميع.

ص: 196

الخامسة: ما أَحْسَنَ ما ظننتُ عبدَ الله قائمًا. قال الفراء: إن شئت لم تأت بقائم لأنه نصبٌ على الحال لا غير. وهو عند البصريين خبر، فلا يجوز حذفه.

السادسة: ما أَحْسَنَ أحدًا يقول ذلك. أجازها الكسائيّ، ومنعها الفراء والبصريون. وألزمه الفراء أن يقول: اضربْ أحدًا يقول ذلك، ولتضربَنَّ أحدًا يقول ذلك، وعليك بأحدٍ يقول ذلك. وهو إلزام صحيح؛ لأنَّ الكسائي شبَّه أحدًا بـ «أيّهم» من جهة الإبهام، وهو يجيز ما ألزمه في أيّهم، فإن جعلت أحدًا في معنَى واحدٍ صحَّت المسألة.

السابعة: ما أَحْسَنَ ما ليس يذكرُك زيدٌ. قال بعض أصحابنا: يجوز. وقال: لا يجوز: ما أَحْسَنَ ما ليس زيدٌ قائمًا. وهو مذهب البغداديين.

وقوله وإذا عُلم جاز حذفه مطلقًا يعني بقوله مطلقًا أي: معمولاً لأَفْعَلَ أو لأَفْعِلْ. فمثال حذفه بعد أَفْعَلَ قولُه:

جَزى الله عنَّا

بَخْتَرِيَّا ورَهطَهُ

بَني عَبدِ عمرٍو، ما أَعَفَّ وأَمْجَدَا

وقولُ الآخر:

أَرى أُمَّ عَمرٍو، دَمْعُها قد تَحَدَّرا

بُكاءً على عَمرٍو، وما ــ كانَ ــ أَصْبَرَا

وقولُ الآخر:

جَزى الله عنَّا، والجَزاُء بِفَضِلهِ

رَبيعةَ خَيرًا، ما أَعَفَّ وأَكْرَمَا

وقولُ الآخر:

ص: 197

خَلَّفْ على أَرْوَى السَّلامَ، فإنَّما

جزَاءُ الثَّوِيِّ أن يَعِفَّ ويَحْمَدَا

سأَرحَلُ عنها وامقًا غير عاشقٍ

جَزَى الله خيرا، ما أَعَفَّ وأمْجَدَا

أي: ماأعفَّهم وأمجدَهم، وما كان أصبَرها، وما أعفًهم وأكرمَهم، وما أعفْها وأمجدَها.

ومثال حذفه بعد أَفْعِلْ قوله تعالى {أسمع بهم وأبصر} ، {وأبصر به وأسمع)، وقال:

أعْززْ بنا

وأَكْف، إنْ دُعيِنا

يومًا إلى نُصْرةِ مْن يَليِنا

وقال آخر:

تَرَدَّدَ فيها ضَوءُها وشُعاعُها

فَأَحْصِنْ وأَزْيِنْ لامريئٍ إنْ تَسَرْبَلا

وقال آخر:

فذلكَ إنْ يَلْقَ المَنَّيةَ يَلْقَها

حَميدًا، وإنْ يَسْتغْنِ يومًا فَأَجْدِرِ

/أي: وأَبْصِرْ بهم، وأسْمِعْ به، وأكْفِ بنا، وفَأَحْصِنْ بها وأَزْيِنْ بها، وفَأَجْدرْ به.

ومن زعم أنَّ المجرور في موضع رفع استعذر لحذفه بأن لّما لزمه الجر اكتسى

صورة الفضلة، فلما عُرف جاز حذفه، ولأنه في المعنى كمعمول أَفْعَلَ، فجاز حذفه حملاً عليه.

ص: 198

وزعم الفارسيُّ وقومٌ من النحويين أنه لم يُحذف الفاعل في أَفْعِل، بل لمّا حُذف حرف الجر استتر الفاعل في أَفْعِلْ.

ورُدَّ بأنه لو كان مستترًا في أَفْعِلْ لبرز في تثنية وجمع وتأنيث، فقلت: أَسْمِعْ بالزيدَينِ وأَبْصرا! وأَسْمِعْ بالزيديِنَ وأَبْصرُوا! وأَسْمِعْ بهند وأبْصِري! ولأنَّ من الضمائر ما لا يمكن استتاره، نحو ضمير المتكلم، تقول: أكْرِمْ بي! وأَعْزِزْ بنا! فلو حذفت الباء وحدها لقيل: أَكْرِمْتُ! وأَعْزِزْنا! ولم يُقَل، إنما قالوا: أَكْرِمْ! وأَعْزِزْ! فدل ذلك على أنَّ المحذوف هو حرف الجر ومعموله. ويكثر حذف هذا المجرور إذا كان ضميرًا معطوفًا عامله على ما قبله، وحذفُه دون عطف قليل.

وزعم بعض أصحابنا أنه لا يجوز الاقتصار على الاسم بعدها إلا في باب العاملَين، نحو: ما أَحْسَنَ وأَجْمَلَ زيدًا. ويعني أنَّ كل فعل منها يطلب مفعولاً، فلا يجوز أن يُقتصر على اسم واحد إلا في باب التنازع. قال:«على خلاف فيه» .

وقوله ورُبَّمَا أُكَّدَ أَفْعِلْ بالنون تقدَّم له ذكر هذه المسألة في أول الكتاب عند شرحه قوله «ونونِ التوكيد الشائع» . وفي قوله ورُبَّما دليل على قلة نحو: أَحْسِنَنَّ

بزيدٍ. وقال المصنف هنا في الشرح: «ولشبه أَفْعِلْ بفعل الأمر جاز أن يؤكَّد بالنون، كقول الشاعر:

ومُسْتَبْدل من بَعد غَضْبَى صُرَيْمةً

فَأَحْر به بطُول فقرٍ، وأَحْرِيَا

وهذا من إلحاق شيء بشيء لمجرد شبه لفظي، وهو نظير تركيب النكرة مع لا الزائدة لشيهها بـ (لا) النافية للجنس، ونظير زيادة أنْ بعد (ما) الموصولة لشبهها بـ (ما) النافية».

ص: 199

وقوله ولا يؤكِّد مصدرٌ فعلَ تعجبٍ ولا أَفْعَلَ تفضيل قال المصنف في الشرح:

«ولَّما كان فعل التعجب دالَاّ على المبالغة والمزية استغنى عن توكيد بالمصدر، وكذلك أفعل التفضيل» انتهى.

وأمَّا أَفعَلُ التفضيل فلا نحفظ فيه خلافًا أنه لا يؤكَّد بمصدر. وعلْة ذلك أنه ليس له فعل من معناه، فإذا قلت زيدٌ أفضلُ من عمرٍو فإنَّ العرب لم تَبنِ فعلاً يدلُّ

على أفضلية زيد على عمرو كما دلّ عليه أفعل التفضيل.

وأمَّا فِعلُ التعجب فذهب بعضهم إلى أنه يَنصب الحدث، فأجاز: ما أَحْسَنَ زيدًا إحسانًا! وأَحْسِنْ بزيدٍ إحسانًا! وهو مذهب الجرمي. وذهب الجمهور إلى المنع. والقياس الجواز. لكنه ــ والله أعلم ــ لم تستعمله العرب.

ولم يذكر المصنف في باب التعجب من صيغ التعجب إلا صيغتين: ما أَفْعَلَه، وأَفْعِلِ به، وقد تقدم له في آخر باب نِعمَ وبئسَ صيغة فَعُلَ متضمّنة تعجبنًا، وتكلمنا عليها هناك.

وكذا ذكر بعض أصحابنا أنَّ للتعجب المبوَّب له ثلاثَ صيغ: ما أفْعَلَه، وأَفْعِلِ به، ولَفَعُلَ. وزاد الكوفيون أَفْعَلَ بغير «ما» مسندة إلى الفاعل، نحو قوله:/

ومُرَّة يَحميهمْ إذا ما تَبَدَّدُوا

ويَطْعُنُهُمْ شَزْرًا، فأَبْرَحْتَ فارِسا

ص: 200

قال بعض أصحابنا: وما ذكروه فيه معنى التعجب، لكنه ليس من هذا الباب، بل من باب: لِلِه دَرُّه فارسًا، وكَفى بك فارسًا، ولذلك فسَّره س بمعنى: كَفَيتَ فارسًا، فكأنه تعجَّب أولاً من أمر، ثم بيَّن من ماذا تعجَّب، لكنه يُستعمل في التعجب، كقولهم: زيدٌ أَيُّما رجل! وإنما يكون من هذا الباب لو ثبتَ أنَّ العرب تُغير الفعل إلى أَفْعَلَ تدلُّ به على المتعجَّب منه، فتقول أَكْرَمتَ بمعنى: ما أَكْرِمك! وأَحْسَنْتَ بمعنى: ما أَحْسَنَك! ويكون ما ينتصب بعده تمييزًا إن كان التعجب له، كما تقول: أَكْرِمْ به أبًا! فإن ثبت هذا فيكون من هذا بمعنى: وُجدْتَ ذا كرم، ولا بُدَّ من السماع.

وزاد بعض النحويين في صيغ التعجب: أَفْعَل من كذا؛ لأنه بمعناه من الزيادة والمبالغة. وقال س: «والمعنى في أَفْعَلَ وأَفْعِلْ به وما أَفْعَلَه واحد» . ولأنَّ قياسه فيما يُشتَقُّ منه كقياس ما أفْغَلَه وأَفْعِلْ به، ولذلك لا يجوز: زيدٌ أبيضُ من فلان، ولا: أَعْرَجُ منه، إلا شاذَّا، فهو مرتبط به، فلذلك كان بمعناه.

قال بعض أصحابنا: «وردَّه المققون بأنه موضوع للمفاضلة، ويدخله معنى التعجب كما دخل: لِلِّهِ دَرُّه فارسًا، وليس من هذا الباب، وليس موافقته لأَفْعَلَ وأَفْعِلْ به تدلُّ على أنه موضوع للتعجب، بل لما كان فيه معنى المفاضلة، والتعجب كذلك، وباب المفاضلة هي التي يُشترط فيه تلك الشروط، سواء أكان تعجبنًا أم لا والاشتراك في الأعمَّ لا يوجب الاشتراك في الأخصِّ، لكنه يُستعمل للتعجب، وهو أولى فيه من غيره للمشاركات» انتهى.

ص: 201

-[ص: فصل

همزةُ أَفْعَلَ في التعجب لتعديةِ ما عَدِمَ التعدي في الأصل أو الحال؛ وهمزة أَفْعِلْ للصيرورة، ويجب تصحيحُ عينيهما وفَكُّ أَفْعِل المضعف. وشذَّ تصغير أَفْعَلَ مقصورًا على السماع، خلافًا لابن كيسان في اطِّراده وقياسِ أفْعِلْ عليه. ولا يتصرفان، ولا يليهما غيرُ المتعجَّب منه إن لم يتعلّق بهما، وكذا إن تعلّق بهما وكان غيرَ ظرف وحرف جرّ، وإن كان أحدَهما فقد يلي، وفاقًا للفراء والجرميّ والفارسيَ وابن خروف والشلوبين، وقد تليهما عند ابن كيسان «لولا» الامتناعية.]-

ش: مثال ما عَدِمَ التعدي في الأصل ــ ويعني بذلك الأ يكون ينصب مفعولاً به فأكثر ــ ظَرُفَ وجَمُلَ وفَزِعَ وجَزعَ ونَحَبَ وذَهَبَ، فإذا تعجبت من هذه ونحوها أدخلت همزة النقل، وصار الفاعل الذي كان لها قبل دخول الهمزة مفعولاً بها، فتقول: ما أَظْرَفَ زيدًا! ونحوه.

والتعدي في الحال يعني به أن يكون متعديًا في الأصل، فإذا أردت التعجب منه أدخلت عليه همزة التعدي، وقُدَّر أنه قبل دخولها ضُمِّن معنَى ما لا يتعدى من أفعال الغرائز، فكانت الهمزة فيه للتعدي؛ إذ صيرت الفاعل الذي للفعل قبل الهمزة مفعولاً بعدها، وضعُف عن وصوله إلي المفعول /الذي كان له قبل دخول

الهمزة إليه، فصار يتعدى إليه بواسطة حرف الجر، مثال ذلك: ضربَ زيدٌ عمرًا، فهذا متعدِّ، فإذا أدخلتَ عليه الهمزة قلتَ: ما أَضْرَبَ زيدًا لعمرٍو وكذلك: عرفَ

ص: 202

زيدٌ الحقَّ، تقول: ما أَعْرَفَ زيدًا بالحقَّ! وسيأتي تبيين ما يصل إليه الفعل المتعدي قبل التعجب إذا تُعُجِّبَ منه في حروف الجر إن شاء الله.

واختلف النحويون فيما يتعدى وما لا يتعدى مما كان على وزن فَعَلَ أو فَعِلَ

إذا تُعُجِّب منه، أَيُحوِّل إلى فَعُلَ، ثم تدخل عليه همزة النقل، أم تدخل عليه دون تحويل إلى فَعُلَ:

فقيل: يُحَوَّل فَعَلَ وفَعِلَ إلى فَعُلَ. قالوا: والدليل على نقله إلى فَعُلَ شيئان:

أحدهما: أنك إذا تعجَّبت مما يتعدى إلى مفعول واحد بقي متعدًيا إلى مفعول واحد، فلو كان غيرَ محوَّل إلى فَعُلَ لوجب تعديه إلى مفعولين كسائر الأفعال المتعدية إلى واحد، إذا دخلت عليها همزة النقل تعدت إلى اثنين، نحو: طَعِمَ زيدٌ اللحمَ، تقول: أطعمتُ زيدًا اللحمَ.

والثاني: أنهم إذا أرادوا أن يتعجبوا من الثلاثي قالوا: لَشَرُبَ الرجلُ، ولَضَرُبَت اليدُ، فيحولون فَعَلَ وفَعِلَ إلى فَعُلَ. وإنما بُني على فَعُلَ لأنَّ التعجب موضع مبالغة، وفَعُلَ من أفعال الطبائع والغرائز، ومن المبالغة في الفعل أن يُجعل كأنه طبيعة في المتعجَّب منه.

وقيل: لا يحتاج فَعَلَ وفَعِلَ إلى أن يُحَوَّلا إلى فَعُلَ، بل بناء أَفْعَلَ يكون منهما ومن فَعُلَ الموضوع، وهذا ظاهر كلام س؛ لأنه قال:«وهو مبنيّ من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ» .

واستدلّ المصنف في الشرح على صحة هذا القول بوجهين:

ص: 203

«أحدهما: أنَّ فَعَلَ وفَعِلَ يشار كان فَعُلَ في اللزوم وقبول همزة التعدية، فتقدير ردهما إلى فَعُلَ لا حاجة إليه.

الثاني: أنَّ من الأفعال ما رفضت العرب صوغه على فَعُلَ، وذلك المضاعف واليائي العين أو اللام، فلو قُصد بمضاعف معنًى غريزيُّ دَلُّوا عليه في غير شذوذ بفَعَلَ، نحو: جَلَّ يَجلُّ، وعَزَّ يَعِزُّ، وخَفَّ يَخفُّ، وقَلّ يَقلُّ، ونُسب إلى الشذوذ نحو لَبُبْت، واستغنوا في اليائي العين بفَعَلَ يَفْعِلُ، نحو: طابَ يَطيب، ولانَ يَلين، وضاقَ يضيق. وفي اليائي اللام عن فَعُلَ بفَعِلَ، نحو حَيِىَ يحيا، وعَيِيَ يعيا. فلو تعجَّبتَ من شيء من هذه الأفعال أَدخلت الهمزة، ولم تَرُدّها إلى فَعُلَ؛ لأنه فيها مرفوض» انتهى كلامه.

ولا يلزم ما قاله؛ لأنَّ هذا التحويل هو أمر تقديريّ لا وجوديّ، والمقدَّرات ليست كالوجوديات، فقد يكون الشيء مقدَّرًا، ولا يُنطق به، ولا يُلفظ، وهذا كثير في هذه الصناعة؛ ألا ترى إلى المنصوب على الاشتغال، وإلى المرفوع أو المنصوب من النعوت المقطوعة ــ كيف تُحكم بعواملها وتُقدر، وليست موجودة، ولا يُلفظ بها، ولا يُنطق في لسان العرب. والذي يدلُّ على التحويل تقديرًا أنهم إذا بنوا فَعُلَ من المضاعف أو اليائي العين أو اللام قدَّروه مبنيَّا على فَعُلَ، وإن كان لا يظهر / ذلك في اللفظ، فقالوا: لَجَلَ الرجلُ، ولَقَوِيِ، ولَشَوِيَ، ولَعَيِيَ، ولطابَ، وقدَّروا هذه كلها على فَعُلَ، وعرض فيها من الإعلال ما ردَّها إلى هذه الأوزان، وقد تبيّن هذا وفي باب نِعمَ وبئسَ حين بيَّنَّا أحكام فَعُلَ للتعجب وكيفية بنائه في الأفعال.

ص: 204

وإنما كان النقل بالهمزة، ولم يكن بالتضعيف؛ لأنَّ التضعيف فيه تكلُّف وعلاج، قاله بعض أصحابنا، يعني أنهم قالوا: ما أَحْسَنَ زيدًا! وما أَظرَفَه! ولم يقولوا: ما حَسَّنَ زيدًا، وما ظَرَّفه، بتضعيف العين. وإنما عدلوا إلى الهمزة لما في التضعيف من اجتماع الأمثال في نحو: ما شَدَّده، ومن الجمع بين المعتلّين والتشديد في: ما طَوَّلَه، وما بَيَّنَه، فعدلوا إلى الهمزة لأنَّ النطق بها أخف، نحو،: ما أَشَدَّه! وما أطْوَلَه! وما أبْيَنَه!

وقوله وهمزةُ أَفْعِلْ للصيرورة قال المصنف في الشرح: «أي: لتحوّل فاعله ذا كذا، فأصل قولك أحْسِنْ بزيد! أَحْسَنَ زيدٌ، أي: صار ذا حُسنٍ تامّ، وهو نظير أثري الرجل: صار ذا ثروة، وأَتْرَبَ: صار ذا مالٍ كالتراب، وأَنْجَبَ، وأَظْرَفَ: صار ذا ولد نجيب، وذا ولد ظريف، وأخْلَتِ الأرضُ، وأَكْلأَتْ، وأَكْمَأَتْ: صارت ذات خلاً وكَلأٍ وكَمْأةٍ، وأَوْرَقَتِ الشجرةُ، وأَزْهَرَتْ، وأثْمَرَتْ: صارت ورقٍ وزهر وثَمر» انتهى.

وهذا الذي ذكره هو مذهب جمهور البصريين. ومَنْ ذهب إلى أنَّ أَحْسِنْ فعلُ أمر حقيقة فليست الهمزة فيه للصيرورة، بل هي للتعديه. وإنما كثَّر المصنف المثل بأَفْعَلَ ـ أي: صار صاحب كذا ــ لُيِرِيَ أنه باب متَّسع، فلا يُنكر أن يُدَّعى ذلك في أَحْسِنْ أنه بمعنى أَحْسَنَ، أي: صار ذا حُسْن، ومع ذلك فاقتياسه في فعل التعجب ـ أعني استعمال صورة الأمر بمعنى أَفْعَلَ، أي: صار ذا كذا ــ يدلُّ على أنه ليس منه؛ لأنَّ أَفْعَلَ بمعنى صار ذا كذا لا ينقاس وإن كان قد جاءت منه ألفاظ كثيرة.

وقال بعض أصحابنا: وأَفْعِلْ محمول على أَفْعَلَ في التغيير من فَعُلَ. يعنى أنه

من: حَسُنَ زيدٌ، ثم أَدخلتَ عليه همزة الصيرورة، فقلتَ: أَحْسَنَ زيدٌ، ثم أتيت بصورة أَفْعِلْ منه.

ص: 205

وقوله ويجب تصحيح عينيهما تقول: ماأَبْيَنَ الحقَّ! وما أَنْوَرَه! قال المصنف في الشرح: «وأصله الإعلال، لكن صُحِّحَ حملاً على أَفْعَلِ التفضيل، كما حُمل هو على المتعجَّب به في امتناع التأنيث والتثنية والجمع، فإنهما متناسبان وزنًا ومعنًى، فأُتبع أحدهما الآخر فيما هو أصل فيه، كما أُجري اسم الفاعل مجرى المضارع في العمل، وأُجري المضارع مجرى اسم الفاعل في الإعراب، وكما أجري الحسنُ الوجهَ على الضارب الرجلَ في النصب، والضاربُ الرجلِ على الحسنِ الوجهِ في الجر، ثم حُمل أَفْعِل المتعجَّب به على أخيه، فقيل: أَنْوِرْ بالحق! وأَبْيِنْ به! كما قيل: ما أَبْيَنَه! وما أَنْوَرَه!» انتهى.

وهذا الذي ذكره تكثير لا طائل تحته، وما ذكره من وجوب تصحيح عيني أَفْعَلَ وأَفْعِلْ هو مذهب الجمهور.

وذهب الكسائي إلى أنه يجوز في فعل الأمر في التعجب التصحيح كما ذهب إليه الجمهور، والإعلال، فتقول: أَطْوِلْ /بهذه النخلة! وأَطِلْ بها! في معنى: ما أَطْوَلَها!

والصحيح المسموع من العرب في التعجب التصحيح، قال الشاعر:

.........................

فَأَحْصِنْ وأَزْينْ لا مرىئٍ إنْ تَسَرْبَلا

وقال الآخر:

فَأَطْوِلْ بِأَيْرٍ مِنْ

مَعَدَّ وثَروةٍ

نَزَتْ

بإيادٍ

خَلفَ دارِ

مُرادِ

وقوله وفَكُّ أَفْعِل المضعَّف هذا أيضًا فيه خلاف: ذهب الجمهور إلى وجوب الفك في التعجب، فتقول: أَشْدِدْ بحمرِة زيدٍ! وأَعْزِزْ بعمرٍو! وذهب الكسائي إلى

ص: 206

جواز ذلك، فأجاز: أَجْلِلْ بزيدِ! وأَجلَّ بزيدٍ، والمسموع من العرب في التعجب الفكُّ، قال الشاعر:

أعزِزْ عليَّ بأنْ أُرَوَّعَ شِبْهَها

أو أنْ يَذُقْنَ

على يَدَيَّ حِماما

وقال المصنف في الشرح: «ولزمَ فَكُّ أَفْعِل المضاعف، نحو: أَجْللْ به وأَعْززْ! لأنَّ سبب الإدغام في هذا النوع إنما هو تلاقي المثلين متصلين متحركين

تحركًا غير عارض؛ أو ساكنًا أحدهما سكونًا غير لازم، كسكون أَجْلِلْ إذا لم يكن تعجبًا؛ لأنه معرَّض للحركة في نحو: أَجْلِلِ الله، وأَجلَاّه، وأَجِلُّوه، وأَجِلَّيه، فلذلك لم يجب فكُّ أَجْلِلْ إذا لم يكن تعجبًا، ووجب إذا كان إياه» انتهى. ويعني أنه لزم الفكّ لأنه لم يتصل المثلان متحركين في التعجب؛ لأنه لا يجيء بعد الثاني ساكن فيتحرك آخر الفعل له، إنما يجيء متحرك، وهو المجرور بالباء، فلذلك لم يوجد فيه سبب الإدغام.

وقوله وشذَّ تصغير أَفْعَلَ مقصورًا على السماع، خلافًا لابن كيسان في اطْراده قال المصنف في الشرح 2: «ولِشَبَهِ أَفْعَلَ المتعجَّب به بأفْعَلِ التفضيل أَقدمَ على تصغيره بعض العرب، فقال:

يا ما أُمَيْلحَ غزلانًا، شَدَنَّ، لنا

مِن

هؤليَّائكُنَّ الضَّالِ والسَّمُرِ

وهو في غاية الشذوذ، فلا يقاس عليه، فيقال في ما أجْمَلَه! وما أَظْرَفَه! ما أُجَيْملَه! وما أُظَيرفَه! لأن التصغير وصف في المعنى، والفعل لا يوصف، فلا بُصَغَّر. وأجاز ابن كيسان اطِّرادَ تصغير أَفْعَلَ» انتهى.

ص: 207

وهذا الذي ذكره عن ابن كيسان من اطِّراد تصغير أَفْعَلَ في التعجب هو نص كلام البصريين والكوفيين. أمَّا البصريون فنصَّوا على ذلك في كتبهم ــ وإن كان خارجًا تصغيره عن القياس ــ فقالوا: لم يُصَغَّر من الأفعال إلا أَفْعَل في التعجب. وقال س:

«وسألتُ الخليل عن قول العرب: ما أُمَيْلحَه، فقال: لم يكن ينبغي أن يكون في القياس، وليس شيْ من الفعل ولا شيء مما يسمى الفعل به يُحَقَّر إلا هذا وما أشبهه من قولك: ما أَفْعَلَه» انتهى. فدلَّ قوله «إلا هذا وما أشبهه من قولك ما أفْعَلَه» على أنَّ تصغيره مقيس، فتقول: /ما أُظَيرِفَه! وما أُجَيمِلَه! وكذلك كل ما يقال فيه ما أَفْعَلَه.

فرع: إذا تعجبت من نحو حَيِيَ، فقلت: ما أَحْيا زيدًا! ثم صغَّرته ــ قلت: ما أُحيَّ زيدًا! وذلك أنَّ أصله: ما أُحَيِّيَ زيدًا! اجتمعت ثلاث ياءات: الياء التي للتصغير، والياء التي هي عين الكلمة، والياء التي هي لام الكلمة، فحذفت الأخيرة التي هي لام الفعل، وتحركت الياء التي بعد ياء التصغير بالفتح؛ لأنَّ الفعل الماضي مبنيّ على الفتح. ونظير ذلك أُحَيُّ ــ تصغير أَحْوى ــ عند من يحذف ويمنع الصرف؛ لأنه نوى ما حذف.

وقوله وقياس أَفْعِلْ عليه أي: وخلافًا لابن كيسان في قياس أَفْعِلْ في التصغير على أَفْعَلَ، فيجيز: أُحَيْسِنْ بزيد! قياسًا على ما أُحَيْسنَ زيدًا! ولم يُسمع التصغير في أَفْعِلْ، إنما سُمع في أَفْعَلَ، وإذا كان تصغير أَفْعَلَ شاذَّا في القياس وخارجًا عن النظائر فلا يمكن القياس عليه البتة.

ص: 208

وقوله ولا يتصرفان يعني أنَّ «ما أَفْعَلَه» لا يقال منه مضارع ولا أمر، وكذلك أَفْعِلْ في التعجب، لا يُستَعمَل منه ماضٍ ولا مضارع، وليس أَفْعِلْ هذا أمرًا من أَفْعَلَ عند الجمهور لاختلاف مدلول الهمزة فيهما؛ لأنها في أَفْعَلَ للنقل، وفي أفْعِلْ للصيرورة.

قيل: وإنما منع التصرف لأنه إنما يُتَعَجَّب مما وَقع لا مما يقع، فلمَّا كان معنى التعجب لا يختلف باختلاف الزمان لزم طريقهً واحدة، وهي المضيُّ إمَّا لفظًا ومعنًى، وإمَّا معنًى لا لفظًا، وذلك في أَفْعِلْ. وقيل: ضُمِّنَ معنَى التعجب، فأشبهَ الحرف؛ لأنَّ الموضوع للدلالة على المعاني إنما هي الحروف.

وقال أبو الحسن بن الباذش: «الحرف الذي ضُمِّن أَفْعِلْ عند جماعة من النحويين هو اللام؛ لأنَّ الأصل في نحو أَحْسِنْ بزيد: لُحْسِنْ بزيدٍ، أي: ليُحْسِنْ زيدٌ، فدخلت اللام فيما أريد به معنَى التعجب كما دخلت فيما أريد به معنَى الأمر؛ ثم حذفت اللام وحرف المضارعة كما يُحذَفان من فعل الأمر، ورُدَّت الهمزة المحذوفة لسكون ما يليها؛ لأنَّ الأصل: لُيؤَحْسِنْ زيدٌ، وما أَفْعَلَ في عدم التصرف محمول على أَفْعِلْ به» انتهى.

وما ذكره المصنف من كونهما لا يتصرفان صحيح، لكنْ في أَفْعَلَ بعد «ما» خلافٌ: ذهب البصريون إلى أنه يلزم فيه لفظ المضيّ، لا خلاف عنهم في ذلك.

وأجاز هشام بن معاوية الضرير ــ وهو من أئمة الكوفيين ــ أن تأتي لهذا الماضي بمضارع في التعجب، فتقول: ما يُحْسِنُ زيدًا! قال هشام: «لأنه قد أحاط العلم بأنه يكون» . وما قاله قياس، ولم يُسمع من العرب، فوجب اطِّراحه.

وقوله ولا يليهما غيرُ المتعجَّب منه إن لم يتعلَّق بهما يعني أنه لا يُفصل بين أَفْعَلَ ومنصوبه ولا أَفْعِلْ ومجروره بشيء لا يتعلَّق بهما، وسبب ذلك ضعفهما

ص: 209

بكونهما لا يتصرفان، فأشبها إنَّ وأخواتها. وقيل: لأنهما مشبَّهان بالصلة والموصول لافتقار الأول إلى الثاني من جهة المعنى، فإذا كان ثمَّ ما /يتعلق بغيرهما فلا يجوز أن يليهما، ومثال ذلك: ما أَحْسَنَ آمرًا بمعروف! وما أَقْبَحَ ضاحكًا في الصلاة! فلو قلت: ما أَحْسَنَ بمعروف آمرًا! وما أَقْبَحَ في الصلاة ضاحكًا! لم يجز. وكذلك: ما أنْفَعَ معطيك عند الحاجة! وأَنْفِعْ بمعطيك عند الحاجة! وأَصْلِحْ بآمرِك بمعروف! وذكر المصنف في الشرح أنه لا خلاف في منع الفصل بذلك.

وقوله وكذا إن تعلق بهما وكان غيرَ ظرف أو حرف جر قال المصنف في الشرح: «وكذا لا خلاف في منع إيلائهما ما يتعلق بهما من غير ظرف وجار ومجرور، نحو: ما أَحْسَنَ زيدًا مقبلاً! وأَكْرمْ به رجلاً! فلو قلت: ما أَحْسَنَ مقبلاً زيدًا! وأَكْرمْ رجلاً به! لم يجز بإجماع» انتهى.

وهذا الذي ذكر أنه لا يجوز: ما أَحْسَنَ مقبلاً زيدًا، فتفصل بنهما بالحال بإجماع، تبعه في ذلك ابنُه بدر الدين محمد في «شرح الخلاصة» من نظم أبيه، فقال:«لا خلاف في امتناع الفصل بينه ــ أي: بين الفعل ــ والمتعجَّب منه بغير الظرف والجار والمجرور، كالحال والمنادى» .

وليس كما ذكرا، بل الخلاف في الحال موجود، ذهب الجرمي من البصريين وهشامٌ من الكوفيين إلى أنه يجوز الفصل بينهما بالحال.

وأمَّا الفصل بالمنادى فذكر ابن المصنف 4 أنه لا خلاف في منع ذلك. وفي الكلام الفصيح ما يدلُّ على جواز ذلك، روي عن عليِّ بن أبي طالب ــ كرَّم الله

ص: 210

وجهه ــ قولُه لَمَّا قُتل عَمَّار: «أعْززُ عليَّ ــ أبا اليَقظانِ ــ أنْ أراكَ صَريعًا مُجَدَّلاً» 1

وقال المصنف في الشرح: «وهذا مُصَحِّح للفصل بالنداء» .

وأجاز الجرميّ الفصل بالمصدر، فأجاز: ما أحسَنَ إحسانًا زيدًا! ومنع ذلك الجمهور لمنعهم أن يكون له مصدر، وإجازته هو أن ينصب المصدر.

وقوله وإن كان أحدَهما فقد يَلي وفاقًا للفراء والجرميّ والفارسّ وابن خروف والشلوبين انتهى. وهو مذهب المازنيّ. وذهب الأخفش، والمبرد، وأكثر البصريين إلى أنَّ ذلك لا يجوز، واختاره الزمخشريُّ، ونسبه الصَّيْمَرِيُّ إلى س. وحكى سلمة عن الفراء أنه أجاز: ما أَحْسَنَ عليك البياضَ! والجواز مذهب الجرميّ، وهو مشهور عنه، وهو مذهب الزجاج. وقال الأخفش في «الأوسط»: «لو قلت ما أَحْسَنَ زيدًا ومعه رجلاً! تريد: ورجلاً معه ــ لم يجز؛ لأنك إذا عطفت رجلاً على زيد فكأنك قلت: ما أَحْسَنَ معه رجلاً! وذلك لا يجوز؛ لأنك لا تفصل بين [فعل](10) التعجب (11) والاسم بشيء، لا تقول: ما أحْسَنَ في الدار زيدًا! ولا: ما أَقْبَحَ عندك زيدًا! تريد: ما أَحْسَنَ زيدًا في الدار! وما

ص: 211

أَقْبَحَ زيدًا عندك! لأنَّ أحْسَنَ فعل ضعيف لا يتصرف» انتهى كلام الأخفش.

وحكى ابن خالويه أنَّ الأخفش أجاز أن تحجز بالظرف، فتقول: ما أَحْسَنَ في الدار زيدًا. فعلى هذا يكون للأخفش قولان: المنع، والجواز.

وقال الأستاذ أبو عليى: «حكى الصَّيْمَرِيُّ أنَّ مذهب س منعُ الفصل بالظرف بين فعل التعجب ومعموله.

والصوابُ أنَّ /ذلك جائز، وهو المشهور والمنصور.

وقال السيرافي: [قول س (ولا تُزيلَ شيئًا عن موضعه): إنما أراد بذلك أنك تقدَّم ما وتُوليها الفعلَ، ويكون الاسم المتعجَّب منه بعد الفعل، ولم يتعرض للفصل بين الفعل والمتعجَّب منه]، [وكثير من أصحابنا يُجيز ذلك، منهم الجرمي، وكثير منهم يأباه، منهم الأخفش والمبرد]» انتهى.

والصحيح جواز ذلك للقياس والسماع:

أمَّا القياس فنقول: ليس فعل التعجب بأضعف من إنَّ، ويجوز الفصل بالظرف والمجرور بينهما وبين اسمها، وإنْ لم يكن خبرًا، فتقول: إنَّ بك زيدًا مأخوذٌ، وإنَّ اليوم زيدًا مسافرٌ، ولا يقال إنَّ باب إنَّ لما خرج من الضعف إلى القوة عومل معاملة القوي، بخلاف فعل التعجب، فإنه خرج من القوة إلى الضعف؛ لأنَّا تقول:

ص: 212

فعل التعجب قويّ الأصل، بخلاف أنَّ، فعادل قوة الأصل ضعف المراد، فلم يكن أضعفَ من إنَّ. وأيضًا فإنَّ الظرف والجارّ والمجرور يُغتفر الفصل بهما هنا أولى. وأيضًا فإنّ بئسَ أضعف من فعل التعجب، وقد فصل في نحو {بئس للظلمين بدلا)، فأن يُفصل هنا أولى.

وأمَّا السماع فقولُ عليّ، وقد مر بَعمَّار، فمسح التراب عن وجهه:«أعْززْ عليَّ ـ أبا اليَقْظان ــ أنْ أَراكَ صَريعَا مُجَدَّلاً» ، وقولُ عمرو بن معدي كربَ:«لِلِه دَرُّ بني مجاشع ــ وروي: لِلِهَّ دَرُّ بني سُلَيم ــ ما أَحْسَنَ في الهجاءِ لِقاءَها! وأَكْثَرَ في اللَّزباتِ عَطاءَها!» ، وروري:«وأثَبَتَ في المَكْرُماتِ بَقاءَها» ، ومِن كلامهم:«ما أَحْسَنَ بالرجلِ أنْ يَصدُق» ، وقال الشاعر:

حَلُمتَ، وما أَشْفَى لِمَنْ غِيظَ حِلْمَه!

فآضَ الذي

عاداكَ

خِلَاّ

مُوالِيا

وقال:

خَليلَيَّ ما أَحْرَى بِذِي اللُّبَّ أنْ يُرَى

صَبُورًا! ولكنْ لا سبَيلَ إلي الصَّبْرِ

وقال:

ص: 213

أعزِزْ عليَّ

بأنْ

أُرَوِّعَ

شِبْهَها!

أو

أنْ

يَذُقْنَ

على يَدَيَّ حِماما

وقال:

أُقِيمُ

بِدارِ الَحزْمِ ما دامَ

حَزْمُها

وأحْرِ

إذا حالَتْ

بأنْ

أَتَحَوَّلا

وقال:

فَصَدَّتْ، وقالت: بَل تُريدُ فَضيحتي

وأَحْبِبْ

إلى قَلبي

بِها مُتَغَضِّبا

وقال:

وقالَ نَبِيُّ

المُسلمينَ: تَقَدَّمُوا

وأَحْبِبْ إلينا أنْ نكُونَ المُقَدَّمَا

وأجاز بعضهم الفصل على قبح.

فتخلص من ذلك ثلاثة مذاهب: المنع، والجواز فصيحًا /والجواز على قبح.

وقوله وقد تليهما عند ابن كيسان «لولا» الامتناعية أجاز: ما أحْسَنَ لولا بُخلُه زيدًا! وأحْسِنْ لولا بُخلُه بزيد! ولا حجة له على ذلك.

واعلم أنه لا يجوز تقديم معمول فعل التعجب على الفعل ولا معمول أفعَلَ على ما، لا يجوز: زيدًا ما أَحْسَنَ! ولا: ما زيدًا أَحْسَنَ! ولا بزيدٍ أَحْسنْ! وإن كان في غير هذا الباب يتقدم في نحو هذا التركيب، لو قلت زيدٌ ضربَ عمرًا جاز زيدٌ عمرًا ضربَ، بلا خلاف، وجاز: عمرًا زيدٌ ضربَ، على خلاف، ولو قلت اعتصمْ بزيدٍ جاز بزيدٍ اعتصمْ.

وعلة ذلك أنَّ فعل التعجب لا يَتصرف، وما لا يَتصرف في نفسه لا يُتصرف في معموله. وأيضًا فإنَّ المجرور في أَفْعِلْ بزيدٍ عند جمهور البصريين فاعل، والفاعل لا يجوز تقديمه على الفعل.

ص: 214

ولا يجوز تأكيد المضمر في أَحْسَنَ ولا في أَحْسِنْ على مذهب من اعتقد أنَّ فيه ضميرًا. قيل: لأنَّ المراد الإبهام في ذاته، والتأكيد يكون في غير المبهم الذات؛ ألا تراه لا يكون في النكرة، فلا يكون هنا. وقيل: لأنه فصل بين الفعل ومعموله. فعلى التعليل الأول لا يجوز مطلقًا، وعلى التعليل الثاني يجوز إذا كان بعد المعمول، نحو: ما أَحْسَنَ زيدًا نفسُه!

ولا يجوز العطف على ذلك الضمير.

وإذا اختلف متعلَّق ما أَفْعَلَ فلا يجوز حذف «ما» ، لو قلت «ما أَحْسَنَ زيدًا وأقْبَحَ خالدًا» كان قبيحًا؛ لأنَّ هذا الباب لم يَتصرف فعله، فلزمَ طريقهً واحدة كالَمَثل، فلا تنوب الواو فيه عن «ما» .

وقال المصنف في الشرح: «ولمَّا كان فعل التعجب مسلوب الدلالة على المضي، وكان المتعجَّب منه صالحًا للمضيّ ــ أجازوا زيادة كان إشعارًا بذلك عند قصده، نحو: ما ــ كان ــ أَحْسَنَ زيدًا!» انتهى.

فأمَّا قوله «إنَّ فعل التعجب مسلوب الدلالة على المضيّ» فهذه مسألة خلاف، وقد ذكرها بعض أصحابنا، قال: ذهب بعض النحويين إلى أنَّ زمانه هو للحال، فإذا قلت ما أَحْسَنَ زيدًا! فإنك لا تقول ذلك إلا وهو في الحال حسنٌ، ولذلك إذا أردت الماضي أدخلتَ كان، فقلت: ما ــ كان ــ أَحْسَنَ زيدًا!

وذهب بعضهم إلى أنه بمعنى المضيّ إبقاءً للصيغة على بابها، ألا أنه يدلُّ على الماضي المتصل بزمان الحال، فإن أردتَ الماضي المنقطع أتيت بكان، وهو قول الأكثرين.

وهذان القولان مبنيَّان على وجوب كون المتعجَّب منه ثابتًا، وقد اختُلف فيه:

ص: 215

فمنهم من أوجب الثبوت؛ لأنَّ التعجب تأثُّر عن مؤثر، ولابُدَّ من وجوده، وإلا وُجد المعلول دون علته، ومؤثَّرُه الصفة المشاهدة، ولأنه يدخله معنى المدح والذمّ، ولا يكون إلا من ثابت، ولأنَّ معنى الكلام الإخبار بحصوله، فلا يخرج عنه لكونه كذِبًا ولملازمته الماضي، وهو يدلُّ على الثبوت.

وذهب بعضهم إلى جواز ذلك محتجَّا بقولهم: ما أَحْسَنَ ما تكون هذه الجارية! وما أَحْسَنَ ما يكون زيد! وما أطولَ ما يكون هذا /الزرع! ونحوه، مع أنه ليس بموجود.

وأجاب الأوَّلون عن ذلك بأنه ربما يقال ذلك فيما لا بُدَّ من كونه، وأنه لا بُدَّ أن ينتهى إليه وجوبًا أو عادةً، كقوله تعالى (اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا}، وقال {فما أصبرهم على النار)، أو على حذف، أي: على عملِ أهل النار، أي: ما أجرأهم عليه. وكذلك قولهم: ما أكثرَ قيامَه في ساعة كذا وكذا! على أنه مما يفعل ذلك حتى كأنه واقع. وكذلك: ما أحسنَك إذا تزَّيْت! إن كان من عادته جاز، وإلا لم يجز. وإنما جاز في هذا لأنه لمَّا كان يبلغه صار كأنه حاضر وواقع.

قال: والذي يقال إنه لا خلاف في أنَّ السبب لتأثُّر النفس لا بُدَّ أن يكون موجودًا أو مقدَّرًا، والنفس تتأثَّر للتقدير، كما تقول: عجبتُ مِن ضَربك غدًا، وإنما النظر في فعل التعجب نفسه، هل يلزم فيه المضيّ معنًى كما لزم لفظًا أو لا؟ فمَن قال لا يلزم كان على ضربين: منه ما يكون ماضيًا لفظًا ومعنًى، إمَّا متصل الآن أو منقطع الاتصال بكان، ومنه ما يكون ليس ماضيًا معنًى، نحو: ما أَحْسِنَ زيدًا غدًا! أي: شيء يُحسِنُ زيدًا غدًا، أتى بلفظ الماضي ليجعله كأنه قد وقع، سواء أكان مما

ص: 216

شأنه أن يصار إليه أم لا. ويدلُّ عليه أنه لو كان ماضيًا في المعنى حقيقة أو مجازًا لتناقض مع الظروف المستقبلة معنًى او لفظًا، فلا تقول: ما أحسَنَه إذا رَكب! و (إذا) للمستقبل، وكقوله تعالى (اسمع وأبصر يوم يأتوننا}، فدلَّ على أنه ماضٍ لفظًا، ولو تجوَّزتَ فيه لعلَّقتَه بظرف يناسبه، كقوله تعالى (وإذ قال الله}، ولمَّا لم يتجوَّز في معنى الفعل في قوله (حتى إذا فتحت} لم يقل: إذْ فُتحت. وأمَّا أَفْعِلْ به فصيغته صيغة المستقبل، ومعناه على القول الأول ــ لأنَّ المجرور فاعل ــ إمَّا حال أو ماضٍ، وعلى القول الثاني مستقبل. انتهى.

و «كان» هذه الداخلة بين «ما» و «أَفْعَلَ» فيها ثلاثة مذاهب:

أحدها أنها زائدة، لا اسم لها ولا خبر ولا فاعل، وهو مذهب أكثر الكوفيين والبصريين، واختاره الفارسيّ.

والثاني: أنها زائدة، وهي كان التامَّة، واسمها ضمير المصدر، أي: كان هو، أي: الكون، وهو مذهب السيرافيّ. وقيل: ضمير «ما» .

والثالث: أنها كان الناقصة، واسمها ضمير يعود على ما، وخبرها فعل التعجب، وهو مذهب الجرميّ، ونقله بعضهم عن البصريين، ولا يصحُّ ذلك عنهم.

ص: 217

وهذا أبعد هذه الأقوال من الصواب لظهور فساده، وذلك أنَّ العرب التزمت أن يكون خبر «ما» في التعجب على وزن أَفْعَلَ، ولأنَّ التعجب يكون واقعًا على كان، وليس مغيَّرًا إلى ما يدل على التعجب؛ إذ لا تقول: ما قامَ زيدٌ، تريد التعجب من قيامه.

والأحسن مذهب الفارسي؛ لأنَّ زيادة المفرد أسهل من زيادة الجملة.

وحُكي عن العرب إدخال «يكون» بين «ما» وأفعَلَ، حُكي: ما ــ يكونُ ــ أهْوَنَ زيدًا اليومَ! وما ــ يكونُ ــ أَحْسَنَ زيدًا!

قال الفارسيّ: إنما جاز دخول كان على فعل التعجب لأنه يقتضي دلالته علي الزمان لكونه كالاسم؛ والاسم لا يدلَّ على الزمان كدلالة الفعل، وإنما كان كالاسم لعدم /تصرفه، ولأنه يصح، فتقول: ما أقْوَلَه! كالاسم، فاحتيج إلى تبيين الزمان، ولذلك بُيِّن تامُّ الأفعال الدالة على الزمان المطلق، ولم يدخل في

غيرها من أخواتها، نحو أصبح وأمسى وما يخصُّ وقتًا.

واختلوا في زيادة غير «كان» بين «ما» و «أفْعَلَ» :

فذهب الأخفش والكسائيُّ والفراء إلى جواز زيادة أَمسى وأَصبحَ بينهما، واستُدِلَّ بما حكي من كلامهم: ما ــ أَصبَحَ ــ أَبْرَدَها! وما ــ أَمسى ــ أَدْفَأَها! وحَمل جمهور البصريين ذلك على الشذوذ والاقتصار في ذلك على ما سُمع.

ص: 218

وذهب الفراء إلى جواز ذلك في كل فعل يحتاج إلى اسم وفعل، يعني في كل فعل يحتاج إلى اسم وخبر.

وقال ابن عصفور: «وقاس الكوفيون عليها ــ أي: على كان ــ سائر أخواتها ما لم يناقض معنى الفعل المزيد معنى التعجب.

وذهب بعض النحويين إلى إجازة زيادة كل فعل لا يتعدى مما لا يناقض، نحو: ما ــ قامَ ــ أَحْسَنَ زيدًا! إذا أردت: ما أَحْسَنَ قيامَ زيدٍ فيما مضى. وحكى الكسائي عن العرب: ما ــ مَرَّ ــ أَغْلَظَ أصحابَ موسى!»، وذلك أيام موسى أمير المؤمنين؛ لأنهم مَرُّوا بغلظ وجفاءٍ، والمعنى: ما أغْلَظَ مرورَ أصحاب موسى!

وحكى الكسائي أيضًا: ما ــ يَخرجُ ــ أطْوَلَه! ولا يجوز شيء من هذا عند

البصريين. ومنع الفراء: ما ــ مَرَّ ــ أَغْلَظَ أصحابَ موسى! وأجاز الكسائي: ما أَظُنُّ أَظْرَفَك! وما ظَنَنتُ أَظْرَفَك، يجعل أَظُنُّ ناصبةّ في المعنى لـ «ما» ولـ «أَظْرَفَ» ، ويوقع أَظْرَفَ على الكاف. وأجاز ذلك هشام في الظن وأخواته.

وما ذهب إليه الكسائي فاسد؛ لأنه أَعملَ ظَنَّ في «ما» التعجبية، و «ما» مُلتَزَم فيها الرفع على الابتداء، فلا يدخل عليها ناسخ، ليس من كلامهم: كان ما أَحْسنَ فالأولى ألَاّ يجوز التوسط. ثم في قوله هذا إبطالٌ لِما روي عنه أنه قال: لا موضع لـ «ما» . قال: ونصبت عبد الله بالتعجب، وهو تقدير المفعول به، وهو في المعنى فاعل. وهذا كله اضطراب وتخليط، فكيف يقول: إنَّ «ما» لا موضع لها، ثم يجيز: ما أَظُنُّ أَظْرَفَك! يجعل أَظُنُّ ناصبة في المعنى لأَظْرَفَ.

ص: 219

وقد تأوَّلَ بعض النحويين قول الكسائي «إنه لا موضع لها» على معنى أنها ليست مثل ما في قولك: ما عندك يُعجبني، وأنه لا يقع شيء في موضعها، فإنما أراد الإبهام، وهي عنده اسم، وقد تقدَّم ما حكيناه عن الفراء من جواز الفصل بين ما والفعل بكلِّ فعل يحتاج إلى اسم وفعل.

ثم رأيناه قد ناظرَ الكسائيَّ في جواز ذلك على جهة الإنكار، قال الفراء:«أجاز الكسائي: ما ظننتُ أَحْسَنَ زيدًا! فرأيته يَلزمه أن يقول: ما مررتُ أَحْسَنَ زيدًا! فكَرِهَ ذلك الكسائيُّ، وقال: (ما ليس باسم صحيح، إنما يدخل عليه ما يبطل عنه). واعتلَّ الكسائي أنه لا يدخل الخفض عليه، كما قالت العرب: ما ضربتُ ما خلا زيدًا، وما قام ما خلا زيدًا، ولا يجوز: ما مررتُ ما خلا زيدًا؛ لأنَّ المخفوض لا يفارِق، والمرفوع والمنصوب يفارقان» انتهى ما نقله الفراء.

وذلَّ هذا النقل على وجوه:

أحدها: أنَّ الفراء حكي عن الكسائي إجازة: /ما ظننتُ أَحْسَنَ زيدًا! وقد تقدَّم من قول الفراء جواز ذلك، فيحتمل أن يكون للفراء قولان: أحدهما الجواز، والآخر المنع. ويحتمل أنه لَمَّا ناظره الكسائيُّ في جواز ذلك، واعتلَّ له بما قالت العرب ــ جوَّز الفراء ذلك، وكان قبلَ هذه المناظرة في حالة التوقف في إجازة هذه المسألة.

والثاني: قوله «إنما يدخل عليه ما يبطل عنه» أي: ما لا يعمل فيه، نحو كان وظننت، فدل ذلك على أنَّ ظننت ملغاة عن العمل نحو كان، فلا عمل لها في ما ولا في أَظْرَفَ، بخلاف ما حكى عن الكسائي أنه يجعل ظننتُ ناصبة في المعنى لـ «ما» وللفعل، فيكون له في ظننتُ إذا فصل بـ «ما» قولا: أحدهما أنها ملغاة، والثاني أنها مُعمَلة في ما وفي الفعل بعدها.

ص: 220

والثالث: أن يكون قول الفراء في جواز ذلك في كل فعل يحتاج إلي اسم وفعل ليس عامَّا، بل يعني به من باب كان، ولا يعني من باب كان وباب ظنَّ، ويفرق بين البابين بأنَّ باب كان إنما يزاد فيه الفعل خاليًا من مرفوعه دلالة على تقييد التعجب بحدث ذلك الفعل، وأمَّا: ما ظننتُ أَحْسَنَ زيدًا، وما أَظُنُّ أَحْسَنَ زيدًا ــ فإنما فصل به وهو متعلق بمرفوعة، فلا يجوز، وسُمع ذلك في باب كان في كان وأمسى وأصبح، فجاز القياس عليها في أخواتها، ولم يُسمع في باب ظنَّ فامتنع، ولم يصح قياس باب ظنَّ على باب كان ــ وإن اشتركا في النسخ للابتداء ــ لتباين أحكامهما، ولا يجيز جمهور البصريين أن يفصل بين ما والفعل إلا بـ «كان» فقط.

وإذا وقعت كان بعد ما أَفْعَلَ بصيغة الماضي دلَّت على بيان الانقطاع، أو بصيغة يكون دّلَّت على الاستقبال، على الخلاف في جواز ذلك، ولا بُدَّ من «ما» المصدرية داخلة عليها، فتقول: ما أَحْسَنَ ما كان زيدٌ! وما أَحْسَنَ ما يكون زيدٌ! وما بعد «ما كان» و «ما يكون» يرتفع على الفاعلية، وأَوقَعتَ الحُسن عليه، وأنت تريد ذات زيدٍ تجوُّزًا، كما تقول: أَخْطَبُ ما يكونُ الأميرُ قائمًا، فـ «كان» هذه تامَّة.

وأجاز جماعة ــ منهم المبرد ــ أن تكون ناقصة، وينصب زيدًا، ويجعل ما بمعنى الذي، كما تقول: ما أَحْسَنَ الذي كان في الدار، أو يكون في الدار. ومَن منعَ وقوع ما على شخص مَن يعقل منعَ هذه المسألة، وجوَّزها فيما لا يتشخص.

ص: 221

وأما «مَنْ» فهل تقع هنا؟ الظاهر جواز ذلك، وقد جوَّزه جماعة، فتقول: ما أَحْسَنَ مَنْ كان زيدًا!

ولو عطفتَ في مسألة «ما أَحْسَنَ ما كان زيدٌ» فالأقيس والأجود عودُ الضمير على الكون لا على الفاعل؛ فتقول: ما أَحْسَنَ ما كانت هندٌ وأجمَلَه! ليكون الفعل مع متعلَّقه معطوفًا على الفعل ومتعلَّقه، وهما لشيء واحد. ويجوز أن تقول: ما أَحْسَنَ ما كانت هندٌ وأجمَلَها! قاله الأخفش. وتقدَّم لنا أنه متى تباين متعلَّق الفعلين فإنَّ العطف يَقبُح، فأمَّا قوله:

ما

شَدَّ أَنفُسَهم

وأَعْلَمَهم

بما

يَحمي

الذَّمارَ به الكَريمُ المُسلِمُ

فإن الأنفس هي الضمير من حيث المعنى، فكأنه قال: ما أَشَدَّهم وأَعْلَمَهم!

وتقول: ما كان أَحْسَنَ ما كان زيدٌ! فيجوز ذلك على القياس السابق والتوجيه في رفع زيد ونصبه، ولا تكون الثانية /بخلاف الأولى، فلا يجوز: ما كانَ أَحْسَنَ ما يكونُ زيدٌ! للتناقض.

-[ص: ويُجرُّ ما تعلَّق بهما من غير ما ذُكر بـ «إلى» إن كان فاعلاً، وإلا فبالباء إن كان من مُفهِمٍ عِلمًا أو جَهلاً، وباللام إن كانا من متعدَّ غيرِه، وإن كان من متعدَّ بحرف جرَّ فبما كان يتعدَّى به.

ويقال في التعجب من كسا زيدٌ الفقراءَ الثيابَ، وظَنَّ عمرٌو بشرًا

صديقًا: ما أَكسَى زيدًا للفقراءِ الثيابَ! وما أَظَنَّ عمرًا لبشرٍ صديقًا! وينصب الآخر بمدلولٍ عليه بأَفْعَلَ لا به، خلافًا للكوفيين.]-

ش: أشار بقوله ما ذُكر إلى المتعجَّب منه والظرف والحال والتمييز، فما ليس واحدًا من هذا يجيء فيه التقسيم الذي ذكر

ص: 222

فقوله بإلى إن كان فاعلاً يعني فاعلاً في المعنى، مثال ذلك: ما أَحَبَّ زيدًا إلى عمرٍو! وما أَبْغَضَ 1 عمرًا إلى بكرٍ! وما أَمْقَتَ بكرًا إلى خالدٍ! فالتركيب قبل هذا: أَحَبَّ عمرٌو زيدًا، وأَبْغِضْ بعمرٍو إلى بكرٍ! وأَمَقِتْ ببكرٍ إلى خالدٍ.

وقوله وإلا فبالباء إن كان من مُفهِمٍ علمًا أو جَهلاً أي: وإلا يُجَرّ بإلى يُجَرّ بالباء، مثاله: ما أَعْرَفَ زيدًا بالعلم! وما أَجْهَلَ عمرًا بالفقه! وما أَبْصَرَ خالدًا بالشعر. وتقول: أَبْصرْ بزيد بالشعر! وأَجْهلْ بخالد بالفقه!

وقوله وباللام إن كانا من متعدَّ غيره أي: إن كان أَفْعَلَ وأَفْعِلْ من متعدَّ غيرِ ما يُفهِم عِلمًا أو جَهلاً، ويعني أنه قبل أن يُبنَى منه أَفْعَلَ وأَفْعِلْ كان متعديًا بنفسه إلى مفعول، وإلا إذا بُني منه أَفْعِلْ لا يكون إذ ذاك متعديًا على رأي جمهور البصريين؛ لأنَّ الهمزة إذ ذاك عندهم للصيرورة، وإذا كان كذلك أشكل أن يُعَدَّى أَفْعِلْ إلى المفعول باللام، ومثال ما ذكر: ما أَضْرَبَ زيدَّا لعمرٍو! وما أَحَبَّ 1 زيدًا لخالد! وما أَبْغَضَ زيدًا لبكر! وما أَمْقَتَ عمرًا لخالدٍ! وأَضْرِبْ بزيدٍ لعمرو! وتعدية أَضْربْ لعمرو باللام كما ذكرنا مشكلة؛ لأنَّ معناه: أَضْرَبَ زيدٌ، وأَضْرَبَ زيدٌ لا يتعدَّى، وينبغي ألاً يجوز هذا التركيب، ولا يُقْدَم عليه إلا بعد سماعه من العرب.

وقوله وإن كان مما يَتَعَدَّى بحرف جرِّ فَبما كان يَتَعَدَّى به مثاله: ما أَعَزَّ زيدًا عليَّ! وما أزْهَدَ زيدًا في الدنيا. وتقول: أَعْزِزْ بزيدٍ عليَّ! وأَزْهدْ بزيدٍ في الدنيا! فالتركيب قبل هذا: زهِدَ زيدٌ في الدنيا، وعَزَّ زيدٌ عليَّ.

وقوله ويقال في التعجب من كسا إلى آخر المسألة المتعدي إلى اثنين إن كان من باب أعطى جاز أن يُقتصر على ما كان فاعلاً في المعنى قبل التعجب، نحو:

ص: 223

ما أَعطَى زيدًا! وما أَكسَى خالدًا! وجاز أن تُعَدِّيه بعد ذلك إلى أحد المفعولين باللام، فتقول: ما أَكسَى زيدًا لعمرٍو! وما أَكسَى زيدًا للثياب! فإن جاء من كلامهم: ما أَعطَى زيدًا لعمرٍو والدراهمَ! وما أَكسَى زيدًا للفقراءِ الثيابَ! فمذهب البصريين أنه ينتصب بإضمار فعل، تقديره: أَعطاه الدراهمَ، وكَساهم الثيابَ.

ومذهب الكوفيين أنه منصوب بنفس فعل التعجب.

وإن كان من باب ظَنَّ فإنك تقتصر على الفاعل، فتقول: ما أَظَنَّ زيدًا! وما أَزْعَمَ زيدًا! هذا /مذهب البصريين. وأمَّا الكوفيون فيجيزون ذكرهما بشرط دخول اللام على الأول ونصب الثاني، هذا إن أُمن اللبس، نحو: ما أَظَنَّ زيدًا لبكرٍ صديقًا!

أصله: ظَنَّ زيدٌ بكرًا صديقًا. وإن خيفَ لبسٌ أَدخلتَ اللام على كل من المفعولين،

فتقول: ما أَظَنَّ زيدًا لأخيك لأبيك! أصله: ظَنَّ زيدٌ أخاك أباك.

وقال المصنف في الشرح: «فإن كان قبل التعجب متعدًيا إلى اثنين جررت الأول باللام، ونصت الثاني عند البصريين بمضمر مجرد مماثل لتالي (ما)، نحو: ما أكسَى زيدًا للفقراءِ الثيابَ! والتقدير: يكسوهم الثياب. وكذا يفعلون في: ما أَظَنَّ عمرًا لبشرٍ صديقًا! يقدرون: يَظُنُّه صديقًا. والكوفيون لا يضمرون، بل ينصبون الثاني بتالي (ما) بنفسه. ذكر هذه المسألة ابن كيسان في (المهذب)» انتهى.

وهذا النقل عن البصريين والكوفيين مخالف لِما ذكرناه نحن؛ لأنَّا حكينا أنَّ مذهب البصريين في نحو كسا أنك تنصب المتعجَّب منه، وهو الذي كان فاعلاً في كسا، ويتعدى لأحدهما فقط باللام، وأنه إن وجد الثاني منصوبًا فتأويله أنه ينتصب على إضمار فعل. وأمَّا في باب ظَنَّ فإنك تقتصر على الفاعل فقط، فتنصبه في التعجب، ولا يجوز أن يتعدَّى إلى شيء من الأول ولا من الثاني باللام، ولا إلى

ص: 224

الأول باللام وإلى الثاني بنفسه، هذا مذهب البصريين. وأمَّا مذهب الكوفيين في باب كسا فإنهم ينصبون ما كان قبلُ فاعلاً، ويُعَدُّون إلى الثاني باللام وإلى التالي بنفسه. وأمَّا في باب ظَنَّ فيفصلون بين أن يُلبَس الأول بالثاني أو لا، إن أَلبَس فإنهم يُعَدُّون فعل التعجب إلى كل منهما باللام، ويكون التقديم والتأخير مبينًا اللبس،

فما تقدم هو الأول، وما تأخر هو الثاني، كحالهما إذا قلت ظَنَّ زيدٌ أخاك أباك.

وإن لم يُلبس تعدَّى إلى الأول باللام، وإلى الثاني بنفسه. فلم يحقق المصنف مذهب البصريين ولا مذهب الكوفيين في المسألتين معًا، إذ حكي ما حكي عنهم فيهما، وليس بصحيح.

وقال صاحب البسيط: وأمَّا ظَنَنتُ وأخواتها فيجوز بشرط الاقتصار على الفاعل، ثم تغَّير إلى فَعُلَ، فتقول: ما أَظَنَّنِي! ولا تذكر المفعولين ولا أحدهما، أمَّا الأول فلضرورة نقله إلى فَعُلَ، وأمَّا الثاني فلامتناع الاقتصار على أحد الجزأين، ولا يصح دخول اللام. فإن كان في موضع مفعوليه «أنَّ» جاز لأنه يتعدى إليه بحرف جرّ، كما تقول: ما أَضْرَبَ زيدًا لعمرٍو! على ما نذكره، فتقول: ما أَعْلَمَنِي بأنك قائم! وقد أجاز بعضهم حذف الباء، فتقول: ما أَعْلَمَنِي أنَّك قائمٌ.

وأمَّا أَعلَمتُ فمَن جوَّزَ أَفْعَلَ جوَّز هذا بشرط الاقتصار على الفاعل؛ لأنَّ التعجب إنما يكون في الأكثر من صفة الفاعل، ولا يذكر ما عداه ولا أحدهما.

ومَن منع في النقل أو على العموم مَنع هنا مع التباسه بـ «ما أَعْلَمَنِي» ! مِن عَلمت، وهم يباعدون الالتباس هنا؛ لأنَّ مرادهم بيان ما التعجب منه ليكون عذرًا لهم فيه، فلا يكون فيما يَلتبِس.

ص: 225

-[ص: فصل

بناءُ هذين الفعلين من فِعلٍ ثُلاثيِّ مجرَّدٍ تامَّ مُثَبتٍ متصرِّفٍ قابلٍ معناه للكثرة، غيرِ مَبنيِّ للمفعول، /ولا مُعَبَّرٍ عن فاعله بأَفْعَل فَعْلاء. وقد يُبنَيان مِن فِعلِ المفعولِ إنْ أُمنَ اللَّبسُ، ومِن فِعلِ أَفْعَلَ مُفهِمَ عُسر أو جَهل، ومن مَزيدٍ فيه، فإن كان أَفْعَلَ قيسَ عليه وفاقًا لـ «س» . ورُبَّما بُنِيا من غيرِ فِعلٍ، أو فِعلٍ غيرِ متصرِّف. وقد يُغني في التعجُّب فِعلٌ عن فِعلٍ مُستَوفٍ للشروط، كما يُغني في غيره.]-

ش: ذكر المصنف شروط ما يُبنى فعل التعجب منه، وهو ما اجتمع فيه سبعة شروط، وزاد غيره: أن يكون على وزن فَعُلَ أصلاً أو تحويلاً، وألاً يكون قد استُغني عن البناء في هذا الباب بغيره. وزاد آخرون: أن يكون واقعًا 3. وآخرون: أن يكون دائمًا. ونحن نتبع هذه الشروط شَرطًا شرطًا، فنقول:

أمَّا صوغهما من فعلٍ فاحتراز من أن يُبنَيا من غير فِعل، قال المصنف في الشرح

«وقد يُبنَيان من غير فعل، كقولهم: ما أَذْرَعَ فلانةَ! بمعنى: ما أَخَفَّها في الغَزْل! وهو من قولهم: امرأة ذَراع، وهي الخفيفة اليد في الغزل، ولم يُسمَع منه فِعل. ومِثلُه في البناء من وصفٍ لا فِعلَ له: أَقْمِنْ به! أي: أَحْقِقْ، اشتقُّوه من قولهم: هو قَمِنٌ بكذا، أي: حَقيق به. وهذان أشبههما شواذُّ لبنائهما من غير فِعل» .

ص: 226

وقال أيضًا: «قُيِّدَ ما يُبنَى منه فِعلُ التعجب بكونه فعلاً تنبيهًا على خطأ من يقول من الكلب: ما أَكْلَبَه! ومن الحمار: ما أَحْمَرَه! ومن الجلْف: ما أَجْلَفَه!» انتهى.

فأمَّا دعواه أنَّ ما أَذْرَعَ فلانة! بمعنى: ما أَخَفَّها في العزل، لم يُسمع منه فعلٌ ــ فليست بصحيحة، قال ابن القَطَّاع:«ذَرُعت المرأة: خَفَّتْ يداها في العمل، فهي ذراعَ» ، فعلى هذا لا يكون قولهم ما أَذْرَعَ فلانةَ شاذُّا؛ إذ هو مصوغ من فعلٍ.

وأمَّا كون الفعل المصوغ منه أَفْعَلَ وأَفْعِلْ ثلاثَّيا فاحتراز من أن يكون رباعيَّا أصلاً أو مزيدًا، نحو: دَحرجَ وتدحرجَ، فإنه لا يمكن منه بناء أَفْعَلَ وأَفْعِلْ لهدمِ بنيته ولزومِ حذفِ بعض أصوله.

وأمَّا كونه مجردًا فاحتراز من أن يكون غير مجرد، ويأتي الكلام فيما يُبنى من الثلاثي غير المجرد عند تعرُّض المصنف له إن شاء الله.

وأمَّا كونه تامَّا فاحتراز من أن يكون ثلاثيَّا مجردًا غير تامّ، نحو كان الناقصة وظَلَّ وكَرَبَ وكادَ ونحوهن من أخوات كان. وهذا الشرط ذهب إليه الجمهور.

وأجاز بناءه من كان الناقصة بعضهم، قال أبو بكر بن الأنباري:«وتقول: كان عبد الله قائمًا، فإذا تعجَّبت 5 منه قلت: ما أَكْوَنَ عبدَ الله قائمًا! فـ (ما) مرفوعة بما في أَكْوَنَ، واسم كان مضمر فيها، وعبد الله منصوب على التعجب، وقائمًا خبر كان، فإن طرحت وتعجبت قلت: أَكْوِنْ بعبد الله قائمًا! وأَكْوِنْ بعبدَي الله قائمين! وأَكْوِنْ بعبيدِ الله قيامًا!» .

ص: 227

وقال صاحب «البسيط» : «أمَّا كان وأخواتها مما كان ثلاثَّيا أو غير ثلاثي فالأكثرون يمنعون فيها التعجب، فلا تقول: ما أَكْوَنَ زيدًا قائمًا! لوجوه: أحدها أنها ليست بقويَّة في الفعلية، بل هي لمجرد الزمان، ولا تدل على المصدر. وقيل: إن تُعُجِّبَ منها فإمَّا للمصدر أو للزمان، ولا يصحّ، أمَّا الأول فلأنها لا مصدر لها، وأمَّا الزمان فلا يُتعجَّب منه؛ لأنه لا فعل له، وليس كان فعلَه. وقيل: إن تُعُجِّبَ فلا بُدَّ من رده إلى فَعُلَ، فيُقتصر على أحد الجزأين، /ولا يكون، لا يقال: يؤتى بالخبر كما يؤتى بالخبر كما يؤتى بالمفعول، فتقول: ما أَضْرَبَ زيدًا لعمروٍ؛ لأنَّ اللام لا تدخل على الخبر، لا تقول: ما أَكْوَنَ زيدًا لقائم! وكذلك أخواتها. وأمَّا الفراء فجوَّز ذلك ــ أعني بناءها للتعجب ــ حملاً على: ضربَ زيدٌ عمرًا؛ ولا يكون لما ذكرنا» انتهى.

وفي الكتاب الذي انتخبه أبو مروان عبيد الله بن عمر بن هشام الحضرمي: ما أَكْوَنَ زيدًا قائمًا! عند الفراء جائز، ولم يُجزه أكثر النحويين، وهو الصحيح؛ لأنها موضوعة للزمان مجردة من معنى الحدث، ولا فائدة في التعجب بها، فلذلك امتنع أَفْعَلَ منها.

وأمَّا كونه مُثْبَتًا فاحتراز من أن يكون منفيَّا؛ لأنه لا يُتَعَجَّب منه؛ لأنَّ فِعل التعجب هو مُثَبت، فمحال أن يُبنى من المنفيّ. وقال المصنف في الشرح:«وقُيِّدَ بكونه مُثبتًا تنبيهًا على أنه لا يُبنى من فعلٍ مقصودٍ نفيُه لزومًا، كـ (لم يَعِجْ)، أو جوازًا، كـ (لم يَعُجْ)» انتهى. ويعني أنَّ عاجَ يَعيج ــ بمعنى انتفعَ ــ لم تستعمله العرب إلا منفيَّا، وعاجَ يَعوج ــ بمعنى مالَ ــ استعملته العرب مثبتًا ومنفيَّا. وقد ذكر ثعلب في «الفصيح» قوله:«وشَربتُ دَواءً فما عجْتُ به، أي: ما انتَفَعتُ به» .

ص: 228

وما ذهب إليه المصنف من أنَّ عاجَ ــ بمعنى انتفعَ ــ استعملته العرب منفيَّا لا مثبتًا ليس بصحيح، أنشد أبو علي القالي في «النوادر» ، قال: أنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:

ولم أرَ شيئًا بعدَ لَيلَى أَلَذُّهُ

ولا مَشْرَبًا أَرْوَى بهِ، فأَعِيجُ

وأمَّا كونه متصرفًا فاحتراز مما لا يتصرف، نحو يَذّرُ ويَدَعُ ونحوهما، فإنه لا يجوز أن يصاغ منه؛ لأنه إذا بُني منه كان تصرفًا فيه، والفرض أنه غير متصرف.

وقال المصنف في الشرح: «ومثلهما في الشذوذ قولهم: ما أَعْساه! وأَعْسِ به!

معناه: ما أَحَقَّه! وأَحْقِقْ به! فبَنَوا فعل التعجب من عَسى، وهو فعل غير متصرف»

انتهى. ويعني بقوله «ومثلُهما» أي: ومثل أَقْمِنْ به! أي: أَحْقِقْ.

وأمَّا كون معناه قابلاً للكثرة فاشترطه الفراء، وهو صحيح واحتراز من الأفعال التي لا تقبل الزيادة، نحو مات وفَنِيَ وحدثَ، فلا تقول: ما أَمْوَتَ زيدًا!

ولا: أَمْوتْ به! وقد شذَّ من الألفاظ الثابتة التي لا يقبل معناها الزيادة قولهم: ما أَحْسَنَه! وما أَقْبَحَه! وما أَقْصَرَه! وما أَطْوَلَه! وما أَهْوَجَه! وما أَشْنَعَه! وما أحْمَقَه! وما أنْوَكَه! وسيأتي اختيار المصنف في بعض هذه الألفاظ إن شاء الله.

ص: 229

وأمَّا صفات الله ــ تعالى ــ فلا يجوز التعجب منها، لا يقال: ما أَعْلَمَ الله! لأنَّ علمه ــ تعالى ــ لا يقبل الزيادة، وقالت العرب: ما أَعْظَمَ الله وأجَعلَّه! وقال الشاعر:

ما أَقْدَرَ الله أن يُدْني على شحَطٍ

مِنْ دارُهُ الحزنُ مِمَّنْ دارُهُ صُولُ

وتأوَّلَ النحويون قول العرب على وجوه.

وأَما كونه غير مبنيَّ للمفعول فلأنه لا يجوز: ما أَضْرَبَ زيدًا! وأنت تتعجب من الضرب الذي حَلَّ بزيد. وعلة المنع كونه يلتبس بفعل الفاعل، هكذا علَّله بعضهم، فيظهر من صاحب هذا التعليل أنه يجيز التعجب من فِعل المفعول إذا عُدم اللبس، /فيكون قول الرماديّ:

ولا شِبلَ أَحْمَى مِن غَزالٍ، كأنَّهُ

من السُّمرِ والأحراس في خِيْسِ ضَيْغَمِ

جائزًا لأنه قد عدم اللبس. وما صحَّ فيه «أَفْعَلُ مِن» صَحَّ فيه «ما أَفْعَلَه» .

وإلى هذا ذهب خَطَّاب المارِدِيّ، قال: وقد جاء مثله، قال كعب بن زهير:

فَلَهْوَ أَخوَفُ عندي إذْ أُكَلِّمُهُ

وقيلَ: إنَّكَ مَسلُوبٌ ومَقتُولُ

مِنْ ضَيْغَمٍ بِضِراءِ الأَرضِ، مُخْدَرُهُ

بِبَطْنِ عَثَّرَ غيلٌ، دُونَهُ غِيلُ

ص: 230

وعلًل المنعَ بعضُهم بأنَّ المفعول ليس له فيما أُقع به من التعجب كَسْبٌ، فأشبه بذلك الخِلَق والألوان إذ ليست من كَسْبِ المتعجَّب منه. فمَن علًل بهذا كان بيت الرماديّ عنده لحنًا.

وقد علًل ذلك بعضهم بأنه إنما امتنع ذلك لأنَّ الفعل هنا يُرَدُّ إلى فَعُلَ، وفِعْلُ

المفعول يكون على فُعِلَ، فإن صيغ على فَعُلَ كان خروجًا عن القياس، فلا يجوز.

والصحيح أنه لا يجوز، وأنه لا يُتَعَدَّى ما سُمع منه، بل يُقتصر عليه.

ومَن أجاز ذلك قال: ما كان مستعملاً في الأصل على فُعِلَ فكأنه للفاعل، فلا يُلبس، نحو: شُغِلَ، وجُنَّ، وأُولِعَ به، فصار كظَرُفَ، وما لم يكن في الوضع على فُعِلَ فلا بُدَّ من الفارق بينه وبين فعل الفاعل، فلذلك قالوا في الفاعل: ما أَمْقَتَه لي! وما أَبغَضَه لي! وما أَحْظاها لي! ونحوه، فالتزموا اللام للفاعل، وإلى ونحوها من الظروف نحو عندي وفي عيني للمفعول، فوقع الفرق. وسيأتي اختيار المصنف في ذلك إن شاء الله.

وأمَّا كونه لا يُعَبَّر عن فاعله بأَفْعَل فَعْلاء فاحتراز من نحو: شَنِبَ

ودَعِجَ ولَمِيَ وعَرِجَ، ولا فرق بين أن يكون عيبًا، كبَرِص وبَرِشَ وحَوِل وعَمِي وعَوِر، وبين ما كان من المحاسن، كشَهِل وكَحِلَ ودَعِج ولَمِي.

ص: 231

وعلة منع ذلك أنَّ حق الفعل الذي يُبنى للتعجب أن يكون قبل التعجب ثلاثيَّا محضًا؛ وأصل الفعل في هذه أن يكون على وزن افْعَلَّ، ولذلك صحَّت عينه في الثلاثي اللفظ، نحو حَوِلَ، وعوِرَ، وهَيفَ، وجَيِدَ، وصَيِدَ، مع استحقاقه ذلك لوجود العلة الموجبة لقلبه، وهي تحرك حرف العلة وانفتاح ما قلبه، فحملوه على افْعَلَّ، نحو احْوَلَّ واعْوَرَّ، وجودًا ذلك فيه أو تقديرًا، فصحَّت فيه كما صحَّت في افْعَلَّ، كما صححوا اجْتَوَرُوا حملاً على تجاوَرُوا، ومِخْيَط حملاً على مخياط.

وهذا التعليل هو المشهور عند النحاة.

وقال المصنف في الشرح ما نصه: «وعندي تعليل آخر أسهل منه، وهو أن يقال: لَمَّا كان بناء الوصف من هذا النوع على أَفْعَلَ ــ يعني نحو أَعْوَرَ وأَهْيَفَ ــ لم يُبنَ منه أَفْعَلُ تفضيل لئلا يلبس أحدهما بالآخر، فلما امتنع صوغ أَفْعَلِ التفضيل امتنع صوغ فعل التعجب لتساويهما وزنًا ومعنًى، وجريانِهما مجرى واحدًا في أمور كثيرة، وهذا الاعتبار هِّين بيِّن، ورجحانه متعّين» انتهى.

وقد اختُلف مما عُبَّر عن فاعله بأَفْعَلَ في نوعين:

أحدهما: العاهات، /فذهب جمهور البصريين إلى أنه لا يجوز أن يُبنى من أفعالها ــ وإن كانت ثلاثية ــ فعل التعجب. وأجاز ذلك الأخفش وبعض الكوفيين ــ منهم الكسائيّ وهشام ــ أجازوا: ما أَعْوَرَه!

ص: 232

النوع الثاني: الألوان، منعَ التعجب منها البصريون، وللكوفيين فيها قولان:

أحدهما: أنه يجوز من جميع الألوان، فأجاز الكسائي وهشام: ما أَحْمَرَه! من الحُمرة، إلا أنَّ الأجود عندهما: ما أَشَدَّ حُمرتَه!

والقول الثاني: إجازته في السواد والبياض خاصةً دون سائر الألوان المجيء ذلك فيه؛ ولكونهما أصلَي الألوان، والأصول يكون فيها ما لا يكون في الفروع، والمحفوظ من ذلك ما روى الكسائي أنه سَمع: ما أَسْوَدَ شَعرَه! وقالت أُمُّ الهيثم ــ وهي من العرب الذين يُستشهد بكلامهم ـ: «هو أَسْوَدُ مِنْ حَنَكِ الغُراب» ، وفي الحديث في صفة جهنم:(لهي أَسْوَدُ من القار)، وقال الراجز:

يا ليتَني مِثلُكِ في البَياضِ

مِثلُ الغَزالِ زِينَ بالخَضاضِ

قَبَّاءُ ذاتُ كَفَلٍ رَضْراضِ

أَبيَضُ مِنْ أُختِ بَني أَباضِ

جاريةٌ في رَمَضانَ الماضي

تُقَطِّعُ الحَديث بالإيماض

ص: 233

وأنشد الكسائي:

أمَّا الُملُوكُ فأنتَ اليومَ أَلأَمُهُمْ

لُؤْمًا، وأَبْيَضُهُمْ سِرْبالَ طَبَّاخِ

وهذا كله عند البصريين من الشذوذ بحيث لا يقاس عليه.

وقد تأوَّل بعضهم قوله «وأَبيضهُم سِربالَ طَبَّاخِ» على أنه ليس أَفْعَلَ التفضيل، بل من باب أَفْعَل فَعْلاء، نحو أحْمرَ، فـ «سِربالَ طَبّاخ» منصوب على التشبيه بالمفعول به، نحو: حَسَنٌ الوجهَ، فالأصل: أنت مُبْيَضُّ سِربالُ طبَّاخِك، ثم نُقل، ونُصب على التشبيه بالمفعول به. قيل أو على التمييز.

وقد رُدَّ هذا التأويل بأنه لا يجوز أن يقال: هذا رجلٌ حسنُ الناسِ وجهًا،

ولا: ظريفُ القومِ ثوبًا، ولا أَسْوَدُهم جُبَّةً.

وقال س في تعليل منع التعجب مما له فعل زائد لا يكاد ينخرم فيه، وهو أفعال الألوان، فإنها تكون على فَعِلَ وفَعُلَ، نحو أَدِمَ وشَهُبَ، ولا يكاد يخلو عن افْعَلَّ

وافْعالً، بل قد يستغنون عن الثلاثي بها، نحو اصْفَرَّ، وما ليس كذلك من الخلق الثابتة،

نحو حَوِلَ وعَرِجَ، وقالوا: احْوَلَّ واعْوَرَّ، ولم يقولوا اعْرَجَّ، وحُمل على عَوِرَ وعَرِجَ وعَمِيَ، قال س: لما جاء على أفْعَلَّ، وهو وزن خاص بالفعل؛ ألا ترى أنه لم يكن في الأسماء بل في الصفات لقربها من الفعل، فكان فيها الوزن

ص: 234

ومعنى الفعل، فصارت هذه المعاني كأنً لها أفعالاً زائدة، ولا يُتَعجَّب منها لزيادتها لو تحقق، فكذلك ما نُزِّل منْزلته، ولذلك قال:«وكرهوا فيه ما لا يكون في فعله أبدًا» ما نقل عن س. وهي أصل للعلَّة الأولَى التي هي مشهور قول النحاة.

وقال الخليل 1: لما كانت أشياءَ ثابتةً، على حالة واحدة في الأكثر أَشبَهَت ما لا فعل له كالرأس والرِّجل واليد؛ لأنها كذلك ثابتة، وهذه لا يُتَعَجَّب منها بالأصل، فكذلك تلك.

/قال: ولأنَّ هذه الأشياء لا تُدخله في بناء الزيادة والتكثير كمِفْعال وفَعُول وفَعَّال، فكأنها أشبهت ما لا يقبل الزيادة، كالخؤولة والعُمومة ونحوها، وهي لا يُتَعَجَّب منها.

وأمَّا كونه قبل دخول الهمزة على وزن فَعُلَ أصلاً أو تحويلاً، فتقدَّم

الكلام عليه عند ذكر المصنف له.

وأمَّا كونه قد استُغني عن البناء في هذا الباب بغيره فسيأتي عند تعرض المصنف له.

وأمَّا كونه واقعًا فالصحيح أنَّ ذلك ليس بشرط، تقول: ما أَحْسَنَ ما يكون هذا الطفل! وما أَطْوَلَ ما يكون هذا الزرع! وما أَكْيَسَ ما يكون هذا! فتتعجب من أمر لم يقع إذا ظهرت مَخايلُه.

وأمَّا كونه دائما فالصحيح أنَّ ذلك ليس بشرط؛ إذ قد يُتَعَجَّب من سرعة الرمي ولمع البرق ووقوع الصاعة، وهي من الأفعال التي لا تدوم، فتقول: ما أسْرَعَ رميَ زيدٍ!

ص: 235

وقوله وقد يُبنَيانِ مِن فِعلِ المفعول إن أُمِنَ اللَّبس قد تقدَّم لنا ذكر

الخلاف في ذلك في شرح قوله: غير مبني للمفعول. وقال المصنف في الشرح: «وقد يُبنَى فعل التعجب من فِعل المفعول إن أُمن الالتباس بفعل الفاعل، نحو: ما أَجَنَّه! وما أَبْحَتَه! وما أَشْغَفَه! وهذا الاستعمال في أَفْعَلِ التفضيل أكثر منه في التعجب، كأَزْهَى مِن ديك، وأَشْغَل من ذاتِ النِّحْيَينِ، وأَشْهَر من غيره، وأَعْذَر، وأَلْوَم، وأَعْرَف، وأَنْكَر، وأَخْوَف، وأَرْجَى، مِن: شُهِرَ، وعُذرَ، ولِمَ، وعُرِفَ، ونُكِرَ، وخِيفَ، ورُجي. وعندي أنَّ صوغ فعل التعجب وأَفْعَلِ التفضيل مِن فِعلِ المفعول الثلاثيّ الذي لا يلتبس بفعل الفاعل لا يُقتَصَر فيه على المسموع، بل يُحكَم باطَّراده لعدم الضمائر وكثرة النظائر» انتهى.

والمسموع من ذلك: ما أَشْغَلَه! وما أَجَنَّه! وما أَجَنَّه! وما أَوْلَعَه! وما أَجَبَّه! وما أَخْوَفَه! وما أزْهاه! وما أَجْبَبَه برأيه! وما أَبْخَتَه! وما أَشْغَفَه! وما أَخْصَرَه! من شُغِلَ، وجُنَّ، وأُولِعَ، وحُبَّ، وخِيفَ، وزُهِيَ، وأُعجِبَ، وبُخِتَ، وشُغِفَ، واخْتُصِرَ.

وفي: ما أَخْصَرَه! شذوذ من وجهين: أحدهما أنه من المفعول، والثاني أنه من المزيد، وهو أَخْتُصِرَ.

وزاد بعضهم فيها: ما أَبْغَضَه! وما أَمْقَتَه! من أُبْغِضَ ومن مُقِتَ. وقد قيل فيهما: إنهما من فعل الفاعل؛ لأنه سمع: بَغُضَ الرجلُ فهو بَغيض، ومَقُتَ مَقاتةً فهو مقيت. فعلى هذا المسموع لا يكون ما أَفْعَلَه إلا مقيسًا بلا خلاف. وتقدم لنا أنَّ الصحيح قول الجمهور، وهو قصر ذلك على السماع.

ص: 236

وقوله ومن فِعلِ أَفْعَلَ مُفْهِمَ عُسر أو جَهل قال المصنف في الشرح:

«الإشارة بذلك إلى حَمِقَ، ورَعِنَ، وهَوِجَ، ونَوِكَ، ولَدَّ: إذا كان عسر الخصومة.

وبناء الوصف من هذه الأفعال على أَفْعَلَ في التذكير وفَعْلَاء في التأنيث، لكنها ناسبت في المعنى جَهِل وعَسِر، فجرت في التعجب والتفضيل مجراهما، فقيل: ما أَحْمَقَه، وأَرْعَنَه، وأَهْوَجَه، وأنْوَكَه، وأَلَدَّه، وهو أَحْمَقُ منه، وأَرْعَنُ، وأَهْوَجُ، وأَنْوكُ، وأَلَدُّ» انتهى. وتقدم لنا في الشواذ: ما أَهْوَجَه! وما أَشْنَعَه! وما أَحْمَقَه! وما أنْوَكَه! وعلى ذلك حمله /أكثر أصحابنا.

وقال بعضهم في ما أَحْمَقَه وإخوته: يظهر من كلام س أنهم إنما قالوا فيه ما أَفْعَلَه لأنه من باب العلم وضدّه لا من باب الخلقة في الجسد؛ فدلَّ على أنَّ هذه تخالف حكم الخلق، بل هي أوصاف غير ظاهرة، فخرجت عن الألوان والخلق.

وهذا فرق على تعليل الخليل، وأمَّا على تعليل س فإنهم ــ وإن قالوا فيها ما أَفْعَلَه ــ

فلأنه ليس أَفْعَل أصلاً فيها، بخلاف اللون والخلقة، بل أصلها أنْ تكون على فَعيل وفَعِلٍ وفاعِل كما في عَليم وفَهِمٍ وجاهِل، فروعي فيها ذلك المعنى، فُتُعجِّبَ من لفظها.

وقال خطّاب الماردي: قولهم ما أَحْمَقَه! وما أَرْعَنَه! وما أَنْوكَه! وما أَلَدَّه! من الخَصِم الأَلَدّ، إنما جاز فيه هذا ــ والاسم منه أَفْعَلُ، وهو في معنى العاهات والأدواء ــ لأنهم أخرجوه عن معنى العلم ونقصان الفطرة، وليس بلون ولا خلقة في الجسد، وإنما هو كقولك: ما أَنْظَرَه! تريد نظر الفكر، وما أَلْسَنَه! تريد البيان والفصاحة.

ص: 237

وقوله ومِن مزيدٍ فيه ذكروا من ذلك: ما أغْناه! وما أَفْقَرَه! وما أَتْقاه! وما أقْوَمَه!

وما أَمْكَنَه! وما أَمْلأَه! وما آبلَه! وما أَشَدَّه! وما أَحْوَلَه! وما أَخصَرَه! وما أشْهاه! وما أَحْياه! وما أَرْفَعَه! من استَغنَى، وافْتَقَرَ، واتَّقَى، واسْتَقامَ، وتَمَكَّنَ، وامتَلأَ، وتَأبَّلَ، واشْتَدَّ، واحْتال، واختصِرَ، واشْتَهى، واسْتَحْيا، وارتَفَعَ.

وقال الأخفش في «الأوسط» : «وقالوا: ما أَفْقَرَه! وما أَغْناه! وقد ذُكر أنه يقال فَقُرَ وغَنِيَ» انتهى ويدلَّ على ذلك قولهم فَقِير وغَنِيّ، وقالوا تَقِيّ لقولهم تَقِيَ، فكأنَّ أتْقَى مبنيّ منه. وقد نُقل شَهِيَ الشيءَ: اشتهاه، وحَيِيَ الرجلُ: اسْتَحيا، فعلى هذا لا يكون ما أَشْهاه! وما أَحْياه! شاذَّا.

قال المصنف في الشرح: «وممن خفيَ عليه استعمال حَيِيَ بمعنى اسْتَحيا أبو عليّ الفارسيّ. وممن حفيَ عليه استعمال فَقُرَ وفَقِرَ سيبويه. ولا حجة في قول من خفي عليه ما ظهر لغيره، بل الزيادة من الثقة مقبولة، وقد ذَكر استعمال ما ادَّعيتُ استعماله جماعةٌ من أئمة اللغة» انتهى.

وهذا الذي تبجَّح بالاطلاع عليه لا يقدح فيما قاله س؛ لأن س إنما ينقل فصيح اللغة ومستعملها لا شاذَّها، فالذين قالوا ما أَفْقَرَه! تكون لغتهم افتَقَرَ لا فَقُرَ ولا فَقِرَ؛ ألا ترى إلى قول الأخفش:«وقد ذُكر أنه يقال فَقُرَ وغَنِيَ» ، فالأخفش أيضًا مع جلالته وسماعه من العرب لم يسمعه من العرب، إنما قال:«وقد ذُكر أنه يقال فَقُرَ» ، وإنَّ شيئًا غابت معرفته عن س لجدير بأن يُطرح، وقال فتًى لأبي الأسود:«إنه قد وقع إليَّ حرف من اللغة لم يصل إليك، ولا عرفَته» ، أو كلامًا

ص: 238

هذا معناه، فقال له أبو الأسود:«لا خير فيما لا يعرفه أبو الأسود» ، أو كلامًا قريب المعنى من هذا.

وفي «الطُّرَر» التي بخط أحمد بن يوسف الأُشُوني: «نُقل عن الأخفش أنه يجيز التعجب من كل فعلٍ مزيد، كأنه راعى أصله؛ لأن أصل جميع ذلك الثلاثي. وقال

بعضهم: إنما أجاز ذلك الأخفش على استكراه، كما أجاز ذلك س في أَفْعَلَ» انتهى.

وقوله فإن كان أَفْعَلَ / قيس عليه وفاقًا لسيبويه إذا كان الفعل على وزن أَفْعَلَ ففي حكم التعجب منه ثلاثة مذاهب:

أحدهما: أنه لا يجوز أن يُبنى منه أَفْعَلَ ولا أفْعِلْ على الإطلاق، وهو مذهب أبي الحسن، والمازنيّ، والمبرد، وابن السَّرّاج، والفارسيّ.

والثاني: أنه يجوز، وهو مذهب الأخفش فيما قيل، ونُسب إلى س، وصححه ابن هشام الخضراوي.

والثالث: التفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل فلا يجوز، وبين ألَاّ تكون للنقل فيجوز، ونُسب إلى س، وصححه ابن عصفور.

وقد جاءت ألفاظ من «أَفْعَلَ تُعُجَّبَ منها والهمزة لنقل ولغير نقل، فمن الأول قولهم: ما آتاه للمعروف! وما أعطاه للدراهم! وما أولاه بالمعروف! وما

ص: 239

أضْيَعَه لكذا! ومن الثاني قولهم: ما أَنْتَنَه! في لغة من قال أنْتَنَ، وما أَخْطَأَه! وما أَصْوَبَه! وما أَيْسَرَه! وما أَعْدَمَه! وما أَسَنَّه! وما أَوْحَشَ الدارَ! وما أَمْتَعَه! وما أَسْرَفَه! وما أَفْرَطَ جهلَه! وما أَظْلَمَه! وما أَضْوَأَه! فمن نظر إلى مجيء ذلك في النوعين قاس عليه، ومن رآها قليلةً جعلها شاذَّة، ومن فصَّل قال: الذي همزته للنقل لا تدخل عليه همزة نقل، والذي همزته لغير النقل تُحذف، ويؤتى بهمزة النقل، ولذلك يصير الفاعل مفعولاً، نحو: أَظْلَمَ الليلُ، تقول: ما أَظْلَمَ هذا الليلَ!

وقال س: «وبناؤه أبدًا من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ، فشُبِّه هذا بما ليس من الفعل، نحو لاتَ وما. وإن كان من حَسُنَ وكرُم وأعْطَى» انتهى. فظاهر كلام س هنا أنه يجوز التعجب من أَفْعَلَ. وقد زعم بعضهم أنَّ قول س «وأفْعَلَ» صحَّفه الرواة، وأنَّ أصله وأفْعِلْ، يعني أنه ذكر ما أَفْعَلَه، وأنَّ بناءه من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ، ثم قال «وأفْعِلْ» ، وهو معطوف على: ما أَفْعَلَه، أي: من صيغة: ما أفْعَلَه، وأَفْعِلْ. لكن يدفع هذا القول قول س بعده:«وإن كان من حَسُنَ وكَرُمَ وأَعطى» .

وقال المصنف في الشرح: «المزيد على وزن أَفْعَلَ لم يُقتصر في صوغ فعل التعجب منه على المسموع، بل يُحكَم فيه بالاطَّراد وقياس ما لم سُسمع منه على ما سُمع ما يمنع مانع آخر. هذا مذهب س والمحققين من أصحابه، ولا فرق بين ما همزته للتعدية كأَعطى، وبين ما همزته لغير التعدية كأَغفى» انتهى. وقوله «ما لم يمنع مانع» احتراز من نحو أَوْدى بمعنى هَلَك، فإنَّ معناه غير قابل للكثرة، ومن نحو أَصبحَ وأَمسى وأَضحى، فإنها نواقص، وشرطُ المتعَّجب منه التمام.

وقال المصنف في الشرح: «ومن تصريح س باطَّراد ما أَعطاه وشبهه قوله في الربع الأخير من كتابه: (هذا باب ما يُستغنَى فيه عن ما أَفْعَلَه بِما أَفْعَلَ

ص: 240

فِعْلَه). ثم قال: (كما استُغنِي بتَرَكْتُ عن وَدَعْتُ، وكما استُغنِي بِنسْوة عن أن يجمعوا المرأة على لفظها، وذلك في الجواب؛ ألا ترى أنك لا تقول: ما أَجْوَبَه! وإنما يقولون: ما أَجْوَدَ جوابَه!). ثم قال: (وكذلك لا تقول: أَجْوِبْ به! وإنما تقول: أَجْودْ بِجَوابه! ولا يقولون في قالَ يَقيل: ما أَقْيَلَه! استَغنَوا بما أكَثَرَ قائلَتَه!

وما أَنْوَمَه في ساعة كذا! كما قالوا تَركتُ، ولم يقولوا وَدَعتُ) هذا نصبُّه. فجعل استغناءهم عن ما أَجْوَبَه بما أَجْوَدَ جوابَه! مساويًا لا ستغنائهم عن وَدَعتُ ماضي يَدَعُ بتَرَكتُ، / وعن ما أَقْيَلَه بما أَكثَرَ قائلتَه! مع العلم بأنَّ عُدولهم عن وَدَعَ إلى تَرَكَ، وعن ما أَقْيَلَه إلى أن يكون ما أَجْوَبَه موافقًا للقياس، وهذا بِّين، والاعتراف بصحته متعّين. وإنما استحقَّ أَفْعَلَ مساواةَ الثلاثيِّ المحض في هذا الاستعمال دون غيره من أمثلة المزيد فيه لشبهه به لفظًا، ولكثرة موافقته له معنًى:

أمَّا شبهه به لفظًا فمِن قِبَلِ أنَّ مضارعه واسم فاعله واسم زمانه واسم مكانه كمضارع الثلاثي واسم فاعله وزمانه ومكانه في عدة الحروف والحركات وسكون الثاني؛ بخلاف غيره من المزيد فيه.

وأمَّا الموافقة في المعنى فكثيرة: فمن موافقته لِفَعَلَ سَرى وأَسرى، وطَلَعَ على القوم وأَطلَعَ، أي: أَشرَفَ، وطَفَلَتِ الشمسُ وأَطفَلَتْ، أي: دَنَتْ للغروب، وعَتَمَ الليلُ وأَعتَمَ، أي: أَظلَمَ، وعَكَلَ الأمرُ وأَعْكَلَ، أي: أَشْكَلَ.

ومن موافقته لفَعلَ غَطشَ الليلُ وأَغطَشَ، أي: أَظلَمَ، وعَوزَ الشيءُ وأَعْوَزَ،

أي: تَعَذَّرَ، وكذلك الرجل إذا افتَقَرَ، وعَدِمَ الشيءَ وأعدَمَه، أي: فَقَدَه، وعَبِسَتِ الإبلُ وأَعْبسَتْ، أي: دَنِسَتْ أدبارُها.

ص: 241

ومن موافقته لَفعُلَ خَلُقَ الثوبُ وأَخْلَقَ، أي: بَلِيَ، وبَطُؤَ وأَبْطَأ معلوم، وبَؤسَ وأَبْأَسَ، أي: ساءت حالُه، ونظائر ذلك كثيرة. فلكون أَفْعَلَ مختصَّا من بين الأفعال المغايرة للثلاثي بمشابهته لفظًا وموافقته معنًى أجراه س مجراه في اطَّراد بناء فِعلَي التعجب منه» انتهى.

وما ذكره المصنف من الاستدلال على جواز التعجب من أَفْعَلَ مطلقًا بأنه قد استُغنيِ عن ما أَفْعَلَه بما أَفْعَلَ فِعلَه، وقوله «لا تقول: ما أَجْوَبَه، فإنما يقولون: ما أجْوَدَ جوابَه، ولا تقول: أَجْوِبْ به، وإنما يقال: أَجْوِدْ بجوابه» ـلا دليل فيه على جواز التعجب من أَفْعَلَ مطلقًا؛ لأنَّ همزة أَجابَ ليست للنقل، وإنما هي لغير النقل كأَظْلَمَ، فلا حجة فيه على جواز التعجب من أَفْعَلَ على الإطلاق.

وقوله وربَّما بُنِيا مِن غيرِ فِعلٍ تقدَّم الكلام معه في دعواه أنَّ قولهم «ما أذْرَعَ فلانة» مصوغ مما يُسمع منه فِعل، ورددنا عليه دعواه ذلك.

وقوله أو فِعلٍ غير متصرَّف تقدَّم تمثيل ذلك.

وقوله وقد يُغني إلى آخره الفعل المستوفي للشروط، واستغنت العرب عن التعجب منه بغيره ــ هو: قامَ، وقعدَ وجلسَ ضدّا قامَ ونامَ، وسَكِرَ، وقالَ من القائلة، وغضبَ، وحكى الأخفش في «الكبير» له عن بعض العرب: ما أَغْضَبَه! وهو قليل، قال:«وسألنا عنه التميميين والقيسيين، فلم يقولوه» . قال المصنف في الشرح: «استغنت العرب فيهن بما أشَدَّ سُكْرَه! وما أكْثَرَ قُعودَه وجُلوسَه وقائلتَه! عن: ما أَسْكَرَه وأقْعَدَه وأجْلَسَه وأقْيَلَه» انتهى.

ص: 242

وقال غيره: وذلك لأجل الالتباس، فما أَقْوَمَه ملتبس بما أَقْوَمَه من اسْتَقام، وما أقْعَدَه ملتبس بقولهم: ما أَقْعَدَه بأب، من القُعْدُد، وما أَجْلَسَه محمول على ضدَّه أو مثله، وما أَسْكَرَه ملتبس بما أَسْكَرَ النهرَ! إذا كَثُرَ فيه السَّكْر، قال الجوهري:«السَّكْر ــ /بالإسكان ــ مصدر سَكَرتُ النهرَ أَسْكُرُه سَكْرًا: إذا سَدَدته» .

فعلى هذا يكون التعجب من فعل المفعول لا من فعل الفاعل. وذكر الاستغناءَ عن ما أسْكَرَه وأقْعَدَه وأجْلَسَه ابن بَرْهان. وأمَّا الاستغناء عن ما أَقْيَلَه فمشهور، ذكره س وغيره. وذكر الاستغناء عن السبعة من أصحابنا ابن عصفور وغيره. وعدُّهم نامَ فيها ليس بصحيح؛ لأنَّ س حكى 5: ما أَنْوَمَه!

وقالت العرب: هو أنْوَمُ مِن فَهْدٍ.

ص: ويُتَوَصَّلُ إلى التعجُّب بفعلٍ مثبتٍ متصرِّفً مَصُوغٍ للفاعل ذي مصدر مشهور إن لم يَستوف الشروط بإعطاء المصدر ما للمتعجَّب منه مضافًا إليه بعد «ما أَشْددْ» ونحوهما. وإن لم يَعدَم الفعلُ إلا الصَّوغَ للفاعل جيءَ به صلة لـ «ما» المصدرية آخذةً ما للمتعجَّب منه بعد «ما أَشَدَّ» أو «أَشْدِدْ» أو نحوهما.

ص: 243

ش: يقول: إنه يُتوصل إلى التعجب مما لا يجوز التعجب منه لفقد شروط جواز ذلك إذا كان له مصدر مشهور بإعطاء ذلك المصدر الذي للفعل لا يجوز أن يُتَعَجَّب منه حُكمَ الاسم الذي كان منصوبًا بعد أَفْعَلَ، ومجرورًا بعد أَفْعِلْ، مضافًا ذلك المصدر إلى الاسم، مثال ذلك: ما أَكْثَرَ حُمْرَةَ زيدٍ، وأَكْثِرْ بحُمْرةِ زيدٍ، وما أَسْوَأَ عَوَرَ زيدٍ، وأَسْوِئْ بَعَورِ زيد! وما أَبْيَنَ بُلْجةَ عمرٍو! وأَبْيَنْ بِبُلْجة عمرٍو! وما أَحْسَنَ استخراجَ زيدٍ للدراهم! وأَحْسِنْ باستخراجِ عمرٍو للدراهم! وما أَفْجَعَ موتَ عمرٍو! وأَفْجِعْ بموتِ عمرٍو! وما أَحْسَنَ كون هندٍ متجردةً! وأَحْسِنْ بكونِ هندٍ متجردةً! وما أشَدَّ دحرجَته! وما أَشْددْ بَدحرَجته!

واحترز بقوله ذي مصدر مشهور من أن يكون الفعل قد فقد بعض الشروط، وليس له مصدر مشهور، وذلك نحو يَذَوُ ويَدَعُ، فإنهما ليس لهما مصدر مشهور، وقد روي لهما مصدر، وذلك الوَدْعُ، ولم يتعرض المصنف لحكم هذا، وحكمُه أنَّ الفعل يُجعَل صلةً لـ «ما» المصدرية، ويُتعجب منه، فتقول: ما أَكْثَرَ ما يَذَوُ زيدٌ الشرَّ! وما أَكْثَرَ ما يَدَعُه، وأَكثِرْ بما يَذَرُ زيدٌ الشرَّ، وأَكْثِرْ بما يَدَعُه.

فإن كان المانع كونه مبنيَّا للمفعول فهذا له مصدر، ولكن إن أضفته إلى المفعول وكان التبس بالمضاف إلى الفاعل، فإنَّ الفعل يُجعل في صلة ما، فتقول:

ما أكْثَرَ ما ضُرِبَ زيدٌ! وأكْثِرْ بما ضُرِبَ زيدٌ! وإن لم يلتبس جاز المجيء بالمصدر، فتقول: ما أكْثَرَ شُغْلَ زيد! وأكْثِرْ به!

ص: 244

ولا يختصُّ هذا الحكم بما فُقد فيه شرط من الشروط، بل يجوز هذا الحكم فيما استوف الشروط، فتقول: ما أَكْثَرَ ضَرْبَ زيدٍ لعمرٍو! وأَكْثِرْ بِضَربِ زيدٍ لعمرٍو! وما أَكْثَرَ ما ضَرَبَ زيدٌ عمرًا! وأَكْثِرْ بما ضَرَبَ زيدٌ عمرًا.

فإن كان المانع كونه منفيَّا جعلتَه في صلة أنْ، نحو: ما أَقْبَحَ ألَاّ تأمرَ

بالمعروف! وأَقْبِحْ بألَاّ تأمرَ بالمعروف! وإنما كان ذلك لأنه لا ينسبك من الفعل المنفيِّ مصدر.

فلو كان الفعل من بابِ كانَ مما لَزِمَه النفي لكونه وُضع له ــ وهو ليس أو لكونه لا يُستعمل إلا مقرونًا بحرفه أو بحرف النهي /والدعاء، نحو: ما زالَ ــ ففي ذلك خلاف: ذهب البغداديون 2 إلى إجازة: ما أَحْسَنَ ما ليسَ يَذكرُك زيدٌ! وما أَحْسَنَ ما لا يزالُ يذكرُنا زيدٌ! وتابعهم أبو بكر بن السَّراج. ويقوِّي ذلك في «ليس» أنها قد وقعت صلةً لـ «ما» المصدرية، قال:

............................

بِما

لَسْتُما أَهلَ

الخِيانِة والغَدْرِ

ويقوِّي ذلك في «لا يزال» أنه صورته صورة النفي، وهو موجب من حيث المعنى، وكأنَّ كان الفعل نِعمَ وبئسَ وغيرهما مما لا يَتصرف فلا يقع صلة لـ «ما» ولا لـ «أنْ» .

مسائل من هذا الباب:

الأولى: لا يجوز حذف الهمزة من أَفْعَلَ في هذا الباب، وشذَّ من كلامهم:

ما خَيرَ اللَبنَ للصحيح! وما شَرَّهُ للمبطون! وأصلهما: ما أخْيَرَه، وما أَشَرَّه.

ص: 245

فأمَّا ما خَيْرَهُ فإنه لَمَّا حذف الهمزة احتاج إلى أحد أمرين: إمَّا حذف ألف ما لالتقائها ساكنه مع الخاء الساكنة، وإمَّا تحريك الخاء وإبقاء الألف التي في ما، فينتفي التقاء ساكنين، فمنهم مَن حَذف الهمزة وألف ما، فقال: مَخْيَرَكَ! ومَحْسَنَكَ! وسَمع الكسائيُّ: مَخْبَثَهُ! ومنهم مَن حرَّك الخاء بحركة الياء، وأبقى ألف ما، فقال: ما خَيْرَ اللبنَ! وسهّل ذلك في ما أَخْيَرَ وما أَشَرَّ تشبيهُهما بخَيرٍ وشَرِّ أَفْعَلَي التفضيل، وإن كان حذف الهمزة فيهما في التفضيل هو الفصيح المستعمل.

وأمَّا ما شَرَّهُ للمبطون! فإنه ليس فيه إلا حذف الهمزة، وليس فيه التقاء ساكنين ولا نقل حركة الراء إلى الشين لأجل حذف الهمزة، إنما كان النقل لأجل الإدغام، وقال الشاعر:

ما

شَدَّ أنفُسَهم

وأَعْلَمَهم

بما

يَحمي الذَّمارَ به الكريمُ

المُسلِمُ

ولا يقاس على شيء مما حُذفت فيه الهمزة، والقياس عليه خطأ عند البصريين، قاله النحاس.

المسألة الثانية: إذا اتَّصل بأفْعَلَ في التعجب ضمير المتكلم، نحو: ما أَحْسَنَنِي!

وما أَظْرَفَنِي! وما أجْمَلَنِي! فالذي تقتضيه قواعد البصريين أنه لا يجوز حذف نون الوقاية، كما لا يجوز في: أَكرمَنِي زيدٌ، وضَربني خالدٌ. وحكى الكوفيون: ما أحْسَنِي! بحذف نون الوقاية، فينبغي أن يُحمل على الشذوذ، ولا يقاس عليه.

وقال أبو الحسن بن عصفور: «واعلم أنَّ كل فعل يتصل به ضمير المتكلم فإنه تلزمه نون الوقاية إلا فعل التعجب، فإنك في إلحاقها بالخيار. ووجهُ حذفها شبهُه بالاسم، فإذا كانوا قد يتركونها في مثل:

ص: 246

......................

يَسُوءُ الفاليِاتِ إذا فَلَيْني

مع أنه لم يخرج عن أصله كفعل التعجب ــ فأقلُّ مراتب هذا أن يجوز ذلك فيه» انتهى.

المسألة الثالثة: إذا كان آخر أَفْعَلَ نونًا، ولقي نون الوقاية، نحو: ما أَحْسَنَنِي!

وما أَلْيَنَنِي! فيجوز فيه الفكُّ والإدغام، أمَّا الفكُّ فلكونهما غير لازمين؛ لأنهما من كلمتين. وأمَّا الإدغام فكراهة اجتماع المثلين.

فإن جاء بعد هذا الفعل ضمير المتكلمين، /نحو: ما أَحْسَنَنا! وجب الفكُّ، وإنما لم يَجز الإدغام كراهة الالتباس بقولهم ما أَحْسَنَّا إذا نفيتَ الإحسان عنك وعن غيرك. وإذا استفهمت قلت: ما أحْسَنُنا؟ برفع النون، ويجوز الإدغام، فتقول: ما احسنَنَّا؟ فيكون الفرق بين النفي والاستفهام بلزوم الإشمام إذا أَدغمت لأنه مرفوع، قال بعض أصحابنا: ولذا اتَّفق القرَّاء على الإشمام في {مالك لا تأمنا على يوسف)، فهنا أولى.

المسألة الرابعة: ما شَذُّوا فيه، فقالوا فيه: ما أَفْعَلَه، نحو: ما أَمْلأَ هذه القِرابةَ! وما أَمْكَنَه عند الملك! لا يجوز أن يُبنَى منه لَفَعُلَ في التعجب، فلا يقال: لَمَلُؤَتِ القِربةُ! ولا لَمَكُنَ زيدٌ! وذلك أنَّ فَعُلَ في التعجب قليلة الاستعمال، فلم يَجز لذلك استعماله إلا حيث تُستَعمل ما أَفْعَلَه بقياس.

المسألة الخامسة: مَن ذهب إلى أنه يجوز التعجب مما كان على وزن أَفْعَلَ وهمزتُه ليست للنقل؛ ويجعل ذلك مقيسًا ــ لا يُجيز أن يُبنَى منه فَعُلَ للتعجب، فلا يقال: لَخَطُؤَ الرجلُ! ولا: لَصابَ الرجلُ! وإن كانوا قد قالوا: ما أَخْطَأَه! وما أَصْوَبَه!

ص: 247

المسألة السادسة: ما أَحْسَنَ زيدًا لا ما أَشْرَفَه! وما أَحْسَنَ زيدًا لا أَشْرَفَه! مَنع من إجازتهما الكسائي. وقال أبو جعفر النحاس: وهذا جائز على أصول البصريين؛ لأنَّ حُكم (لا) أن تكون بعد الإيجاب.

المسألة السابعة: ما أَحْسَنَ وأجْمَلَ زيدًا! فيها ثلاثة مذاهب. تفصيل في الثالث، فيجوز بشرط إعمال الثاني، ويُمنع على إعمال الأول، وتقدَّم ذكرها في باب الإعمال، فأغنى عن إعادته.

ص: 248