المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب اليمين في الدعاوى - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٩

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب اليمين في الدعاوى

بسم الله الرحمن الرحيم

‌باب اليمين في الدعاوى

إذا ادعى رجل على رجل حقاً، فأنكر [المدعى عليه]، ولم تكن للمدعى بينة- فإن كان ذلك في غير الدم، حلف المدعى عليه، لما روى أبو داود عن ابن أبي مليكة- وهو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة- قال: كتب إلى ابن عباس [أن رسول] الله صلى الله عليه وسلم ((قضى باليمين على المدعى عليه))، وأخرجه البخاري ومسلم.

وروى مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أعطى الناس بدعاويهم، لا دعى ناس دماء ناسٍ وأموالهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)).

قال: فإن نكل عن اليمين، فإن كان الحق لغير معين: كالمسلمين، أي: كمال من مات، ولا وارث له، إذا وجد في دفتره ما يدل عليه.

قال: والفقراء: كمال الموصى به لهم إذا ادعاه من أسندت تفرقته إليه على الورثة.

قال: حبس المدعي عليه حتى يحلف، أو يدفع الحق، لأنه لا يمكن القضاء بالنكول من غير يمين، لأن الحقوق تثبت بالإقرار أو البينة، وليس النكول واحداً منهما، ولا يمكن رد اليمين، لأن المستحق غير متعين، ولا يمكن تركه، لما فيه من ترك الحق، فتعين فصل الخصومة بما ذكرناه.

وقيل: يقضى عليه بالنكول، للضرورة، وهذا [ما] قاله الإصطخري.

وحكى الإمام عن شيخه وجهًا: [أنا نخليه]، ولا نقضي عليه، غير أنا

ص: 3

نغصبه إن عاند. ولا حاصل له، وقال بتخريجه الشيخ أبو علي أيضًا، كما حكاه ابن أبي الدم.

والصحيح- وهو المذهب في ((تعليق)) البندنيجي، والقاضي الحسين، و ((البحر)) - الأول، لأن إثبات الحق لا يكون بنفيه، لأنه ضد موجبه، وفي الممتنع أن وجود الضد نافياً لحكمه ومثبتاً لحكم ضده، كالإقرار لا يوجب إنكاراً، كذلك الإنكار لا يوجب إقرارًا.

وتحريره: أن النكول إنكار، فلم يثبت به حكم الإقرار، كالتكذيب لا يثبت به حكم التصديق.

قال صاحب ((التخليص)): ولا يقضى [عليه] بالنكول عندنا إلا في مسائل مخصوصة، فإنه يجب الحكم فيها بالنكول، وهي ما إذا كان مع [رجل أربعون] شاة، فحال عليها الحول، ثم جاء الساعي يطالبه بزكاتها، فقال: كنت بعتها في وسط الحول، ثم مكلتها بعده. أو كان له ثمانون شاة: نصفها في بلد، ونصفها في أخرى، فطالبه الساعي بالزكاة، فقال: أخرجتها بذلك البلد التي هي فيه، أو خرص [نخلة أو كرمه] وضمنه إياه، ثم طالبه بالعشر، فادعى أنه ناقص عما خرصه، وخطأه في خرصه، أو أنه أصابته جائحة- فإن القول في ذلك كله قوله مع يمينه، فإذا نكل، أخذت منه الزكاة والعشر مما خرص عليه وضمنه.

وكذا الذمي إذا غاب سنة، ثم عاد، فطالبه الإمام بالجزية، فادعى أنه أسلم قبله- فالقول قوله مع يمينه، فإن نكل، أخذت منه الجزية.

وكذلك إذا سبى المشركين، وكشف عن مؤتزر أولادهم، فرآهم قد أنبتوا، وادعوا أنهم عالجوا ذلك، ولم يبلغوا- فإنهم يحلفون، ويحكم بأنهم لم يبلغوا، فإن نكلوا عن اليمين جعلوا في حكم البالغين فيما يجري عليهم من الحكم. وكذلك إذا غنم المسلمون غنيمة، فادعى صبيان منهم: أنهم كانوا بالغين في حال القتال، فإنهم يحلفون، ويسهم لهم في الغنيمة، فإن نكلوا رضخ لهم.

وقال ابن الصباغ: وقد اعترض أصحابنا عليه، فقالوا في هذه المسائل: لم يحكم بالنكول، وإنما أرباب الأموال قد ادعوا معاني تسقط الأحكام المتعلقة بالأموال، فيحلفون على ثبوتها، فإن حلفوا ثبتت المعاني المسقطة للأحكام،

ص: 4

وإن نكلوا عن اليمين، لم تثبت المعاني المسقطة، فبقيت على الوجوب، ولا يكون هذا حكماً بالنكول، وهذا كما قلنا: إن من قذف زوجته أمر باللعان، لدرء الحد، فإن امتنع حد، ولا يكون الحد لأجل الامتناع من اللعان، ولكن لأجل القذف المتقدم.

قال القاضي أبو الطيب: والجواب أن هذا لا يخفى على ابن القاص مع فضله وعلمه، والسؤال غير صحيح، لأنه لم يعتبر ما اعتبره هذا القائل، وإنما اعتبر المسائل التي إذا عرضت اليمين فيها على المدعى عليه، ونكل عنها، لم ترد اليمين، وحكم بالمدعى، وهذا صحيح، لا اعتراض فيه.

وما ذكره صاحب ((التخليص)) في مسائل الزكاة مفرع على القول بوجوب اليمين، ووراءه- تفريعًا عليه أيضًا- وجوه:

أحدهما: لا يقضي عليه أيضًا.

والثاني: يحبس إلى أن يقر، فيؤخذ منه الحق، أو يحلف.

والثالث: إن انتصب في صورة مدع، بأن قال: أديت، أو علقت- قضى عليه. وإن انتصب في صورة مدعى عليه، مثل أن قال: لم يحل على الحول، فلا يقضى عليه، قاله في ((التهذيب)) في كتاب الزكاة، [ونسبه] ثم إلى ابن سريج، وهو في النسبة موافق للقاضي الحسين، فإنه نسبه إلى ابن سريج ثم، وفي باب الامتناع من اليمين أيضًا، وقال: إن محل الخلاف إذا كان الفقراء غير محصورين، [أو محصورين] وجوزنا النقل.

أما إذا منعنا نقل الصدقة، حلفوا، واستحقوا، وهكذا قاله الرافعي والشيخ أبو علي، كما قاله ابن أبي الدم، ويؤخذ من قول الشيخ:((وإن كان الحق لمعين، حلف المدعى عليه)).

أما إذا قلنا: إنها مستحبة، فلا نقضي عليه عند الامتناع بشيء، وكذلك قال الأصحاب، تفريعًا على هذا، أنه لا يأمره باليمين أمر إرهاق، وليعلمه بذلك، لأن أمر الإمام إرهاق.

وما ذكره صاحب ((التخليص)) في مسألة الذمي هو الأظهر عند الشيخ أبي علي،

ص: 5

وهو مفرع- كما قال الإمام- على أنه إذا أسلم في أثناء الحول لا يلزمه شيء.

قلت: وعلى أن اليمين واجبة، كما هو أحد الوجهين في ((تعليق)) البندنيجي والقاضي الحسين وغيرهما، ووراءه- تفريعًا على هذا- وجهان حكيتهما في باب عقد الذمة:

أحدهما: [أنه] لا يقضى عليه بشيء.

قال الإمام: وهذا عندي إسقاط اليمين، فإنه ينكل فلا يلزمه شيء، ولا سبيل إلى حمله [علي] اليمين.

والثاني: أنه يحبس حتى يحلف، أو يعترف بما عليه.

أما إذا قلنا بأن اليمين مستحبة، فلا يلزمه شيء.

وإذا قلنا: إن القول عند الاختلاف في الإسلام قول الإمام- كما حكيته قولاً في باب عقد الذمة، وأبداه الإمام هنا احتمالاً لنفسه- ارتفع الخلاف، لكن الصحيح المشهور: أن القول قول الذمي.

قال الإمام: وتقييد صاحب ((التخليص)) هذه المسألة بالإسلام في الغيبة، يدل على أنه لو كان بيننا، ولما انقضت السنة صادفناه مسلمًا، وادعى أنه كان قد أسلم قبل الحول، ولم يخبرنا، وكتم إسلامه عنا- أنا [لا] نقبل قوله في هذه الصورة، إذ الظاهر أن من أسلم في دار الإسلام لا ينكر إسلامه، والأصل عدم ما يدعيه، فلزمته الجزية، إلا أن يقيم بينة.

وما ذكره صاحب ((التلخيص)) في أولاد المشركين مفرع على أن الإنبات علامة على البلوغ، ووراء ما ذكره- تفريعًا على هذا الوجه-[أمور:]

أحدها: أنه يحبس حتى يتحقق بلوغه فيقتل، أو صباه، فنحلفه على الاستعجال، فلا يقتل.

قال الإمام: وقياس الباب أن يقال: إذا بلغ، يدام الحبس عليه إلى أن يحلف، أو يقر بأني ما كنت استعجلت، فيقتل، لأن البلوغ [المحقق لا يخرجه عن الذرية أمس، وهو لا يقتل ببلوغ حادث، وإنما يقتل ببلوغ مقارن] للأسر، وقد حكاه في ((التهذيب)) هكذا، فيكون وجهًا ثانيًا.

ص: 6

والثالث: حكاه في ((التهذيب)) - أيضًا-: أنه لا يقضي عيه، والذي ذكره صاحب ((التخليص))، قال الإمام: إنه المنصوص.

قال البندنيجي والقاضي الحسين: واليمين فيه واجبة قولًا واحدًا.

قال الإمام: وفيه وقفة، لأنه قد ادعى [الصبا]، وتحليف من ادعى الصبا متناقض.

وقد أجاب عنه أبو علي بأنا عولنا في تحليفه على الإنبات، [فإن ظاهره] يكذبه في دعواه مع أنه مشكل، أما إذا قلنا: إن الإنبات عين البلوغ، فلا فائدة لقوله أصلا، ويقتل.

وما ذكره ((التلخيص)) في الصبي إذا ادعى أنه بالغ، وطلب السهم من الغنيمة- ففي ((التهذيب)) أنه قاله تخريجًا، وأن بعض أصحابنا قال: إنه يعطى عند الامتناع من اليمين، لأن الظاهر استحقاقه بحضور الوقعة، وأن منهم من قال: إنه يقبل قوله بلا يمين، ويعطى [السهم]، وإليه ذهب الشيخ أبو زيد، لأن احتلامه لا يعرف إلا من جهته، فهو كما علق العتق بمشيئة غيره، فإنه يصدق بغير يمين.

فرع: قيم المسجد والوقف، هل يحلف إذا نكل المدعى عليه؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها القاضي الحسين، وتبعه البغوي، ثالثها: إن باشر السبب نفسه حلف، وإلا فلا.

فإن قلنا: لا يحلف، فهل نقضي عليه بالنكول؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم، للضرورة.

والثاني: لا، ولكن يوقف حتى تقوم بينة، أو إلى قيام الساعة يعاقب عليه يوم القيامة.

قال: وإن كان الحق لمعين- أي: يمكن تحليفه- ردت اليمين [على المدعي]، لقوله تعالى:{أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الآية][المائدة:108]- أي: الامتناع من الإيمان الواجبة، فدل على نقل الإيمان.

وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من طلب طلبةً بغير بينة، فالمطلوب أولى باليمين من الطالب)).

ص: 7

وصيغة ((أفعل)) حقيقة في الاشتراك، وإذا كان كذلك، اقتضى أن يكون للطالب حق في اليمين، وإلا لما كان المطلوب أولى منه، وحينئذ فيكون المدعى عليه أولى في الابتداء، وتنقل عند امتناعه في الانتهاء، ويدل عليه ما روى الليث بن سعد عن نافع [عن] ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين [على] طالب حق. [ذكره] الوليد في ((المستخرج)) والدارقطني في اليمين مع الشاهد.

وقد رد اليمين على عمر فحلف، وعلى زيد بن ثابتٍ فحلف، وعلى عثمان بن عفان- ردها عليه المقداد بين دي عمر- فلم يحلف، وقال: خشيت أن يوافق قدرٌ بلاءً، فيقال: بيمينه. وهذا مستفيض في الصحابة، ولم يظهر منهم مخالف، فثبت أنه إجماع.

أما إذا لم يكن تحليف صاحب الحق في الحال: كالصبي، والمجنون- فقد حكى القاضي الحسين في كتاب الأضحية عن صاحب ((التلخيص)): أنه يقضي بالنكول.

والمشهور: انتظار البلوغ والإفاقة، كما تقدم.

قال: وإن كانت الدعوى في دم- أي: بسبب قتل خطأ، أو عمد، أو عمد خطأ- فإن كان هناك لوث، حلف المدعي خمسين يميناً، ويقضى له بالدية.

الأصل في ذلك ما رواه الشافعي بسنده في حديث طويل عن سهل بن أبي حثمة أنه حدثه رجال من كبراء قومه: أن محيصة وعبد الله بن سهلٍ خرجا إلى خيبر، فلما دخلا تفرقا في حوائجهما، فقتل عبد الله بن سهلٍ، فاتهموا اليهود، فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهلٍ، وابنا عمه حويصة، ومحيصة- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فابتدأ محيصة يخبره بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كبر كبر)) يريد السن، فتكلم حويصة، لأنه الأكبر، ثم تقدم محيصة، فأخبره بما عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تأذنوا بحرب من الله))، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة

ص: 8

وعبد الرحمن: ((أتحلفون، وتستحقون دم صاحبكم؟))، ويروى:((دم قتيلكم))، فقالوا: لا، ويروى أنهم قالوا: كيف نحلف، ولم نشهد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أفتحلف اليهود وتبرئون؟))، فقالوا: كيف نحلفهم، وهم مشركون؟ ويروى: وليسوا بمسلمين، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم بمائة ناقةٍ حمر.

وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق آخر، واتفق الكل على أن البداية بالأنصار، ولا معارضة بين هذا، وبين قوله صلى الله عليه وسلم:((البينة على [المدعي، واليمين على] المدعى عليه))، لأن هذا خاص، وذلك عام، على أن الدارقطني قد روى بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه إلا في القسامة)).

وقال: إن كل ما يرويه عمرو بن شعيب، عن جده فهو عبد الله بن عمرو، وقد أدركه، ولم يفته عنه إلا حديث واحد، فسمعه من جده: محمد بن عبد الله بن عمرو، فلا يكون مرسلاً، وقد روي من طريق آخر عن ابن عباس وأبي هريرة.

وإذا كان كذلك، فيكون تقدير الحديث: إلا في القسامة، فإن اليمين لا تكون في جنبة المدعى عليه.

والمعنى في جعل اليمين في جانب المدعي في القسامة عند ظهور اللوث: أن باللوث قويت جنبته، فتحولت اليمين إلى جانبه، كما [لو] أقام شاهداً واحداً في غير الدم.

ومن جهة القياس: أنها أيمان تكررت في الدعوى شرعًا، فوجب أن يبدأ بها المدعي، كاللعان، فإنه يمين، قال صلى الله عليه وسلم:((لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن)).

وهذا في دية النفس الكاملة، أما دية النفس الناقصة: كدية المرأة، والذمي، فهل يحلف لأجلها خمسين يمينًا؟ فيه وجهان:

أصحهما في ((الحاوي)): أن الأمر كذلك، حتى في دين الجنين، لخطر النفس.

والثاني: أن الأيمان تقسط على كمال الدية، فيكون في دية المرأة خمس

ص: 9

وعشرون، وفي الذمي تسعة عشر.

وقد أبدى الإمام تخريج الوجهين احتمالًا لنفسه من الخلاف في ضرب ذلك على العاقلة في ثلاث سنين أو دونها، [إذا كانت اليمين في جانب المدعى عليهم، دون ما إذا كانت في جانب المدعي، لأجل اللوث].

قال الأصحاب: وكيفية اليمين الواجبة عند حضور المدعى عليه: أن يحلف بالله، أو باسم من أسمائه، أو بصفة من صفات ذاته-: إن هذا قتل هذا، إن كان المقتول حاضرًا، وإن كان غائبًا، قال: إن هذا قتل فلان [بن فلان] الفلاني، منفردًا بقتله، ما شاركه فيه غيره.

ومن هم من قال: نفي المشاركة تأكيد وليس بشرط، لأن لفظ الانفراد يغني عنه، [وهذا ما أورده القاضي الحسين، وقال الإمام: إنه متفق عليه].

والقائلون بالأول- وهو ظاهر النص- قالوا: قد يكون القاتل مكرهًا، فتكون الدية عليه وعلى المكره، فتصدق وإن كان منفردًا بالقتل، كذا قاله أبو الطيب، وغيره.

وما وقفت عليه من كلام الرافعي يفهم أن الخلاف عائد إلى اشتراط ذكر الانفراد.

ويذكر الحالف في يمينه: أنه قتله عمدًا، أو خطأ، أو شبه عمد.

قال الماوردي: [وذكر صفة العمد لا يشترط] إذا كان المدعي قد وصف ذلك في الدعوى، ولا يجب، لأن يمين الحالف عن مذهب الشافعي متوجه إلى الصفة التي أحلفه الحاكم عليها، فلا نعيده.

وإن ادعى الجاني أن الميت قد برأ من جرحه، قال الشافعي: زاد: أنه ما مات من غير جراحته التي جرحه بها، ولا برئ منها حتى مات.

واعترض عليه بوجهين:

أحدهما: أنه إذا ادعى البرء من الجراحة، فقد اعترف بها، فكيف يحلف المدعي؟

والثاني: أنه قد سبق أن الجاني والولي إذا اختلفا في الاندمال، وقد مضى

ص: 10

زمان يمكن فيه الاندمال- أن القول قول الجاني على الظاهر، فلم جعل هاهنا القول قول الولي حتى يحلف عليه؟

وأجيب عن الأول: بأن دعوى البرء من الجراحة تقتضي الاعتراف بالجراحة في نفسها، لا الاعتراف بجراحة نفسه، ويجوز أن يريد أن الجراحة التي نسبت إليه قد برأ منها، ثم مات، ويكون غرضه إبطال اللوث.

وعن الثاني بوجوه:

أحدها: ويحكى عن أبي إسحاق-: أن المسألة مفروضة فيما إذا كان للمدعي بينة على أنه لم يزل ضمنًا متألمًا حتى مات، أو اعترف المدعى عليه بلك، لكن ادعى أنه مات بسبب محدث، فيحلف المدعي، ويصدق، لأن الظاهر معه.

الثاني- وهو الظاهر من مذهب ابن أبي هريرة-: أن محل جعلنا القول قول الجاني في الاندمال في غير القسامة، أما في القسامة، فالقول قول المدعي، لأن القسامة لما خالفت غيرها في قبول قول المدعي في القتل، خالفته في قبول قوله في سراية الجرح، وهذا ما حكى الإمام عن العراقيين القطع به، وقال: إنه هوس، فإن الجرح متفق عليه، وليس المدعي يدعي غيره، ويدعي إفضاء الجرح إلى الموت، وقصر الزمان وطوله لا يختلف بقيام اللوث وعدمه.

الثالث: أن المسألة مفروضة فيما إذا اختلفا في أنه هل مضت مدة يمكن فيها الاندمال، أم لا؟ وحينئذ فالقول قول الولي، لأن الأصل أنها لم تمض.

ويستحب للقاضي أن يحذر المدعي إذا أراد أن يحلف، ويعظه، ويقول له: اتق الله، ولا تحلف إلا عن تحقيق، ويقرأ عليه:{إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية [آل عمران:77].

والقول في التغليظ في اليمين بالمكان والزمان واللفظ، يأتي في الباب.

فرع: هل يشترط أن تكون الأيمان متوالية، كما في اشتراط الموالاة في كلمات اللعان؟ فيه وجهان للقاضي الحسين، وأظهرهما- وهو الذي أورده أكثرهم-: أنها لا تشترط، لأن الأيمان من جنس الحجج، والتفريق في الحجج لا يقدح، كما إذا شهد الشهود متفرقين، وعلى هذا فلو حلفه القاضي الخمسين في خمسين يومًا، جاز.

وعن ((الأم)): أنه [لو] حلف بعض الأيمان، ثم استنظر القاضي، أنظره، وإذا

ص: 11

عاد، اعتد بما مضى.

[وعلى الأول: لو جن المدعي في خلال الأيمان، أو أغمي عليه، ثم أفاق- يبنى على ما مضى،] ولا يستأنف، لقيام العذر.

لو عزل القاضي، أو مات، وولي غيره- فالذي ذكره الغزالي والبغوي- تبعًا للقاضي-: أن الثاني يستأنف، كما لو عزل القاضي أو مات [بعد] سماع البينة وقبل الحكم، وكما إذا أقام شاهدًا واحدًا، وأراد أن يحلف معه، فعزل القاضي، وولي آخر- لابد من استئناف الدعوى والشهادة.

وحكي قول عن نصه في ((الأم)): أن القاضي الثاني يعتد بما سبق من الأيمان.

وذكر الروياني: أنه الصحيح، ولم يحك القاضي أبو الطيب سواه.

والمتولي حمل النص على ما إذا كان الحالف المدعى عليه، وقلنا بتعدد اليمين في حقه- كما سنذكره- ومات القاضي، أو عزل قبلها استكمالها وولي غيره، وقال فيما إذا كان الحالف للمدعي: إنه لابد من الاستئناف. وفرق بأن يمين المدعى عليه على النفي، فتقع نافذة بنفسها، ويمين المدعي للإثبات، فتتوقف على الحكم، والقاضي الثاني لا يحكم بحجة أقيمت عند الأول، كما في الشهادة. وقال: إن موت القاضي وعزله بعد تمام الأيمان، القول فيه كالقول فيما لو مات أو عزل في أثنائها في الطرفين.

ولو عزل القاضي في أثناء يمين المدعي أو المدعى عليه، ثم ولي، فهل [يبني أو] يستأنف ذلك؟ ينبني على القضاء بالعلم: فإن قلنا: يجوز، بني، وإلا استأنف.

ولو أن الولي المقسم مات في أثناء الأيمان، فالنص في ((المختصر)): أنه يستأنف. وليس كما إذا جن، ثم أفاق، فإن الحالف واحد.

قال الروياني: وليس كما إذا أقام شطر البينة، ثم مات، حيث يضم وارثه إليه الشطر الثاني، ولا يستأنف، لأن شهادة كل شاهد مستقلة منفردة عن شهادة الآخر، وأيمان القسامة لا استقلال لها، ألا ترى أنه لو انضم إليها شهادة شاهد لا يحكم؟!

وعن الخضري: أن الوارث يبني على أيمان المورث.

وبني المتولي [ذلك] على [أن] أيمان القسامة توزع على أولياء القتيل،

ص: 12

أو يحلف كل واحد منهم خمسين يمينًا؟ فإن قلنا بالأول حلفوه، وإلا فلا.

ولو مات بعد تمام الأيمان، حكم لورثته.

ولو مات المدعى عليه في أثناء الأيمان إذا كنا نحلفه- إما في غير صورة اللوث، أو لنكول المدعي مع اللوث- بني وارثه على أيمانه.

أما إذا كان المدعى عليه غائبًا، واللوث قائم، فهل يجوز أن يقسم المدعي: إن فلان ابن فلان الفلاني، ويصفه بما يجب وصفه به- كما ذكرناه في الدعوى على الغائب- ويتمم اليمين.

قال الماوردي: ولو حلف هكذا في حال حضوره، ففيه وجهان محتملان في الإجزاء، جاريان فيما لو كان المقتول حاضرًا، فقال: والله إن هذا قتله فلان ابن فلان الفلاني، لأن بذكر الإشارة- مع إمكانها- يحدث من الشبهة المحتملة ما لا يحدث مع الغيبة.

والوجه الثاني: أنه لا يقسم في الغيبة، لأن اللوث ضعيف، لا يعول عليه إلا إذا سلم عن قدح الخصم.

تنبيه: حثمة- راوي الحديث الأول-: بفتح الحاء المهملة، وسكون الثاء المثلثة، وبعدها ميم مفتوحة، وتاء تأنيث ساكنة.

ومحيصة: بضم الميم، وتاء تأنيث.

ويقال: محيصة بتشديد الياء وكسرها.

وحويصة: بتشديد الياء وكسرها.

والقسامة، قال الماوردي: مشقتة من ((القسم))، وهي اليمين، سميت: قسامة، لتكرر الأيمان فيها.

واختلف أصحابنا فيا: هل هي اسم للأيمان، أو للحالفين بها؟

فقال بعضهم: هي اسم للأيمان التي يقسمها الأولياء في الدم.

قلت: وهو قول الجوهري وابن فارس، ويدل عليه: أنه جاء في بعض طرق الحديث: ((تحلفون خمسي قسامة تستحقون بها قتيلكم))، ولهذا صححه النواوي.

ص: 13

وقال آخرون- ومنهم القاضي أو الطيب-: إنها اسم للحالفين الذين يحلفون على استحقاق دم القتيل، وهو ما حكاه الأزهري عن أهل اللغة، وكذلك البندنيجي.

وقال أبو الطيب وغيره: إن الفقهاء يسمون الأيمان: قسامة.

وقال البندنيجي: إن القسامة في الشرع: كثرة الأيمان.

قال الإمام: ولا اختصاص لها بأيمان الدماء، إلا أن الفقهاء استعملوها فيها، وأصحابنا يستعملونها في الأيمان التي تقع البداءة فيها بالمدعي.

قلت: واستعمال الفقهاء هو الذي حكاه ابن فارس، والجوهري، حيث قال: القسامة: [هي] الأيمان تقسم على الأولياء في الدم، والله أعلم.

قال: وإن كانت الدعوى في قتل عمد، ففي القود قولان:

أصحهما: أنه لا يجب، لأنه صلى الله عليه وسلم ((كتب إلى يهود: إما أن تدوا صاحبكم، أو تأذنوا بحربٍ))، فأطلق إيجاب الدية، ولم يفصل، فلو صحت لإيجاب القصاص لبينة.

ولأن أيمان المدعين لا يثبت بها النكاح، فوجب ألا يثبت بها القصاص، كشهادة النسوة، ورجل وامرأتين.

وعلى هذا قال الأصحاب: تجب الدية مغلظة في مال الجاني، وهذا القول هو الجديد.

ومقابله: أن القود يجب، كما رواه أبو ثور، وهو معزي إلى القيدم في ((الحاوي)) وغيره، ووجهه: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟)) أي: دم قاتل صاحبكم.

وقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل في القسامة رجلًا من بني النضر بن مالكٍ)).

ص: 14

وروى مسلم، والبخاري: أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((يحلف منكم خمسون رجلًا: إن واحدًا منهم قتله، فيدفع برمته، وألزمه الحبل)).

ولأن هذه حجة يثبت بها العمد، فوجب أن [يثبت] بها القصاص، كشهادة الرجلين.

وأن اليمين المنقولة يثبت بها القصاص، فكذلك اليمين المبتدأة.

وعلى هذا: لو كان المدعى عليهم القتل جماعة، فهل يقتلون بجملتهم بعد الأيمان، أو واحد منهم؟

الذي ذهب إليه عامة الأصحاب: الأول، لأن ما كان حجة في قتل الواحد، كان حجة في قتل الجماعة، كالشاهد.

وحكى الماوردي: أن الربيع حكى قولًا لنفسه: [أنه] لا يقتل بها أكثر من واحد، وبه قال ابن سريج، لحنًا للدماء، ولضعف القسامة.

وقال ابن سريج: أجعل للولي أن يقتل واحداً منهم باختياره، ويأخذ من الباقين أقساطهم من الدية.

وروى أبو ثور عن الشافعي أنه قال في القديم: لا أقتل بها أكثر من اثنين.

وقد أجاب القائلون بالجديد عن الحديث الأول بأنا نضمر: قتل صاحبكم.

وعن الثاني: بأنه يحتمل ألا يكون هناك لوث، ووجب اليمين على المدعى عليهم، فنكلوا عن اليمين، فردت على المدعي، فاستحق القصاص، لأنه يمين منقولة.

وعن الثالث: أن المراد: دفعه، لتؤخذ منه الدية لا القود.

وعن الرابع: أنه ينتقض بما إذا ثبتت السرقة بشهادة رجل وامرأتين، فإنه يثبت بها المال دون القطع.

وعن الخامس: أن اليمين المنقولة انضم إليها جحود المدعى عليه، وهي عندنا إما كإقرار الخصم أو كالبينة، وكل منهما يوجب القود.

قال: وإن كان المدعي جماعة، ففيه قولان:

ص: 15

أحدهما: يحلف كل واحد خمسين يمينًا، لأن العدد في القسامة كاليمين الواحدة في غير القسامة، [فلما تساووا في غير القسامة] وجب أن يتساووا في القسامة.

والثاني: تقسط [عليهم الخمسون] على قدر مواريثهم، لأن الذي يثبت بأيمانهم ينقسم عليهم في فرائض الله، فكذلك يجب أن تكون الأيمان، وتفارق غير القسامة، لأن ثم اليمين الواحدة لا تقبل القسمة، وها هنا القسمة ممكنة.

قال: ويجبر الكسر، لأن اليمين الواحدة لا تتبعض، فكملت، كما في غير القسامة، وهذا ما نص عليه ها هنا، وهو الصحيح عند الماوردي والقاضي أبي الطيب والرافعي وغيرهم، وبه أجاب ابن الحداد، وميل الإمام إلى تضعيفه.

وقد قيل: إن أصل الخلاف في هذه المسألة: أن الدية تثبت للوارث ابتداء، أو للمقتول؟ وفيه قولان، ذكرناهما في باب العفو والقصاص:

فإن قلنا: تثبت للوارث ابتداء، حلف [كل واحد] خمسين يمينًا، لأن الحق لا يثبت للإنسان بيمين غيره، والشرع قد علق الاستحقاق بعدد من الأيمان، فلابد من تحققه.

وإن قلنا: تجب للمقتول ابتداء، قسطت، لأن المستحق واحد، والورثة خلف عنه.

ومقتضى هذا البناء: أن يكون الصحيح القول الثاني- أيضًا- لأن ذكرنا ثم: أن الصحيح في الطرق: أن الدية تثبت للمقتول أولًا، ثم تنتقل.

وعلى هذا فروع:

أحدها: إذا كان في المسألة عول، فهل تقسم الأيمان بينهم على أصل الفريضة، [أو على الفريضة و] عولها؟ فيه وجهان في ((الحاوي))، وأصلحهما فيه: الثاني.

وعلى هذا: إذا كان القتيل امرأة، وتركت زوجًا، وأختين لأب وأم، وأختين لأم، وأما فالمسألة من ستة، وتصح من عشرة، [فيحلف الزوج خمسة عشر، وكل أخت شقيقة عشرة]، وكل أخت من أم خمسة والأم خمسة.

وعلى الأول: يحلف الزوج خمسة وعشرين، وكل أخت شقيقة سبعة عشر، وكل أخت من أم تسعة، وكذلك الأم.

ص: 16

الفرع الثاني: إذا نكل بعض الورثة عن حلف ما يخصه من الأيمان أو عن بعضها، بطل حقه، لأن النكول عن البعض كالنكول عن الكل، وحلف الباقون تتمة الخمسين، وسلم [إليهم] نصيبهم من الدية، ويكون توزيع ما كان يحلفه الناكل من الأيمان على قدر استحقاقهم.

مثاله: إذا كان للوارث أخوان، وزوجة، فنكل أحد الأخوين: إما عن كل ما يخصه من الأيمان، أو عن بعضه- فنصيبه من الدية الربع والثمن- وقد كان يحلف تسعة عشر يمينًا، فنقص على قدر مستحق الزوجة، والأخ الآخر، ويجبر كسرها، فتحلف [الزوجة] ثمانية أيمان مضافًا لما كانت تحلفه، وهو ثلاثة عشر يمينًا، ويحلف الأخ اثنى عشر يمينًا مضافًا لما كان يحلفه، وهو تسعة عشر [يمينًا]، فتكمل أيمانهم اثنين وخمسين يمينًا، ويسلم للزوجة ربع الدية، وللأخ الحالف الربع والثمن.

ولو كان الورثة ثلاثة إخوة، أو ابنتين وابنين غائبين، أو واحدًا غأئبًا، وواحدًا صغيرًا، فإذا أراد الحاضر أخذ نصيبه، حلف خمسين يمينًا، ثم إذا حضر الغائب حلف خمسة وعشرين يمينًا، وأخذ نصيبه، [ثم إذا حضر الغائب الآخر، أو بلغ الصبي، حلف سبعة عشر يمينًا وأخذ نصيبه]، وعلى هذا المثال.

ولو كان الورثة أربعة بنين، واثنان حاضران، حلف كل واحد منهما خمسة وعشرين يمينًا، وأخذ ربع الدية، فإذا حضر أحد الغائبين، حلف سبعة عشر يمينًا، وسلم إليه ربع الدية، كما لو كان الثلاثة حضورًا، فإنه لا يلزم كل احد أكثر من ذلك، فإذا حضر الرابع، حلف ثلاثة عشر يمينًا، وتسلم باقي الدية، ولو قدم الغائبان معًا، حلف كل واحد ثلاثة عشر يمينًا، ولو أراد الحاضر أن يؤخر اليمين إلى قدوم الغائب، كان له ذلك، ولم يبطل حقه، بخلاف نظيره في الشفعة، حيث لنا: إنه يبطل حقه على وجه لابن أبي هريرة، والفرق: أن الشفعة إذا تعرضت للأخذ، فالتأخير تقصير مفوت، واليمين في القسامة لا تبطل بالتأخير.

الفرع الثالث: إذا حلف الحاضر الخمسين، ثم مات الغائب، ووارثه الحالف لا غير- لم يستحق نصيبه إلا بعد حلفه ما كان يخصه لو حضر.

الفرع الرابع: إذا كان في الورثة خنثى مشكل، أخذنا بالاحتياط والبناء على

ص: 17

اليقين في الأيمان وفي الميراث جميعًا، فلو خلف القتيل ولدا خنثى لا غير، حلف خمسين يمينًا، لاحتمال أنه ذكر، ولاحتمال كونه أنثى، فإنه لو تحققت أنوثته لم يأخذ شيئًا إلا بعد حلفه خمسين، ويعطي نصف الدية، لاحتمال أنه أنثى، ولا يأخذ الإمام النصف الآخر، بل يوقف إلى أن يبين حال الخنثى: فإن بان ذكرًا سلم له، وإن بان أنثى حلف القاضي المدعى عليه للباقي، فإن نكل، فماذا يفعل معه؟ فيه الخلاف السابق.

ولو كان مع الولد الخنثى عصبة للقتيل: كالعم، والأخ، وابنهما- فالحكم في حق الخنثى ما تقدم، [والعصبة مخير بين أن يحلف خمسة وعشرين يمينًا، وبين ألا يحلف، فإن حلف انتزع القاضي النصف الآخر، ووقفه بين هو بين الخنثى، فإذا تبين المستحق منهما دفعه له باليمين السابقة.

[وأبدى الإمام تخريج] وجه: [أن] العصبة لا يحلف، لأنا لم نعلم له استحقاقًا، فلا تصح دعواه، ولو حلف لم يقع الاعتداد بأيمانه، وقال: إنه منقاس مطرد في كل من لا نعلم له استحقاقًا.

وعلى المشهور: إذا لم يحلف، كان له ذلك، ثم إن ظهر أنه المستحق، حلف إذ ذاك خمسة وعشرين [يمينًا وتسلم] النصف الآخر.

ولو خلف ولدين خنثيين، حلف كل واحد أربعة وثلاثين يمينًا، لاحتمال أنه ذكر، والآخر أنثى، ولا يأخذ إلا ثلث الدية، لاحتمال أنه أنثى، والآخر ذكر، أو أنهما أنثيان.

ولو خلف ابنًا، وولدًا خنثى، فيحلف الابن أربعة وثلاثين يمينًا، لاحتمال أن الخنثى أنثى ولا يعطى إلا نصف الدية، ويحلف الخنثى خمسة وعشرين يمينًا، الخنثى أنثى ولا يعطي إلا نصف الدية، ويحلف الخنثى خمسة وعشرين يمينًأ، لاحتمال أنه ذكر، ولا يعطى إلا ثلث الدية، لاحتمال أنه أنثى، ويوقف السدس بينهما، وعلى هذا فقس، [والله أعلم].

ولو خلف جدًا، وأخًا لأب وأم، وأخًا للأب- فأخ الأب يعاد به الأخ للأب والأم- الجد، ولا يرث، فيحلف الجد عشرين يمينًا، والأخ للأبوين ثلاثين

ص: 18

[يمينًا].

ولو كان الورثة جدًا، وأختًا من الأبوين، وأخًا من أب- فتحلف الأخت خمسة وعشرين يمينًا، لأن لها نصف الدية، ويحلف الجد عشرين يمينًا، لأن لو خمسا الدية، ويحلف الأخ خمسة أيمان، لأن له عشر الدية.

فرع: إذا مات أحد الورثة المدعين للدم، قام وارثه مقامه في الأيمان، فإن تعددوا عاد القولان:

فإن قلنا: يحلف كل واحد من الورثة خمسين يمينًا، فكذلك ورثة الورثة.

وإن قلنا بالتوزيع، وزعت حصة ذلك الوارث على ورثته، فلو كان للقتيل ابنا، ومات أحدهما قبل أن يحلف [عن ابنين، حلف كل واحد منهما ثلاثة عشر يمينًا، فإن مات أخوه قبل أن يحلف]، ولم يحلف إلا هذا الحالف- حلف أيضًا ثلاثة عشر يمينًا، ولا يقال: يكمل خمسة وعشرين، لأنه يحلف عن مورثه. ولو نكل أحد ولدي ابن القتيل، حلف أخوه سبعة أخرى، وعمه ثمانية، وعلى هذا فقس.

قال: فإن نكل المدعي عن اليمين، ردت اليمين على المدعى عليه، فيحلف خمسين يمينًا، لقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في قصة اليهود التي تقدمت.

ولأنا إذا غلظنا اليمين في جنبة المدعي بالعدد، احتياطًا لدم المدعى عليه- وجب أن نغلظ في جنبة المدعى عليه، صيانة لدم مورث المدعي، وهذا ما حكاه العراقيون والماوردي.

وحكى القاضي الحسين والإمام قولًا آخر: أنه يكفيه يمين واحدة، وبذلك يحصل في المسألة طريقان.

ص: 19

وقال القاضي [الحسين] في باب دعوى الدم: إن المدعي إذا نكل عن اليمين في صورة اللوث، لم يكن للمدعى عليه أن يحلف إلا بعد استئناف الدعوى، فإذا استؤنفت بدأنا بيمين المدعى عليه.

قال: وإن كانوا- أي: المدعى عليهم- جماعة، ففيه قولان:

أحدهما: يحلف كل واحد [منهم] خمسين يمينًا، لأن يمين كل واحد لإثبات براءة ذمته، فلا تثبت براءة ذمته بيمين غيره، وهذا ما اختاره في ((المرشد))، وصححه المارودي والبندنيجي والقاضي أبو الطيب وغيرهم وقالوا: الفرق بين هذا وبين ما لو كان المدعي جماعة، وحلفناهم، حيث قلنا: الصحيح أنها تقسم-: أن كل واحد من المدعى عليهم كالمنفرد في إيجاب القود وإلزام الكفارة، فكان كالمنفرد في عدد الأيمان، والواحد من المدعين لا يساوي المنفرد فيما يثبته، لأن الواحد يثبت كل الدية، وكل واحد عند الاجتماع يثبت بعضها، فحلف بحسب [ما] يثبته.

والثاني: تقسم [عليهم] الخمسون على عدد رءوسهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر في حق اليهود أكثر من خمسين يمينًا، وإنا وزعت على العدد، لأنه لا مرد غيره، بخلاف المسألة السابقة، فإن الإرث فيها مرد.

ولأن كل واحد من المدعى عليهم يدفع عن [نفسه] القود والكفارة، فتساووا في الأيمان، وكل واحد من المدعين يثبت بيمينه حقا له، فوزعت الأيمان على قدر حقوقهم، وقد صحح البغوي قول التوزيع هنا كما صححه ثم.

وعلى هذا: فلو كانت الدعوى على اثنين: أحدهما حاضر، والآخر غائب- حلف الحاضر خمسين [يمينًا]، ثم إذا حضر الغائب حلف خمسة وعشرين. وكذا لو كان حاضرين، فنكل أحدهما، يحلف الآخر خمسين يمينًا، لأن البراءة عن الدم لا تحصل بما دونها.

وهذا كله تفريع على الطريقة الصحيحة، وهي الجزم بتعدد اليمين على المدعى عليه إذا كان منفردًا.

أما إذا قلنا بطريقة القولين في المنفرد، جرى قول الاكتفاء بيمين واحدة

ص: 20

[من كل واحد] ها هنا أيضًا.

فرع: إذا ردت الأيمان على المدعى عليه، فإن حلف، لم يلزمه قود ولا دية. وإن نكل عن اليمين، ففي ((الحاوي)): أنه يرغم الدية، ولا يحبس.

وهكذا إذا كانت الدعوى على جماعة ونكلوا.

وكلام القاضي أبي الطيب وابن الصياغ في باب اليمين مع الشاهد- مصرح بأنه لا يقضي على المدعى عليه والحالة هذه بمجرد نكوله، وكلام القاضي الحسين والإمام وغيرهما يقضتيه- أيضًا- لأنهم قالوا: إذا نكل المدعى عليه عن اليمين، فهل ترد [على المدعي؟] على قولين أطلق الأصحاب حكايتهما.

قلت: ومنهم الشيخ أبو حامد، كما حكيته في باب صفة القضاء:

أحدهما: لا، لأنه نكل عن اليمين في هذه الخصومة، ولو رددنا عليه لكانت صيغة يمين الرد كصيغة أيمان القسامة، والخصومة متحدة، والمقصود واحد.

والقول الآخر: أنها ترد، فإنه نكل عن اليمين في مقام، وهذا مقام آخر، فصار تعدد المقام كتعدد الخصومة، وهذا ما صححه الرافعي والبندنيجي.

وقال الشيخ أبو محمد: إن هذين القولين مبنيان على أن يمين الرد هل تتعدد؟

فإن قلنا: لا، فاليمين مردودة على المدعي، فإن نكوله عن أيمان القسامة محمول على رغبته عن كثرة الأيمان، وطلبه الاقتصار على يمين واحدة.

وإن قلنا: تتعدد يمين الرد كما تتعدد أيمان القسامة، فلا ترد اليمين عليه، لما ذكرناه من اتحاد المطلوب والخصومة.

وقال آخرون: إن [قلنا]: يمين الرد تتعدد، فالقولان جاريان، وإن قلنا: يمين الرد تتحد، فترد.

وقال قائلون: إن قلنا: يمين الرد تتعدد، فلا رد قولًا واحدًا، وإن قلنا: تتحدد، ففي الرد قولان:

أحدهما: ترد، لغرض الاتحاد.

والثاني: لا، فإن تكرر الأيمان على الصدق لا يضر، وإن فرض كذب، فاليمين الواحدة في معنى الأيمان.

ص: 21

وقد خص البندنيجي وابن الصباغ والبغوي والمتولي هذه القلولين في الرد بما إذا كانت الدعوى في قتل الخطأ، أو شبه العمد، أو في قتل العمد، وقلنا: إن القود يثبت بيمين القسامة، أما إذا قلنا: لا يثبت، فترد اليمين على المدعي بلا خلاف، لأنه يستفيد بها [ما لا يستفيد] بأيمان القسامة، وهو الاقتصاص.

فإن قلت: هذا منهم رجوع إلى طريق الشيخ أبي محمد في بناء القولين على تعدد يمين الرد واتحادها، نظرًا إلى حصول فائدة من هذه اليمين- لم تكن حاصلة من اليمين الأولى، وقضيته: الجزم بأن المدعي قتل العمد لو أقام شاهدًا واحدًا، وامتنع من الحلف حيث يثبت له المال بيمينه- كما سنذكره- وطلب يمين المدعى عليه، فنكل- أن يرد على المدعي، لأنه لم يكن يستفيد باليمين الأولى القصاص، وبهذه يستفيده، وحينئذ ففي الجزم عند ظهور الفائدة نظر، لأنه إنما جاء من جهة أن اختلاف الثمرة يدل على اختلاف اليمينين، فلم تكن المردودة هي التي وقع [النكول عنها]، وإذا كان كذلك لزم] الجزم بالرد وإن لم تظهر فائدة فيه، لأن حقيقة يمين الرد لا تختلف، سواء ظهرت فائدة في بعض الصور، أو لم تظهر.

نعم، هذا يحسن أن يعلل به الصحيح من القولين، والآخر يعلل بأن الواقعة واحدة، بدليل أنه [لا] يحتاج إلى استئناف دعوى، وكذلك حكى الأصحاب القولين كما حكيتهما في باب صفة القضاء فيما إذا أقام المدعي شاهدًا بالمال، وامتنع من الحلف، ونكل المدعى عليه عن اليمين التي ردها عليه المدعي، فهل يحلف المدعي؟ فجرى القولان وإن لم تظهر فائدة.

وكذلك حكوا القولين فيما إذا كانت الدعوى في دم، ولا لوث، فعرضت اليمين على المدعى [عليه، فنكل، فعرضت اليمين على المدعي] فنكل، ثم ظهر لوث، ورام المدعي أن يحلف- فهل يمكن منه؟ وقضية ما قالوه الجزم بعدم التحليف، لعدم ظهور الفائدة.

قلت: ما ذكرته من كون هذا رجوعًا إلى طريق الشيخ أبي محمد لا يأباه كلامهم، ولو صح لكان اللازم [عليه] صحيحًا، لكن كلام الشافعي يأباه، ويأبى

ص: 22

ما ذكرته من الالتزام- أيضًا- لأن القاضي أب الطيب قال: إذا نكل المدعي عن القسامة، والمدعى عليه عن اليمين أيضًا، فهل ترد على المدعي؟ قال الشافعي: إن كان في ردها إليه فائدة، ردت، وإن لم يكن في ردها فائدة، فهل ترد أم لا؟ فيه قولان.

وإذا ظهر لك [ذلك]، علمت أن هذه الطريقة راجعة للطريقة الذاهبة إلى أن محل القولين إذا قلنا: إن يمين الرد تتعدد، أما إذا قلنا: تتحد، فترد، والله أعلم.

وهذا كله ساقنا إليه ما أورده المارودي من ثبوت الدية عند امتناع المدعى عليه من الحلف، والذي يظهر صحته: عدم الثبوت، كما اقتضاء [كلام] غيره، لأن اللوث اقتضى ترجيح جانب المدعي، كما اقتضى إقامة المدعي شاهدًا بالمال ترجيح جانبه حتى جعلت اليمين في جنبته، وقد تقدم أنه لو أقام شاهدًا، وامتنع من الحلف، [وطلب يمين المدعى عليه، فامتنع من الحلف]- لا يثبت عليه المال [المدعي]، فكذلك ها هنا.

نعم، حكينا ثم عن الشيخ أبي حامد: أن المدعى عليه إذا امتنع من اليمين، وقد أقام المدعي شاهدًا، ونكل عن الحلف، وقلنا: لا ترد على المدعي- أنه يحبس المنكر حتى يحلف، أو يعترف، لأنه قد تعين عليه، فلا يكون له إسقاطه، ومقتضى هذا التعليل: أن نقول بمثل هذا هنا.

قال: وإن لم يكن لوث، حلف المدعى عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم:((البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه))، وقصة الأنصار لا تعارض هذا، لأنها مفروضة مع اللوث، فخرجت من عموم هذا الخبر، وأجري فيما عداها [على عمومه]، لأن الأصل براءة الذمة.

قال: يمينًا واحدة في أحد القولين، للخبر السابق، فإنه أدخل الألف واللام في اليمين، وإدخال الألف واللام يقتضي الجنس، والجنس إذا كان غير محصور اقتضى ما يقع عليه الاسم، وهو إذا حلف يمينًا واحدة فقد أتى بما يقع عليه الاسم.

ولأنها يمين من جانب المدعى عليه شرعت لقطع الخصومة، وإسقاط الدعوى، فوجب أن تكون واحدة كما في سائر الدعاوى.

ص: 23

قال: وخمسين يمينًا في الآخر، لأنها يمين مسموعة في دعوى القتل، لعدم البينة، [فوجب أن تغلظ بزيادة العدد، كما إذا كان هناك لوث.

واحترزنا بقولنا: ((لعدم البينة)) عما] إذا أقام شاهدًا واحدًا في قتل الخطأ، فإنه يحلف يمينًا واحدة، ويستحق الدية، هكذا قال أبو الطيب، وهو يقتضي اتحاد اليمين عند إقامة الشاهد جزمًا، وهو ما أورده غيره [من العراقيين].

وحكى المراوزة القولين في التعدد فيها أيضًا.

ولأن العدد معتبر عند اللوث، ولا يجوز أن يكون لأجله، فإن اللوث إنما يحصل البداءة باليمين دون التغليظ بالعدد، دليله: أن المدعى عليه يحلف الخمسين عند نكول المدعي، وليس هنا بداية باليمين، فدل على أن التغليظ بالعدد إنما شرع لحرمة الدم، وهو موجود، وهذا ما نص عليه هنا، وصححه أبو الطيب وغيره، وفي ((جمع الجوامع)) طريقة قاطعة به، وعليه فروع:

أحدها: لو كان المدعى عليه جماعة، فقولان:

أحدهما: يحلف كل واحد خمسين يمينًا.

والثاني: يقسم الخمسون على عدد الرءوس، فإذا حلفوا برئوا، وإن نكلوا رددنا اليمين على المدعي، وكم يحلف؟ فيه قولان:

أحدهما: يمينًا واحدة.

والثاني: خمسين يمينًا.

فلو كان المدعون جماعة، حلف كل واحد منهم يمينًا واحدة على القول الأول، وعلى الثاني قولان:

أحدهما: خمسين يمينًا.

والثاني: يقسط الخمسون على قدر مواريثهم، ويجبر الكسر، كما تقدم.

وإذا حلف الواحد أو الجميع، استحقوا القصاص إن كانت الدعوى في قتل عمد قولًا واحدًا، لأن اليمين المردودة كالإقرار أو كالبينة، وكل منهما يجب به القود.

ولو كان الدعوى في قتل خطأ أو شبه عمد، فهل تجب الدية على العاقلة، أو في مال الجاني؟ فيه قولان ينبنيان على أن يمين الرد مع النكول كالبنية أو

ص: 24

كالإقرار؟ فإن قلنا بالأول كانت على العاقلة، كما لو قامت البينة بالقتل، وإلا ففي مال الجاني، وهذا ما أورده العراقيون، والقاضي الحسين والفوراني عن القفال.

ثم قال القاضي: إن فيه إشكالًا، لأن جعل ذلك كالبينة في حق الحالف والناكل، لا في حق ثالث، لأنه متقاصر عن البينة، ولأجل هذا حكى الإمام عن المحققين طريقة قاطعة بأنها على الجاني وإن قلنا: إن يمين الرد كالبينة، وهي ما حكاها الفوراني عن بعض مشايخه.

الثاني: لو أقر المدعى عليه بالقتل عمدًا-[بالقتل]، ونفى العمد، فهل يغلظ عليه بالخمسين؟ قال القاضي الحسين وغيره: فيه وجهان:

أحدهما: نعم، كما في أصل القتل، وهو الصحيح.

[و] الثاني: لا، لأن الموصوف آكد من الصفة.

وإذا حلف: ما قتله عمدًا، فالدية في ماله، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب في باب الشهادة بالجناية في ضمن الفرع الثاني منه.

فإذا حلف، هل للمدعي طلب الدية؟ قال المتولي: فيه قولان، بناء على أن الدية في الخطأ تجب على العاقلة ابتداء أم تلقيًا؟

فإن قلنا بالأول فليس له طلب الدية، لأنه ادعى حقًا على المدعى عليه، وهو اعترف بوجوبه على غيره.

وإن قلنا: أنها تجب على الجاني أولًا، ثم تتحملها العاقلة- فينبني على الحلف في الصفة هل هو كالحلف في المصوف؟ وفيه قولان مذكوران في مسائل النكاح:

إن قلنا: نعم، فكأنه ادعى مالًأ، واعترف بمال آخر لا يدعيه.

وإن قلنا: لا، طالب بالدية.

قلت: وفيما قاله نظر، لأن ظاهر قوله أن الكلام مفروض بالنسبة إلى مطالبة القاتل، وحينئذ فذاك إنما يكون عند تكذيب العاقلة [له]، ولا بينة، وإذا كان كذلك لم يحسن بنا إلزام القاتل الدية على أنها تجب على العاقلة ابتداء، لأن محل هذا الخلاف- كما دل عليه كلام الأصحاب- إذا كانت العاقلة معترفة، أو قامت بينة، لأنهم جزموا بأن الولي لو ادعى القتل خطأ، وكذبتهما العاقلة، ولا

ص: 25

بينة-: أن الدية تجب في مال الجاني، للخبر.

ولو صح ما ذكره من البناء للزم أن يقال: لا تجب الدية عليه على قول، فلا جرم كان الظاهر- كما قال الرافعي- الوجوب على الجاني، وأنه الذي أجاب به أكثر من أورد المسألة.

الثالث: كيفية يمين المدعى عليه على هذا القول الآخر- كما قال الشافعي-: أن يحلف ما قتل فلانًا، ولا أعان على قتله، ولا ناله من فعله ولا بسبب فعله شيء جرحه، ولا وصل إليه شيء من بدنه، لأنه قد يرمي فيصيب شيئًا، فيطير الذي أصابه فيقتله، ولا أحدث شيئًا مات منه فلان، لأنه قد يحفر البئر، ويضع الحجر، فيموت منه.

وأراد الشافعي بقوله: ((ما قتل فلانًا))، أي: يوجبه بالذبح.

وبقوله: ((ولا أعان على قتله))، أي: بالإكراه، والشركة في القتل.

وعن [ابن] أبي هريرة أنه أراد به: الممسك في القتل، فإنه قاتل على مذهب مالك، فذكره احتياطًا لا شرطًا، وعند غيره هو واجب.

وبقوله: ((ولا ناله من فعله))، أي: سراية الجرح، كما قاله البصريون، أو وصول السهم عن القوس، كما قاله البغداديون.

وعلى كلا الوجهين فذكر ذلك واجب.

وهذه الشروط الثلاثة في قتل العمد.

وبقوله: ((ولا بسبب فعله شيء جرحه)) ينتفي السهم، كما قاله البصريون، وعلى هذا يكون شرطً رابعًا في قتل العمد.

والبغداديون قالوا: أراد به أن يرمي [إلى] حائط بسهم أو حجر، فيعود السهم أو الحجر على رجل فيقتله، فعلى هذا يكون شرطًا في قتل الخطأ دون العمد.

وبقوله: ((ولا وصل إليه شيء من يديه)): ما ذكره، وهو شرط في الخطأ دون العمد.

[وبقوله: ((ولا أحدثت شيئًا مات منه فلان)): ما ذكره، وهذا شرط في الخطأ دون العمد].

ص: 26

قال الماوردي: [فإن قيل]: يمين المدعى عليه يجب أن تكون موافقة لدعوى المدعي إذا فسر، وعندكم أن الدعوى لابد من التفسير فيها، فلم اعتبر الشافعي بالتفسير في اليمين مع الاستغناء عنه بالدعوى؟

قلنا: للأصحاب في الجواب عن هذا ثلاثة أوجه:

أحدها: أن هذا من قوله دليل على [جواز] سماع الدعوى مطلقة غير مفسرة، وجعلوا ذلك قولًا ثانيًا في المسألة، فخرجوا سماع الدعوى مطلقة في الدم على قولين بعد اتفاقهم على أنها لا تسمع في القسامة إلا مفسرة، لاحتياج المدعي إلى الحلف عليها، وإنما خرجوه فيما عدا القسامة.

والثاني: أن الشافعي ذكره شرطًا وإن لم تسمع الدعوى إلا مفسرة، احتياطًا للمقتول وإن انتقل الحق إلى وليه.

والثالث: أنه شرط ذلك في حق طفل أو غائب، إذا ادعى له القتل ولي أو وكيل، أما إذا كانت الدعوى من حاضر جائز الأمر، فليس ذلك بشرط.

قال الأصحاب: ويستحب للحاكم أن يحذره من اليمين الفاجرة قبل تحليفه إن كان المدعي قتلًا [غير] عمد، ولا يستحب فيما إذا كان القتل يوجب القصاص، لأن القود يدرأ بالشبهة، كذا حكاه الماوردي.

قال: وإن كان الدعوى على اثنين، وعلى أحدهما لوث دون الآخر- أي: مثل أن كان القتيل في دار أحدهما- حلف المدعي على صاحب اللوث، وحلف الذي لا لوث عليه، لأنه لو كان الوث عليهما حلف عليهما، ولو عدم اللوث لم يحلف على واحد منهما، فإذا كان اللوث على أحدهما خاصة اعتبر كل واحد منهما بنفسه، ويحتاج كل واحد من المدعي والمدعى عليه الذي لم يوجد اللوث في حقه- إلى أن يحلف خمسين يمينًا، لما تقدم أن الدم لا يستحق ولا يبرأ منه بأقل منها.

قال: واللوث-[أي: الناقل لليمين إلى جنبة المدعي]- هو أن يوجد

ص: 27

القتيل في محلة أعدائه- أي: بسبب دين أو نسب أو ترةٍ تبعث على الانتقام بالقتل، لا يخالطهم غيرهم، أي: بسكنى ولا مرور، كما قالها الماوردي وأبو الطيب، وذلك الغير لا يعلم هل هو صديق أو عدو؟ كما قاله في ((المرشد)).

[و] اعلم أن ((اللوث)) - بفتح اللام، وإسكان الواو-: قرينة حال تثير الظن، وتوقع في القلب صدق المدعى، مأخوذ من ((اللوث))، وهو: القوة، كما قال النواوي.

وقيل: أصل اللوث: الضعف، يقال: رجل لوث، إذا كان ضعيف العقل، وكأنهم أرادوا به أنه الحجة الضعيفة.

وعلى كل حال، فما ذكره الشيخ أمثلة له لا حد.

وبدأ بما ذكره، لأن الأصل في هذا قتيل الأنصار [بخيبر، وخيبر كانت دار يهود محضة، وكانت العداوة بين الأنصار] وبينهم ظاهرة بالذب عن الإسلام، ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد فارق عبد الله أصحابه فيها بعد العصر، ووجد قتيلًا قبل الليل [كما قاله في الأم]، أو بعد المغرب كما قاله في ((البويطي))، مطروحًا في عين، أو فقير- وهو البئر القصيرة، القليلة الماء- وهذه الحالة تغلب في النفس أن ما قتله غير اليهود، فلذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمين في جانب الأنصار.

وحكم المحلة والحلة حكم البلد من طريق الأولى، لأن انحصار القتل في أهلها المتصفين بما ذكرناه أقرب من انحصاره في [أهل] البلد.

أما إذا كان في حلة الأعداء أو قريتهم أو محلتهم من يشركهم في سكناها: فإن كان من أهل المقتول أو أصدقائه فالحكم كما تقدم، صرح به في ((المرشد))، وعليه يدل الخبر، فإن بعض أصحابنا بخراسان، قال: إن كان الأعداء أكثر ثبت اللوث، نظرًا إلى معنى الحديث.

ومنهم من رجح المعنى، فقال: لو كان فيها واحد من الأعداء كفى في ثبوت اللوث عليه، نظرًا إلى أن الأولياء في حقهم من حيث الظاهر، [فكان الظاهر] إضافته قتله إلى العدو الواحد.

وإن كان ممن يجهل حاله، لم يكن لوثًا باتفاق الأصحاب.

ص: 28

وكذلك إذا مر بها من يجهل حاله، لحاجة أو تجارة، بأن كانت القرية على الطريق، عند القاضي أبي الطيب والماوردي، وإليه يرشد قول الشيخ:((لا يخالطهم غيرهم))، كما هي عبارة القاضي الحسين والبندنيجي.

وفي ((الرافعي)): أن منهم من اشترط ألا يساكنهم غيرهم، [ولم ير بأسًا بما إذا مر بها ليس بعدو، لتجارة ونحوها، وهو ما أورده القاضي الحسين في الفروع، وعلى هذا ينطبق قول ابن الصباغ: إنه يشترط ألا يسكن معهم غيرهم].

قال الرافعي: وهو الوجه، فإن خيبر كان يطرقها الأنصار.

والقائل بهذا جزم بأنه لو كان لا يدخلها غيرهم بحال، كان ذلك لوثًا في حق أهلها، وإن لم يكن بينهم وبين القتيل عداوة، كذا قاله في ((الزوائد)).

فرع: وجود بعض القتيل في المحلة كوجود كله، سواء كان ذلك البعض أكثر البدن أو بعضه، حتى إذا وجدت اليد أو الرجل، وتحقق فوات الروح- كان الحكم كذلك، قاله المتولي، وبعض هذا الحكم مذكور في ((الإنابة)).

ولو وجد في كل محلة قطعة منه، قال المتولي: فيؤمر بتعيين من يدعي عليه على ما سبق.

قال: أو تزدحم جماعة-[أي: محصورون]، كما قال الغزالي- على بئر، أو في دخول باب من الكعبة، وغيرها، أو على طواف، أو التقاط نثار، وغير ذلك، فيوجد بينهم قتيل، لإحاطة العلم بأن قتله لم يخرج عنهم، وسواء اتفقوا في القوة والضعف أو اختلفوا.

قال الماوردي: وهكذا لو ضغطهم الخوف إلى حائط، ثم فارقوه عن قتيل منهم- كان لوثًا معهم.

فأما إذا هربوا من نار أو سبع، فوجد أحدهم صريعًا- نظر:

فإن [كان] طريق هروبهم واسعًا، فظاهر صرعته: أنها من عثرته، فلا يكون ذلك لوثًا.

[وإن كان الطريق ضيقًا، فظاهر الصرعة: أنها من صدمتهم، فيكون ذلك لوثًا].

ص: 29

والمراد بالعدد المحصور: أن يكون بحيث يمكنهم اجتماعهم [على القتل]، فإن لم يمكن، فكلام الغزالي يشير إلى أن الدعوى لا تسمع عليهم، ولا يمكن من القسامة، كما مر.

نعم، لو ادعى الولي القتل على عدد منهم يتصور اجتماعهم على القتل- قال الرافعي: فينبغي أن يقبل، ويمكن من القسامة، كما لو ثبت اللوث في حق جماعة محصورين، فادعى الولي القتل على بعضهم، فإنه يقبل.

قلت: وفي هذا القياس نظر، وسأذكره عن قريب.

ثم ظاهر كلام الشيخ والماوردي: أنه لا يعتبر في كون هذا النوع لوثًا [ظهور] العداوة.

وفي [لم تكن] ثم عداوة، وجوزنا أن يكون القتل عن ضغطة وزحمة من غير عمد- حكاية وجهين:

أحدهما: أن له أن يحلف على أصل القتل.

والثاني: ليس له ذلك، وهو الأظهر في ((الرافعي))، لأنه متردد بين أن يغرم الدية فيه، كما يتردد هو في نفسه ين أن يكون عمدًا أو خطأ.

هذا لفظ الإمام، وإيضاحه: أن مطلق القتل لا يفيد مطالبة القاتل، بل لابد من ثبوت العمدية، ولا مطالبة العاقلة، بل لابد وأن يثبت كونه خطأ أو شبه عمد، والتردد يمنع ذلك.

وهذا الوجهان شبيهان بوجهين حكاهما الماوردي فيما إذا شهد عدل واحد بالقتل، ولم يبين كونه [عمدًا ولا خطأ:

أحدهما: لا قسامة معه، لجهل بموجبها في قتل عمد أو خطأ.

والثاني:] يحكم فيه بالقسامة، لأنه لا ينفك القتل عن عمد أو خطأ، ولا تمنع القسامة في واحد منهما، ويحكم له بعد القسامة بأخفهما حكمًا، وهو الخطأ، وتكون الدية في مال الجاني، لا على العاقلة، لجواز أن يكون عندا، فيستحق في ماله.

ومن ها هنان يظهر لك أن التخريج الذي قاله الرافعي من قبل في كونه يعين

ص: 30

أشخاصًا، ويقسم عليهم، لأن تطرق الجهل إلى القاتل أكثر من تطرقه إلى صفة القتل، بخلاف المسألة المقيس عليها، فإن اللوث ثابت على الجميع، فلا جهل.

ثم هذه المسألة مصورة بصورتين:

إحداهما: أن يدعي القتل مفصلاً، فيقوم اللوث على ما ذكرناه، والحكم ما تقدم.

والثانية: أن يدعي القتل مطلقًا، وسمعنا ذلك كما حكيناه عن بعضهم أنه حكاه قولًا مخرجًا، فيقوم اللوث على ما ذكرناه.

وعلى هذه الحالة ينطبق قول البغوي: لو ادعى رجل أنه قتل أباه، ولم يقل: عمدًا ولا خطأ، وشهد له شاهد- لم يكن ذلك لوثًا، لأنه لا يمكنه أن يحلف مع شاهده، ولو حلف لا يمكن الحكم له، لأنه لا يعلم صفة القتل حتى يستوفي موجبه.

وقد قال في ((الشامل)): إن الشيخ أبا حامد حكى هذا الجواب عن بعض أصحابنا.

قال: أو تتفرق جماعة عن قتيل- أي: طري- في دار-[أي:] وما في معناها- مما تفردوا به من بيت أو بستان، لما ذكرناه.

ولا يشترط أن يكون بينهم وبينه عداوة، بخلاف القرية والمحلة، لأن ما انفردوا به ممنوع من غيرهم إلا بإذنهم، فيغلب على الظن أن القتل منهم حصل، وليست القرية [و] المحلة ممنوعة من مار وطارق، فاعتبر فيها ظهور العداوة، لعدم الاحتمال، قاله الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم.

فرع: لو وجد قتيل في دار، ولم يوجد فيها سوى عبده- كان ذلك لوثاً في حق العبد.

قال البندنيجي والقاضي أبو الطيب والماوردي: ويستفيد الورثة به قتله على قوله القديم، وتقديم أرش الجناية على الرهن إن كان مرهوناً.

قلت: وهذا منهم يقتضي أمرين:

أحدهما: أنه يكفي في القسامة على القتل العمد مجرد ظهور اللوث على أصل القتل، لأن كونه لا أحد في الدار غير العبد يظهر منه كونه القاتل، لا كون القتل عمدًا أو غيره.

وقريب منه قول الأصحاب: إنه إذا ثبت اللوث في [حق] جماعة، وادعى الولي على بعضهم، جاز، ويمكن من القسامة، فإنه كما لا يعتبر ظهور اللوث

ص: 31

فيما يرجع إلى [الإنفراد والاشتراك، جاز ألا يعتبر ظهوره فيما يرجع إلى] صفتي العمد والخطأ.

وما ذكرناه في الفصل قبله عن الإمام والماوردي يدل على أن القسامة على القتل الموصوف بالعمدية، تستدعي ظهور اللوث بالقتل الموصوف بها، وكذلك ما سنذكره من بعد عند الكلام فيما إذا شهد أحدهما: أنه قتله بالسيف، والآخر: أنه قتله بالعصا.

الثاني: أنه يقتضي أن الورثة إذا عفوا على الدية، أو كانت الجناية موجبة لها: أنهم يقدمون بها، وهذا وجه حكيناه في كتاب الرهن، فلا يمكن أن ينبني عليه المذهب، والله أعلم.

قال: أو يرى القتيل- أي: طريًا- في موضع، لا عين فيه ولا أثر، وهناك رجل مخضب بالدم- أي: إما واقفًا، أو موليًا لم يبعد- لأن هذه قرينة صارفة للقتل إليه.

وقول الشيخ: ((لا عين فيه ولا أثر)) اتبع فيه لفظ الشافعي، فإنه هكذا قال، وأراد: ألا يكون بذلك الموضع عين آدمي آخر، أو سبع، أو ذئب، أو حيوان قاتل، ولا أثر لهارب من آدمي وغيره: كرشيش الدم على غير الطريق، أو قدم إنسان آخر، أو آثار حيوان.

قال الماوردي: فإن فقد شرط من الشرائط الربعة، لم يكن لوثًا.

وأراد بالرابع: أن يكون طريًا، كما ذكرناه.

ولم يعتبر الغزالي في ((الوجيز)) في الرجل الواقف أن يكون مخضبًا بالدم، وإن قاله في ((الوسيط)) كغيره، بل اكتفى بأن يكفون معه سكين ونحوها.

وفي معنى هذا النوع: ما إذا رأينا من بعد رجلاً يحرك يده كما يفعل من يضرب بالسيف أو السكين، ثم وجدنا في الموضع قتيلًا، فإنه يكون لوثًا في حق ذلك الرجل، قال الفوراني والرافعي وغيرهما.

قال: أو يشهد عدل: أنه قتله فلان، لأن قول العدل الواحد لا يثبت به المدعى، ويغلب على الظن صدقه.

ص: 32

قال البندنيجي: ولا فرق [بين] أن تكون الدعوى في قتل عمد أو غيره.

نعم: إن كان القتل عمدًا حلف معه خمسين يمينًا، وإن كان خطأ، حلف معه يمينًا، وإن كان خطأ، حلف معه يمينًا واحدة.

و [على] هذا ينطبق إيراد ابن الصباغ وغيره، ومرادهم بالعمد: الذي يثبت به القصاص على القديم، على العمد الذي لم يثبت معه قصاص أصلاً، كقتل المسلم الذمي، فإن هذا حكمه حكم قتل الخطأ في أصل إيجاب المال، لا في صفته، وقد نبه عليه في ((الحاوي)) في باب الشهادة بالجناية [وغيره].

وفي ((الحاوي)): أن شهادة العدل الواحد [لوث] في قتل العمد، أما في غيره فيحلف معه يمينًا واحدة، ويستحق المال، ولا يكون لوثًا.

وفي ((التتمة)): أن شهادة العدل الواحد هل هي لوث؟ ينبني على [أن] الحكم يقع بالشهادة فقط، أو بها مع اليمين، أو باليمين فقط؟ فعلى الأخير يكون لوثًا، وعلى ما عداه لا.

وحكى الإمام عن الأصحاب أنهم قالوا: إذا أقام المدعي شاهدًا واحدًا، وأراد أن يحسبه، ويقدره لوثًا، وما كان يثبت اللوث عند القاضي بجهة أخرى- فإنه يحلف خمسين يمينًا، وإن أراد ألا يقيمه لوثًا، ويحلف معه- على قياس اليمين مع الشاهد- فله ذلك.

ثم قال: وهذا فيه اضطراب، فإنا إن قلنا: إنه يحلف مع الشاهد الواحد خمسين يمينًا، فلا فائدة لهذا التقسيم.

قلت: بل قد تظهر فائدة، لأنه إذا حلف مع الشاهد احتاج أن يضيف في يمينه:((وإن من شهد له صادق فيما شهد له به))، على وجه لم يورد هو وغيره سواه في باب اليمين مع الشاهد، كما سنذكره. وإذا حلف لا مع الشاهد لم يحتج إلى ذلك، فقد ظهر للتقسيم فائدة.

قال الإمام: وإن قلنا: إنه يحلف مع الشاهد يمينًا واحدة، والقتل خطأ، فلا

ص: 33

معنى لتقسيم إرادته، وتكفيه يمين واحدة إذا رغب في ذلك، يحلفه القاضي، فإن الحجة إذا قامت ثبتت نتائجها، ولم يختلف الأمر بمقصود المدعين إذا كانوا مصرين على الدعوى.

نعم: إن كان الدعوى قتلاً عمدًا، وقبلنا بأيمان القسامة- ثبت اللوث بالشاهد الواحد، فإن أراد القصاص حلف خمسين يمينًا، وإن اقتصر على يمين واحدة لم يثبت القصاص، وفي ثبوت المال تردد سيأتي في باب الشهادة على الجناية.

وقال قبل ذلك: أقول: إن العدل الواحد الذي تقبل شهادته إذا أخبر بوقوع القتل على صيغة الإخبار، ثبت اللوث، فإنا لا نشترط في ثبوته مراتب الخصومات.

وقريب من هذا قول الرافعي: لو تقدم قول العدل على الدعوى، فينبغي أن يكتفي به، لحصول اللوث، ولا يجعل السبيل فيه سبيل الشهادات المخصوصة لمجلس الحكم المسبوقة بالدعوى.

قلت: خصوصًا إذا اكتفينا بإخبار الكفار والصبيان والفسقة.

قال: أو يشهد جماعة- أي: يزيدون على عدد التواطؤ، ولا يبلغون حد الاستفاضة، كما قاله الماوردي من النساء والعبيد- بذلك، أي: إذا أتوا متفرقين من نواحٍ مختلفة، ولم يسمع بعضهم كلام بعض، ولم يختلفوا في موضع القتل ولا صفته، كما قاله الماوردي، لأن في هذه الحالة يغلب على الظن صدقهم مع كونهم ممن يقبل خبرهم في الشرع.

قال ابن الصباغ: واشتراط مجيئهم متفرقين بحيث لا يظهر فيهم التواطؤ، فيه نظر، لأنه متى وجد عدد مجتمعون على ذلك، حصل الظن، وتجويز التواطؤ لا يمنع الظن، كتجويز كذب العدل الواحد في الظاهر.

وقد حكى الرافعي هذا وجهًا، فقال: لو جاء النساء والعبيد [مجتمعين] فوجهان: أشهرهما: المنع، لاحتمال التواطؤ.

وأقواهما: أنه لوث، لما ذكرناه.

قال الماوردي والقاضي الحسين وغيرهما: ولو أتى المخبرون بالقتل على الهيئة التي وصفناها، وكانوا صبيانًا أو فسقة أو كفرة- ففي كون إخبارهم لوثًا وجهان:

ص: 34

أحدهما: نعم، لوقوع صدقهم في النفس، وهذا أصح في ((تعليق)) البندنيجي وغيره، وأقيس في ((الشامل))، والمختار في ((المرشد)).

والثاني: لا، لأنه لا يعمل على قولهم في الشرع، وهذا ما أورده البغوي، ونسبه البندنيجي إلى أبي إسحاق.

قال الرافعي: وبعضهم ينسب إليه الأول.

وفي ((النهاية)): حكاية طريقه قاطعة في الفسقة بأن إخبارهم لوث، فإن أقوالهم على الجملة معتبرة، وعباراتهم صالحة للعقود والحلول، بخلاف [قول] الصبي، فإنه مسلوب العبارة، لا حكم للفظه و [لا] أثر لقوله.

وقياس هذه الطريقة: أن تطرد في الكافر، وحينئذ إذا جمعت بين الطريقين جاءك فيهم ثلاثة أوجه، ثالثها، أن إخبار الفاسق ومن في معناه لوث، دون إخبار الصبيان.

وعن ((المنهاج)) للشيخ أبي محمد: أنه يحصل اللوث بقول الصبيان والفسقة، دون الكفار.

أما لو شهد بالقتل امرأة واحدة من عدول النساء، قال الماوردي: لم تكن بينة يحلف معها، ولا لوثاً، لنقصانها عن رتبة الشاهد الواحد.

قال الإمام: وكنت أود لو قيل: كل من تقبل روايته يثبت اللوث بقوله، حتى يخرج منه الاكتفاء بقول امرأة ثقة وعبد موثوق به، وإن لم تظهر الثقة ولا نقيضها، فيخرج إلى تضافر الأخبار على وجه يغلب على الظن انتفاء التواطؤ.

ولأجل هذا الاحتمال قال في ((الوجيز)): القياس: [أن] قول الواحد من العبيد والنساء لوث أيضاً.

ولو شهد بالقتل من عدول امرأتان، قال في ((الحاوي)): لم تكونا بينة إن حلف معهما، وكانتا لوثًا كالرجل الواحد، ويحلف في العمد والخطأ خمسين يمينًا، ويحكم له بأيمانه. وهذا منه يدل على أن محل الكلام السابق في اشتراط التفريق وغيره عند شهادة النسوة: ما إذا كن مجهولات الحال.

وفي ((التهذيب)): أن شهادة اثنتين من النسوة والعبيد كشهادة الجمع، وهذا ينفي ما ذكرناه من الاحتمال.

ص: 35

وقد عد من أقسام اللوث: أن يقع بين قوم حرب، فيقتل رجل في التحام القتال، فإنه يكون لوثًا في حق المخالفين له، وكذا إذا ترامى الصفان بالنبل والسهام، ولا التحام.

ولو انتفى الترامي والالتحام فلا يكون لوثًا في حق المخالفين، بل يكون لوثًا في حق أصحابه، قاله أبو الطيب وغيره.

وفي ((الحاوي)): أنه إذا التحم القتال، فإن كان بحيث يناله سلاح أصحابه خاصة، كان لوثًا بالنسبة إليهم، وإن كان بحيث يناله سلاح أضداده خاصة، كان لوثًا بالنسبة إليهم، وإن كان بحيث يناله سلاح الجميع ففيه وجهان:

أحدهما- وهو قول البغداديين-: أنه يكون لوثاً مع أضداده خاصة.

والثاني- وهو قول البصريين-: أن يكون لوثًا مع الفريقين، وفيما إذا لم يلتحم القتال: أنه ينظر:

فإن كان أصحابه منهزمين، وأضداده طالبين، كان لوثًا مع أضداده [خاصة]. وإن كان العكس، وإن كان العكس، انعكس الحكم.

وإن تساووا في الطلب، فعل الوجهين.

وكذا عد من أقسام اللوث [قول القائل]: أمرضت فلانًا بسحري، لكنه لم يمت به، وإنما مات بسبب آخر، فيقسم الولي ويأخذ الدية، كما نص عليه في ((المختصر)).

قال الإمام: وفيه قول مخرج: أنه ليس بلوث ولا قسامة فيه، لأن القسامة لتعيين القاتل بعد الاتفاق على القتل، وهنا الاختلاف في نفس القتل.

والذي حكاه الماوردي والبندنيجي وغيرهما: أنه إن بقي [ضمنًا مريضًا] من وقت السحر إلى وقت الموت، فالقول قول الولي مع يمينه.

وإن كان قد انقطع [عنه] ألم السحر وصار داخلًا خارجًا، فيحلف الساحر: لقد مات من غير سحره.

ومن أقسام اللوث: لهج ألسنة الخاص والعام: إن فلانًا قتل فلانًا، كما قاله البغوي.

ووجود القتيل قريبًا من قرية، وليس هناك عمارة أخرى، ولا من يقيم في الصحراء، فإنه يكون لوثًا في حق أهل القرية إذا وجدت العداوة، وكنا نحكم

ص: 36

باللوث لو وجد فيها، بخلاف ما لو وجد بين قريتين أو قبيلتين، ولم يعرف بينه وبين واحدة عداوة، فإنه لا لوث على واحدة منهما، لأن العادة جرت بأن يبعد القاتل القتيل عن فنائه، دفعًا للتهمة عن نفسه، قال المتولي.

ومعاينة القاضي ما هو لوث كافٍ فيه، ولا يخرج على القضاء بالعلم، لأن القضاء يقع بالأيمان، قاله الإمام.

ولا فرق عندنا في ثبوت اللوث بما ذكرناه بين أن يكون في القتيل جرح أو لا، ولا في البداية بالمدعي مع وجود اللوث بين أن يكون المدعي مسلمًا أو كافرًا، والمدعى عليه مسلمًا، ولا بين أن يكون [الولي] موجوداً حين القتل أو مختبئًا، ثم يبلغ، ويدعي.

ولا أثر لقول القتيل: قاتلي أو جارحي فلان، لاحتمال كونه عدوًا له، وقصده ألا يعيش بعده، والخصم [و] إن جعل ذلك لوثًا، لظنه: أن هذه حالة يصدق فيها الكاذب، ويتوب فيها الفاجر، فيبعد اتهامه، ويغلب على الظن صدقه- فقد خالف أصله [في منع] الإقرار للوارث.

قال: وإن شهد شاهد: أنه قتله فلان بسيف، وشهد آخر أنه قتله بالعصا- فقد قيل: هو لوث، لأنهما اتفقا على أصل القتل، ولا يبعد أن يغلط أحدهما لا بعينه في الوقت، وقد تقع واقعة لاشك في وقوعها، ويتمارى الناس في وقتها، وهذا ظاهر ما نص عليه في ((الأم))، كما قاله القاضي أبو الطيب، وأن المزني نقله، ولفظه: أن مثل هذا يوجب القسامة، وقد اختار هذه الطريقة أبو إسحاق المروزي، وصاحب ((المرشد)).

وحكى في ((الحاوي)): أن أبا إسحاق قال: إن الربيع سها [في النقل].

وقيل: ليس بلوث، لأن كل واحد يكذب الآخر، فلا تحصل غلبة الظن، وهذا قول القاضي أبي حامد وأبي الطيب بن سلمة، وكذا ابن الوكيل، كما حكاه البندنيجي وابن الصباغ.

ص: 37

وقال الماوردي وغيره: إن الشافعي نص عليه في ((الأم))، والقائلون به غلطوا المزني.

وبعضهم- وهو أبو حامد- قال: [إن] الشافعي إنما قال ذلك فيما إذا شهد أحدهما بالقتل، وشهد الآخر على إقراره بالقتل.

وأبو الطيب قال: إنما قال الشافعي: ((ومثل هذا لا يوجب القسامة))، فأسقط الناقل ((لا)).

وقيل: فيهما قولان: وتوجيههما ما ذكرناه، وهذه طريقة ابن أبي هريرة، تمسك فيها بظاهر النصين، كما قال الماوردي.

وقال أبو الطيب: إنه جعل أصلهما: ما إذا قال أحد الوارثين: قاتله فلان، وقال الآخر: إنما قتله فلان، هل يبطل اللوث أم لا؟ كما سنذكره.

وقد اختار هذه الطريقة الإمام، والمرجح فيها عند النواوي وغيره: أنه ليس بلوث.

والطرق تجري فيما لو شهد أحدهما: أنه قتله غدوة، والآخر أنه قتله عشية، أو أحدهما: أنه قتله بالبيت، والآخر أنه قتله بالسوق، أو أحدهما: أنه قتله بالبصرة، والآخر: أنه قتله بالكوفة.

ولا خلاف أنه لا يثبت القتل بشهادة واحد منهما مع حلفه يمينًا واحدة، [و] لا بشهادتهما من غير يمين.

فإن قيل: لو شهد أحدهما: أنه قتله عمدًا، وشهد الآخر أنه قتله خطأ، وكان المدعى قتل العمد- فقد جزم ابن الصباغ والفوراني وغيرهما بأن أصل القتل يثبت مع أن اختلافهما في الصفة، وهو يوجب التكاذب، فأي فرق؟

قيل: للقفال في هذه المسألة جوابان:

أحدهما: أن القتل لا يثبت- أيضًا- لما ذكر، وعلى هذا لا فرق، ويكون الحكم في كونه لوثًا أو لا كا تقدم.

[والثاني: أنه يثبت أصل القتل- كما تقدم-] لأنهما تصادقا عليه، وإنما رجع اختلافهما إلى الصفة، فصار كما إذا ادعى الولي القتل [عمدًا]، وشهد

ص: 38

أحدهما على القتل عمدًا، والآخر أطلق الشهادة بالقتل، فإنه يثبت أصل القتل جزماً

وعلى هذا قال الإمام: فالفرق أن شهادتهما إذا اختلفت في الآلة والزمان متكاذبتان في أمر محسوس، وإذا تعرضتا لذكر العمد والخطأ فيهما مطلقتان، فقد يحسب أحدهما العمد خطأ، والآخر الخطأ عمدًا. ثم قال: وهذا تكلف، والأصح أن أصل القتل لا يثبت في تلك المسألة أيضًا.

وقد سلك غيره فيها طريقًا آخر، واختلفوا فيه.

والماوردي قال: إذا وقعت الشهادة من أحدهما بالقتل عمدًا، ومن الآخر بالقتل خطأ- سأل القاضي كل واحد من الشاهدين عن صفة القتل الذي شاهده، فإن اتفقا عليها وجب على الحاكم اعتبار ذلك، فإن كان عمدًا حكم فيه بالقود، وإن كان خطأ حكم فيه بالدية على العاقلة.

وإن اختلفا في الصفة فهو تعارض، لا يحكم فيه بعمد ولا خطأ.

قلت: وفيما ذكره نظر، لأنه جزم فيما إذا اتفقا على صفة واحدة: أنه يعمل بموجبها، فإن كانت المسألة مصورة عنده بما ذكرناه من دعوى الولي العمد، فكيف يحكم بشهادة من شهد بالخطأ، وهو غير المدعي؟!

وكذا إن كانت المسألة مصورة بما إذا ادعى الولي القتل خطأ، فكيف يحكم بالعمد، ودعوى الولي تنافيه؟!

وقد صرح البغوي بأن الولي إن كان قد ادعى العمد- كما ذكرناه- فشهادة شاهد الخطأ لغو، فيحلف المدعي خمسين يمينًا، ويثبت موجب القسامة.

وإن كان قد ادعى القتل خطأ كانت شهادة العمد لغوًا، فيحلف المدعي مع شاهد الخطأ، وتجب الدية على العاقلة.

فهكذا ينبغي أن نقول عند اتفاق الشاهدين على صفة واحدة: لا يعمل بها إذا لم تكن موافقة للدعوى، وإن كانت المسألة مصورة عنده بما إذا أطلق الولي الدعوى، وجوزناه- كما حكيناه وجهًا- فينبغي أن يخرج بطلان شهادة من خالف [تفسيره عند الاستفصال ما شهد به على ما ادعى الولي القتل: عمدًا، أو خطأ، فاستفسر]، فظهر: أنه خلاف ما ادعاه، فإن في بطلان الدعوى خلافًا تقدم، فإنه

ص: 39

لا فرق بينهما، بل يظهر أن يكون بطلان الشهادة أولى.

وابن الصباغ لما جزم بأن أصل القتل يثبت، قال: إنه يسأل الجاني، فإذا أقر بالعمد ثبت، وإن أقر بالخطأ، وصدقه الولي فذاك، وإن كذبه الولي، فللولي أن يقسم، لأن له بما ادعاه شاهدًا واحدًا، وذلك لوث، فإن حلف ثبت له القصاص في قوله القديم، والدية في الجديد في مال الجاني حالة، مغلظة. وإن لم يحلف حلفنا الجاني، فإن حلف وجبت في ماله [مخففة]، لأن الإقرار لا تحمله العاقلة. وإن نكل: فإن رأينا رد اليمين على المدعي، فحلف- ثبت موجب العمد، وإن نكل، أو قلنا: لا ترد عليه- ثبت أخف الديات، وهي دية الخطأ في مال الجاني، مؤجلة، لأنا لا نوجب على العاقلة دية ما لم يثبت أنه خطأ، وقد ثبت وجود القتل منه، فالظاهر وجوب الدية عليه، فأوجبناها.

قلت: وهذا منه يدل على أن الحكم في هذه الحالة وقع عليه بالدية بموجب البينة، لا بإقراره بعد إقامة البينة: أن القتل وقع خطأ، بخلاف ما إذا حكمنا عليه بها، وقد صدقه الولي على قتل الخطأ، ومساق كلامه يقتضي أن المسألة مصورة بما إذا كان الولي قد ادعى قتل العمد كما صورنا المسألة، وإلا لما حسن منه أن يقول: فإن كذبه الولي فله أن يقسم، ويثبت القصاص في قوله القديم

إلى آخره.

وإذا كان كذلك فقد قدمنا أن شهادة شاهد الخطأ لغو، وإذا كانت لغوًا فكيف يمكن القول بإيجاب الدية مع أنه لم يكن معه [على] أصل القتل إلا شاهد واحد مجرد عن اليمين، وهي لا تثبت به؟!

فإن قلت: لا نسلم حصر تصوير المسألة فيما ذكرت، بل يجوز أن تكون [مصورة] بما إذا كان الولي قد ادعى القتل مطلقًا، وجوزناه، كما حكاه قبيل باب دعوى الدم عن أبي إسحاق، ووجهه: بأن الدعوى في ذلك تكون بالظن دون العلم والمشاهدة، وحينئذ تكون الشهادتان مسموعتين، فلا منافاة بين قوله وبين [هذا] التصوير.

قلت: القول بجواز الدعوى مطلقًا ليس بالصحيح، فكيف يفرع عليه، وعلى

ص: 40

تقدير صحة ذلك يلزمه إسقاط اللوث، لأن شهادة قتل الخطأ إذا كانت مسموعة كشهادة العمد، فقد عارضتها في الصفة، فتسقط، وحينئذ فلا يكون له أن يقسم على قتل العمد، لسقوط اللوث بالنسبة إلى العمد، وقد قال: إن اللوث ثابت، فدل على عدم سماع شهادة الخطأ.

نعم، قد تكون المسألة مصورة بما إذا ادعى الولي قتل العمد، ويكون المأخذ في إيجاب الدية سماع شهادة الخطأ في أصل القتل، وإلغاءها في صفة الخطأ، ولذلك حسن إلحاقها بما إذا ادعى قتل العمد، وشهد له شاهد بالقتل عمدًا، وآخر بالقتل مطلقًا، وقد قال الأصحاب فيها [ما يوافق] قوله، وهو أن أصل القتل يثبت، حتى لا يقبل من المدعى عليه إنكاره، ويسأل عن صفة القتل، فإن أصر على الإنكار للأصل، قال له الحاكم: إن لم تبين صفة القتل جعلناك ناكلًا، ورددت اليمين على المدعي: أنك [قتلت] عمدًا، وحكمت عليك بالقصاص.

وإن بين أن صفة القتل خطأ، فقد قام للولي على القتل عمدًا شاهد لم يعارضه غيره فيه، فهو لوث، فيحلف الولي، وتثبت له الدية مغلظة في ماله، والقصاص على القول القديم، كذا صرح به البندنيجي في هذه المسألة.

لكن القاضي أبو الطيب والحسين وجماعة- كما قال الرافعي- أطلقوا القول في هذه الصورة بأن القول قول المدعى عليه في كون القتل خطأ، فيحلف يمينًا واحدة، وتكون دية الخطأ في ماله، لأنها تثبت بإقراره.

وإن نكل حلف المدعي، واستحق القصاص، ولأجل هذا قال البغوي لو ادعى شخص على رجل: أنه قتل أباه عمدًا، فقال المدعي عليه، قتلته خطأ، أو شبه عمد-: إن القول في نفي العمدية قوله، سواء كان هناك لوث أو لم يكن.

وقال الإمام: إن القول قول المدعى [عليه] في مسألتنا إذا لم يكن ثم لوث- أي: على قتل العمد- أما إذا كان فيقسم الولي. هذا حيد عن الطريق والصواب، كما أنه لوث إذا شهد بمعانية الفعل، وحينئذ فيبقى الكلام على الصورتين واحدًا.

ص: 41

[و] ما ذكره البندنيجي فتأمله تفهمه.

نعم، ما قاله الإمام مستقيم على طريقة ابن الصباغ في المسألة التي [قرنها بهذه] المسألة، وجمع بينهما في الحكم، وهي ما إذا أقام شاهدًا: أنه أقر بقتل العمد، وآخر: أنه أقر بالقتل، ولم يقل: عمدًأ- فإن الشهادة على الإقرار بالعمد لا تكون لوثًا، وإنما يكون اللوث بالفعل، كما قاله ابن الصباغ، وعليه يدل قول الشافعي في الأم:((لو شهد أحدهما: أنه أقر بقتله عمدًا، وشهد الآخر بأنه أقر بقتله خطأ- لم أحكم بهذه الشهادة)).

وقال الأصحاب: إن معناه في الصفة، أما القتل فإنه يثبت، لأنه ليس بين شهادتهما تنافٍ، لكن يطالب ببيان صفته، فإن أقر بأنه خطأ، وصدقه الولي، ثبتت الدية في ماله مخففة، وإن كذبه الولي فالقول قول المشهود عليه، ولا يحلف للمدعي، [لما ذكرناه: أن] شهادة العدل الواحد بالإقرار بالعمد ليست بلوث، إلا أن القاضي الحسين والإمام وصاحب ((الحاوي)) قالوا: إنه لوث: والله أعلم.

قال: وإن شهد واحد: أنه قتله فلان، وشهد آخر: أنه أقر بقتله- ثبت اللوث، لأنه لا تكاذب ولا تنافي، بل كل واحدة من الشهادتين مقوية للأخرى، لكن لم تتم الشهادة، لأنه غير متماثلة، لأن فعل القتل غير الإقرار به، فلم تتم الشهادة على واحد منهما.

نعم، إن كان القتل خطأ، حلف مع أيهما شاء يمينًا واحدة، وقضى له بدية الخطأ على المشهور.

ويجيء فيه القول الذي حكاه المراوزة: أنه يحلف خمسين يمينًا.

وعلى كل حال: إن حلف مع الشاهد على فعل القتل، كانت الدية على عاقلته.

وإن حلف مع الشاهد على إقراره بالقتل، كانت الدية في ماله.

وإن كان القتل عمدًا لا يجب فيه القصاص، [كما] إذا كان القاتل مسلمًا، والمقتول ذميًا، ونحو ذلك- فالحكم كما تقدم، إلا أن الدية ها هنا في مال الجاني على كل حال.

وإن كان [القتل] عمدًا موجبًا للقود، حلف المدعي خمسين يمينًا، ويحكم

ص: 42

له بالقود على قوله في القديم، وبدية العمد حالة على قوله في الجديد، وهذا ما حكاه الماوردي وابن الصباغ وغيرهما.

قال: وإن شهد اثنان: أنه قتله أحد هذين الرجلين، ولم يعينا- ثبت اللوث على أحدهما، لثبوت قتل أحدهما له، فكان كما لو وجد بينهما قتيل، كذا قاله ابن الخل وغيره.

ويوافق قول الشيخ ما ذكره الماوردي أن للولي أن يقسم على أحدهما، [وليس له أن يقسم عليهما، وكذا ما ذكره الإمام: أن للولي أن يدعي على أحدهما]، وهو مؤاخذ فيما بينه وبين الله تعالى: ألا يدعي إلا على ثبتٍ، وليس عليه أن يحقق لوثًا خاصًا في حق من يعينه منهما.

وكلام أبي الطيب يقتضي مخالفتهما، فإنه قال: إذا شهد أنه قتله أحدهما يكون الولي بالخيار: إن شاء أقسم عليهما، أو على كل واحد منهما، وهذا يوافقه تعليل المسألة بالقياس على ما لو وجد قتيلًا بينهما.

وقد أبدى الإمام لنفسه احتمالًا في أن ذلك ليس بلوث، ووجهه: بأن اللوث إنما يثبت في حق الجماعة إذا شملتهم العداوة، وكان القتيل في موع لا يشركهم فيه غيرهم، وفي هذه الصورة لم تكن العداوة شاملة لهما، بل لو شهد الشاهدان بأن أحدهما عدوه، لم تسمع هذه الشهادة، ولم يقطع بحصول اللوث.

قلت: وما قاله من الاستدلال فيه منازعة، لأنا قدمنا: أن الجماعة إذا تفرقوا عن قتيل في دار كان ذلك لوثًا، وإن لم يكن بينهم وبينه عداوة، وكذا فيما إذا ازدحموا، وتفرقوا عن قتيل على وجه حكاه.

ولأجل ما قاله الإمام حكى بعضهم ذلك وجهًا، والمنقول الأول.

قال في ((الحاوي)): وهكذا الحكم فيما لو شهد بذلك شاهد واحد.

ويحتمل وجهًا آخر: أنه لا يكون لوثًا مع الشاهد الواحد، وإن كان لوثًا مع الشاهدين، لأن الشاهد الواحد قد جمع بين صفتين: نقصان العدد، وعدم التعيين، بخلاف الشاهدين.

ص: 43

قال: وإن شهد شاهد على واحد: أنه قتل أحد هذين الرجلين، لم يثبت اللوث، لأنه لا يحل بذلك غلبة الظن بصدق واحد من الوليين على التعيين، للجهل بمن شهد له.

وهذه المسألة والتي قبلها ذكرهما الشافعي في ((الأم)) مع ثالثة، وهي: إذا شهد شاهد بأنه قتل زيدًا، وشهد آخر بأنه قتل عمرًا، وقال: يثبت اللوث عليه لوليهما، لأنه يجوز أن يكون قتلهما.

وقد قال ابن يونس في مسألة الكتاب الأخيرة: إن الحكم كما ذكره الشيخ فيما لو شهد شاهدان بذلك، اللهم إلا أن يكون وليهما واحدًا، فحينئذ يتجه إثبات اللوث.

قال: وإن ادعى أحد الوارثين القتل على واحد في موضع اللوث- أي: مثل أن قتل في محلة لا يشرك أهلها فيها غيرهم- وكذبه الآخر- أي: فقال: ما قتله هذا، لأنه كان في وقت القتل ببلد لا يمكنه أن يصل إليه، وهو عدل- كما اقتضاه ظاهر كلام الشافعي- سقط اللوث [في أحد القولين]، لأن الله تعالى أجرى العادة بحرص القريب على درك الغيظ والتشفي من قاتل، قريبه، وأن الظاهر: أنه لا يبرئه من ذلك، فإذا كان الظاهر هذا، عارض اللوث الذي هو مظنون، فيسقطان، وهذا ما اختاره أبو إسحاق.

وعلى هذا يكون الحكم كما لو لم يكن ثم لوث.

قال: ولم يسقط في الآخر، كما لو كان ثبوت اللوث بشهادة عدل واحد، وكذبه، وهذا ما اختاره المزني.

وعلى هذا قال: [بل يحلف]- أي: المدعي- خمسين يمينًا، ويستحق حصته، كما لو كان الوارث الآخر غائبًا أو صغيرًا.

والصحيح في ((العدة))، وعند النواوي: الأول، وكلام القاضي أبي الطيب يقتضيه، لأنه قال بعد ذكر دليله: والجواب عما استدل به القول الآخر من وجهين:

أحدهما: أن الشاهد أقوى، لأنه لو أقام في القتل عدلًا، وحلف معه يمينًا

ص: 44

واحدة- كفى، وفيما عداه من وجوه اللوث يحلف خمسين يمينًا، فلم يجز اعتبار الضعيف بالقوي.

والثاني: أن الشاهد يشهد بما شاهده وقطع به، وليس كذلك اللوث، لأنه يفيد غلبة الظن، فكان الشاهد أولى.

أما لو اقتصر المكذب على قوله: ليس هذا قاتل مورثي، فهل يغلي قوله، كما [لو] شهد الشاهد بمثل ذلك، أو يكون حكمه ما تقدم؟ فيه وجهان جاريان- كما قال أبو الطيب وغيره- في أنه هل يشترط في المكذب أن يكون عدلًا:

أحدهما: نعم، إلحاقًا لذلك بالشهادة.

والثاني: لا، وهو ما عليه أكثر الأصحاب، كما قال ابن الصباغ.

والفرق: أن الأجنبي قد ينفي القتل عن القاتل، لعدم الحنو والشفقة بينه وبين المقتول، بخلاف القريب.

وفي ((الحاوي)) حكاية الخلاف في الحالة الأولى، والجزم بأنه لا يشترط فيه العدالة، وجرمه بأنه لا يشترط فيه العدالة قد حكاه ابن الصباغ عن النص في ((الأم))، وأنه قال: العدل والفاسق فيه سواء، ولا خلاف أن أحدهما لو ادعى القتل على واحد، وقال الآخر: لا أعلم أنه قتله، أو أعلم ذلك، لكني لا أقسم أن اللوث لا يسقط، لكن يحلف المدعي خمسين يمينًا، ويستحق حصته.

وكذا لا خلاف في أن المدعي عليه لو كذب المدعي، فقال: لم أكن وقت القتل في بلد القتل، بل كنت في بلد كذا- أن القول قوله مع يمينه، ويسقط اللوث، إلا أن يقيم المدعي بينة بأنه كان حاضرًا في محل وقوع القتل، فلا يسقط اللوث.

والبينة: عدلان ذكران، لأنه يثبتان ما ليس بمال وإن [كان] يفضي إلى المال، كما نقول في الوكالة على المال، قاله القاضي الحسين، وقال: إن المدعى عليه لو أقام- أيضًا- بينة بأنه كان غائبًا وقت القتل بموضع لا يمكنه الوصول إليه، كانت بينته أولى، لأنها تثبت زيادة تنفيها بينة المدعي.

قال الإمام: وهذا ليس بشيء، فإن الغيبة معناها كونه في مكان آخر، والحضور معناه: كونه في هذا المكان، ومن ضرورة الكون في مكان معين انتفاء الكون في

ص: 45

غيره، فيجيء التعارض، ولنا في التعارض مع اليد قولان:

أحدهما: تسقطان، ويرجع إلى صاحب اليد، فعلى هذا نقول: يرجع إلى مدعي الغيبة، كما لو تكن بينة، ويحلف عليها.

والثاني: استعمال البينتين، وترجح بينة صاحب اليد بيه من غير يمين، وعلى هذا نقول هنا: يترجح جانب مدعي الغيبة ولا يمين عليه، ولك أن تقول: هناك ترجحت بينة الداخل بيده، وهي أمر زائد على دعواه وبينته، وها هنا لم يوجد أمر زائد على الدعوى والبينة التي [ساواه الآخر] فيها، فكيف نلحق إحداهما بالأخرى؟! والله أعلم.

ولو قال المدعى عليه بعد الحلف: لم أكن حاضرًا في موضع القتل، لم يقبل منه إلا ببينته، وهذا من الأصحاب دليل على أن الدعوى لو صدرت عند وجود اللوث، ولم تتضمن التصريح بالحضور، ولا قابلها اعتراف من المدعى عليه [بحضور ولا غيبة- أن الولي يقسم.

وقد قال الإمام: إني تلقيت من كلام الأصحاب ما يوجب التردد في هذا وظاهر كلامهم: أن القسامة تجري، فإن المدعى عليه] لو كان غائبًا لذكر، وفي المسألة احتمال على حال.

فروع:

لو قال أحدهما عند وجود اللوث: قتل مورثي زيد ورجل آخر لا أعرفه، [وقال الآخر: الذي قتل مورثي عمرو، ورجل آخر لا أعرفه]- فاللوث باق، فإنه يجوز أن يكون الذي جهله أحدهما هو الذي عرفه الآخر، فلا تكاذب، ويقسم كل واحد منهما خمسين يمينًا، ويستحق ربع الدية على من عرفه.

ولو رجعا بعد ذلك، وقال الأول: الذي كنت لا أعرفه قد عرفته، وهو عمرو، وقال الثاني: قد عرفت من كنت أجهله، وهو زيد- حلف كل واحد منهما على من تجددت معرفته به خمسين يمينًا على وجه جزم به بعضهم، وأخذ ربع الدية منه.

وعلى وجه آخر حكاه البندنيجي: يحلف خمسة وعشرين يمينًا.

ص: 46

ولو قال الأول: قد عرفت عمرًا، وليس بقاتل مورثي مع زيد، وقال الآخر: قد عرفت زيدًا، وليس بالذي قتل مورثي مع عمرو- قال الماوردي: لا ينقض ما جرى، وهل يفضي ذلك إلى إسقاط [اللوث في] الباقي؟ فيه القولان.

وكذا يجريان فيما لو اتفق مثل هذا القول قبل القسم.

والبندنيجي وابن الصباغ حكيا القولين في الحالين، وهو ظاهر إطلاق لفظ ((المختصر))، وهو يقوي الوجه الصائر على أن مجرد نفي القتل يكفي في التكاذب، كما تقدم.

ولو قال أحدهما: قتل مورثي زيد وحده، وقال الآخر: قتله زيد وعمرو فالتكاذب ثابت، فإذا قلنا: لا يسقط اللوث، حلف الأول خمسين يمينًأ، [وأخذ من زيد نصف الدية، وحلف الثاني خمسين يمينًا] على زيد وعمرو، واستحق على واحد منهما ربع الدية. وإن قلنا: يسقط اللوث، فالثاني يكذب أخاه في نصف دعواه، فيحلف الأول، ويستحق على زيد ربع الدية، وهو الذي صدقه أخوه [فيه]، ولا يحلف على الربع الآخر، لتكذيب أخيه فيه، وأما الثاني فيحلف على زيد، ويستحق عليه ربع الدية، وهو القدر الذي يديعه عليه، ولا يحلف على عمرو، لأن أخاه يكذبه فيه.

قال: ولو ادعى القتل على رجل مع اللوث، فأقر آخر أنه قتله- لم يسقط حق الولي من القسامة- أي: إذا لم يطالبه بموجب إقراره- لأنه ليس بشاهد، ولو كان شاهدًا لم يقبل [قوله] وحده في إسقاط اللوث.

أما إذا طالبه بما أقر به، بطل اللوث بالنسبة إلى الأول، ووجب عليه رد ما أخذه منه، وهل يؤاخذ المقر بموجب إقراره؟ فيه قولان حكاهما ابن الصباغ وغيره، وقال الإمام: المذهب المؤاخذة.

وقد حكى البندنيجي مثلهما قبيل باب ما للحاكم أن يعلمه من الذي له القسامة فيما إذا قال أولياء القتيل: ما قتل مورثنا فلان، وإنما قتله فلان، فقال من نفوا القتل عنه: ما قتله إلا أنا.

ووجه الجواز: أنه اجتمعوا على التصادق، وكذب الأولياء فيما ذكروه أولًا

ص: 47

ليس أمرًا بدعًا مع أنه قول لم يستند إلى يقين، بخلاف دعوى القتل، فإنها مستندة إلى يقين، فاعتبرت.

وقد جزم البندنيجي والقاضي أبو الطيب في باب ما يسقط اللوث بأنه لا يطالب المقر في مسألتنا، لأنه لما ادعى القتل على المنكر فقد أبرأ هذا المقر من القتل، فلا يستحق عليه شيئًا، كما لو قال من [في] يده دار: هي لك ولا تثبت لي.

قال: وإن [كانت] الدعوى في طرف، فاليمين على المدعى عليه- أي: وإن كان ثم لوث: هو شاده، أو غيره- لقوله صلى الله عليه وسلم:((البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)).

ولأن القسامة دخلت لحرمة النفس، فلا تدخل فيما دونها، كالكفارة.

ولأن القسامة إنما كانت في النفس، لأن المقتول لا يمكنه أن يعبر عن نفسه، وليس كذلك الجناية فيما دون النفس، فإن المجني عليه يمكنه أن يعبر عن نفسه، فلم يحكم له بالقسامة، لاستغنائه في الغالب عنها.

قال: وفي التغليظ بالعدد قولان:

وجه المنع: أنه لما سقط حكم اللوث فيه، شابه المال، والمال لا تغليظ فيه بالعدد.

ووجه الوجوب: أنه لما استوى حكم النفس وما دونها في وجوب القود، وتغليظ الدية تغليظًا لحكم الدماء- استويا في التغليظ بعدد الأيمان.

وقد حكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد روى الخلاف في المسألة وجهين، وقال هو وشيخه القاضي أبو الطيب، والماوردي، وغيرهم: إنه [على] قولين، وإنهما مفرعان على قولنا بالتغليظ بالعدد في دعوى النفس حيث لا لوث، أما إذا قلنا ثم: لا تعدد، فها هنا أولى.

وخص الشيخ أبو حامد الخلاف بما إذا كانت الدعوى بالعمد الموجب للقصاص، وقال: لو كانت بالخطأ أو شبه العمد، ولا لوث- كانت اليمين واحدة، لأن المدعى مال محض، فشابه سائر الأموال، كذا حكاه في ((الزوائد)) عنه.

ص: 48

وعلى ذلك جرى ابن الصباغ، ولم يحك سواه.

والبندنيجي صور المسألة بما إذا كانت الدعوى بالعدم، وسكت عما سواه.

وكلام القاضي أبي الطيب والماوردي يقتضي إطلاق القولين في كل الأحوال، وعليه ينطبق قول الرافعي: إن الأكثرين لم يفرقوا بين العمد وغيره، كما في النفس.

ثم إذا قلنا بالقول الثاني، فإن كان الطرف مما تكمل فيه دية النفس من غير زيادة ولا نقص: كالأنف، واللسان، واليدين، والرجلين- غلظ بخمسين [يمينًا].

فلو كان المدعى عليه جماعة، جاء القولان في أن كل واحد يحلف خمسين يمينًا، أو ما يخصه منها إذا وزعت على عدد رءوسهم.

وإذا اختصرت قلت- والحالة هذه-: فيما يحلفه كل واحد منهم ثلاثة أقوال:

يمينًا واحدة.

خمسين يمينًا.

ما يخصه من الخمسين.

وإن كان الطرف مما يستحق به بعض الدية: كإحدى اليدين، والموضحة، والأنملة- ففيما يغلظ به من العدد قولان:

أحدهما: خمسين يمينًا، وهو أصح عند المتولي وغيره، كما قال الرافعي.

وعلى هذا إذا كان المدعى عليهم جماعة، فالحكم كما تقدم.

والثاني: تقسط الأيمان على الدية، [ويغلظ فيما دونها بقسطها من كمال الدية]:

فإن وجب نصف الدية: كإحدى اليدين، وغلظت بخمس وعشرين يمينًا.

وإن أوجبت ثلث الدية: كالجائفة، [غلظت] بسبعة عشر يمينًا بما فيها من جبر الكسر.

وإن أوجبت عشر الدية، غلظت بخمس أيمان.

وإن أوجبت نصف عشرها: كالموضحة، غلظت بثلاثة أيمان.

وإن أوجبت ثلث عشرها: كالأنملة من غير الإبهام، لغظت بيمينين.

وحينئذ [يجتمع] فيما يلزم كل واحد في الطرف الذي يجب فيه نصف

ص: 49

الدية إذا كانوا خمسة- مثلًا- خمسة أقوال:

يمينًا واحدة.

خمسين يمينًا.

خمسة وعشرين يمينًا.

عشرة إيمان.

خمسة أيمان.

وإن [كان] الطرف مما يستحق به أكثر من الدية، مثل: قطع الذكر، والأنثيين، واليدين، والرجلين، فهل تكون الزيادة على الدية موجبة لزيادة العدد في الأيمان؟

فيه وجهان في ((الحاوي))، وقربهما الإمام من الخلاف في أن مدة الضرب على العاقلة، هل تزاد على ثلاث سنين إذا زادت الأروش؟

ووجه عدم الزيادة هنا: أن الخمسين [غاية العدد في التغليظ، فلم يحتج إلى تغليظ آخر.

ووجه مقابله: أن الخمسين تغليظ مقدر] في دية النفس، فصار غاية فيها، ولم يصر غاية فيما زاد عليها، فعلى هذا: إن كان الواجب ديتين، تغلظ الأيمان بمائة يمين، وإن وجبت دية ونصف، تغلظت بخمس وسبعين، وعلى هذا القياس، ولا يخفى التفريع فيما إذا كانوا جماعة مما تقدم، والله أعلم.

تنبيه- ضمنه مسائل نختم بها مسائل اللوث-:

قول الشيخ: ((فإن كان الدعوى في دم، فإن [كان] هناك لوث، حلف المدعي خمسين يمينًا، ويقضى له بالدية))، يفهمك أمرين:

أحدهما: أن ما ذكره ثم إلى هنا مفروض فيما إذا كان المجني عليه حرًا، لأن دعوى دم النفس هو الأصل فيما ذكره، وما بعده يتفرع عليه، وقد قال: إن المقضي به الدية، والدية إنما تجب في قتل الحر، وحينئذ فينحصر مراده بالمدعي الذي يقسم في الوارث بسبب قرابة أو نكاح، [أو ولاء]، لأن بيت المال

ص: 50

وإن كان وارثاً، فلا يقسم عنه، بل للإمام الدعوى، فإن أنكر المدعى عليه، وحلف عند عدم البينة- انفصلت الخصومة، وإن نكل فحكمة ما تقدم.

أما لو كان المدعى دمه عبدًا قنًا، أو مدبرًا، أو معلقًا عتقه بصفة، أو مكاتبًا، أو أم ولد- فللأصحاب في القسامة على ذلك عند وجود اللوث طريقان:

الأكثرون منهم- كما قال الماوردي- قالوا: في المسألة قولان، بناء على القولين في أن العاقلة هل تتحمل قيمة العبد أم لا؟ فإن قلنا: تتحمل قيمته كدية الحر، ثبتت القسامة فيه، وإن قلنا:[لا] تتحمل قيمته كقيمة البهيمة، فلا قسامة فيه، ويكون القول قول المدعى عليه. وهذه الطريقة لم يحك الإمام والفوراني سواها.

وذهب ابن سريج والمحققون من أصحابنا- كما قال الماوردي وغيره- إلى القطع بجريان القسامة فيه، كما نص عليه في ((المختصر))، لأنها إنما تثبت تغليظًا لدم الآدمي، وتعظيمًا له، وهذا موجود في دم العبد، تدل عليه الكفارة والقصاص.

وقد حكى هذه الطريقة القاضي الحسين أيضًا، وأبداها الإمام تخريجًا لنفسه، وعليها نقول:

إن كان القتل خطأ، أو عمد خطأ، والمدعى [عليه حر]- فالقيمة تجب بعد القسامة، وهل تتحملها العاقلة؟ فيها الخلاف السابق.

وإن كان القتل عمدًا تعلقت بذمته، [و] إن كان القاتل عبدًا تعلقت القيمة برقبته بعد القسامة، ويجيء في القصاص القولان، كذا حكاه العراقيون، لكن من المقسم ها هنا؟ ينظر:

فإن كان السيد حرًا مكلفًا، فهو، سواء كان المقتول يتصرف فيه عبد سيده المأذون له في التجارة، أو لا، لأن السيد مالكه.

وإن كان مكاتبًا فكذلك يقسم هو، فإن عجز قبل القسامة، أو مات على كتابته قبل النكول- أقسم المكاتب أو وراثه عند فقده دون ما إذا كان قد نكل.

وإن كان مالك العبد أم ولد، أو عبدًا قنا- تفريعًا على القول القديم في أن العبد يملك بتمليك السيد- فهل يقسم؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم، لأنه المالك، فأقسم كالمكاتب.

ص: 51

وعلى هذا تكون القيمة المأخوذة ملكًا له.

فإن لم يقسم أقسم السيد.

والثاني: لا، والمقسم السيد وورثته من بعده.

قال في ((الفروع)): وهو المنصوص، وبه جزم المسعودي.

والفرق: أن ملكه ناقص، بدليل أنه لا يملك البيع من السيد ولا الشراء منه، بخلاف المكاتب.

وعلى هذا تكون القيمة المأخوذة ملكًا للسيد، صرح به الماوردي وغيره من العراقيين.

وقال الإمام: إن الخلاف في قسامته ينبني على مكله: هل يزول بالإتلاف أم لا؟ وفيه وجهان:

فإن قلنا: يزول [بالإتلاف]، فالمقسم السيد.

وإن قلنا: لا يزول، فهل له أن يقسم؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون.

ووجه المنع: ضعف ملكه، والقسامة تستدعي ملكًا قويًا، وسلطنة، واستيلاء.

وعلى هذا: فلا يقسم السيد أيضًا، كما قاله العراقيون، لأنه لا ملك له.

وإن استرجع السيد، وأعاد القيمة إلى ملكه فكذلك لا يقسم، لأن ما لم يثبت للعبد كيف يخلفه السيد [فيه]؟!

وعلى الأول: [لو رجع السيد] قبل أن يقسم [العبد] فقد قالوا: لا يقسم أيضًا، فإن العبد لما قتل لم [يكن] ملكًا للسيد، ولم تنقلب القيمة إليه حينئذ، وإنما يثبت الملك له بالاسترجاع، فهو حق جديد، فلا يقسم عليه.

قال: وهذا فيه نظر، بل يجوز أن يقال: للسيد أن يقسم إذا استرد على مذهب الخلافة، كالوارث مع الموروث.

ولو كان السيد قد أوصى بهذا العبد لأم ولده، فقتل، وهناك لوث، فأقسم السيد- فيأخذ القيمة، وتبطل الوصية، ذكره في ((التهذيب)).

ولو أوصى لها بقيمة العبد، فقتل في حياة السيد، فهو المقسم، فإن لم يقسم حتى مات، فالمقسم الورثة.

ص: 52

وكذا لو قتل بعد موت السيد، فالمقسم الورثة.

قال القاضي أبو الطيب: فإن أقسموا استحقوا، ودفعوا إلى الأبد إلى أم الولد القيمة.

قال الأصحاب: وإنما أقسم الورثة وإن كانت القيمة للمستولدة، لأن العبد يوم القتل كان للسيد، والقسامة من الحقوق المعلقة بالقتل، ويرثونه كما يرثون سائر الحقوق، وتثبت القيمة [له] ثم يصرفونها إلى المستولدة بموجب الوصية، ولهم غرض ظاهر في تنفيذ الوصية، وتحقيق مراده، ولهذا كان لهم قضاء ديونه من أموالهم إن لم يخلف تركة، ويجب على رب الدين القبول، بخلاف ما لو تبرع أجنبي بقضاء الدين، فإنه لا يجب على مستحق الدين قبوله.

قال الإمام: وغالب ظني: أني رأيت لبعض الأصحاب خلافًا في أن الوارث- أيضاً- إذا لم يخلف من عليه الدين شيئًا، لا يلزم رب الدين القبول. [ثم قال:] ومن ظن أن إقسام الورثة يؤخذ من ثبوت الملك لهم في الموصي به أولًا، فقد أبعد. قال: وبمثله لو أوصى رجل لإنسان بعين من أعيان أمواله، ثم مات الموصي، فجاء من يدعي استحقاقها- فهل يحلف الوارث لتنفيذ الوصية، أم كيف السبيل فيه؟ قلنا: فيه تردد وفضل نظر، يجوز أن يقال: الوارث يحلف حتى إذا ثبتت العين، استمرت الوصية. ويحتمل أن يقال: إذا قتل الموصى له فالخصومة تتعلق به، وليس كصورة القسامة، فإن القسامة من خواص القتل، وحقها أن تستند إلى القتل، ولا يربط الاستحقاق إلى ما تقدم، فيحمل الأمر على الحال، وهو فقه حسن.

والذي أورده [الماوردي] وصاحب ((البحر)) في كتاب الأقضية، واليمين مع الشاهد: أن الوارث يحلف، لكن لو امتنع من اليمين فهل يحلف الموصى له؟ فيه طريقان:

أحدهما: طرد القولين فيما لو كان [الموصى] به دينًا، كالغرماء.

والثاني: القطع بالحلف، لأن حق الورثة قد سقط من العين بقبول الموصى

ص: 53

له، بخلاف الدين، بدليل أن هلم توفية الديون من عين التركة، وليس لها إبدال العين الموصى بها.

فإن نكل الورثة عن القسامة، فهل تحلف أم الولد؟ فيه قولان، كما في غرماء المفلس:

الجديد: لا.

والقديم: نعم.

وهما جاريان في غرماء الميت إذا امتنع الورثة من اليمين، وفي الأمة المرهونة إذا استولدها الراهن، وادعى أنه وطئها بالإذن، وامتنع المرتهن عند إنكار الإذن من الحلف، وكذلك الراهن- في أنها هل تحلف أم لا؟ قاله البندنيجي وغيره.

ثم إن قلنا: إن لأم الولد الموصى لها أن تحلف عند امتناع الورثة من الحلف، فلها أن تطلب يمين المدعى عليه.

وإن قلنا: لا تحلف، فلا تطلب يمينه، لأن اليمين إنما يطلبها من ترد عليه لو نكل المدعى عليه، ولا يمكن الرد عليها إذا قلنا: إنها لا تقسم، كذا قاله ابن الصباغ حكاية عن القاضي أبي الطيب عن الأصحاب.

وظاهر النص يقتضي أن لها طلب اليمين، وكذا غرماء المفلس وإن لم يسغ لهم الحلف، لأنه قال- كما حكاه الإمام والقاضي-: ولو لم تقسم الورثة، لم يكن لهم ولا لها إلا أيمان المدعى عليهم.

قال الإمام: والمسلك الحق العمل بظاهر النص [وأن لها طلب اليمين]، وإن لم يسغ لها الحلف.

قال: وعلى هذا إذا رد المدعى عليه اليمين عليها، حلفت، وليس تحليفها يمين الرد أيمان القسامة، لأن أيمان القسامة لا تثبت إلا القتل، ويمين الرد تثبت المالك الناجز من غير حاجة إلى الالتفات على سابق.

وكذا على هذا لها أن تدعي ابتداء، ولا تتوقف دعواها على إعراض الورثة عن الطلب.

ولا خلاف أن للورثة الدعوى والطلب عند الامتناع من القسامة، لما أشرنا إليه

ص: 54

من حق الخلافة.

فرع: لو قطع يد عبد في محل اللوث، ثم أعتق، ثم مات بالسراية- فالواجب على الجاني دية حر للمولى، منها على الصحيح أقل الأمرين من نصف القيمة وكل الدية.

فإن كان أقل الأمرين الدية، كان المقسم السيد دون الورثة، لأنهم لا يأخذون شيئًا، فلا يقسمون.

وحكى المراوزة وجهًا آخر: أن السيد لا يقسم- أيضًا- إذا قلنا: إنه لا قسامة في العبد، لأنه إنما يستحق بجهة الرق، وقد نسب هذا الوجه إلى أبي إسحاق، وعلل بأنه لو أقسم لكان مقسمًا على ارش الطرف.

والمذكور في ((الشامل)) و ((تعليق)) القاضي أبي الطيب وغيرهما: الأول.

وإن كان أقل الأمرين نصف القيمة، أقسم الوارث، وفي إقسام السيد الخلاف السابق.

فإن قلنا: لا يقسم، أقسم الوارث خمسين يمينًا.

وإن قلنا: يقسم، فالسيد هنا كوارث آخر، فيكون فيما يحلفه كل واحد منهما قولان:

أحدهما: خمسين يمينًا.

والثاني: ما يخصه [منها] باعتبار المأخوذ من الدية، ويجبر الكسر.

الأمر الثاني: أن الذي يقسم على دم الحر عند قيام اللوث من يقضي له عقيب حلفه [بالدية]، ومن ها هنا جاءنا خلاف حكاه الأصحاب في أن ولي الدم لو ارتد بعد القتل، هل يقسم في حال ردته، ويعتد به، أو لا يعتد به؟ فقال فريق منهم- وهو ابن أبي هريرة، وابن خيران، وابن الوكيل-: إن ذلك ينبني على أقوال الملك:

فإن قلنا: إن [ملك] المرتد قد زال، لم يقسم، لأنه لا استحقاق له حتى [يثبته بيمينه].

ص: 55

وإن قلنا: [إن] ملكه باق، أو موقوف- يقسم.

وباقي الأصحاب قالوا: يعتد بيمينه في الردة قولًا واحدًا، كما هو ظاهر نصه في ((المختصر))، لأنا وإن قلنا: إن ملكه زال، فإن ارتداده لا يمنع صحة ملكه، يدل على ذلك أنه يصح أن يحتطب، ويملك، ويزال ملكه عنه.

وبالغ البندنيجي في ذلك، فقال بعد حكاية قول الأولين: وهذا قول من لم يعرف حكم المرتد، فإن الأقوال في ماله الموجود حين ردته، فأما ما يكسبه من المال، ويستأنفه من الملك بعد الردة- فإنه يثبت له حال الردة قولًا واحدًا، ولا يقال: يؤخذ من يده، ويحجر على ما يكسبه حال ردته.

قلت: وفي هذا نظر من وجهين:

أحدهما: يظهر لك مما ذكرناه في باب الردة.

والثاني: أنه سلم أن الأقوال فيما يملكه قبل الردة، ولا شك أنا نقول:[إن]- الدية مملوكة له قبل الردة هنا، لأن اليمين لا توجب، وإنما تكشف ما وجب بالقتل، وهو متقدم على الردة، فلا جرم حسن من الأولين البناء على أقوال الملك.

وقد اتفق الكل- كما قاله أبو الطيب- على استحباب ترك اليمين في حال الردة، لأنه لا يتورع عن اليمين الفاجرة، لكفره.

وقد حكي عن المزني: أنه لا يعتد بيمينه في حال الردة مطلقًا، ولا يستحق بها الدية، لهذا المعنى.

ويظهر أن يكون في المذهب قولٌ يوافقه، لأن البندنيجي قال: إذا قلنا: تقع يمينه موقعها، فهل تثبت الدية بقسامته؟ المذهب: أنها تثبت.

وقال الربيع: فيها قول آخر: أنها لا تثبت بقسامته، ولا يعرف للشافعي.

وعن ((جمع الجوامع)): أن القاضي أبا حامد روى ذلك قولًا مخرجًا.

ودليل المذهب في صحة يمينه: أن الكفر لا يمنع صحة اليمين، دليله: صحة يمين الوثني، كذا قاله أبو الطيب.

وقد حكى الرافعي: أنا إذا صححنا يمينه على قول الوقف، ومات، أو قتل على الردة- ففي ثبوت الدية لأهل الفيء وجهان، وظاهر النص الثبوت.

ص: 56

وحكي عن آخرين: أنا إذا قلنا بالوقف، ففي صحة القسامة وجهان. وقال: إن هذا أحسن موقعًا.

ووجه الصحة: أنه يحتمل أن يعود إلى الإسلام، فتكون الدية له، والقسامة كما تجري عند تبين الاستحقاق، تجري عند الاحتمال، كما ذكرنا فيما إذا كان في الورثة خنثى أو غائب.

ولك أن تقول: هذا ساقه في معرض تقرير كون الدية تكون فيئًا بعد التبين: أن يمينه وقعت، ولا ملك له، وقد تقدم أن الخنثى لو أقسم، ثم ظهر أنه غير مستحق- لا يعتد بيمينه، فلا يسحن الاستشهاد به هنا.

وحكم قسامة سيد العبد إذا ارتد قبل القتل أو بعده، حكم الوارث إذا ارتد بعد القتل.

فرع: لو جرح رجلًا، ثم ارتد المجروح، ورجع إلى الإسلام، ومات- فإن كان زمن الردة يسيرًا، ليس له تأثير في النفس- فالواجب دية كاملة، ويقسم الورثة، ويستحقونها، وهل يستحقون القصاص؟

على القديم إذا كان المدعى قتل العمد فيه قولان:

فإن مضى في الردة زمن يسري فيه الجرح أقسموا، ولا قصاص قولًا واحدًا.

ثم إذا قلنا: يجب جميع الدية، أقسم المدعي خمسين يمينًا، وكذا إن أوجبنا القسط من الدية، لما تقدم: أنه لا يستحق شيء من دية إلا باستكمال الخمسين.

وفي ((الحاوي)) وجه: أنهم لا يقسمون، لذهاب اللوث بالسراية في الردة، وقد حكاه القاضي الحسين أيضًا.

قال: ومن لزمه يمين، [أي]: إما لكونه مدعى عليه، أو مدعيًا، وقد ردت عليه اليمين، أو أقام شاهدًا واحدًا فيما يقضي له [به] باليمين مع الشاهد في بعض الصور، أو كان هناك لوث في محل يؤثر فيه.

قال: في غير مال: أي: مما لا يثبت إلا بشاهدين، كما قاله الماوردي وغيره، وهذا تدخل فيه الشهادة على الرضاع، والولادة، وعيوب النساء، لأنه ليس قبول

ص: 57

شهادة النساء وحدهن فيها، لقلة خطرها، ولكن لأن الرجال لا يطلعون عليها غالباً.

قال: أو في مال قدره النصاب، أي: من الذهب في الزكاة، كما نص عليه في ((المختصر)) - غلظ عليه اليمين بالزمان، والمكان، واللفظ.

والأصل في ذلك ما روى أن عبد الرحمن بن عوف رأي قومًا يحلفون بين البيت والمقام، فقال: أعلى دم؟ فقالوا: لا، فقال: أفعلى عظيم من المال؟

فقالوا: لا، فقال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا [البيت، ويروى: أن يبهأ الناس بهذا] المقام، وهذه [المذكورة] في [أكثر] كتب الفقهاء.

ومعني [((يبهأ))]: يتهاونون كما قاله الماوردي.

وقال القاضي الحسين: إنه ليس بشيء، ولكن ((بهأ يبهأ))، إذا أنس بالمكان، يقال: بهأت بالشيء، إذا أنست به، حتى سقطت هيبته من قلبك.

وهذا من عبد الرحمن يدل على [أن] التغليظ في الدماء والخطير من الأموال معروف عندهم، غير منكور، فألحق بهما ما هو في معناهما، وهو ما اعتبر الشرع في ثبوته بالشهادة رجلين، نظرًا لخطره، كما اعتبر ذلك فيهما، [فإنه غير مألوف في القليل من المال، فلذلك اعتبر الأصحاب فيه: ما له خطر في الشرع، صالح للمواساة.

وقال القاضي الحسين: إن التغليظ باللفظ موكول إلى رأي الإمام في القليل والكثير.

وعلى الأول] قال الأصحاب: فإن قيل: لو قال المقر: لفلان على مال عظيم، نزل على أقل ما يتمول، فلم نزلتهم العظيم في قول عبد الرحمن على عشرين مثقالا؟

قيل في جوابه: لأن الأصل براءة ذمة المقر، والغالب أن الإنسان إذا كان عاقلًا لا يرغب في أن يقر على نفسه بمال عظيم، فانضم الغالب إلى براءة

ص: 58

الذمة، وها هنا الغالب إرادة المال الكثير، لأنه قرنه بالدم.

وقد اختلف الأصحاب في معنى اعتبار العشرين مثقالا على وجهين، حكاهما الماوردي:

أحدهما: أنها نصاب من نصب الزكاة الذي يحتمل المواساة، وعلى هذا تغلظ في مائتي درهم، وخمس من الإبل، وأربعين من الغنم، وثلاثين من البقر، وخمسة أوسق من الحبوب والثمار، وإن نقصت قيمة كل نصاب عن عشرين مثقالًا. ولا تغلظ إذا وجبت في أقل من هذه النصب المزكاة، سواء بلغت قيمتها عشرين مثقالًا أو لا.

والثاني: أن ذلك توقيف، وعلى هذا لا تغلظ اليمين في مائتي درهم، وخمس من الإبل، وأربعين من الغنم، وثلاثين من البقر، وخمسة أوسق من الحبوب والثمار- إلا أن تبلغ قيمتها عشرين مثقالًا، فما زاد، وتغلظ إذا بلغت قيمتها ذلك، وإن نقصت نصبها.

والبندنيجي، والغزالي وإمامه، وابن الصباغ والرافعي- سووا بين نصاب الذهب والورق، وسكتوا عما عداهما.

وقد جزم الماوردي القول بأن ما سوى ذلك من الأموال يعتبر في تغليظ اليمين فيها بلوغ قيمتها عشرين مثقالًا من غالب دنانير البلد الخالية من الغش.

وعن ابن جرير الطبري- ويقال: إنه من أصحابنا-: أن التغليظ يجري في قليل المال وكثيره، وقد حكاه ابن يونس وجهًا، ولم ينسبه لأحد.

والمشهور الأول.

نعم، [لو] رأى القاضي التغليظ بجرأة يجدها في الحالف، فله التغليظ، قاله الرافعي.

وإذا وجبت اليمين في أروش الجنايات التي لا يجب فيها القود من الخطأ وشبه العمد، لغظت إن بلغت عشرين مثقالًا، كما قاله الماوردي.

وعن ابن كج حكاية وجه عن أبي الحسين: أن التغليظ يجري وإن كان الأرش دون النصاب.

وإن وجبت اليمين في العتق، فإن توجهت على العبد- إما في كتابة أو

ص: 59

غيرها- غلظت، وإن توجهت على السيد فكذلك إن كانت قيمته نصابًا، وإلا فلا تغلظ، على الأصح.

وعن صاحب ((التقريب)) حكاية وجه: أن ما يغلظ فيه من أحد الطرفين، يغلط من الآخر، تسوية بين الخصمين.

ولو وجبت اليمين في وقف، غلظت وإن قلت قيمته عن العشرين، إذا قيل: إنه يثبت] بشاهد ويمين، قاله الماوردي.

ولو ادعى الرجل الخلع على امرأته، فالنظر في التغليظ إلى قدر المال من الطرفين [ولو ادعته المرأة، غلظت من الطرفين].

تنبيه: كلام الشيخ مصرح بإثبات التغليظ فيما ذكره من الأوجه الثلاثة، وساكت عن جريان تغليظ آخر فيه، وقد قال الرافعي: إن [من] وجوه التغليظ المذكرة في اللعان: التغليظ بحضور جمع، ولم يذكروه ها هنا، ويشبه أن يقال: الأيمان التي تتعلق بإثبات حد أو دفع حد، يكون التغليظ فيه بالجمع، كما ذكرنا في اللعان.

ومن أنواع التغليظ العدد، وهو واجب في [أيمان] اللعان والقسامة، كما تقدم.

ومن أنواع التغليظ في الدماء- كما ذكرنا-: التحذير من الإقدام على اليمين الفاجرة، وقراءة قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية [آل عمران:77]، والأحاديث المحذرة، وكذا عده بعضهم في غير الدماء [من الأموال وغيرها، وبعضهم خص ذلك بالدماء] واللعان، وقال: لا يستحب في غيرهما، لأن القصاص والبضع لا يدخله البذل والإباحة. قال القاضي أبو الطيب وغيره:[و] ليس بشيء، لأنه يتعلق الإثم بالجميع إذا كان فيه كاذبًا.

وقد عد بعضهم من أنواع التغليظ: الحلف بالمصحف، كما سنذكره.

وبعضهم استحب أن يحلف قائمًا في جميع الأيمان، كما قلنا في اللعان،

ص: 60

حكاه ابن الصباغ، وهو ممن رأى التغليظ بوضع المصحف في حجر الحالف، ولم يحك عن الأصحاب غيره.

فرع: التغليظ يفعل بطلب الخصم، أم يغلظ القاضي وإن لم يطلب الخصم؟ حكى صاحب ((البحر)) وكذا ابن كج فيه وجهين، وذكر أن الأصح الثاني.

قال [صاحب ((البحر))، وكذا] الرافعي: ويشبه أن يكونا جائزين، سواء قلنا بالاستحباب أو الإيجاب. وفيما قاله نظر سأذكره.

وفي ((تعليق)) القاضي الحسين- ولم يحك سواه-: أن المدعي لو رضي بترك التغليظ، فالحكم لا يتركه، حقًا لله تعالى.

وهذا مقابل لما ذكره الماوردي: أن من توجهت عليه اليمين المغلظة إذا كان زمنًا لا يقدر على المشي إلى مكان التغليظ إلا بأجرة مركوب، كانت أجرة مركوبة إلى مكان التغليظ على المستحلف له، لأنه ليس بحق على الحالف، وإنما هو حق للمستحلف، وكانت أجرة عوده على الحالف، لأنه يعود في حق نفسه.

قال: فأما الزمان والمكان، فقد بيناه في اللعان- أي: بالنسبة إلى المسلم، وغيره.

وأما اللفظ: فهو أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

هكذا نص عليه في كتاب القسامة، وقال ها هنا بدل قوله:((عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)): ((الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية))، والكل جائز.

قال القاضي أبو الطيب وغيره: لو أتي بغير ذلك، وهو ما جرت به عادة القضاة في التحليف: أنهم يحلفون بالله الطالب، الغالب، الضار، النافع، المدرك، المهلك، الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية- كان جائزًا، لأن القصد تباين ما قاد ألفه الناس من أيمانهم بالله في أثناء كلامهم بالإتيان من أسماء الله- تعالى- وصفاته الحسنى ما يميز ذلك، ليكون مانعًا لهم من اليمين الفاجرة، ورادعًا عنها، وقد استدل بمشروعية التغليظ في الألفاظ بما رواه [أبو داود] عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلّى الله عليه وسلّم- يعني اليهود-: ((أنشدكم بالله

ص: 61

الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة؟)).

وقد روى أبو داود عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له- يعني: لابن صوريا-: ((أذكركم بالله الذي نجاكم من آل فرعون، وأقطعكم ((البحر))، وظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المن والسلوى، وأنزل التوراة على موسى- أتجدون في كتابكم الرجم؟!)) لكن هذا مرسل.

تنبيه: قوله: ((عالم الغيب))، أي: غيب ما كان وما يكون.

قوله: ((والشهادة))، يعني: شهادة الحق في كل شيء.

قوله: ((الرحمن الرحيم)) هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، والرحمن: العطوف، والرحيم: المرحم.

قال: وإن كان يهوديًا، حلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ونجاه من الغرق، [لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف يهوديًا، فقال: ((قل: والله الذي أنزل التوراة على موسى، ونجاه من الغرق].

قال القاضي الحسين: وكذا يحلف بالله الذي أنزل له الآيات العشر، وهي آيات يعظمونها غاية التعظيم.

وفي ((البحر)): أن بعضهم قال: لا يحلف بها، أخذًا من قول الشافعي:((ولا يحلف بما يجهل معرفته المسلمون))، ووجهه: أنهم بدلوا كتبهم، وحرفوها، فلا يؤمن أن يكون ذلك مما بدلوا.

قال: وإن كان نصرانيًا، حلف بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسي، قياسًا على اليهود.

قاله الماوردي: ولو رأي أن يزيده، فيقول:((الذي أبرأ [له] الأكمه والأبرص، وأحيا له الموتى بإذنه))، فعل.

قال: وإن كان مجوسيًا، حلف بالله الذي خلقه وصوره، لأن المقصود

ص: 62

ردعه، وزجره عن اليمين الفاجرة، وبذلك يحصل.

وقيل: يحلف بالله الذي خلق النار والنور.

والدهرية والملحدة يحلفون بالله الذي لا إله إلا هو، إذ لا اطلاع لنا على ما هو معظم عندهم، لنؤكد اليمين عليهم به، وكأن ثمرة التحليف لتنالهم عقوبة اليمين الفاجرة.

والوثني: قال القاضي الحسين: يحلف بالله فحسب.

فإن قيل: لم حلفتهم اليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى، والنصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، ولم تحلفوا المسلم [بالله الذي] أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم؟

قلنا: قد حكى ابن أبي الدم عن الشيخ أبي على رواية وجهين فيه في ((شرحه الكبير))، وأن الشيخ أبا عاصم العبادي ذكرهما في ((الفتاوى)) - أيضًا- ولم يختارا شيئًا.

قلت: وكلام ابن أبي الدم يقتضي أن الراجح عند الأصحاب: أنه يحلف كذلك، لأنه قال: مما تغلظ به اليمين التحليف بالمصحف.

قال الشافعي: كان [ابن] الزبير يستحلف بالمصحف، ورأيت مطرفًا قاضي صنعاء يستحلف به، وهو حسن، وعليه الحكام باليمن.

وكذلك قال القاضي الحسين: إن هذا النوع من التغليظ مستحب.

وقال في ((الحاوي)): هو جائز عند الشافعي، وليس بمستحب، لقوله صلى الله عليه وسلم:((من كان حالفًا فليحلف بالله أو فليصمت))، وهذا من الماوردي يفهم أن الشافعي أراد فيما حكاه عن ابن الزبير، واستحسنه: التحليف بالمصحف نفسه، لكنه قال في موضع آخر من هذا الكتاب:[إن] ما حكاه الشافعي مفروض فيما إذا حلفه بالمصحف وما فيه من القرآن.

وقد حكى ابن أبي الدم: أن الأصحاب قالوا: معناه: أن يوضع المصحف في حجره، ليكون أزجر له، ولا يحلفه بالمصحف فيقول: وحق المصحف، لأنه

ص: 63

تحليف بغير الله، وإنما يحلفه بمن أنزل القرآن، وقال: إن هكذا قاله الشيخ أبو علي، وإن الشيخ أبا زيد قال: لو حلفه بما في المصحف لا يكون يمينًا، لأن في المصحف سوادًا وبياضًا.

نعم، لو حلفه بما في المصحف من القرآن [أو بما هو مكتوب، أو حلفه بالقرآن]- فهو يمين.

والماوردي لما [أن ذكر] ما حكيناه عنه قال: وهل يجزئ الحلف بالمصحف عن الحلف بالله؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجزئ، ويسقط به وجوب اليمين، لاشتراكهما في الحنث بهما، ووجوب التكفير فيهما.

والثاني: لا يجزئ، ولا يسقط به وجوب اليمين، لأن من الفقهاء من لا يعلق عليه حنثًا، ولا يوجب به تكفيرًا.

فإن قلت: إذا كان مذهب الحاكم انعقاد اليمين به ووجوب التكفير، فلا نظر إلى مخالفة غيره، كما نقول في سائر المواضع المختلف فيها، حتى قال الأصحاب لو كان القاضي يعتقد وجوب الحق، والمستحلف لا يعتقده- تنعقد اليمين على عقيدة القاضي، كما سنذكره.

قلت: المواضع المختلف فيها على قسمين:

منها: ما لا مندوحة للقاضي عن ارتكابه، لكون لا طريق له غيره، وهي [التي] يعتبر فيها رأي القاضي، [وإلا لانسد] عليه باب الحكم.

ومنها: ما له منه بد، [وهو ما] نحن فيه، فإنه يمكنه أن يستحلف بما هو متفق عليه، فكذلك بان الخلاف.

ويعضد ذلك أن الأصحاب متفقون على أن القاضي يقضي بالشاهد واليمين في الأموال، إذا لم يكن الإثبات بشاهدين، فلو أمكن قالوا: فهل يقضي به؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي أيضًا، نظرًا لما ذكرناه، وسنذكرهما في موضوعهما، إن شاء الله تعالى.

ص: 64

قال: وإن اقتصر، [أي: المستحلف]، على الاسم وحده، جاز، لأن به تنعقد اليمين، يدل عليه قوله تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:6]، فلم يشترط الزيادة [عليه].

وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((والله، لأغزون قريشًا)).

وما روي أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ألبته، فقال: والله، ما أردت إلا واحدةً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:((والله، ما أردت إلا واحدة؟)).

وأحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعودٍ في قلته لأبي جهلٍ: ((بالله، إنك قتلته؟))، فاقتصر على الاسم المجرد.

وهكذا الحكم فيما لو اقتصر على الصفة الذاتية مثل: عظمة الله، وجلال الله، وكبرياء الله، وغير ذلك.

قال الماوردي: وقد شذ بعض أصحابنا، فقال: لا يجزئه إحلافه بالله حتى يعظمها بما وصفنا، ليخرج بها عن عادته.

قال الأصحاب: ولا فرق فيما إذا اقتصر على الاسم بين أن يقول: بالله، أو [تالله]، أو والله، كذا قالوه هنا.

وقد حكينا في كتاب الأيمان ما ينازع فيه.

قالوا: وكذا لا فرق بين أن يأتي به معربًا، كقوله:((والله))، أو غير معرب بأن يأتي به مرفوعًا كقوله:((والله))، [أو منصوبًا كقوله:((والله))، سواء] تعمد ذلك أو لا، كما قاله الشافعي في ((الأم))، لأن لك لحنًا لا يغير المعنى، وقال: أحببت أن يعيد حتى يصحح.

ص: 65

قال في ((الحاوي)) في كتاب القسامة: وقد فرق بعض أصحابنا، فقال: إن كان من أهل العربية والإعراب في كلامه، لم يكن يمينًا في حقه، إذا أتى مرفوعًا أو منصوبًا، لأنه يفرقون بين اللحن والإعراب، ولا ينطقون بالكلمة إلا على موضوعها في اللغة، فلا يجعلون ما خرج عن إعراب القسم قسمًا.

وإن كان من غير أهل العربية فهو يمين في حقه، لأنه لا يفرقون بين اللحن والإعراب، ويتكلمون بينهما] على سواء.

وقد حكينا عن القفال في كتاب الأيمان فيما إذا رفع: أنه لا يكون يمينًا إلا أن ينوي به اليمين، ولم يفصل بين من يحسن العربية أو لا.

وقضية ذلك ألا يعتد بيمينه إذا رفع هنا أيضاً، لأن النية لا مطلع عليها.

ولو حذف الحالف حرف القسم من ذكر ((الله)) تعالى، فظاهر ما قاله الأصحاب ها هنا انعقاد اليمين، والاكتفاء بذلك، لأن أبا الطيب والقاضي الحسين والبندنيجي وغيرهم قالوا: ذكر الشافعي في حديث ركانة فائدتين، وأبدى أصحابنا في أكثر من ذلك، وعدها أو الطيب [المثنى] عشرة: ثلاث في اليمين، وهي: جواز الاقتصار على مجرد الاسم.

وألا يعتد باليمين إذا كانت قبل استحلاف الحاكم.

وأنه يجوز حذف حرف القسم، لأنه جاء في بعض ألفاظه:((والله، ما أردت إلا واحدة؟ فقال: الله، ما أردت واحدة؟)).

وزاد الماوردي والبندنيجي عليها: أن اليمين تدخل في الطلاق ونكاح والرجعة إذا وقع فيه الخلاف والنزاع.

وأن الإنسان يستحلف على نيته إن لم يعلم الأمر [إلا من] جهته.

وثلاث في الرجعة، وهي:

جواز الرجعة في بعض المطلقات.

وأن ((ألبتة)) لا تقطع الرجعة.

وأن الرجعة لا تفتقر إلى الاستشهاد.

ص: 66

وزاد غيره أن الرجعة مختصة بالقول.

وأنها تجوز بغير علم الزوجة، لرجعة ركانة بغير علمها.

وسلت في الطلاق، وهي:

أن ألبته ليست بصريح في الطلاق الثلاث.

وأن الطلقات الثلاث ليس بجزم.

وأن الكتابة يقع بها الطلاق [مع النية.

وأنه يرجع إلى نتيه في عدده.

وأن الطلقات الثلاث تقع جميعها]

وأن إيقاع الثلاث ليس بجزم.

وأن الكناية يقع بها الطلاق مع النية.

وحينئذ يجتمع فيه ست عشرة فائدة، ومن جملتها- كما ذكرنا-: الاعتداد باليمين مع حذف حرف القسم.

وفي ((الحاوي)) في كتاب دعوى الدم: أنه إذا حذف حرف القسم، لم يكن يمينًا على الظاهر من مذهب الشافعي في عموم الناس كلهم، سواء ذكر الاسم مرفوعًا أو مجرورًا أو منصوبًا.

[و] على قول من فرق بين أهل العربية وغيرهم من أصحابه، يجعلها بالنصب من أهل العربية يمينًا، لأنهم إذا حذفوا حرف الجر نصبوا، فصار النصب عوضًا من حرف القسم، فصارت منهم يمينًا، دون غيرهم.

وقد ذكرنا في كتاب الأيمان: أنه إذا حذف حرف القسم، وأطلق- لا يكون يمينًا، لأن اليمين تتعلق بحرف القسم، وليس في هذه حرف قسم، فهو موافق لما ادعاه الماوردي من ظاهر المذهب، وذكرنا ثم وجوهًا أخر.

أما إذا عرض المستحلف على الحالف اليمين مغلظة باللفظ، فأراد الاقتصار على الاسم وحده، فهل يجزئه أم لا، فيعد ناكلًا عن اليمين إن أصر على ذلك؟

الكلام في هذا وفي كل تغليظ رآه الحاكم من المكان والزمان، ينبني على أصل بعد العهد به، وهو أن فعل ذلك واجب على المستحلف أو لا؟

وحاصل ما ذكر في مجموع ذلك أربعة أوجه، أوردها في ((الوسيط)):

ص: 67

أحدها: أن جميع ذلك مستحب، وقد ذكره العراقيون [قولًا، وهو الصحيح]، وعلى هذا: إذا امتنع الحالف من شيء منها، وقد عرضه القاضي [وهو يراه مستحبًا واحتياطًا، لا يجبر عليه، ولا يعد ناكلًا عند العراقيين.

وحكى الإمام والقاضي] الحسين فيه وجهين، أصحهما عند القفال- كما قال في البحر ((البحر)) -: أنه نكول، وطردهما القاضي والشيخ أبو علي فيما إذا عرض عليه وضع المصحف في حجره حالة الحلف، فامتنع، فهل يجعل ناكلًا أم لا؟ لأن فعل ذلك مستحب عندهما، كما ذكرنا.

الثاني: أن ذلك مستحب إلا في المكان، فإنه واجب حتى لا يعتد باليمين في غيره، وهذا ذكره العراقيون [قولا] أيضًا.

وعلى هذا: إذا امتنع من التغليظ بالزمان واللفظ، وقد رآه القاضي احتياطًا- فحكمه ما تقدم.

وإن امتنع من التغليظ بالمكان عد ناكلًا، ولا نظر لكون عليه يمين أنه لا يحلف في ذلك المكان أو لا، كذا قاله الماوردي والإمام والرافعي وغيرهم، وهو قياس قول الأصحاب: إن اليهودي يقسم ببيعته، إذا قلنا: إن التغليظ بالمكان واجب.

لكن البندنيجي والقاضي أو الطيب وغيرهما حكوا عن الشافعي في الأم- كما قاله في ((البحر)) - فيما إذا كان عليه يمين: لا حلف بين الركن والمقام، استحلفه في الحجر، فإن كان عليه يمين: لا حلف في الحجر، حلفه على يمين المقام بين المقام والحجر، فإن كان عليه يمين: لا حلف [في هذا المكان، استحلفه بالقرب من البيت.

وأن الشافعي قال: لو قال قائل إذا كان عليه يمين: لا حلف] بين الركن والمقام، استحلفه فيه، وإن كان فيه حنث فيما كان حلف، كان مذهبًا، كما لو حلف: لا يحلف، فتوجهت اليمين عليه، فإنه يحلف وإن كان فيه حنث فيما كان حلف، كذلك ها هنا.

ص: 68

فقالوا: فقد خرجها على قولين.

قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: وهذا على القول الذي يقول: إن التغليظ بالمكان [مستحق، وشرط.

فأما على القول الذي يقول: إن التغليظ بالمكان] ليس بشرط، فلا يحنث في يمينه قولًا واحدًا.

[والبندنيجي قال: فقيه أن يكون القولان إذا قلنا: المكان شرط، فأما إذا قلنا ليس بشرط، لم نحنثه قولًا واحدًا].

ويقرب من ذلك من حكيناه في اليمين المغلظة إذا وجبت على مخدة هل تخرج إلى موضع الاستحلاف، أو ينفذ إليها من يحلفها، ويجعل التخدر عذرًا؟ إذا قلنا [بوجوبه خرجت]، أما إذا قلنا: أنه مستحب، فلا تخرج وجهًا واحدًا.

الثالث: أن ذلك واجب إلا في اللفظ، وقد حكاه الماوردي ها هنا قولًا، وعلى هذا فالفرق بين اللفظ وبينهما- كما قال القاضي الحسين وغيره-: أن قله: ((والله)) يشتمل على جميع الصفات التي يلقنه الحاكم، من قوله: ((لا إله إلا هو الرحمن الرحيم

)) إلى آخره، لأن معنى [((الله))] هذا، فلذلك اكتفى به، بخلاف المكان والزمان، فإن اسم الله تعالى لا ينظم فائدتهما.

وعلى هذا قال الماوردي في باب ((ما على القاضي في الخصوم)): لو سأل المدعي تأخير إحلاف المنكر، لتغلظ عليه اليمين بإحلافه بعد العصر، أو في الجامع- كان له ملازمة المنكر، إن استحق تغليظها، ولم يكن [له] ملازمته إن لم يستق تغليظها.

الرابع: أن ذلك مستحق في الجميع، وهذا ما خرجه الإمام لنفسه، والعراقيون قالوا: إن التغليظ باللفظ مستحب قولًا واحدًا، كما ذكره الشيخ هنا.

وفي المسألة وجه خامس: أن التغليظ بالمكان مختص بمكة والمدينة، وفي غيرهما لا يجب قولًا واحدًا، حكاه ابن أبي الدم.

ولا خلاف أن الحاكم لو قال له: قل: والله، فقال: والرحمن، أنه يكون نكولًا.

ص: 69

ولو قال: قل: بالله، فقال: والله- هل يكون نكولًا؟ فيه وجهان حكاهما القاضي والإمام.

ولو قال: قل: بالله، فقال: تالله- فالخلاف جار، والنكول هنا أظهر، لأن تالله بعض الناس يقولون: لا يكون يمينًا.

فرع: لو أحلف القاضي يهوديًا: بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، والنصراني: بالله الذي أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، فامتنع من اليمين بذلك له يصير ناكلًا؟ فيه وجهان، حكاهما ابن أبي الدم عن رواية الشيخ علي عن شيخه القفال.

قال: ومن حلف على فعل نفسه- نفيًا كان أو إثباتًا- حلف على القطع، لإحاطة علمه بحاله، وقد ألحق بذلك إذا ادعي عليه أن بهيمته أتلفت على إنسان مالًا، فأنكر، فإنه يحلف على القطع.

قال الأصحاب: لأن البهيمة لا ذمة لها، والمالك لا يضمن بفعل البهيمة، وإنما يضمن بالتقصير في حفظها، وهذا أمر يتعلق بنفس الحالف.

قال: ومن حلف على فعل غيره، فإن كان على إثبات حلف على القطع، لتيسر الاطلاع عليه.

وحكى الفوراني عن القفال: أن للمدعي للرضاع إذا نكل خصمه عن اليمين على نفي العلم، حلف هو أيضًا على العلم، لأن جواب المدعي يكون على وفق الدعوى والظاهر أنه يحلف على البت.

وإن كان على نفي، حلف على نفي العلم، أي: فيقول: والله ما علمت أنه فعل كذا، لأنه لا طريق [له على القطع في نفي فعل الغير]، فلم يكلف الحلف عليه، كما لا يكلف الشاهد فيما لا طريق [له] إلى معرفته بالقطع- القطع، بخلاف الإثبات.

وقد يستدل لذلك بما روى أبو داود عن الأشعث بن قيس أن رجلًا من كندة، ورجلًا من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرضٍ من اليمن، فقال

ص: 70

الحضرمي: يا رسول الله، إن أرضي اغتصبها أبو هذا، وهي في يده، قال: هل له بينةٌ؟ قال: [لا]، ولكن أحلفه، والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه، فتهيأ الكندي، يعني: لليمين.

قال القاضي أبو الطيب وغيره: وفي هذه الحالة، لو حلف على البت والقطع احتسب باليمين، لأن ذلك [يكون] محمولًا على العلم، لأجل أنه لا يمكن الإحاطة به، كما قال الشافعي فيما إذا شهد الشاهدان: أن هذا وارثه، لا وارث له غيره.

قال الرافعي: وكل ما يحلف الإنسان فيه على البت لا يشترط فيه اليقين، بل يجوز ألبت، بناء على ظن مؤكد يشنأ من خطه، أو من خط أبيه، أو نكول خصمه على ما سبق.

وما ذكره من خط نفسه قد حكاه البندنيجي قبيل باب ما يجب على المرء من القيام بالشهادة، وكذا صاحب ((البحر)) [وغيره]، وألحقوا في هذا الموضع إخبار العدل الواحد بذلك.

وقال في ((الحاوي)) فيما إذا رأى ذلك مكتوبًا في حساب يغلب على ظنه صحته، أو أخبره عدل [به]: إنه يجوز له أن يدعي به، وهل يجوز أن يحلف إذا ردت اليمين عليه، أو أقام شاهدًا؟ فيه وجهان لأصحابنا:

أصحهما: الجواز، والقائل بخلافه قال: إنه الظاهر من كلام الشافعي، [و] حديث الأنصار مع يهود خيبر في القتل حجة عليه.

وفصل ابن الصباغ، فقال هنا، إذا وجد شيئًا بخط أبيه، أو أخبره عدل به، جاز أن يحلف إذا غلب على ظنه صدق ذلك، وهو ما أورده القاضي أبو الطيب أيضًا.

وقال قبل ((كتاب القاضي إلى القاضي)) بيسير: إن الإنسان إذا وجد بخط نفسه [دينًا] على إنسان، فلا يطالب به، ويحلف عليه حتى يتيقنه، وكأن الفراق: أنه في خط نفسه يمكنه التذكر، بخلاف خط أبيه.

ص: 71

وقد ظهر لك بما ذكرناه: أن ما ادعاه الرافعي، لم يسلم من منازعة.

وكذا ما ذكره من الاعتماد على النكول فيه منازعة، لأن المذهب- كما قال الإمام في كتاب الوديعة فيما إذا ادعى المودع التلف، ونكل عن اليمين-: أن المالك يحلف على نفي العلم، وأن من أصحابنا من يكلفه جزم اليمين، لأن من الممكن أن يطلع على بقاء العين في الوقت الذي ادعى المودع تلفها، وإذا كان هذا ممكنًا، فجزم اليمين ممكن.

ولو لم يغلب على ظنه صدق أبيه فيما كتبه، فإن كان مع غلبة الظن بالكذب لم يجز الإقدام على اليمين، وإن احتمل الصدق والكذب على السواء، فالذي يظهر [أن] يقال: إن الحكم كذلك.

وفي ((النهاية)) في كتاب الوديعة: أن المودع لو ذكر أن الوديعة تلفت في يده، ومات قبل أن يحلف- فالوارث يخلفه في اليمين، إذا غلب على ظنه صدقه، أو علمه.

ولو استوى عنده احتمال الصدق والكذب ففيه خلاف.

ووجه الجواز: اعتضاد اليمين ببراءة ذمة الوارث، وسلامة التركة [له]، وهذا التوجيه لا يحسن في مسألتنا مطلقًا، فلذلك قلت: لا يتجه التحليف.

ومما يؤيد ذلك أن القاضي الحسين قال قبيل باب ما يجب على المرء من القيام بالشهادة-: قال أصحابنا: إنما يحلف [علي] أن له عليه ذلك الذي رآه بخط أبيه، إذا كان لو وجد بخط أبيه: أن لفلان عليه كذا يصدق، ولا يرضى لنفسه أن يحلف على نفيه، وقال: إن القفال قال لأجل ذلك: إذا رأى بخط أبيه: أن لفلان عليه كذا، وكان أبوه من الأمانة عنده بحيث لو رأى بخطه أن له على الغير مالًا يستجيز أن يحلف عليه للاستيفاء- فلا يجوز له في مسألتنا الحلف، وإلا فيجوز.

تنبيه: كلام الشيخ مصرح بأنه إذا حلف على نفي فعل الغير، يحلف على [نفي] العلم، ويقتضي أنه لا فرق في ذلك الغير بين أن يكون موروثًا أو عبدًا له، وهو ما صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، ولم يحكيا غيره.

ص: 72

وقال في ((البحر)): إن ابن القاص قاله تخريجًا.

وحك المراوزة في نفي فعل عبده وجهين:

أحدهما: هذا.

والثاني- وهو الأصح في ((الرافعي)) -: أنه يحلف على البت، لأن عبده ماله، وفعله كفعل نفسه، ولذلك سمعت الدعوى عليه.

وربما بنى الوجهان على أن أرش الجناية يتعلق بمحض الرقبة [أم يتعلق بالرقبة] والذمة معًا حتى يتبع بما فضل بعد العتق؟ فإن قلنا بالأول حلف على ألبت، لأنه يحلف، ويخاصم لنفسه. وإن قلنا بالثاني، فعلى [نفي] العلم، لأن العبد على هذا له ذمة تتعلق بها الحقول، والرقبة كالمرتهنة بما عليه.

وقضية هذا البناء- إن صح-: أن يكو الصحيح عند الإمام وغيره ما أفهمه كلام الشيخ كما عرفت في باب العاقلة: أن الصحيح عندهم أن ذمة العبد مشتغلة بجنايته.

فروع:

أحدهما: إذا ادعى عليه موت قريبه، ليدعي عليه بحق، فأنكره- ففي كيفية يمينه ثلاثة أوجه:

أحدها- عن ابن القاص والشيخ أبي عاصم-: أنه يحلف على البت، لأن الظاهر اطلاعه عليه.

وأصحهما- في ((الرافعي))، و ((تعليق)) القاضي أبي الطيب-: أنه يحلف على نفي العلم، كما لو أنكر غصبه وإتلافه، وقد يكون موته في الغيبة، فلا يطلع الوارث عليه.

وثالثها- عن الشيخ أبي زيد-: الفرق بين من عهد حاضرًا أو غائبًا.

[الفرع الثاني:] إذا نصب البائع وكيلًا لقبض الثمن وتسليم المبيع، فقال له المشتري: إن موكلك أذن في تسليم المبيع، وأبطل حق الحبس، وأنت تعلم-[ففيه قولان] عن حكاية ابن القاص:

أحدهما: يحلف على نفي العلم، ويديم الحبس إلى استيفاء الثمن.

ص: 73

والثاني- وهو اختيار أبي زيد-: أنه يحلف على البت، لأنه يثبت لنفسه استحقاق اليد [على المبيع].

[الفرع الثالث:] إذا طولب البائع بتسليم المبيع، فادعى حدوث عجز عنه، وقال: إن المشتري عالم به، فأنكر يحلف على البت، لأنه يستبقي بيمينه وجوب تسليم المبيع إليه، كذا حكي عن ابن القاص.

[الفرع الرابع:] إذا مات شخص عن ابن في الظاهر، فجاء آخر، وقال: أنا أخوك، والميراث بيننا، فأنكر- قال ابن القاص: يحلف على البت أيضًا، لأن الأخوة رابطة بينهما، فهو حالف في نفسه.

ونازعه منازعون في الصورتين وقالوا: يحلف على نفي العلم.

قال: ومن توجهت عليه اليمين لجماعة، حلف لكل واحد منهم، لأن لكل واحد منهم يمينًا، فلم تتداخل.

قال: فإن اكتفوا منه بيمين واحدة، فقد قيل: يجوز، كما يجوز أن تثبت بينة واحدة حقوق جماعة، وهذا منسوب إلى الإصطخري في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب، في باب ((ما على القاضي في الخصوم)).

وقيل: لا يجوز، وهو الأصح، لأن اليمين حجة في حق كل واحد منهم، والحجة الناقصة] لا تكمل برضا الخصم، كما لو رضي الخصم أن يحكم عليه بشهادة واحد.

ولأن المقصود من اليمين الزجر، وما يحصل من الزجر بالتفريق لا يحصل بالجمع، فلم يجز وإن رضوا به، كما لو رضيت [المرأة] أن يقتصر الزوج في اللعان على شهادة واحدة، هكذا أطلق الأصحاب القول في المسألة.

وفي ((الحاوي)) في كتاب اللعان: أن أبا سعيد الإصطخري قال: استحلف إسماعيل بن إسحاق رجلًا في حق لرجلين يمينًا واحدة، فأجمع فقهاء زماننا على أنه خطأ.

ص: 74

قال الداركي: فسألت أبا إسحاق المروزي عن ذلك، فقال: إن كان قد ادعيا ذلك الحق من جهة واحدة، مثل: أن تداعيا دارًا ورثاها عن أبيهما، أو مال شركة بينهما حلف لهما يمينًا واحدة.

وإن كان الحق من وجهين، حلف لكل واحد على الانفراد.

قال الماوردي: وقول أبي إسحاق صحيح.

قلت: وبه أجاب الغزالي في كتاب النكاح عند الكلام فيما إذا زوجت المرأة من اثنين، واختلفا في السابق إذا كان المدعيان حاضرين وطلبا يمينه.

وقال فيما لو حضر أحدهما، وطلب يمينه، ثم حضر الآخر، وطلب يمينه-: فهي لحلف له ثانيًا إذا كانت صيغة اليمين الثانية مثل الأولى؟ فيه وجهان:

[و] في ((البحر)) في باب ((ما على القاضي في الخصوم)): أن بعض أصحابنا بخراسان حكى في مسألة الكتاب وجهًا: أنه يجوز للحاكم أن يحلفه يمينًا واحدة من غير رضا الخصوم، وليس بشيء، وكأنه- والله أعلم- يشير إلى الفوراني، فإن كلامه في كتاب اللعان، وهو أنه لو شهد له شاهد بحق على رجل، وعلى آخر بحق- جاز أن يحلف معه يمينًا واحدة، يذكر فيها الحقين.

وقضية ما ذكره الشيخ وغيره: أن يقال في هذه الصورة بالاحتياج إلى يمينين والله أعلم.

ص: 75

فرع: إذا كانت دعوى الشخص الواحد تشتمل على أنواع، فأراد أن يحلفه على أحدها، ويتوقف عن إحلافه فيما عداه- جاز.

وإن أراد أن يحلفه على كل نوع منها يمينًا، نظر:

فإن فرقها في الدعوى، جاز أن تفرق الأيمان.

وإن جمعها في الدعوى، لم يجز أن تفرق في الأيمان، قاله في ((الحاوي)) في باب ((ما على القاضي في الخصوم)).

قال: ومن ادعى عليه غصب، أو بيع، فأجاب بأنه: لا حق [له] عليه لم يحلف إلا على ما أجاب، أي: لا يكلف إلا ذلك، ولا يجب عليه التعرض للغصب والبيع، لأنه قد يكون له غرض صحيح في ذلك، كما بيناه في باب الدعوى.

وهكذا الحكم فيما إذا ادعى عليه دين، فأجاب بمثل ذلك.

ويجوز له إذا كان الدين مؤجلًا أن يحلف: أنه [لا] يلزمه تسليم المال إليه، وكذا إذا كان معسرًا، ولا يجوز أن يحلف: أنه لا شيء [له] عليه، لأنه يكون كاذبًا في يمينه، قاله القاضي الحسين.

[أما إذا أراد أن يحلف على نفي الغصب والبيع، فله ذلك قولًا واحدًا، صرح به القاضي الحسين] والبغوي.

قال: وإن أجاب بنفي ما ادعى عليه- أي: بأن قال: ما غصبت منك، ولا بعتك- حلف على ما أجاب، لأنه لما أجاب بنفي ما ادعى عليه، دل على أنه يمكنه أن يحلف عليه، فحلف عليه، وهذا أظهر عند الرافعي، وقال: إنه منصوص عليه.

ص: 76

وقيل: يحلف: أنه لا حق [له] عليه، أي: ولا يكلف الحلف على نفي الغصب، والبيع، كالمسألة قبلها.

قال: ومن حلف على شيء، ثم قامت البينة على كذبه، قضي بالبينة، وسقطت اليمين، لقول عمر- رضي الله عنه:((البينة أحق من اليمين الفاجرة)).

قال الماوردي: ويروى هذا متصل السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق لا يثبت، والحجة في قول عمر، لأنه لم يظهر له [فيه] مخالف.

ولأن الشهادة حجة يحكم بها في المال، وهذا أبعد عن التهمة من اليمين، فجاز سماعها بعد اليمين، قياسًا على إقرار المدعى عليه، والله أعلم.

وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به:

أحدها: اليمين عندنا معتبرة بعقيدة القاضي المستحلف، فإذا ادعى حنفي على شافعي شفعة الجوار، والقاضي يرى إثباتها، فأنكر المدعى عليه- فليس له أن يحلف، بناء على اعتقاده في شفعة الجار، بل عليه إتباع القاضي، ولزومه في الظاهر ما التزمه القاضي، وهل يلزمه في الباطن؟ فيه وجهان كالوجهين فقي أن الحنفي إذا حكم [للشافعي] بشفعة الجوار، هل تحل له، [أو هما هما]؟

قال الرافعي: وميل الأكثرين إلى الحل، كما ذكره الغزالي في الباب الثاني من أدب القضاء، وهو الجواب في ((فتاوى)) القفال، ويوافقه ما اتفقوا عليه هنا من ترجيح اللزوم باطنًا.

وعن صاحب ((التقريب)): أن القضاء في المجتهدات ينفذ في حق المقلد ظاهرًا وباطنًا، ولا ينفذ في حق المجتهد باطنًا، حتى لو كان الحالف مجتهدًا، وحلف بموجب اجتهاده- لم يأثم بذلك.

ص: 77

[الفرع الثاني:] إذا استثنى الحالف في يمينه باللسان في مجلس الحكم، فإن سمعه الحاكم نهاه عن ذلك، وأعاد اليمين. وإن لم يسمعه، أو وصل باللفظ شرطًا بقلبه وبنيته- انعقدت يمينه، ولم يدفع ذلك إثم اليمين الفاجرة عنه.

ورأيت فيما وقفت عليه من ((تعليق)) القاضي الحسين: أنه إذا استثنى بلسانه، ولم يسمعه القاضي- لم تنعقد يمينه، ونفعه فيما بينه وبين الله تعالى في وجوب الكفارة.

وإن استثنى بالعزم، لم ينفعه ذلك، لأنه يؤدي إلى تعطيل الأحكام، بخلاف الاستثناء باللفظ، لأنه يسمع القاضي، وهو ممنوع منه، وإن لم يسمع يكون ذلك نادرًا، ولا عبرة بالنوادر.

[الفرع الثالث:] لا ينبغي أن يحلف القاضي السكران: مدعيًا كان أو مدعى عليه حتى يعلم ما يقوله وما يقال له، وينزجر عن اليمين الفاجرة، [فإن] حلفه في السكر، فعلى الخلاف السابق في أن السكران كالصاحي أو كالمجنون؟

قال الرافعي في كتاب القسامة: [والأظهر الأول].

وعن القاضي أبي حامد والماسرجسي ترجيح الثاني.

وادعى القاضي الحسين: أنه ظاهر، والله أعلم.

* * *

ص: 78