المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب اختلاف الشهود والرجوع عن الشهادة - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٩

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب اختلاف الشهود والرجوع عن الشهادة

‌باب اختلاف الشهود والرجوع عن الشهادة

إذا شهد شاهد أنه أقر بألف، وشهد آخر أنه أقر بألفين- وجب له الألف، لاتفاقهما على إثباته، كما لو شهد واحد على إقراره بالألف، وآخر بألف وخمسمائة، فإن الألف تثبت بوفاق الخصم وهو أبو حنيفة.

وفي الإشراف أن القاسم حكى أنه لا يأخذ الألف من غير يمين، قال: وهو غريب.

قال: وله أن يحلف ويستحق الألف الثاني، لأنه شهد له به شاهد واحد، وهكذا الحكم فيما لو شهد له شاهد أنه سرق منه كيسًا، وآخر أنه سرق [منه] كيسين، ثبت له الكيس المتفق عليه، ويحلف، ويستحق الثاني، قاله الماوردي، وأبو الطيب.

ولا فرق في مسألة الكتاب بين أن يطلق الشاهدان الشهادة، أو يذكرا سبب اللزوم، فيشهد أحدهما بألف من ثمن عبد، والآخر بألفين من ثمن عبد، أو يذكر أحدهما السبب، ويطلق الآخر، كما إذا شهد أحدهما بألف من ثمن عبد، وشهد الآخر بألفين مطلقًا، كما قاله القاضي أبو الطيب في كتاب الإقرار، وقال: إنه لو شهد أحدهما بألف من ثمن عبد، والآخر بألفين من ثمن ثوب- لم يلفق بين الشهادتين، ويحلف معهما، ويستحق الألفين، وهذا بخلاف ما لو شهد له شاهد أنه باعه هذا العبد بألف في وقت كذا، وآخر أنه باعه ذلك العبد [بعينه] في ذلك الزمان بألفين- فإن فيه وجهين حكاهما الماوردي في باب الشهادة على الحدود:

أحدهما: أن شهادتهما سقطت، لتعارضهما، فيصير كأن لا بينة، كما لو شهد اثنان بالبيع [بألف، واثنان بالبيع] في ذلك الزمن، فإنهما يتعارضان ويسقطان.

ص: 269

والثاني: أنه يحلف مع الشاهدين، ويقضى له بالألفين.

وما ذكره الشيخ مصور بما إذا كان المدعي قد ادعى ألفين، أما إذا لم يدع إلا ألفا، فقد سبق الكلام في سماع شهادة الشاهد بالألفين.

وما ذكره الشيخ مصور بما إذا كان المدعي قد ادعى ألفين، أما إذا لم يدع إلا ألفًا، فقد سبق الكلام في سماع شهادة الشاهد بالألفين عند الكلام في الجمع في الشهادة بين ما يجوز وما لا يجوز، وعند الكلام في الشهادة بحق للآدمي قبل الاستشهاد، فليطلب منهما.

قال: وإن شهد شاهدان أنه زنى بها في زاوية، وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية أخرى- لم يثبت الزنى، أي: بالنسبة إلى المرأة والرجل، لأنه لم يكمل على فعل واحد نصاب الشهادة، لكن هل يجب على الشهود حد القذف؟

أطلق البندنيجي والقاضي الحسين وغيرهما فيه القولين المذكورين فيما إذا لم يتم العدد.

وفي ((الحاوي)) في باب حد الزنى: أنا إذا لم نوجبه عند نقصان العدد فهاهنا أولى، وإن أوجبناه ثم فهاهنا وجهان، وأجراهما فيما لو شهد اثنان أنه زنى [بها] يوم الجمعة، وآخران أنه [زنى بها] يوم السبت.

ووجه المنع: أن الشهادة بالزنى قد كملت وإن اختلفت، فصارت كاملة في سقوط العفة وإن لم تكمل في وجوب الحد.

نعم: لو شهد اثنان أنه زنى بها يوم الجمعة بالبصرة، وآخران أنه [زنى بها] يوم السبت ببغداد، انعكس الحال، فإن قلنا بوجوب الحد عند نقصان العدد، فهاهنا أولى، وإن قلنا: لا يجب ثم، فهاهنا ثلاثة أوجه:

أحدها: يحدون جميعًا، للقطع بالكذب في شهادتهم.

والثاني: لا يحدون جميعًا، لأن الكذب لا يتعين في أحد الجهتين.

والثالث: يحد الأخيران، لتقدم إكذاب الأولين لهما قبل شهادتهما.

قال الماوردي: وهذا صحيح.

وفي ((تعليق)) البندنيجي حكاية القولين المذكورين في نقصان العدد في هذه الصورة- أيضًا- من غير ترتيب، وطردهما فيما لو شهد شاهدان أنه زنى بها وعليه جبة، و [شهد] آخران أنه زنى بها وعليه قميص.

ص: 270

قال: وإن شهد اثنان أنه زنى بها وهي مطاوعة، وشهد آخران أنه زنى بها وهي مكرهة- لم يثبت الزنى، أي في حق المرأة [والرجل]، لأنهم لم يتفقوا على زنى واحد، فإن زناه بها مطاوعة غير زناه بها مكرهة، فلم تكمل البينة كما في المسألة قبلها.

وقيل: يثبت الزنى في حق الرجل، لأنهم اتفقوا على زناه طائعًا، وليس في الشهادتين تعارض، لأن الإكراه يجوز أن يكون في أول الفعل، والمطاوعة في آخره.

قال: وليس بشيء، لما ذكرناه.

وقد نسب البندنيجي هذا الذي بشيء إلى رواية ابن سريج [في ((التفريع)) على ((الجامع الصغير)) لمحمد وجهًا وحكاه القاضي الحسين عن رواية ابن سريج] وجهًا أيضًا، وقال في موضع آخر من كتاب حد الزنى: إن أبا ثور قال: سألت الشافعي عنه، فقال: يحد الرجل دونها. على ذلك ينطبق قول الماوردي: إن الخلاف قولا رواهما أبو حامد المرودوذى.

[ثم] قال: إن أوجبنا الحد على الرجل لم يجد الشهود لها، ولا له، وإن قلنا: لا يجد الرجل [فإن لم] نوجب الحد على الشهود عند نقصان العدد، فهاهنا أولى، وإن أوجبناه ثم، فهاهنا وجهان.

فإن أوجبناه، قال القاضي الحسين، والماوردي: حددنا شاهدي الإكراه [للرجل] دون المرأة، وشاهدي الطواعية قد قذفا الرجل والمرأة، لكن بزنى واحد، فهل يجب عليهما حدان، أو حد واحد؟ فيه قولان:

الجديد: الأول.

والقديم: الثاني.

عكس الإمام هذا الترتيب، فقال: الزنى لا يثبت في حق المرأة، ولا يحد شاهدا الإكراه لها، وهل يحد شاهدا الطواعية؟ فيه الخلاف: فإن حددناهما لم يحد الرجل قولًا واحدًا، وإن لم نحدهما فهل يحد الرجل؟ فيه وجهان، الذي ذهب إليه أكثرهم: الوجوب، وهو الذي رجحه الرافعي، ثم قال: وكذلك نوجب

ص: 271

وحكى فيما لو شهد اثنان على أنه أكرهها على الزنى: أن وجوب المهر ينبني على حدهما، فإن حددنا الشاهدين لم يثبت، وإلا ثبت، وادعى أنه لا خلاف في أنه لا يجب الحد على شاهدي الإكراه، وأنه لا يجب للرجل حد القذف: أما إذا حددناه فظاهر، وأما إذا لم نحده، فلأن عدد الشهود على زناه قد تم، وإنما رددنا الشهادة، لأنه مجتهد فيه، وهذا ما حكاه الإمام عن أهل التحقيق، بناء على أن المعلنين بالفسق المجتهد فيه، لا يحدون قولًا واحدًا.

فروع:

أحدها لو شهد أربعة على أنه زنى بها، وشهد أربع نسوة على أنها عذراء، لا يجب عليها حد الزنى، لشبهه بقاء العذرة، ولو قذفها قاذف، لم يلزمه الحد، لقيام الشهادة على الزنى، واحتمال أن العذرة زالت، ثما عادت، لترك المبالغة في الافتضاض.

ومن طريق الأولى: لا يجب الحد على الشهود، كذا أطلقه الاصحاب.

وخص القاضي الحسين ذلك بما إذا كان بين الشهادتين زمان بعيد ممكن عودة العذرة فيه.

لو أقامت هي أربعة على أنه أكرهها على الزنى، وطلبت المهر، وشهد أربع نسوة على أنها عذراء- فلا حد عليه، للشبهة، وعليه المهر، ولا يجب عليها له حد القذف، لشهادة الشهود.

ولو شهد اثنان على أنه وطئها بشبهة، وشهد أربع نسوة على أنها عذراء فكذلك يجب المهر.

قال ابن كج: ولو شهد على امرأة أربعة بالزنى، وشهد أربع نسوة على أنها رتقاء، فليس عليها حد الزنى، ولا عليهم حد القذف، لأنهم رموا بالزنى من لم يتأتى منه الزنى.

وفي ((الحاوي)) في هذه الصورة: أننا ننظر:

فإن كان الرتق- وكذا القرن- لا يمنع من إيلاج الحشفة في الفرج- حدت بخلاف العذرة، وإن كان يمنع ذلك لم تحد، ثم تكون هذه الشهادة مسقطة

ص: 272

لعفتها، فلو قذفها قاذف من بعد، لم يحد، لكما الشهادة بالزنى، وسقوط الحد بالشبهة.

قال: وإن شهد أحدهما: أنه قذفه بالعجمية، وشهد الآخر أنه قذفه بالعربية، أو شهد أحدهما أنه قذفه يوم السبت، وشهد الآخر أنه قذفه يوم الأحد- لم يثبت القذف، لأنهما لم يتفقا على قذف واحد، لأن القذف بالعجمية غير القذف بالعربية، والقذف [في] يوم السبت غير القذف [في] يوم الأحد، فأشبه ما لو شهد شاهد أنه عقد عقد النكاح على فلانة يوم الأحد، وآخر أنه عقد عليها يوم الاثنين، وقد وافق الخصم- وهو أبو حنيفة- على عدم التلفيق فيها.

وهكذا القول لو شهد أحدهما أنه قذفه بمكان كذا، وشهد الآخر أنه قذفه بمكان آخر، أو شهد أحدهما أنه قذف بزناه بزينب، وشهد الآخر [أنه قذفه بزناه بعمرة، أو شهد أحدهما: أنه قال له: زنيت، وشهد الآخر]: أنه قال له: يا زاني، قاله الماوردي في كتاب اللعان، والأخير شبيه بما قاله القاضي أبو الطيب في كتاب الوكالة: أنه لو شهد شاهد بأنه قال لزيد: وكلتك في كذا، وقال الآخر: أشهد أنه قال: أذنت لك في التصرف-[لم تثبت الوكالة، لأن العقد بقوله: وكلتك غير العقد بقوله: أذنت له في التصرف]، فلم تتفق شهادتهما على عقد واحد.

قال: وكذلك إذا شهد أحدهما أنه قال: جعلتك وكيلًا، وقال الآخر: أشهد أنه قال: جعلتك جريًا- والجري: الوكيل- بخلاف ما لو شهد أحدهما: أنه وكله في التصرف، وشهد الآخر: أنه أذن له في التصرف، فإن الوكالة تثبت، لأنهما لم يحكيا لفظ العقد، واختلافهما في أداء اللفظ لا يؤثر في الشهادة.

لكن في ((أدب القضاء)) لابن أبي الدم: أن ابن القاص حكى عن ابن سريج أنه قال تخريجًا على مذهب الشافعي فيما إذا شهد أحدهما: أنه جعله وكيلًا في هذه الخصومة، وآخر: أنه جعله وصيًا في هذه الخصومة في حياته، أو أحدهما: أنه وكله بقبض المال، والآخر: أنه سلطه عليه- أنه ينظر:

ص: 273

فإن كانت شهادتهما على الإقرار، ثبتت الوكالة.

وإن كانت على العقد، لم تثبت.

وعلى قياس ما ذكره الشيخ في إحدى مسألتي الفصل يتخرج ما إذا شهد أحدهما أنه غصب منه داره في يوم الجمعة، وشهد الآخر أنه غصبها منه [في] يوم السبت، أو شهد أحدهما: أنه غصب داره بالكوفة، وشهد الآخر: أنه غصب داره بالبصرة- مع أن الغصب لا يثبت، لأنها شهادة على فعل لم يتفقا عليه، فيحلف مع أحد الشاهدين في الأولى، ومعهما في الثانية، ويستحق الدارين.

وحكى ابن أبي الدم عن أبي القاسم الداركي، [أنه] قال: يثبت الغصب، وأن الشيخ أبا علي قال: وهذا غفلة منه.

قلت: وقول الداركي قد حكاه الإمام- أيضًا- في كتاب الإقرار، فإنه حكى أن صاحب التقريب روى أن الشافعي نص على أنه لو شهد شاهد أنه طلق زوجته يوم السبت، وشهد الآخر أنه طلقها يوم الأحد- لا يثبت الطلاق بشهادتهما، وأن بعض الأصحاب خرج قولًا من النص الذي سنذكره إلى هنا، وجعل في ثبوت الطلاق قولين، ولا وجه للقول المخرج هنا، وهو في نهاية البعد من طريق النقل والقياس.

قال: وإن شهد أحدهما أنه أقر بالقذف بالعجمية- أي: كان إقراره عند الشاهد بالعجمية- وشهد الآخر: أنه أقر بالقذف بالعربية- أي: كان إقراره عند الشاهد بالعربية- أو شهد أحدهما: أنه أقر بالقذف يوم السبت- أي: تاريخ إقراره يوم السب- و [شهد] الآخر: أنه أقر [بالقذف] يوم الأحد-[أي تاريخ إقراره يوم الأحد]- وجب الحد، لأن [الظاهر أن] المقر به قذف واحد وإن اختلف الإخبار عنه، فكملت فيه الشهادة، ووجب به الحد وهذا ما حكاه البندنيجي وغيره، وهو يوافق ما حكاه الإمام في كتاب الإقرار عن رواية صاحب ((التقريب)) عن نص الشافعي: أنه إذا شهد أحدهما على إقرار شخص بغصب دار يوم السبت، والتاريخ للإقرار لا للغصب، [وشهد آخر على إقراره بأن غصبها يوم الأحد، والتاريخ للإقرار لا للغصب] أنه يثبت الغصب.

ص: 274

لكن من الأصحاب من خرج في هذه المسألة قولًا من نص الشافعي في مسألة الطلاق السابقة، وجعل في ثبوت الغصب قولين.

قال الإمام: والقول المخرج هنا بعيد جدًا من طريق النقل، ولكن قد يتجه من طريق القياس.

وقضية هذا التخريج أن يطرد في مسألتي الكتاب.

وقد حكى ابن يونس أن الإصطخري حكاه وجهًا فيهما، وقال: أنه لا يثبت القذف.

والذي رأيته في ((الشامل)) في باب اللعان، وفي ((الحاوي)((تعليق)) أبي الطيب، [والبندنيجي] في باب الشهادة على الحد: أن الإصطخري حكى فيما لو شهد شاهد: أنه قال: القذف الذي كان مني كان بالعربية، وشهد الآخر: أنه قال: القذف الذي كان مني كان بالمعجمية- وجهين:

أحدهما: لا تتم الشهادة، لأنهما قذفان، وهذا ما اختاره القاضي أبو الطيب، وصححه البندنيجي.

والثاني: تتم. قال الماودري: ولا أجد له وجهًا.

قلت: ومن العجب قوله ذلك، وقد جزم في باب الشهادة على الجناية بأنه إذا شهد شاهدان على إقرار شخص بالقتل، فقال أحدهما: أقر عندي أنه قتله عشية، وقال الآخر: أقر عندي: أنه قتله غدوة، أو قال أحدهما: أقر عندي أنه قتله بسيف، وقال الآخر: أقر عندي أنه قتله بعصا، أو قال أحدهما: أقر عندي أنه قتله بالبصرة، وقال الآخر: أقر عندي أنه قتله بالكوفة- أن هذه الشهادة صحيحة لا تعارض فيها، ويثبت القتل، ثم إن كان كل واحد من الفعلين عمدًا يوجب القود، أقدناه، وإن كان كل واحد منهما خطأ، لزمته الدية في ماله، وإن كان أحدهما موجبًا للقود، والآخر خطأ، صار كما لو شهد أحدهما على إقراره بقتل العمد، وشهد الآخر على إقراره بقتل الخطأ، وقد مضى.

ولا يظهر لي فرق بين مسألة الإصطخري وهذه المسألة.

وقد قاس القاضي أبو الطيب الوجه بالتلفيق في مسألة الإصطخري على ما [لو] أقر عند أحد الشاهدين باللغة العجمية: أنه قذف، وعند الآخر باللغة

ص: 275

العربية: أنه قذف، كما صورت مسألة الكتاب، وهذا يدل على أنه لا خلاف عند الإصطخري فيها.

وابن الصاغ وجهه بأن أقر بالقذف، وقوله بعد هذا: بالعربية، أو بالعجمية فيه إسقاط لإقراره، فلا يلتفت إليه.

وقريب مما حكيناه عن [ابن] الصباغ وغيره- أو هو هو- ما حكاه القاضي الحسين والإمام في باب اللعان: أنه لو شهد شاهد: أنه أقر أنه قذف بالعربية، والآخر: أنه [أقر أنه] قذف بالعجمية- فالمراوزة يقولون: يلفق بينهما، لأن الأخبار يدخلها الصدق والكذب، فلعله كذب في أحد الإقرارين، وهذا ما حكاه في باب الإقرار، وذكر أن القاضي لم يحك عن الأصحاب غيره، ثم قال في كتاب اللعان: وقال العراقيون: لا يلفق بينهما، فإنه أخبر عن قذفين مختلفين. قال: وهذا أوفق، وأجرى على القياس المرعي، وأبدى هذا في باب الإقرار احتمالا للقاضي، ثم قال: والأمر على ما ذكره [القاضي]، وكان شيخي لا يحكي سواه، ويقطع به. وبه- أيضًا- جزم ابن الصباغ قبل حكايته ما نقله عن الإصطخري في فصل منفرد.

قال: وإن شهد أحدهما: أنه سرق كبشًا أبيض، وشهد الآخر: أنه سرق كبشًا أسود- لم يجب الحد، لأنهما لم يتفقا على سرقة واحدة، فلم يكمل النصاب.

وما ذكره الخصم من أنه يجوز أن يكون أحد جنبيه أبيض، والآخر أسود، فشهد كل واحد بما رآه- مندفع بأن الشهادة اقتضت وصف كله، لا وصف بعضه.

وهذا [اللفظ] الذي ذكره الشيخ هو المنصوص عليه، قال ابن الصباغ وغيره: ومن أصحابنا من يقول: إذا سرق كيسًا، وليس كذلك، لأن الشافعي قال في ((الأم)): لو شهد أحدهما: أنه سرق منه كبشًا أقرن، وقال الآخر: أجم. والحكم لا يختلف بالكيس والكبش.

ص: 276

قال: فإن حلف المسروق منه مع الشاهد، أي: الذي وقعت شهادته موافقة لدعواه، أو بالحق في زعمه- قضي له، أي: بالغرم، لأنه ثبت بالشاهد واليمين.

[ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في استحقاقه الغرم باليمين مع الشاهد] في هذه الصورة بين أن يكون الشاهدان قد أطلقا السرقة، أو أضافاها إلى وقت واحد، فقال أحدهما: أشهد أنه سرق له كبشًا أبيض مع طلوع الشمس في يوم كذا، وقال الآخر: أشهد أنه سرق له كبسًا أسود مع طلوع الشمس من ذلك اليوم. وهو قول الشيخ أبي حامد، لأن الماوردي جزم القول بذلك في حالة إطلاق الشهادتين، وقال: لأن الغرم يثبت بالشاهد واليمين، ولا تعارض، لأنه يجوز أن يكون قد سرق منه كبشين بالصفتين.

وحكى في حالة إضافة السرقتين إلى وقت واحد وجهين في استحقاق الغرم، بناء على [أن] التعارض يقع بين شاهد وشاهد في الصورة التي ذكرناها، كما يقع فيما لو شهد [على] كل سرقة اثنان، أو لا يقع، لأنه إنما يكون في البينة الكاملة، وبالشاهد الواحد لا تكمل البينة؟ وفيه اختلاف بين الأصحاب:

فإن قلنا بالثاني، وهو قول الشيخ أبي حامد، والذي ادعى أبو الطيب الإجماع عليه- ثبت له الغرم عند حلفه.

وإن قلنا بمقابله: فلا، لأن الشهادة سقطت، فصار كما لو لم تكن له بينة.

قلت: وقد يستشهد بهذا الاختلاف بالقولين المذكورين فيما إذا شهد شاهد أنه قتل فلانًا بالسيف، وشهد آخر أنه قتله بالعصا- هل يكون ذلك لوثا أم لا؟ فإن لم يجعل ذلك لوثًا، جعل شهادة أحدهما معارضة للأخرى، فأسقطهما، ومن جعله لوثا، لم يثبت المعارضة.

قال الماوردي: والوجهان يجريان فيما لو شهد شاهد: أنه سرق منه كيسا أبيض في أول النهار، وشهد آخر أنه سرق ذلك الكيس في آخر النهار، فإن قلنا بالتعارض [صار] كما لو لم تقم له بينة، وإن قلنا بقول أبي حامد، حلف

ص: 277

[مع أي] الشاهدين، واستحق كيسا واحدًا، ولم يحك خلافًا فيما إذا شهد اثنان: أنه سرق كيسًا أبيض، وشخص آخر: أنه سرق كيسا أسود، وأطلقا الشهادة- أنه يحكم له بالشهادتين، وأنه المسروق كيسان، وبمثل هذا قال فيما اتحدت الصفة، واختلف الزمان، فقال اثنان: نشهد أنه سرق منه كيسا أبيض في أول النهار، وآخران: نشهد أنه سرق منها كيسا أبيض في آخر النهار.

نعم، لو أضافا السرقة في الصورة الأولى [إلى] زمان بعينه، وفي الصورة الثانية إلى كيس بعينه، حكم بإسقاط الشهادتين، ولم تثبت السرقة بواحد منهما.

قال: وإن شهد شاهدان أنه سرق ثوبًا قيمته عشرة [دراهم]، وشهد آخران أن قيمته عشرون، لزمه أقل القيمتين، لأن المقل ربما عرف عيبا به غفل عنه المكثر، فكان الرجوع إليه أولى.

وأيضًا: فإن الأصل هو السلامة، والمقل ناقل عن الأصل، والمكثر مبقٍ عليه، والناقل أولى من المبقي.

وقال الإمام في باب الشهادة على الحد: إن هذا الحكم فيما لو اتفقوا على الصفات، وصرحوا بأنه لم يستقل واحد بمعرفة صفة لم يدركها الآخر، وردوا النزاع إلى القيمة نفسها، فلا يجب عندنا إلا الأقل، حملا على براءة الذمة.

وهكذا الحكم فيما لو شهد شاهدان أنه سرق ما قيمته ربع دينار، وآخران أنه سرق ما قيمته سدس دينار فيرجع إلى الأقل في الغرم والقطع، بخلاف ما لو شهد اثنان أنه سرق قطعة ذهب وزنها ربع دينار، وآخران أنه سرقها وزنتها سدس دينار، فإنه يثبت الأكثر.

قال في ((التهذيب)) - تبعًا للقاضي الحسين- بالاتفاق، لأن عند من شهد بالأكثر زيادة علم، بخلاف المسألة قبلها، لأن الاختلاف ثمة [في القيمة]، وهي بالاجتهاد.

ص: 278

ولو شهد شاهد أنه سرق ثوبًا قيمته ربع دينار، وآخران [أن] قيمته سدس دينار- لم يثبت القطع، ويثبت السدس، وهل له أن يحلف مع الشاهد بالزيادة، ليثبتها؟ فيه وجهان في ((الحاوي)) في باب الشهادة على الحد، وحكاهما الإمام عن صاحب ((التقريب)) في آخر باب الشهادة على الوصية:

أحدهما: نعم، كما لو شهد له شاهد بألف، وآخر بألفين.

والثاني: لا، لأنه لا تعارض [ثم]، والتعارض هاهنا حاصل.

قلت: وهذا الخلاف مفرع على أن القيمة تثبت بالشهادة والمرأتين، والشاهد واليمين، كما حكاه الزبيلي عن أبي إسحاق المروزي، ورجحه.

أما إذا قلنا: إنها لا تثبت بالشاهد والمرأتين، والشاهد واليمين- كما حكاه أيضًا عن ابن هريرة- فلا حلف جزما.

ثم أعلم أن الأصحاب اختلفوا في قيمة العين، هل هي وصف قائم بها، أو هي ما ينتهي إلى رغبات الراغبين؟ والأظهر: الثاني.

قال ابن أبي الدم: وهذا الخلاف يقرب بعض القرب من الخلاف في أن الملاحة هل هي [صفة قائمة] بالذات، وجنس يعرف بنفسه، أو هي مختلفة باختلاف ميل الطباع؟

فروع:

أحدها: إذا شهد شاهد أنه غصب منه هذه العين، وشهد آخر أنه أقر بالغصب، أو شهد أحدهما أنها ملك للمدعي، والآخر أن المدعى عليه أقر له بالملك، أو شهد أحدهما أنه طلق زوجته، والآخر أنه أقر بطلاقها، أو أحدهما أنه قبل عقد نكاح فلانة، والآخر أنه أقر بقبول نكاحها- لم يلفق بين الشهادتين.

وضابط ذلك: أن يشهد أحدهما بعقد أو إنشاء، والآخر بإقرار، وإنما يلفق إذا اتفقا على ذكر عقد أو إقرار.

وفي ((النهاية)) في كتاب الإقرار في الصورة الثانية حكاية وجه: أنها تلفق، وهو بعيد، وإن صح فيظهر طرده في مسألة الغصب.

ص: 279

الفرع الثاني: إذا ادعى ألفا، فشهد له شاهد على المقر بأنها عليه، وشهد له آخر أن [له عليه] ألفا قد قضاه- سقطت شهادة الثاني، للتناقض، وله أن يحلف مع الأول، ويستحق الألف، حكاه الإمام عن صاحب ((التلخيص)).

قلت: ويجيء في المسألة وجه آخر، لأن في ((البحر)) قبل باب الشهادة على الوصية: أنه لو شهد شاهدان أن زيدا وكل عمرا في كذا، ولكن يعلم رجوعه عن وكالته- قال الصيمري فيه جوابان:

أحدهما: لا تسمع الشهادة.

والثاني: نسمعها بالوكالة، فإن ادعى مدعٍ الرجوع حينئذ، [لم] تسمع شهادتهم.

وحكى الإمام: أنه لو شهد أحدهما أنه أقر بألف له، وقال الثاني: أقر له بألف، لكنه قضاه- فوجهان ذكرهما الصيدلاني وغيره.

أحدهما: أن الحكم كذلك.

والثاني: أن الألف تثبت بالشاهدين، فإن أراد الخصم أن يسقط الألف عن نفسه، فليحلف مع الشاهد بالقضاء.

ولو ادعى ألفًا، فشهد له شاهد أنه أقر بألف، وآخر أنه أقر بألف، ولكن قضاه خمسمائة، والمدعي ينكر القبض- ففي ((الإبانة)) وجهان:

المذهب منهما في ((تعليق)) القاضي الحسين: ثبوت خمسمائة، كما لو شهد أحدهما بألف، والثاني بألف إلا خمسمائة.

والثاني: لا يثبت شيء، لأنهما لم يتفقا على ما يدعيه المدعي، قاله في الرجوع عن الشهادة.

لو شهد شاهدان على شخص أن عليه ألفا، ثم قال أحدهما قبل الحكم: قد قضى الألف بعد شهادتي- فهل يقضي القاضي بثبوت الألف؟ فيه وجهان مرتبان على الوجهين في الفرع الثاني، وهنا أولى بثبوته.

الفرع الثالث: إذا شهد له شاهد على إقراره بألف من ثمن مبيع، وآخر على إقراره بألف عن قرض- قال الإمام: حكى القاضي أن الألف تثبت، وتلفق الشهادتان، لأنهما اتفاق على الألف والإقرار، وإنما اختلفا في جهته.

ص: 280

قال الإمام: وهذا عندنا هفوة، لأن المقر به متعدد مختلف، الدليل عليه أنه لو شهد على [كل] إقراره بألف منسوب إلى جهة شاهدان، ليثبت الألفان- فالوجه القطع بأنه لا يثبت شيء، ولا سبيل إلى تلفيق هاتين الشهادتين.

نعم: لو ادعى ألفا مطلقًا، فشهد شاهد بألف مطلق، وآخر بألف من جهة قرض مثلًا، هل تلفق الشهادتان؟ فيه خلاف، والأظهر: أنها تلفق، ويثبت الألف.

قلت: وما أجاب به القاضي يظهر أن يكون مأخذه أن اختلاف الجهة لا يمنع من المطالبة، كما هو الصحيح، وقد حكاه الإمام في كتاب الإقرار عن الأكثرين، والله أعلم.

قال: وإن شهدا شاهدان على رجلين أنهما قتلا فلانا، وشهد الآخران على الشاهدين أنهما قتلاه، رجع إلى الولي.

الكلام في هذه المسألة يحتاج إن يتقدمه تصويرها، وقد اختلف الأصحاب في صورتها على أوجه:

أحدها: أنها مصورة بما إذا وكل وكيلين في إثبات الدم، وأقام كل [واحد] من الشاهدين اللذين شهدا أولا وآخرًا شهادته بطلب وكيل بعد تحرير الدعوى. وهذا ما حكي عن صاحب التقريب، وعن أبي يعقوب الأبيوردي، وهو مفرع على الصحيح في أن شهادة الحسبة لا تسمع في حقوق الآدميين مطلقًا، ومفرع على أن [التوكيل في الخصومة] من غير تعيين الخصم صحيح، وإلا فقد حكى القاضي الحسين فيما إذا وكل في الدم، ولم يعين المدعى عليه في صحة التوكيل وجهين، وحكاهما في ((التهذيب)) فيما إذا قال للوكيل: ناد على اثنين من هؤلاء الجماعة فادع عليهما، واطلب ثأري منهما، وقال هو والقاضي: إن عمل الحكام والقضاة على الصحة.

الثاني: أنها مصورة بما إذا ادعى الولي على الآخرين القتل، واستشهد بالأولين، فشهدا، ووقعت شهادة الأولين حسبة، وقلنا: لا تسمع شهادة الحسبة في حقوق الآدميين.

وسؤال الولي إنما كان لأن شهادة الآخرين أورثت شبهة فاحتاط لأجلها

ص: 281

بالسؤال، وهذا ما اقتضى إيراد القاضي أبي الطيب ترجيحه، وهو الذي ذكره الإمام، بناء على الصحيح في أن شهادة الحسبة لا تقبل في حقوق الآدميين.

الثالث: أنها مصورة بما إذا شهدوا حسبة من غير تقدم [دعوى]، سواء علم الولي بالقتل والشهادة أم لا، وهذا قول من يرى [قبول الشهادة بالحسبة في حقوق الآدميين مطلقًا، أو قول من يرى] سماعها في الدماء خاصة، لخطرها أو لكون [الحق] فيها للميت، لأن ديونه تقضى منها، وتنفذ وصاياه.

الرابع: أنها مصورة بما إذا لم يعلم ولي القتيل، أو علم به، ولم يعلم من يشهد له به، فشهد الشهود حسبة بالقتل، وهذا قول من يرى أن شهادة الحسبة بحق الآدمي تسمع في هذه الحالة كما تقدم، ويحكى هذا عن الماسرجسي، [و] عن الأستاذ أي طاهر.

الخامس: أنها مصورة بما إذا كان الولي- حالة الشهادة- لا يعبر عن نفسه، لكونه طفلًا أو مجنونًا، ثم بلغ وأفاق، وهذا قول من يرى سماع شهادة الحسبة لمن هذا حاله في الأموال وغيرها.

والوجه الثالث والرابع والخامس متفقون على التصوير بوقوع الشهادة حسبة وإن اختلفت الكيفية، وعلى ذلك جرى في ((الوسيط))، فقال: إذا سمعنا الشهادة في ذلك حسبة

وساق المسألة. فإذا تقرر ذلك كانت حكمة الرجوع إلى الولي [ظاهرة فيما إذا وقعت الشهادة حسبة، لأنه وإن سمعت فلا يحكم بها ما لم يطالب الولي] به، والمطالبة بدون إعلامه غير ممكنة.

وأيضًا: فإنه قد يكذبهما، فتبطل الشهادتان، وأما إذا وقعت على وفق الدعوى فستظهر ثمرته.

قال: فإن صدق الأولين، حكم بشهادتهما، لسلامتهما عن التهمة، وسقوط شهادة الآخرين، أما إذا وقعت الشهادة حسبة، فلأنهما صارا عدوين للأولين، [لكون الأولين] شهدا عليهما بالقتل، ولأنهما دافعان عهن أنفسهما القتل، فلا معارضة إذا.

ص: 282

قال الماوردي: لكن هل يلزم الحاكم أن يستعين الشهادة من الأولين بعد الدعوى؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا، لأنه لا يستفيد بها زيادة علم، وهذا ما أورده الإمام.

والثاني: نعم، ولا يجوز له أن يحكم بما تقدم من الشهادة، لأنه لا يجوز أن يكون الحكم سابقًا للدعوى.

وأما إذا كان الولي قد ادعى القتل على الآخرين فشهادتهما غير مقبولة، لما ذكرناه، ولتكذيبه لهما، فإنه بدعواه القتل عليهما نفى أن يكون غيرهما قتله.

قال: وإن كذب الأولين، وصدق الآخرين، أو صدق الجميع، أو كذب الجميع- سقطت الشهادتان.

ووجه ذلك إذا كذب الجميع ظاهر، وأما إذا صدق الجميع، فلأنه كذب كل واحدة من البينتين بتصديق الأخرى، لأن من شهدت بأن القاتل الآخران، اقتضت شهادتها أن لا قاتل له غيرهما، وكذلك من شهدت بأن القائل الأولان، اقتضيت شهادتها أن لا قاتل له غيرهما.

وأما إذا كذب الأولين، وصدق الآخرين، فلأنه بتكذيبه للأولين سقطت شهادتهما، وشهادة الآخرين غير مقبولة، [و] إن وقعت حسبة، لأنهما صارا عدوين للأولين، وهما بشهادتهما دافعان القتل عن أنفسهما، كذا قاله ابن الصباغ وغيره.

وفي ((الوسيط)) وراء ما ذكرناه أوجه فيما إذا وقعت الشهادة حسبة، وقبلناها:

أحدهما: رد الشهادتين من غير مراجعة الولي، إذ هما متكاذبتان، ولا ترجيح.

والثاني: أنه يراجع الولي، فأي البينتين صدقها، حكم بها، وبطلت الأخرى.

والفرق بين هذا وبين ما في الكتاب: أن الولي لو صدق الأخرى حكم على الأولين بالقتل على هذا الوجه، ولا كذلك ما حكيناه في الكتاب.

وهذان الوجهان نسبهما الإمام هكذا إلى رواية صاحب ((التقريب)).

والثالث: أنه يحكم بالشهادة الأولى، أي: من غير مراجعة، لأنها صحيحة، والثانية مردودة، لتهمة الدفع وللعداوة.

ص: 283

قال: ولكن إثبات العداوة بمجرد الشهادة ضعيف، وهو متبع في ذلك إمامه.

تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أمورًا:

أحدها: أن الساقط عند تصديق الآخرين الشهادة، ومفهومة: أن الحكم الدعوى مخالف لذلك، وقد قال الأصحاب: إن كانت شهادة الأولين وقعت بعد دعوى الولي أو وكيله، وقد عين له في التوكيل الدعوى على الآخرين، سقطت دعواه أيضًا، حتى لو أراد أن يقيم على قتل الأولين أجنبيين، لم تسمع شهادتهما، كما تسقط إذا صدق الجميع، أو كذب الجميع.

وإن وقعت حسبة، أو من وكيله، وقد أطلق الوكالة بالدم- لم تسقط، حتى لو أراد أن يقيم بينة على قتل الأولين له سمعت.

الثاني: أن المسألة مصورة بما إذا وقعت شهادة الآخرين عقيب شهادة الأولين، لأن وضع الفاء يقتضي الترتيب والتعقيب، وهذا ما ذكره الشافعي، فإنه قال في ((المختصر)): لو شهدا على رجلين أنهما قتلاه، وشهد الآخران على الشاهدين الأولين أنهما قتلاه، وكانت شاهدتهما في مقام واحد- فإن صدقهم ولي الدم معا بطلت الشهادة، وعلى ذلك جرى الأصحاب كافة في التصوير.

وقال القاضي السحين: لو تأخرت شهادة الآخرين عن ذلك المقام، لم يحتج إلى مراجعة، لأن الحاكم لا يصغي لسماع قولهما، بخلاف ما إذا كانا في ذلك المجلس، فإنه يصغي إليهما، لأنه في فصل خصومتهما، فإذا ابتدرا إلى كلمة الشهادة على الشاهدين، صارت مسموعة للحاكم لا محالة، وهذا مقو لتصوير المسألة بالصورة التي حكيناها عن الإمام وغيره.

ولو وقعت شهادة بعضهم على بعض، ولم يتقدم أحدهما على الآخر- الماوردي: فكلتا الشهادتين باطلة، لا يحكم بواحدة منهما، ولا يرجع فيها إلى دعوى الولي، لتعارض الشهادتين في التدافع بها، ويظهر مجيء الوجه المنقول عن رواية صاحب ((التقريب)) هنا في أنه يرجع إلى تصديق الولي.

الثالث: أن الولي لو كان صغيرًا، أو مجنونًا حالة الشهادة لا يحكم على الآخرين بالقتل في الحال، بل ينتظر البلوغ والإفاقة، لتحصل المراجعة، وهو أحد الوجهين في الحاوي، لتردد الشهادة بين إيجاب وإسقاط، فلم يحكم بأحدهما مع احتمالهما.

وعن أبي إسحاق أنه يحكم عليهما في الحال بالقتل بشهادة الأولين.

ص: 284

فرع: لو كانت الدعوى من وكيل الولي على الآخرين، روجع، فإن صدق الأولين حكم بشهادتهما، وإن صدق الآخرين، وكذب الأولين، أو صدق الجميع، أو كذب الجميع- انعزل، ولا تبطل دعوى الموكل عن الآخرين، وهل تسقط عن الأولين؟ تقدم الكلام فيها، وقد ذكر الأصحاب هاهنا صورتين:

إحداهما: أن يشهد اثنان بالقتل على رجلين، فيشهدان على رجل غير الشاهدين بالقتل، أو على رجلين غيرهما.

والثانية: أن يشهد اثنان على رجل بالقتل، فيشهد أجنبيان على الشاهدين بالقتل.

والحكم فيهما مأخذه مما ذكرناه في مسألة الكتاب للمتأمل، فلا حاجة [بنا] إلى التطويل فيه، والله أعلم.

قال: وإن شهدوا بحق، ثم رجعوا عن الشهادة- فإن كان قبل الحكم، لم يحكم، لأن احتمال كذبهم في الرجوع مساو لاحتمال كذبهم في الشهادة، ولا يجوز الحكم مع الشك في صدق الشاهد فيما شهد به، كما لو جهل العدالة.

وأيضًا: فإن الكذب ملازم لقولهم: إما في الشهادة، أو الرجوع، والحكم بشهادة الكذاب ممتنع.

وعن أبي ثور: أنه يجوز أن يحكم، بناء على مذهبه في أن الفسق إذا طرأ قبل الحكم لا يمنع منه.

ولا نزاع عندنا في أنه يمنع، وكذا لو طرأت عداوة بين [الشهود، والمشهود عليه] أو وارثه، كما إذا شهد الأخ لأخيه بجراحة قبل الاندمال، وللمجروح ولد، فمات الولد، ثم الوالد قبل الحكم.

نعم لو طرأ على الشهادة قبل الحكم موت أو جنون أو [إغماء أو عمى] لم يمنع من الحكم.

ثم الراجعون عن الشهادة إن قالوا: تعمدنا الشهادة مع علمنا ببطلانها، فسقوا، وعزروا.

وإن قالوا: سهونا فيها، كان ذلك [قدحا] في حفظهم، لا في عدالتهم،

ص: 285

ووجب التوقف عن شهادتهم إلا ما تحققوه وأحاطوا علما به.

وإن قالوا: لم يقع ذلك عمدا ولا سهوا، ولكن لشبهة اعترضنا- ومثلها يجوز على أهل العدالة واليقظة- فهم على عدالتهم وضبطهم، لا يقدح ذلك في واحد منهما، وتقبل شهادتهم من غير ما رجعوا عنه، وأما ما رجعوا عنه لا فلا تقبل شهادتهم به وإن أعادوها بحال.

نعم قال الأصحاب: لو قال الشهود للحاكم بعد الشهادة وقبل الحكم: توقف، ولا تحكم، فلا يسوغ له الحكم، فلو قالوا له بعد ذلك: احكم بها، فإنا قد تيقنا السبب- ففيه وجهان في ((البحر))، وغيره، وفي ((تعليق)) القاضي الحسين حكايتهما قولين:

أحدهما: لا [نمضيها]، كما قالوا: غلطنا.

والثاني: نمضيها، وبه أجاب أحد الأصحاب والإمام، لكن هل يحتاج إلى إعادة تلك الشهادة؟ فيه وجهان في ((الوسيط)).

قال: وإن كان بعد الحكم، أي: وقبل استيفاء المحكوم به، فإن كان [في حد]، أي: لله تعالى، أو للآدمي: كحد القذف، أو قصاص- لم يستوف، لأنهما يسقطان بالشبهة، ورجوع الشهود يوجب شبهة.

فإن قيل: أليس قلتم: لو فسق الشهود في القصاص بعد الحكم وقبل الاستيفاء يستوفى على أحد الوجهين، فما الفرق؟

قيل: قد قال به بعض الأصحاب هنا، وطرده بعضهم في حد الله تعالى وحد الآدمي.

ومنهم من لم يطرده في حد الله تعالى، وادعى أنه المنصوص، كما حكاه في ((البحر))، وعلى هذا فلا فرق.

وعلى الأول، وهو الصحيح في ((البحر)) وغيره، وبه جزم ابن الصباغ والبندنيجي مع حكاية الخلاف في حالة الفسق قبل الحكم- فالفرق: أن الرجوع أقوى شبهة من الفسق، لأنهما يقران بأن شهادتهما زور، والفسق يورث شبهة في الشهادة مع إقامتهما عليها، فافترقا.

وفي ((الحاوي)): أن القصاص لا يستوفى، لأنه يرجع فيه بعد السقوط إلى بدل

ص: 286

لا يسقط بالشبهة، وحد القذف هل يستوفى؟ فيه وجهان.

قال: وإن كان في مال، أو عقد- أي من نكاح، وطلاق، وغيرهما- استوفي على المذهب، لأنه حكم نافذ بالاجتهاد فيما لا يسقط بالشبهة، فلا ينقض بالاجتهاد.

وقيل: لا يستوفى، لأن الحكم قبل الاستيفاء غير مستقر، فأشبه ما قبل الحكم.

قال: ومتى رجع شهود المال بعد الحكم، لزمهم الضمان في أصح القولين، لأنهم حالوا بينه وبين ماله بغير حق، فأشبه ما لو غصب عبدًا، فأبق من يده.

والشيخ في تصحيح هذا القول متبع للقاضي أبي الطيب، فإنه قال في ((شرح الفروع)): إنه الصحيح عندي.

ولا يلزمهم في الآخر، لأن العين إنما تضمن باليد أو الإتلاف، وهما معدومان هاهنا.

ولأن المشهود عليه لم ييأس من رد ماله، فإن من حكم له بالمال لو اعترف بأنه له رد عليه، وذلك يوضح أن الفوات غير محقق، وهذا ما ادعى الفوراني والإمام أنه الجديد، وصححه النواوي، وهذان القولان قد حكاهما أبو حامد وغيره منصوصين، كما قاله في ((البحر)).

والقاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وغيرهما قالوا: إن الذي نص عليه الشافعي هاهنا وفي غيره من الكتب: القول الثاني، فإنه قال: وإن كان في دار فأخرجت من يده إلى غيره، عزروا على [الشهادة بالزور] إن تعمدوها، ولا يعاقبون إن أخطئوا، ولم يتعمدوا، ولا يغرمون قيمة الدار.

ونص فيمن أقر بدار في يده: أنه غصبها من زيد، ثم قال: لا بل من عمرو- أنها تكون لزيد، وهل يغرم لعمرو أم لا؟ على قولين.

فاختلف الأصحاب- لأجل النصين- في المسألتين على طريقين: [إحداهما-

ص: 287

وبها] قال ابن سريج وطائفة، كما قال الماوردي-: أنهما يثبتان، وفي غرم الشهود إذا رجعوا قولان.

قال البندنيجي: وبهذا قال شيوخ أصحابنا.

ولفظ ابن الصباغ: أكثر أصحابنا.

ولم يحك الفوراني والإمام هنا غيرها، وهي التي صححها البغوي.

والثانية- وبها قال أكثرهم، كما قال الماوردي: أنه لا غرم هنا على الشهود قولا واحدًا، وإن كان في غرم المقر بالغصب قولان.

والفرق: أن للغاصب يدًا صار بها ضامنا، وليس للشهود يد يضمنون بها، فافترقا.

ولا فرق عند الأصحاب- كما قال في ((البحر))، وبه صرح الفوراني، والبغوي- بين الدين والعين فيما ذكرناه.

وفي ((الحاوي)): أن الطريقين في العين، أما الدين إذا وقع الرجوع عن الشهادة به بعد قضائه، فإن كان المقبوض تالفا فعلى الشهود غرمه، لتلف العين بالاستهلاك، ولا يجوز للشهود أن يدعوا به على المشهود له، لما سبق من اعترافهم له بالحق.

وإن كان باقيا في يد المشهود له، فقد اختلف أصحابنا: هل يكون في حكم العين، أو في حكم الدين المستهلك على وجهين.

وكذا لا فرق فيما ذكرناه من إيجاب الغرم بين أن يقول الشهود: تعمدنا الكذب أو أخطأنا، لأن ضمان الأموال لا يختلف بالعمد والخطأ.

ولا خلاف في أن المشهود عليه لو لم يؤد الدين لا يرجع على الشهود، وإنما يرجع عليهم بعد الغرم- قاله القاضي الحسين وغيره- لأن هذا ضمان حيلولة، بدليل أن المشهود له لو أقر للمشهود عليه بذلك رجع الشهود بما غرموه، ولا حيلولة قبل الغرم.

ثم اعلم أن على القول بالغرم فروعًا:

منها: القيمة بأي وقت تعتبر؟ فيه وجهان في ((الحاوي)) وغيره:

أحدهما: وقت الحكم، وهو قول ابن سريج.

ص: 288

والثاني: أكثر ما كانت من وقت الحكم إلى وقت الرجوع.

ومنها: إذا كان عبد بين اثنين، فشهد شاهدان على أحدهما بأنه أعتق نصيبه وهو موسر، [ثم رجعا]، غرما قيمة نصيب المشهود عليه بالعتق، وكذا قيمة ما حصلت فيه السراية على القول الذي عليه نفرع دون ما إذا قلنا بالقول الثاني، قاله في ((التهذيب))، و ((شرح الفروع)).

ومنها: إذا رجع شاهدا الأصل، فقالا: أشهدنا الفروع علينا غالطين في الشهادة- فالعزم عليهما دون الفروع.

ولو قالا: لم يشهد الفروع على شهادتنا، فلا غرم عليهما ولا على الفروع.

ولو قالا: علمنا أن شهود الفروع كذبة، غرما، بخلاف ما لو قالا: ما علمنا كذبهم ثم ظهر لنا، قاله القاضي الحسين، وسنذكر بقية الفروع من بعد إن شاء الله تعالى.

قال: وإن رجع شهود العتق، لزمهم الضمان، أي: بالقيمة، لا الثمن، لأنهم أتلفوا رقه عليه، فإن تداركه ممتنع شرعًا، فأشبه ما لو قتلوه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المشهود بعتقه قنا أو مدبرًا أو أم ولد، كما قاله الماوردي والبغوي وغيرهما.

قلت: وقد يقال: إن حكم أم الولد يخالف حكم القن فيما إذا مات السيد، فترد القيمة، كما قلنا فيما إذا غصبت، وأخذت قيمتها للحيلولة، فمات [كما صرح به الإمام آخر كتاب الدعاوى]، وعلى هذا إن صح يظهر أن يقال في المدبر إذا مات السيد: إنه ينظر:

فإن خرج من الثلث أو بعضه، استرد قدر ما خرج.

إن لم يخرج منه شيء، استقر ملك المشهود عليه على القيمة.

ولو شهدا عليه بكتابة عبد، ثم رجعوا، قال في ((الحاوي)): لا يغرمون في الحال شيئًا، ولكن ينظر:

فإن عجز، وعاد إلى الرق، فلا غرم أيضًا.

وإن أدى، وعتق، نظر فيما أداه من كتابته، فإن كان بقدر قيمته، ففي وجوب غرمها وجهان:

ص: 289

وجه الوجوب: أنه أداها من كسبه، والسيد يملكه أيضًا.

وإن كان ما أداه وعتق به أقل من قيمته، رجع السيد بالباقي من قيمته.

وفي الرجوع بقدر المؤدى الوجهان.

وقد أطلق في ((الشامل)) حكاية الوجهين، ثم قال: وينبغي أن يكون هذا إذا أدى وعتق، فأما قبل العتق فلا غرم.

ولو شهدوا بأن المكاتب أدى النجوم كلها، وحكم بعتقه، ثم رجعوا، غرموا أقل الأمرين من قيمته ومال كتابته، لأن القيمة إن كانت أقل فليس بأغلظ من العبد القن، فلم يلزمهم أكثر منها.

وإن كان مال الكتابة أقل، فليس على المكاتب أكثر منه، فلم يرجع بالزيادة [عليه]، قاله الماوردي.

وفي ((البحر)): أنه لو شهد اثنان: أنه أعتق هذا العبد على ضمان مائة، وقيمة العبد مائتان، فحكم الحاكم بشهادتهما، ثم رجعا، قال ابن الحداد: رجع على الشاهدين بتمام القيمة، وهذا ما قاله فيما إذا شهدا بالطلاق على ألف، ومهر مثلها ألفان: أنه يلزمهم ألف إذا رجعوا.

قال الرافعي: ويمكن أن يفرق بأن الألف هنا من كسب العبد، وأنه للسيد، بخلاف الزوجة.

فرع: لو شهدوا بوقف دار أو فرس، أو جعله الشاة أضحية، ثم رجعوا- قال ابن أبي أحمد: لزمهم في ذلك كله قيمته يوم شهدوا، لأن ذلك إتلاف، فهو بمنزلة العتق.

قال: وإن رجع شهود الطلاق- أي: الثلاث- بعد الحكم، فإن كان بعد الدخول، لزمهم مهر المثل للزوج، لأنهم أتلفوا البضع عليه، وبدله مهر المثل، دليله جواز الخلع، ولأن ملكه على البضع بعد الدخول أقوى من قبله، بدليل أنه لا ينفسخ النكاح بمجرد الردة، بل يوقف على انقضاء العدة، ولا كذلك قبله،

ص: 290

وقد وافق الخصم- وهو مالك، وأبو حنيفة- على أنه يرجع على الشهود قبل الدخول، فكذلك بعده.

قال الماوردي: والأولى عندي: أن ينظر:

فإن قدر الزوج على الاجتماع بها في الباطن، لا يرجع عليهم كي لا يجمع بين الاسبتاحة والرجوع، وإن لم يصل إلى الاستمتاع بها، لامتناعها عليه، تمسكا بظاهر التحريم، رجع، وفرع على هذا أنه لو شهد شاهدان بقذف امرأته، فلا عن الحاكم بينهما، ثم رجع الشاهدان، فاللعان في الظاهر على نفاذه في التحريم المؤبد، وأما في الباطن فيعتبر بحال الزوج.

فإن أمن من حد القذف حين لا عن، فالفرقة واقعة في الباطن، ولا رجوع على الشهود، لوقوع الفرقة بلعانه.

وإن خاف من حد القذف، لم تقع الفرقة في الباطن، ولا رجوع له على الشهود، إن أمكنته من نفسها، ويرجع عليهم إن منعته.

وما ذكره الشيخ في غرم مهر المثل هو المذهب، ووراءه قول آخر: أن المغروم المسمى، لأنه الذي فات على الزوج متقوما، والبضع ليس بمتقوم في الحقيقة، وقد حكينا مثله في الرضاع، ويشهد لهذا ما حكي عن القديم: أن المرأة لو كانت قد فوضت بضعها، وشهدوا بالطلاق قبل الفرض والمسيس- أن المغروم المتعة، وهو اختيار ابن الحداد.

وقال الأصحاب: إنه غلط.

قال: وإن كان قبل الدخول، ففيه قولان:

أحدهما: يلزمهم نصف مهر المثل، لأمرين:

أحدهما: أنه قدر ما ألزم، فإن النصف الثاني عاد إليه سليما، فصار كماك لو شهدا على المشتري بالإقالة، وقضى القاضي، ثم رجعا- لا يغرمان شيئا، لأنهما وإن فوتا عليه السلعة، ردا إليه الثمن.

والثاني: أنه قد رجع على الزوجة بنصفه، فلو رجع على الشهود بجميعه، لصار إليه مهر ونصف، وهو لا يستحق أكثر من المهر، وهذا ما نقله الربيع،

ص: 291

واختاره المزني، وبعضهم قطع به، عملًا بقول المزني الذي سنذكره من بعد.

والثاني: يلزمهم جميعه، لأمرين:

أحدهما: أنهم [قد حالوا] بينه وبين [ما له] من جميع البضع، فوجب أن يرجع بجميع مهرها، كما يرجع به بعد الدخول.

والثاني: أنه لما رجع بجميع المهر وإن استمتع بها، كان أولى أن يرجع بجميعه إذا لم يستمتع بها، وهذا ما نقله ابن القاص عن رواية حرملة، وصححه القاضي أبو الطيب، والبغوي، وتبعهم الرافعي، والنواوي، ونقله المزني أيضًا، ثم قال: وما رويته عن الشافعي أن الشهود إذا رجعوا قبل الدخول يجب عليهم جميع المهر- خطأ من غير الشافعي.

[قال أبو الطيب: قال أصحابنا: إن كان خطأ من غير الشافعي]، فهو من المزني، لأنه الذي نقله وعلى هذا ينظر:

فإن كان قد سلم الصداق إليها، لا يرجع به، لأنه لا يدعيه.

وإن لم يسقه إليها لم يلزمه إلا نصفه، وإن اعترف لها بجميعه لأجل متعة منها، وهذه الطريقة عليها الأكثرون، وهي المشهورة، كما قاله أبو الطيب وصححها البغوي.

وقد ادعى بعضهم أن القول الأول مخرج من نص الشافعي على أن الزوجة الكبيرة إذا أرضعت الصغيرة يجب عليها نصف مهر المثل، كما خرج من النص هنا على تغريم الشهود جميع مهر المثل إلى ثم قول مثله، وهي طريقة الإصطخري، وقد ذكرناها في كتاب الرضاع.

وعن أبي إسحاق كما قال الفوراني وغيره- المنع من تخريج ما نحن فيه على قولين، وحمل رواية من أوجب جميع المهر على ما إذا ساق الزوج إليها المهر، لأنه خرج عن يده جميع المهر، ولا يمكنه أن يطالب بشيء منه، لاعترافه بعدم الفرقة، فرجع عليهم بجميعه.

وحمل رواية من أوجب النصف على ما إذا كان قد ساق لها النصف، لأنه الذي تعذر عليه.

قال القاضي الحسين: وعلى هذا لو كان قد ساق إليها ثلاثة أرباعه، رجع بثلاثة أرباع.

ص: 292

قال الماوردي: وهذه الطريقة أولى عندي من تخريج القولين، لأن ما أمكن حمله على الاتفاق كان أولى من حمله على الاختلاف.

وقد حكى عن أبي إسحاق أنه أقر النصين: الذي هنا، والذي في الرضاع على ظاهرهما، ولم ير تخريج القولين فيهما، كما صار إليه الإصطخري، وفرق بأن هناك وجدت حقيقة الفرقة، والفرقة قبل الدخول توجب نصف الصداق، وهنا لم توجد الفرقة في الباطن، والمغروم للحيلولة، والحيلولة وقعت بينه وبين جميع البضع، فلذلك غرموا جميع المهر.

ووراء ما ذكرناه من القولين قولان:

أحدهما: [أن] المغروم نصف المسمى.

والثاني: جميع المسمى، كما حكيناهما في كتاب الرضاع.

أما إذا كان الطلاق دون الثلاث، فقد قال الماوردي وكذا [القاضي الحسين]: إنه ينظر:

فإن كان قبل الدخول، فالحكم كما تقدم، لأنها تبين بالواحدة كما تبين بالثلاث.

وإن كان بعده: فإن كان بغير عوض، نظر:

فإن كان قد يكمل به ما يملكه، كما إذا كان قد طلقها طلقتين وهو حر، فشهدوا بالثالثة، رجع عليهم.

قال الماودري: لكن في قدر ما يغرمون وجهان:

أحدهما: ما كانوا يغرمونه لو كانت الشهادة بالثلاث، لأنهم منعوه بها من جميع البضع، كالثلاث.

والثاني: ثلثه، لأنه ممنوع من بضعها بثلاث طلقات، اختص الشهود بواحدة منها، فكان ثلث المنع [منهم]، فوجب ثلث الغرم عليهم، وعلى هذا لو كان الزوج قد طلقها واحدة، وشهدوا عليه بطلقتين، لزمهم الثلثان.

قلت: ولم يظهر فرق بين هذه الصورة وبين ما إذا طلقها واحدة قبل الدخول، وقد جزم بأن حكمها حكم الثلاث.

ص: 293

قال: وإن لم يكمل بالطلاق المشهود به الثلاث، فإن كان رجعيًا فلا غرمٍ، لأن الزوج يقدر على استباحتها بالرجعة، وهذا ما أبداه القاضي الحسين احتمالًا في ((تعليقه))، ورواه عنه أبو الفرج السرخسي وجهًا، وابن كج نسبه إلى ابن أبي هريرة.

وفي ((الشامل)) و ((البحر)): أن بعض أصحابنا حكى في المسألة وجهين:

أحدهما: هذا.

والثاني: أنه كالبائن، لأنه يزيل الملك بانقضاء العدة. وهو ما قال القاضي الحسين: إنه الظاهر، أخذا من قول الشافعي في ((المختصر)): إنه يجب الغرامة، لأنهم حرموه عليه، والطلاق الرجعي عندنا يحرم، ولم يحك في ((التهذيب)) غير هذا، وقال هو والقاضي: إنه إن راجعها، استرد منه الغرم، وإلا استقر، سواء جدد نكاحها بعد انقضاء العدة أو لا.

وإن كان الطلاق بعوض، نظر:

فإن كانت شهادتهم على الزوجة لإنكارها عقد الخلع فلها الرجوع بما غرموها.

وإن كانت على الزوج، لإنكاره الطلاق، فهم قد ألزموه الطلاق في مقابلة بدل إن لم يستحقه بالخلع، استحقه لأجل الحيلولة، فينظر: فإن كان العوض قدر ما يغرمه الشهود في غير الخلع، لم يرجع على الشهود بشيء، وإن كان أقل رجع عليهم بالفاضل، كما لو شهدوا بشفعة في مبيع وانتزع من مشتريه بثمنه، ثم رجعوا، فإن الثمن إن كان قدر القيمة أو أكثر، فلا يرجع على الشهود بشيء، وإن كان أقل من القيمة ضمنوا فاضل القيمة، وعلى هذا ينطبق قول ابن الحداد: إنهم لو شهدوا: أنه طلقها على ألف، ومهر مثلها ألفان: أنهما يغرمان ألفًا، لأنه يأخذ ألفًا من المرأة.

وأطلق البغوي والرافعي القول بأن الشهود بالطلاق على العوض إذا رجعوا يغرمون، كما لو شهدوا بالطلاق الثلاث، وعليه ينطبق قول ابن كج: إن عليهم مهر المثل بعد الدخول، ونصفه قبل الدخول، كما لو لم يذكروا عوضًا، لأن ما جعل عوضًا إن قبضه محفوظ عنده للمرأة، لأنه لا يدعيه، وإنم لم يقبضه، فيقر

ص: 294

عند المرأة [إلى مدعيه].

ولا فرق في الرجوع على الشهود في هذه المسائل إذا رأيناه بين [أن يكون] الزوج قد دفع الصداق أم لا، كما قاله القاضي الحسين، ولا بين أن تكون المرأة قد فوضت بضعها، وطلقت قبل الفرض والمسيس أو لا على الجديد، وفي القديم ما ذكرناه، والذي أورده البغوي: الأول، واستشهد به على صحة القول بالرجوع بكل المهر، لأنه يجب على الشهود عند صاحب القول الأول في هذه الحالة نصف المهر، لأنه يجب على الشهود عند صاحب القول الأول في هذه الحالة نصف المهر، [وليس] يغرم الزوج إلا المتعة.

فرع: لو شهدوا على امرأة بالنكاح [ثم] رجعوا، قال في ((الشامل)) و ((البحر)): قال بعض أصحابنا: إن كان قبل الدخول، لم يجب عليهم شيء، وإن كان بعده غرموا ما نقص عن مهر المثل.

وقال ابن الصباغ: ينبغي إذا وقعت الشهادة قبل الدخول [ثم دخل]: أن يغرموا ما نقص، وهذا ما أطلقه ابن كج.

وفي ((تعليق)) القاضي الحسين و ((التهذيب)): أنهم لا يغرمون شيئًا، سواء فيه قبل الدخول وبعده، لأنهما لم يتلفا على واحد منهما شيئًا، بل الزوج هو الذي أتلف، ومنافع البضع غير مضمونة على الشهود، ألا ترى أنهم لو شهدوا له بأمة فوطئها، ثم رجعوا، يغرمون القيمة دون المهر؟!

ولو كانت الشهادة على الزوج بالنكاح، ثم رجعوا بعد الحكم، فهل يغرمون؟ فيه وجهان:

أصحهما: لا، لأنهم أثبتوا له حق النكاح، وأدخلوا البضع في ملكه في مقابلة ما ألزموه من المهر، فصار كما لو شهدوا عليه بأنه اشترى هذا العبد بكذا، ثم رجعوا لا يغرمون الثمن.

والثاني: أنهم يغرمون، لأنه لولا شهادتهم ما أخذ منه شيء مع إنكاره، وإذا

ص: 295

شهدوا يؤخذ منه نصف المهر، فكأنهم فوتوه عليه، ولا يحصل له- وهو منكر- في مقابلة ما فات شيء، بخلاف صورة الشراء، فإنه وإن كان منكرًا يحكم بدخول المبيع في ملكه، ويؤخذ منه الثمن.

قال الشيخ أبو علي: ويجوز أن يكون الوجهان مبنيين على أن شهود المال إذا رجعوا، هل يغرمون، لأن فائدة الشهادة هنا ترجع إلى المالك، فإن النكاح لا يبقى [أثره] مع إنكاره.

ولو ساعدتهم المرأة على الرجوع لأمرناها برد المال، فكانت الشهادة في الصورتين واقعة على ما يمكن تداركه.

قال الرافعي في كتاب النكاح: ويحسن أن يرتب فيقال: إن لم يغرم شهود المال، فهاهنا أولى، وإن غرم شهود المال فهاهنا وجهان، لإثباتهم لهم حقًا في مقابلة ما فوتوا.

ولو شهد شاهدان على رجل بنكاح امرأة بمهر مسمى ادعته، وآخران أنه أقر بالدخول بعد دعواها به، وآخران أنه طلقها، وحكم الحاكم بذلك، ثم رجعوا فحاصل ما ذكره الأصحاب في المسألة ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه لا غرم على واحد من الشهود:

أما شهود النكاح والإصابة، فلأنهم لم يفوتوا عليه شيئًا، ولا حالوا بينه وبين شيء.

وأما شاهدا الطلاق، فلأنه ينكر النكاح، ويقر بأنهما لم يفوتا عليه شيءًا بشهادتهما.

والثاني- وهو جواب ابن الحداد-: أنه لا غرم على شهود النكاح والإصابة، ويجب على شاهدي الطلاق نصف مهر المثل، لأن النكاح قد ثبت بحكم الحاكم، وبطل إنكاره، وهذا ذكره تفريعا على أن شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا لا يغرمون إلا نصف مثر المثل.

والثالث: أنه يغرم شاهدا النكاح، ولا يغرم شاهدا الطلاق، وهل يغرم شاهدا الإصابة؟

ص: 296

إن شهدا بعد الشهادة بالنكاح، غرما، ويكون المغروم ما غرمه الزوج بالسوية بين الصنفين.

وإن أطلقا الشهادة فلا شيء عليهما، ويجب على شاهدي النكاح نصف الغرم، والله أعلم.

قال: وإن رجع شهود القتل بعد القتل، أي: في حد لله تعالى، أو في قصاص، فإن تعمدوا- أي: قتله بشهادتهم- لزمهم القصاص، لما قدمناه في باب ما يجب به القصاص.

قال في ((البحر)): ولا يجب عليهم مع ذلك التعزير، لدخوله في القود.

قلت: وكذا في حد القذف إن كان المشهود به زنى.

قال: فلو عدل عن القصاص إلى الدية، فهل يعزر؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا، كالقصاص.

والثاني: نعم، لأن بالتعزيز تأديبًا يختص بالأبدان.

وهذا إذا كان المشهود [به] غير زنى، أما إذا كان زنى، فإن استوفى حد القذف فيظهر ألا يجب، لدخوله فيه، وإلا فعلى الخلاف فيما إذا وجب الحد، فعفا عنه.

قال: فإن أخطئوا لزمتهم الدية، لأن القاتل خطأ مباشرة هكذا حكمه، فكذلك بالسبب، ومعرفة خطئهم يستفاد من قوله: ظننا أن المشهود عليه هو فإذا هو غيره، وتكون مخمسة مؤجلة في مالهم، لأنها وجبت بالاعتراف، اللهم إلا أن تصدقهم العاقلة، [فتجب عليهم] كما قال القفال.

قال الإمام: وقد يرى الحاكم- والحالة هذه- تعزير الشهود، لتركهم التحفظ.

وفي ((تعليق)) القاضي بعد حكاية قول القفال: أنه فيه إشكالًا، لأن إيجاب الدية على عاقلة إنما يتعلق بالمباشرة.

وعن القاضي ابن كج حكاية عن أبي الحسن أن الشهود لو ادعوا على العاقلة عند إنكارهم العلم بخطئهم، وراموا تحليفهم- ليس لهم ذلك.

وقال القاضي ابن كج: ويحتمل عندي أن يقال: لهم تحليفهم، لأنهم لو أقروا لغرموا.

ص: 297

وقد أطلق العراقيون القول بأنها تجب على الشهود، كما ذكرنا.

وقال في ((البحر)): إن بعض أصحابنا بخراسان قال: تجب [مثلثة مؤجلة، لأنه لا يتصور فيه الخطأ المحض، لأنهم قصدوا عينه، وشهدوا] عليه، كما قاله البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين، فيكون عمد خطأ.

قال: وهذا خطأ، لأنه قصدوا عينه بالخطأ والغلط، وحكم الخطأ تخفيف الدية.

نعم، يجب كذلك إذا قالوا: تعمدنا الشهادة بالزور، لكنا قدرنا أنه لا تقبل شهادتنا، أي: وكانوا قريبي عهد بالإسلام، وأمكن خفاء مثل [ذلك] عليهم، كما قاله البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين، وهو من بعد.

أما إذا كان مثله لا يخفى عليهم، فالواجب القصاص، أو الدية المغلظة من كل وجه.

وقد حكى الإمام فيما إذا قال الشهود: تعمدنا الشهادة، ولم نعلم أنه تقبل شهادتنا، أي: وكانوا قريبي عهد بالإسلام، وأمكن خفاء مثل [ذلك] عليهم، كما قاله البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين، وهو من بعد.

أما إذا كان مثله لا يخفى عليهم، فالواجب القصاص، أو الدية المغلظة من كل وجه.

وقد حكى الإمام فيما إذا قال الشهود: تعمدنا الشهادة، ولم نعلم أنه تقبل شهادتنا- عن الأكثرين أن القود لا يجب، من غير تفصيل بين أن يكون حاله يشهد بصدقه، أم لا، وهكذا أطلق القاضي أبو الطيب، والفوراني- أيضًا- ثم قال الإمام: وفيه نظر، فإن من ضرب شخصًا، ومات، وكان ذلك [الشخص] مريضًا يقصد قتله بمثل ذلك الضرب، فقال الضارب: لم أحسبه مريضًا، ولو كان صحيحًا لكان الأغلب ألا يموت، فهل يجب القصاص والحالة هذه؟ فيه تردد مأخوذ من كلام الأصحاب لابد من مجيئه هنا.

قال الرافعي: وقد ذكر الروياني نحو ذلك، وقال: إنه سمعه من بعض أصحابنا في النظر.

قال الإمام: فإن قلنا بوجوب القصاص على الشهود في هذه الحالة، فلا كلام، وإن قلنا: لا قصاص عليهم، فقد نص الشافعي على أن الدية حالة من أموالهم.

وكذا قال الفوراني أيضًا، واختلف الأصحاب فيه:

فقال صاحب ((التقريب)): المسألة مصورة بما إذا كان قد مضى من وقت القتل ثلاث سنين.

وقال القفال: بل تجب عليهم حالة كيفما كان، كما نص عليه، لأنهم متعمدون، فيكون عمدا من كل وجه.

ص: 298

وقوله: إني لم أعلم، كقوله: رميته قصدًا، ولم أعلم أن السهم يبلغه.

قال: وهذه المسألة تقرب ممن قتل مسلما في دار الحرب على توهم أنه مشرك، ففي وجوب الدية قولان، فإن قلنا: تجب، ففي ماله أو على عاقلته؟ قولان.

فرع: لو قال بعضهم: تعمدنا الجميع الشهادة بالزور، [و] علمنا أنه يقتل، وقال البعض الآخر: بل أخطأنا- قال أبو الطيب، وابن الصباغ، والقاضي الحسين: من أقر بالعمد يجب عليه القصاص، ومن أقر بالخطأ يجب عليه حصته من الدية في ماله.

وحكى الرافعي وجها: أنه لا يجب على المقر بالعمد أيضًا القصاص، لأن قول الآخر في الخطأ مقبول، فيكون الأول شريكا خاطئاً.

والمشهور الأول. نعم، لو قال بعضهم: تعمدت أنا، وأخطأ أصحابي، وصدقه أصحابه- فلا قصاص عليه وعليهم، وعليه قسطه من الدية مغلظًا، وعلى أصحابه قسطهم منها مخففا في مالهم.

وإن كذبوه، وقالوا: تعمدنا- وجب عليهم القصاص، قاله ابن الصباغ، وهل يجب عليه؟ فيه وجهان، أضعفهما في ((البحر)): الوجوب، وهو المختار في ((المرشد))، وكذا الحكم فيما لو قال: تعمدت أنا، ولا أدري هل أخطأ أصحابي أو تعمدوا؟ وقال أصحابه: تعمدنا- يجب عليهم القصاص، وهل يجب عليه؟ فيه وجهان في ((الشامل)) وغيره، وأصحهما في ((البحر)) الوجوب، وبه جزم البغوي.

وكذا فيما إذا قال أصحابه: تعمدنا، ولا ندري حال الآخر.

و [لو] قال البعض: عمدت وأخطأ أصحابي، وقال أصحابه: عمدنا وأخطأ هو، ففي وجوب القود وجهان.

وقال في ((البحر)): أصحهما فيه: عدم الوجوب، وهو المختار في ((المرشد))، و ((الرافعي)).

ولو انعكس الحال، فقال البعض: أخطأت وتعمد أصحابي، وقال أصحابه:

ص: 299

أخطأنا وعمد هو- فلا قصا على الجميع جزمًا، قاله القاضي الحسين.

ولو قال البعض: عمدنا كلنا، وقال الباقون: عمدنا وأخطأ أولئك، فعلى الأول القصاص، وهل يجب على الباقين؟ فيه الخلاف.

وحكم الشهادة بما يوجب قطع الطرف حكم الشهادة بما يوجب القتل فيما ذكرناه، صرح به في ((الشامل)) وغيره.

[وهذا] فيما إذا رجع الشهود، فلو رجع القاضي دونهم، وقال: تعمدت، فعليه القصاص، أو الدية المغلظة بكمالها، وإن رجع القاضي والشهود دون الولي، فعليهم القصاص.

وإن قالوا أخطأنا، أو عفا عنهم، فالدية منصفة: نصفها على القاضي، والنصف على الشهود.

قال ((الرافعي)): هكذا أورد المسألة صاحب ((التهذيب)) وغيره، وقياسه: ألا يجب كمال الدية عن رجوع القاضي وحده، كما لو رجع بعض الشهود.

قلت: لو صح هذا القياس، لاقتضى ألا يجب على الشهود إذا انفردوا بالرجوع سوى النصف، بل سوى الثلث، لما ذكرنا في باب ما يجب به القصاص: أن الشهود، والقاضي، والولي إذا رجعوا يجب على القاضي الثلث، والولي الثلث، والشهود الثلث على الصحيح عند البغوي وغيره، بل لا يطالب الشهود [بشيء، بناء على أن الكل إذا رجعوا لا يجب على القاضي والشهود شيء، بل يختص بالغرم الولي، كما هو الصحيح عند الإمام.

ولاقتضى- أيضا- ألا يطالب القاضي في هذه الصورة] بشيء، بناء على الصحيح في أن النصاب إذا بقي بعد الرجوع لا يغرم الراجع شيئًا، كما ستعرفه، بل يوجبه إيجاب الأصحاب الغرم على القاضي والشهود عند رجوعهم: أنهم بمنزلة القاتلين اجتمعا على القتل، ولو انفرد أحدهما لانفرد بالغرم، ولا كذلك الشهود، فإنهم بمنزلة القاتل الواحد، والله أعلم.

قال: وإن شهد عليه أربعة بالزنى- أي: وهو محصن- فرجم، ثم رجع

ص: 300

أحدهم، وذكر أنه أخطأ في الشهادة، لزمه ربع الدية، لأن القتل ثبت بشهادتهم، فقسمت الدية عليهم، وهل يلزمه حد القذف؟ فيه قولان حكاهما القاضي أبو الطيب.

أحدهما: [لا، كما] لا يجب على الثلاثة الذين لم يرجعوا.

وعكس البندنيجي ذلك، فقال: يجب على الراجع الحد، وهل يجب على المصرين؟ فيه طريقان:

المنصوص: أنه لا حد عليهم، وهي طريقة المراوزة، كما قال الإمام: إنه يجب على الراجع دون المصرين.

ومن أصحابنا من قال: فيهم قولان، كما لو لم يشهد الرابع.

قال الإمام: وهذه بعيدة جدًا، ثم إن لم يكن بد منها، فيجب ذكرها إذا فرض الرجوع قبل نفاذ القضاء، أما إذا نفد الحكم، ورجع، فلا يجوز أن يكون في المصرين على الشهادة خلاف.

أما إذا ادعى أنه تعمد، وتعمد أصحابه قتله بشهادتهم، فيظهر أن يكون الحكم في حقه كما لو ادعى ذلك، وادعوا الخطأ في شهادتهم خاصة، لأن الإصرار على الشهادة لا ينتقص عن ذلك، بل أولى، وقد ذكرنا الحكم في ذلك وما يتعلق به.

ثم إذا وجب عليه القصاص- كما هو الصحيح في تلك المسألة- هل يرجم، أو يقتل بالسيف؟ فيه وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين، وحكاهما ((الرافعي)) في باب الرجوع عن الشهادة احتمالين لأبي الحسن العبادي، وأن الأظهر الأول.

ولو كان المشهود عليه بالزنى غير محصن، فجلد، ثم رجع أحدهم، نظر:

فإن مات من الضرب، فعليه ربع الدية في ماله، سواء قال: تعمدت، أو أخطأت، وحد القذف حكمه ما تقدم.

وإن لم يمت، فإن أثر الضرب فيه، وجب عليه ربع الأرش، والحد.

وإن لم يؤثر، فيجب عليه حد القذف، والتعزير، كما قال في ((الكافي)).

قال: وإن شهد ستة- أي: بالزنى- وهو محصن فرجع اثنان، فقد قيل: لا

ص: 301

يلزمهما شيء، أي سواء قالا: تعمدنا الجميع، أو أخطأنا، لأن البينة بعد رجوعهما تعد باقية على إباحة دمه، وسقوط ضمانه، فلم يلزم الراجعين شيء، كما لو قتلاه بعد أن ثبت زناه وإحصان بشهادة غيرهما، وهذا ما نسبه الماوردي وغيره إلى اختيار ابن سريج، وأبو الطيب، وابن الصباغ.

وغيرهم نسبوه إلى اختيار الإصطخري، وقالوا: إن الشافعي نص عليه في ((البويطي))، وهو الذي صححه في ((التهذيب))، و ((الكافي)) و ((المرشد)).

وقال القاضي الحسين والإمام والفوراني: إنه المشهور. وقال الإمام في أثناء كلامه في التفريغ: إنه الصحيح.

وقيل: يلزمهما ثلث الدية، لأن القتل حصل بشهادة المجموع، ولو يتعين له شخص دون شخص، يدل عليه أنهم لو رجعوا بأجمعهم، لوزعت الدية عليهم، وإذا كان كذلك فهما ثلث الجملة، فوجب عليهما ثلث الدية، وهذا ما اختاره [المزني] وأبو إسحاق وادعى الفوراني أنه منصوص عليه في ((البويطي))، وعلى هذا إن كان في صورة يجب فيها القصاص على الجميع لو رجعوا الكل- وجب على الراجعين أيضا دون ما إذا قلنا بالأول، صرح به القاضي الحسين في باب الرجوع عن الشهادة، وهذا الخلاف جارٍ في كل صورة شهد فيها أكثر من النصاب، فرجع منهم من لم ينقص النصاب به، سواء فيه ما لا يثبت إلا بشاهدين، وما يثبت بالشاهد واليمين، وهو الأموال، وما ثبت بشهادة النسوة: كالرضاع، ونحوه.

وعلى الوجه الثاني يجب على الراجع بالنسبة، صرح به الفوراني، وغيره.

وقد حكى القاضي الحسين عن القفال في مسألة الكتاب فيما إذا قال الراجعان: تعمدنا قتله بشهادتنا، وقلنا بالأول: إنه يحتمل أن يقال: يلزمهما القصاص، لأن حكم القصاص لا يختلف بكثرة الجناة وقلتهم، بخلاف الدية، لأنها متجزئة.

قال: والصحيح الأل، وبالغ في ((الكافي))، فقال: لا خلاف أنه لا قصاص عليه، يعني: وإن ثبت الخلاف في الغرم، وبه قال ابن الحداد، وقال: إنه يخالف ما لو شهدوا بالقتل، ثم رجع اثنان أو أكثر، وبقي النصاب، فإنه يجب

ص: 302

على الراجعين القود، لأنه تمام بينة القصاص، وبقاءها، لا يبيح لغير الولي القتل، وإذا كان كذلك أشبه ما لو ثبت القتل بشهادة غيرهما، [وقتلاه]، فإنه يجب عليهما القود.

فرع: لو رجع في صورة الكتاب ثلاثة، وجب على الراجعين ربع الدية على الوجه الأول، وعلى الثاني يجب عليهم النصف، وهو ما قال في ((الشامل)) و ((البحر)) هنا: إن الشافعي نص عليه في ((البويطي)).

وقال في ((الحاوي)): إنه الظاهر من منصوص ((البويطي)) عن الشافعي.

ومحل هذا الخلاف جار فيما لو شهد بالقتل ثلاثة، فرجع اثنان، فعلى الأول يجب عليهما النصف، وعلى الثاني: يجب عليهما الثلثان.

ولو رجع في مسألة الكتاب أربعة، فعلى الأول يجب عليهم النصف، وعلى الثاني الثلثان.

ولو رجع خمسة، وجب على الأول [عليهم]، النصف والربع، وعلى الثاني خمسة أسداس.

قال: وإن شهد أربعة بالزنى، واثنان بالإحصان- أي: فرجم- ثم رجعوا، فقد قيل: لا يلزم شهود الإحصان شيء، لأن الموجب لقتله فعله، ولم يشهدوا به، وإنما أثبتوا له صفة كمال، ألا ترى أنه لو شهد اثنان على شخص بأنه قذف فادعى أنه عبد، فشهد آخران أنه حر، فجلد ثمانين، فمات، ثم رجع الكل- لا شيء على شاهدي الحرية، وهذا ما حكاه الروياني تبعا للإمام قولا، وغيره حكاه وجها، وصححه في ((التهذيب)) و ((الكافي))، واختاره في ((المرشد))، والنواوي.

وقيل: يلزمهم، لأن القتل لم يستوف إلا بهم.

قال الماوردي: وهذا هو الظاهر، وقد حكاه أبو حامد في ((جامعه)) عن المزني، وقد حكاه الروياني والإمام قولا.

قال القاضي الحسين: وعندي في مسألة الاستشهاد بالحرية: أنه يجب عليهما أيضًا.

ص: 303

وقال الإمام في باب الرجوع عن الشهادة: إن على الوجهين يتخرج ما إذا شهد اثنان على ((تعليق)) العتق بدخول الدار، وشهد آخران على دخولها، ثم رجعوا بعد نفوذ القضاء، هل يغرم شهود الصفة شيئًا أم لا؟

وقد حكيت هذا من قبل.

وقيل: إن شهدوا بالإحصان قبل الزنى، أي: قبل الشهادة بالزنى، لم يلزمهم شيء، لأنهم لم يثبتوا إلا صفة كمال.

وإن شهدوا بعد الزنى، لزمهم، لأن الرجم لم يستوف إلا بهم، وهذا قول ابن أبي هريرة.

عن أي ثور: أنه لا يلزم الغرم إلا شهود الإحصان، وغلط فيه.

والوجهان الأولان في تغريم شهود الإحصان يجريان فيما لو رجعوا دون شهود الزنى، كما قاله الماوردي.

التفريع:

إن قلنا بعدم ضمان شاهدي الإحصان، فالدية على شهود الزنى أرباعًا عند رجوعهم، كما ذكره الشيخ.

وإن ضمناهما عند رجوع شهود الزنى، أو عدم رجوعهم- ففي قدر ما يلزمهم وجهان:

أحدهما: نصف الدية، لأن الرجم ثبت بنوعين، فكان كالضمان مقسطًا عليهما نصفين، فعلى هذا: يجب على كل من شاهدي الإحصان ربعها، وعلى كل واحد من شهود الزنى إذا رجعوا ثمنها.

والثاني: يجب عليهم ثلث الدية، وعلى شهود الزنى إذا رجعوا الثلثان، فيجب على كل واحد، سدس الدية، كما لو شهد ستة بالزنى، وهذا ما قال الماوردي: إنه الظاهر من رواية المزنى، وصححه في ((الكافي)).

قال القاضي الحسين: وهذا الخلاف نظير ما إذا أصدق الكافر زوجته خمرًا، أو خنازير، أو كلابًا، ثم أقبضها البعض في الشرك، ثم أسلما، فإنا على رأي: نوزع المقبوض على عدد [الأشهاد، وعلى رأي على عدد] الأنواع.

ص: 304

ولو كان الراجع شهود الزنى خاصة، فلا خلاف في ضمانهم، وفي قدر ما يضمنونه ثلاثة أوجه مبنية على الخلاف السابق: فإن قلنا: شهود الإحصان لا يغرمون، غرموا جميع الدية، وإن غرمناهما النصف، غرموا النصف، وإن غرمناهما الثلث، غرموا الثلثين.

ولو كان شهود الزنى خمسة، وشهود الإحصان كذلك، فإن قلنا: لا ضمان على شهود الإحصان، كانت الدية على شهود الزنى أخماسًا.

وإن قلنا: عليهم الضمان، فعلى الوجه الأول: يجب على كل [واحد] من شهود الزنى والإحصان عشر الدية.

وعلى الثاني: يجب على كل من شهود الإحصان ثلث خمس الدية، وعلى كل من شهود الزنى ثلثا خمسها.

فرع: لو شهد أربعة بالزنى، واثنان معهم بالإحصان، فرجم، ثم رجعوا، فإن قلنا: لا ضمان على شاهدي الإحصان في مسألة الكتاب، فكذلك هنا. وإن قلنا: عليهما الضمان، فهل يجب هاهنا؟ فيه وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين وغيره:

أحدهما: لا، لأن الرجوع عن الشهادة بمنزلة الجناية، فيصير كأن شاهدي الإحصان صدر من كل منهما جنايتان. والآخران صدر من كل منهما جناية واحدة، ولو كان كذلك، [لكان] الضمان عليهم بالسوية، فكذلك هاهنا.

وأظهرهما: أنه يجب على شاهدي الإحصان على وجه: نصف وربع الدية، وعلى وجه: ثلثا الدية، وعلى الآخرين على وجه ربع الدية، وعلى وجه: ثلثها.

ولو كان الراجع- والصورة هذه- أحد الشاهدين اللذين لم يشهدا بالإحصان، قال القاضي الحسين: فعليه ربع الدية على المذهب.

ومن أصحابنا من بنى ذلك على ما ذكرناه.

ولو كان شهود الزنى قد شهدوا بالإحصان، ثم رجع أحدهم عن الإحصان فقط- لا شيء عليه، على الأصح، [لأنه بقي بالإحصان ثلاثة، وكذا لو رجع آخر عن الإحصان فقط، لا شيء عليه على الأصح] ولو رجع ثالث عنه، فعليهم سدس الدية، أو ربعها.

ص: 305

قال: وإذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين. ثم بان أنهما كان عبدين، أو كافرين- نقض الحكم، لأنه تبين أنه حكم بما لا يجوز له الحكم به، فنقض، كما لو حكم [بحكم]، ثم وحد النص أو الإجماع أو القياس الجلي بخلافه.

وهكذا الحكم فيما إذا بان أنه حكم بشهادة والدين، أو مولودين، كما قاله أبو الطيب، أو امرأتين، أو صبيين، كما قاله في ((التهذيب)).

وظهور ذلك في أحد الشاهدين كظهوره فيهما.

فإن قيل: قد اختلف في جواز شهادة العبد، فأجازها شريح، والنخعي، وداود، وأحمد في رواية الإمام، والاختلاف فيها دليل على جواز الاجتهاد [فيها، ولا يجوز أن ينقض بالاجتهاد حكم نفذ بالاجتهاد]، كما هو أصلكم.

قيل: قد اختلف فيما لأجله ردت شهادة العبد على ثلاثة مذاهب:

أحدها: بظاهر نص لم يدفعه دليل، وهو قوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فصار كالدليل، وعلى هذا يكون الحكم بشهادته مخالفًا للنص، فكان مردودًا.

والثاني: أنها مردودة بقياس جلي غير محتمل، انعقد عليه إجماع الصحابة المتأخرين بعد شذوذ الخلاف من المتقدمين، فصار مردودًا بإجماع انعقد عن قياس جلي.

والثالث: أنها ردت باجتهاد ظاهر الشواهد، فلم يجز أن تمضي باجتهاد خفي الشواهد، لأن الأقوى أمضى من الأضعف، وإنما يتعارضان إذا تساويا في القوة والضعف، على أن الاجتهاد لم يكن في الحكم بشهادته، وإنما حكم، لأنه لا يعلم أنه عبد، ثم علم بعبوديته قطعًا، فوجب أن يقضي بعلمه على ما أشبه وأشكل.

فرع: هل يحتاج في نقض الحكم إلى حكم بالنقض من الحاكم، أم يتبين بذلك وقوعه باطلًا؟

قال الماوردي: أما إذا بانا كافرين، فلا يحتاج إليه، وإذا بانا عبدين، فوجهان مبنيان على الاختلاف في شهادة العبد، لماذا ردت هل بنص، أو إجماع [على ظاهر، أو اجتهاد ظاهر؟

ص: 306

فمن جعل دليل رده نصًا وإجماعًا] جعله باطلًا لا يفتقر إلى الحكم بنقضه، لكن على الحاكم أن يظهر بطلانه.

ومن جعل دليل رده قوة الاجتهاد في شواهده، جعله موقوفًا على الحكم بنقضه، وهو الظاهر من مذهب الشافعي، لأنه قال من بعد: ورد شهادة العبد إنما هو بتأويل.

وليس تحريق السجل نقضًا للحكم حتى ينقضه بالحكم قولًا، ويجب عليه أن يسجل بالنقض، كما أسجل بالحكم، ليكون السجل الثاني مبطلًا للسجل الأول، كما صار الثاني ناقضًا للحكم الأول، فإن لم يكن قد أسجل بالحكم لم يلزمه الإسجال بالنقض وإن كان الإسجال به أولى.

قال الماوردي: ولو كان ذلك في عقد نكاح عقد بشهادتهما، افتقر إلى حكم الحاكم بنقضه، لأن مالكًا يجيز عقد النكاح بغير شهود، إذا أعلن به.

قال في ((البحر)): ولا فرق في نقض الحكم الواقع بشهادة عبدين بين أن يكون الحاكم به يرى جوازه، أم لا، وهو مقتضى ما ذكره الشيخ من قبل.

قال: وإن بان أنهما [كانا] فاسقين عند الحكم- أي: فسقا ظاهرًا، غير مجتهد فيه، كما قاله القاضي الحسين- نقض الحكم في أصح القولين، لأنه إذا نقض في شهادة العبد، ولا نص في منع شهادته، وجواز روايته، ففي شهادة الفاسق مع أن رد شهادته ثابت بالنص، ولا تقبل روايته- أولى، وهذا ما نص عليه الشافعي في جميع كتبه.

ولا ينقض في الآخر، لأن فسقه ثبت بالاجتهاد، فإن عدالة البينة غير مقطوع بها، وإنما ثبت بالاجتهاد، فلا ينقض حكما ثبت في الظاهر بالاجتهاد، وهذا خرجه المزني مما حكاه من قول الشافعي: إن الحاكم إذا اطرد المشهود عليه جرح المشهود مدة اطراده فلم يأت بالجرح، فأمضى الحكم عليه بشهادتهما، ثم أتى بعد إمضاء الحكم عليه ببينة الجرح- لم يسمعها، وكان حكمه عليه ماضيا.

وقد وافقه ابن سريج على هذا التخريج أيضًا، وجعل في المسألة قولين:

ص: 307

وذهب أبو إسحاق المروزي، وجمهور أصحاب الشافعي- رحمه الله إلى المنع من تخريجه قولًا باتًا، وأجابوا عما نقله المزني من لفظ الشافعي: أنه لم ينقضه، لأن المحكومة عليه أقام بينة بفسق الشهود مطلقًا، ولم يشهدوا بفسق الشهود قبل الحكم، فلم ينقضه، لجواز حدوثه بعد نفوذ الحكم، فإنه لا ينقض لو كان كذلك وجهًا واحدًا، صرح به الماوردي، وأبو الطيب، وغيرهما.

قال في ((البحر)): وهذه الطريقة أصح، وما ذكره من التوجيه فلا يصح، لأنه لا يمتنع أن ينقض الحكم بشيء يتوصل إلى صحته بالاجتهاد إذا كان يرجع الأصل إلى القطع واليقين، ألا ترى أنه ينقض الحكم بنص خبر الواحد وإن كان التوصل إلى عدالة الراوي وصدقه فيما يرويه بالاجتهاد، وكذا إذا شهدوا برق الشهود وكفرهم ينقض الحكم وإن كانت عدالة الشهود إنما تثبت بالاجتهاد.

أما إذا كان الفسق مجتهدًا فيه، قال القاضي الحسين: فلا خلاف أنه لا ينقض.

ثم محل الخلاف كما ذكرنا عن الإمام في باب صفة القضاء: إذا كان المحكوم عليه حاضرًا، قادرًا على النطق بحجته، أما لو كان ممن لا يقدر على النطق بالحجة: كالصبي، والمجنون، والغائب- فإنه ينقض [الحكم] قولًا واحدًا، كما دل عليه قول الشيخ [ثم: فإذا بلغ الصبي، فهو على حجته.

وقد أفهم قول الشيخ]: وإن بان أنهما كان فاسقين عند الحكم، الاحتراز عما إذا بان أن فسقهما حدث بعد الحكم، وقد قال الماوردي في هذه الحالة: إنه ينظر:

فإن كان بعد استيفاء الحق، فلا يجوز النقض، سواء فيه حق الله تعالى وحق الآدمي.

وإن كان قبل الاستيفاء:

فإن كان الحق مالًا، أو في معنى المال فلا ينقض الحكم أيضًا، ويجب استيفاؤه.

وإن كان حدا لله تعالى سقط بحدوث الفسق، ولا يستوفى.

وإن كان حدًا لآدمي أو قصاص، ففي سقوطه وجهان.

فرع: هل يحتاج في نقض الحك بشهادة الفاسق إلى الحكم بها أم لا؟

ص: 308

قال الماوردي: نعم، حكى ذلك فيما [إذا] ثبت النكاح بشهادتهما، ثم ظهر فسقهما، وقال: إنه لا ينتقض بمجرد ظهور فسقهم.

قال: ومتى نقض الحكم، فإن كان المحكوم به إتلافًا: كالقتل، والقطع، أي: في حد أو غيره، كما قاله أبو الطيب- ضمنه الإمام، لأنه لا يمكنه الرجوع على الشهود، لأنهم يقولون شهدنا بالحق، ولا على المشهود له، لأنه يقول: استوفيت حقي، فأوجبناه على الحاكم، لأنه مفرط في الحكم بشهادة من لا يعلم أهليته للشهادة.

لكن في ماله أو في بيت المال؟ فيه الخلاف السابق، كذا أطلقه العراقيون، والماوردي، وظاهر النص في ((المختصر)) هنا، وفي حد الخمر: الأول.

وفي ((النهاية)) في باب حد الخمر: أنه ينظر:

إن تناهي في التقصير وترك ترتيب الخصومة والقيام بما هو مأمور به من البحث والتفتيش، فالضمان عليه قولًا واحدًا.

وأبدى ترددًا في وجوب القصاص مما قاله الأصحاب فيما إذا قتل مسلمًا في دار الإسلام على زي أهل الشرك، فإنه تجب ديته، وفي وجوب القصاص قولان.

قال: وقيام الشهادة وصورتها لا ينقص عن زي مشرك في دار الإسلام، وإن بحث عن أحوال الشهود، ولم يظهر منه تقصير في العادة، فهل يجب الضمان على عاقلته، أو في بيت المال؟ فيه الخلاف المشهور.

ولا فرق في ذلك بين أن يتقدم الحاكم بالاقتصاص إلى ولي الدم، أو إلى غيره.

وقال أبو سيعد الإصطخري: إن تقدم به الحاكم إلى ولي الدم، كان الضمان على الولي.

وإن تقدم به إلى غيره، كان الضمان على الحاكم.

قال الماوردي: وهو خطأ من وجهين.

أحدهما: أنه أخره في الحالين.

والثاني: أنه لما [لم] يضمنه مباشرة إذا كان غير ولى مع عدم استحقاقه، فأولى ألا يضمنه وليه مع جواز استحقاقه.

ص: 309

ثم إذا غرم الإمام، أو عاقلته، فهل لهم الرجوع على الشهود بشيء؟

الذي أطلقه العراقيون: أنه لا رجوع عليهم.

وقال الإمام وغيره: إنه ينظر:

فإن كان الغرم- لأجل كون الشاهدين عبدين، أو كافرين- ففي الرجوع عليهم وجهان، حكاهما البغوي أيضًا فيما لو بانا امرأتين:

الظاهر من المذهب منهما الرجوع لأنهم تعرضوا لمنصب [ليسوا من أهله، ونحن نقول: من ليس من أهل الشهادة، وعلم ذلك من نفسه، فليس] له أن يتعرض لإقامتها وإن كان صادقا.

وأشبه أصل بما نحن فيه الغرم الذي يثبت على الغرور في قيمة الولد مع ثبوت حق الرجوع على الغار، وأصل الشهادة أقوى في هذا المعنى، لأنها تحمل القاضي حمل اضطرار، والمغرور مستبيح لا ضرورة به.

والذي رواه بعض المحققين: أنه لا رجوع عليهم، لأن القاضي أتى من تقصير خفي في البحث، فارتبط الضمان بجهته وانحصر، وليس كالغار والمغرور، فإن الشرع لم يلزم المغرور البحث، بل جعل له الجريان على ظاهر الحال، وليس كذلك القاضي، [لأنه يلزمه] التناهي في البحث، فإذا وقع ذلك دل على ترك بعض البحث.

وإن كان الغرم لأجل كون الشهود فساقا، فالذي قال القاضي الحسين في باب حد الخمر: إنه لا يرجع عليهم قولًا واحدًا [و] قال في ((التهذيب)): إن كانوا فساقا سرًا، لا يرجع عليهم، وإن كانوا معلنين بالفسق، فوجهان.

وقد حكى القاضي الحسين هذا- أيضًا- قبيل باب الشهادة على الوصية.

وقال الإمام في باب حد الخمر: إن كان ما رآه القاضي فسقا مجتهدًا [فيه]، فلا رجوع عليهم قولًا واحدًا، فإنه مصر على شهادته، وعلى أنه من أهل الشهادة.

قلت: وفي هذا نظر، لأن الفسق المجتهد [فيه] لا ينقض القاضي الحكم به- كما حكيناه- فكيف يحسن هذا التفصيل، وإن كان ما فسق به مما يوجب

ص: 310

التفسيق وفاقًا، فهذا فيه احتمال يجوز أن يكون كما لو ظهروا كفارا، أو عبيدًا.

ويجوز ألا يرجع عليهم أصلًا- كما أطلقه الأصحاب- لأن الفاسق مأمور بكتمان فسقه، والعبد والكافر مأموران بإظهار حالهما.

ويجوز أن يقال: إن كان متعيرًا بالفسق، مكاتمًا له، فلا رجوع.

وإن كان معلنًا بالفسق، غير مبال به فهو كالرقيق، وهو يقرب مما إذا شهد المعلن بالفسق، فردت شهادته، ثم أعادها بعد توبته، هل تقبل؟

وقد أقام الغزالي هذه الاحتمالات وجوها.

وقد قال الإمام هاهنا بعد [أن أبدى] احتمالا في الرجوع عليهم: وهذا الذي ذكرناه احتمال، وليس بمذهب، والذي اتفق عليه الأصحاب: أنه لا رجوع على الفاسق.

التفريع:

إن قلنا بعدم الرجوع على من ذكرناه، فلا كلام.

وإن قلنا به، فلا شك [في] أن الكافر والفاسق يرجع عليه عند الغرم في الحال، وفي العبد وجهان في ((النهاية))، و ((تعليق)) القاضي:

أحدهما: يرجع عليه بعد العتق.

والثاني: يتعلق برقبته، لأن هذا غرم يلزم بغير رضا من له الحق.

قال الإمام: وهذا متجه، لكنه غريب، عديم النظير، من جهة أنه جناية قولية، ليس فيها اضطرار محقق، وإنما الأمر مظنون، وهذا أخذه من قول القاضي في الحدود: ولا تؤخذ جناية قولية يتعلق الأرش فيها برقبته إلا هذه.

ولو بان كون الشهود مراهقين، وقد يفرض التباس ذلك بأحوال تعرض من بقول الوجه، وطول القامة، وغيرها من الصفات.

قال الإمام في باب حد الخمر: لم يتعرض الأصحاب لهذه الصورة، والمفهوم من فحوى كلامهم أن لا رجوع، إذ لا قول لهم، بخلاف الكفار

ص: 311

والعبيد، وهذا ما ادعى القاضي الحسين هنا: أنه ظاهر المذهب، والأصح.

وقال الإمام هنا: إنه الذي قطع به الأصحاب في الطرق.

ثم قال القاضي هنا، وفي باب حد الخمر: ويحتمل أن يقال: يتعلق الضمان بهم إذا علقنا الضمان برقبة العبد، لأننا نجعه كالجناية الحسية، والمراهق يلزمه الضمان بالفعل.

وقد حكى الإمام هنا عن شيخه رواية خلاف في المسألة، ثم قال: وهذا لا أعتد به.

فرع: هل يجب على المزكيين الغرم، وتتوجه مطالبة المستحق عليهم؟

قال القاضي الحسين في اكتساب الحدود: إن كان الرد لأجل الفسق، فلا، لأنه مجتهد فيه، وإن كان لأجل الرق والكفر، فنعم.

وقال: إنه حكي عن أبي ثور أنه قال: سألت أبا عبد الله عن هذه المسألة، فقال: الدية على العاقلة، وعلى المزكيين التعزير. وأن القفال قال: أما التعزير، فإنما يجب إذا تعمدا، أما إذا قالا: أخطأنا فلا، وأما الضمان فواجب سواء تعمدا أو أخطأ.

وقال هاهنا: إنه هل يجب عليهم الغرم، أم لا؟ فذكرنا فيه وجهين، سواء تعمدوا أو أخطئوا، فإن قلنا: يجب فيجب عليهم النصف، وعلى القاضي النصف.

والمذكور منهما في ((التهذيب)): عدم الوجوب، وهو ظاهر النص في ((المختصر)).

وقال في ((البحر)): إن القاضي أبا الطيب ذكر في كتاب الحدود عن القاضي أبي حامد: أنه ذكر أن القاضي يرجع بما غرم على المزكيين، لأن شهادتهم هي السبب في الضمان، فيستقر عليهم، قال الروياني: وهذا أصح عندي.

قال: وإن كان مالًا، فإن كان باقيًا، رده إلى المحكوم عليه، لظهور بقاء ملكه أو يده.

قال في ((الحاوي)): لكن بعد يمينه على إنكاره.

وهكذا حكم الأجرة إن كان لمثله أجرة، كالدار.

فإن طلب المشهود عليه إعادة الدار إلى يده، ليحلف بعد ردها إليه، وجب

ص: 312

على الحاكم أن يرفع عنها يد المشهود له، لبطلان بينته، ولا يأمر بردها على المشهود عليه، لأن أمره حكم له بالاستحقاق، ولا يمنعه منها، لأن منعه منها حكم عليه بإبطال الاستحقاق، ويخلى بينه وبينها من غير حكم بات.

وفي ((تعليق)) القاضي الحسين فيما إذا نقضه لأجل فسق الشهود: أن المراوزة قالوا: لا تنزع العين من يد المشهود له، والغرامة تجب على القاضي في ماله، أو في بيت المال؟ ثم بعدما غرم هل يرجع على الشهود؟ فيه ما ذكرناه.

قال: وإن كان تالفًا، ضمنه المحكوم له، أي: ولا يضمنه الحاكم، كما قاله أبو الطيب، لأنه حصل في يده بغير استحقاق، والمال يضمن باليد وإن لم تكن متعدية، [دليله العارية]، وبهذا فارق ما لو كان المحكوم به قتلا، أو قطعا، ونحوهما، حيث لا يطالب المشهود له بضمانه، لأنه لا يضمن باليد، وإنما يضمن بالإتلاف على وجه العدوان، وتمكين الحاكم إياه من الإتلاف أخرج إتلافه عن أن يكون إتلافا بغير حق، فلم يلزمه الضمان.

وعن الشيخ أبي حاتم القزويني رواية وجه فيما إذا كان التلف بآفة سماوية: أنه لا يلزمه الضمان، والمشهور الأول.

قال: فإن كان معسرًا، ضمنه الحاكم، أي: أداه الحاكم عنه من بيت المال المرصد للمصالح، على سبيل القرض، [لأن ذلك منها.

قال: ثم يرجع به على المحكوم له إذا أيسر، لأن هذا شأن القرض] ولفظ القاضي أبي الطيب والبندنيجي في إيراد المسألة كلفظ الشيخ سواء.

وما ذكرته من التقييد هو نفس ما صرح به الماوردي.

لكن في ((البحر)): أن أصحابنا قالوا: الحاكم يضمنه في حالة إعساره، وهل يكون في بيت المال أو في ماله؟ فيه الخلاف السابق، يعني: في الكفارة، لا في الدية، ولا يجيء هاهنا: أنه يجب على العاقلة، لأنها لا تتحمل المال، كما لا تتحمل الكفارة، وما قاله في ((البحر)) هو في ((الشامل))، وفي ((تعليق)) القاضي الحسين عند تعذر أخذ القيمة من المحكوم له إن قلنا: إن الدية تجب على عاقلة

ص: 313

الإمام إذا كان المحكوم به قتلا، ونحوه، فالغرم في ماله، وهل يرجع به على الشهود؟ فيه وجهان:

أصحهما: لا.

وما ذكره الشيخ أميل إلى كلام الماوردي، لأنه لو كان يضمن ذلك في ماله، لما اختص ذلك بحالة الإعسار.

ولو كان المحكوم به طلاقًا، جمع بين الزوجين فيه بعد يمين الزوج المنكر.

ولو كان المحكوم به عتقًا، والمعتق باق، حكم برقه على ملك سيده، ويملك إكسابه بعد يمين السيد في إنكاره العتق.

ولا يجوز [التمكين] من الزوجة والعبد إلا بعد اليمين، لما فيهما من حقوق الله تعالى، بخلاف ما إذا كان المحكوم به داراً، كذا قاله الماوردي.

والقاضي أبو الطيب، وغيره لم يشترطوا في رد الزوجة والعبد يمينًا.

ولو اتفق موت العبد المحكوم بعتقه قبل رجوعه للمالك، فقيمته على الحاكم، هل تجب في ماله أو في بيت المال؟ فيها الخلاف، قاله في [((الشامل))]، و ((البحر))].

وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به.

أحدها: إذا شهد رجل وعشر نسوة في مال، ثم رجعوا- فالذي حكاه الماوردي هنا، وتبعه المصنف: أنه يجب على الرجل سدس الغرم، وعلى النسوة خمسة أسداسه، على كل واحدة نصف سدسه، وهذا ما حكاه في باب حد الزنى عن البغداديين من أصحابنا، والشيخ حامد.

ولم يحك ابن الصباغ والبندنيجي سواه، [و] قال القاضي أبو الطيب: إنه لا يختلف المذهب فيه.

وعن ابن سريج: أنه يجب على الرجل نصف الغرم، لأنه نصف البينة، وعلى كل امرأة نصف عشر الغرم، لأنها عشر نصف البينة، وهذا ما حكاه القاضي الحسين في باب حد الزنى لا غير، لأنهن وإن كثرن مع الرجل الواحد قمن مقام رجل آخر، بدليل أنهن لو انفردن لم يحكم بشهادتهن، وقد ادعى هاهنا أنه ظاهر

ص: 314

المذهب، ثم صححه، وتبعه البغوي، والإمام، ويحكى عن اختيار القفال والشيخ أبي علي.

الفرع الثاني: إذا شهد رجلان وامرأة، ثم رجعوا، قال القاضي الحسين في كتاب الحدود: ليس على المرأة شيء، وعلى الرجل الغرم، وهو موافق لما قاله الماوردي فيما إذا شهد أربعة رجال وامرأة فرجع رجلان والمرأة: أنه لا يجب على المرأة شيء، ويجب على الرجلين.

وقد قال القاضي هاهنا: إنه يجب عليها الخمس.

الفرع الثالث: إذا شهد رجلان وعشر نسوة، ثم رجعوا ففيما يجب على النسوة وجهان، حكاهما القاضي:

أحدهما: نصف الغرم.

والثاني: ثلثه.

الفرع الرابع: إذا شهد أربع نسوة ورجل في الرضاع، ثم رجعوا، قال القاضي الحسين هنا: الأصح من المذهب أن الرجل هنا كالمرأتين.

ومن أصحابنا من قال: يجب علي الشطر.

الفرع الخامس: إذا ادعى رجل أربعمائة، فشهد له شاهد بمائة، وآخر بمائتين، وثالث بثلاثمائة، ورابع بأربعمائة، فالثابت له بالبينة ثلاثمائة، فإذا رجعوا، غرموا الثلاثمائة مائة:

على الأول منها: خمسة عشرون، لأن الشاهد بالمائة الأولى أربعة، وهو أحدهم.

وعلى الثاني منها: ثمانية وخمسون وثلث: خمسة وعشرون نصيبه من المائة الأولى، وثلاثة وثلاثون وثلث نصبيه من المائة الثانية، لأنه ثبتت بقول ثلاثة [و] هو أحدهم.

وعلى كل من الثالث والرابع مائة وثمانية وثلث نصيبه من المائة الأولى والثانية ثمانية وخمسون وثلث، ونصيبه من المائة الثالثة خمسون، لأنه ثبتت بقولهما، وبذلك تكمل ثلاثمائة.

وإن حلف المدعي مع الشاهد الرابع على المائة الأخرى، انبنى تغريم الشاهد

ص: 315

لها على أن الحكم وقع بالشهادة فقط، أو باليمين فقط، أوبهما؟

فإن قلنا: بالشهادة فقط غرمها الرابع.

وإن قلنا: باليمين فقط، فلا غرم لأجلها على الشاهد.

وإن قلنا بهما: غرم منها خمسين.

[الفرع السادس]: إذا شهد ثلاثة على رجل بثلاثين درهما، فرجع أحدهما عن عشرة، وثان عن عشرين، والثالث عن الثلاثين، فإن قلنا بمذهب ابن سريج في أن النصاب إذا كان باقيا بعد الرجوع، لا يغرم الراجع شيئًا، فلا يغرم هنا الثالث شيئًا من العشرة الثالثة، لأن بها شاهدين: الأول والثاني، ويغرم الأول ثلاثة وثلثا: نصيبه من العشرة الألى، لأنهم رجعوا عنها، وهم ثلاثة، ولا شيء عليه غير ذلك.

وأما الآخران فعليهما من العشرة الأولى مثلًا ما غرم.

وأما العشرة الثانية، فعلى رأي ابن سريج يلزمهما نصفها، وهو خمسة، فيكمل على كل واحد منهما خمسة ونصف وثلث.

وعلى رأي المزنى يلزمهما ثلثاهما، لأنهما تثبت بقول ثلاثة، وقد رجع اثنان، فيكمل على كل واحد مننهما خمسة ونصف وثلث.

وعلى رأي المزني يلزمهما ثلثاهما، لأنها تثبتت بقول ثلاثة، وقد رجع اثنان، فيكمل على واحد ستة وثلثان، فيكون على الوجه الأول جملة ما يغرم: خمسة عشر درهمًا. وعلى الوجه الثاني: ستة عشر وثلثان.

وإن قلنا بأن الراجع يغرم وإن بقي النصاب، غرم الثالث زيادة على ذلك ثلاثة وثلث، لأن العشرة [الثالثة] ثبتت بقول الثلاثة، وقد رجع هو لا غير، ونصيبه منها ثلاثة وثلث، وبذلك يكمل الغرم عشرين.

ص: 316