المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٩

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل

‌باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل

تحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية.

اعلم أن الشهادة وثيقة تتم بالتحمل، وتستوفى بالأداء، فصارت جامعة للتحمل في الابتداء، والأداء في الانتهاء.

والدليل على فرضيتها في الحالتين قوله تعالى {وَلَا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]، أي: للتحمل، أو الأداء، كما قاله الحسن البصري.

فإن قلت: قد قال ابن عباس وقتادة والربيع: إذا ما دعوا للتحمل، وعلى هذا فما الدليل على الأداء؟

قلت: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2]، أي: أدوا، وقوله تعال:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283]، أي: فلا يجد حلاوة الطاعة، ومرارة المعصية، كما قيل في التفسير الذي حكاه القاضي والإمام، فلما نهى عن الكتمان وأثمه، دل على أن إظهارها واجب، وخص القلب بالإثم، لأنه محل العلم الذي لزمه إظهاره، وحرم عليه كتمانه، كمما في قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37].

فإن قلت: قد قال مجاهد وعطاء والشعبي: إذا ما دعوا لإقامتها وأدائها عند الحكام، وعلى هذا فما الدليل [على التحمل]؟

قلت: قوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة:282]، فإن ابن عباس قال في تفسيرها: لا يضر الكاتب والشهيد من يدعوه إلى تحملها بالامتناع من الإجابة، والاشتغال عنه بغيرها، كما نقله عنه البندنيجي.

وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: [إن] الآية تدل على ذلك على القراءة برفع الراء، أما إذا قرئت بالنصب فإنها تدل على رفع الضرر من جهة الداعي، كذلك إذا حضر يدعو الكاتب والشاهد، فلا يلح عليه في الاستحضار،

ص: 81

ولا يقطعه عن شغله، وعما هو أهم، ويمهله حتى يفرغ من حاجته.

ولأن الحاجة تدعو إلى تحمل الشهادة وأدائها، حتى لا تضيع الحقوق، فإذا تقرر أنها فرض كان على الكفاية، لأن المصلحة المطلوبة من الشهادة من التوثق وإظهار الحجة تحصل بفعل البعض، فكان كالجهاد ورد السلام وطلب العلم.

ولأن في شهادة الجميع مشقة عظيمة.

قال الماوردي: والفرض في الأداء أغلظ [منه] في التحمل، ويسقط الفرض بقيام شاهدين بالمطلوب.

قال البندنيجي: ومن هنا سمي فرض كفاية، لأنه كفى الباقين فعل الفاعلين، بخلاف فرض العين.

وقبل القيام بالمطلوب، أطلق البندنيجي وغيره القول بأن الكل مخاطبون، والفرض يتوجه عليهم، كما إذا مات في البلد ميت توجه الفرض على الكل، وإذا سلم رجل على جماعة توجه فرض الرد على الكل، وفي هذا يتساوى فرض الكفاية وفرض العين، واختلافهما في الانتهاء، كما ذكرنا.

وفي ((الحاوي)): أنه إذا دعي من يتحمل أو يؤدي عند الزيادة على العدد المشروط في الحكم، فالمبتدأ بدعائه إلى التحمل والأداء، ما حكم فرضه؟ اختلف فيه على وجهين حكاهما في ((البحر)) أيضًا: أحدهما:

[أنه] يتعين عليه فرض الإجابة، إلا أن يعلم أن غيره يجيب، فلا يتعين عليه. قال في ((البحر)): وهو اختيار أبي إسحاق، والصحيح من المذهب.

والثاني: أنه لا يتعين عليه فرض الإجابة، إلا أن يعلم أن غيره لا يجيب، فيتعين عليه.

فعلى الأول يكون عاصياً حتى يجيب غيره، وعلى الثاني لا يكون عاصيًا حتى يمتنع غيره، فإن امتنعوا جميعًا حرجوا أجمعين، وكان المبتدأ بالاستدعاء أغلظهم مأثمًا، لأنه صار متبوعًا [في الامتناع، كما لو بدأ بالإجابة، كان أكثرهم أجرًا، لأنه صار متبوعًا] فيها.

وفي ((البحر)): أن صاحب ((التخليص)) حكى الخلاف المذكور قولين، ولعله

ص: 82

أراد قولين مخرجين.

وحكى القاضي الحسين والإمام أن المدعوين للتحمل- والصورة كما ذكرنا- لا تجب عليهما الإجابة، والمدعوين للأداء في وجوب الإجابة عليهما وجهان:

أحدهما: لا تجب، كما أن من دعي للتحمل لا تجب [عليه] الإجابة إذا لم يتعين، وبه أجاب الضميري.

[وأصحهما] في ((الرافعي)): أنه يجب، وإلا لأفضى إلى التواكل، ويخالف التحمل، لأن هناك يطلب منه تحمل أمانة [وها هنا يطلب منه] أداء أمانة تحملها.

وقد أطلق القاضي الحسين حكاية الوجهين، والإمام قال: إن محلهما إذا كان الباقون يرغبون في الأداء، أو لم تبن رغبتهم.

وهو راجع إلى ما ذكره الماوري، والروياني.

ثم قال الإمام: ولعل الخلاف في إحدى الصورتين يترتب على الأخرى.

قال: فإن كان، أي: من تقوم به الكفاية، في موضع ليس فيه غيره- تعين عليه، أي: التحمل والأداء عند الطلب، لانحصار المطلوب فيه، وهذا شأن فروض الكفايات، تصير بالانحصار في الشخص فرضًا عليه.

فإن قلت: لم قدرت المحذوف: من تقوم به الكفاية، ولم تقدره: المطلوب للتحمل والأداء؟

قلت: لأن الأول منطبق على كلام الأصحاب من غير تكلف في تقريره مع أن سياق اللفظ يعطيه، بخلاف ما ذكرت، فإني لو قدرته لاحتجت أن أقول: المطلوب تارة يكون نصابًا كاملًا، وهو شاهدان، وتارة يكون واحدًا، فإن كان الأول فحكمه ظاهر، وإن كان الثاني فإنما يتعين عليه في صورتين:

إحداهما: أن يكون المقصود يحصل به، لكون المطلوب قد قام به واحد، ولم يتمكن من تتمة غير هذا المطلوب، وفي هذه الحالة يشمل الفرض المطلوب للتحمل أو الأداء، كما ذكرنا، ولا فرق فيه- كما قال الأصحاب- بين أن تكون الشهادة به مما لا يثبت إلا بشاهدين، أو مما يثبت بالشاهد واليمين،

ص: 83

لأن التورع عن اليمين من مقاصد الشهادة لدفع التهمة.

قال الإمام في حالة الطلب للأداء: [و] هذا مما لم يختلف أصحابنا فيه، وليس له أن يقول: احلف مع شاهدك، ولا تعويل على احتمال بعيد فيه مع نقلنا الوفاق على تثبت. وطرد ذلك فيما إذا أشهد المودع على رد الوديعة شاهدين، وقالا له عند إرادة إثابته: لا نشهد، واحلف- أنه ليس لهما ذلك.

وقد اعتبر بعض المراوزة- كما حكاه الإمام- في وجوب الأداء على المتعين بحكم الوجود، وكذا في حالة كثرة العدد بالتعيين- أن يكون التحمل قد وقع منه عن قصد حتى لو وقع بصره عليه اتفاقًا، لا يجب عليه، لأنه لم يوجد منه التزام، بخلاف ما إذا تحمل، فإنه ملتزم، فجعل كضمان الأموال.

قال الرافعي: والموافق لإطلاق أكثرهم: أنه لا فرق، لأنها أمانة حصلت عنده، فعليه الخروج عنها، كما أن الأمانات المالية تارة تحصل عنده بقول الوديعة، وتارة بنظير الربح.

الثانية: أن يكون الحق مما يثبت بالشاهد واليمين، ولم يشهد به غيره، فإنه يجب عليه الأداء، لتمكن الخصم من الحلف معه.

قال في ((الحاوي)): ولا فرق أن يكون الشاهد ممن يرى جواز الحكم بالشاهد واليمين، أو لا، إذا كان الحاكم يرى الحكم بذلك.

قلت: ولا يجئ فيه الوجه الذي حكاه القاضي ابن كج في أن الشاهد لا يجوز له أن يشهد بما يعلم أن القاضي يرتب عليه ما لا يعتقده الشاهد: كالبيع الذي يترتب [عليه] الشفعة بالجوار، [والشاهد لا يعتقد الجوار] مثبتًا للشفعة، لأن الشاهد هنا يعتقد أن ما شهد به حق، فالحكم واقع بالحق في ظنه، بخلاف مسألة الشفعة.

وقد حكى القاضي الحسين مع موافقة الشاهد للقاضي في اعتقاد جواز الحكم بالشاهد واليمين- وجهًا آخر: أنه لا يجب الأداء، لأنه ربما لا يحلف، أو يتغير اجتهاد الحاكم، فلا يقضي بشاهد ويمين. قال: والصحيح الأول، وهو الذي أورده الماوردي، والإمام، والرافعي.

ص: 84

نعم، لو كان القاضي حنفياً، فحث قلنا: يلزمه الأداء ثم، فهل يلزمه ها هنا؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أيضًا، والأظهر- وهو الذي أورده الماوردي-: أنه لا يجب، ووجه الوجوب: أنه ربما له شهود بعده، أو يقع له الاجتهاد في أن يقضي بشاهد ويمين.

وإذا جرى هذا الخلاف في الأداء، ففي التحمل من طريق الأولى، كما ستعرفه.

أما إذا كان الحق مما لا يثبت إلا بشاهدين، بأن كان عقداً كالنكاح، والرجعة على القديم، فلا يجب عليه الإجابة للتحمل، إذا لم يكن ثم غيره.

وكذا الأداء إذا كان قد تحمل مع شخص آخر، ومات.

وكذا إذا كان في غير عقد، وعلم انه لم يتحمل على الإنشاء غيره.

وإن جهل ذلك، أو كان الكل على الإقرار، ففي وجوب الأداء وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين، والظاهر المنع، وهو الذي أورده الماوردي، لأن الحكم لا يقوم به.

ووجه مقابله: أنه ربما يظهر [له] شاهد آخر.

وحكى الرافعي عن القاضي ابن كج حكاية وجه مطلق في أن الحق إذا كان مما لا يثبت بالشاهد واليمين: أنه يجب عليه الأداء، لأنها أمانة لزمته، والمدعي ينتفع بأدائها في اندفاع بعض تهمة الكذب وإن لم ينتفع به في ثبوت الحق.

فرع: لو كان في الواقعة شاهدان، وأحدهما فاسق فسقًا مجمعًا عليه فالحكم في حق العدل كما لو لم يكن في الواقعة غيره، قاله الرافعي.

تنبيهان:

أحدهما: ما الشهادة التي يجب تحملها، هل هي كل شهادة على عقد أو إقرار وغيرهما، أو تختص ببعض الأمور دون بعض؟

الذي حكاه العراقيون والماوري: الأول، وكذلك قال البندنيجي وابن الصباغ: من دعي لتحمل الشهادة على نكاح أو بيع أو غيرهما من العقود والتوثيق للحقوق، وجب عليه التحمل.

ص: 85

ووجهه مع الآية: أن الحاجة تمس إلى ذلك، لتمهيد طريق إثبات الحقوق عند التنازع، ومصالح الخلق لا تتم إلا بها.

وجزم المراوزة بذلك في تحمل الشهادة على النكاح، لتوقف الانعقاد عليها، وكذا في الرجعة على التقديم.

وقالوا: في وجود التحمل في غيرهما وجهان، أصلهما- كما قال القاضي الحسين والإمام- اختلاف المفسرين في قوله تعالى:{وَلَا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282].

فمن حمله على التحمل أوجبه، وهو المشهور.

ومن حمله على الأداء، لم يوجب التحمل، وقال: إنه مندوب إليه، لأن تحصيل ذلك واستيفاء مقاصده لا يتوقف عليها.

وقد حكى الغزالي وغيره إجراء الخلاف في كتبه الوثيقة أيضًا، لأنه لا يستغني عنها في عصمة الحقوق.

والقاضي الحسين قال: إن أصلهما اختلاف المفسرين في أن المنهي عن المضارة: الشاهد والكاتب، أو المشهود والمكتوب له؟ ومن لم يوجبها قال: إنها مستحبة.

والوجهان شبيهان بالوجهين فيما إذا طلب الخصم من الحاكم كتابًا بما ثبت عنده أو حكم به، هل يجب أم لا؟ والصحيح- كما تقدم-: الوجوب.

لكن في ((البحر)) في أوائل باب القسمة: أن الكتبة لا تفرض على الأعيان، ولا على الكفاية، ولم يحك غيره.

قال الرافعي: ومنهم من يقتضي إيراده طرد الخلاف في النكاح أيضًا.

وخص ابن القطان الخلاف في الأصل بما إذا لم يتقابضا لتأجيل أو غيره، فأما بعد التقابض فلا يجب التحمل بحال.

وعلى المشهور، فمحل وجوبه بالاتفاق إذا حضر من يتحمل عليه الشهادة، والمتحمل مستجمعًا لشرائط العدالة.

أما إذا دعي لتحمل، فعن ابن كج: أن بعض الأصحاب قال: عليه الإجابة كما لو دعي للأداء.

وعلى هذا يظهر أن يكون الاعتبار في الموضع الذي [دعي للتحمل فيه،

ص: 86

كالموضع الذي] سنذكره فيما إذا دعي للأداء، وقد صرح به الماوردي.

وعن القاضي أبي حامد: أنه لا يجب، وهو ما أورده القاضي الحسين والبغوي وأبو الفرج، إلا أن يكون المتحمل عليه [معذورًا] بمرض أو حبس، فتجب الإجابة.

قال الرافعي: وكذا في المرأة المخدرة إذا أثبتنا للتخدر أثرًا، وكذا إذا دعاه القاضي ليشهد على أمر ثبت عنده، فعليه الإجابة، كي لا يحتاج إلى التردد على أبواب الشهود، فتتعطل مصالح الناس.

ولو كان المطلوب للتحمل غير مستجمع لشرائط العدالة، قال القاضي الحسين: فلا تجب عليه الإجابة وجهًا واحدًا، ولكن لو ذهب وتحمل، ثم استجمعت الشرائط فيه- أدى.

وفي كلام الماوردي الذي سنذكره خلافه.

[التنبيه الثاني:] ما الحالة التي يجب فيها الأداء مع التعيين كما ذكرنا؟

قال الأصحاب: هي الحالة التي لا يلحقه فيها بالأداء ضرر، وقد طلب منه عند ذي ولاية تصح منه استيفاء الحقوق لأهلها من الأئمة والأمراء والحكام، سواء كان من أهل العدل أو من أهل البغي.

وعن ابن القطان: أنه لا يجب الأداء إلا عند من له أهلية سماع الشهود، وهو القاضي، دون الأمراء والوزراء، [والأول هو الذي أورده الماوردي، واختاره ابن كج، وطره في الشهادة عند الوزراء]، والمحكم إن إلزمنا حكمه بدون التراضي بعده فهو كالقضاة، وإلا فلا يجب الأداء عنده، قاله الماوردي.

أما إذا دعي للأداء عند غير من ذكرناه، لم يجب عليه.

وكذا [إن] ألحق به ضرر، لقوله تعالى:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة:282]، وقوله صلى الله عليه وسلم:((لا ضرر ولا ضرار)).

ومطلوب الضرر ليس بمانع، لأن المضي إلى القاضي ضرر، وقد قال الأصحاب: إن ذلك لا يمنع إلا ما حكي عن القاضي أبي حامد: أنه لا يجب

ص: 87

على الشاهد الأداء [إلا إذا] اجتمع مع القاضي، والمشهور: الأول، وبه يظهر: أن مرادهم ضرر خص، وقد مثلوه بصور:

منها: أن يلحقه في دينه، لمأثم يلحقه، كما إذا طلب لأن يشهد بغير الحق، أو بزيادة عليه، أو بدونه في صورة نصير، أو [طلب للأداء بحق]، وهو في نفسه فاسق فسقًا غير مجتهد فيه، فإنه لا يجب عليه أن يؤدي.

قال القاضي الحسين والرافعي: بل عليه أن يمتنع، إذ الفاسق لا حكم لشهادته.

ولا فرق بين أن يكون فسقه ظاهرًا للناس، أو حفيًا عنهم وهو عدل عندهم.

قال ابن أبي الدم: والذي فهمته من كلام الأصحاب، وتلقيته من مدارج مصنفاتهم: أنه لا يحرم عليه أداء الشهادة التي شهد بها، وهي حق- أي: إذا كان فسقه باطنًا- بل يستحب، وهو الذي أراه صحيحًا لا ريب فيه.

وممن أشار إلى ذلك الماوردي والقاضي أبو الطيب وصاحبه الشيخ أبو نصر.

قلت: وما ذكره الماوردي قد رأيته في ((الحاوي))، فإنه قال في كتاب الشهادات: إذا دعي الفاسق إلى تحمل الشهادة، فإن كان فسقه ظاهرًا لم يلزمه تحملها، وإن كان فسقه ظاهرًا لم يلزمه تحملها، وإن كان فسقه باطنًا لزمه تحملها.

وهكذا لو [دعي] إلى أداء ما يحمل من الشهادة، لم يلزمه أداؤه إن كان ظاهر الفسق، ولزمه أداؤه إن كان باطن الفسق، لأن رد شهادته بالفسق الباطن [مختلف فيه].

وقد حكى في ((البحر)) في الفروع قبيل كتاب الشهادات في جواز الشهادة له وجهين، ووجه المنع في أدائه إيقاعًا منه للحكام في الحكم بالباطل، [بل هو حمل له على أن يحكم حكمًا باطلًا، وهذا لا يجوز، لأن الحمل على الباطل] منهي [عنه] في الدين.

ص: 88

ولا يصح أن يقال: الحاكم قضى بالحق، فكيف يكون باطلًا، لأن السبب الذي يستند إليه القضاء إذا كان باطلًا من جهة الشرع، كان القضاء باطلًا، وإن وافق الحق عند الله تعالى، ولهذا نقول: من اعتقد التوحيد عما ظنه دليلًا، وليس بدليل في الحقيقة، فهو غير عارف بالتوحيد، كمن اعتقده لا عن دلالة أصلًا.

نعم، لو كان فسقه مجتهدًا فيه، والقاضي يتجوزه، لزمه الأداء، قاله القاضي الحسين.

قلت: وينبغي أن يجئ فيه ما ذكرناه في الشاهد الواحد، لأن القاضي قد يتغير اجتهاده، ولأجل هذه العلة قال الرافعي: لو كان الحاكم يرى رد الشهادة بذلك الفسق، يجب عليه الأداء على الأظهر، لأنه قد يتغير اجتهاده.

وحكى عن ((أمالي)) أبي الفرج السرخسي وجهًا: أنه لا يجب في الفسق المجتهد فيه إذا كان ظاهرًا، [لأن الظاهر] استمرار الحاكم على اجتهاده، وأن في كتاب القاضي ابن كج إطلاق القول بأن عليه أن يشهد إن كان فسقه خفيًأ، وإطلاق الوجهين فيما إذا كان ظاهرًا.

[و] عندي أن ذلك عين ما نقله عن أبي الفرج، إلا أن يكون ابن كج حكى الوجهين في الفسق الظاهر، سواء إن كان الحاكم يراه فسقًا، أو لا، فحينئذ يكون غيره، ويكون موافقًا لما قلت: إنه يجب تخرجيه.

ومن هذا النوع: ما إذا دعي ليشهد بالحق عند جائر في المشهود به، لا تلزمه الإجابة- كما قاله الماوردي- ووجهه: أن في ذلك إعانة على المعصية.

نعم، لو كان جائزًا متعنتًا في أداء الشهادة، فهل يجب على الشاهد الأداء؟ فيه وجهان عن رواية الشيخ أبي الفرج، ووجه المنع: أن الشاهد لا يأمن أن ترد شهادته جورًا وتعنتًا، فيتعير.

ومنها: أن يلحقه في بدنه، وذلك في صور:

إحداها: خوفه من عقوبة تلحقه من سلطان جائر، أو عدم قاهر، أو فتنة عامة، فلا يجب عليه الأداء.

ص: 89

الثانية: أن يلحقه بسبب خروجه عن [موضعه] للأداء، كما إذا دعي له وهو مريض يعجز عن الحركة، أو [و] هو صحيح في حر شديد أو برد شديد أو مطر موجود، فلا يجب عليه المضي إليه ما دام ذلك باقيًا.

وكذا حكم المخدرة على الأصح، لا يجب عليها الخروج لأداء الشهادة.

قال الرافعي: وفيها الخلاف المذكور في الخروج للتغليظ، و [هو] قس ((تعليق)) القاضي الحسين.

نعم، لو اجتمع مع القاضي في أي مكان وقت كان، وجب عليه الأداء.

وغير المخدرة يلزمها الحضور والأداء، وعلى الزوج أن يأذن لها، ذكره ابن كج.

الثالثة: أن يلحقه بسبب خروجه عن بلده، [لكون الحاكم] خارجًا عنها.

وقد قال الماوردي: إنه لا يلزمه الإجابة، سواء قربت المسافة أو بعدت، وسواء كان ذا مركوب أو لم يكن، لأن في مفارقة وطنه مشقة يسقط معها فرض الإجابة.

نعم، لو كان الحاكم في بلده، فإن قرب لزمته الإجابة، وإن بعد: فإن جرت عادته بالمشي في جميع أقطار بلده لزمته الإجابة، وأن لم تجر عادته، لم يلزمه المشي وإن قدر عليه، لأن مفارقة العادة شاق إلا أن يكون ذا مركوب، فلا مشقة عليه في الركوب، فتلزمه الإجابة.

فإن [حمل] إليه ما يركبه، وهو غير ذي مركوب، اعتبرت حاله: فإن لم ينكر الناس ركوب مثله لزمته الإجابة، وإن أنكروه لم تلزمه، لأن ما ينكره الناس مستقبح.

وقال المراوزة: إن دعي إلى مسافة القصر، لكون القاضي فيها- لم تجب الإجابة.

وإن دعي للأداء في بلده، وجب.

وكذا إذا دعي إلى مسافة العدوى.

وإن دعي إلى ما دون مسافة القصر وفوق مسافة العدوى، فوجهان، بناء على أن الشهادة على الشهادة في مثلها هل تقبل؟ قال الرافعي: وأقربهما القبول، وعدم وجوب الإجابة، للمشقة.

ص: 90

قلت: وهذا منهم مصور بما إذا لم يتمكن المشهود له من نقل شهادة الشاهد بإثبات الحق عند حاكم آخر وحكمه به، ونقل ذلك إلى الحاكم المدعو إلى الشهادة عنده، أما إذا تمكن من ذلك، فيظهر أن يقال: لا يلزم الشاهد الخروج من البلد، لما ذكرته من كلام القاضي الحسين والإمام عند الكلام في موت القاضي الكاتب، فاطلبه من ثم.

وإلى ذلك يرشد تخريجهم الخلاف فيما إذا كانت المسافة فوق مسافة العدوى ودون مسافة القصر- على [الخلاف في] أن الشهادة، هل تقبل في مثل ذلك أم لا؟

ومنها: أن يلحقه في ماله، بأن يخاف عند المصير للأداء من ضياع ماله، لعدم نائب له في حفظه، أو كان يتعطل عن الاكتساب في وقته، بسبب المضي للأداء، فلا تلزمه الإجابة.

قال الماوردي: ولا فرق بين أن يضمن له الداعي حفظ ماله، أو يبذل له قدر اكتسابه في ذلك الزمن أو لا.

وفي ((الرافعي)): أن في ((تعليق)) الشيخ أبي حامد: أنه لو كان الشاهد فقيرًا يكتسب قوته يومًا بيوم، وكان في صرف الزمان إلى أداء الشهادة ما يشغله عن كسبه فلا يلزمه الأداء [إلا] إذا بذل له المشهود له قدر ما يكسبه في ذلك الوقت.

فروع:

لو دعي الشاهد [للشهادة] عند قاض لا يعلم هل يقبله أم لا، لزمته الإجابة، لجواز أن يقبله، قاله في ((الحاوي)).

ولو دعي للأداء عند من لا يعتقد الشاهد انعقاد ولايته لجهل أو فسق، لزمته الإجابة.

قال الماوردي: لأنه ليس للشاهد اجتهاد في صحة التقليد وفساده.

ولو شهد عند قاض، فرد شهادته، لإعلانه بالفسق، ثم طلب المدعي منه أن يشهد عند حاكم آخر- فعليه الإجابة، دون ما إذا دعاه للأداء عند ذلك القاضي بعينه، قاله الرافعي.

ص: 91

وفي ((الحاوي)): أن القاضي لو توقف في قبول شهادة الشاهد، لحمه برد شهادته، لجرحه- لم يلزمه أن يشهد بها عند غيره إذا دعي إليه، لأنه لا يجوز لغيره الحكم بشهادة قد ردت بحكم، بخلاف ما لو توقف في قبول شهادته لاستبراء حاله، فإنه يلزمه أن يشهد عند غيره من الحكام إذا دعي إليه.

ولو قال المشهود له للشاهد: عفوتك عن أداء الشهادة، ثم طلبها منه- يلزمه الإجابة.

قال في ((البحر)) قبيل كتاب الشهادات: لأن أداء الشهادة عند الطلب حق الله تعالى، [وحق الله تعالى] لا يصح فيه العفو من جهة الآدمي.

ولأن الشاهد لا يخرج بهذا العفو من الشهادة.

واعلم أنه إذا كملت [شرائط وجوب] الأداء، فلا يرهق الشاهد إرهاقاً، بل لو كان في صلاة أو حمام، أو على طعام- فله التأخير إلى أن يفرغ.

وعن أبي الحسين بن القطان حكاية قولين: أنه هل يمهل إلى ثلاثة أيام؟ قال ابن كج: والظاهر المنع.

وإذا انتفت الأعذار، وامتنع بعد ذلك عن الأداء- قال القاضي: عصى، ولا يجوز للقاضي قبول شهادته في شيء أصلًا حتى يتوب.

قال الرافعي: ويوافق هذا ما قيل: إن المدعي لو قال للقاضي: لي عند فلان شهادة، وهو يمتنع من أدائها، فأحضره ليشهد- لم يجبه القاضي، لأنه بزعمه فاسق بالامتناع، فلا ينتفع بشهادته.

وفي ((الحاوي)): أنه إذا امتنع من غير عذر، أثم، وفسقه بالمأثم معتبر بدخوله في الصغائر والكبائر بحسب الحال، فإن دخل في الصغائر لم يفسق به، وإن دخل في الكبائر فسق به.

قال: ولا يجوز لمن تعين [عليه]- أي: التحمل والأداء- أن يأخذ عليه أجرة، كما لا يجوز أن يأخذ عن عبد أعتقه عن كفارته عوضًا.

وهل يجوز لمن تعين عليه كتب الوثيقة، لكونه لا أحد غيره، وقلنا بوجوبه- أخذ الأجرة؟ فيه وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين كالوجهين في أخذ الأجرة على تعليم الفاتحة عند التعين، ووجه الجواز- وهو الأظهر في

ص: 92

((الرافعي)) -: القياس على أخذ قيمة الطعام المبذول للمضطر.

وعلى هذا: فالفرق بين الكتابة [والتحمل والأداء]: أن زمن كتب الوثيقة يطول، فيستغرق [به] منفعة متقومة، بخلاف زمن التحمل والأداء.

قال: ويجوز لمن لم يتعين [عليه]، كالكاتب للوثيقة، إذا لم تتعين عليه الكتابة فإنه يجوز له أخذ الأجرة، قاله الماوردي.

وزاد القاضي الحسين فقال: وجهًا واحدًا.

وهذا إذا لم يكن للكاتب رزق من بيت المال، فإن كان لم يكن له الأخذ، قاله الرافعي.

وقيل: لا يجوز، لأن الشاهد تلحقه التهمة إذا أخذ الأجرة، فصين عنها بالحرمان، وهذا ما اختاره في ((المرشد)).

والخلاف المذكور شبيه بالخلاف الذي ذكره الماوردي فيما إذا كان الشاهد مشتغلًا بالحرفة، وفي ذهابه للتحمل أو الأداء تعطيل لها، في أنه هل يجوز له طلب أجرة مثله، لا قدر ما كان يحصل له لو عمل في ذلك الوقت، بل قد يقال: إنه هو [هو]، لأنه قال- كما حكينا من قبل-: إن المشتغل بالحرفة لا يجب عليه التحمل والأداء في وقت اشتغاله بها.

وقد حكى ثم وجهًا ثالثًا: أن له طلب الأجرة على التحمل، وليس له طلبها على الأداء، لأنه في الأداء متوهم، وفي التحمل غير متوهم، وهذا يظهر اطراده في كل صورة لا يجب فيها التحمل والأداء، إذ فلا فرق.

وقد حكى الرافعي عن الأصحاب أنهم قالوا: أخذ الأجرة على التحمل جائز إن لم يتعين، وإن تعين فوجهان، أظهرهما: الجواز، كما ذكرنا في الإجارة إذا تعين شخص لتجهيز الميت، أو تعليم الفاتحة، أو الشيخ أبا الفرج قال: هذا إذا دعي ليتحمل، فأما إذا أتاه المتحمل، فليس للتحمل- والحالة هذه- أجرة، وليس له أن يأخذ شيئًا.

وهذا الذي ذكره كله يؤخذ من قول الإمام: إن المحتمل لو كلف المشي إلى موضع، فقد ألحقه الأصحاب بالكتبة، دون ما إذا لم يمش، فإنه ليس تحمل هذه

ص: 93

الشهادة مما يستغرق به منفعة متقومة.

وحكى الرافعي أنهم قالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على الأداء، لأنه فرض.

وقال القاضي الحسين: لأنه التزمه لما تحمل، فلزمه إيفاؤه.

قلت: وعلى هذا إذا وقع بصره اتفاقًا على ما يشهد به، وقلنا بالتعين عليه فقد نقول: له الأخذ، لفقد العلة.

قال الرافعي: وقد يوجه بأنه كلام يسير لا أجرة لمثله.

قال القاضي الحسين في ((تعليقه)) - وحكاه الإمام عنه-: نعم، لو طلب أجرة مركوب إذا كان القاضي على مسافة يؤويه الليل، أخذها، وتكون أجرة عما يقطعه من المسافة، لا على أداء الشهادة- قال الإمام: وهو مشكل عندي، فإن المشي إذا لم يكن مستحقًا، فليس عليه أن يمشي، وإن كان مستحقًا فأخذ الأجرة على المشي بعيد.

نعم، له أن يقول: اكفني المشقة بإحضار مركوب. وهو الذي رأيت الطرق مشيرة إليه، وفيه- أيضًا- مجال للنظر، فإنه الذي ورط نفسه في ذلك.

قال الرافعي: إن الغزالي أطلق القول بأن له طلب أجرة المركوب من غير فرق بين أن يكون القاضي معه في البلد أو لا، لكنه على [ما حكى] الإمام وصاحب ((التهذيب)) مخصوص بما إذا لم يكن معه في البلد، بل كان يأتيه من مسافة العدوى فما فوقها، فأما إذا كان معه في البلد فلا يأخذ شيئًا.

وضم في ((التهذيب)) نفقة الطريق إلى أجرة المركوب، وحكى وجهين فيما لو دفع إليه شيئًا، ليصرف في ذلك، هل له أن يصرفه إلى غرض آخر، ويمشي راجلًا، وهما كالوجهين فيما إذا دفع إلى فقير شيئًا، وقال: اشتر به لنفسك ثوبًا، هل له صرفه إلى غير الثوب؟

قال الرافعي: والأشهر: الجواز، وبه أجاب الغزالي.

وقال القاضي الحسين: إنه الظاهر من المذهب.

ثم قال الرافعي: وقضية قولنا: إنه يطلب الأجرة إذا دعي للتحمل- أن يطلب

ص: 94

الأجرة إذا دعي للأداء، من غير فرق بين أن يكون القاضي معه في البلد أو لا يكون، كما لا فرق في التحمل، وأن يكون النظر إلى الأجرة مطلقًا، لا إلى نفقة الطريق، وكراء المركوب خاصة، ثم هو يصرف المأخوذ إلى ما يشاء، ولا يمنع من ذلك كون الأداء فرضًا عليه كما ذكرنا في التحمل مع تعينه، على أظهر الوجهين. انتهى.

وقد ذكرت عن القاضي الحسين والبغوي عند الكلام في موت القاضي الكاتب شيئًا يتعلق بذلك، فليطلب منه.

وهذا كله إذا كان الأخذ من المشهود له، أما أخذ الرزق من بيت المال، هل يجوز؟

قال القاضي أبو الطيب والغزالي في كتاب القسمة: إنه لا يجوز أن يجرى للشهود رزق من بيت المال.

قال القاضي: لأن الشهادة فرض، ولا يجوز أخذ العوض عليه.

وقال الغزالي: لأن الشهود لا ينحصرون وحتى لا يتهموا. وهذا معزي في ((الإشراف)) إلى ابن القاص، وأنه طرده في المزكي والترجمان.

وقال القاضي أبو الطيب- أيضًا- في كتاب الأقضية: إن أخذ الجعل على الشهادة مبني على الحكم، فإن كان ما تعين عليه، نظر:

فإن كان فقيرًا، كان له الأخذ.

وإن كان مكفيًا، فالمستحب له ألا يأخذ عليه جعلًا، وإن أخذ جاز.

وإن كان قد تعين عليه. فإن كان فقيرًا جاز له الأخذ، وإن كان مكفيًا، لم يجز له الأخذ للتحمل والأداء، وهذا [ما] حكيته عن البندنيجي وابن الصباغ في كتاب الأقضية.

قال الرافعي: وعلى القول بالمنع إذا رزقه الإمام من ماله، أو واحد من الناس، يكون الحكم كما ذكرنا في القاضي.

قال: ولا تقبل الشهادة إلا من حر، بالغ، [عاقل] متيقظ، حسن الديانة، ظاهر المروءة.

أما قبولها ممن اجتمعت فيه هذه الأمور على الجملة، فبالاتفاق، ويدل عليه

ص: 95

قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، والعدل: من اشتمل على هذه الأمور لغة وشرعًا:

أما لغة، فلأنه المتوسط الحال، مأخوذ من ((الاعتدال))، ومن اسم ((العدل)) و ((العديل))، لأنه [مأخوذ من المعادلة] لما حاذاه، والمعادلة: المساواة.

وأما شرعًا: في المتوسط في الدين والمروءة والأحكام، كما سنذكره.

ومن اتصف بما ذكرناه كان متوسطًا فيها.

واحترزنا بقولنا: ((على الجملة)) من شهادة المرأة في بعض الأمور كما سيأتي. والمراد بالقبول- كما قال الرافعي-: الحكم بها، إما وحدها أو بضميمة أخرى، وهو الأغلب.

وأما عدم قبولها ممن لم يكمل فيه هذه الصفات، فسنذكره.

تنبيه: ((المتيقظ)) خلاف ((المغفل))، يقال: متيقظ، ويقظ، ويقظ- بكسر القاف وضمها- بمعنى.

[و] المروءة: بالهمز، قال الجوهري وغيره: ويجوز تشديد الواو وترك الهمز، وهي كما قال الجوهري: الإنسانية.

وقال ابن فارس: هي الرجولية.

وقيل: صاحب المروءة: من يصون نفسه عن الأدناس، ولا يشينها عند الناس.

وقيل: الذي يستتر بستر أمثاله في زمانه ومكانه.

قال الجوهري: قال أبو زيد: يقال منه: مرؤ الرجل، أي: صار ذا مروءة، فهو مرئ، على ((فعيل))، وتمرأ الرجل: تكلف المروءة.

قال: ولا تقبل من عبد، لقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]. ووجه الدلالة: [أن الأحرار] هم المخاطبون، لأنهم هم المشهدون في حقوق أنفسهم، فقوله:{مِنْكُمْ} ينفي دخول العبيد فيهم.

ولأنه لو قطع الكلام عند قوله: {ذَوَيْ} لاستفدنا أن الكافر لا تقبل شهادته، لأنه لا عدالة مع الكفر، فلما قال:{مِنْكُمْ} ، وجب أن تكون له فائدة، ولا فائدة له إلا أن يكون المراد به: الأحرار، دون العبيد.

ص: 96

ولأنه [معنى] مبني على الكمال والتفضيل، ولا يتبعض، فوجب ألا يكون للعبيد فيه مدخل، قياسًا على الرجم.

والذي يدل على أنه مبني على التفضيل: أن شهادة المرأتين بمنزلة شهادة الرجل الواحد، ولا تقبل النساء في كل موضع، ويقبل الرجل في كل موضع.

والمكاتب، ومن [بعضه] حر وباقيه رقيق، والمدبر، وأم الولد- في ذلك كالقن.

قال: ولا صبي، ولا معتوه، لأنه إذا لم ينفذ قوله في حق نفسه إذا أقر، ففي حق غيره أولى.

وذكر الشيخ الصبي مع المعتوه، لأن المعتوه متفق على عدم قبول شهادته، فذكره ليقاس الصبي عيه، بجامع عدم التكليف، وإلا فذكره للمغفل يغني عنه، وقد استدل على منع قبول شهادة الصبي بقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية [البقرة:282]، لأن الصبي ليس من الرجال، ولأنه عدل عن الرجلين إلى الرجل والمرأتين، فدل على أنه لا يعدل إلى غيرهم [من] الصبيان، ولأنهم ليسوا ممن يرضون من الشهداء.

ولا فرق في الصبي بين أن يكون مراهقًا أو لا، ولا بين أن يحكم بصحة إسلامه أو لا، ولا بين أن يشهد في الدم والجراحات الصادرة من الصبيان مع غيره [قبل التفرق أو بعده، أو في غيرهما، لما ذكرناه.

وما ذكره الخصم في تعليل قبول شهادته في الدم والجراحات الصادرة من الصبيان مع غيره قبل] التفرق، لأنه يعسر إثباتها بغيرهم، لأنا ندبنا إلى تعليم الصبيان الرمي، فإذا لم نقبل شهادة بعضهم على بعض، أدى ذلك إلى إهدار الدم والجراح، لأنه لا يحضرهم الرجال إذا اجتمعوا للرمي- يبطل بشهادتهم على تخريق الثياب، وكسر القوس والسهم، وغير ذلك من الآلات التي معهم.

وأيضًا: فإن مقتضى ما ذكره قبول شهادة النسوة في الأعراس، والمآتم، والحمامات، لأنه لا يحضرهن غيرهن، وهو باطل بإجمال المسلمين.

قال: ولا مغفل، لأن المغفل: من كثر غلطه ونسيانه، ومن هذا حاله لا يؤمن غلطه في الشهادة، فلا يوثق به.

ص: 97

وهذا إذا أطلق الشهادة، فلو أتى بها مفصلة، ووصف المكان والزمان، وتأنق في ذكر الأوصاف- قال الإمام: فالشافعي قد يقبلها، فإنه إذا فصلها وهو عدل، لا يظن به اعتماد الكذب، وهذا ما أورده الفوراني والمسعودي والغزالي.

وضد ما ذكره الشيخ من مبتدأ قوله: ((ولا يقبل من عبد

)) إلى هنا، هو المعنى بالتوسط في الأحكام.

قال: ولا تقبل من صاحب كبيرة، ولا [من] مدمن على صغيرة، لقوله تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، وقوله تعالى:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، ومن اتصف بما ذكرناه فاسق، فوجب ألا يعتمد على قوله، ولا يساوي به العدل في قبول قوله، لما ذكرناه.

وإنما قلنا: إنه فاسق، لأن الفاسق في اللغة مأخوذ من الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة، أي: خرجت من قشرها، وسمي الغراب: فاسقًا، لخروجه من مألفه، وسميت الفأرة: فويسقة، لخروجها من جحرها.

و [هو] في الشرع: حقيقة- كما قال الماودري- فيمن كان مسخوط الدين والطريقة، لخروجه عن الاعتدال.

ومن اتصف بما ذكرناه كذلك.

ولقولهصلّى الله عليه وسلّم: ((لا تقبل شهادة خائنٍ [ولا خائنة])).

قال أبو عبيدة: لم يخص الخائن في أمانات الناس، بل كل من ضيع شيئًا مما أمره الله تعالى به، أو ارتكب شيئًا مما نهاه الله تعالى عنه- لا يكون عدلًا، لأنه قد لزمه اسم الخيانة، كذا حكاه في ((البحر)) عنه عند الكلام في رد شهادة العدو.

ص: 98

ولأن من اتصف بذلك، أشعر حاله بالتهاون بأمر الديانة، ومثله جدير بألا يخاف وبال الكذب، وضد من اتصف بهذا هو المعني بالمتوسط في الدين.

والمراد بالإدمان على الصغيرة: أن تكون الغالب من أفعاله، لا أن يفعلها أحيانًا، ثم يقلع عنها، فإن الإنسان لا يخلو من ذلك، ولهذا أشار الشافعي بقوله: ليس أحد من الناس نعلمه- إلا أن يكون قليلًا- يمحض الطاعة والمروءة [حتى لا يخلطها بمعصية، ولا يمحض المعصية وترك المروءة حتى لا يخلطها بشيء من الطاعة والمروءة]، فإذا كان الأغلب على الرجل والأظهر من أمره المعصية، وخلاف المروءة- ردت شهادته.

وقد استدل لذلك القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما بأن أفضل الناس الأنبياء- صلوات الله عليهم وسلامه- وقد قال تعالى: {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} [ص:24]، {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24]، وقال تعالى- حكاية عن يونس- عليه السلام:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].

وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم [قال:]((ليس منا معاشر الأنبياء إلا من عصى أو هم بمعصية، إلا أخي يحيي بن زكريا)).

ص: 99

قال أبو علي في (الإفصاح)): أراد إبليس- لعنه الله- أن يخطئ يحيي، فطلب إناء فيه ماء يعلمه يحيي من غير أن يشعر به، ثم تصور له، وقال: ما في هذا الإناء؟ فقال: كان فيه ماء.

وإذا كان شأن الأنبياء، فما ظنك بمن دونهم؟! وقد قال تعالى {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102]، فأناط الفلاح بالأغلب.

لكن الإدمان على الصغيرة، السالب للعدالة، هو المداومة على نوع من الصغائر، [أو الإكثار] من الصغائر، سواء كانت من نوع واحد، أو من أنواع مختلفة؟

قال الرافعي: منهم من يفهم كلامه الأول، ومنهم من يفهم كلامه الثاني، ويوافقه قول الجمهور: من تغلب معاصيه طاعاته، كان من ذوي الشهادة.

ولفظ الشافعي في ((المختصر)) قريب منه، وإذا قلنا به لم تضر المداومة على نوع واحد من الصغائر إذا غلبت الطاعات، وعلى الاحتمال الأول تضر، وهو الذي يقتضيه كلام الشيخ.

تنبيه: ما المراد بالكبيرة المؤثر فعلها في العدالة، والصغيرة المعتبر في تأثيرها [في] العدالة الإصرار أو الإدمان عليها؟

قال البغوي: الكبيرة: هي المعصية الموجبة للحد.

وقال غيره: هي المعصية التي يلحق صاحبها الوعد الشديد بنص كتاب أو سنة.

وقال الماوردي: هي ما وجب فيها الحد، أو توجه إليها الوعيد.

وقد يفهم هذا اللفظ مغايرة بينه وبين اللفظ قبله، لأن هذا يقتضي أن ما توعد عليه بالنص أو بالظاهر كبيرة، دون اللفظ الأول.

وقال القاضي أبو سعد: هي كل فعل نص الكتاب على تحريمه، وكل معصية توجب في جنسها حدًا من حبس أو غيره، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور، والكذب في الشهادة والرواية واليمين.

ص: 100

وحكى القاضي الحسين [أن الحليمي] قال: حد الكبيرة: كل محرم لعينه، منهي عنه لمعنى في نفسه- فتعاطيه كبيرة، وتعاطيه على وجه يجمع وجهين أو وجوهًا من التحريم يكون فاحشة، والفاحشة أعظم من الزنى.

ومثاله: أن الزنى كبيرة، فإذا زنى بحليلة جاره، وهي قريبة له أو لا- يكون فاحشة، وهذا عدها صلى الله عليه وسلم من [أكبر] الكبائر.

و ((الصغيرة)): قال الحليمي: حدها: تعاطي ما ينقص رتبته عن رتبة المنصوص عليه، [أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه، ولا يستوفي معنى المنصوص عليه-] يكون صغيرة، وتعاطيه على وجه يجمع وجهين أو وجوهًا من التحريم، يكون كبيرة.

مثاله: القبلة، واللمس، والمفاخذة تكون صغيرة، ولكن لو كان مع حليلة الجار القريبة له تكون كبيرة.

وقال الماوردي: هي ما قل فيها الإثم، قال الله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، وقال تعالى:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، وغيرهما سكت عن حدها، وكأنه اكتفى بحصر الكبائر عن ذكر الصغائر، لعدم انحصارها.

وقد جمع الإمام [في ((الإرشاد))] وغيره بين ما ترد به الشهادة من المعاصي بقوله: كل جريمة [توجد] بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، ورقة الديانة، فهي مبطلة للعدالة.

وأما الكبائر المذكورة في الكتاب العزيز، قال الماوردي: فلأهل التأويل فيها أربعة أقاويل:

أحدها: ما زجر عنه بالحد.

والثاني: ما لا يكفر إلا بالتوبة.

والثالث: [ما رواه] شرحبيل عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

ص: 101

الكبائر، فقال:((أن تدعوا لله ندا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك مخالفة أن يطعم معك، وأن تزني بحليلة جارك)).

والرابع: ما رواه سعيد بن جبير: أن رجلًا سأل عن ابن عباسٍ: كم الكبائر، أسبغٌ؟ فقال: هي إلى سبعمائة أقر منها إلى سبع، لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. فكأنه يرى كبائر الإثم: ما لم يستغفر الله تعالى منه بالتوبة.

وقد أعرض جماعة من الأصحاب عن ضبط الكبائر والصغائر بحد، واقتصروا على ذكر ما حضرهم مما اعتقدوه كبيرة وصغيرة، فقال الروياني: الكبائر سبع: قتل النفس بغير حق، والزنى، واللواط، وشرب الخمر-[أي:] قليله وكثيره- والسرقة، والقذف، واخذ المال غصبًا.

واعتبر أبو سعد في غصب المال أن يبلغ ربع دينار.

وضم في ((الشامل)) إلى السبع المذكورة: الشرك بالله تعالى، والكفر بنبي من أنبيائه صلوات الله عليهم أجمعين، وشهادة الزور.

وأضاف إليها في ((العدة)): [أكل] الربا، والإفطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم الصلاة على وقتها، أو تأخيرها عن وقتها بلا عذر، وأخذ الرشوة، والدياثة- يعني: الجميع بين الناس، واستماع المكروه والباطل، كما قال الشافعي: إذا كان الشخص لا يحسن الغناء، وإنما معه من يغني، ثم يمضي به [إلى] الناس، فإنه فاسق، قاله: وهذا دياثه-[و] القيادة بين الرجال والنساء، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة، ونسيان القرآن بعد تعلمه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب، والإياس من رحمة الله تعالى، والأمن من مكر الله تعالى.

ص: 102

ويقال: الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن [مما] يعد من الكبائر، والظهار، وأكل لحم الخنزير من غير ضرورة.

قال الرافعي: وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال: كقطع الرحم، وترك الأمر بالمعروف على إطلاقهما- ونسيان القرآن، وإحراق مطلق الحيوان بالنار.

وقد أشار الغزالي في ((الإحياء)) إل مثل هذا التوقف.

وفي ((التهذيب)) حكاية وجه: أن ترك الصلاة الواحدة إلى أن يخرج وقتها ليس بكبيرة، وإنما ترد الشهادة به إذا اعتاده.

قلت: وقد حكاه في ((الزوائد)) عن الطبري، والقاضي الحسين حكاه أيضًا، وهو المذكور في ((المهذب))، لأنه اعتبر في رد الشهادة باللعب بالشطرنج أن يتكرر منه ترك الصلاة عمدًا، والأصحاب قالوا ذلك فيما إذا اشتغل بسبب الفكر فيها [حتى] خرج وقت صلوات، أما إذا ترك الصلاة الواحدة مع الذكر كفى.

وقريب من ذلك ما قاله في ((البحر)): أن القفال قال: إذا أخرج الصلاة عن وقتها، اشتغالًا بخدمة رئيس أو كبير من الناس، أو [بإجابته إلى] ما يدعوه إليه، ووقع ذلك نادرًا- لا ترد به الشهادة، لاحتمال أنه غفل أو نسي.

وإن تكرر ذلك منه، أو عرفنا: أنه تعمد ذلك- ردت شهادته، لأن ترك الصلاة الواحدة من أكبر الكبائر. وحكى الرافعي عن [الروياني] رواية وجه: أن التشاغل باللعب بالشطرنج إذا فات به صلاة واحدة [ترد به الشهادة].

وقد ألحق بعضهم بالكبائر الشرب من أواني الذهب والفضة، والتختم بالذهب، ولبس الحرير، والجلوس عليه، حتى [قال]: لا ينعقد النكاح بحضور الجالس على الحرير، واستبعده الأصحاب.

وعد العراقيون منها: سماع الأوتار، والمعازف، والمزمار العراقي، وما هو من شعار الشرب، وقالوا: الفعلة الواحدة من ذلك ترد بها الشهادة.

والمشهور: [أن ذلك] كله من الصغائر.

ص: 103

قال الغزالي- تبعًا لإمامه-: وما ذكرناه في سماع الأوتار مفروض فيما إذا لم يكن الإقدام عليه مرة يشعر بالانحلال، أما إذا كان فالمرة الواحدة ترد بها الشهادة.

وطرد الإمام ذلك فيما جانس ذلك.

واللعب بالنرد ملحق بالقسم المختلف فيه، لأن الشيخ أبا محمد قال: إنه من الصغائر مع القول بأنه محرم. والصحيح على [هذا] أنه من الكبائر، وطرد الإمام فيه التفصيل الذي ذكرناه في المزمار.

وقد عاد القاضي الحسين من الصغائر ترك السنن الراتبة، وكذا دعاء الاستفتاح، أو تسبيحات الركوع والسجود، وتبعه في ((التهذيب)).

وعن أبي الفرج حكاية وجه في ترك غير الوتر وركعتي الفجر-[أنه لا ترد الشهادة باعتياد تركها.

قال القاضي]: ولو أبدل الوتر وركعتي الفجر بقضاء الفوائت، ردت.

وعد في ((العدة)) من الصغائر: النظر بالعين [إلى ما] لا يجوز، [و] الغيبة، والضحك من غير عجب، والكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر، والاطلاع على بيوت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث، وكثرة الخصومات وإن كان الشخص محقًا، والسكوت عن الغيبة والنياحة والصياح وشق الجيب في المصائب، والتبختر في المشي، والجلوس مع الفساق متأنسًا بهم، والصلاة المكروهة في الأوقات المكروهة، والبيع والشراء في المسجد، وإدخال الصغار والمجانين والنجاسات فيه، وتخطي رقاب الناس [يوم الجمعة]، والكلام والإمام يخطب، والتغوط مستقبل القبلة، وفي طريق المسلمين، وكشف العورة في الحمام.

قال الرافعي: ولك أن تتوقف في كثرة الخصومات للمحق، وتقول: ما ينبغي أن تكون بمعصية أصلًا، إذا راعى حد الشرع. وفي تخطي الرقاب يوم الجمعة،

ص: 104

فإنه معدود من المكروهات دون المحرومات، وكذلك الكلام والإمام يخطب.

قلت: وهذا منه يدل على اختصاص الصغائر بالمحرمات، وهو الأقرب، لكن سنذكر أن اللعب بالشطرنج ليس بمحرم على المذهب، و [قد] عده الغزالي من الصغائر.

وفي ((البحر)): أن من كذب عن قصد، ردت شهادته، وإن لم يكن [يقع بقوله ضرر على أحد غيره، لأن] الكذب حرام بكل حال.

قال القفال: إلا أن يقوم ذلك على مذهب الكتاب والشعر في المبالغة في الكلام، وقد عد في ((الأيام)) من الصغائر.

وقال ابن الصائغ: غشيان الدعوى بغير دعاء من غير ضرورة، وعدم استحلال صاحب الطعام، لأنه قال: إذا تتابع ذلك منه ردت شهادته، لأنه يأكل محرمًا إذا كانت الدعوة دعوة رجل بعينه، فأما إذا كانت دعوة سلطان أو شبيه به، فيدعو الناس إليه، فهذا طعام عام، فلا بأس به.

وفي ((الزوائد)): أن الطبري عد من الصغائر [من] يهازل زوجته أو جاريته بحيث يسمع غيره، فإن جاء به نادرًا لم ترد [به] الشهادة، [فإن أكثر] منه ردت به.

وقد عد الغزالي منها: شرب الحنفي النبيذ.

والمنقول عن الشافعي أنه قال: الحنفي إذا شرب النبيذ حددته، وقبلت شهادته. وأن المزني قال: كيف يحد من شرب قليلًا من نبيذ شديد، وتجوز شهادته؟!

فمن الأصحاب من قال المزني: يختار أنه لا يحد، كما لا يفسق، وهذا ما حكاه الماوردي والجمهور عنه، وجعله بعض الأصحاب وجهًا.

[ومنهم من قال: إنه يختار: أنه يفسق، كما يحد، وجعله بعض الأصحاب وجهًا]، وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة أوجه:

أصحها: المحكي عن النص، ولم يورد العراقيون والماوردي سواه، وفرقوا بين الحد والفسق بفروق:

أحدها: أن الحد آكد من الفسق، ولذلك يسقط الفسق بالتوبة دون الحد.

ص: 105

الثاني: أن الغرض بالحد الزجر والردع، ويحتاج شارب القليل إلى الردع عنه، لأنه قد يدعوه إلى كثيره، وربما سكر منه، ورد الشهادة مأخذه عدم الثقة بقوله، وإذا لم يعتقد التحريم لم تسقط الثقة بقوله.

الثالث: إن الحد إلى الإمام، فاعتبر فيه اعتقاده، ورد الشهادة يعتمد عقيدة الشاهد، ولهذا لو غصب جارية، ووطئها على اعتقاده: أنه يزني، ثم تبين أنها كانت مملوكة [له]- فسق، وردت شهادته.

ولو وطئ جارية الغير عن ظن أنها جاريته، لا ترد شهادته.

وعلى هذا لو كان الشارب لما لا يسكر من النبيذ يعتقد التحريم- كالشافعي- ففي رد شهادته بذلك وجهان:

أحدهما: لا ترد، لأنه اعتقد تحريمه بطريق مظنون، فالشبهة فيه قائمة، ولأن استحلال الشيء أشد من فعله، ولهذا لو استحل الزنى كفر، ولو فعله لم يكفر، وإذا لم ترد شهادة مستحل الشرب، فشهادة الشارب أولى، وهذا يحكي عن ابن أبي هريرة، ولم يحك القاضيان: أبو الطيب والحسين في ((تعليقهما)) سواه، وعيه يدل النص في ((المختصر)) حيث قال: ومن شرب سواها- أي: سوى الخمر الصرف من المنصف، أو الخليطين- فهو آثم، ولا ترد شهادته إلا أن يسكر، وإنما يؤثم من يعتقد التحريم، ولهذا رجحه ابن الصباغ والمصنف والمتأخرون من الأصحاب، كما قال في ((البحر)).

وعلى هذا فإنما يحكم بالفسق ورد الشهادة إذا ارتكب مجمعًا على تحريمه، لأن من فعل ما لا شبهة له فيه، يكون مقدمًا على مقطوع بتحريمه، فيخاف منه شهادة الزور المحرمة بالإجماع.

والثاني- ويحكى عن أبي إسحاق-: أنها ترد، لأنه [إذا] ارتكب ما يعتقده محظورًا، لم يؤمن جراءته على شهادة الزور وسائر المحظورات، وهذا ما أورده الإمام، كما قال الرافعي والماوردي، وقال ابن الصباغ: إن القاضي حكاه في ((المجرد))، وحكى في ((البحر)): أن القاضي أبا الطيب وجماعة رجحوه، وعليه ظاهر النص، فإنه قال في ((الأم)): وإذا كان الرجل المستحل [الأنبذة] يحضر مع أهل السفه الظاهر، ويترك لها حضور الصلوات، وينادم عليها- ردت

ص: 106

شهادته بطرحه المروءة، وإظهاره السفه، فإذا لم يكن ذلك معها، لم ترد شهادته من قبل الاستحلال، وهذا نص صريح على الفرق.

قال القفال: وعلى هذا: لو نكح بغير ولي، ووطئها، فإن اعتقد الإباحة لا ترد شهادته، وإن اعتقد فساده ردت شهادته، وعليه يدل نص الشافعي الذي حكاه في ((البحر)) بعد ذلك: أن الشافعي قال: والمستحل لنكاح المتعة، والمفتي بها، والعامل بها- لا ترد شهادته، ولا يحد.

وعلى هذا- أيضًا- لو شرب من لم يعتقد الإباحة في ذلك ولا الحظر، ما لا يسكر من النبيذ مع علمه باختلاف أهل العلم في إباحته وحظره- قال في ((الحاوي)): ففي فسقه ورد شهادته بعد وجوب الحد عليه، وجهان لأصحابنا:

قال البصريون: هو فاسق مردود الشهادة، لأن ترك الاسترشاد في الشبهات تهاون بالدين، فصار فسقًا.

وقال البغداديون: هو على عدالته وقبول شهادته، لأن اعتقاد الإباحة أغلظ من الشرب كما ذكرنا، ولو اعتقد الإباحة لم يفسق.

[وحكم المقلد فيما ذكرناه حكم مقلده إذا فعل، صرح به في ((البحر)) وغيره.

ولا خلاف أنه إذا شرب من النبيذ ما أسكره: أنه يفسق]، لقيام الإجماع على أن السكر حرام، وما ألحقه الشافعي من عصير العنب بالنبيذ إذا كان مختلطًا، فهو- كما قال الماوردي- إذا خلط بالماء قبل أن يصير مسكرًا، [أما إذا خلطه بعد أن صار مسكرًا] فهو كالخمر.

وكما يفسق شارب الخمر يفسق بائعها، لأنه- عليه السلام لعنه كالشارب، ولا يفسق عاصرها ومعتصرها وإن شملتهما اللعنة.

قال الرافعي: لأنه قد لا يتخذها خمرًا، ولهذه العلة قلنا لا يفسق أيضًا إذا باع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرًا.

ولفظ القاضي أبي الطيب يفهم خلافه، فإنه قال: إذا باع العصير من رجل، نظر: فإن كان لا يعلم أنه يعمله خمرًا، فإن ذلك لا يؤثر في عدالته، لأنه لا يعلم حقيقة ما يفعل به، لأنه ربما فعل به غير الخمر.

ص: 107

قال ابن الصباغ: ولا يفسق الممسك، لأنه يجوز أن يمسكها، ليخللها، والتخليل مختلف في جوازه.

[و] في ((تعليق)) البندنيجي أن الشافعي قال: لو اتخذ الخمر، لم أرد شهادته بذلك، لأنه قد يغيرها بأن يخللها، وقد يريقها.

وفي ((الحاوي)): أنه [إذا] أمسك الخمر، وقصد به أن تنقلب فتصير خلًا، جاز، [ولم] يفسق به، [لأنه] يحل بالانقلاب. وإن قصد ادخارها على حالها، كان محظورًا يفسق به، لأن إمساكها داع إلى شربها، وما دعا إلى الحرام محظور.

فرع: حكى في ((البحر)) في الفروع المذكورة قبل كتاب الشهادات: أن العدل لو نوى أن يواقع كبيرة غدًا: كالقتل، والزنى- لم يصر به فاسقًا.

وإذا نوى المسلم أن يكفر غدًا فهل يكفر في الحال؟ فيه وجهان، والصحيح: أنه يصير كافرًا في الحال.

والفرق: أن نية الاستدامة في الإيمان شرط، والنية لا توجب في حق من لا ذنب له، فإنه ليس الأصل وجوب الفسق، والأصل فقد الإيمان، وإيجاب فعله.

واعلم أنه قد دخل فيما ذكره الشيخ الكافر، لأن الكفر- كما ذكرنا- من أكبر الكبائر.

قال الأصحاب: ولا فرق في عدم قبول شهادته بين أن تكون على مسلم أو كافر، موافق له في الاعتقاد أو مخالف.

قالوا: ولا حجة لمن سمع شهادتهم على أهل دينهم في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبل شهادة أهل دين على غير أهل دينهم إلا المسلمين، فإنهم عدول على أنفسهم، وعلى غيرهم))، لأن هذا الخبر لو دل لهم فإنما يدل بالمفهوم، وهم لا يقولون به. ولا يقال: أنتم تقولون [به]، فكيف خالفتموه؟ لأنا نقول: إنما نقول به في الموضع الذي لا يكون غيره أقوى منه، [وهنا ما هو أقوى منه].

ص: 108

وأيضًا: فإن دليل الخطاب إنما نقول به في الموضع الذي لا يئول إلى إبطال نطقه، أما إذا أدى إلى إبطال نطقه فلا نقول به، لأن النطق أقوى منه، لأنه أصله، والأصل إذا بطل طل الفرع، والأمر ها هنا كذلك، والله أعلم.

قال: ولا تقبل ممن لا مروءة له: كالكناس، والنخال، والقمام- أي: الذي يجمع القمامة- بضم القاف- وهي الكناسة، ويحملها، والفعل منه: قم، يقم- والقيم في الحمام، والذي يلعب بالحمام- أي: مثل أن يتخذها، ليطيرها، وينظر تقلبها في الجو، ويشغله ذلك عن إيقاع الصلوات في وقتها، كما ذكرناه في اللعب بالشطرنج، أو يقترن بذلك قمار، كذا صوره أبو الطيب وغيره.

والقوال، أي: المعنى للناس، سواء أتوه إلى موضعه أو أتاهم، دون ما إذا كان لا ينسب نفسه إليه، وإنما يترنم لنفسه، فإنه لا ترد شهادته.

والرقاص، أي: الذي يعتاد الرقص، يقال: رقص يرقص رقصًا.

والمشعوذ، ومن يأكل في الأسواق، أي: ينصب مائدة، وهو مما لا يعتاد مثله ذلك، دون من عادته أن يأكل القليل على باب دكانه، لشدة جوعه، كما قاله البندنيجي، أو كان ممن عادتهم أن يتغدوا في الأسواق: كالصباغين، كما قاله القاضي الحسين.

وكذا السماسرة الذين لا حشمة لهم، ولا وجاهة.

ويمد رجله عند الناس- أي: من غير مرض، كما قاله البندنيجي- ويلعب بالشطرنج على الطريق، وكذا كشف ما ليس بعورة من بدنه، والحكايات المضحكة، وذكر أهل وزوجته بالسخف، كما ذكره ابن الصباغ، ونحو ذلك.

والأصل في هذا: أن حفظ المروءة من دواعي الحياء ووفور العقل، فطرحها إما أن يكون لخبل [في العقل] ونقصان، أو لقلة حيائه ومبالاته بأمر نفسه، وعلى كلا التقديرين، فعدم الثقة بقوله حاصل: أما المخبل فظاهر، وأما الآخر، فلأن من لا حياء له، صنع ما شاء، روى أبو مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).

ص: 109

ولأن من أطرح التحفظ في حق نفسه، كان أولى أن يقل تحفظه في حق غيره. وقد تكلم الأصحاب في ضبط المروءة، واختلفت عباراتهم مع تقاربهم:

فمن قائل: حفظ المروءة: أن يصون نفسه عن الأدناس، ومما يشينها عند الناس.

ومن قائل: أن يسير بسيرة أشكاله وأمثاله، من أهل عصره في زمانه ومكانه.

ومن قائل: أن يحفظ نفسه من فعل ما يسخر به، ويضحك عليه بسببه.

والمرجع فيها إلى العرف والعادة، فقد يكون الشيء مروءة لقوم، وتركه مروءة لآخرين، فإن السوقي لو تطيلس كان تاركًا للمروءة، وهو من الفقيه مروءة، والفقيه لو تمنطق وتقلنس، يكون تاركًا للمروءة، وذلك من الشرطي مروءة.

قال الإمام: وكل هذا في ضبط ما لا يحرم في نفسه، ولو أقدم عليه المقدم لم يأثم ولم يعص، فإن حق الكلام في المروءة أن تفصل عن مقارفة الذنوب، والأقرب فيه أن يقال: كل انحلال عن انفصام المروءة يشعر بترك المبالاة والخروج عن المماثلة، فهو يسئ الظنون بالتحفظ بالشهادة.

وقال الماوردي: المروءة على ثلاثة أضرب:

ضرب يكون شرطًا في العدالة، وهو مجانبة ما يسخف من الكلام المؤذي، أو الضحك، وترك ما قبح من الفعل الذي يلهو به، أو يستقبح، لمعرته أو أذيته، فمجانية ذلك من المروءة التي هي شرط [في] العدالة، وارتكابها مفض إلى الفسق، وكذلك نتف اللحية من السفه الذي ترد به الشهادة، وهكذا خضابها سفه ترد به الشهادة، لما فيها من تغيير خلق الله.

وفي ((البحر)) في الفروع المذكورة بعد كتاب الأقضية إبداء ما ذكره الماوردي في نتف اللحية احتمالًا موجهًا [له] بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أبغض الله عبدًا ألهمه أكل

ص: 110

الطين ونتف اللحية))، وهذا قاله بعد أن جزم القول بأن الشهادة لا ترد به، لأنه ليس بحرام وإن كان مكروهًا، وقال ها هنا: إن رد الشهادة به أصح عندي.

وضرب لا يكون شرطًا فيها، وهو الإفضال بالمال، والطعام، والمساعدة بالنفس والجاه.

وضرب مختلف فيه، وهو على ضربين: عادات، وصنائع.

فأما العادات: فهو أن يقتدي فيها بأهل الصيانة [دون أهل البذلة في ملبسه ومأكله وتصرفه، فلا يتعرى من ثيابه في بلد يلبس فيه أهل الصيانة ثيابهم، ولا ينزع سراويله في بلد يلبس فيه أهل الصيانة] سراويلاتهم، ولا يكشف رأسه في بلد يغطي فيه أهل الصيانة رءوسهم. وإن كان في بلد لا يتحامى أهل الصيانة ذلك فيه، كان عفوًا: كالحجاز، و ((البحر)) الذي يقتصر أهله على لبس المئرز.

وأما المأكل فلا يأكل على قوراع الطرق، ولا في مشيه، ولا يخرج عن العرف في مضغه، ولا يغالي بكثرة أكله.

وأما التصرف فلا يباشر ابتياع مأكوله ومشروبه، وحمله بنفسه [في] بلد يتجافاه أهل الصيانة إلى نظائر هذا مما فيه بذلة وترك تصون.

قال الإمام: إلا أن يتبع في ذلك رأي السلف، والتواضع، ويظهر أنه لم يفعله بخلًا ولا شحًا.

قال الماوردي: وفي اعتبار هذا الضرب من المروءة في شروط العدالة أربعة أوجه:

أحدها: أنه غير معتبر فيها، لأنه قد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما يقاربه.

والثاني: أنه معتبر فيها وإن لم يفسق به، لأن العدالة في الشهادة للفضيلة المختصة بها، وهي تالية لفضيلة النبوة، قال الله تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} الآية [البقرة:143]، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الآية [البقرة:143]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:33 - 35].

ص: 111

وما كان بهذه الفضيلة امتنع أن يكون مسترسلًا في البذلة، وليس ما فعله الصدر الأول بذلة، لأنه لم يخرج عن فعل أهله في الزهادة والانحراف عن الدنيا إلى الآخرة.

والثالث: إن كان نشأ عليها من صغره لم تقدح في عدالته، وإن استجدها في كبره، قدحت في عدالته، لأنه يصير بالمنشأ مطبوعًا بها، وبالاستحداث مختارًا لها.

والرابع: إن اختصت بالدين قدحت في عدالته: كالبول قائمًا، وفي الماء الراكد، وكشف عورته إذا خلا، وأن يتحدث بمساوي الناس. وإن اختصت بالدنيا لم تقدح في عدالته: كالأكل في الطريق، وكشف الرأس بين الناس، والمشي حافيًا، لأن مروءة الدين مشروعة، ومروءة الدنيا مستحسنة.

واعلم أن الشيخ عد الكناس، والنخال، والقمام، والقيم في الحمام- ممن لا مروءة له، لأن تعاطيه هذه القاذورات وملازمته لها تدل على قلة مروءته، وكونها صنائع لا يمنع ذلك.

لكن القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين أدرجوا ذلك في قسم أصحاب المكاسب الدنيئة التي سنذكرها من بعد، فأجروا فيها الخلاف.

وعن أبي الفياض حكاية وجه فارق بين ما يحوج إلى مخامرة القاذورات والنجاسات، فترد به الشهادة، وبين ما لا يحوج إليه فلا ترد، فكأن الشيخ أخذ بها في ملابسه القاذورات، لكونه رآه أظهر فيها.

وحكى الخلاف فيما لا يلابس فيه القاذورات، لأنه أبعد عن الدناءة، ولهذا رجح أنه لا يمنع القبول.

وحكى القاضي [الحسين] عن الدراكي: أنه قال: لا تقبل شهادة الحمامي الذي يجلس على القبالة، لأنه ينظر إلى عورات الناس، فإن كان ممن يتورع عن ذلك قبلت شهادته.

وحيث رددنا الشهادة بما ذكر، فذاك إذا اتخذه عادة.

قال الأصحاب: ولو اتخذ الحمام للأنس أو الاستفراخ، أو لإنفاذه بالكتب لم يترد شهادته، وكذا إذا اتخذها ليطيرها وينظر تقلبها في الجو، ولم يلحقه

ص: 112

بسبب ذلك سهو عن صلاة، ولا قرنه بقول الهجر من القول، ولا بقمار، سواء قل ذلك منه أو كثر، كما في اللعب بالشطرنج في البيت إذا خلا عن ذلك، كذا قاله أبو الطيب وغيره، لكن ذلك مكروه، كما في اللعب بالشطرنج.

وحكى الرافعي وجهًا آخر: أنه لا كراهة في هذه الحالة، كما لا كراهة [في] الاتخاذ للاستفراخ والأنس.

والوجهان منسوبان في ((الوسيط)) للعراقيين، وأنهما مذكوران في رد الشهادة من جهة: أنه يقدح في المروءة.

وما ذكره الشيخ وغيره في اللعب بالشطرنج مفرع على أن اللعب بها مكروه، وليس بمحرم إذا لم يلحقه به سهو عن صلاة، ولا اقتران به هجر من القول، ولا قمار، وهو الذي نص عليه الشافعي، وصححه الجمهور، بخلاف اللعب بالنرد، فإنه حرام على الصحيح في ((الحاوي)) وغيره، وبه قال ابن أبي هريرة، وابن القاص، وأبو علي الطبري، وأكثر الأصحاب، كما قاله الماوردي، والقاضي أبو الطيب، لقوله صلى الله عليه وسلم:((من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله)).

والفرق: أن الشطرنج موضوعة لصحة الفكر، وصواب التدابير، ونظام السياسة، فهي تعين على تدبير الحروب والحساب، والنرد موضوعة إلى ما تأتي به الفصوص، فهي كالأزلام.

وقد حكى عن ابن خيران وأبي إسحاق المروزي والأسفراييني: أنهم قالوا: إنه مكروه كالشطرنج، لكنه أشد كراهة، وتمسكوا في ذلك بقوله الشافعي في أدب القضاء من ((الأم)): ((وأكره من جهة الخبر اللعب بالنرد أكثر مما أكره اللعب بشيء من الملاهي، ولا أحب اللعب بالشطرنج، وهي أخف حالًا [من اللعب

ص: 113

بالنرد]، فإن ظاهر هذا الكلام يدل على أن اللعب [بالنرد ليس بمحرم، ولهذا قال البندنيجي: إن اللعب] به عند الشافعي كاللعب بالشطرنج، غير أنه أشد كراهة.

وقال القاضي أبو الطيب- كما حكاه في ((البحر)) عنه-: إنه المذهب، وقضية هذا ألا ترد الشهادة باللعب به وإن تكرر، كالشطرنج، وإليه يرشد قول أبي إسحاق الذي حكاه في ((البحر)): ولا يبين منع ذلك رد الشهادة إلا أن يكون قمارًا. لكن المذكور في ((الحاوي)): أن الشهادة ترد به وإن قلنا: إنه مكروه.

وحكى عن الحليمي أنه ألحق اللعب بالشطرنج بالنرد في التحريم، وأن الروياني اختاره.

وعلى هذا لا نحتاج في رد الشهادة به إلى أن يكون على الطريق، بل [يكون] الحكم فيه كاللعب بالنرد ويقع الكلام في أنه من الصغائر أو الكبائر؟

ومقابل هذا الوجه في البعد وجه [محكي فيما] علق عن الإمام: أن اللعب بالشطرنج مباح لا كراهية فيه، وهو في ((الحاوي)) - أيضًا- لأنه قال: اختلف أصحابنا فيما تستند إليه الكراهة على وجهين.

أحدهما: إليها نفسها، لكونها جزءًا من اللعب.

والثاني: أنها تستند لما يحذر عنها من الخلاعة، وعلى هذا لو انتفت الخلاعة عند اللعب بها، كان مباحًا.

وقد اتفق الكل على أنه لو اقترن باللعب بالشطرنج تشاغل، بحيث انقطع له ليله ونهاره، ولها به عما سواه، أو خلاعة بذكر الهجر من القول، أو قمار، كما إذا أخرج كل من المتلاعبين مالًا، وشرطًا أيهما غلب أخذ المالين- ردت شهادته، لقوله تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية [المائدة:90]، والميسر: القمار.

وقد تقدم الكلام في أنه لو اشتغل بها عن صلاة واحدة ما حكمه؟

ولو أخرج [أحد] اللاعبين المال على أنه إن غلب عاد إليه، وإن غلب أخذه الغالب، ففي ((الحاوي)) حكاية وجهين في جواز ذلك مع اتفاقهم على جوازه في السبق والرمي، بناء على اختلافهم في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا سبق إلا في خف،

ص: 114

أو حافرٍ، أو نصلٍ))، هل هو أصل بذاته، أو استثناء من جملة محظور؟ على وجهين:

أحدهما: أنه أصل بنفسه، يجوز القياس عليه، فعلى هذا يجوز في مثله في الشطرنج، قياسًا على السبق والرمي، لجواز القياس على أصول النص، ولا يكون إخراج هذا العوض في الشطرنج محظورًا، ولا يكون به مجروحًا.

والثاني: أن الخبر في السبق والرمي استثناء من جملة محظور، فعلى هذا لا يجوز مثله في الشطرنج، ويكون إخراج هذا العوض في الشطرنج محظورًا، ويصير بإخراجه مجروحًا.

وحكي مثل هذين الوجهين فيما إذا لعب بالحمام على [مثل] هذا الوجه تخريجًا على الأصل المذكور.

[و] الذي حكاه البندنيجي والقاضي أبو الطيب في مسألة الشطرنج: أنه لا يصير واحد منهما مجروحًا، كما لو لعبا بغير عوض، فإن هذه المعاقدة فاسدة، ولا يملك الغالب العوض، وإن أخذه وجب رده.

فروع:

أحدها: الغناء بغير آلة مكروه عندنا، غير محرم على المشهور.

وعن أبي الفرج الزاز رواية وجهين:

أحدهما: أنه يحرم كثيره دون قليله.

والثاني: أنه حرام على الإطلاق.

وعلى المشهور: إذا اتخذ الرجل غلامًا، أو جارية تغني [له]، فإن كان يجمع عليها الناس فهذا سفه، ترد به الشهادة، وهو في الجارية آكد، لأن فيها سفهًا ودياثة. وإن كان لا يجمع عليها الناس، وإنما يتخذ ذلك لنفسه كان مكروهًا، ولا ترد به الشهادة، قاله ابن الصباغ [وغيره].

وخص الماوردي ذلك بما إذا لم يكن مكثرًا في ذلك، ولا متجاهرًا به.

وقال فيما إذا دعا من يشركه في سماعها: فإن كان يدعوهم من أجل الغناء،

ص: 115

ردت شهادته، وكذا إن دعاهم لغيره، وأسمعهم إياه، وكثر حتى اشتهر، وإن قل، ولم يشتهر- فإن كان الغناء من غلام لم ترد شهادته، وإن كان من جارية فسيأتي.

الفرع الثاني: إذا كان يغشى بيوت الغناء، ويغشاه المغنون للسماع، فإن كان في خفية لم ترد شهادته، لأنه لم تسقط مروءته، وإن كان متظاهرًا، فإن كان قليلًا لا يكثر منه، فكذلك، وإن كثر منه، ردت، لأنه سفه وترك مروءة.

قال في ((الشامل)) و ((البحر)): ولم يفرق أصحابنا فيما ذكرناه بين سماع الغناء من الرجل والمرأة.

وينبغي أن يكون [سماع] الغناء من الأجنبية أشد كراهة من سماعه من الرجل، لأنه لا يؤمن الافتتان بها وإن كان صوتها ليس بعورة في الجملة، ألا ترى أو وجهها ليس بعورة، ولا يجوز أن ينظر إليه من يخاف الافتنان به؟!

وفي ((الرافعي)): أن القاضي أبا الطيب قال بتحريمه من الأجنبية.

قال الرافعي: وهذا هو الخلاف الذي سبق في أن صوتها هل هو عورة؟.

فإن كان في السماع منها خوف فتنة، حرم لا محالة، وكذا السماع من صبي يخاف منه الفتنة.

وقال في ((الحاوي)): إن [كان] الغناء من الغلام لم ترد شهادته، وإن كان من جارية: فإن كان من حرة ردت شهادة مستمعها إذا اعتمد السماع، وإن كانت أمة فسماعا أخف، لنقصها في العورة، وهو أغلظ من سماع الغلام، لزيادتها عليه في العورة، فيحمل أن تلحق بالغلام، فلا ترد الشهادة بسماعها، ويجوز أن تلحق بالحرة فترد.

الفرع الثالث: إذا استمع الحداء ونشيد الأعراب، قال الشافعي: فلا بأس به.

ص: 116

قال الأصحاب: ووجهه في الأولى: أنه صوت لا يؤثر في القلب طربًا، فكان كسائر الكلام.

[و] وجهه في الثانية: ما روى الشافعي بسنده عن شريك أنه قال: ((أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أمعك من شعر أمية شيء؟ فقلت: نعم، فقال: هيه، فأنشدته بيتًا، فقال: هيه، فأنشدته بيتًا، فقال: هيه، فأنشدته بيتًا، فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيتٍ)).

إذا كان يغني إذا اجتمع مع إخوانه، لينشرحوا بصوته، وليس بمنقطع للغناء، ولا يأخذ عليه أجرًا- قال في ((البحر)): نظر: فإن صار مشهورًا به، يدعوه الناس من أجله، فإن كان متظاهرًا به، ومعلنًا [له]، ردت شهادته. وإن كان مستترًا به، فلا.

قال: وأما أصحاب المكاسب الدنيئة: كالحارس، والحائك، والحجام فقد قيل: تقبل شهادتهم إذا حسنت طريقتهم في الدين، أي: بحيث كانوا يتجنبون النجاسات، ويغسلون ما أصابهم منها، لأن بالناس حاجة إلى ذلك، وهو من فروض الكفايات، فإذا ردت شهادة من يتولاه، كان ذلك طريقًا إلى تركه ولحوق الضرر بعامة الناس، وقد قال صلى الله عليه وسلم:((اختلاف أمتي رحمة))، وفسره الحليمي باختلافهم في الحرف والصنائع، كما حكاه الإمام وغيره عنه عند الكلام في الكفارة.

وقيل: لا تقبل، لأن هذه صنائع دنيئة تذهب معها المروءة.

قال: والأول أصح، لما ذكرناه.

ومنهم من قال: تقبل شهادة الحائك وإن [لم] تقبل شهادة غيره، حكاه العراقيون، واختاره القفال، لأنه ينسج غزلًا، كما يخيط الخياط [ثوبًا] منسوجًا.

قال الإمام: وهو حسن، لكن الناس متفقون على الازدراء بالحاكة.

ص: 117

وإذا جمعت هذا مع تقدم جاءك في الكل ثلاثة أوجه: ثالثها: تسمع شهادة الحائك دون ما عداه، وكذا حكاه الماوردي، وألحق القصاب والسماك بالحائك.

قال في ((البحر)): وقيل: هما أحسن حالًا منه.

والدباغ ملحق بالقيم في الحمام.

والأساكفة، قال القاضي الحسين: إن كانوا يستعملون شعر الخنزير- وهو: الهلب- ولا يغسلون الثياب عنه، فلا خلال أنه لا تقبل شهادتهم.

وإن كانوا يستعملون الهلب، ويغسلون الفم والأيدي من ذلك، فهل تقبل شهادتهم؟ فيه وجهان، الأصح: أنها لا تقبل.

وإن كانوا يخرزون بالليف، أو بشعر الزرافة ويغسلون الثياب عن النجاسات فالأصح من المذهب: قبول شهادتهم.

والصباغون والصاغة، أطلق الجمهور القول بقبول شهادتهم، إلا أن يصدر منهم كذب في الموعد، كما في سائر المحترفة، ويتكرر، فترد به شهادتهم.

وعن كتاب ابن كج: أن بعض الأصحاب ألحق الصباغين [والصواعين] بمن ترد شهادتهم.

وقد خص الغزالي محل الخلاف فيمن ذكرناهم إذا كان يليق كل حرفة بمن اكتسب بها، وكانت من صنعة آبائه، فأما غيره إذا اختارها واشتغل بها، سقطت مروءته.

قال الرافعي: وهو حسن، وقضيته أن يقال: الإسكاف والقصاب إذا اشتغلا بالكنس، سقطت مروءتهما، بخلاف العكس.

وذكر القاضي الحسين عند الكلام في شهادة الوالد للولد طريقة أخرى، فقال: شهادة الحمال في يسير من المال مقبولة، وكذا الدلال، وتارك المروءة، ونحوه، لأن الغالب أنهم لا يقصدون بمثل ذلك.

وإن شهدوا بمال كثير، نظر:

إن كان الشيء مما يقصد بالإشهاد عليه فلا يقبل، لأن الغالب أن من [يتخذ] على شيء شاهدًا، فلا يقصد حمالًا ولا كيالًا.

ص: 118

وإن كان الشيء مما لا يقصد بالإشهاد، مثل أن يرى رجلًا غصب مال رجل، فإنه يجوز أن يتفق مثل هذا، فتقبل شهادته فيه.

قال: وتقبل شهادة الأخرس، أي: إذا كانت له إشارة مفهمة، لأن إشارة الأخرس كعبارة الناطق في نكاحه، وطلاقه، وبيعه، وشرائه، وجميع الأمور، كما قال البندنيجي في باب حد الزنى، فكذا في شهادته، وهذا ما نسبه البندنيجي في باب حد الزنى إلى أبي إسحاق، وهنا إلى ابن سريج، وهو المذكور في ((الحاوي)) في مواضع.

وقيل: لا تقبل، لأن الإشارة لا تصرح، وإنما تعرف بالاستدلال الظن، ولا حاجة بالقاضي [إلى] إقامة الظن مقام العلم، لأنه يمكنه أن يستشهد غيره، بخلاف العقود، فإنها لا تستفاد إلا من جهته: إما بعقده، أو بإذنه، فكان تصحيحه للضرورة، وهذا ما صححه النواوي، والغزالي في كتاب اللعان، وحاكه البندنيجي في باب حد الزنى عن النص، وقال هنا: إنه المذهب. وكذلك الماوردي قال هنا وفي كتاب الأقضية: إنه المذهب. وفي كتاب اللعان: إنه [الذي] عليه جمهور أصحابنا، وهما في ذلك متبعان للشيخ أبي حامد، فإن هذه طريقته، كما حكاها ابن الصباغ.

قال: والأول [أصح]، لما ذكرناه، والشيخ فيه موافق لأبي عبد الله الحناطي، وشيخه [القاضي] أبي الطيب، فإن القاضي في باب حد الزنى حكاه عن رواية ابن المنذر عن المزني [عن مذهب الشافعي، وقال هنا: إنه حكاه أبو بكر بن المنذر عن المزني].

وإني سمعت أبا عبد الله الحناطي يقول: إنه المذهب، وإن أبا العباس قال: لا يسمع. وكان رجلًا حافظًا لكتب الشافعي، وكتب أبي العباس.

وقد ذكر المزني هذه المسألة في ((الجامع الكبير))، وذكر أن الذي يجيء على قياس قول الشافعي أن شهادته تصح، كما في نكاحه، ولم أحد للشافعي نصًا، وإنما وجدت هذا في كتاب المزني، وهو أعلم بمذهب الشافعي وما تقتضيه أصوله من غيره.

ص: 119

وقولهم: إنه به حاجة إلى العقود [دون الشهادة، لا يصح، لأنه يجوز أن يكون وكيلًا لغيره في العقود] وإن لم تدع الحاجة إليه، وقد تتعين عليه شهادة تحملها قبل الخرس، فتدعو الحاجة إلى سماعها منه.

قال: وتقبل شهادة الأعمى فيما تحمله قبل العمى، أي: على من عرف اسمه، ونسبه، لأنه مساوٍ للبصير في العلم بذلك، والبصير يجوز أن يشهد والحالة هذه وإن لم ير المشهود عليه لغيبة أو موت، فكذلك الأعمى يجوز أن يشهد عليه وإن لم يره، وهكذا نقول من طريق الأولى لو عمي بعد الشهادة وقبل الحكم.

ولا يقال: إن العمى نفسه مانع من الشهادة كالفسق، لأنا نقول: هو معنى طرأ بعد الشهادة، لا يورث تهمة في حال الشهادة، فلا يمنع الحكم بها، كالموت والعداوة، بخلاف الفسق، فإنه يورث تهمة في حال الشهادة، وهذا ما نص عليه.

نعم، لو كان من طرأ عليه العمى قاضيًا، وقد سمع الشهادة على رجل باسمه ونسبه، فعمي قبل الحكم- هل يحكم؟

حكى الإمام ومن تبعه فيه وجهين، والذي حكاه القاضي الحسين منهما: أنه يحكم، وعليه فرع العراقيون، فإن صاحب ((البحر)) قال: قال أصحابنا: يجوز له في مثل هذه الصورة أن يقضي بعلمه إذا جوزنا القضاء بالعلم، أما إذا كانت الشهادة على معين بالإشارة، دون أن يعرف اسمه ونسبه، لم تصح الشهادة منه عليه بعد العمى، كما لا تصح الشهادة عليه من البصير إذا كان غائبًا والحالة هذه، اللهم إلا أن تكون يده في يده، ولم يفارقه بعد طروء العمى عليه إلى القاضي، فإنه تسمع شهادته عليه، كما قاله الماوردي وغيره.

قال: ولا تقبل [شهادته] فيما تحمله بعد العمى، لانسداد طريق المعرفة عليه مع اشتباه الأصوات التي يقدر الإنسان على التصنع فيها، وقال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الحديث.

فإن قيل: إذا عرف الشخص، وألف صوته، ينبغي أن تسمع شهادته عليه، كما يحل له أن يطأ زوجته بمثل ذلك.

ص: 120

قيل: الشهادة تخالف ذلك، لأنه يجوز أن يطأ زوجته، اعتمادًا على اللمس إذا عرف به علامة فيها، وبخبر المرأة الواحدة إذا زفها إليه، وقال: إنها زوجته، ولا تجوز الشهادة بمثل ذلك.

قال: إلا في موضعين: أحدهما أن يقول في أذنه شيئًا، فيعلقه- أي: يجعل يده على رأسه، أو يده في يده- ويحمله إلى القاضي، ويشهد بما قاله في أذنه، للعلم بحصول العلم بأنه المشهود عليه، وهذا ما صححه الرافعي تبعًا للغزالي، والقاضي الحسين، وحكى وجهًا آخر: أنه لا تقبل، لجواز أن يكون المقر به غيره، وهو بعيد.

قال القاضي: ومحل الخلاف إذا جمعهما مكان خال، وألصق فلق فيه بحرف أذنه وضبطه كما ذكرنا، فلو كان هناك جماعة، وأقر في أذنه، لم تقبل.

والثاني: فيما يشهد فيه بالاستفاضة، أي: كالموت، والنسب، والملك المطلق، لأن الشهادة إذا كانت على الاسم والنسب، لم يؤثر فيها فقد البصر، كما لو شهد البصير على ميت أو غائب.

ولأنه يساوي البصير في العلم بذلك، لأن سببه السمع، وهما يستويان فيه، وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد عن جميع الأصحاب، كما حكاه في ((البحر)) عنه، وتبعه البندنيجي في هذه الحكاية عنه.

ولأنه يساوي البصير في العلم بذلك، لأن سببه السمع، وهما يستويان فيه، وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد عن جميع الأصحاب، كما حكاه في ((البحر)) عنه، وتبعه البندنيجي في هذه الحكاية عنهم.

وقال المحاملي: إنه لا نص للشافعي [في المسألة]، وفيها نظر، لأن المخبرين لابد وأن يكونوا عدولًا، والأعمى لا يشاهدهم، فلا يعرف عدالتهم، وهذا النظر اتبع فيه الشيخ أبا حامد، فإنه قاله، كما حكاه في ((البحر)).

وزاد البندنيجي فحكى عنه أنه قال بعدم السماع لأجل ذلك.

وقال في ((البحر)) بعد حكاية المنع عن غيره، وأنه أصح عند عامة أصحابنا: وعليه يدل نص الشافعي، لأنه قال:((لا تجوز شهادة [الأعمى] إلا أن يكون أثبت شيئًا معاينة، وسمعًا، ونسبًا، ثم عمي، فيجوز))، فأخبر أنه إنما يشهد بالنسب إذا كان قد أثبته وهو بصير، ثم عمي.

ص: 121

وأجاب القاضي أبو الطيب عن النظر الذي حكيناه عن المحاملي لما سئل عن في الدرس بأن كلام الأصحاب محمول على ما إذا سمع ذلك في دفعات، وتكرر عليه مع قوم مختلفين في أزمان مختلفة حتى يصير لا يشك فيه، لكثرة تكراره على سمعه، ويصير بمنزلة التواتر عنده، وأنه لا يجوز له التحمل إلا على هذا الوجه.

وقال الشيخ أبو علي: كلامهم في سماع شهادته بالنسب مصور بما إذا كان الشخص معروف النسب من جهة أبيه وأجداده، وليس تعرف نسبته إلى قبيلة بعينها، فشهد أن فلان بن فلان [من بني فلان]، فتثبت هذه الشهادة من الأعمى، فإنه نسب لا يحتاج إلى الإشارة دون ما [إذا] نسب شخصًا إلى شخص، فإنه لا يجد إلى ذلك سبيلًا، كذا حكاه الإمام عنه.

وأبدى الروياني صورة وجد له بها سبيلًا، وهي أن يقول: الرجل الذي صنعته كذا، واسمه كذا، وكيفيته كذا، هو فلان بن فلان، ثم يقال لذلك الرجل: أقم بينة أخرى على أنك الرجل الذي في سوق كذا، واسمك كذا، وكيفيتك كذا، [وصنعتك كذا]، وليس في سوقك من يشتبه معك، إلا أن يشير إلى شخص، ويشهد بنسبه.

وفي ((الحاوي)): أن ما ذكره الأصحاب من سماع شهادته بالملك مفرع على أنه ليس من شرط الشهادة بالملك مشاهدة التصرف [بل تكفي استفاضة الخبر، أما إذا قلنا: لابد من الشهادة بمشاهدة التصرف] مع استفاضة الخبر، فلا تسمع عليه، وهو ما أبداه القاضي الحسين احتمالًا لنفسه، وعليه ينطبق قول القاضي أبي الطيب وغيره: كل ما شرطنا فيه البصر مجردًا، أو البصر والسمع معًا، فإنه لا يقبل فيه شهادة الأعمى.

وكذا الخلاف يجري- كما قال الماوردي- فيما إذا شهد بالزوجية، وسمعنا فيها شهادة البصير بالاستفاضة، كما سيأتي.

ومأخذه: أن مشاهدة الدخول والخروج شرط في هذه الشهادة أم لا؟

وقد أضاف الأصحاب إلى الصورتين المستثناتين صورة ثالثة، وهي سماع

ص: 122

شهادته في الترجمة، ولم يحك الماوردي وابن الصباغ غيره، وهو الصحيح كما حكيناه من قبل، لكنا حكينا ثم عن رواية صاحب ((التقريب)) وجهًا: أنه لا يسمع في الترجمة أيضًا.

وأبدى ابن الصباغ احتمالًا في إلحاق صورة رابعة بما ذكرناه، فقال: ينبغي أن يكون [من] قد ألفه، وعرف صوته ضرورة أن يجوز له أن يشهد عليه، لأن ذلك يقين، ولهذا قال أصحابنا: يجوز أن يشهد على طريقة الاستفاضة، وأنه يحتاج أن يسمعه من اثنين عدلين، حسب ما ذكروه، ولابد أن يعرفهما حتى تعرف عدالتهما، وإذا صح أن يعرف الشاهد صح أن يعرف المقر، وهذا كله مفرع على منع سماع شهادة الأعمى مطلقًا.

[وقد] قال الرافعي: إن الوجه المذكور في صحة قضاء الأعمى- على ضعفه- يطرد في الشهادة، وعلى هذا فلا حاجة إلى استثناء.

فرع: هل تجوز رواية الأعمى؟

قال العراقيون: نعم، للتساهل فيها.

وقال الإمام: تردد أئمتنا في روايته، والأظهر: منعها إذا كان السماع في حالة العمى.

ووجه الجواز إذا حصلت الثقة الظاهرة: أن عائشة- رضي الله عنها كانت تروي من وراء الستر، ومعظم الروايات عنها، والبصير في هذا المقام كالأعمى.

وهذا منه قد يفهم أن الخلاف يجري في رواية ما تحمله قبل العمى، وهذا مما [لا] خلاف فيه، كالشهادة، صرح به الرافعي.

تنبيه: قوله ((فيعلقه)) هو بفتح الياء، واللام، أي: يقبضه ويتعلق به، كما ذكرنا.

قال أهل اللغة: يقال: علق به يعلق علقًا، كفرح يفرح فرحًا: إذا تعلق به.

قال: ولا تقبل شهادة الوالد لولده وإن سفل، ولا شهادة الولد لوالده وإن علا، لقوله تعالى:{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة:282].

والريبة تتوجه إلى شهادة بعضهم لبعض، لما جبلوا عليه من الميل والمحبة،

ص: 123

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((الولد مبخلة مجبنة))، وقد قال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا

} [الزخرف:15]، أي: ولدًا.

وقال صلى الله عليه وسلم: ((فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويسوءني ما ساءها)).

وإذا كان الولد جزءًا من الوالد، وبضعة منه، لم تسمع شهادة أحدهما للآخر، كما لا تسمع شهادته لنفسه.

وقد ذكر الساجي حديثًا رواه عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقبل شهادة خائنٍ، ولا خائنةٍ، ولا محدودٍ حدا، ولا ذي غمر على أخيه، ولا مجربٍ في شهادة زور، ولا ظنين في قرابة، ولا ولاء، ولا شهادة القانع لأهل البيت))، وصل بذلك:((ولا شهادة الولد لوالده، ولا الوالد لولده))، ثم قال: وهذا لا يثبته أهل النقل، فإن ثبت فهو نص، وإن لم يثبت ففي قوله:((ولا ظنين في قرابة)) دليل على الوالد والولد، وسنذكر معنى ذكر ((الغمر)) و ((الظنين)).

وأما القانع: فهو السائل، والمستعطم، وأصل القنوع: السؤال.

وقيل: القانع: المتقطع إلى القوم يخدمهم، ويكون في حوائجهم، وذلك مثل الأجير والوكيل. وهذا هو المشهور.

ولا فرق فيه بين الآباء والأمهات من جهة الأب أو من جهة الأم، ولا بين البنين والبنات، وأولادهن.

ص: 124

ونقل ابن الصباغ: أن ابن القاص حكى عن القديم قولًا: أنه تقبل شهادة الوالد للولد وبالعكس، وبه قال المزني وأبو ثور، واختاره أبو بكر [بن المنذر].

وحكى القاضي الحسين: أن لفظ الشافعي في القديم: ((الوراثة لا تنفي الشهادة))، ووجهه: أن الرجل لا يكون أمينًا في بعض الأشياء، خائنًا في البعض، [ولا] صادقًا في البعض، كاذبًا في البعض.

والصحيح عند الجمهور: الأول، وما ذكروه متروك عليهم بمنع شهادته لنفسه.

وعلى هذا قال الأصحاب: لا تسمع شهادة أحدها لمكاتب الآخر، وهل تسمع شهادة أحدهما بأن الآخر وكل أجنبيًا في حقوقه؟ فيه خلاف قدمت حكايته في كتابة الوكالة.

وفي تزكية الوالد للولد خلاف قدمت حكايته عند الكلام في الاستخلاف.

وهذا حكم الشهادة للقريب، أما الشهادة عليه، فلا خلاف في سماعها من الأب على الابن وإن سفل، وكذا من الابن على الأب في غير حد-[أي: حد] قذف- كما قاله الماوردي، ولا قصاص.

وإن كانت في حد أو قصاص، ففي سماعها قولان حكاهما الماوردي والبندنيجي، تبعًا للشيخ أبي حامد، ورواهما الإمام والقاضي الحسين وجهين في الشهادة بالقود وحد القذف.

ووجه المنع: أنه لما لم يقتل بقتله، و [لم] يحد بقذفه- لم يقتل ولم يحد بقوله، كالعبد إذا شهد على الحر.

والمذهب- كما قال القاضي أبو الطيب-: أنها تقبل أيضًا، وهو الذي صححه القاضي الحسين وغيره.

وقال القاضي أبو الطيب: إن مقابله غلط، لأنه مخالف لنص الشافعي، فإنه قال: لو أن رجلين شهدا على أبيهما بأنه قذف أمهما وأجنبية، قبلت شهادتهما عليه في قذف الأجنبية، ولم تقبل في أمهما.

وقد ادعى القاضي الحسين قبل باب الشهادة على الشهادة بورقتين-: أنه المذهب، وفرع عليه أنه [إن] شهد على أبيه أو أمه بالزنى، فهل تقبل؟

ص: 125

قال: يحتمل أن يقال: تقبل، لأن الأب لو زنى بابنته، أو زنت الأم بابنها يجب عليهما الحد، بخلاف ما لو قتل ولده أو قذفه، فإنه [لا] يجب عليه الحد.

وعلى الأول فرع الشيخ حيث قال: ومن شهد على أبيه: أنه طلق ضرة أمه، أو قذفها- أي: وأمه تحت أبيه- ففيه قولان:

أحدهما: تقبل شهادته، لأنها شهادة على [أبيه لغير] أمه، فقبلت كما لو شهد على غيره.

والثاني: لا تقبل، لأنه متهم، إذ يجر بشهادته إلى أمه نفعًا، وهو انفرادها [بالأب]، فإن الطلاق منجز ذلك، والقذف محوج للعان، وهو سبب الفرقة.

وقد نسب بعض الشارحين القول [الأول] إلى الجديد، والثاني إلى القديم، وهو كذلك في ((المهذب))، في مسألة القذف.

وقال في ((الشامل)): إن قول السماع فيها هو القديم.

ونسب الماوردي في كتاب اللعان القولين في الصورتين إلى القديم، وأن المزني نقلهما في ((جامعة الكبير)[واختار] الأول منهما.

وفي ((تعليق)) البندنيجي: أنه نص في ((الأم)) على أنه لو شهد على أبيه بقذف ضرة الأم: أنه يقبل، وأطلق ذلك، وقال: إنه إذا شهد أنه طلق ضرة أمه، فقد قيل: لا يقبل. وهذا ما أشار إليه ابن الصباغ بقول: وقد علق الشافعي القول في الطلاق من الأم.

قال البندنيجي: ولا فرق بين أن يشهد على أبيه بطلاق ضرة أمه أو قذفها، فالكل على قولين. وهذا منه يفهم أنهما بالنقل والتخريج.

وفي ((النهاية)): أن المزني حكى في ((الجامع الكبير)) عن ((الأم)) في مسألة القذف قولين، أظهرهما: القبول، وأن العراقيين ألحقوا بذلك ما لو شهد بأنه طلق ضرة أمه. قال: ولا شك أن المسألة كالمسألة، والطلاق أوقع إن كان لهذه التهمة موقع في رد الشهادة، فإن الطلاق ينجز الفراق، ولا وجه لقول رد الشهادة في

ص: 126

المسألتين، فإن الزوج لا يتحتم عليه مسلك التزويج، وهذا ما اختاره النواوي وغيره.

فروع:

أحدهما: لو شهد ابنا الرجل عليه بأنه قذف أمهما، لم تسمع.

وإن كان الأب معترفًا بالقذف، فشهد ابنا المرأة منه على إقرارها بالزنى- لم تسمع.

ولو شهد أربعة من بينهما عليها بالزنى، قال الماوردي في كتاب اللعان: لم يسقط الحد عن الأب.

وفي وجوب الحد على الأم قولان مبنيان على اختلاف قوليه إذا رد بعض الشهادة، هل يوجب رد باقيها أم لا؟ على قولين.

وهذا- أيضًا- بناء على الصحيح في سماع الشهادة على الأب بما يوجب العقوبة [إلا أن يخص الخلاف بالعقوبة] المختصة بالآدمي، فحينئذ يكون هذا بلا خلاف، وكلام الإمام ها هنا يقتضي تعميمه، وهو ما أفهمه كلام البندنيجي وغيره.

الفرع الثاني: إذا ادعت أمه بالطلاق، فشهد لها أبناها به- لم تسمع.

ولو شهدا حسبة ابتداء، سمعت، وكذلك في الرضاع، قاله الرافعي وغيره هنا، وفي أواخر الرضاع.

الفرع الثالث: إذا شهد الأب مع ثلاثة على زوجة ابنه بالزنى، فإن سبق من الابن قذف، فطولب بالحد، فحاول إقامة البينة، لدفع الحد عن نفسه- لم تقبل شهادة الأب.

[وإن لم يقذف، أو قذف ولم يطالب بالحد- قبلت شهادة الأب].

الفرع الرابع: عبد في يد زيد ادعى مدع أنه اشتراه من عمرو بعدما اشتراه عمرو من زيد، وقبضه، وطالبه بالتسليم، فأنكر زيد جميع ذلك، فشهد ابناه للمدعي بما يقوله- حكى القاضي أبو سعد فيه قولين:

أحدهما: رد شهادته، لتضمنها إثبات الملك لأبيهما.

ص: 127

وأصحهما عنده: القبول، لأن المقصود بالشهادة في الحال المدعي، وهو أجنبي عنهما.

قال: ولا تقبل شهادة الجار إلى نفسه نفعًا: كشهادة الوارث للمورث بالجراحة قبل الاندمال، وشهادة الغرماء للمفلس بالمال- أي: بعد الحجر عليه- وشهادة للوصي لليتيم، والوكيل للموكل، أي: فيما فوض إليه النظر فيه.

الأصل في ذلك قوله تعالى: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة:282]، فأمر بالشهادة لنفي الريبة، والريبة: التهمة، وهي حاصلة في شهادة من ذكرناه.

وقد روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تقبل شهادة خصمٍ، ولا ظنينٍ ولا ذي إحنةٍ)).

وروى طلحة بن عبد الله بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث منادياً: ((أنه لا تجوز شهادة خصمٍ ولا ظنينٍ)) وقال الزهري: مضت السنة ألا تجوز شهادة خصم ولا ظنينٍ.

والظنين: المتهم، ووجه التهمة في حق الوارث: أن الجراحة قد تسري إلى نفسه، فيموت منها، ويصير هو المستحق، فيصير شاهدًا لنفسه.

وقيل: لأن المجروح مع بقاء الجراح: كالمريض، ولورثة المريض الاعتراض عليه في ماله، ومنعه من التصرف فيما زاد على ثلثه كاعتراضهم عليه بعد موته، ولا تجوز شهادتهم له بعد الموت، فكذلك في المرض.

قال الماوردي: وعلى هذا لو كان الجرح مما لا يسري مثله إلى النفس، لم تجز شهادته له أيضًا، وعلى التعليل الأول: تجوز.

ووجه التهمة في حق غرماء المفلس: أن ما يثبتونه له من المال يتعلق حقهم به حالة الشهادة، فأشبه ما لو شهد لعبده المأذون بمال، أو لشريكه بما هو مشترك بينهما، أو ببيع شريكه ما يثبت له فيه الشفعة قبل العفو، أو المرتهن

ص: 128

للراهن بملك العين المرهونة، أو غرماء الميت له بمال، أو المودع [للمودع] بالعين، فإنها لا تقبل.

نعم: لو كان المفلس لم يحجز عليه بعد، ففي سماع شهادة الغرماء له وجهان:

الأظهر منهما في ((الحاوي)): المنع أيضًا، لأنه يستفيدون بها المطالبة بديونهم، فكان كالمحكوم بفلسه.

وأصحهما عند ((الرافعي))، والمختار في ((المرشد)): القبول، وهو المعزي إلى الشيخ أبي حامد، ولم يورد القاضي الحسين وأبو الطيب وابن الصباغ سواه.

الفرق: أن المحكوم بفلسه يحكم لغرمائه بماله حال الشهادة، بخلاف المعسر، فإن مطالبة الغرماء له إنما تستفاد بيساره، وليس حاصلًا وقت الشهادة.

قال في ((البحر)): ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الفرق لا يمنع من تساويهما في الرد، وهذا أصح عندي.

ووجه التهمة في الوصي والوكيل: أنه يثبت لنفسه سلطة التصرف في المشهود به، فكأنه شهد لنفسه.

نعم: لو شهد الوصي للموصى عليه بما لم [يكن له] التصرف فيه، سمعت بلا خلاف.

ولو شهد الوكيل لموكله بما لم يثبت له ولاية فيه، قال في ((الحاوي)): ففي السماع وجهان.

والفرق: أن الوكيل يجوز أن يتقرب بشهادته إلى موكله، والوصي بخلاف ذلك.

ولو شهد الوكيل فيما فوض إليه التصرف فيه بعد عزله عنه، قال ابن القاص- وهو في ((المرشد)) وغيره-: إن كان بعد أن انتصف فيه مخاصمًا، لم تسمع شهادته، لقوله- عليه السلام:((لا تقبل شهادة خصمٍ)). وإن لم يكن خاصم، سمعت.

وقد ذكرت هذا الفرع في الوكالة، وذكرت عن الإمام وغيره فيه وجهًا.

وقد عد الأصحاب من قسم الشهادة الجارة نفعًا: شهادة الشخص لمكاتبه، [أو

ص: 129

مكاتب أصله وفرع] بمال، أو بجراحة في بدنه، وشهادة الوارث بموت المورث، وكذا شهادة الموصي له أو إليه بموت الموصي.

وكذا شهادة المشتري شراء صحيحًا بعد الإقالة والرد بالعيب بأن الملك في المبيع للبائع- لا تقبل، لأنه يستبقي لنفسه الغلات والفوائد، إذا كان المدعي يدعي الملك من تاريخ متقدم على البيع.

ولو شهد بعد الفسخ بخيار المجلس أو الشرط، فوجهان، بناء على [أنه يرفع] العقد من أصله، ويرد الفوائد إلى البائع، لا من حينه ولا يزيد، كذا حكى في ((الإشراف)).

وألحق في ((التهذيب)) و ((الكافي)) في باب حد قاطع الطريق بذلك ما إذا شهد اثنان من الفقراء بأن فلانًا أوصى بثلث ماله لنا معشر الفقراء.

والماسرجسي وغيره ألحقوا بذلك ما [إذا] شهد اثنان بأن فلانًا أوصى بوصية لنا فيها نصيب أو إشراف.

نعم، لو قال الفقير: أشهد [أنه] أوصى بثلث ماله للفقراء، قبلت، قاله في ((التهذيب)) و ((الكافي))، لأنه لا يتعين الصرف إليه.

وكذا لو قال الآخران: نشهد بالوصية، سوى ما يتعلق بنا من المال والإشراف قبلت شهادتهما، كما حكاه الرافعي. ولهذا نظائر كثيرة.

قال: وإن شهد الوارث للمورث في المرض- أي: بمال- لم يقبل، كما لو شهد له بالجرح، وهذا قول أبي إسحاق، واختاره في ((المرشد))، تبعًا لصاحب ((الإفصاح))، وابن الصباغ، فإنه قال: إنه أقيس.

وقيل: يقبل، لأنه لا يجر لنفسه بذلك نفعًا، ولا يدفع به عن نفسه ضررًا، فإنه إذا ثبت المال صار للمريض [دونه]، ثم إذا مات ورثه، فلا تهمة ها هنا، بخلاف الجراحة.

وأوسع القاضي الحسين عبارته في الفرق، فقال:[الفرق]: أن الشهادة على

ص: 130

الجرح شهادة تثبت سببًا، ذلك السبب يثبت المال للوارث.

وأما في المال فشهادته لا تثبت السبب له، إذ المال إنما يثبت بسبب سابق، من قرض أو بيع أو إتلاف وغيره، وهذه الأسباب تثبت المال للمورث، وهذا قول أبي الطيب بن سلمة، وهو الأصح في الرافعي هنا، وقال في كتاب القسامة: إنه الأظهر عند أكثرهم، وبه جزم الغزالي [هنا] تبعًا للفوراني وإن حكى الخلاف ثم.

فرع: لو شهد الأخ لأخيه بجراحة قبل الاندمال، وللمجروح ابن يحجب الأخ، فشهادته مسموعة.

قال في ((المرشد)): وكذا لو لم يكن للمجروح وارث غير الأخ، لكن كان عليه دين يستغرق ديته، لانتفاء التهمة.

نعم: لو مات الابن قبل موت أبيه فالجمهور على أنه ينظر:

إن مات قبل الحكم بالشهادة بطلت، وإن مات بعده لم تبطل.

وعبارة الشافعي في ذلك: إن شهد له، وهناك من يحجبه، قبلته، فإن لم [أحكم] حتى صار وارثًا، طرحته، ولو كنت حكمت به ثم مات [من يحجبه] ورثته.

قال الفوراني بعد حكاية ذلك: وقد قيل في هذه المسألة قولان، بناء على الإقرار للوارث، وفيه قولان، فإن قلنا: لا يجوز، فكونه وارثًا يعتبر بحال الإقرار أو بحال الموت؟ فيه قولان، كذلك ها هنا.

وقضية هذا التخريج: أن يطرد فيما إذا شهد وهو وارث، فصار عند الموت غير وارث، وقد حكاه الرافعي تبعًا للغزالي وإمامه، وقال: أما على [القول] بالنظر إلى حالة الموت، يتبين أن الشهادة مقبولة، وكأنا نتوقف في الشهادة إلى آخر الأمر.

قلت: وإن صح هذا [وجب] طرده فيما إذا شهد وهو وارث بالجراحة قبل الاندمال، ثم اندمل الجرح: أنه لا يحتاج إلى إعادة الشهادة.

ص: 131

[وقد] قال الأصحاب: إنه لابد من إعادة الشهادة، إن [قلنا]: إنها تسمع، كما سيأتي.

والصحيح هاهنا: عدم القبول، [وهو المجزوم به في ((الحاوي)) وغيره]، لأن التهمة قارنت الأداء، فمنعت القبول.

نعم: لو أعاد تلك الشهادة، هل تسمع؟ قال الماوردي: فيها لخلاف الآتي فيما إذا شهد بالجراحة ثم اندملت.

والإمام ادعى إجماع الأصحاب على أنها لا تقبل معادة هاهنا، كما إذا ردت شهادة الفاسق، ثم تاب، وأعادها.

وقال: إن ما بينهما مما قد يخطر للفقيه: أنه فرق، وهو أن الفاسق إذا تاب لم [نتحقق تغير] حاله باطنًا، وقد تحققنا أن الوارث صار محجوباً لا أثر له، لأن الذي ردت شهادته به ترويج الشهادة، وهو موجود بعد طرآن الحجب.

قال: ولا تقبل شهادة الدافع عن نفسه ضررًا، كشهادة العاقلة على شهود القتل- أي: الذي تحمله العاقلة- بالفسق، لأنها متهمة في دفع تحمل العقل عن نفسها، فاندرجت في قوله- عليه السلام:((ولا ظنين)).

قال الرافعي: وهكذا الحكم لو شهدت بتزكية شهود جرح بينة القتل.

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في رد شهادة العاقلة بالجرح بين الموسر منها والمعسر، والقريب والبعيد.

[وهو قول] في المسألة في بعض الصور، ومجزوم به في بعض:

فالمجزوم به: ما إذا كان الشاهد موسرًا قريبًا.

والمختلف فيه: ما إذا [كان] بعيدًا أو فقيرًا، لأن الشافعي نص على عدم قبول شهادة المعسر، ونص على سماع شهادة البعيد عند وجود من يقوم بالواجب من الأقربين، فاختلف الأصحاب- لأجل ذلك- في المسألتين على طريقين:

الأولى منهما- وبها قال المزني، وطائفة من متقدمي أصحابنا، كما قال

ص: 132

الماوردي-: أن في المسألتين قولين، نقلًا وتخريجًا:

وجه المقبول: [أنهما لا يتحملان في الصورتين شيئًا في الحالين، فليس موضع تهمة.

ووجه المنع:] أن الفقير يتحمل لو أيسر، والبعيد يتحمل لو مات القريب، فهما متهمان بدفع ضرر متوقع.

والثانية: تقرير النصين، وبه قال أبو إسحاق وابن أبي هريرة، وكثير من متأخري أصحابنا، كما قال الماوردي.

والفرق: أن المال غادٍ ورائح، والغنى غير مستبعد، بل كل أحد يحدث نفسه ويتمنى الأماني، وموت القريب الذي يحوج الأبعد إلى التحمل كالمستبعد في الاعتقادات، فالتهمة لا تتحقق بمثله.

ورجح الإمام طريقة القولين معترضًا على الثانية بأن البعيد كما يلزمه التحمل بموت القريب، يلزمه التحمل، لافتقارهم وحاجتهم، فإن استبعد الموت فاحتمال الفقر والحاجة غير مستبعد، لأن احتمال الغنى غير مستبعد.

قال الرافعي: والأظهر عند الأكثرين طريقة التقدير، ولهم أن يجيبوا عما ذكره بأن الإنسان يطلب غنى نفسه ويذر أسبابه، ويتحمل مساعدة القدر، والظفر بالمقصود، ولا يطلب فقر غيره، ولا يسعى فيه، فتكون التهمة المبنية على تقدير غناه أظهر من التهمة المبنية على فقر الغير.

أما شهادة العاقلة على فسق شهود القتل عمدًا، [أو على فسق] من شهد على إقراره بالقتل خطأ، فمقبولة، لأن الدية لا تلزمهم، فلم يكن حكمنا بقولهم دافعًا عنهم شيئًا، كذا قاله الماوردي والقاضي أبو الطيب والحسين وغيرهم، والله أعلم.

ومن هذا النوع شهادة الضامن ببراءة المضمون عنه.

قال في ((البحر)): وكذا شهادة الوصي والوكيل بجرح من شهد [بمال] على الموكل واليتيم.

قال الرافعي: وكذا شهادة المشتري شراء فاسدًا بعد القبض بأن العين المبيعة

ص: 133

لغير بائعه، لما في ذلك من نقل الضمان.

وكذا لو كان لميت دين على شخصين، فشهد أجنبيان لرجل بأنه أخو الميت، ثم شهد الغريمان لآخر بأنه ابنه- لم تقبل شهادة الغريمين، لأنهما ينقلان ما وجب للأخ عليهما إلى من يشهدان له بالبنوة، بخلاف ما لو تقدمت شهادة الغريمين.

قال: ولا شهادة العدو على عدوه، لقوله تعاللى:{وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة:282]، والعداوة من أقوى الريب، وقد روى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا تجوز شهادة خائنٍ ولا خائنةٍ، ولا زان ولا زانيةٍ، ولا ذي غمرٍ على أخيه)).

والغمر- بكسر الغين المعجمة، وسكون الميم، وبعدها راء مهملة- قال أبو داود: الحنة والشحناء.

وقال غيره: العداوة.

قال القاضي الحسين: ويروى: ((ولا ذي ضغن)).

وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: ((ولا ذي إحنةٍ) يدل عليه أيضًا، فإن ذي الإحنة: العدو.

والمعنى في ذلك: التهمة.

قال القاضي الحسين وغيره: والعداوة التي ترد بها الشهادة مع عدالة الشخص في نفسه، هي أن يظهر من الشخص من اللسان والفعل ما يغلب على القلب أنه معاديه يشمت بمصائبه، ويحزن بمساره، يتمنى له [كل] شر.

وعد الماوري من الأسباب المقتضية للعداوة: القذف، والغصب، والسرقة، والقتل، وكذا قطع الطريق في بابه، فلا تقبل شهادة المقذوف على القاذف،

ص: 134

والمغصوب منه على الغاصب، والمسروق منه على الساق، وولي المقتول على القاتل، كذا أطلق قوله، وظاهره يقتضي أن مجرد القذف وغيره يحصل العداوة.

وكذلك قال في كتاب اللعان: إن شرط سماع شهادة المقذوف على القاذف: أن يعفو عن الحد قبل الشهادة، وأن يكون قد حسن حاله معه، ولا يضر إذا وجد ذلك أن يذكر في شهادته عليه بقذفه لغيره قذف نفسه، إخبارًا عن الحال، وسنذكر ما يعضده عن النص.

وفي ((تعليق)) القاضي الحسين في كتاب اللعان- وهو المذكور في ((التهذيب))، وغيره-: أن المقذوف لو شهد على القاذف بقذف أجنبي منفرد عن قذفه، سمعت شهادته، إذا لم يطالب بالحد، سواء عفا عنه أو لا.

وادعى الإمام وفاق الأصحاب على ذلك، قياسًا على ما لو شهد عليه [فقذفه المشهود عليه، فإن الشهادة لا تبطل.

نعم، لو طلب الحد ثم شهد عليه] لم تسمع شهادته، وكذا لو لم يطلب الحد، وشهد، ثم طلبه قبل الحكم- بطلت، قاله القاضي الحسين والبغوي.

وكذا لو شهد اثنان من المقطوع عليهم الطريق على القاطع بقطع الطريق على غيرهما، ولم يتعرضا لأنفسهما- سمعت، كما نص عليه الشافعي، وقال: إن القاضي لا يسألهما: هل قطع عليهما الطريق أو لا؟ ولم يخالفه الأصحاب في ذلك، وقالوا: إنه لو سألهما، فلهما ألا يجيباه، فإن ألح قالوا: لا يلزمنا الجواب عن هذا، وإنما عندنا شهادة أقمناها، كذا قاله الإمام في باب [حد] قاطع الطريق.

ولو تعرض الشاهد لكونه قطع عليه الطريق، لم تسمع شهادته.

وعلى هذا ينطبق قول القاضي أبي الطيب وغيره في باب حد قاطع الطريق: [لو شهد رجلان] على رجل بأنه قذفهما وامرأة أجنبية، لا يثبت القذف في حقهما، ولا في حق الأجنبية:

أما في حقهما، فلأمرين:

أحدهما: أنهما صارا خصمين، وشهادة الخصم على خصم لا تقبل، للحديث السابق.

ص: 135

والثاني: أنهما صارا عدوين، ولهذه العلة لا تسمع شهادتهما للمرأة به أيضًا، بخلاف ما لو شهدا أنه قذف أنه قذف أمهما وامرأة أجنبية، فإن شهادتهما للأم [لا تسمع] للبعضية، وفي سماعها للأجنبية قولان، لأجل تبعيض اللفظ.

وكذا قولهم فيما لو شهد شاهدان على شخص: أنه قطع علينا وعلى هؤلاء الطريق، لا تسمع في حق الجميع، لأنهم صاروا خصومًا، كما قاله أبو الطيب، وأي عداء كشهر السلاح عليهما، وأخذ نفوسهما ومالهما، كما قاله الشيخ أبو حامد والبندنيجي والقاضي الحسين والإمام.

ويوافق ذلك- أيضًا- ما حكي عن القفال: أنه إذا عادى الشخص من يريد أن يشهد عليه، وبالغ في خصومته، فلم يجب، وسكت، ثم شهد عليه- قبلت شهادته، وإلا لاتخذ الخصماء ذلك ذريعة إلى إسقاط الشهادات.

لكن في ((تعليق)) الشيخ أبي حامد وغيره- كما قال الرافعي-: أن الشافعي صور العداوة الموجبة للرد بما رجل رجلًا، أو ادعى عليه أنه قطع عليه الطريق، وأخذ ماله، فقال:((يصيران عدوين، فلا تقبل شهادة واحد منهما على الآخر))، فاكتفى بالقذف دليلًا على العداوة، ولم يتعرض لطلب الحد.

وقذف الأم والزوجة هل يحلق العداوة بين القاذف والولد والزوج أم لا؟ فيه خلاف حكاه الإمام في كتاب اللعان، وسيظهر لك أثره في التفريع، وكلام البغوي يقتضي أن قذف الزوجة يلحقها دون قذف الأم، كما سنذكره.

فرع: قال في ((البحر)) في الفروع المذكورة بعد كتاب الأقضية: إذا شهد على الميت، وهو خصم الوارث، هل تسمع شهادته؟ يحتمل وجهين:

أحدهما: لا تسمع، لأن الضرر يعود إلى الورثة، لأنهم لا يستحقون التركة مع بقاء الدين، فهي شهادة على الخصم في الحقيقة.

والثاني: تسمع، لأن هذه الشهادة على الميت لا عليه، لأنه يقول: أشهد أن على هذا الميت كذا، ولا حق على الوارث، وإنما ينتقل إليه حق القضاء.

ولو كان الشاهد خصمًا للميت دون الوارث فوجهان:

فعلى الوجه الأول: تقبل.

وعلى الثاني: لا.

ص: 136

قلت: ويظهر أن يتخرج على هذا ما إذا ادعى أولاد ميت على شخص بدين ورثوه من أبيهم، فأسقط أحدهم حقه، وأراد أن يشهد به، فعلى الوجه الثاني: لا تسمع، [لأنها] شهادة للأب، وعلى الأول: ينبغي أن تسمع.

ويمكن تخرجي الخلاف في هذه الصورة على أن الورثة إذا أقاموا شاهدًا واحدًا، [بالدين لمورثهم، وراموا الحلف معه- فهل يحلف كل واحد] على كل الدين، لأنه يثبته [لنفسه، لا] لمورثه، أو يحلف أنه يستحق بطريق الميراث عن مورثه من جملة كذا- كذا وكذا؟ فيه خلاف حكاه ابن أبي الدم:

فعلى الأول: لا تسمع، لأن الشهادة تكون للأب.

[و] على الثاني فهو محل النظر.

واعلم أن ما ذكرناه في رد شهادة العدو محله إذا كانت العداوة لأمر دنيوي- كما ذكرنا- أما إذا كانت لأمر ديني، كعداوة المسلم للكافر، والدين للفاسق، بسبب فسقه، كما قاله الرافعي، والجلاد للمضروب في الحد، كما قاله القاضي الحسين- فلا تمنع الشهادة عليهم.

وكذا لو قال العالم: لا تسمعوا الحديث من فلان، فإنه مخلط، [و] لا تستفتوا منه، فإنه لا يحسن الفتوى- لم يقدح ذلك في قبول شهادته، كما حكاه الرافعي عن النص.

نعم: شهادة الكافر على المسلم وغير المسلم لا تسمع، كما تقدم.

وشهادة أهل الباطل في الاعتقاد من أهل القبلة، هل تسمع على أهل الحق وغيرهم؟ قال الشافعي في ((المختصر)):((ولا أرد شهادة الرجل من أهل الأهواء، إذا كان لا يرى أن يشهد لموافقيه بتصديقه وقبول يمينه، ولشهادة من يرى كذبه شركًا بالله تعالى، ومعصية تجب بها النار- أولى بطيب النفس بقبولها ممن يجوز المأثم فيها)) أي: من أهل الأهواء- أيضًا- كما قاله ابن سريج، لا من أهل الحق.

وقد اختلف الأصحاب بعد ذلك:

فذهب ابن القاص وابن أبي هريرة وغيرهما إلى إجراء هذا اللفظ على ظاهره، فلم يردوا شهادة أحد من أهل الأهواء والبدع من أهل القبلة إلا الخطابية الذين

ص: 137

أشار إليهم الشافعي بقوله: ((أن يشهد لموافقيه))، وهم أصحاب ابن الخطاب الكوفي، لأنه يعتقدون أن من كان على رأيهم لا يكذب، لاعتقادهم أن الكذب كفر، فيصدقونه على ما ادعاه، ويشهدون له على خصمه، ومنهم من يستظهر بإحلافه قبل الشهادة، ومنهم من لا يستظهر، ويشهد بمجرد قوله.

قال الماوردي: وهي في الحالتين شهادة زور.

وقال الشيخ أبو حامد، وتبعه البندنيجي- وقال القاضي الحسين: إن به قال أصحابنا-: أهل الأهواء على ثلاثة أضرب:

ضرب يكفرون باعتقادهم، وسنذكرهم، فلا تقبل شهادتهم.

وضرب يفسقون به ولا يكفرون، كمن سبت القرابة من الخوارج، والصحابة من الروافض، فلا [نحكم] بشهادتهم أيضًا.

وضرب لا يكفرون ولا يفسقون، ولكن يخطئون، قال القاضي الحسين: كالبغاة.

وقال غيره- كالشافعي، ومالك، وأبو حنيفة، وغيرهم-: الذين اختلفوا في علم الشريعة.

فهؤلاء لا تقبل شهادتهم، وبهذه الطريقة أخذ الماوردي، حيث قال: لسماع شهادة [أهل] الأهواء ممن لم نحكم بكفرهم ستة شروط:

الأول: أن يكون ما انتحله بتأويل سائغ كتأويل البغاة، فإن كان تأويلهم غير سائغ فهم فسقة لا تقبل شهادتهم.

الثاني: ألا يدفعه إجماع منعقد، [فإن دفعه، فإن كان إجماع الصحابة، لم تقبل شهادته، للحكم بفسقه، وكذا إجماع غيرهم إن كان ممن يعتقد] أنه حجة، دون ما إذا كان لا يعتقده حجة، أو ينكر تصوره.

الثالث: ألا يفضي به إلى القدح في بعض الصحابة، وهم الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حضره وسفره، أو بايعوه في [الدين والدنيا]، أو وثق بسرائرهم، أو أفضى بأوامره ونواهيه إليهم، دون من قدم عليه من الوفود، وقاتل معه الأعراب، فإن أفضى به إلى القدح في واحد منهم: فإن كان ذلك القدح

ص: 138

سبًّا فلا تقبل شهادته، لفسقه، ويعزر، وإن كان القدح نسبته إلى فسق وضلال فكذلك الحكم إن كان المقدوح فيه من العشرة، أو ممن حضر بيعة الرضوان، أو من غيرهم ولم يدخل في المتنازعين في قتال الجمل وصفين. وإن كان ممن دخل فيهم، ففي رد شهادته بالقدح فيه وجهان مبنيان على أن حكم المتنازعين بعد ذلك حكمهم كما كان قبل التنازع، وهو الذي عليه أكثر أهل العلم، أو حكمهم غيرهم من أهل الأعصار، حتى لا يقطع بعدالة واحد منهم في الظاهر والباطن، ويحتاج للحكم بقوله إذا شهد إلى البحث عن عدالته في الباطن؟ وفيه اختلاف لأهل العلم:

فعلى الأول: لا تقبل شهادة القاذف له.

وعلى الثاني: تقبل، لكونهم انتقلوا بالتنازع من الألفة إلى التقاطع المنهي عنه.

الرابع: ألا يقاتل عليه ولا يتأيد فيه، فإن قاتل عليه أهل العدل مبتدئًا لهم، أو دافعًا عن نفسه، وقد قدموا على قتاله دعاءه إلى الطاعة، فلم يفعل- لم تقبل شهادته، لفسقه.

نعم: لو قاتلوه قبل أن عرضوا عليه الطاعة لم يفسق بمقاتلتهم، لأنه دافع بها عن نفسه، فتقبل شهادته.

وهكذا الحكم فيما إذا تأيد فيه بغيره إن كان مبتدئًا، لم تقبل شهادته لفسقه، وإن تأيد فيه ليستدفع عن نفسه، فإن وجد لدفعهم بغيره سبيلًا، لم تقبل شهادته، وكذا إن لم يجد بدًا منها، وكان لا يستضر باجتماعهما، فلو كان يستضر سمعت شهادته، لأن دفع الضرر عذر مستباح.

الخامس: ألا يرى تصديق موافقيه على مخالفيه، وهم الخطابية.

السادس: أن تكون أفعاله [مرضية]، وتحفظه [في الشهادة ظاهر] كغيره من أهل الحق.

أما من حكم بتكفيره كمن برئ من الخوارج، لموالاتهم لأبي بكر وعمر، ويكفر جميع الأمة، ويستبيح أموالهم ودماءهم، وكالغلاة يرون بمعتقدهم في علي

ص: 139

ابن أبي طالب تكفير جميع الأمة، واستباحة أموالهم ودمائهم- فلا تقبل شهادته.

وكذا من يعتقد تكفير مخالفيه حتى من الصحابة والتابعين، فإن لم ير استباحة أموالهم ودمائهم، فلا تقبل شهادته، لكفره.

نعم: لو اعتقد تكفير مخالفيه في الاعتقاد، ولم ير استباحة أموالهم، ولا تكفير الصدر الأول من الصحابة والتابعين- لم نحكم بكفره، وحكمنا بفسقه، فلا تقبل شهادته.

والشيخ أبو حامد ومن تبعه مثلوا الكفار المحكوم بكفرهم من أهل الأهواء الذين سبقت الإشارة إليهم- بالقائلين بالقدر، وبنفي الرؤية، وبإضافة المشيئة إلى نفوسهم، فيقول أحدهم: أنا الفاعل للخير والشر معًا، دون الله تعالى، وبخلق القرآن.

قال الإمام: [و] القول بخلق القرآن أهون بدعة ابتدعها المعتزلة، فهم- كما قال القاضي أبو الطيب- ممن حكم بكفره.

قال البندنيجي: فلا تحل مناكحة من ذكرناه، ولا تؤكل ذبيحتهم، وحكمهم في هذا حكم الكفار، وهذا مذهب الشافعي، فإنه قال- أي: في الأقضية من الأمالي القديمة، كما قال في ((البحر)): من قال بخلق القرآن فهو كافر. وقال لحفص الفرد: نصفك مؤمن، ونصفك كافر، تقول بخلق القرآن فتكفر، وتقول بالرؤية فتؤمن.

وقد حكى الربيع أنه قال: لا تقبل شهادة القدرية، لأنهم كفار.

قال الفوراني في كتاب القسامة: وهذا ما عليه غير القفال من مشايخنا، وأكثر أهل الأصول، وقال القفال: إنهم لا يكفرون.

والصحيح من الطريقين عند القضاة: أبي الطيب، وابن كج، والروياني- كما قال الرافعي- الأولى.

وقال ابن الصباغ: إن الطريقة الثانية مخالفة لظاهر قول الشافعي هنا وفي ((الأم))، فإنه قال: ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث والقياس، أو من ذهب منهم إلى أمور اختلفوا فيها، فتباينوا فيها تبيانًا شديدًا، واستحل فيها بعضهم من بعض ما تطول حكايته، وكان ذلك متقادمًا: منه ما كان في عهد السلف، وبعدهم إلى اليوم، فلم نعلم أحدًا من سلف هذه الأمة يقتدى به ولا من التابعين بعدهم

ص: 140

رد شهادة أحد بتأويل- وإن خطأه وضلله- ورآه استحل منه ما حرم عليه، فلا ترد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال. ولأجل هذا قال الإمام: أنا أقول: لا سبيل إلى تكفير المعتزلة ومن في معناهم من أهل الأهواء، اقتداء بالقفال- كما ذكرنا- لأن الشافعي نص في مجموعاته على قبول شهاداتهم، وما نقل عنه من تكفيرهم فهو مجاز، وظني الغالب: أنه ناظره بعضهم فألزمه الكفر عن حجاج، ولم يحكم بكفره، وإذا كان كذلك فسبيلهم في الشهادة كسبيل غيرهم، فينظر إلى العدالة، وهذا هو المذهب لا غير، ومن أجل ذلك قال الغزالي: إن المعتزلة وسائر المبتدعة لا يكفرون وتقبل شهادتهم وإن ضللناهم.

قال الإمام: وقد كان محمد بن إسماعيل البخاري يؤلف مخرجه الصحيح في الروضة بين القبر والمنبر، فقال: رويت عن محمد بن محيريز، فغلبتني عيناي، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: تروي عن ابن محيريز وهو يطعن في أصحابي؟! - وكان خارجيًا- قال: قلت: يا رسول الله، لكنه ثقة، فقال صلى الله عليه وسلم:((صدقت إنه ثقة، فارو عنه)) فكنت أوري عنه بعد ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد حمل الشيخ أبو حامد ومن تبعه قول الشافعي: ((ولا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء)) - على أهل الأهواء في الأحكام التي يسوغ فيها الاجتهاد، وقال: إنه ظاهر في كلامه، لأنه قال في جملة كلامه:((لم ترد الشهادة بشيء من التأويل، إذا كان له وجه يحتمله))، ثم عطف فقال:((وكذلك أهل الأهواء))، فثبت أنه أراد به أهل الذين يذهبون إلى تأويل محتمل، وقد نص على أنه لا تقبل شهادة الخوارج والقدرية.

وقوله: ((ولشهادة من يرى كذبه شركًا بالله تعالى

)) إلى آخره- لا يقدح في هذا النص وإن كان المشار إليهم الخوارج والقدرية، لأنه أراد: أني لا أرد شهادتهم باعتقادهم: أن الكذب كفر، وأنه معصية تجب بها النار، لأن هذا أدعى إلى قبول شهادتهم، لأنهم يجتنبون الزور أكثر من اجتناب غيرهم، ولكن أرد شهادتهم، لأسباب أخر، وهي اعتقادهم خلق القرآن، والقدر، ونفي الرؤية، ونحو ذلك.

ص: 141

وقد حكى عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: ((من فضل بعض الصحابة على بعض، أو فضل عليًا على غيره- لم ترد شهادته، ومن قال: كانت الإمامة لعلي دون غيره بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ردت شهادته، لأنه خالف الإجماع.

وحكى عنه انه قال: من نفي إمامة أبي بكر، أو قال: كان ظالمًا- فقد كفر.

قال في ((البحر)): قال [القاضي] أبو الطيب: ما ذكر عن أبي إسحاق لم يذكره في ((الشرح)) وإن كان صحيحًا، فهو مخالف لنص الشافعي، لأنه نص على [أن] من شتم قومًا بتأويل لا ترد شهادتهم، وأراد به هؤلاء.

فرع: إذا قبلنا شهادة أهل الأهواء، فمحل رد شهادة الخطابية إذا شهدوا على مخالفيهم في الاعتقاد، [ولم يثبتوا سبب الفعل، أما إذا شهدوا على موافقيهم في الاعتقاد]، أو على مخالفيهم، وصرحوا بمشاهدة الفعل- لم ترد شهادتهم كغيرهم، صرح به القاضي الحسين في كتاب البغاة، وغيرهم هنا.

وفي ((تعليق)) البندنيجي ثم نسبة القول بالقبول عند الشهادة بالمعاينة إلى أبي إسحاق، وقال: إنه ليس بشيء. وهذا من البندنيجي تفريع على طريقة أبي حامد في رد شهادة أهل الأهواء، وقد صرح به الماوردي [ثم].

قال: ولا تقبل شهادة الزوج على زوجته بالزنى، لأمرين:

أحدهما: [أن الزنى] يفرض بمحل حق الزوج، فإن الزاني [مستمع] بالمنافع المستحقة له، فشهادته في صفتها تتضمن إثبات خيانة الغير على ما هو مستحق له، فلم تسمع، كما إذا شهد أنه جنى على بعده.

والثاني: أن من شهد بزنى زوجته، فنفس شهادته دالة على إظهار العداوة، لأن زناها يوغر صدره بتطليخ فراشه وإدخال العار عليه وعلى ولده، وهو أبلغ في العداوة من مؤلم الضرب فاحش السبب.

قال القاضي الحسين: وإلى هذه العلة أشار الشافعي- رحمه الله تعالى- وهي التي حكاها القاضي أبو الطيب في باب حد قاطع الطريق عن الشيخ أبي حامد.

ص: 142

وحكى بعض الرواة عن الشيخ أبي محمد وجهين في سماع شهادة الشخص على زنى زوجة ولده، وأنه قربهما من المعنيين:

فعلى المعنى الأول: لا تسمع.

وعلى الثاني: تسمع.

قال الإمام: وهذا غريب، لا تعويل عليه، والوجه القطع بقبول شهادة أب الزوج.

قال: و [تقبل] شهادة الصديق لصديقه- أي: وإن كان ملاطفًا- وهو الذي يهدي لصديقه من ماله، لعموم أدلة الكتاب والسنة.

ولأن الصداقة سبب بين الشخصين، لا يتعلق به عتق أحدهما على الآخر، فلا تتعلق به رد شهادة أحدهما للآخر، قياسًا على قرابة الأخوة والعمومة والصداقة بلا ملاطفة، وقد سلم الخصم في المسألة- وهو الإمام مالك- سماع الشهادة لمن ذكرناهم.

قال: و [تقبل] شهادة [الزوج] لزوجته، لعموم قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282].

ولأن بينهما صلة لا توجب العتق، فلم تمنع من قبول الشهادة، كالأخوة.

ولأن الزوجية عقد على منفعة، فلم توجب رد الشهادة، كالإجارة. وهذا ما حكاه العراقيون والماوردي، وهو الصحيح في ((التهذيب)) و ((تعليقة)) شيخه.

[وحكى البغوي قولًا آخر: أنه لا تقبل شهادة أحدهما للآخر، وحكى شيخه] القاضي الحسين بدله: أنه تقبل [شهادة] الزوج لزوجته دون العكس.

وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة أقوال قد حكاها الغزالي، كما تقدم مثلها في القطع [في] السرقة.

قال الإمام في كتاب اللعان: وإذا قبلنا شهادة الزوج لزوجته، فهل نسمعها في القذف؟ فيه وجهان: وجه المنع: أن الشهادة بقذفها تتضمن إظهار عداوة القاذف، فإن الرجل يتعير بقذف [زوجته كما يتعير بقذف] نفسه.

ص: 143

قال: ولا تقبل شهادة الإنسان على فعل نفسه: كالمرضعة على الرضاع- أي: إذا قالت: أشهد أني أرضعته كذا- قياسًا على ما لو شهدت بالولادة، فقالت: أشهد أني ولدته، وهذا ما جزم به الفوراني، وصححه البغوي.

والجمهور على السماع، ولم يحك العراقيون سواه فيما وقفت عليه، بل قال البندنيجي قبيل كتاب الشهادات: إنه لا خلاف فيه، وهو ظاهر النص في ((المختصر)) في كتاب الرضاع.

ووجهه: أنها بهذه الشهادة لا تجر لنفسها نفعًا، ولا تدفع عنها ضررًا، بخلاف الولادة، فإنها يتعلق بها حق النفقة، والميراث، وسقوط القصاص، وغيرها، ولا نظر إلى أن الراضع يتعلق به ثبت المحرمية، وجواز الخلوة والمسافر، فإن الشهادة لا ترد بمثل هذه الأعراض، ألا ترى أنه لو شهد شاهدان: أن فلاناً طلق زوجته، أو أعتق أمته- تقبل، وإن كان يستفيدان حل المناكحة.

ولا خلاف في سماع شهادتها إذا نسبت الفعل إلى الصبي، فقالت: أشهد أنه ارتضع مني، وهذا لم تدع أجرة [على] الرضاع، فإن ادعت عليه أجرة، لم تسمع شهادتها، للتهمة.

وعلى هذه الحالة حمل بعضهم كلام الشيخ.

وعن ((الحاوي)) حكاية وجهين في أنه إذا لم تقبل شهادتها في الأجرة، هل تقبل في ثبوت المحرمية، تخريجًا على الخلاف في تبعيض الشهادة، وأن اختيار أبي إسحاق منهما: القبول، [واختار] ابن أبي هريرة المنع.

قال: والقاسم على القسمة بعد الفراغ، والحاكم على الحكم بعد العزل أي: إذا قال: أشهد: أني حكمت على هذا، أو لهذا بكذا، لتطرق التهمة إليهما.

وقيل: تقبل شهادة القاسم والحاكم، كما في المرضعة، تفريعًا على النص، وهذا ما نسبه البندنيجي والقاضي أبو الطيب وغيرهما إلى الإصطخري، وكذا القاضي الحسين في كتاب القسمة.

[وفي ((الحاوي)): أن الإصطخري حكاه عن بعض الأصحاب، وابن الصباغ في كتاب القسمة] نسبه إليه، لكنه خصه بما إذا كان بغيره أجرة، والصحيح الأول،

ص: 144

وبعضهم لم يورد سواه، وفرقوا بين [الحاكم] والقاسم، والحاكم والمرضعة بفرقين، ذكرهما ابن الصباغ وغيره في كتاب الرضاع:

أحدهما: أن قسمة القاسم وحكم الحاكم يتعلق به حكم المتنازعين فيه، وليس كذلك إرضاع المرضعة، فإن التحريم لا يتعلق بفعلها، ولهذا لو شرب منها الطفل وهي نائمة تعلق به حكم الرضاع.

والثاني: أن القاسم والحاكم متهمان، لأنهما يثبتان لأنفسهما العدالة والإضافة، بخلاف مسألتنا.

وعلى هذا قال الأصحاب: لو قال الحاكم: أشهد أن قاضيًا عدلًا قضى بذلك، ففي سماع شهادته وجهان حكاهما العراقيون، والمراوزة عنهم:

[وجه المنع]: أنه يحتمل أن يريد نفسه مع أن نسبة القضاء إليه ظاهرة، فكأنه صرح به.

وعلى وجه السماع قال ابن أبي الدم: فالشاهد الآخر معه لا يقول: أشهد أن هذا قضى بكذا، لامتناع التلفيق بين الشهادتين، فلا يثبت الحق إن فعل ذلك، لكن هل يقول: أشهد أن قاضيًا عدلًا قضى بكذا، كما تلفظ به القاضي المعزول، أو: أشهد أن القاضي الذي شهد هذا: أنه قضى بكذا، قضى به؟ فيه تردد ظاهر عندي، ولم أظفر به مسطورًا.

قال الإمام: ولو شهد [عدلان] لم يقضيا قط على قضاء قاضٍ من غير تسمية، فظاهر المذهب: قبول ذلك.

وقد جزم في ((الوسيط)) بعدم قبول شهادة القاضي بعد العزل إذا أضاف الفعل إلى نفسه.

وحكى الوجهين فيما إذا قال: أشهد أن قاضيًا قضى: أحدهما: تقبل، كما تقبل شهادة المرضعة كذلك فأفهم كلامه أن شهادة المرضعة إنما تقبل إذا أبهمت المرضعة، وهو راجع إلى ترجيح مذهب الفوراني الذي اقتصر الشيخ على حكايته فيها، فإن هذه الصورة تنفي إضافة الفعل إلى نفسها، كما ينفيه قولها:

ص: 145

قال الرافعي في كتاب الرضاع: ويمكن أن يخرج مثل [هذا] الخلاف المذكور فيما إذا شهد الحاكم أن قاضيًا قضى في المرضعة أيضًا.

ويلتحق بصور الكتاب في المنع، ما إذا شهد الوكيل بالبيع على المشتري بالثمن، وأضاف البيع إلى نفسه، أو العبد الذي دفع مال سيده لأجنبي بغير إذنه، ثم عتق، وأضاف الفعل في الشهادة إلى نفسه، مثل: أن قال: أشهد أني دفعت إليه كذا من مال سيدي، كما قاله القاضي الحسين في ((الفتاوى)).

ولا خلاف أن الحاكم إذا أقر عنده الخصم في مجلس الحكم، ثم عزل، وقال: أشهد: أنه أقر عندي بكذا- في سماع شهادته.

قال الماوردي: ولا يحتاج إلى استرعاء، لأن الإقرار في مجلس الحكم استرعاء.

وقد ألحق القاضي الحسين في ((التعليق)) بهذه الحالة ما إذا أطلق الشهادة، وقال: أشهد: أن [له] عليه [كذا، فقال: إنها تقبل، وكذلك إذا قال الوكيل بعد العزل: أشهد أن عليه] لفلان كذا، قبلت شهادته، وبمثله قال في ((الفتاوى)) في مسألة العبد: إذا قال: أشهد بأن لهذا في ذمة هذا كذا، سمعت.

واحترز بقوله في مسألة الوكيل: ((بعد العزل)) عما إذا لم يعزله الموكل عن قبض الثمن، فإنه حينئذ يكون شاهدًا بما يجر [به نفعًا لنفسه].

لكن في ((الإشراف)) أطلق القول بالسماع من غير تقييد بالعزل، ثم قال: وهو غلط، فإنها شهادة جارة إلى نفسه نفعًا، فإنه يثبت لنفسه القبض، ويسقط الضمان أيضًا، فإن الوكيل إذا سلم المبيع قبل قبض الثمن يجب عليه الضمان، فصار كالبائع لا يشهد للمشتري، لأنه يسقط العهدة عن نفسه.

واعلم أن ما ذكره القاضي من السماع مفرع على المذهب في سماع الشهادة بأن فلانًا يستحق في ذمة فلان كذا، وهو ما حكاه الماوردي في باب الشهادة على الشهادة، ووراءه وجهان، حكاهما ابن أبي الدم:

أحدهما: عدم السماع، لأن هذا من وظيفة الحاكم.

والثاني: إن كان الشاهد متمذهبًا بمذهب القاضي سمعت، وإلا فلا.

ص: 146

ثم إطلاق القاضي القول بجواز شهادة الوكيل لموكله بعد العزل يؤخذ [منه] أن الشخص إذا كان لولده حق على شخص، والقاضي يجهل أنه ابنه-:[أنه] يجوز له أن يشهد له.

ويظهر أن يجئ في الجواز ما ذكرناه في جواز الشهادة للفاسق في الباطن بما علمه إذا كان عدلًا في الظاهر.

قال: وإن جمع في الشهادة بين ما يقبل وما لا يقبل، ففيه قولان:

أحدهما: ترد في الجميع، لأن الصيغة واحدة، وقد ردت في البعض، فكذلك في البعض الآخر.

والثاني: تقبل في أحدهما دون الآخر، لاختصاص المانع به.

قال الرافعي: والخلاف كالخلاف المشهور في تفريق الصفقة، بل هو هو. ومن هنا يظهر لك أن الصحيح الثاني، كما صرح به النواوي، واختاره في ((المرشد)).

وقد أثبت بعضهم الخلاف المذكور وجهين، ومحله إذا كان ما لا يجوز لأجل التهمة، كما إذا شهد أنه اقترض من أبيه وأجنبي مالًا، ونحو ذلك. وأما إذا كان ما لا يجوز، لأجل العداوة، كما إذا شهد أنه قذفه وأجنبيًا، أو قطع عليه وعلى رفيقه الطريق- فها هنا ترد في الجميع قولًا واحدًا، لأن بهذه الشهادة ظهرت العداوة بين الشاهد والمشهود عليه، فردت شهادته عليه مطلقًا، كذا قاله البندنيجي في كتاب اللعان وغيره.

وعن كتاب ابن كج: أن أبا الحسين حكى عن بعض الأصحاب فيما إذا شهد أنه قطع علي وعلى رفقتي الطريق- أن في قبولها في حق الرفقة قولين، كالقولين فيما إذا شهد لنفسه ولشريكه، فإن شهادته لنفسه مردودة، وفي شهادته لشريكه قولان، وهذه الطريقة حكى الإمام مثلها في كتاب اللعان فيما إذا شهد: أنه قذفه وأجنبياً.

والصحيح الأول، ولم يورد العراقيون سواه.

وما قاله ابن كج من جريان القولين في سماع الشهادة بالنسبة إلى الشريك عند الشهادة لنفسه ولشريكه، مذكور في ((الإشراف)) أيضًا.

ص: 147

لكن المشهور- وبه جزم صاحب ((التهذيب))، و ((الكافي)) في باب حد قاطع الطريق-: المنع، كما تقدم، ومثلاه بما إذا قال: أشهد أن العبد لنا نصفين، وقد حكينا أن القاضي أبا الطيب وغيره جعلوا من مسائله ما إذا شهد أنه قذف أمهما وأجنبية.

وعزى البندنيجي ذلك في كتاب اللعان إلى نص الشافعي في ((الأم)).

وحكى الإمام [ثم] في هذه الصورة طريقة قاطعة عن رواية الشيخ أبي علي: أنها ترد في الجميع، لأن قذف الأم يورث العداوة، وقد حكاها القاضي الحسين ثم أيضًا، وصححها، ولم يحك في باب حد قاطع [الطريق] غيرها، وتبعه الإمام.

والطريقان يجريان- كما حكاه الإمام في كتاب اللعان- فيما إذا شهد بقذف زوجته وامرأة أجنبية.

فرع: إذا كان لشخص دين على شخص، وله به بينة، فضاه بعضه، ثم مات، أو جحد، فأراد صاحب الحق [إقامة] البينة عليه- فكيف يشهد؟ قال فقهاء زماننا: إن شهد الشاهد على إقراره بباقي الدين، فقد شهد بخلاف ما وقع، وإن شهد على إقراره بكل الدين، شهد بما استشهد عليه و [ما] لم يستشهد فيه، فيكون في ذلك خلاف مبني على [أن] من شهد قبل الاستشهاد، هل يصير مجروحًا، أم لا كما سيأتي؟ فإن قلنا: يصير مجروحًا، بطلت جملة الشهادة، وإلا خرج على الخلاف السابق.

فالطريق أن يقول: أشهد على إقراره بكذا من جملة بكذا، ليكون منبهًا على صورة الحال، [وما قالوه في الحالة] الثانية قد رأيت مثله في ((الإشراف)) فيما إذا ادعى ألفًا، فشهد له شاهد بألف، وآخر بألفين.

وفي ((البحر)) في الفروع المذكورة قبل كتاب الشهادات: أنه إذا ادعى تسعة، فشهد له شاهد على إقرار المدعى عليه بعشرة-[فالشهادة] زائدة على الدعوى، فتبطل في الزيادة، وهل تبطل في الباقي؟ قولان، بناء على القولين في تبعيض الإقرار، لكنه قال قبل ذلك في الفروع- أيضًا-: إن البينة لو خالفت

ص: 148

الدعوى في الجنس لا تسمع، وإن خالفتها في القدر إلى نقصان، حكم في القدر بالبينة دون الدعوى، وإن خالفتها إلى زيادة، حكم في القدر بالدعوى دون البينة، ما لم يكن من المدعي تكذيب البينة في الزيادة، فإن أكذبها فيه، ردت، ولم يحكم بها. وهذا قد ذكره الماوردي في باب ((ما على القاضي في الخصوم، وهو موافق لما في ((أدب القضاء)) للزبيلي، فإنه قال: لو ادعى عشرة، فشهدت له البينة بعشرين، صح له العشرة، ولا يكون طعنًا على الشهود، لأنه لم يكذبهم بما فوق العشرة، بل صدقهم في العشرة، وسكت عما فوقها، وذلك يحتمل أن يقول: كان في الأصل عشرون، وكنت قضيت منها عشرة، فادعيت الباقي، وشهد الشهود على الأصل، إذ لم يعلموا بقبضي، فلا يكون ذلك تكذيبًا للبينة.

وعندى: أن الشهادة على إقراره بالقدر الباقي لا تمتنع، لأن من أقر بالعشرة فقد أقر بكل جزء منها، كما قال أصحابنا: من ادعى عشرة فقد ادعى كل جزء من أجزائها، ومما يؤيد ذلك أمران:

أحدهما: [أنه] لو شهد له شاهد بعشرين، وشاهد بثلاثين، [لفق بين الشهادتين، وتثبت العشرون على الأصح.

ولولا أن من شهد بالثلاثين] شهد بعشرين، لما تلفقتا، وثبتت العشرون.

الثاني: أن من اشترى عينًا بعشرة، هل يجوز [له] أن يقول: اشتريتها بتسعة؟ فيه وجهان حكيناهما في المرابحة:

فإن قلنا: يجوز، فهاهنا كذلك.

وإن قلنا: لا يجوز، فإنما كان ذاك، لأن العقد الواقع بعشرة مخالف للعقد الواقع بتسعة، لأنه يقتضي أن الدرهم من العشرة في الصورة الأولى مقابل لعشر المبيع، وفي الصورة الثانية مقابل لتسع المبيع، ولذلك لو شهد بالعقد بعشرة، والآخر شهد بالعقد بعشرين، وأضافا إلى وقت واحد، وعين واحدة- لم يلفق، وهذا منتف في الإقرار.

وقد حكى الإمام في كتاب الإقرار: أنا [إذا] رددنا الشهادة [في الألف الزائد، لوقوع الشهادة][به] قبل الدعوى لا لأجل الحرج، كما سنذكره

ص: 149

وجهًا، فهل نردها في الألف المدعى به؟ فيه طريقان:

أحدهما: القطع بالقبول.

والثاني: طرد القولين.

قال: وإذا أعتق عبدين، ثم شهدا على المعتق: أنه غصبهما- لم تقبل شهادتهما.

قال القاضي أبو الطيب في مسائل الدور من كتاب الإقرار: لأن إثبات شهادتهما يؤدي إلى إسقاطها، [لأنه إذا حكم بشهادتهما لم ينفذ العتق، وإذا لم ينفذ العتق بقيا على رقهما، وإذا بقيا على رقهما لم تصح شهادتهما، فلما كان إثباتها يؤدي إلى إسقاطها، لمن نقبلها.

وهكذا الحكم فيما إذا ورثهما شخص عن أخيه، فأعتقهما، وشهدا بابن للميت- لم تسمع.

وكذا [الحكم] لو أعتقهما المالك في مرض موته، فشهدا عليه بدين يستغرق التركة- لم تسمع، لما ذكرناه.

[ثم] في مسألة الكتاب ليس لمن نسبا ملكهما إليه تسليم رقهما، لما فيه من إبطال الولاء على المعتق، وهل له أخذ أكسباهما؟ فيه وجهان، وجه المنع: أن استحقاق الأكساب فرع الرق، وأنه لم يثبت، كذا أخذته من كلام الرافعي في كتاب الإقرار.

وقد حكى الإمام في كتاب الغصب فيما إذا كان في يد رجل عبد، فباعه، وأعتقه المشتري، فادعاه آخر، وصدقه البائع والمشتري والعبد- أن العتق لا يبطل، ولو مات هذا العبد، وترك مالًا، ولم يكن له قريب وارث- فميراثه للمصدق.

قال: و [قد] ينقدح في المسألة تفصيل، فنقول: ما يصح من اكتسابه من غير إذن المولي، وخيار التصرف إليه، فإن يبين أن يكون كسب عبده، وما ثبت في يد

ص: 150

العبد عن جهة لا يصح استبداد العبد بها، فالوجه الحكم أن المقر له لا يستحقه، فإنه ينكر الملك فيه برد عتق المشتري.

قال: وهذا مما لابد منه، وهو مستقر المسألة، والأئمة وإن لم يذكروا هذا التفصيل فلاشك أنهم عنوه، ولو عرض عليهم لم ينكروه.

قلت: ولاشك في إجرائه في مسالة الكتاب في الكسب في حال حياتهما إذا قلنا بالتسلط على أخذه، وكذا بعد موتهما، إذا لم يكن لهما قريب، واعترف المعتق بالغصب، والله أعلم.

قال: ومن ردت شهادته لمعصيته غير الكفر، أو لنقصان مروءة، فتاب- أي: ذكر أنه تاب- لم تقبل شهادته حتى يستمر على التوبة، أي: بإثباتها بالضد مما كان عليه، وهو صلاح العمل، لأن ما ادعاه من أعمال القلوب كما سنذكره، وهي لا مطلع عليها، وهو متهم في قوله، لأنه قد يريد ترويج شهادته وإصلاح حاله، فاعتبر الشرع مع دعواه إصلاح العمل الظاهر، ليدل على [صدقه فيما] ادعاه، قال الله تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} الآية [الفرقان:70]، وقال تعال:{فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16].

قال: سنة، [لأن] لمضي الفصول الأربعة تأثيرًا بينا في تهييج النفوس، وانبعاثها لمشتهياتها، فإذا مضت على السلام، أشعر ذلك بحسن السريرة.

وأيضًا: فإن لها اعتبارًا في الشرع في مدة العنة، وفي الزكاة، والدية، والجزية، وهذا ما حكاه الماوردي والبندنيجي والقاضي الحسين والبغوي عن الأصحاب، ورجحه ابن الصباغ.

قال في ((الحاوي)): لكن اعتبار السنة، هل هو تحقيق أو تقريب؟ فيه وجهان. وقد حكى القاضي أبو الطيب وغيره وراء ذلك وجهين:

أحدهما: أن المعتبر مضي ستة أشهر، وقد حكاه القاضي الحسين- أيضًا- في موضع آخر، وقال الرافعي: إنه منسوب إلى النص.

ص: 151

قلت: ولعله أخذ من قول الشافعي في الأم: ((أشهر))، قال أبو الطيب: وهذا لا معنى له، فإنه لم يرد في الشرع تقدير بستة أشهر في الأحكام.

والثاني: أن المعتبر مضي مدة يغلب على ظن الحاكم فيها صلاحه، [وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فإذا غلب على ظنه صلاحه] وتوبته، قبلت شهادته، وهذا ما صححه القاضي الحسين، وتبعه الإمام والعبادي.

وقال الإمام في تضعيف سواه: وكيف المطمع والتقدير لا يثبت إلا توقيفًا؟!

أما إذا كانت المعصية كفرًا، كما إذا ارتد من هو مسموع القول في الشهادة فلا يشترط في قبول شهادته استبراء بإصلاح العمل بلا خلاف، بل يكفيه النطق بالشهادتين، والتبرؤ من كل دين خالف [دين] الإسلام مع التوبة الباطنة، كما سنذكرها.

قال الأصحاب: والفرق: أنه إذا أسلم فقد أتى بضد الكفر، فلم يبق بعد ذلك احتمال، وليس كذلك إذا كان قد زنى، أو شرب، ثم تاب، لأن التوبة ليست مضادة لمعصيته بحيث تنفيها من غير احتمال، فلهذا اعتبرنا في سائر المعاصي صلاح العمل، هكذا قاله القاضي أبو الطيب وغيره.

وقال الماوردي: إن الحكم كذلك إذا تاب من الردة عفوًا غير متق بها القتل، أما إذا أسلم عند إثباته للقتل، لم تقبل شهادته، إلا أن تظهر منه شروط العدالة، باستبراء حاله، وصلاح عمله.

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين:

أحدهما: أنه لا فرق فيما ذكره من اعتبار الاستبراء بين أن تكون المعصية قذفًا أو غير قذف، وهو في غير القذف موافق لما [أورده الأصحاب، كما حكاه

ص: 152

ابن يونس عن بعض أصحابنا وجهًا: أنه لا يشترط في شهادة الزور الاستبراء، وفي القذف]- قاله الشافعي في كتاب الشهادات من ((الأم)) -: أنه لابد من إصلاح العمل، وهو الذي جزم به في ((التهذيب))، لكن ظاهر النص في ((المختصر)): أنه لا يحتاج فيه إلى استبراء، فإنه قال: والتوبة إكذابه نفسه، لأنه أذنب حين نطق بالقذف، والتوبة منه أن يقول: القذف باطل، كما تكون الردة بالقول والتوبة عنهابالقول، فإن كان عدلًا قبلت شهادته، وإلا فحتى يختبر حاله.

واختلف الأصحاب- لأجل ذلك- في المسألة على طريقين:

إحداهما- وهي التي أوردها الماوردي والبندنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ-: أن المسألة على قولين:

أحدهما: أنه لا يشترط، لأن القاذف يحتمل أن يكون صادقًا، فلا حاجة فيه إلى التشديد.

وأصحهما في ((الرافعي)): الاشتراط، وهو المختار في ((المرشد))، لقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور:5]، فصار كما في سائر المعاصي.

قال أبو الطيب: والقائلون بالأول حملوا الآية على التأكيد.

والثانية: تنزيل النصين على حالين، والقائلون بها اختلفوا:

فمنهم من حمل ما في ((الأم)) على ما إذا صرح بتكذيب نفسه، وما في ((المختصر)) على ما إذا لم يصرح.

ومنهم من حمل ما في ((الأم)) على ما إذا لم يطل الزمان بعد القذف، [وما في ((المختصر)) على ما إذا طال الزمان بعد القذف] وحسنت سيرته، ثم تاب بالقول، كما سنذكره.

ومنهم من حمل ما في ((الأم)) على ما إذا قذف سبًا وإيذاء كما هي صورة مسألتنا، وما في ((المختصر)) على ما إذا جاء شاهدًا ولم يتم العدد، وأوحينا عليه الحد، فإنه لا خلاف- كما قال القاضي أبو الطيب، وتبعه ابن الصباغ وصاحب ((البحر)) -: في أنه لا يجب في حقه الاستبراء وهو الذي أورده الماوردي

ص: 153

والبندنيجي، واستدلوا لذلك بقول عمر- رضي الله عنه لأبي بكرة:((تب، أقبل شهادتك))، ولم ينكره أحد.

وفرقوا بينه وبين القاذف سبًا وإيذاء بأن القاذف سبًا مقطوع بفسقه، بنص الكتاب، والفسق عند الشهادة غير مقطوع به، ولهذا اتفقوا على قبول روايته، وعدم قبول رواية ذاك، وعلى هذا قال ابن الصباغ والروياني: من كانت شهادته تقبل بنفس توبته، فالإمام أن يقول له: تب، أقبل شهادتك، كما فعل عمر- رضي الله عنه.

وقال الإمام: الوجه عندنا أن يقال: إذا صرح بتكذيب نفسه فلا يخرج [على] هذا التفصيل وترديد القول، بل يقطع فيه بالاستبراء.

وإذا جاء شاهدًا، في الاستراء قولان مرتبان على ما إذا جاء قاذفًا، وهذه الصورة أولى بالا يشترط الاستراء فيها.

وقال الغزالي: الصواب أن نقول: إن علم-[أي:] القاذف سبًا- أن ذلك حرام، فهو فاسق، فيستبرأ. وإن ظن أن هذا الصدق مباح، فلا حاجة إلى الاستبراء، ويكفي قوله: تبت.

الأمر الثاني: أنه لا يشترط قبول الشهادة بعد التوبة، والإصلاح في العمل أمر آخر، وهو فيما عدا شهادة الزور وما في معناها، والقذف موافق لما أورده الأصحاب إذا كان مقبول الشهادة قبل ذلك.

وأما في شهادة الزور، فقد قال في ((المهذب)): لابد أن يقول: كذبت فيما فعلت، ولا أعود إلى مثله.

قال الرافعي: وقضية ذلك أن يطرد في الغيبة والنميمة.

وفي ((الحاوي)) في بابا ما على القاضي في الخصوم: أنه هل يحتاج إلى النداء عليه بالتوبة من شهادة الزور، كما ينادى عليه عند الحكم بفسقه، لأجل ذلك؟ فيه وجهان، وعلى المنع فالفرق أن ظهور التوبة بأفعاله أقوى.

ولأن في النداء بذلة لا تليق بحال العدل، بخلاف الفسق.

وأما في القذف، فقد ذكرنا عن الشافعي أنه قال: ((والتوبة إكذابه نفسه

)) إلى

ص: 154

آخره، واختلف الأصحاب في مراد الشافعي بذلك:

فقال الإصطخري: مراده: ما اقتضاء ظاهر كلامه، وهو أن يقول: كذبت بما قذفته به ولا أعود إلى مثله، لأنه روى [أن النبي] صلى الله عليه وسلم قال:((توبة القاذف إكذابه نفسه))، قال: ويقول ذلك وإن كان صادقًا في قذفه، لأن الله تعالى قال:{فَإِذْ لَمْ يَاتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13]، فهذا لقب أثبته الشرع، فيكذب القاذف على هذا التأويل نفسه، فإن الشرع سماه: كاذبًا.

قال الإمام: وهذا بعيد، لا أصل له.

وقال أبو إسحاق وابن هريرة وجمهور الأصحاب- كما قال الرافعي، وادعى البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما: أنه المذهب-: لا يكلف أن يقول ذلك، فإنه قد يكون صادقًا، فكيف نأمره بأن يكذب، والآية التي ذكرها الإصطخري نزلت في قصة الإفك، وعائشة- رضي الله عنها كانت مبرأة مما قالوا، فلذلك سماهم الله تعال: كاذبين، ولكن يقول: القذف باطل، وإني نادم على ما فعلت، أو يقول: ما كنت محقًا في قذفي، وقد تبت منه، وما أشبه ذلك.

والخبر محمول على الرجوع والإقرار ببطلان ما صدر منه، فإنه نوع إكذاب، وكذلك لفظ الشافعي، ويؤيده قوله بعد ذلك:((والتوبة منه أن يقول: القذف باطل))، وعلى هذا قال في ((الحاوي)): هل يحتاج أن يقول في التوبة: ((لا أعود إلى مثله))، أم لا؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا يحتاج [إليه]، لأن العزم على ترك مثله يغني عنه.

والثاني: لابد أن يقول: لا أعود إلى مثله، لأن القول في هذه التوبة معتبر، والعزم ليس بقول.

قال الرافعي بعد حكاية قول أبي إسحاق: ولا فرق في ذلك بين القذف على

ص: 155

سبيل السب والإيذاء، وبين القذف على صورة الشهادة، [إذا] لم يتم عدد الشهود، وقلنا: يوجب الحد على من شهد.

ويشبه أن يشترط في هذا الإكذاب جريانه بين يدي القاضي.

وما ذكره في القاذف على سبيل السب [لا نزاع] فيه، وأما القاذف على صورة الشهادة، فقد قال البندنيجي وابن الصباغ: إنه يكفي في توبته أن يقول: ندمت على ما كان مني، ولا أعود إلى ما أتهم فيه، فإذا قال هذا، زال فسقه، وثبتت عدالته، وقبلت شهادته.

وقال الماوردي: يعتبر في توبته من الشروط المتقدمة في قذف السب أن يقول: قذفي باطل، ولا يحتاج إلى الندم وترك العزم وترك العزم، لأنه شهادة في حق الله تعال، ولا أن يقول: إنني كاذب، ولا يقول: لا أعود إلى مثله، لأنه لو كمل عدد الشهود لزمه أن يشهد.

أما إذا لم نوجب الحد عليه، فلا حاجة به إلى التوبة.

وكذا نقول فيما إذا قذف سبًا وإيذاء، ثم أتى ببينة تشهد بالزنى، أو على الإقرار به، أو كان زوجًا، فلاعن، ولم تلاعن المرأة- لا يحتاج إلى التوبة في قبول الشهادة، كما جزم به الماوردي وابن الصباغ.

وفي ((النهاية)) وجه آخر: أنه لابد منها، لأنه ليس له أن يقذف، ثم يأتي بالبينة، بل كان ينبغي أن يجئ مجئ الشهود.

ومن هذا التعليل يظهر لك أنه لا يطرد في قذف الزوج إذا لا عن بعده، لأنه قد يضطر إليه.

أما إذا لاعنت المرأة أيضًا، قال في ((الحاوي)) في كتاب اللعان: فيحتمل في ارتفاع فسقه وجهين، لأن لعانها معارض للعانه.

فإن قلت: ما ذكرته لا يرد على الشيخ، لأن إكذاب القاذف وغيره نفسه فيما أتى به، من جملة شرائط التوبة وأركانها، كما أفهم ذلك كلام الشافعي وغيره، والشيخ، فقد قال:((لم تقبل شهادته حتى يستمر على التوبة))، فاندرج ما ذكرته تحت كلامه.

ص: 156

قلت: كلام الأصحاب كالمصرح بأن هذا غير معتبر في التوبة الباطنة بين العبد وربه، وإنما هو معتبر في التوبة الظاهرة، وقول الشيخ:((ثم تاب))، المراد به: التوبة الباطنة، وقوله:((لم تقبل شهادته حتى يستمر على التوبة))، يعود إلى التوبة الأولى، لأنه أتى فيها بالألف واللام، فعادت إلى ما ذكر أولًا، كما في قوله تعالى:{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15،16].

وإذا كان ذلك اتجه السؤال، لكن للمعترض أن يقول: مراد الشيخ بقوله: ((ثم تاب)): التوبة الظاهرة التي تشمل ما ذكرته وغيره، لأن قوله بعد ذلك:((حتى يستمر على التوبة سنة))، يعود إلى الأولى.

وقد اتفق الأصحاب على أن التوبة الظاهرة بما ذكرناه لابد منها مع التوبة الباطنة، فتعين أن المراد بما ذكره أولًا: التوبة الظاهرة، وعلى [هذا] ينتفي السؤال، وهو الأحسن، لأن الدعوى أن مراد الشيخ بالتوبة التي ذكرها أولًا: الباطنة لا دليل عليه، والله أعلم.

واحترز الشيخ بقوله: ((ومن ردت شهادته، لمعصية غير الكفر، أو لنقصان مروءة)) عما إذا ردت شهادته، لأجل الغلط، فإنه لا يستبرأ، كما صرح به البغوي والرافعي، وعما إذا ردت شهادته، لحرصه على أدائها قبل الاستشهاد، إذا قلنا: إنه يصير به مجروحًا، كما سنذكره، فإنه لا يحتاج إلى استبراء، كما صرح به البغوي.

لكن في ((النهاية)) في باب الشهادة على الجناية: أن الأصحاب قالوا: يستبرأ أيضًا، ولا يبلغ استبراؤه مبلغ استبراء الفاسق، بل يقرب.

[وحد القاضي ذلك في ((تعليقه)) بيومين أو ثلاثة،] فإن الغرض يحصل لنا بأن يبين لنا شبهة لإقامة الشهادة في حينها ووقتها، وترك ما يدل على غرضه في الثبوت والابتداء.

وهذا المسلك وإن كان ظاهرًا فليس علي أوثره وأحبه، وهذا ذكره تفريعًا على قولنا: إنه لو أعاد تلك الشهادة لم تقبل، وأنه يشترط على هذا- أيضًا- أن يتوب عما جرى منه، ويذكر أنه لا يعاود مثله، ولا يبادر الشهادة قبل الاستشهاد، والله أعلم.

ص: 157

ثم قد يقال: إنه احترز بما ذكره عما إذا ردت شهادته في القذف، لنقصان العدد إذا أوجبنا عليه الحد، فإنه لا يجب الاستبراء عند الجمهور، ولا يقال: إن نفس إقدامه على الشهادة بذلك معصية، لأن العدد لو تم عمل بقوله، ولو كان نفس الإقدام معصية لما عمل به، لما سنذكره عند الكلام في حد شهود القذف، لكن إطلاق الأصحاب القول بتفسيقه بناء على إيجاب الحد عليه يدل على أنه معصية، وحينئذ فيكون كلام الشيخ يشمله، ويقتضي وجوب الاستبراء، وهو خلاف ما أورده الأصحاب كما عرفته.

واعلم أن التوبة في الباطن التي تتبعها التوبة في الظاهر المرتب عليها غفران الذنب وغيره تحصل- كما قال الأصحاب فيما إذا كانت المعصية لا يتعلق بها حد لله تعالى، ولا مال، ولا حق للعباد: كوطء الأجنبية فيما دون الفرج، وتقبيلها، والاستمناء، ونحو ذلك- بأمرين: الندم على ما كان، والعزم على ألا يعود إلى ذلك في المستقبل.

قال القاضي أبو الطيب: وقد يعبر عن ذلك بعبارة أخرى، فيقال: أن يستغفر الله تعالى عما مضى، ويترك الإصرار في المستقبل، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135]، هذا هو العزم على ألا يعود، كذا قاله البندنيجي والقاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ والبغوي.

وذكر الرافعي وغيره من المتأخرين أمرًا ثالثًا: وهو ترك مثل ذلك في الحال، فإذا فعل ذلك لله تعالى قبل الحشرجة والمعانية، قبلت توبته عما ذكرناه وعن فإذا فعل ذلك لله تعالى قبل الحشرجة والمعاينة، قبلت عما ذكرناه وعن غيره بالشرط الذي سنذكره، لقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الآية][الشورى:25]، وقوله تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقوله تعالى:{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3]، وقوله- عليه السلام:((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)).

ص: 158

وقد روى عن عمر أنه قال: بقية عمر المرء لا قيمة له يدرك [به] ما فات، ويحيي به ما مات، ويبدل حسناته سيئات.

أما إذا فعل [ذلك] بعد الحشرجة والمعاينة فلا ينفعه ذلك، قال الله تعالى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} الآية [النساء:17].

واحترز الرافعي بقوله: ((ترك مثل ذلك في الحال)) عن الإقلاع عن معصية [خاصة] يوقعها بشخص [دون شخص]، فإن التوبة لا تحصل منها، وفيه تنبيه على مذهبنا: أنه لا يشترط في صحة التوبة عن معصية الإقلاع عن كل المعاصي كما حكاه القاضي أبو الطيب، خلافًا للمعتزلة، فإنهم اشترطوا ذلك.

وإن تعلق بالمعصية حق مالي: كمنع الزكاة، وكذا الكفارات- كما قاله البندنيجي، وفيه نظر إن لم نوجبها على الفور- وكالغضب والجنايات الموجبة للمال، فيعتبر [مع] ما ذكرناه في صحة التوبة: أن يخرج من ذلك الحق حسب الإمكان، فيؤدي الزكاة، ويرد المغصوب على الوجه المأمور به شرعًا إن كان باقيًا، وبدله إن كان تالفًا، أو يستحل فيبرئه المغصوب منه إن كان حيًا، فإن كان قد مات فعل ذلك مع وارثه.

وإن غاب وانقطع خبره، دفعه إلى قاض يعرف سيرته وديانته، فإن تعذر تصدق به على الفقراء بينة الغرامة له، [كذا] ذكره العبادي في ((الرقم))، والغزالي في غير كتب الفقه، وهذا إذا كان موسرًا، فلو كان معسرًا، عزم على الأداء إذا أيسر.

قال أبو الطيب: ومتى أيسر أداه.

فلو مات قبل أن يغرم، قال الرافعي: فالمرجو من فضل الله- تعالى جده- المغفرة.

وإن تعلق بالمعصية حق غير مالي، فإن كان حدًا لله تعالى: كما إذا زنى، أو سرق أو شرب الخمر- فإن لم يظهر ذلك بشهادة، قال القاضي أبو الطيب: فالأفضل أن يستر نفسه.

ص: 159

وقال القاضي الحسين: يكره أن يظهر ذلك، لقوله- عليه السلام:((من أصاب من هذه القاذورات [شيئًا] فليستتر بستر الله تعال، فإن من بيد [لنا] صفحته نقم فيه حد الله))، وفي هذه الحالة تحصل التوبة بما ذكرناه في الصورة الأولى.

قال الأصحاب: ولو أراد أن يبدي ذلك، ليقام عليه الحد، لم يحرم

قال البندنيجي: اللهم [إلا] أن يتقادم عهد ذلك، ونقول: إن الحد يسقط بتقادم العهد، كما حكيناه قولًا في بابه، فلا يحل له التمكين من الاستيفاء، لأنه ليس هناك حد فيستوفى منه.

قال ابن الصباغ: وهكذا نقول على هذا القول: إذا اشتهر ذلك بين الناس، ولم تقم به بينة عند الحاكم.

نعم، لو ظهر بالشهادة عليه، فإنه يجب عليه أن يظهر ذلك للإمام، ليقيم عليه الحد، ولا يجوز له أن يكتم ويستر على نفسه، لأنه لا غرض له في كتمانه وقد قامت به البينة.

وفي هذه الحالة تتوقف التوبة على فعل ذلك مع ما تقدم، فإن لم يستوف منه صحت توبته، كما قاله الماوردي، وتبعه في ((البحر))، وكان المأثم في ترك الحد على من يلزمه [استيفاؤه] من الإمام أو من ينوب عنه، ولا يجري الخلاف السابق في [أن] الحد هل يسقط أم لا بتقادم العهد والتوبة، لأن محله إذا لم يثبت عند الحاكم- كما قاله الماودري هنا- أما إذا ثبت- كما صورنا- فلا يسقط قولًا واحدًا، وقد تكلمنا على ذلك في باب حد الخمر.

وإن كان حقًا للعباد، قال الماوردي: فإن لم يكن ذلك حدًا: كمن تعدى فضرب إنسانًا فآلمه، احتاج- مع ما ذكرناه في الحالة الأولى في صحة التوبة- إلى استحلال المضروب باستطابة نفسه، ليزول عنه الإثم في حقه، فإن أحله منه، وإلا مكنه من نفسه، ليقابله على مثل فعله، [لأن ذلك ما في وسعه] كما

ص: 160

فعل عمر- رضي الله عنه[في الذي] ضربه حين رآه يصلي مع النساء.

وكلام القاضي الحسين موافق لذلك، وقال: إن صاحب هذا الحق إذا كان قد مات لا يأتي إلى وارثه، بل يستغفر لذلك الميت.

وإن [كان] ذلك الحق قصاصًا في نفس أو طرف أو حد قذف، فالتوبة- كما قالوا-: أن يأتي بما تقدم، ويأتي المستحق ويمكنه من الاستيفاء، فإن لم يعلم المستحق، فيجب في القصاص أن يخبره، ويقول: أنا الذي قتلت أباك، ولزمني القصاص، فإن شئت فاقتص، وإن شئت فاعف.

وفي حد القذف: هل يخبر؟

الذاي أجاب به العباد وغيره هاهنا: نعم، كما في حق القصاص.

وحكى الغزالي فيما إذا أتى ببعض كنايات القذف، وأراد القذف، ولم يحلفه المقذوف على النية- ترددًا في أنه هل يخبره بذلك، أو يخفيه ولا يؤديه؟

قال الرافعي: وفي مثله في الغيبة رأيت في ((فتاوى)) الحناطي: أنها [إذا] لم تبلغ المغتاب، كفى الندم والاستغفار، وإذا بلغته، أو طرد طارد قياس القصاص والقذف فيها- فالطريق: أن يأتي المغتاب، ويستحيل منه، فإن تعذر بموته، أو عسر لغيبة فيها مشقة- فيستغفر الله تعالى، ولا اعتبار بتحليل الورثة، كذلك ذكره الحناطي وغيره.

قال العبادي: والحسد كالغيبة، وهو أن يهوى زوال نعمة الغير، فيأتي المحسود، ويخبره بما أضمره، ويستقيله ويسأل الله تعالى أن يزيل عنه هذه الحالة.

قال الرافعي: [و] في إلزام الإخبار عن مجرد الإضمار بعد.

فرع: إذا قصر الشخص فيما عليه من الدين والمظلمة، ومات المستحق، واستحقه وارث بعد وارث- فمن المستحق له في الآخرة؟ قال القاضي الحسين في ((تعليقه)): إن كان صاحب الحق قد ادعاه فجحده من هو عليه، وحلف عليه- فلا خلاف أنه يكون للأول في القيامة.

وإن كان صاحب الحق لم يحلفه، فثلاثة أوجه:

أحدها: أنه للأول، وهو الصحيح، وعليه ينطبق قول أبي عبد الله الحناطي

ص: 161

لما سئل عن ذلك حيث قال: يرثه الله تعالى بعد موت الكل، ويرد إليه في القيامة.

والثاني: أنه يكون للكل.

والثالث: أن ذلك يكون للأخير، وأن لمن فوقه إلى الأول ثواب المنع، ويقرب من هذا ما حكي عن ((الرقم)): أنه يكتب الأجر لكل وارث، ثم يكون الثواب لمن بعده.

وقد حكي عن رواية أبي عبد الله الحناطي وجه: أنه لآخر من مات من الوارثين.

ولا خلاف- كما قاله القاضي الحسين وغيره- في أنه لو دفع [الحق، أو خرج منه إلى بعض الوارثين عند انتهاء الاستحقاق إليه، أنه يخرج] عن المظلمة إلا بما سوف وماطل، وكذا إذا أبراه ذلك الوارث، والله أعلم.

قال: وإذا شهد الكافر، أو الصبي، أو العبد في حق، فردت شهادتهم، ثم أسلم الكافر، وبلغ الصبي، وعتق العبد، وأعادوا تلك الشهادة- قبلت، لأنه لا عار على هؤلاء فيما لأجله ردت شهادتهم، فإن الكافر يناظر على دينه، ويفتخر به، والصبي والعبد ليس الصبا والرق إليهما، فإذا كان كذلك لم يلحقهم تهمة في الإعادة في حال الكمال.

وأيضًا: فإن [رد] شهادتهم ثابت بالنص، ولم يكن للاجتهاد فيه مساغ، ولم يجب الإصغاء إليها، فكان جودها كعدمها، ولو لم ترد حتى أسلم، وبلغ، وعتق- قبلت، فكذلك في هذه الحالة، وهذا يوضحه ما ذكرناه عند الكلام في قول الشيخ: فإن كانوا فساقًا، قال للمدعي: زدني في الشهود.

ثم لا فرق فيمن ردت شهادته للكفر ثم أسلم وأعادها بين أن يكون متظاهرًا بكفره أو كاتمًا له.

وعن كتاب ابن كج حكاية وجهين في قبول شهادة المتكاتم.

وقال الرافعي: إن قضية كلام الأصحاب تقتضي المنع.

وكذا لا فرق فيمن ردت شهادته للرق، ثم أعادها بعد الحرية بين أن يكون قنًا

ص: 162

أو مكاتبًا، يشهد لسيده أو لغيره، كما قاله القاضي الحسين.

قال: وإن شهد الفاسق، أو من لا مروءة له، فردت شهادته، ثم تاب، وحسنت طريقته، وأعاد تلك الشهادة- لم تقبل، لأنه يتغير برد شهادته بسبب فسقه الصادر منه، فلا يؤمن أنه أصلح حاله [وأرى] الناس العدالة، ترويجًا لشهادته، ولدفع العار عن نفسه.

قال القاضي الحسين: ولأن رد شهادة الفاسق إنما كان بالاجتهاد، ويجوز أن يكون هو صادقًا في الشيء المشهود به، فرده تعلق باجتهاد القاضي، فلو قبلت شهادته المعادة، لأجل عدالته، وهي أيضًا مدركة بالاجتهاد- لأدى إلى نقض الاجتهاد [بالاجتهاد]، وهذا ما نص عليه الشافعي في الصورتين.

وعن المزني وأبي ثور: أن شهادة الفاسق إذا تاب، وأعادها، قبلت، كما في شهادة الكافر ونحوه.

والفرق على المذهب ما ذكرناه.

قال ابن الصباغ: وقد ذكر في ((التعليق)) فرقًا آخر: وهو أن المانع من قبول الشهادة في حق الكافر والصبي والعبد قد زال قطعًا، بخلاف الفاسق. قال: وهذا ليس بصحيح، لأنهم سواء في قبول شهادتهم في غير هذه الشهادة، وإن اختلفا فيما ذكر، والراجح عن الشهادة [أداءً حكمه] في إعادة تلك الشاهدة حكم الفاسق فيما ذكرناه.

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في الفاسق بين المتكلم لفسقه، أو المتظاهر به والمعلن، وهو ما جزم به القاضي أبو الطيب حيث ذكر حكم المتكاتم كما ذكرناه، وألحق به المتظاهر بالفسق.

وقال القاضي الحسين في موضع: إنه لا خلاف في قبول شهادة المعلن بالفسق، المعادة بعد التوبة. وهو قضية التعليل الذي حكيناه عنه، لأن الرد في هذه الحالة لم يكن بالاجتهاد، بل هو ملحق برد شهاد الكافر، ولذلك قال الماوردي بعد ذكره [مثل] ما ذكرناه عن القاضي في تعليل المسألة الثانية:

ص: 163

وقضية هذه العلة سماع شهادة المعلن بالفسق إذا أعادها بعد التوبة، ولو قيل به لكان وجهًا.

لكن هذا الكلام منه يقتضي أن المذهب عدم القبول فيه.

وكذلك حكى الرافعي: أن الروياني اختاره بعد أن قال: إنه ينسب إلى ابن أبي هريرة، وروى وجهًا آخر معه، وذكر أنه منسوب إلى أبي إسحاق: أنها تقبل، وأن القاضي أبا الطيب اختاره.

والرافعي في ذلك متبع لابن الصباغ، فإنه [قال: إن] القاضي أبا الطيب قال: إنها تسمع، كشهادة الكافر.

والذي رأيته في ((تعليقه)) ما ذكرته أولًا، [ولا] فرق بينه وبين الكافر ومن في معناه، لأن ذلك لا يتغير بأول شهادة ردت [له]، ولا ما بعدها، بخلاف المعلن بالفسق، فإنه إذا ردت شهادته في أول مرة تلحقه منقصة.

وقد حكى القاضي الحسين في المسألة الوجهين أيضًا في موضع آخر، كما حكاهما غيره من المراوزة.

فرع: إذا ردت شهادة شاهدي الفرع لفسق شاهد الأصل، ثم حسنت حاله، فأعادا تلك الشهادة، أو أعادها هو بنفسه- لم تقبل.

قال القاضي الحسين: وكذا لو شهد على شهادته غير هذين الشاهدين قبل أن ترد شهادة هذين، أو بعده، فجاءا فشهدا- لم تقبل.

وقد نسب الرافعي هذا النقل إلى ((أمالي)) أبي الفرج، وقال: إن شهادة شاهدي الفرع لو ردت، لفسقهما، ثم أعادها شاهد الأصل، أو غيرهما- قبلت، وهو كذلك في ((تعليق)) القاضي أيضًا.

فرع: إذا شهد العدو على عدوه، فردت شهادته، ثم زالت العداوة، وأعادها فعن أبي إسحاق: أنها لا تقبل، وهو الذي صححه- كما قال الرافعي- في ((المهذب))، و ((التهذيب)).

وعن أبي إسحاق: أنها تقبل، كذا قاله القاضي الحسين، ولم يورد البندنيجي في كتاب اللعان غير الوجه الأخير.

ص: 164

قال: وإن شهد الوارث لمورثه بالجراحة قبل الاندمال، فردت شهادته، ثم اندمل الجرح، وأعاد [تلك] الشهادة- فقد قيل: تقبل، لأن شهادته إنما ردت خشية من موته من تلك الجراحة، فيكون كأنه شهد لنفسه، فإذا برئ زال هذا [المعنى، وهذا] ما اختاره في ((المرشد)).

وقيل: لا تقبل، كشهادة الفاسق إذا أعادها بعد التوبة، لأنهما جميعًا ردا، لأجل التهمة، وهذا ما قال به أبو إسحاق، واختاره النواوي، وقيل: إنه ظاهر المذهب، ولم يحك القاضي الحسين في باب الشهادة على الجناية غيره، وطرده فيما إذا شهد بالجراحة قبل الاندمال وهو وارث، ثم حدث للمجروح ابن يحجبه، فأعاد تلك الشهادة.

وفي ((الحاوي)) حكاية الوجهين في هذه الصورة أيضًا.

قال القاضي أبو الطيب: والقائلون بالأول فرقوا بأن العلة المانعة لقبول شهادته قد زالت يقينًا، وهو كونها غير مندملة، خشية حصول المشهود به [له]، وليس كذلك الفسق.

وقد نسب القاضي الحسين هاهنا القول بعدم القبول إلى القفال، وقال: إن أصحابنا ذكروا في المسألة وجهين، كالسيد إذا ردت شهادته لمكاتبه، فعتق، وأدى السيد تلك الشهادة، هل تقبل أم لا؟ فيه قولان.

وفي ((الشامل)) حكاية القبول في مسألة المكاتب عن بعض الأصحاب، ومقابله إلى تخريج ابن القاص، ولأجل ذلك حكى الفوراني وغيره الخلاف في المسألة وجهين، واختار في ((المرشد)) منهما القبول.

وكذا الخلاف يجري- كما حكاه القاضي عن ابن سريج- فيما إذا شهد المولى لعبده بما لا يعود نفعه إليه: كالنكاح، فردت شهادته، ثم عتق العبد، فأعاد السيد تلك الشهادة، فهل تقبل؟ فيه قولان:

والأصح: لا، لأن الرد كان للتهمة.

ومقابله منسوب في ((الرافعي)) إلى ابن القاص.

والخلاف جارٍ- أيضًا، كما قال الرافعي- فيما لو شهد اثنان من الشفعاء بعفو

ص: 165

شفيع ثالث قبل أن يعفوا، فردت شهادتهما، ثم أعادها بعد عفوهما.

ومن ردت شهادته لوقوعها قبل الاستشهاد، ثم أعادها بعده، هل تسمع؟ سيأتي الكلام فيها، إن شاء الله تعالى.

قال: ويقبل في المال وما يقصد به المال: كالبيع، والإجارة، والرهن، والإقرار، والغصب، وقتل الخطأ- رجلان، ورجل وامرأتان، لقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282]، فكان محمولًا على عمومه في كل حق إلا ما خصه دليل، قال القاضي أبو الطيب: ولأنه إجماع.

ولا فرق في شهادة الرجل والمرأتين بين أن تتقدم شهادة الرجل أو تتأخر، صرح به القاضي أبو الطيب، والحسين، والإمام.

وكذا لا فرق بين أن يقدر على رجلين، أو لا يقدر إلى على رجل وامرأتين، لم يختلف أصحابنا في ذلك.

والخنثى المشكل في هذا المقام كالمرأة.

قال: وشاهد ويمين المدعي، لما روى الشافعي بسنده عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس:((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد))، قال عمرو: في الأموال.

وهذا الخبر وإن كان منقطعًا، لأن عمرًا لم يلق ابن عباس، فقد رواه خالد

ص: 166

الزنجي، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، كما خرجه مسلم.

ورواه الشافعي من حديث آخر عن أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد)).

وروى من طريق آخر عن علي بن أبي طالب: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد الواحد مع يمين من له الحق)).

وروي عن غيره- أيضًا- ومجموع من رواه من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الماوردي- ثمانية: علي، وابن عباس، وأبو هريرة، وجابر، وعبد الله بن عمرو ابن العاص، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وسعد بن عبادة، رضي الله عنهم.

ص: 167

وروى الدارقطني في ((سننه)) حديثًا أسنده إلى أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استشرت جبريل- عليه السلام في القضاء [باليمين مع الشاهد]، فأشار علي بذلك في الأموال لا يعدو يذلك)).

وهذا هو ظاهر المذهب، كما قال في ((البحر))، سواء تمكن من البينة الكاملة أو لم يتمكن.

ولم يحك القاضي [أبو الطيب] في باب عدد الشهود في ضمن تعليل الحكم في مسألة منه سواه.

وفي ((الحاوي): أن هذا إذا لم يتمكن من البينة الكاملة، وهي شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، فإن تمكن من ذلك ففي الحكم بالشاهد واليمين وجهان.

وعلى المشهور: هل يشترط تقديم شهادة الشاهد وتزكيته [على اليمين، أم يجوز تقديم اليمين على شهادة الشاهد وتزكيته؟] المذهب في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب- وقال: إنه الذي عليه عامة أصحابنا-: الأول، ولم يحك القاضي الحسين والإمام ومن تبعه سواه.

وحكى القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما عن ابن أبي هريرة: أنه يجوز أن يحلف قبل إقامة الشهادة وقل التزكية.

وللإمام احتمال في جواز الحلف بعد إقامة الشهادة وقبل التزكية.

ص: 168

قلت: ويمكن بناء الوجهين [على الوجهين] في أن المدعي هل يحتاج في يمينه على تصديق الشاهد، فيقول: والله إن شاهدي لصادق فيما شهد [لي] به، وإني مستحق لكذا، أو يكفيه الاقتصار على الحلف على الاستحقاق؟ وفيه خلاف حكاه صاحب ((البحر)) هاهنا، والماوردي في باب صفة اليمين، وحكيته عن رواية الإمام في باب صفة القضاء عند الكلام في [باب] القضاء على الغائب.

فإن قلنا بالاحتياج إلى تصديق الشاهد كما حكيته عند الكلام في نكول المدعي عن اليمين عن القفال، وهو الذي أورده [ابن] الصباغ في باب الامتناع من اليمين والإمام هنا، [و] ادعى أن الأصحاب لم يختلفوا فيه، وتبعه الغزالي، والرافعي، ووجه ذلك بأن اليمين والشاهد حجتان مختلفتا الجنس، [فاعتبر] ارتباط إحداهما بالأخرى، لتصيرا كالنوع الواحد- فيظهر أن يقال: لا بد من تقدم الشهادة، ليقع التصديق بعدها.

وإن قلنا: لا نحتاج إلى تصديق الشاهد، كما حكاه ابن أبي الدم عن الإصطخري، ووجهه الماوردي بأن يمينه بمثابة الشاهد الآخر، وليس يلزم الشاهد أن يشهد بصدق الآخر- فيظهر أن يقال بمجيء الخلاف في جواز تقديم اليمين على الشهادة.

[ثم] قال الإمام تفريعًا على الاحتياج إلى تصديق الشاهد في اليمين: ولو قد ذكر الحق، وأخر تصديق الشاهد، فلا بأس، ولم أر أحدًا يضايق فيه.

فرع: إذا حصل القضاء عند وجود الشاهد واليمين، فهل يستند إلى الشاهد فقط، أو إلى اليمين فقط، أو إليهما؟ فيه ثلاثة أوجه، أصحها: ثالثها، وهو الذي ينتظم عليه تعليل الأصحاب اشتراط التعرض لصدق في اليمين، كنا قال الرافعي.

وتظهر فائدة الخلاف في الغرم عند الرجوع، فإن قلنا بالشاهد فقط كان الغرم عليه عند رجوعه، وإن قلنا باليمين فقط فلا شيء على الشاهد، وللإمام احتمال فيه أخذه من تغريم شهود التزكية، لأن به حصل ترويج اليمين، كما

ص: 169

حصل بهم ترويج شهادة الشاهد.

وإن قلنا باليمين والشاهد، كان عليهما.

وقال ابن أبي الدم: إن الشيخ أبا على قال: إذا قلنا: إن القضاء استند إلى الشاهد فقط، فلا صائر إلى أنه يغرم الكل، وهذا يدل على ضعف هذا الوجه.

وقد عد الأصحاب مما يثبت بالشاهد واليمين حق الخيار، والفسخ بالرد بالعيب، والإقالة، والفلس، والضمان، والشفعة، والمساقاة، والمسابقة، وحصول السبق فيها، وقبض المال، والرجوع في التدبير، وعجز المكاتب عن أداء النجوم، ووجوب المهر بوطء الشبهة، وكذا بتسميته في النكاح بعد التوافق عليه، وثبوت طاعة المرأة، لاستحقاق النفقة، واستحقاق الصيد بإزمانه، والسلب بقتل الكافر، وجناية العمد التي لا توجب قصاصًا، لاقتران، المسقط بها: كقتل الوالد الولد، والمسلم الكافر، والحر العبد، وكالجائفة، والهاشمة، والمنقلة إذا لم يتقدمها إيضاح، وكذا ما قبل الموضحة إذا لم نوجب فيه القصاص.

أما إذا كانت [الجناية] توجب القصاص، لكنه عفى عنه، وأراد إثباتها باليمين مع الشاهد، أو بالرجل [والمرأتين- فوجهان]:

أصحهما في الحاوي: الثبوت، لأنه لا قصاص، والمقصود المال.

قلت: ويؤيده ما ذكرناه: أن الجديد: أن الواجب في قتل العمد أحد الأمرين، وأنه إذا اختار أحدهما حكمنا بأنه الذي كان وجب بالقتل.

وأصحهما في الرافعي، ولم يحك القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وكذا البندنيجي غيره، وعزاه إلى نصه في ((الأم)) -: المنع.

وحكى عن أبي بكر الطوسي طريقة قاطعة به، لأنها في نفسها موجبة للقصاص لو ثبت، ولأنه ينبغي أن يثبت القصاص حتى يكون للعفو اعتبار.

ولو أقام على الهاشمية والمنقلة المسبوقة بالإيضاح شاهدًا وامرأتين، أو شاهدًا ورام الحلف معه- فالنص: أنه لا يثبت أرش الهاشمة والمنقلة بذلك، بل لابد من شهادة رجلين.

والنص فيما إذا رمى إلى زيد، ومرق السهم منه، وأصاب غيره: أنه يثبت

ص: 170

الخطأ الوارد على الثاني برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين.

وفيهما طريقان:

أحدهما: أن فيهما قولين:

أحدهما: ثبوت الهشم، وقتل الخطأ برجل وامرأتين، وإن لم تثبت الموضحة وقتل العمد.

والثاني: المنع، لاشتمال الجناية على ما يوجب القصاص: وهو الموضحة، وقتل العمد، وهما لا يثبتان برجل وامرأتين.

وقد حكى الماوردي هذين القولين في باب الشهادة بالجناية، وفي باب اليمين مع الشاهد [في الصورتين منصوصًا] عليهما في ((الأم)) وصحح القول بثبوت قتل الخطأ بالشاهد واليمين، وعلى ذلك جرى الرافعي، فقال: أصح] الطريقين: تقرير النصين، لأن الهشم المشتمل على الإيضاح جناية واحدة، وإذا اشتملت الجناية على ما يوجب القصاص، احتيط لها، ولم تثبت إلا بحجة كاملة.

وفي صورة مروق السهم، حصلت جنايتان لا تتعلق إحداهما بالأخرى.

وذكر الإمام أن المدعي لو قال: أصاب سهمه الرجل الذي قصده، ونفذ منه إلى أبي، فقتله، ولم تكن الجناية الأولى متعلق حق المدعي- فيجب القطع بثبوت الخطأ بالبينة الناقصة، ومحل التردد ما إذا كانت الجناية الأولى متعلق حق المدعي.

قال: وفيه احتمال، لأن الجناية في الجملة عمد منفض إلى خطأ. وذكر أنه لو ادعى [أنه] أوضح رأسه، ثم عاد وهشمه- ينبغي أن يثبت موجب الهاشمة رجل وامرأتين، لأنها لم تتصل بالموضحة، ولم تتحد الجناية.

وذكر في ((الوسط)): أنه لا خلاف: أنه لو ادعى قتل عمرو خطأ، فشهدوا، وذكروا مروق السهم إليه من زيد- لم يقدح في الشهادة، لأن زيدًا ليس مقصودًا بها.

وإذا قلنا بثبوت الهاشمة المسبوقة بالإيضاح، وأوجبنا أرشها- فعن صاحب ((التقريب)): أن في ثبوات القصاص في الموضحة وجهين:

وجه الثبوت: التبعية، كما أن الولادة على الفراش إذا تثبتت بشهادة النسوة ثبت

ص: 171

النسب [تبعًا، وإن لم يثبت النسب] بشهادتهن ابتداءً، واستضعف الشيخ أبو علي والأئمة ذلك، وقالوا: الأقرب أن يقال: لا يجب قصاص الموضحة، وفي أرشها وجهان:

وجه الوجوب: أنا وجدنا متعلقًا لثبوت المال، فلا يبعد أن يستتبع مال مالًا.

وقد أبعد بعض الأصحاب فقال: إذا ادعى مدع قصاصًا ومالًا من جهة لا تتعلق بالقصاص، وأقام على الدعويين رجلًا وامرأتين- لا يثبت المال، كما لا يثبت القصاص.

والمذهب المشهور: أن المال يثبت وإن لم يثبت القصاص.

وقد عد مما يثبت بالشاهد واليمين: الديون، والحوالة، والإبراء حتى من نجوم الكتابة: الأول منها والأخير، ولم يحك العراقيون سواه.

وعن رواية الموفق بن طاهر عن الربيع: أن الإبراء لا يثبت إلا بشاهدين [ذكرين، وعن غيره حكاية وجه في أن النجم الأخير من نجوم الكتابة لا يثبت إلا بشاهدي،] لترتب [العتق عليه].

والأصح في ((التهذيب)) خلافه.

والأجل يثبت بالشاهد واليمين عند العراقيين، كالخيار.

وقيل: [إنه] لا يثبت إلا بشاهدين، لأنه ضرب من السلطة، فكان كالوكالة.

قال القاضي الحسين: وهو مأخوذ من كلام الشافعي، لأنه شرط في المال الانتقال من مالك إلى مال، والأجل لا ينتقل، لأن من عليه الأجل إذا مات بطل.

والصحيح الأول.

والقراض ملحق في ((الشامل))، وكذا في ((تعليق)) أبي الطيب في باب الشهادة على الجناية- بما المقصود منه المال.

والشركة في ((الوسيط)) ملحقة به أيضًا.

وحكى ابن أبي الدم: أن القاضي الحسين قال: عقد القراض والشركة لا يثبت إلا بشاهدين، وبه أجاب في ((التهذيب)).

ص: 172

وقال الرافعي: إنه الأظهر، لأنه إثبات وكالة على المال المشترك.

قال ابن أبي الدم: وهذا يقوله القاضي تفريعًا على المذهب، وإلا فمن مذهبه، أن الوكالة بالمال تثبت بالشاهد والمرأتين، والشاهد واليمين، فعقد القراض والشركة أولى.

وعن رواية القاضي ابن كج حكاية وجه: أن الرهن لا يثبت إلا بشاهدين.

والتقويم ملحق عند أبي إسحاق المروزي بما نحن فيه، فيثبت بالشاهد [والمرأتين، والشاهد] واليمين.

وقال ابن أبي هريرة: [لا مدخل للنساء فيه]. وقال الزبيلي: قال أبو الحسن: والأولى قول أبي إسحاق.

قال: وأما الوقف فقد قيل: يقبل فيه ما يقبل في المال، أي: وإن قلنا: إنه ينتقل إلى الله تعالى، لأن المقصود منه تمليك الموقوف عليه منفعة الوقف، فأشبه الإجارة، وهذا قول ابن سريج وأبي الطيب بن سلمة، وينسب إلى النص هاهنا، ورجحه الإمام والبغوي والنواوي.

وقيل: إن قلنا: إنه ينتقل إلى الآدمي قبل، [كالبيع].

وإن قلنا: [إنه] ينتقل إلى الله تعالى، لم يقبل، كالعتق، وهذا قول أبي إسحاق.

قال الرافعي: وإلى ترجيحه مال العراقيون، ونسبوه إلى عامة الأصحاب.

وقال الغزالي: إنه بعيد غير معتد به.

وكلام الماوردي يقتضى ترجيح الأول، فإنه قال: إن القائلين به فرقوا بين بين الوقف على القول بالانتقال إلى الله تعالى، وبين العتق بفرقين:

ص: 173

أحدهما: أن أحكام الملك باقية على الوقف في ضمانه باليد، وغرامته بالقيمة، وزائلة عن المعتق، لأنه لا يضمن باليد، ولا يغرم بالقيمة.

والثاني: أن المقصود بالوقف تمليك المنفعة التي هي مال، والمقصود بالعتق كمال أحكامه في ميراثه، وشهادته، وولايته.

وفي ((حلية)) الشاشي في كتاب الوقف طريقة أخرى، وهي إن قلنا: إن الوقف ينتقل إلى الله تعالى، لم يقبل إلا شاهدان، وإن قلنا: إنه ينتقل للموقوف عليه، فوجهان.

ولا خلاف أنه لو ادعى ورثة ميت على رجل أنه غصب هذه الدار، وكانت لأبينا وقفها علينا، أو على فلان منا، وأقاموا شاهدًا، وحلفوا معه-: أنه يثبت الغصب بذلك، وكذا الوقف إن قلنا: إنه يثبت بالشاهد واليمين، [وإن قلنا: لا يثبت بالشاهد واليمين]، كان ثبوته في هذه الصورة بالإقرار.

وقد فرع الشافعي على القول بثبوت الوقف بالشاهد واليمين فروعًا، وذلك مما يدل على أنه رآه الصحيح، لأن الأصحاب قالوا ذلك:

فمنها: إذا ادعى شخص أن أبي وقف داره هذه علي وعلى أخوي [دون غيرنا] من ورثته، فإذا انقرضنا فعلى أولادنا ما بقوا، ثم على الفقراء، وصدقه أخواه، وكذبهم بقية الورثة، فأقاموا شاهدًا واحدًا بذلك. هكذا صور المسألة ابن سريج، وأبو إسحاق، والقاضي أبو حامد، وقالوا: إن كلام الشافعي محمول عليها، قال الأصحاب: وهو الصحيح، ولهم [بعد ذلك] ثلاث أحوال:

إحداها: أن يحلفوا معه، فيثبت لهم مدة حياتهم، فإذا انقرضوا في حالة وحدة، انتقل إلى أولادهم، لكن بيمين من جهتهم، أم يكفيهم يمين آبائهم؟ فيه وجهان في الطريقين، وبناهما القفال وطوائف من الأصحاب على أن الوقف ينتقل إلى البطن الثاني من الواقف كما انتقل للبطن الأول منه، أو ينتقل إليهم من البطن الأول؟ وفيه خلاف مشهور.

فعلى الأول: يحتاجون إلى الحلف، كما احتاج إليه البطن الأول، وهو الذي [قال به] ابن سريج، كما حكاه الماوردي وغيره.

ص: 174

وقال البندنيجي: إن ابن سريج حكاه وجهًا، وإنه ليس بشيء.

وقضية البناء المذكور أن يكون هو الصحيح، لأن الصحيح أنهم يتلقون من الواقف، وسنذكر عن ابن الصباغ ما يعضده.

وعلى الثاني لا يحتاجون إلى اليمين كما لو كان ذلك في ملك، ثم انتقل إلى وارث الحالف، فإنه لا يحتاج إلى اليمين، ولأن البطن الأول قد استقلوا بإثباته، فأشبه ما لو أقاموا شاهدين، وهذا قول أبي إسحاق وغيره، وهو ظاهر المذهب، والأصح عند الماوردي، والشيخ أبي حامد ومن في طبقته، ولأجل ذلك قال البندنيجي والقاضي أبو الطيب: إنه المذهب الصحيح.

وعلى هذا الخلاف يتفرع ما إذا انقرض البطن الثاني، وانتهى المال إلى الفقراء، فعلى قول أبي إسحاق، يصرف المال إليهم، وعلى قول ابن سريج: فيه وجهان:

أحدهما: يصرف إليهم، للضرورة.

والثاني: لا حق لهم فيه، ويعود ملكًا طلقًا، قاله الماوردي والبندنيجي وغيرهما.

وفي ((الشامل)): أن القاضي أبا الطيب ذكر في ((المجرد)) وجهًا ثالثًا حكاه الغزالي أيضًا: أن يكون وقفًا يرجع إلى قرابة الواقف، لعدم استحقاق الفقراء، كالمنقطع الآخر.

قال القاضي الحسين: وهذا الخلاف إذا كان الفقراء غير متعينين، أما إذا كانوا متعينين، فعندي حكمهم حكم الأولاد، وهذا ما أورده البغوي، وتبعه الرافعي.

قال الإمام: ولا خلاف أن البطن الثاني إذا قلنا: لابد من يمينهم، فلم يحلفوا-[أنه] لا يعود مطلقًا، ولا يسلم لمن كان في يده إذا كان البطن الأول قد ادعوه على من هو في يده، كما سنذكره.

ولو كان انقرض الإخوة واحدًا بعد واحد، فنصيب الأول يعود إلى أخويه، ونصيب الثاني يعود إلى الباقي، إذا كان الواقف قد شرط أن من مات انتقل نصيبه إلى من بقي في طبقته، وكذا لو أطلق على أحد الوجهين في ((الحاوي)

ص: 175

لكن هل يحتاج من انتقل إليه شيء أن يحلف؟ إن قلنا بقول أبي إسحاق، فلا.

وإن قلنا بقول ابن سريج، فوجهان:

أصحهما في ((الوسيط)) وغيره: أنه لا يحلف أيضًا، لأنه قد حلف مرة على الجملة، بخلاف الأولاد.

والوجه الآخر في حالة إطلاق الوقف: أن نصيب الميت يستحقه الفقراء والمساكين حتى ينقرض جميعهم، فيستحقه البطن الثاني، وهذا يظهر أن يكون قائله يرى بمذهب أبي إسحاق، أبو بمذهب ابن سريج، ويرى أنه يصرف الريع إلى الفقراء عند انقراض البطن الثاني، للضرورة.

والحالة الثانية: أن ينكل الإخوة الثلاثة عن اليمين، فتكون الدار تركة [في] الظاهر، فإن كان على الميت دين يستوعبها، قضى من ثمنها، وبطل وقفها.

وإن لم يكن دين، وكان ثم وصايا، قضى منها ما يحتمله الثلث.

وإن لم يكن وصايا ولا ديون، صار نصيب الثلاثة منها وقفًا بإقرارهم، وكذلك نصيبهم بعد إخراج الموصى به، وقضي الدين إن كان لا يستوعب التركة، وإذا انقرضوا انتقل إلى البطن الثاني بغير يمين، وينتقل من بعدهم للفقراء، كذا قاله الماوردي والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ.

قال الرافعي: والذي ذكره القاضي ابن كج والإمام والبغوي في كتبهم: أنها لا تصرف إلى أولادهم بغير يمين، يعنون: على سبيل الوقف، ولا يكون إقرار الأولين لازمًا عليهم.

قال الرافعي: ويمكن أن يكون هذا الاختلاف مبينًا على أن البطن الثاني يتلقون من الواقف، أو من البطن الأول؟

قلت: كلام الإمام يأباه، لأنه نفي استحقاقهم عند عدم حلفهم بلا خلاف، وقال فيما إذا حلفوا: في استحقاقهم قولان، بناء على أنهم يتلقون من الواقف، أو من البطن الأول؟ فعلى الأول: يستحقون، إذا حلفوا، وعلى الثاني: لا، [وكذا قاله البغوي والغزالي في ((الوسيط)).

ص: 176

وقضية كلام الرافعي على الثاني: نعم، بل الجمع بين النقلين أظهر من ذلك، لأن صورة المسألة التي قال فيها الماوردي وغيره ما ذكرناه: إذا ادعى بعض الورثة أن أباهم وقفها عليهم دون باقي الورثة، وهي في يد الورثة، وصورة المسألة التي قال فيها الإمام ما ذكرناه: إذا ادعى ثلاثة على رابع في يده دار: أن أباهم وقفها عليهم، وكانت ملكه إلى حين الوقف، ونكلوا، وماتوا، فلا تصرف للبطن الثاني بلا يمين، لأن البينة لم تكمل حتى تنتزع الدار من صاحب اليد المدعي ملكها، بخلاف الصورة السابقة، لأن للناكلين عن اليمين بعد دعوى الوقف يدًا على بعضها، فلذلك حكم عليهم بموجب إقرارهم.

ولو مات الباقون من الورثة قبل موت الإخوة الثلاثة- والصورة كما ذكرنا أولًا- وعاد نصيبهم إلى الثلاثة، صار جميع الدار وقفًا بإقرارهم.

وكذا إذا عاد إليهم من نصيب بقية الورثة شيء كان هذا حكمه، ولهم تحليف الوارث على نفي العلم [بالوقف]، وهل للبطن الثاني الحلف مع الشاهد عند نكول الثلاثة فيما نحن نتكلم فيه؟ فيه قولان:

قال بعضهم: إنهما منصوصان.

وبعضهم قال: هما مبنيان على أن الوقف المنقطع الابتداء، هل يصح أو يبطل؟ فإن قلنا: يبطل، لم يحلف البطن الثاني، لأنه بطل بنكول البطن الأول، وإن قلنا: لا يبطل، حلفوا. وقضية هذا البناء أن نقول: لا يكون نصيب الناكلين وقفًا عليهم بإقرارهم، لأنه بطل بنكولهم عن اليمين، وهذا لم أره لأحد.

[وبعضهم] قال: هما مبنيان على أن البطن الثاني يتلقون من البطن الأول، أو من الوقف؟

فإن قلنا بالأول، لم يحلفوا، كما [لو] أقام شخص بملك له شاهدًا، ونكل عن اليمين، ثم مات، فإن وارثه لا يحلف [كما حكاه القاضي الحسين، ولم يورد الإمام سواه].

وإن قلنا بالثاني حلفوا، وحلفهم رآه الماوردي أظهر، وقال القاضي أبو الطيب

ص: 177

وابن الصباغ: إنه الصحيح، واختيار الشافعي:

ثم في محل هذين القولين وجهان:

أحدهما- عن أبي إسحاق-: أنه إذا انقرض البطن الأول، فإن لم ينقرضوا فلا يحلفون قولًا واحدًا.

والثاني- عن ابن أبي هريرة-: أنه عند بقاء البطن الأول، فإذا انقرضوا حلفوا قولًا واحدًا.

قال الماوردي: وقول أبي إسحاق أشبه بالصواب.

الحالة الثالثة: أن يحلف واحد من الثلاثة، وينكل الباقيان، فتصير ثلث الدار وقفًا عليه، والثلثان ميراثًا للأخوين، وبقية الورثة، ولا يرث الحالف معهما شيئًا، قاله الماوردي والبندنيجي والمحاملي والبغوي وغيرهم.

وفي ((الشامل)): أن الفاضل بعد قضاء الدين والوصايا من الثلثين يقسم على جميع الورثة، ما يحصل للبنين الثلاثة يكون وقفًا على الناكلين، لأن الحالف يعترف لهم بذلك. كذا حكاه الرافعي عنه، وهو أفقه.

وقال الماوردي وغيره: إن الذي يكون وقفًا عليهما حصتهما من الميراث بمقتضى إقرارهما.

وقال: إن في حلف البطن الثاني القولين.

والإمام لما صور المسألة بما ذكرناه قال: يكون ثلث الدار وقفًا على الحالف، ولا يثبت للناكلين حق، بل تترك حصتهما في يد المدعى عليه، فإنه لم تقم عليه حجة في ذلك المقدار.

وإذا مات الإخوة الثلاثة- والصورة كما ذكرنا أولًا- انتقلت حقوقهم إلى البطن الثاني، [لكن] نصيب من لم يحلف من الإخوة يكون منتقلًا إليهم بغير يمين، ونصيب من حلف هل ينتقل إليهم بيمن أو بغير يمين؟

[فيه الوجهان السابقان.

ولو كانت الصورة كما صورها الإمام- كان قضية قوله السابق: أن نصيب من قد حلف هل ينتقل بيمين أو بغير يمين؟ فيه الخلاف، ونصيب من لم يحلف لا

ص: 178

ينتقل إليهم بدون اليمين، وهل ينتقل باليمين؟] فيه الخلاف، وكذلك قال في ((الوسيط)) - فإنه لاحظ تصوير الإمام-: إن ولد الحالف يستحق [إن حلف، وإن لم يحلف فقولان، وولد الناكل لا يستحق] إن لم يحلف، وإن حلف فقولان. وهي عبارة الإمام، وفيها نظر من جهة قوله: ((ولد الحالف

وولد الناكل))، فإن البطن الثاني يستحقون بشرط الواقف ما كان للبطن الأول عند إطلاق الوقف من غير أن يختص كل واحد بنصيب أبيه، وقد صرح به الماوردي والصورة كما ذكرنا، وقد أشار إلى ذلك الإمام أيضًا في موضع آخر كما سنذكره.

ولو مات الأخوان الناكلان، قال الماوردي: انتقل نصيبهما إلى الأخ الحالف بغير يمين.

وفي ((الرافعي)): أن في احتياجه لليمين- والصورة كما ذكرناه- ما سبق من الوجهين.

قلت: ولا وجه لجريانهما، لأن البطن الثاني في احتياجهم لليمين فيما كان حلف عليه البطن الأول أشد من احتياج بعض البطن الأول إذا عاد إليه ما كان للبعض الآخر إذا كان قد حلف كما تقدم، وقد قلنا: إن نصيب الناكلين ينتقل إلى البطن الثاني بغير يمين، فللأخ الحالف من طريق الأولى.

نعم: لو كانت الصورة كما ذكرها الإمام، كان في احتياجه لليمين الوجهان بلا شك.

ولو مات الأخ الحالف، وبقي أخواه، قال الماوردي: فإن قلنا: إن البطن الثاني يأخذون بغير يمين عند فقط البطن الأول، انتقل إليهما نصيبه.

وإن قلنا: لا ينتقل إليهم إلا بيمين، لم ينتقل نصيبه إليهما، لنكولهما عن اليمين، وفي انتقاله للبطن الثاني إذا حلفوا وجهان.

فإن قلنا: لا يصرف إليهم، فوجهان:

أحدهما: يصرف إلى الفقراء إلى أن ينقرض الأخوان، فيكون للبطن الثاني.

والثاني: يصرف إلى أقرب الناس للواقف، ويستوي فيه الناكلان وغيرهما عند استواء الدرجة.

ص: 179

وفي ((تعليق)) القاضي أبي الطيب والبندنيجي و ((الشامل)) وغيرهما: أن الحالف إذا مات ففي نصيبه ثلاثة أوجه:

أحدها: ينتقل إلى إخوته، وهل يحلفون؟ فيه وجهان.

والثاني: ينتقل للبطن الثاني، وهل يحلفون؟ فيه الوجهان.

قال الإمام: ولا فرق على هذا بين أولاد الحالف وأولاد الناكلين، بل يصرف للجميع، وهذا أضعف الوجوه عند الإمام، وهو أصحها عند الأكثرين، كما قال الرافعي، وأنهم نقلوه عن إشارته في ((الأم)).

والثالث: ينتقل إلى أقرب الناس للواقف، لأن الأخوين لا يمكن تحليفهما، لنكولههما، والبطن الثاني لا يستحقونه، لعدم انقراض البطن الأول، فصار كالمنقطع.

قال الإمام: وهل يلحفون؟ فيه الوجهان.

ثم إذا انقرض الناكلان، يرجع إلى البطن الثاني، وهل يحلفون؟ قال ابن الصباغ وغيره: فيه الوجهان.

ولو امتنع الناكلان على قولنا: يصرف إليهم باليمين، قال الإمام: انحصر الكلام في أنه [هل] يصرف إلى البطن الثاني، أو إلى أقارب الواقف؟

فلو امتنع البطن الثاني من الحلف- أيضًا- على قولنا: إنه يصرف إليهم باليمين، انحصر النظر إلى الوقف المتعذر المصرف، فإن قلنا: إنه يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف باليمين، فامتنعوا منها، فهذا وقف لا ندري له مصرفًا، وحكمه مستقصًى في كتاب الوقف.

وفي ((تعليق)) القاضي الحسين وجه في أصل المسألة: أن نصيب الحالف يصرف إلى ورثته، لأنا جعلنا الناكلين كالمعدومين.

ولو كانت الإخوة الثلاثة هم المستوعبون لميراث أبيهم، كانت الدار وقفًا عليهم بإقرارهم، لا بالشاهد واليمين، وانتقل الوقف عنهم إلى البطن الثاني بغير يمين.

نعم: لو كان على الواقف دين يحيط بالدار، فإن قضوه من مالهم خلصت وقفًا لهم، وإن لم يقضوه فالقضاء [يقع حينئذ] بالشاهد واليمين إن كان الوقف في

ص: 180

الصحة، وإن لم يكن لهم بينة، فلهم تحليف أرباب الديون على نفي العلم بالوقف، [فإن حلفوا قضيت الديون من ثمنها، وإن نكلوا حلف الإخوة وثبت الوقف] وأن نكلوا- أيضًا- صرف ثمنها لأرباب الديون.

ومنها: لو ادعى ثلاثة إخوة: أن أباهم وقف هذه الدار عليهم وعلى أولادهم ما تناسلوا، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء، وأقاموا بهذه الدعوى شاهدًا، وحلفوا معه، ثم حدث لأحدهم ولد- فإنه يشركهم في الوقف، لكن نصيبه- وهو الربع- يوقف على حلفه بعد البلوغ، كما نص عليه، لأنه من جملة البطن الأول، فكان في الافتقار إلى اليمين كأحد الثلاثة.

وعن أبي الفرج السرخسي: أنه أجرى وجهًا: أن الصغير لا يحتاج إلى اليمين في هذه الصورة، كما لا يحتاج إليها البطن الثاني على وجه، وأنه نقل وجهين في أن الربع الموقوف على النص يوقف في يد الثلاثة أو في يد أمين؟ والأقرب: الثاني.

والصحيح باتفاق الأصحاب: احتياج الصغير إلى اليمين.

قال ابن الصباغ: وهذا يشهد لابن سريج في إيجاب اليمين على البطن الثاني، لأن هذا الولد الحادث إن كان مشاركًا للبطن الأول، فإن الوقف ثبت له بعد ثبوته لهم، فصار بينه وبين الواقف واسطة.

قال الأصحاب: فإن قيل: هلا دفعتم نصيبه إليه من غير يمين، لأن الثلاثة المستحقين قد اعترفوا بذلك، ألا ترى أنه لو كان في يد ثلاثة دار، فاعترفوا لصغير فيها بشرك، فإنه يسلم إلى وليه؟

قال الماودري: لأصحابنا عن ذلك أجوبة:

أحدها- وهو قول أبي الفياض البصري-: أن [جواب] الشافعي محمول على أن الواقف شرط في وقفه أن [من] لم يقبله وفر نصيبه على شركائه، فلذلك حلف الحادث إن صدقه الشركاء، لأنه يصير من أهله بقبوله [وقبوله] يكون بيمينه، لأنه سهمه إذا لم يقبل عائد إليهم.

ص: 181

ولو لم يشرط الواقف هذا، استحق الحادث سهمه باعتراف شركائه بغير يمين، كالدار المملوكة بين الشركاء الثلاثة إذا اعترفوا بشريك رابع فيها.

الثاني- وهو قول بعض البصريين-: أن جواب الشافعي محمول على إطلاق الوقف، إذا قيل: إن سهم من لم يقبل أو قبل ومات يرجع إلى بقية شركائه، فأما إذا قيل: إن سهمه راجع للفقراء والمساكين، لم يستحلف، ولم يرجع على الشركاء إن لم يحلف، لأن أصحاب الشافعي اختلفوا [في مذهب] في الوقف إذا لم يقبله أحد أربابه، هل يكون نصيبه مع إطلاق شرط الوقف عائدًا على شركائه، أو على الفقراء والمساكين؟ على وجهين.

والثالث- وهو قول الشيخ أبي حامد-: أن جواب الشافعي محمول على الأحوال كلها في أن الحادث لا يستحق نصيبه- وإن اعترف له الشركاء- إلا بيمينه، وفرق بين الوقف وبين الدار المملوكة بفرقين:

أحدهما: أنهم في الوقف [مقرون على الواقف، وفي غير الوقف مقرون على أنفسهم.

والثاني: أن في الوقف] حقًا للبطن الثاني، فلم ينفذ إقرارهم عليهم، وليس في الملك حق لغيرهم، وهذا ما أورده ابن الصباغ وغيره.

ثم إن حلف الصغير بعد بلوغه، صرف إليه ما وقف له، وهو ربع الريع من حين وضع إلى وقت حلفه، ويصير الربع مما يتجدد له ما لم يحدث ولد آخر.

وإن نكل عن اليمين رد نصيبه إلى أبيه وعميه، لأنه صار كالمعدوم، هكذا نص عليه.

فإن قيل: كيف يرد عليهم وهم معترفون بأنه للصغير، ولا حق لهم [فيه]، وقد قال المزني- لأجل ذلك-: إن الربع الموقوف لا يصرف إليهم، بل هو وقف [قد] تعذر مصرفه؟

ص: 182

قيل: لأنه بامتناعه عن اليمين قد رد الوقف وإذا بطل في حقه، عاد إليهم، كذا قاله ابن الصباغ.

وحكى الرافعي [و] غيره جوابين.

أحدهما: أن صورة النص إذا شرط الواقف شركة من يحدث إن رغب في الوقف، ولم يرده، فإذا لم يحلف مع الشاهد كأنه رده.

فإن أطلق فقد حكى الشيخ أبو حاتم القزويني: أنه لا يعود إليهم، ويكون وقفًا قد تعذر مصرفه، وبه أجاب ابن كج.

وعن آخرين أنه يعود إليهم، وهو الأشهر.

قلت: وهذا منطبق على قول أبي الفياض البصري الذي حكيناه من قبل.

والثاني: أن الواقف جعل الثلاثة أصلًا في الاستحقاق، ثم أدخل من يحدث على سبيل العول، فإذا سقط الداخل فالقسمة على الأصول كما كانت.

وشبهه في ((التهذيب)) بما إذا مات إنسان على ألف، وجاء ثلاثة، وادعى كل واحد ألفًا على الميت، وأقام شاهدًا واحدًا، فإن حلفوا معه فالألف بينهم، وإن حلف اثنان فهو لهما، وإن حلف واحد فهو لذلك الواحد.

لكن قال الإمام: إن المزني لا يسلم المسألة، ويقول: ليس لصاحب الدين الأول إذا لم يحلف الثاني- أي: إذا اعترف بدينه- إلا أخذ حصته. نعم، لو أبرأ الثاني، كان للأول أخذ الجميع، لأن الثاني بطل حقه، والنكول لا يبطل الحق، ألا ترى أنه لو [لم يحلف] مع الشاهد، ثم أتم البينة، سمعت وحكم بها.

وكيفما قدر الجواب، فالظاهر عند الأصحاب موافقة النص.

ورأى الإمام: أن يجعل ما أعرض به المزني قولًا مخرجًا له، واستحسنه، وإذا قيل به، فنصيب المولود وقف تعذر مصرفه، فيجئ فيه الخلاف السابق.

ويجيء مما ذكرناه عن بعض البصريين من قبل وجهًا هاهنا-: أنه لا يصرف نصيب الصغير إليهم إذا كان الوقف مطلقًا كما تقدم.

ولو مات المولود قبل بلوغه، أو بعده وقبل النكول، قام وارثه مقامه، فيحلف، ويستحق الغلة الموقوفة دون ما يحدث بعد موته، فإنه يكون لأبيه وعميه، وهل يحتاجون إلى اليمين.

ص: 183

قال الإمام: إن فرعنا على ما قاله المزني ففيه الخلاف فيما إذا مات بعض البطن الأول في وقف الترتيب، وقد حلف الكل، هل يحتاج الباقون إلى التجديد؟ فإن فرعنا على النص، فلا حاجة إلى التجديد، فيقدر أن المولود لم يكن.

ولو مات الولد بعد بلوغه ونكوله، لم يستحق ورثته شيئًا من الغلة الموقوفة، لأنه أبطل حقه منها، ويكون حكمها ما تقدم.

وقد ألحق الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب بهذه الصورة ما إذا كان لأحدهم ولد صغير حالة دعواهم الوقف.

قال ابن الصباغ: وليس بصحيح، لأنا قد ذكرنا في المسألة قبلها إذا كانوا ثلاثة بالغين، فحلف اثنان، وامتنع الثالث- كان نصيبه مقسومًا بين الورثة بعد قضاء الدين منه والوصية، ولا فرق بين البالغ الممتنع وبين الصغير إذا امتنع بعد بلوغه، ويفارق ما نص عليه في الولد الحادث، لأن بأيمان الثلاثة مع شاهدهم حكمنا بأن جميع الدار وقف، فلا يبطل ذلك بامتناع من حدث، وفي الموجود لا يمكن الحكم بوقف جميعه بيمين بعض الموقوف عليهم، وعلى هذا يكون الحكم كما ذكرنا في نكول أحد الإخوة، صرح به الماوردي.

قال: وما لا يقصد به المال، أي: وهو مما يطلع عليه الرجال: كالنكاح والطلاق، والعتاق، والنسب، والولاء، والوكالة، والوصية إليه، وقتل العمد- الذي يقصد به القصاص، وسائر الحدود غير حد الزنى- لا يقبل فيه إلا شاهدان ذكران، لأن الله تعالى نص في الشهادة سوى الأموال على الرجال دون النساء في ثلاثة مواضع: في الطلاق، والرجعة، والوصية، فقال تعالى:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وقال تعالى:{إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:106]، قوال صلى الله عليه وسلم:((لا نكاح إلى بولي مرشد وشاهدي عدل))، فنص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على شهادة الرجال، فلم يجز أن يقبل فيها شهادة النساء، كالزنى.

وأيضًا فقد روى مالك عن عقيل عن ابن شهاب، قال: مضت السنة من

ص: 184

رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح، ولا في الطلاق. وهذا وإن كان مرسلًا [فهو لازم] للخصم- وهو أبو حنيفة وأصحابنه- لأن المراسيل حجة عندهم.

وقال [الزهري: جرت] السنة من النبي صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده ألا تقل شهادة النساء في الحدود.

ولأن كل ما لم يقصد منه المال إذا لم تقبل فيه شهادة النسوة على الانفراد، لم تقبل فيه شهادتهن مع الرجال، كالقصاص، وقد وافق الخصم عليه.

قال الماوردي: فإن اعترضوا بالوكالة والوصية، وقالوا: المال يتعلق بهما، فهلا كان إثباتهما بشاهد وامرأتين.

قلنا: ليس عقد الوصية والوكالة بمال، ولا أريد بهما المال، وإنما هما تولية أقيم الرجل فيها مقام غيره، ولهذا يقع المال لغير المتصرف.

على أن القاضي الحسين قال في الوكالة في الأموال: لا نص فيها، ولا يبعد ثبوتها بالشاهد والمرأتين. وقد حكاه ابن القاص في ((أدب القضاء)) له عن ابن سريج، كما حكاه ابن أبي الدم.

وعن الشيخ أبي عاصم نقل قول غريب: أن القذف إنما يثبت بشهادة أربعة، لأنه نسبه إلى الزنى، فكان كالإقرار على قول.

وقد عد مما لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين: الإسلام، والردة، والبلوغ، وانقضاء العدة، والعفو عن القصاص، والحد، والحد، والإيلاء، والظهار، والموت، والإعسار على المذهب، والخلع من جانب المرأة، والتدبير، والاستيلاد، وكذا الكتابة على الأصح- وحكى ابن كج وجهًا: أنها تثبت برجل وامرأتين- والقضاء، والولاية- إن أحوجنا فيهما إلى البينة- والوديعة، كما حكاه أبو الطيب في باب الشهادة بالجناية، والشهادة على كتاب القاضي كما تقدم، والشهادة على الشهادة كما سيأتي، والإحصان، وكفالة البدن، والشهادة برؤية غير رمضان، وبهلال رمضان- محل الكلام فيهما كتاب الصيام- وجرح الشهود، وتعديلهم، اللهم

ص: 185

إلا أن يدعي تكذيب [المدعي] لشهوده، فإنه يحكم في ذلك بالشاهد واليمين.

قال في ((البحر)): لأن تكذيب المدعي لبينته يوجب سقوط حقه، ولا يوجب جرح الشهود.

و [حكى ابن أبي الدم: أن الشيخ أبا علي حكى عن ابن خيران أن جرح الشهود] بالمال يثبت بالشاهد واليمين على وجه.

وقد ألحق القاضي أبو الطيب بهذا القسم قطع اليد من الساعد عمدًا.

وقال الشيخ أبو حامد: إنه يثبت بالشهد واليمين، لأنه لا قصاص فيه.

قال أبو الطيب: وهو غلط، لأن له أن يستوفي القصاص من الكوع، فلا يثبت ذلك بالشاهد واليمين.

وقد نص الشافعي على أنه لا يقبل شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين في الهاشمة، والمأمومة- أي: المشبوقة بالإيضاح- لأن المشجوج لو أراد القصاص من موضحته، كان له ذلك.

وجواب الشيخين يتخرج على القولين السابقين في مسألة الهاشمة.

فرع: لو ادع شخص على آخر أنه غصب منه مالًا، فقال: إن كنت غصبت فامرأتي طالق، فأقام المدعي شاهدًا، وحلف معه، أو شاهدًا وامرأتين على الغصب- ثبت، ويترتب عليه الضمان، ولا يقع الطلاق، نص عليه الشافعي، كما قاله الماوردي.

وشبهه الأصحاب بما إذا قال لزوجته: إن ولدت فأنت طالق، فأقامت أربعًا من النسوة على الولادة- ثبتت الولادة والنسب، ولا يقع الطلاق.

وكذا إذا علق الطلاق على رمضان، فثبتت الرؤية بشاهد واحد- وجب صومه، ولا يقع عليه الطلاق.

ولو كان الغصب قد ثبت برجل وامرأتين، وقضى به القاضي، فقال المدعى عليه: إن كنت غصبت فزوجتي طالق، قال الرافعي: فقد قال ابن سريج- ووافقه عامة الأصحاب- بوقوع الطلاق.

قال القاضي الحسين: لأنا لو منعنا وقوعه، لعرضنا حكم الحاكم للنقض والإبطال، ولا وجه له.

ص: 186

وعن الشيخ أبي [حامد: أنه] قال: لا يقع كما لو تقدم ((التعليق))، وقد عكس الإمام هذا الترتيب قبيل كتاب الديات، فقال: لو ثبت الغصب بشاهد وامرأتين، وقضى به القاضي، ثم قال المحكوم عليه: إن كنت غصبت فامرأتي طالق ثلاثًا، قال: الطلاق يقع، فإن الغصب تمهد.

ولو أنكر الغصب أولًا، وحلف على نفيه، ثم حلف بالطلاق لما ادعى عليه الغصب، وأثبت بالشهد واليمين، واتصل القضاء [به]- ففي وقوع الطلاق خلاف سنذكره في الدعاوى والبينات، والأظهر: أنه لا يقع.

وعهدي أني ذكرت طرفًا [من] الكلام في ذلك في باب الشرط في الطلاق من هذا الكتاب أو غيره، وما يدفع ما قرر به القاضي الروياني كلام ابن سريج هاهنا، فلذلك لم أذكره، فليطلب من ثم.

قال: وإن شهد في قتل العمد شاهد وامرأتان، لم يثبت القصاص، ولا الدية، لأنا على قول نقول: موجب العمد القود لا غير، والدية تثبت بدلًا عنه بالعفو، يدل عليه عدم اجتماعهما، وقد تقدم أن القصاص لا يثبت برجل وامرأتين، وإذا لم يثبت لم يثبت بدله.

وعلى [قول] نقول: الواجب أحد الأمرين لا بعينه: القود، أو الدية، وإنما يتعين بالاختيار، فلو أوجبنا الدية دون القصاص، لأوجبناها معينة، وهذا يخالف موجب هذا القول.

وأبطل الإمام في باب الشهادة بالجناية إيجاب الدية في مسألتنا على قولنا: إن الواجب أحد الأمرين، بأمر آخر، فقال: نحن لا نشك أن المقصود الذي هو الأصل في جراح العمد القصاص، وليس المعنى بقولنا: المال أحد الموجبين، أنه يضاهي القصاص، فإن غرض الشرع إثبات ما يزجر المعتدين، ولا يقع الزجر فيما فهمناه من مقصود الشرع بالغرم المالي، والدية حيث يفوت القصاص إنما تثبت حتى لا تتعطل الجناية، ولا تقع هدرًا.

ص: 187

ويخرج لنا من هذا: أنا وإن قلنا: [إن] المال موجبه، فلسنا ننكر كون القصاص مقصودًا.

وفي ((الإنابة))، في باب الشهادة بالجناية: أنه لو أقام شاهدًا واحدًا على القتل عمدًا، ولم نجعله لوثًا، ورام أن يحلف معه يمينًا واحدًا، ويستحق الدية، تفريعًا على قولنا: إن اليمين لا تتعدد في مثل هذه الصورة، فإن قلنا: موجب العمد القود فقط، فليس له أن يحلف مع الشاهد الواحد، وإن [قلنا]: موجب العمد أحد الأمرين، فهل يستحق الدية؟ فعلى قولين، بناء على أن من ادعى موضحة، وأقام شاهدًا واحدًا، وحلف معه- فهل يستحق الأرش؟ فعلى قولين.

وهذا الخلاف هو الذي حكينا في باب [اليمين في] الدعاوي: أن الإمام وعد بذكره في باب الشهادة على الجناية، وقال: إنه مطرد فيما إذا أقام شاهدًا وامرأتين، وهو ظاهر، لأنه إذا جرى في الشاهد واليمين، فجريانه في الشاهد والمرأتين أولى، لأن هذه الحجة أقوى من تلك بالاتفاق.

والغزالي في ((الوجيز)) أطلق القول فيما إذا أقام على العميد رجلا وامرأتين بأن المال يثبت وإن لم تثبت العقوبة، وهذا منه محمول على ترجيحه القول بأن الواجب في قتل العمد أحد الأمرين، كما ذكرنا أنه الجديد، وترجيح أحد القولين اللذين حكاهما الفوراني، وأشار إليهما إمامه.

والرافعي قال: إنه غلط ولا محمل له إلا السهو، فإن الذي نص عليه الأصحاب: أن الدية لا تثبت، والله أعلم.

قال: وإن شهد في السرقة شاهد وامرأتان، لم يثبت القطع، ويثبت المال، لأن في السرقة حقين:

أحدهما: للآدمي، وهو المال.

والثاني: لله تعالى، وهو القطع.

والأموال تستحق بشاهد وامرأتين، والحد لا يجب إلا بشاهدين كما تقدم، وليس الغرم هاهنا بدلًا من القطع، بدليل اجتماعهما، بخلاف الدية مع القود، كما تقدم.

ص: 188

ولأن المال في السرقة أصل، والقطع فرع، فجاز أن يثبت حكم الأصل مع سقوط حكم الفرع، ويخالف الدية، فإن القود في القتل أصل، والدية فرع، فلم يجز أن يثبت حكم الفرع مع سقوط أصله.

وهكذا الحكم فيما إذا شهد له بالسرقة رجل، وحلف معه، وهذا ما ادعى الإمام في كتاب السرقة الوفاق عليه.

وقد شبه الأصحاب هذا بما ذكرناه في مسألة الغصب، وهو إذا حلف بالطلاق: أنه ما غصب، فقام على الغصب شاهد وامرأتان، أو شاهد وحلف معه- فإنه يثبت الغرم، ولا يقع الطلاق، لكنا قد حكينا عن الإمام في هذه الصورة من الغصب رواية وجه في أن الطلاق يقع، وقضية التشبيه أن يحكم بالقطع في مسألة السرقة على وجه، وقد حكاه الإمام في باب الشهادة على الجناية، حيث قال: حكى من يوثق به عن القاضي أنه لو شهد رجل وامرأتان على سرقة توجب القطع، قال: يثبت المال، وفي القطع وجهان، وهذا على نهاية البعد، فإن إثبات القطع- وهو حق لله تعالى- بشهادة رجل وامرأتين محال.

ثم قال: وهذا بمثابة ما لو أقر العبد بسرقة مال، فالقطع يثبت، وفي المال قولان. انتهى.

وما ذكرناه من ثبوت المال هو المنصوص، و [هو] الصحيح عند المراوزة، وبه جزم العراقيون، وقال الإمام في كتاب السرقة: إن بعض أصحابنا أبعد فلم يثبت المال إذا تضمنت الدعوى سرقة، ولو ثبت لأوجبت القطع، وحكاه الفوراني والبغوي وغيرهما.

فرع: لو شهد رجل وامرأتان على صداق في نكاح ادعته المرأة، ثبت الصداق وإن لم يثبت النكاح، فإن الصداق [مال] ينفك عن النكاح، وهذا ما أورده الجمهور، وحكام الإمام في أواخر باب الرجعة عن شيخه، وأن الشيخ أبا علي قال: لا يثبت الصداق، لأن النكاح لم يثبت، وهو فرع له.

قال الإمام: وهو أفقه.

ص: 189

قال: وإن كان في يد رجل جارية لها ولد، فادعى رجل أنها أم ولده، وولدها منه- أي: علقت في ملكه، وقد غصبها من هي في يده، [وأقام-أي:] على ذلك- شاهدًا وامرأتين، أو شاهدًا وحلف معه، قضي له بها، لأمرين:

أحدهما: أن أحكام الرق جارية عليها في استخدامها، والاستمتاع بها، وإجارتها، وتملك منافعها، وأخذ قيمتها من قاتلها، والرق مال يحكم فيه بالشاهد واليمين، والشاهد والمرأتين.

[والثاني: أنه] لما حرم عليه بيعها، صار الملك والدعوى مقصورًا على منافعها، والمنافع في حكم الأموال تثبت بالشاهد والمرأتين، والشاهد واليمين.

قال: [وتعتق بموته]، عملًا بإقراره الذي تضمنه دعواه وإن كان إذ ذاك غير صاحب اليد، كما نقول فيمن ذكره حرية عبد، ثم ملكه ببيع أو إرث، فإنه يعتق، كذا قاله القاضي أبو الطيب وغيره.

وفي ((الحاوي)): أن أصحابنا اختلفوا في عتقها، هل حصل بإقراره أو البينة؟ وأن مأخذ الاختلاف التعليل الساق.

قال: وفي نسب الولد وحريته قولان.

القولان ينبنيان- كما قال الأصحاب- على أنه هل يحكم له بالولد بهذه البينة، أو لا يحكم له؟ وفيه قولان:

أحدهما: نص عليه في ((الأم))، ونقله المزني في ((المختصر)): أنه لا يحكم له به، لأنه ليس يدعي الملك والرق في الولد، وإنما يدعي نسبه وحريته، وهما لا يثبتان بالشاهد والمرأتين، والشاهد واليمين، وهذا ما أجاب به الروياني في ((الحلية))، وهو الصحيح.

والقول الثاني- قال المزني: ((إن الشافعي قاله في موضع آخر))، ولم يوجد في شيء من كتبه، كما قاله الماوردي-: أنه يحكم له به تبعًا لأمه، لأنها في الدعوى أصل متبوع، وهو فيها فرع تابع، فأوجب ثبوت الأصل ثبوت فرعه كما لو ثبت غصب

ص: 190

جارية، فإنه يحكم لمدعيها بالولد الحاصل منها في يد الغاصب.

قال الإمام: ولأن الولد في دعواه جزء من الجارية، وبه يثبت الاستيلاد، فإذا اختص بالجارية على صفة أمية الولد تعدى الاختصاص إلى الولد، وهذا ما اختاره المزني، كما قاله القضاة: أبو الطيب والحسين والماوردي، والبندنيجي والفوراني وابن الصباغ، وغيرهم، وأنه استشهد له بأن الشافعي نص على أن الشخص إذا ادعى عبدًا في يد غيره يسترقه: أنه كان عبده، وأنه أعتقه، وغصبه صاحب اليد بعد حريته، وأقام بما ادعاه من الملك والعتق شاهدًا وامرأتين، أو شاهدًا وحلف معه- أنه يقضي له وإن كان مقصود الدعوى استحقاق الولاء، لأنه تابع لدعوى رق وعتق، كذا دعوى الولد، لأنه تابع لرق أمه، فإنه جزء منها.

واختلف الأصحاب في مسالة الاستشهاد على طريقين:

إحداهما- وبها قال ابن سريج-: أن فيها أيضًا قولين، [وما ذكره الشافعي تفريع على أحد القولين].

والثانية- وبها قال أبو إسحاق، وجمهور أصحابنا، كما قال الماوردي، ولم يحك القاضي الحسين والبغوي والروياني سواها-: أن المسألة على قول واحد، كما قاله المزني، [لكن] الفرق بينهما وبين ولد أم الولد: أن العبد المدعى هناك مدعيه يدعي ملكًا متقدمًا في العبد، وحجته تصلح لإثبات الملك، وإذا ثبت الملك ترتب عليه العتق بإقراره، وفي صورة الاستيلاد إنما قامت الحجة على ملك الأم، لا جرم رتبنا العتق عليه إذا جاء وقته بإقراره، وأما الولد فقضية الدعوة والحجة كونه حر الأصل نسيبًا، والحرية النسب لا يثبتان بهذه الحجة، فلذلك افترقا.

نعم، لو أن المدعي في مسألة الاستيلاد قال لصاحب اليد: استولدتها في ملكك، ثم اشتريتها مع الولد، فيعتق الولد علي، وأقام عليه حجة ناقصة فالعتق الآن يترتب على الملك الذي قامت به الحجة الناقصة، فيكون على الطريقين:

ص: 191

فإن قلنا بالقول الأول، لم يحكم بحرية الولد، وكذا بنسبه، كما نص عليه في كتاب الدعاوي والبينات، كما قال الفوراني.

وقيل: إنه يحكم بنسبه خاصة، بناء على جواز استلحاق عبد الغير.

قال الفوراني- كما نص عليه في التقاط المنبوذ-: وإن قلنا بالقول الثاني، ثبت نسب الولد وحريته بإقراره، كأمية الولد.

وقد سلك الإمام، وتبعه الغزالي في مسألة الكتاب والمسألة المستشهد بها طريقًا آخر، فقال: اختيار المزني: أن حرية الولد لا تثبت، ولا تقبل هذه الحجة في حق الولد، وأن النص الذي نقله في مسألة العبد: أن المدعي لا يثبت، ويقر العبد في يد المدعى عليه، وأنه احتج به فقال: إذا لم يثبت العتق فيها مع أن قضية دعواه وحجته ترتيبه على الملك، وتواردهما على شخص واحد، فلألا يثبت في الولد- وهو شخص مستقل بقيام الحجة على الملك في الأم- كان أولى.

ثم قال: إن للأصحاب طريقين في مسالة العبد:

إحداهما: طرد القولين.

والثانية: القطع بأنه لا يثبت المدعى، ولا ينزع العبد، ولا يحكم بعتقه، لأن في مسألة الاستيلاد الحجة صالحة للاستيلاد يقتضي ولدًا، وفي عتق العبد لا [شيء] يتعلق به الحجة والقياس: القطع في المسألتين، فإنه حرية الولد وعتق العبد لا يثبت.

قال الرافعي: هذا كله محال عن وجهه، وإن شئت فراجع ((المختصر))، تتيقن أن الأمر على ما حكاه غيره.

قال: ولا يقبل في حد الزنى واللواط وإتيان البهيمة إلا أربعة من الرجال.

ووجهه في حد الزنى واللواط قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15]، وقوله تعالى]:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} بالنور:13]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية [النور:4]، فجعل التخلص من حد القذف بأن يشهد أربعة شهداء بالزنى، وإنما

ص: 192

يتخلص من القذف بثبوت الزنى، فدل على أن الزنى لا يثبت بأقل من أربعة، ويؤيده ما روى مسلم عن أبي هريرة أن سعد بن عبادة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:((لو وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم)).

ولأن الزنى واللواط لما كانا من أغلظ الفواحش المحظورة وأضرها، كانت الشهادة فيهما أغلظ، ليكون أستر للمحارم، وأنفى للمعرة، وإنما لم تسمع فيهما شهادة النسوة، لأن سماع شهادتين رخصة فيما خف، فلم يجز أن تسمع في مواضع التغليظ.

وأما في إتيان البهيمة، فلأنه إثبات وطء هو فاحشة، أو إتيان فرج في فرج يوجب الغسل، فأشبه وطء القبل، وهذا ظاهر النص.

وقيل: إن قلنا: إن الواجب في إتيان البهيمة التعزيز، قبل فيه شاهدان، لخروجه عن حكم الزنى في الحد، فخرج عن حكمه في الشهادة، وهذا قول المزني وابن خيران، وحكاه الماوردي قولًا، وقد قال بمثله المراوزة في اللواط، بناء على إيجاب التعزيز فيه.

قال: وليس بشيء، لأن نقصان العقوبة لا يدل على نقصان الشهادة: كزنى الأمة.

والقولان جاريان- كما قال الماودري- في باب حد الزنى في الشهادة على إتيان المرأة فيما دون الفرج، وكلام القاضي الحسين يقتضي أنه لا خلاف في ذلك، لأنه حكى أن ابن خيران قال في إتيان البهيمة: يثبت بشاهدين كالمفاخذة والقبلة. [وفرق بأن ذلك من جنس إيلاج الفرج في الفرج، بخلاف المفاخذة والقبلة].

ولا فرق عندنا في شهود الزنى بين أن يشهدوا مجتمعين أو مفترقين، ولا بين أن يشهدوا به عن قرب عهد به أو [عن بعد] عهد.

قال: وإن شهد ثلاثة بالزنى، وجب على الشهود حد القذف في أحد القولين، لما روي أن المغيرة بن شعبة كان أميرًا على البصرة من قبل عمر، وكان مناكحًا، فخلا بامرأة في دار كان ينزلها، وينزل معه فيها أبو بكرة، وناقع، ونفيع، وزياد بن أمية، وكان جميعهم من ثقيف، فهبت ريح، ففتحت الباب على المغيرة،

ص: 193

فرأوه على بطن المرأة يفعل بها كما يفعل الرجل بامرأته، فلما أصبحوا تقدم المغيرة ليصلي، فقال أبو بكرة: تنح عن مصلانا. وانتشرت القصة، فبلغت عمر، فكتب أن يرفعوا جميعًا إليه، فلما قدموا إليه، وحضروا مجلسه، بدأ أبو بكرة، فشهد بالزنى، ووصفه، فقال علي للمغيرة: ذهب ربعك، ثم شهد بعده نافع، فقال علي:[ذهب] نصفك، ثم شهد بعده شبل بن معبد، فقال علي للمغيرة: ذهب ثلاثة أرباعك، فقال عمر: أدوا الأربعة، فأقبل زياد ليشهد، فقال عمر: إيهًا أبا العفان، قل ما عندك، وأرجو ألا يفضح الله أحدًا على يدك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنبه زياد، فقال: رأيت أرجلًا مختلفة، وأنفاسًا عالية، ورأيته على بطنها، وأن رجليها على كتفيه كأنهما أذنا حمار، ولا أعلم ما وراء ذلك.

ورواية أبي بكر بن المنذر: [أنه] لما أقبل زياد قال عمر: جاء رجل لا يشهد إلا بالحق، فقال زياد: رأيت مجلسًا قبيحًا، وابتهارًا، ولا أدري أنكحها أم لا، فقال عمر: الله أكبر، قم يا يرفأ فاجلد هؤلاء، فجلد الثلاثة حد القذف، فقال عمر لأبي بكرة: تب أقبل شهادتك، فقال: والله لا أتوب، والله زنى، والله زنى، والله زنى، فهم عمر بجلده، فقال له علي: أراك إن جلدته رجمت صاحبك، فتركه.

ص: 194

ولم يخالف في هذه القصة أحد من الصحابة، فصار إجماعًا، ويدل عليه من طريق المعنى شيئان:

أحدهما: أن الشهادة بالزنى أغلظ من القذف به، لأنه يقول في القذف: زنيت، ولا يصفه، وفي الشهادة بالزنى يقول: زنيت، ويصفه، والقذف لا يوجب حد المقذوف، والشهادة توجبه، فلما كانت أغلظ كانت بوجوب الحد إذا لم يتم العدد أولى.

والثاني: أن سقوط الحد عنهم ذريعة إلى تسرع الناس إلى القذف إذا أرادوه أن يخرجوه مخرج الشهادة حتى لا يحدوا، ففي حدهم صيانة للأعراض في توقي القذف، فكان أولى وأحق، وهذا ما صححه النواوي، وهو الأظهر في ((الحاوي)) في باب حد الزنى، وقال: إنه المنصوص عليه في أكثر كتبه من قديم وجديد، وعلى هذا: لا تقبل شهادتهم حتى يتوبوا كما تقدم، وهل تقبل روايتهم قبل التوبة؟ فيه وجهان في ((الحاوي)):

المشهور [منهما]- كما تقدم-: القبول، وينسب إلى أبي حامد.

وأقيسهما- كما قال-: عدم القبول، كالشهادة.

والقول الثاني: [أنهم] لا يحدون، لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] فبين أن الزاني الذي يجب عليه الحد هو الذي يحتاج إلى أربعة، وكل واحد من هؤلاء لا يحتاج إلى أربعة، وإنما يحتاج إلى ثلاثة، فوجب ألا يكون ممن يجب عليه حد القذف.

ولأن نقصان العدد معنى لا يمكن الشاهد الاحتراز منه، فوجب ألا يتعلق به وجوب الحد، أصله: رجوع أحدهم عن الشهادة، فإن الشافعي قد نص على أن الواحد منهم إذا رجع لا يجب على الثلاثة حد، وإن وجب الحد على الراجع على أحد القولين، كما قاله أبو الطيب.

ودعوى الإجماع غير مسلمة، لأن أبا بكرة مخالف، وخلاف الواحد يمنع انعقاد الإجماع.

ص: 195

والفرق بينه وبين من جاء قاذفًا: أنهم ثم لو كثروا لم يندفع الحد عنهم، وهنا بخلافه.

[و] لأن القاذف عاص بقذفه، فاسق بفعله، لأنه فعل ما نهي عنه، وليس كذلك الشاهد، فإن الشهادة إما مأمور بها أو مباحة مأذون [له] فيها، وهذا ما ادعى الماوردي أنه مخرج.

والقولان يجريان فيما لو حضر الرابع، وتوقف، وفيما لو شهد اثنان أو واحد، كما صرح به الماوردي والإمام في باب حد الزنى، وقد تعلق بما ذكرناه أمران:

أحدهما: ما معنى قول علي لعمر: ((أراك إن جلدته رجمت صاحبك؟)) قال الماوردي معناه: إن كان هذا القول غير القول الأول، فقد كملت الشهادة، فارجم صاحبك، وإن كان هو الأول فقد جلدته بغير استحقاق، فارجم صاحبك بغير استحقاق.

الثاني: قال العلماء: الصحابة عدول، وهذه القصة تقتضي الطعن في المغيرة، أو فيمن شهد عليه، فما العذر؟

قيل: إن المغيرة كان يرى جواز نكاح السر، واعتمده في هذه القصة، فهو شبهة في حقه وإن كان يحد عليه.

وقد قيل: إن كان يبتسم عند الشهادة عليه، فقيل له في ذلك، فقال: إني أعجب مما أريد أن أفعل بعد شهادتهم، قل: وما تفعل؟ قال: أقيم البينة أنها زوجتي.

ص: 196

فرع: لو شهد اثنان على إقرار شخص بالزنى، وقلنا: لا يثبت الإقرار بالزنى بشهادة رجلين- قال القاضي الحسين في ((فتاويه)): فلا حد على الشاهدين، لأنهما لم ينسباه إلى الزنى.

قال: وإن شهد أربعة أحدهم الزوج- أي: ولم يتقدم منه قذف- فقد قيل: يحد الزوج قولًا واحدًا، لأنه ليس من أهل الشهادة على هذا الزنى، فكان كما لو أتى به بغير صيغة الشهادة.

ولأنه روى عن ابن عباس أنه قال في أربعة شهدوا على امرأة: أنها زنت، وأحدهم زوجها، فقال: يلاعن الزوج، ويحد الثلاثة، فلم يجعل لشهادة الزوج حكمًا، وأوجب عليه أن يلاعن، وهو قول صحابي لم يظهر مخالفه، فإن قد اشتهر فهو إجماع، وإلا فهو حجة على الخصم، لأنه يترك القياس به، كا هو قول قديم للشافعي، وهذا نصه في كتاب اللعان، كما قال ابن الصباغ، وقال الماوردي ثم: إنه قول أبي إسحاق.

قال: وفي الثلاثة قولان سبق توجيههما.

وقيل: في الجميع قولان، لإتيانهم بلفظ الشهادة، وهذا القائل يجعل نقصان الصفة بمثابة نقصان العدد.

أما إذا تقدم على شهادة الزوج قذفه، قال ابن الصباغ: حد قولًا واحدًا.

وعلى كل حال إذا قلنا بوجوب الحد عليه وعلى الشهود، فهل يجوز إقامة الحد على الشهود قبل لعان الزوج ولعانها؟ فيه وجهان مبينان على خلاف الأصحاب في أن الزوج إذا لاعن وحدت، هل تسقط حصانتها بالنسبة إلى الأجانب كما سقطت بالنسبة إلى الزوج أم لا؟

فعند ابن سريج: لا، فعلى هذا يجوز إقامة الحد على الشهود قبل اللعان.

وعند أبي إسحاق: نعم، فعلى هذا لا يحد الشهود إلا بعد لعان الزوج ولعانها، قال الماوردي في كتاب اللعان.

فرع: لو شهد بدل الزوج عبدٌ أو كافر أو امرأة أو فاسق، فما حكمه وحكمهم؟ الكلام في ذلك ينبني على ما لو كان الأربعة عبيدًا أو فساقًا أو أعداء للمشهود عليه.

ص: 197

وفي ((الحاوي)): فيهم في باب حد الزنى ثلاث طرق:

إحداها: أن في حدهم القولين.

والثانية: لا يحدون قولًا واحدًا وإن حدوا عند نقصان العدد، لأن نقصان العدد نص، ونقصان الصفة اجتهاد، وهذه نسبها في باب اللعان إلى الإصطخري، وضعفها.

والثالثة- حكاها الشيخ أبو حامد-: أنه إن كان الرد بنقصان الصفة بأمر ظاهر: كالرق، والفسق، جرى مجرى نقصان العدد، فيكون في حد الجميع قولان.

وإن كان بأمر خفي: كالعداوة والفسق الخفي، فلا يصيرون قذفة، و [لا] يحدون قولًا واحدًا، لأن الظاهر منه كالنص ترد به الشهادة قبل سماعها، والخفي منه اجتهاد ترد به الشهادة بعد سماعها.

وجزمٍ القاضي الحسين بأن العبيد إذا انفردوا بالشهادة، أو الكفار، أو النسوة حدوا قولًا واحدًا.

وأما المعلنين بالفسق الذي لا يتوصل إليه بالاجتهاد، قال الإمام: ففيهم قولان ذكرهما ابن سريج، وحكاهما القاضي أيضًا:

أحدهما: أن الحكم كذلك.

والثاني: أنهم لا يحدون، فإن من العلماء من يجعل الفاسق من أهل الشهادة.

وحكى الإمام فيما لو كان فسقة في الباطن دون الظاهر وجهين مرتبين على ما لو كانوا معلنين بالفسق، وقال: هاهنا أولى بألا يجب الحد، بل هو ظاهر المذهب، لأنهم لو شهدوا في مال، فردت شهادتهم، ثم تابوا، وأعادوها- لم تقبل، ولو جاء عند مجيء الشهود، فردت شهادته، ثم عتق، فأعادها، قبلت.

ولو ردت شهادة المعلن بالفسق، ثم أعادها بعد التوبة، ففي سماعها وجهان.

قال: ويمكن أن يجعل هذا ضابطًا فيما نحن فيه، فيقال: كل من ردت شهادته، فإذا زايل حاله [حالة]، ثم أعاد الشهادة، لا تقبل شهادته المعادة، فإذا شهد على الزنى مع كمال العدد، ثم اطلع على تلك الصفة، وردت شهادته- فلا يكون قاذفًا، ولو كان على صفة لو شهد عليها، ثم زايلته فأعادها، قبلت، فإذا شهد على الزنى، فردت شهادته، للصفة التي ذكرناها- فهو قاذف، لأنه ليس من أهل الشهادة.

ص: 198

وقضية هذا الضابط: أن يكون فيمن ردت شهادتهم مع كمال العدد، لأجل العداوة وجهان، لأن في قبول شهادتهم المعادة وجهين، وقد ألحقهم بمن ردت شهادتهم بفسق مجتهد فيه، وقد ادعى أنه لو ردت شهادتهم بفسق مجتهد فيه:[أنه لا خلاف في] أنهم لا يحدون، وهو [فيه] متبع للقاضي.

عدنا [إلى ما] نحن فيه: قال الماوردي: فإن قلنا: إنه لا حد عليهم عند نقصان العدد، فهاهنا أولى، وإن قيل بوجوبه عند نقصان العدد، فهاهنا ثلاثة أوجه:

أصحها: أنه لا حد على جميعهم، لقوة الشهادة بكمال العدد، وبكمال صفة الأكثرين.

والثاني: يحد الجميع، لرد شهادتهم.

والثالث: يحد من نقصت صفته بالرق والفسق، ولا يحد من كملت صفته بالعدالة.

وقال القاضي أبو الطيب: إن ردت شهادة الرابع بأمر ظاهر: كما إذا كان عبدًا، أو كافرًا، أو امرأة، أو فاسقًا ظاهرًا- كان ذلك بمنزلة نقصان العدد، لا يختلف أصحابنا فيه، لأن وجود ذلك الواحد وعدمه سواء، وظاهر كلامه يعود إلى الثلاثة، وأما الرابع فقد سكت عنه.

وقضية كلام القاضي الحسين والإمام: أنه يحد قولًا واحدًا إن كان رد شهادته لغير الفسق، [وإن كان للفسق] الظاهر فيجيء فيه القولان.

وقال النبدنيجي: إن القولين جاريان في الذي ردت شهادته كيف كان.

قال القاضي أبو الطيب: ولو كان رد شهادة الرابع بأمر خفي مثل أن يكون فاسقًا في الباطن دون الظاهر، فقد اختلف أصحابنا فيه:

فمنهم من قال: هذه- أيضًا- بمنزلة نقصان العدد.

منهم من قال: لا يحدون قولًا واحدًا، لأن الفسق إذا كان باطنًا لا تفريط من جهتهم في الشهادة معه، وكانوا معذورين، فلم يحدوا، وليس كذلك نقصان العدد، أو سقوط العدالة بأمر ظاهر مشهور، فإنه مفرطون فيه، فحدوا بسببه.

ص: 199

وقد حكى ابن الصباغ هاتين الطريقين أيضًا، وقال البندنيجي: إن الثانية هي المذهب، ونسب القائل بالأولى إلى الشذوذ، وقال: إن الذي ردت شهادته ظاهر المذهب- أيضًا- أنه لا حد عليه.

قال ابن الصباغ: لأنه قد لا يعلم أنه ترد شهادته.

ولو فسق واحد من الأربعة بعد الشهادة، قال البندنيجي: فلا حد عليه، ولا على الباقين، كما لو مات- يعني: قبل أن يشهد- فإنه لا حد على الباقين، كما حكاه أبو الطيب عن الشافعي.

ووجهه بأنه يحتمل أنه لو شهد، شهد بما يتم به النصاب، ويشبه أن يكون فيهم ما ذكرناه فيما إذا رجع واحد منهم، وأصر الباقون.

قال: وفي الإقرار بالزنى قولان:

أحدهما: يثبت بشاهدين- أي: ذكرين- كغيره من الأقارير، [وهذا أصح عند القاضي الروياني، وصاحب ((المرشد))، والنواوي].

والثاني: لا يثبت إلا [بأربعة، لأنه إقرار بفعل، فلا يثبت إلا] بما يثبت به ذلك الفعل، لاستوائهما في الموجب، وهذا حكاه الماوردي في كتاب اللعان عن القديم، ونسب الأول إلى الجديد، وفرق بينه وين الشهادة بالزنى بأن المقر بالزنى لا يتحتم حده، لأن له إسقاطه بالرجوع، والمشهود عليه بفعل الزنى يتحتم الحد عليه، فغلظت البينة في الفعل، وخففت في الإقرار، وسائر الحقوق يستوي فيها حالة الإقرار وحالة ثبوت الفعل بالبينة، فلذلك لم تختلف البينة فيها.

فرع: هل يعتبر في صحة الإقرار بالزنى التفسير كما يعتبر في الشهادة [به]؟ فيه وجهان تقدمت حكايتهما، ولا يبعد تخريجهما من القولين هنا.

قال: ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال: كالرضاع- أي: من الثدي- والولادة، والعيوب [التي] تحت الثياب- أي: كالرتق، والقرن، والبرص، وغيره، سواء في ذلك ما تحت الإزار غيره مما يباح للمحارم النظر إليه خاصة، كما قاله في الحاوي، و ((البحر)) - شهادة رجلين، ورجل وامرأتين، وأربع نسوة.

ص: 200

أما قبول شهادة النساء منفردات في ذلك وما في معناه، فالأصل فيه ما روي عن الزهري أنه قال: مضت السنة بأن يجوز شهادة النساء في كل شيء لا يليه غيرهن.

ولأن الرجال لا يطلعون على ذلك غالبًا، فلو لم تقبل فيه شهادة النسوة منفردات، لتعذر إثباته.

وأما اعتبار الأربع، فلأنه قد تقرر أنا ما ليس بمال ولا يقصد منه المال لا يثبت إلا برجلين، وهذا منه، وإنما جوز فيه شهادة النساء لما ذكرناه، فاقتضى ذلك اعتبار الأربع، لأن الله تعالى أقام المرأتين مقام الرجل، وقال صلى الله عليه وسلم:((النساء ناقصات عقل ودين))، قيل: يا رسول الله، وما نقصان عقلهن؟ قال:((أما نقصان عقلهن، فإن شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد))، وروي:((أليس شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل)).

فإذا ثبت قبول شهادتهن منفردات كان قبول شهادة الرجل والمرأتين والرجلين من طريق الأولى.

وقد حكى الإمام في أواخر الرضاع أن صاحب ((التقريب)) حكى عن الإصطخري أنه كان يقول: لا يثبت الرضاع ولا عيوب النساء الباطنة، وإنما تثبت بشهادة النساء المتمحضات، وهذا متروك [عليه] غير معتد به.

وقد ألحق البندنيجي بما ذكرناه استهلال المولود إذا ولد، وقال: إن شهادة النساء مقبولة في هذه المواضع الأربعة. فأفهم إيراده عدم قبولها فيما عداها.

وقد ألحق غيره بها البكارة، والثيابة، والحيض.

وحكي عن الربيع أنه قال: في الاستهلال قول آخر: أنه لا يقبل فيه [النساء على] الانفراد.

قال البندنيجي: وهذا من [كيسه].

قال البندنيجي والقاضي الحسين والبغوي: ولا يلتحق بذلك الجراحات الصادرة على العورات في الحمامات، بل [كل] ذلك لا يثبت إلا بما يثبت الجرح [به] على غير العورة وإن كان لا يطلع عليه الرجال بحال، لأن أصل

ص: 201

الجراحات مما يطلع عليه الرجال غالبًا، وهذا ما أشار إليه الأصحاب عند الكلام مع الإمام مالك في منع شهادة الصبيان على الجراحات.

وادعى القاضي أبو الطيب ثم الإجماع على ذلك.

[ثم] قال البندنيجي والبغوي: فإن كان ذلك الجرح مما يوجب القود فلا يثبت إلا بعدلين ذكرين، وإن كان لا يوجب القود ثبت بشاهدين، وشاهد وامرأتين، وشاهد ويمين.

واعترض الرافعي على ما ذكر من العلة بأن جنس العيب- أيضًا- مما يطلع عليه الرجال غالبًا، وإنما الذي لا يطلعون عليه العيب الخاص، وكذلك الجراحة الخاصة.

أما الرضاع من لبن حلب في آنية، ففي ((التتمة)) في كتاب الرضاع: أنه لا يثبت إلا بشهادة رجلين، لأن هذا مما لا يختص النساء بالاطلاع عليه.

نعم، الشهادة على [أن] اللبن المحلوب في الأواني من لبن هذه المرأة تقبل فيه شهادتهن، لأن الرجال لا يطلعون على حلب اللبن في الغالب.

وقد أغرب في [آخر] كتاب الشفعة فقال إذا أخبر الشفيع نسوة بالبيع: إن ذلك ينبني على أن النسوة هل تقبل شهادتهن على الانفراد أم لا؟ إن قلنا: تقبل، فهو كما لو شهد عدلان، وإن قلنا: لا تقبل، فهو كما لو شهدت امرأة واحدة.

ولعل ما ذكره محمول على ما تقبل شهادتهن منهن على وجه التبعية، كما حكيناه عن الماوردي في باب اللقيط فيما إذا ادعى رجل رقه: أنه تسمع شهادة أربع نسوة بالولادة في ملكه، وتكون شهادتهم بملك الأم عند الولادة [مقبولة تبعًا للشهادة بالولادة].

والعبوب في الوجه والكفين من النساء، ادعى الماوردي في باب شهادة النساء: أنه لا [تقبل] فيها إلا شهادة الرجال دون النساء إجماعًا، ولم يفصل بين الحرة والأمة، وقد صرح به القاضي الحسين فيهما، ووافقهما البغوي على ذلك في

ص: 202

الحرة، وقال: إن العيب إذا كان في وجه الأمة، أو بموضع من بدنها يبدو في المهنة- يثبت برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين، لأن المقصود منه المال.

وقال القاضي الحسين فيما إذا كان العيب على ظهر الأمة أو بطنها، هل يثبت بشهادة النسوة؟: فيه وجهان ينبنيان على أن النظر إلى بطن الأمة وظهرها هل يجوز؟ وفيه وجهان.

تنبيه: سكوت الشيخ في هذا النوع عن ذكر اليمين يفهمك أنه لا يثبت بشاهد ويمين، ولا بامرأتين ويمين، كما صرح به الماوردي في الرضاع، وابن خيران فيه، وفي غيره مما يثبت بشهادة النسوة.

قال الرافعي: وهو الموافق لإطلاق عامة الناقلين.

وحكى ابن أبي الدم أن الشيخ أبا علي قال في ((شرحه الكبير)): إن أبا الطاهر الزيادي قال: يثبت الرضاع والولادة بشهادة امرأتين، ويمين المدعي، لأن هذه شهادة توقفت على امرأتين، فجاز أن يقوم اليمين فيها مقام امرأتين، كالشاهد الواحد في المال.

وأن القفال قال: إنه خطأ، لأن اليمين دخلت في الأموال لخفتها، ودخول البدل فيها، وثبوت الرضاع والولادة بشاهد وامرأتين لم يكن لخفة ذلك، بل للحاجة إليه.

أما ما تحت إزار النساء من العيوب لا يثبت إلا برجلين، أو رجل وامرأتين، وأربع نسوة، ولا يثبت بشاهد ويمين. انتهى.

وهذا يفهم اختصاص الخلاف بالرضاع والولادة.

وقد حكى الرافعي في باب الشاهد واليمين عن رواية السرخسي عن طائفة- منهم الشيخ أبو علي- إجراء الوجه المذكور في كل ما يسمع فيه شهادة النسوة منفردات، بخلاف الأموال، حيث لا تقبل فيها شهادة امرأتين ويمين المدعي بلا خلاف، لأن المنضم إلى اليمين إذا شهدت امرأتان في الأموال أضعف شطري

ص: 203

الحجة، فلا يقنع بانضمام الضعيف إلى الضعيف، كما لا يقنع بانضمام امرأتين إلى امرأتين فيه، وهاهنا المنضم إلي اليمين شطر تام من الحجة لا أضعف الشطرين.

والقائلون بالأول قالوا: المنصوص على جواز الحلف معه أقوى الشطرين، وليس الأقوى ثابتًا هنا، فلم يكن ذلك في معنى المنصوص عليه.

فرع: ما قبلنا فيه شهادة النسوة على فعله لا نقبل فيه شهادتهن على الإقرار، صرح به المتولي وغيره في الإقرار بالرضاع، والله أعلم.

وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفرعين:

أحدهما: قال صاحب ((التقريب)): لو اجتمع طائفة، فشهد اثنان منهم لاثنين بوصية في تركة، ثم شهد المشهود لهما للشاهدين بوصية في تلك التركة- قال الشافعي: لا تقبل شهادتهما، فإنهم متهمون، وهذه رواية الربيع، قاله [في ((الإشراف))]، وأن به أجاب الزجاجي.

قال صاحب ((التقريب)): وكذلك لو كان لرجل ديون على طائفة من الغرماء، ولقوم عليهم ديون- أيضًا- فتناوبوا في الشهادة على الصورة التي ذكرناها- فالشهادة مردودة.

قال الإمام: وعندي أن ما ذكروه مشكل، والقياس: القطع [بقبول الشهادة]، ومن أحكم الأصول لم يخلف [عنه] ما ذكرناه، ولم أر ما حكاه صاحب ((التقريب)) في شيء من الكتب.

قلت: وقد حكاه القاضي الحسين في ((تعليقه)) أيضًا، وقال: إن أصحابنا قالوا: لو شهد بعضهم لبعض بالدين على رجل واحد، نظر:

إن كان [الرجل] مفلسًا لا يقبل، لأنهم يشتركون في ماله، وإن [لم يكن] مفلسًا قبل، وهذا على ظاهر المذهب الذي لا يقبل شهادة الشريك في حصة

ص: 204

شريكه إذا كان له فيه شريك

الثاني: إذا ادعى شخص على آخر شيئًا في يده، وأقام بينة، فأقام المدعى عليه شاهدين على أن الشيء له، فعاد شهود المدعي، وشهدوا بجرح شاهدي المدعى عليه- قال في ((البحر)) قبل كتاب الشهادات: الأظهر أن هذه الشهادة مسموعة، إذ لا مانع من قبولها من قرابة وعداوة وغيرهما.

وقال بعض أصحابنا: لا تقبل هذه الشهادة، لأنهم متهمون في تنفيذ شهادتهم، وهذا ضعيف، لأن شاهد الفرع إذا عدل [شاهد] الأصل قبل، وإذا شهد الرجل مع ابنه بحق قبل، وما ذكروه من التهمة الضعيفة موجود في هذين الموضعين، والله عز وجل أعلم.

ص: 205