المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الإقرار الإقرار- في اللسان-: الإثبات، من قولهم: قر الشيء يقر - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٩

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب الإقرار الإقرار- في اللسان-: الإثبات، من قولهم: قر الشيء يقر

‌باب الإقرار

الإقرار- في اللسان-: الإثبات، من قولهم: قر الشيء يقر قرارا، إذا ثبتت، وأقررته، وقررته: إذا أكسبته القرار وأثبتته.

والتقرير- في الكلام بمعنى: الإيضاح، راجع إلى إثبات المعنى المقصود.

والإقرار في الأحكام: إخبار عن وجوب حق بسبب سابق على الإخبار، وليس هو إنشاء وافتتاح إثبات، وسمي: إقرارا، لأنه به يظهر الحق، ويقره في محله.

قال القاضي الحسين: وهذا شامل للإقرار على نفسه، وعلى غيره.

وفي ((الحاوي)): أن حقيقة الإقرار: الإخبار بحق [عليه، وحقيقة الشهادة الإخبار بحق على] غيره، فاجتمعا من حيث [إن كل واحد إخبار بحق، وافترقا من حيث] إن الحق في الإقرار عليه، والحق في الشهادة على غيره، ولأجل هذا ذكر الشيخ باب الإقرار تلو كتاب الشهادات.

ولأجل ما ذكرناه من حقيقة الإقرار قال الأصحاب: يستحيل في وضع الإقرار تقدير امتداد ملك المقر إلى وقت الإقرار، فإنه لو كان كذلك، لكان كاذبًا، حتى قالوا: لو شهدت بينة على أن فلانًا أقر بأن الدار التي في ملكه لفلان، وكانت ملكه إلى أن أقر بها، كانت الشهادة باطلة، فإنها متناقضة. وكذلك لو قال المقر: داري هذه لفلان، أو ثوبي المملوك لي لفلان، كان باطلًا، للتناقض وسيكون لنا عودة لشيء يتعلق بذلك عند الكلام في قوله: له علي ألف قضيتها، إن شاء الله تعالى.

ثم الأصل في كون الإقرار حجة قبل الإجماع من الكتاب آيات منها: قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء:135].

قال المفسرون: والشهادة على النفس: الإقرار عليها.

وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ

ص: 317

هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] ومعناه: فليقر وليه بالحق غير زائد ولا ناقص، وهو العدل، فدلت الآية بمنطوقها على صحة إقرار الولي، وعلى جواز إقرار الرشيد من وجهين:

أحدهما: من طريق دليل الخطاب، لأنه قال: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ

} [البقرة:282] إلى آخرها، فدل على أنه إذا استطاع هو فإنه يملك دون غيره.

والثاني: من طريق فحوى الخطاب، فإن الولي إذا جاز إقراره، فالرشيد أولى بذلك، فإنه يتصرف بما له فيه حظ، وبما لاحظ له فيه، ولا يصح تصرف الولي إلا بما فيه حظ للمولى عليه.

والفرق بين الفحوى وغيره- كما قال الماوردي في كتاب الأقضية-: أن الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه، كما ذكرنا.

ولحن القول الذي هو دليل الخطاب: ما دل على مثله.

ومن السنة: ما روي أنه- عليه السلام قال: ((قُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)).

وقال صلى الله عليه وسلم: ((واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)).

وروى أنه رجم ماعزًا بإقراره، وكذا الغامدية.

ولأن الإقرار أبعد عن التهمة من الشهادة، ولذلك إن الحاكم يبدأ بالسؤال عن الإقرار قبل الشهادة، فيقول للمدعى عليه: ما تقول؟ فإن أنكر، سأل المدعي، فقال له: ألك بينة؟ وإذا كان أبعد عن التهمة، كان أقوى في الحجة.

قال القاضي أبو الطيب: ويؤيد ذلك: أنه لو شهد شاهدان للمدعي، ثم أقر المدعى عليه، بطلت الشهادة، وكان الحكم للإقرار دونها.

قال-[رحمه الله تعالى]- من لم يحجر عليه يجوز إقراره، أي: رجلًا

ص: 318

كان أو امرأة، مسلمًا كان أو كافرًا، عدلًا كان أو فاسقًا، لما ذكرناه، وهذا مما لا نزاع فيه، ولا يدخل في هذا النائم، فإنه محجور عليه كما ذكرناه في الحجر، وهو ممن لم يصح إقراره، كما صرح به أبو الطيب، وكذا السكران بمحرم لا يدخل فيه على رأي تقدم ذكره في كتاب الطلاق دون السكران بمباح، فإنه في حكم المجنون بل خلاف، فلا يدخل جزمًا.

نعم، يدخل فيه المكره، فإنه غير محجوز عليه، ولا يصح إقراره.

فإن قلت: الإكراه مانع من الصحة، والأصل في الموانع العدم، ولهذا لم يشترط بعض الجدليين الاحتراز عنها في الدعوى كما قدمناه ذكره في أول البيع، ويعضده أن المشهور سماع الشهادة على الإقرار من غير اشتراط تعرض الشهود للطواعية.

قلت: فيه نظر من وجهين:

أحدهما: أن المشهور- أيضًا-: عدم اشتراط تعرض الشاهد لذكر البلوغ والعقل، وإن كانا شرطين، وإنما المأخذ أن الظاهر وقوع الشهادة على الإقرار الصحيح، ولذلك استوى المانع والشرط في عدم اشتراط التصريح بذكره، على أن في مجهول الحرية والرق قولًا رواه صاحب التقريب: أنه يشترط في الشهادة عليه التعرض لذكر الحرية، وامتنع بعضهم من تخريجه في سائر الصفات المعتبرة، وبعضهم خرجه فيها.

قال الإمام: والقياس التسوية والمذهب الاكتفاء بالإطلاق، نعم للقاضي أن يسأله عن الصفات المعتبرة، فإن امتنع، قال القاضي: إن كان امتناعه لا يورث القاضي ريبة، أمضى شهادته، وإن ارتاب توقف.

وظاهر هذا- كما قال الإمام-: أن الشاهد لا يلزمه أن يفصل وإن استفصله القاضي إذا علم القاضي أنه لا يشهد إلا على بصيرة، كما لا يلزمه أن يذكر مكان الإقرار وزمانه بلا خلاف.

وقيل: يجب عليه أن يفصل إذا استفصل، والفرق بين ذلك وبين [الزمان والمكان]. أن الجهل بالمكان والزمان لا يقدح في الشهادة، والجهل بالشرائط يقدح، وقد ذكرت في باب صفة القضاء شيئًا يتعلق بذلك.

ص: 319

الثاني: أن السفه، والرق، والفلس، وكذا المرض- على أحد القولين في الإقرار للوارث- موانع أيضًا، وقد بين الشيخ حكمها، لكن قد يقال في الجواب: إن المتصف بمانع مما ذكرناه غير الإكراه من إقراره ما يصح، ومنه ما لا يصح، كما سيأتي، وللاجتهاد فيه مجال، فهو مما يغمض الكلام فيه، [فلذلك احتاج إلى بيان حكمه، وإقرار المكره باطل مطلقًا، مدرك ببداهة العقول]، فلذلك أغفله.

تنبيه: كلام الشيخ يفهم أن البالغ السفيه إذا لم يتصل به حجر وال: أنه يجوز إقراره، وهو ما صرح به الماوردي، وقال: إنه لا فرق في قبول إقراره بين المال والبدن جميعًا، وأنه في الإقرار كالرشيد، وهذا ما حكيناه في باب الحجر وجهًا عن رواية الشيخ أبي علي وغيره عن بعض الأصحاب في صحة تصرفات المهمل.

فإن قلت: هو الذي يقتضيه كلام القاضي أبي الطيب وابن الصباغ، وغيرها- أيضًا- حيث قالوا: لا فرق بين أن يكون المقر عدلًا أو فاسقًا، إذا لم يكن محجورًا عليه حتى قال أبو الطيب: إنه لا خلاف فيه.

قلت: يجوز أن يحمل كلامهم على من طرأ عليه الفسق، ولم يتصل به حجر، فإنه لا خلاف عندهم في عدم الحجر بنفسه كما تقدم.

قال: ومن حجر [عليه]، لصغر أو جنون، لا يصح إقراره، للخبر المشهور، وبه استدل أبو الطيب على عدم صحة إقرار النائم- أيضًا- لأن رفع القلم يقتضي ألا يكون لكلامهم حكم.

وفي ((تعليق)) القاضي الحسين وغيره: أنه يصح إقرار الصبي المميز بالتدبير والوصية، إذا قلنا بصحتهما منها، ولم يورد المحاملي في الباب غيره.

وقضية ذلك: أن يطرد في إقراره بالإسلام إذا صححناه منه- أيضًا- وهو مقتضى ما ذكروه من القاعدة- أيضًا-[في] أن من قدر على إنشاء شيء، قدر على الإقرار به، ومن لا فلا، وقد ذكرنا ما لعله يستثنى من ذلك في كتاب النكاح.

قال ابن يونس: واعلم أنه قد استثنى مع ذلك أيضًا ما إذا أقر بالبلوغ بالاحتلام

ص: 320

في مدة الإمكان، فإنه يقبل إقراره من غير يمين، وهذا أخذه- واله أعلم- من قوله في ((الوسيط)): أما الصبا والجنون فيقتضيان حجرًا مطلقًا عن سائر الأقارير.

نعم: لو أقر الصبي بالتدبير والوصية قبل، إن جعلناه من أهلهما، ولو قال: بالاحتلام صدق، فإنه يفهم أن الأمرين مستدركان مما ذكرناه، ولولا ما في ((الوجيز)) لأمكن أن يجعل قوله:((ولو قال بلغت بالاحتلام)) كلامًا مستأنفًا، لا مستدركًا، لكنه في ((الوجيز)) لم يستدرك بـ ((نعم)) إلا قبول قوله في البلوغ، وقد استدرك ((الرافعي)) عليه ذلك، فقال: المفهوم من الإقرار الإخبار عن ثبوت حق عليه للغير، ونفس البلوغ ليس كذلك، ولهذا يطالب مدعى البلوغ بالبينة، والمقر لا [يكلف بالبينة]، ولا اليمين.

نعم من قال: أنا بالغ، فقد اعترف بثبوت الحقوق المنوطة بالبلوغ، فهو من هذا الوجه يكون متضمنًا الإقرار، لا أن نفسه إقرار، وبتقدير كونه إقرارًا فليس ذلك بإقرار صبي، لأنه إذا قال: أنا بالغ، يحكم ببلوغه سابقًا على قوله، فلا يكون إقراره إقرار صبي حتى يحتاج إلى الاستدراك.

قال: فإن أقر، ثم ادعى أنه غير بالغ- أي: في محل الإمكان- فالقول قوله، لأن الأصل عدم البلوغ.

قال: من غير يمين، لأن حلفه يثبت صباه، وإذا ثبت كونه صبيًا، لم يصح يمينه، فكان في تحليفه إبطال تحليفه، فلم يحلف.

قال: وعلى المدعي البينة- أي: إذا أراد إثبات ذلك- لأنه ادعى ما يمكن إقامة البينة عليه، والأصل عدمه، فكان عليه إقامة البينة، كما لو ادعى عليه مالًا.

وتشهد البينة- كما قال أبو الطيب- باستكمال خمسة عشر سنة، أو بمشاهدة الإنزال، أو على إقراره بالبلوغ.

قلت: أو على الإنبات، إن جعلناه بلوغًا في حقه.

نعم: لو ادعى أنه استعجل ذلك بالمعالجة، فقد قال ابن الصباغ وغيره في باب النكول ورد اليمين: إن من سبي من أولاد الكفار، وكان قد أنبت، فادعى أنه تداوى لذلك، وأنه غير بالغ- فالقول قوله معي يمينه.

ص: 321

وقال القاضي في ((الفتاوى)): إنه أحد قولي الشافعي، ويشبه أن يكون هنا كذلك، ويكون تحليفه لوجود ما دل على بلوغه.

وقد حكى القاضي في ((الفتاوى)) فيما إذا ادعى مالًا من جهة صبي، فقال المدعى عليه: من يدعي من جهته بالغ، فقال القيم: احلف أنك لا تعلم أنه صغير، فلم يحلف- أن الولي لا يحلف، وهل يحلف الصبي، فيقول: والله إني صغير؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الأسير.

ولو انتهى من أنكر كونه بالغًا بعد إقراره إلى حالة يتحقق بلوغه فيها، ورام خصمه تحليفه على أنه كان حين الإقرار صبيًا، فهل له ذلك؟ الذي يظهر إلحاقه بمن ادعى البلوغ بالاحتلام، فإنه لا يحلف على المشهور وإن كان في خصومة كما تقدم في باب الحجر.

وإذا انتهى إلى حالة يتحقق بلوغه فيها لا يحلف أيضًا: إنه كان بالغًا حينئذ على الظاهر، كما قاله الإمام، لأنا إذا حكمنا بموجب قوله فقد أنهينا الخصومة، فلا نعود إلى التحليف، وبهذا التعليل يحصل لك الفرق بين هذا وبين ما إذا حضر شخص الصف ثم ادعى وقت القسمة: أنه كان بالغًا وقت الحضور، وأنه يستحق السهم، فإنه يحلف ويستحق السهم، كما قاله ابن الصباغ وغيره في باب النكول ورد اليمين.

فإن قلت: قد حكى ابن الصباغ في كتاب الإقرار: أنه إذا أقر صبي بالبلوغ في سن يحتمله، فالقول قوله من غير يمين، لأنه لا يتعلق بذلك حق على غيره.

وإن باع فادعى المشتري أنه صغير، وأن البيع فاسد، فينبغي ألا يحلف، لأن المدعي مقر بأن اليمين لا تستحق عليه لصغره.

[و] إن ادعى ذلك [بعد بلوغه: أنه كان في حال البيع صغيرًا، حلف، وهذا ينبغي أن يجيء مثله هنا، بخلاف ما ذكرت.

قلت: هذا محمول على ما لم يكن قد ادعى ذلك] في حالة الشك في بلوغه، فأني أسلم مثله هنا، لفقد العلة التي أشار إليها الإمام، وقد صرح الإمام بذلك في مسالة الإقرار، وحكى في كتاب اللعان شيئًا يمس بما نحن فيه، فلنذكره، وهو أن من ادعى أنه صبي، وقبل قوله، لو عاد وادعى أنه بالغ، وأنه

ص: 322

كذب فيما مضى- قبل قوله أيضًا.

وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه لا يقبل ذلك منه.

ووجه القبول: أن يدعي أنه بلغ بعد هذا.

فرع: من عرف حال جنون وإفاقة، ثم ادعى أن الإقرار [منه] كان في حال جنونه، وقال المفر له: بل في حال إفاقته، فمن المقبول قوله منهما؟ فيه وجهان في ((الحاوي))، وقد حكى الغزالي مثلهما قبل كتاب الصداق فيما إذا زوج الشخص أمته، ثم قال زوجتها، وكنت صغيرًا أو مجنونًا، وقد عهد له حالة جنون:

أحدهما: أن القول قوله، لأن الأصل بقاء تلك الحالة.

والثاني: لا، لأنه اعترف بالعقد، فيحمل على الصحة، فعليه بينة الإبطال.

وقد نسب ((الرافعي)) الوجهين في مسألة النكاح إلى تخريج أبي زيد، وأن الشيخ أبا علي صحح الثاني، وكذلك غيره، وهو قضية كلام الإمام، لأنه رأى بناءهما على أن النكاح المعترف به مطلقًا يحمل على الصحيح، أم يتناول الصحيح والفاسد؟ وقضية هذا البناء أن يجزم من مسألة الإقرار بألا يقبل قوله، لأن مطلق الإقرار محمول على الصحيح، كما صرح به الإمام.

وقد جزم الإمام و ((الرافعي)) في مسألة الإقرار بالقبول، كما جزموا به في الصبي.

ولو ادعى المقر أنه كان مكرهًا على الإقرار، فإن أقام بينة بالإكراه مفصلة لا مطلقة، قبلت، وحكم ببطلان الإقرار، وإن كان كانت بينة الإقرار قد شهدت بالطواعية، لكن لماذا كان ذلك؟ فيه وجهان:

أحدهما: لأنها اشتملت على زيادة علم.

والثاني: لأن بينة الطواعية عارضتها بينة الإكراه، فتقابلا وبقي الطوع مشكلًا، وإذا ارتبنا في اختلال شرط لم نقص بالشهادة.

قال الإمام: إنما يتصور ذلك إذا اشتملت الشهادة على الإقرار والشهادة على الإخبار على تاريخ واحد.

وإن لم تقم بينة بنفس الإكراه، بل أقامها على أمارة تدل عليه من حبس أو

ص: 323

برسم أو قيد من جهة المقر له لا من جهة غره- ترجح بها جانب المقر في دعواه، وكان القول قوله في الإكراه مع يمينه إن لم تكن بينة الإقرار قد شهدت بالطواعية، أما إذا شهدت بها، قال الإمام: فلا تعارضها الأمارات، لأنها أبدًا مقامة على ضد الأمارات الظاهرة، ولذلك تقع في جنبة المدعي، والظاهر مع المدعى عليه.

وإن فقد ذلك، ووقعت الشهادة بالإقرار مطلقة، فالقول قول المقر [له] مع اليمين، لأن الأصل عدم الإكراه.

وفي ((الحاوي)): أن الشيخ أبا حامد قال: القول قول المقر، وليس بصحيح.

قال: ومن حجر عليه لسفه، [لا يجوز] إقراره بالمال، لأن قبوله يسقط معنى الحجر، وإتباعه به يبطل تأثيره في حفظ ماله.

وقيل: إنه يقبل إذا أسنده إلى إتلاف، أو جناية توجبه، لأنه يقدر على إنشاء ذلك وإن كان محرمًا، كذا حكاه الإمام عن رواية العراقيين في كتاب القسامة قبل باب ما ينبغي للحاكم أن يعلمه، والصحيح الأول، وعليه فرعان:

[أحدهما:] إذا أسند السبب إلى ما قبل الحجر عليه، فالمذهب عدم القبول- أيضًا- وفيه وجه أنه يقبل مخرج من قبول إقرار المفلس بدين أسنده إلى ما قبل الحجر، حتى يضارب المقر له الغرماء بدينه.

الثاني: إذا انفك [الحجر عنه]، هل يطالب به؟ الذي أطلقه الأكثرون: أنه لا يطالب، لما ذكرناه من العلة الثانية، ويجب عليه فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان عن إتلاف، أو جناية وفاة.

وقال أبو الطيب في كتاب القسامة: المذهب أنه لا يطالب به، كما لو أسند ذلك إلى معاملة.

وقال أبو إسحاق: إنه يطالب به، لأن الغرم ثبت بغير رضا من له الحق، بخلاف ثمن المبيع ونحوه إذا أقر به، وفك الحجر عنه، فإنه لا يطالب به، للزومه برضا من له الحق، فهو المسلط على الإتلاف.

ص: 324

قال: وهذا ليس بشيء، ولم يذكر الماوردي غيره، وقال: إن الإتلاف لو اقتضى إثبات الدين مؤجلًا، لكونه قتل خطأ، فهل يثبت ابتداء الأجل من وقت الإقرار، أو من وقت فك الحجر؟ فيه وجهان، وإن القياس أن يقال: من وقت الفعل، أو من وقت فك الحجر.

[و] قال الإمام: إن ما قاله أبو إسحاق ركيك، لأنه لو كان يؤاخذ به إذا رشد، لكان يؤاخذ به في سفهه، وقد حكيت عنه في باب الحجر مثل ذلك فيما إذا اشترى شيئًا، وأتلفه، فليطلب من ثم.

قال: ويجوز في الطلاق، والحد، والقصاص، لأنه قادر على إنشاء الطلاق، وغير متهم في الإقرار بالحد، والقصاص، لأن الإنسان مجبول على صيانة نفسه عما يؤلمها ويؤذيها مع أنه قادر على إنشاء ذلك حسًا وإن كان ممنوعًا [منه] شرعًا.

نعم، لو عاف مستحق القصاص عنه على مال، قال القاضي أبو الطيب في كتاب القسامة: أخذت الدية من مال.

وقال ((الرافعي)): الصحيح ثبوت المال، لأنه يتعلق باختيار الغير، لا بإقراره، وهذا يفهم جريان خلاف في المسألة، ويشبه أن يكون مادته ما سنذكره [فيما إذا أقر العبد بما يوجب القصاص فعفى عنه على مال كما سنذكره] ويؤيده أن الأصحاب قالوا فيما إذا أقر بسرقة مال:[إنه] يقبل في القطع، وفي المال قولان، كالعبد، حكاه ابن الصباغ وغيره، وهكذا قال الإمام وغيره: إذا قلنا: لا يقبل إقراره بدين الإتلاف، فإن قبلناه فهاهنا أولى، وسنذكر عن الإمام احتمالًا في منع القطع إذا لم يقبل قوله في المال، وقد رأيت في نسخة من ((التهذيب)) إلحاق إقرار السفيه بالنكاح بإقراره بالطلاق.

وفي ((تعليق)) القاضي الحسين: أنه لا يقبل إقراره بالنكاح، وهو الذي أبداه الإمام، والغزالي، لأنه يتضمن ثبوت مؤن مالية لا ينفك عنها، وهو لا يقدر على الاستقلال به، فكذلك لا يقدر على الإقرار به.

ص: 325

نعم: لو فرض الكلام في السفيهة قبل إقرارها، قال الإمام: لأن المرأة ليست محجورًا عليها في النكاح إذا كانت ثيبًا بالغة، أو بكرًا بالغة في حق غير الأب والجد، والمرأة الرشيدة لا تستقل بنكاح نفسها، ثم إقرارها بنكاحها مقبول على المذهب الظاهر، والسفيهة في معنى الرشيدة، وفي هذه احتمال ضعيف عندنا، وسببه ضعف قولها، وتطرق التهمة إليها من جهة خبل عقلها، سيما فيما يتعلق بالشهوات.

قال: ومن حجر عليه، لفلس، يجوز إقراره بالحد والقصاص، لأن ذلك يتعلق ببدنه، والحجر لا يشمله.

ولأنه غير متهم فيه.

نعم، لو كان ما أقر به سرقة بعد الحجر، قال الإمام: فإن قلنا: ما يتجدد من إتلافه، ويقام عليه بينة لا يضارب به، فهاهنا أولى، وإلا فقولان مرتبان على إقراره بإتلاف المال، وهاهنا أولى بالقبول، وقد تقدم أن مذهب العراقيين: أن الجناية، والإتلاف من المفلس بعد الحجر يضارب بها الغرماء، وأن المذهب عند المراوزة: عدم المضاربة.

ولو عفا مستحق القصاص عنه على مال، فقد قال القاضي أبو الطيب وغيره في كتاب القسامة: إن حكمه حكم السفيه إذا أقر بالقصاص وعفى عنه على مال، حرفا بحرف.

وقد حكيت في باب التفليس عن البغوى: [أنه] كما لو أقر بدين جناية، وعن غيره القطع بالقبول، وهو موافق لقول القاضي هنا: إنه يثبت المال، ويضارب الولي به، وذكرت ثم احتمالًا، فليطلب [منه].

قال: وفي المال قولان، أي: إذا أسنده إلى ما قبل الحجر:

أحدهما: يجوز، أي: ويضارب المقر له به مع الغرماء في الدين، وتسلم له العين.

والثاني: لا يجوز في الحال.

ص: 326

القولان في هذه الحالة منصوصان كما ذكرنا في باب التفليس في ((المختصر))، وتوجيه الأول- وهو الأصح، ومختار الشافعي، كما قال أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما ثم- القياس على ما لو ثبت ذلك بالبينة، أو أقر المريض بدين، فإن المقر له يزاحم غرماء الصحة، كما سنذكرهم.

ووجه الثاني: أن حق الغرماء تعلق بما له من المال، وفي مشاركتهم [لهم] إضرار بهم.

وأيضًا: فإنه قد يتواطأ المفلس مع المقر له، ثم يسترد منه ما يأخذه.

وقد قال في ((الحاوي)) هاهنا: إن القولين ينبنيان على اختلاف قوليه في أن حجر المفلس يجري مجرى حجر المرض، أو حجر السفه؟ فإن أجريناه مجرى حجر المرض، جاز إقراره في الحال، وشارك الغرماء، وإلا فلا يشارك، ويؤخذ به بعد فك الحجر عنه، وإلى هذه الزيادة أشار الشيخ بقوله:((في الحال))، لكن قياس إلحاقه بالسفيه أن يكون في مطالبته بعد فك الحجر عنه الخلاف السابق في مطالبة السفيه بعد الرشد، وقد حكيت في باب التفليس عن رواية الإمام والقاضي الحسين قولين فيما إذا أقر بعين، ثم فضلت بعد فك الحجر، هل تسلم للمقر [له] أم لا؟ وقلت: إن القياس طرد ذلك في الدين أيضًا، وقد أشار إليه في ((الوسيط)) أيضًا هاهنا، أخذا من قول الإمام هناك: إن الأئمة حكوا قولين في صحة بيع المفلس عينًا من أمواله موقوفًا على التبين في الجديد، فإن كنا نرى توقف بيع المفلس، فإقراره أولى بقبول الوقف.

وإن رددنا إنشاء تصرفه ففي إقراره تردد حينئذ، والأظهر في القياس ألا نرده، بل نقفه، فإن الإقرار ليس إنشاء تصرف، وإنما هو إخبار، والمفلس من أهل الإخبار، فإن رددنا قوله في الحال، لحقوق الغرماء، فإذا زالت، فلا يبعد أن يؤاخذ المقر الآن بموجب إقراره، وهذا واضح ورد إقراره عند تقدير زوال حقوق

ص: 327

الغرماء مشكل في القياس جدًا.

أما إذا أسند الإقرار إلى سبب حادث بعد الحجر، فقد تقدم أنه إن أسنده إلى معاملة، فلا مضاربة.

وإن أسنده إلى إتلاف أو جناية، فأصح الطريقين: أنه كما [لو] أسند ذلك إلى ما قبل الحجر.

والثاني: أنه كما [لو] أسنده لمعاملة، وبه جزم الماوردي.

ولو أطلق الإقرار بالدين، ولم يسنده، قال ((الرافعي)): فقياس المذهب التنزيل على الأول، وجعله كما [لو] أسنده إلى ما بعد الحجر.

قلت: وقضية التنزيل على الأول: أن يجعل السبب معاملة، وحينئذ فلا يحكم له بالمضاربة.

وقد يفهم من كلام القاضي أبي الطيب وغيره حكاية القولين المذكورين في الكتاب في هذه الحالة، ولم أره، بل ابن الصباغ لم أطلق هاهنا حكاية القولين، قال: وقد ذكرناهما في كتاب التفليس، والذي ذكره ثم ما بيناه من قبل، ولذلك اتجه اعتراض ((الرافعي)) على الغزالي، فإنه قال- تبعًا لإمامه-: وقد خرج في الإقرار المرسل قوله: أنه يقبل في الحال، ويضارب الغرماء من أحد قوليه في

ص: 328

القديم فيما إذا أقر بعين: أنه يقبل.

قال ((الرافعي)): والقولان في هذه الحالة منصوصان في ((المختصر))، ومعلوم أن النص مغن [عن] التخريج، والله أعلم.

قال: ومن حجر عليه، لرق يجوز إقراره بالحد والقصاص والطلاق، لما ذكرناه.

وعن المزني: أنه لا يقبل إقراره بالحد والقصاص إذا كذبه السيد، لما في استيفاء ذلك من الإضراب بالسيد.

قال الإمام في كتاب السرقة: وكنت أود لو كان مذهب المزني في عدم قبول إقراره بالقطع في السرقة قولًا بالقطع في السرقة قولًا مخرجًا، ولكن لم يشر إليه أحد من الأصحاب، وتمسكوا في تقرير المذهب- كما قال الماوردي- بعموم قوله- عليه السلام:((فَإِنَّهُ مَنْ بُيْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ حَدَّ اللهِ)).

وبأن عليا- كرم الله وجهه- قطع عبدًا بإقراره، ولم ينكره أحد.

وبالقياس على قتله في الردة.

قال: وإن أقر بمال، اتبع به إذا عتق، أي: وأيسر، ولا يتعلق برقبته، ولا بكسبه، ولا بما يملكه في حال رقه بتمليك السيد إذا رأيناه، كما قال الماوردي، لأن الحجر عليه لحق السيد، فعمل بموجبه في متعلق حقه، وهو الرقبة، والكسب، والمال الذي في يده حالة رقه، واتبع به [بعد العتق واليسار]، إذ لا حق للسيد في ماله إذ ذاك.

فإن قلت: قد تقدم في صحة ضمان العبد بغير إذن سيده خلاف، وإن كان من صححه لا يلزمه الوفاء إلا بعد العتق، ولا حق للسيد إذا ذاك في ماله.

قلت: قد حكى ابن يونس وجهًا هاهنا: أنه لا يلزمك الوفاء بعد العتق أيضًا، فاندفع السؤال.

فإن قلت: هذا الوجه لم نره هكذا على الإطلاق في غيره، ولعله مفروض فيما إذا أقر بجناية الخطأ، بناء على وجه ذكرناه في باب العاقلة عن القياسين: أنه إذا أقر بها، وكذبه السيد، لا يطالب بالأرش بعد العتق، بناء على أن الأرش في حال

ص: 329

التصديق لا يتعلق بذمة العبد، وإن كان [كما] نقله على الإطلاق فالصحيح خلافه، والصحيح في مسألة الضمان المنع، وهذا يكفي في السؤال.

قلت: الفرق: أن للعبد عن الضمان غنية، وليس له عن الإقرار بما في ذمته غنية، فلذلك صححناه، والله أعلم.

ثم على المشهور: ما الذي يطالب به العبد بعد العتق؟ ينظر:

فإن كان على ما أقر به عن جناية، فقد تقدم ذكره في باب العاقلة.

وإن كان عن مبيع، قال القاضي الحسين: فهو قيمته.

ومن أصحابنا من قال: يتبع بالثمن.

والمذهب الأول.

وهذا كله إذا كان العبد غير مأذون له في التجارة، فإن كان فإقراره بديون المعاملة مقبول فيما في يده قبل العزل، سواء صدقه السيد، أو كذبه، لأنه مسلط عليها بالإذن، فإن فضل عما في يده شيء اتبع به بعد العتق، وهل يتعلق بإكسابه المتجددة قبل العتق؟ فيه خلاف سبق في بابه.

وإقراره بما في يده من الأعيان بأنها مقبوضة على جهة السوم، أو بعقده، وقد فسخه بعيب، أو إقالة أو خيار- مقبول أيضًا.

وإقراره بالإتلاف، والخطأ كإقرار غير المأذون، لأن الإذن لا يسلطه على ذلك. ولو أطلق الإقرار بالدين، ولم يبين جهته، فهل ينزل على دين المعاملة، لأنه الغالب، أو لا، لاحتمال أنه أراد دين إتلاف، فيه وجهان:

الذي في ((الإبانة)): الأول.

وأظهرهما عند الغزالي و ((الرافعي)) الثاني.

ويشبه أن يكون أصل الخلاف ما إذا أقر لحمل بمال، ولم يبين سببه، هل يصح أو لا يصح؟ تنزيلًا للإقرار على السبب الغالب، وهي المعاملة المتعذرة من الحمل.

ولو حجر السيد عليه، فأقر بدين معاملة، وأسنده إلى حالة الإذن، ففي ((تعليق)) القاضي أبي الطيب عند الكلام في الإقرار في المرض حكاية قولين فيه كالقولين في إسناد المفلس الإقرار بالدين إلى ما قبل الحجر.

ص: 330

وفي ((الرافعي)) حكايتهما وجهين مخرجين من القولين في المفلس، وقال: إن الأظهر هاهنا المنع، لعجزه عن الإنشاء، وتمكن التهمة.

ومقابله ينسب إلى رواية الشيخ أبي محمد.

قال: وإن أقر بسرقة مال في يده قطع- أي: يوجب القطع- لما سبق، وفيه خلاف المزني.

وفي المال قولان:

أحدهما: يسلم [إليه]، أي: إلى المقر له، لأنه أقر بمال في ضمن إقراره بعقوبة فقبل منه، كما أو أقر بجناية عمد، فعفا الولي عنه على مال، فإنه يجب، ويتعلق برقبته.

والثاني: لا يسلم، لأن يد العبد كيد المولى، بدليل أن شخصًا لو ادعى ما في يد العبد، كان القول قول السيد، ولو كان المال الذي أقر العبد بسرقته في يد السيد، لم يسلم للمقر له، بلا خلاف، كما حكاه الإمام وغيره، فكذلك هاهنا، وهذا أصح في ((الرافعي))، واختاره في ((المرشد)).

قال الأصحاب: ويخالف الإقرار بالقصاص [لأنه إقرار] بالعقوبة، وإنما يصير مالًا بعفو الولي واختياره، وهاهنا إقراره بالمال، ألا ترى أنه لو أقام المسروق منه شاهدًأ وامرأتين، ثبت المال دون القطع، ولو أقامهم على القتل الموجب للقصاص، لم يثبت قود ولا دية، وهذه طريقة ابن سريج، كما حكاها ابن الصباغ في باب مداينة العبيد.

وما ذكر من الفرق بين مسألة الإقرار بالقصاص [والإقرار بالسرقة يقتضي تسليم الحكم في مسألة الإقرار بالقصاص].

وفي ((الشامل)) في باب العبد المأذون أن أبا علي قال في ((الإفصاح)): إنا إذا قلنا: الواجب في العمد أحد الأمرين فإذا اختار الولي المال، ففي ثبوته وجهان، بناء على القولين في المسروق.

ومفهوم هذا: أنا إذا قلنا: [إن] الواجب القود، يجب المال بلا خلاف.

وفي ((الإبانة)) عكس هذا، فقال: إن قلنا: الواجب أحد الأمرين، فلا يثبت المال

ص: 331

بالعفو، وإن قلنا: الواجب القود عينا، فقولان.

وقال الإمام هنا: إن الولي إذا عفا على مال- إن قلنا: إن الواجب أحد الأمرين- ترتب على ثبوت المال في الإقرار بالسرقة، والدية أولى بالثبوت، لأنها تثبت ضمن القتل، وضمان المال في السرقة ممتاز في الحقيقة عن موجب القطع، فإن سبب الضمان يثبت، والساق بعد في الحرز.

وإن قلنا: الواجب القود عينا، ففي ثبوت المال خلاف، وهو على هذا القول أولى بالثبوت منه على القول الأول، فإن المال على الأول موجب الإقرار، وعلى الثاني موجب الإقرار العقوبة، وهذه الطريقة توافق ما في ((التهذيب))، فإنه حكى في ثبت المال وجهين مطلقًا، وأن أصحهما الثبوت، وتعلقه بالرقبة.

قال: وإن أتلف المال، بيع منه بقدر المال في أحد القولين، ولا يباع في الآخر.

القولان في هذه الصورة أصلهما القولان في الصورة السابقة، فإن قلنا ثم: يسلم [المال]، فقد ألحقناه بحالة تصديق السيد، ولو صدقه السيد على السرقة، لرد المال عند بقائه، وتعلق بدله برقبته عند تلفه.

وإن قلنا ثم: لا يسلم، فقد ألحقناه بما لو أقر بمال في يده لغير سيده، لا على وجه السرقة، ولو تلف المال في مثل هذه الصورة، لم يتعلق برقبته، بل بذمته، فكذلك هاهنا، وهذا ما صححه ((الرافعي))، واختاره في ((المرشد))، وهذه طريقة أبي علي بن أبي هريرة، ولم يحك ابن الصبغ في باب العبد المأذون سواها، وقال: إنه لو رجع عن إقراره، سقط القطع، وتعلق المسروق بذمته قولًا واحدًا، لأن التهمة تلحقه الآن، ووراء ذلك طرق:

إحداها- عن أبي إسحاق-: أن المال إذا كان تالفًا لا يباع منه شيء قولًا واحدًا، لأن الرقبة في يد السيد، فأشبه المال المضاف إلى يده. وإن كان باقيًا، كان في تسليمه القولان.

والثانية- حكاها القاضي الحسين- عوض هذه، وهي إن كان المال تالفًا، بيع منه بقدره قولًا واحدًا، وإن كان باقيًا، ففي تسليمه القولان.

ص: 332

والفرق: أنه إذا كان تالفًا فغاية الأمر تفويت رقبته في الضمان، والأعيان التي تفوت لو قبل إقراره بسرقتها لا تنحصر، فالضرر فيها أعظم.

والثالثة- عن الشيخ أبي حامد، وجمهور البصريين-: أن المال إن كان تالفًا، ففي تعلق بدله برقبة العبد القولان، وإن كان باقيًا لم يسلم وجهًا واحدًا، لما ذكرناه.

وفي ((المهذب)) نسبة هذه الطريقة للقاضي أبي حامد.

والرابعة- حكاها القاضي الحسين أيضًا، وغيره من الرواة-: إجراء الخلاف في الصورتين، لكن بالترتيب: فإن قلنا: يتعلق برقبته عند تلفه، فيسلم عند البقاء من طريق الأولى، وإلا فقولان، والفرق ما بيناه.

والخامسة- حكاها الماوردي هنا: أنا إن لم نقبل إقراره [في المستهلك] فأولى ألا نقبله في الباقي، وإن قبلنا إقراره في المستهلك، ففي قبوله في العين التي في يده وجهان.

وإذا اختصرت ذلك، قلت: في المسألة أربعة أقوال، كما حكاها الإمام ومن تبعه في كتاب السرقة:

القبول في حالة البقاء، والتعلق بالرقبة عند التلف.

عدم القبول في حالة البقاء، وتعلق الغرم عند التلف بذمته، دون رقبته.

القبول في حالة البقاء، وعدم التعلق بالرقبة عند التلف.

عكسه.

أما إذا أقر بسرقة ما لا قطع فيه، لم يقبل إقراره في تسليمه، ولا في تعلقه برقبته عند تلفه قولًا واحدًا، صرح به الإمام، وابن الصباغ، وغيرهما، بل يتعلق بذمته، كجناية الخطأ، ووراء ما ذكرناه أمران:

أحدهما: قال الإمام هاهنا: إنا إذا قبلنا الإقرار بالمال من العبد والسفيه، فلا شك في وجوب القطع.

وإن لم نقبل الإقرار بالمال، فقد أطلق الأصحاب وجوب القطع، [وليس الأمر كذلك عندي، بل يظهر ذكر خلاف في وجوب القطع] إذا فرعنا على رد الإقرار في المال، فإن السرقة لا تستقل بنفسها دون ارتباطها بالمال، فلابد من

ص: 333

تخريج وجوب القطع على خلاف ظاهر في أن الحر المطلق إذا أقر بسرقة نصاب من مال زيد، فهل يجوز قطع يده قبل مراجعة زيد، وفيه خلاف، ولعل الأظهر أنه لا قطع.

الثاني: قال [القاضي] الحسين في كتاب السرقة: إذا قبلنا إقرار العبد بما في يده، ففي معنى قبوله وجهان:

أحدهما: رد العين إلى المقر له بالغة ما بلغت، حملًا على أنه غير متهم.

والثاني: تعلق قيمة العين برقبته، والعين للسيد، لما ذكرناه من علة القول الآخر.

قال الإمام: وليس هذا بإضرار عظيم، فإن القول الأصح: أن العبد يفدى بأقل الأمرين، وأقصى ما يقر به لا يجاوز قيمته، فيكون للكلاخم توقف ينتهي إليه.

وإذا قلنا: السيد يفدي عبده بالأمر اللازم، بالغًا ما بلغ، فله مكنة أن يسلم العبد، والعبد يمكنه أن يفوت رقبته على مولاه بأن يقر بجناية توجب إهلاكه.

ثم قال بعد هذا: ولا يبعد إذا قبلنا إقرار العبد بالعين التي في يده، أن نقبل إقراره بما يضيفه إلى ما في يد مولاه، والله أعلم.

فرع: المدبر وأم الولد فيما ذكرناه كالقنن، والمكاتب يقبل إقراره في البدن، والمال كالحر ويؤديه مما في يده، ولا يعتبر فيه تصديق السيد.

نعم، إذا عجزه السيد، ولا مال معه [فديون معاملاته] يؤديها بعد عتقه، وغرم جناياته في رقبته يؤديذى من ثمنه قاله الماوردي.

ومن بعضه حر، وبعضه رقيق كالمملوك في البعض الرقيق، وكالحر في البعض الحر، قاله المارودي أيضًا.

قال: ولا يجوز إقرار المولى عليه بما يوجب الحد والقصاص، لأنه لا حق للسيد إلا في المال فقط، لا في الروح والبدن، وهذا يتعلق بهما.

قال في ((المهذب)) - وتبعه في ((المرشد)) ولهذا لو جنى عليه جناية توجب القصاص أو الحد، استقل هو بالاستيفاء والعفو دون [إذن] السيد، وهذا فيه منازعة تقدمت حكايتها في باب العفو والقصاص.

ص: 334

قال: ويجوز إقراره عليه بجناية الخطأ، أي: بالنسبة إلى التعلق بالرقبة لأنها ماله، فقبل إقراره فيه.

أما بالنسبة إلى التعلق بالذمة إن رأيناه فلا، وهكذا الحكم فيما إذا أقر عليه [السيد] بدين معاملة أذن فيها.

قال: ومن حجر عليه لمرض، يجوز إقراره بالحد والقصاص، أن الحجر على المريض لحق الورثة، فاختص بما يثبت لهم بعد الموت، ولا حق لهم في نفسه وبدنه، ولهذا لو أقرت المرأة بالنكاح قبل، ولم يحسب ما نقص من مهر مثلها من الثلث، لأن البضع لا يسلم لهم بعد الموت.

قال: ويجوز إقراره بالمال للأجنبي، قال الغزالي وغيره: للإجماع. وفيه نظر، لأن للشافعي قولًا حكاه الإمام متصلًا بباب الأوصياء: أنه يعتبر ما أقر به من الثلث، والمشهور خلافه، وعليه نقول: لو أقر لشخص في الصحة ولآخر في المرض، ومات، كانا سواء عندنا، حتى تقسم التركة عند ضيقها عن الوفاء عليهما على نسبة الدينين.

وفي ((الزوائد)): أن الشيخ أبا زيد حكى عن بعض أصحابنا: أن في إقراره في المرض بعد تقدم الإقرار في الصحة قولان، كما في إقرار المفلس بعد الحجر.

والمعروف في المذهب الأول.

نعم، لو أقر في [صحته، أو مرضه] لشخص، ثم مات، فأقر وارثه [بدين لآخر]- فوجهان:

أصحهما في ((التهذيب)): أنهما سواء- أيضًا- كما لو أقر لهما الوارث، وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن الأ كثرين.

والثاني: ويعزي عن القفال، واختيار بعضهم-: أن من أقر له الميت مقدم، لأن بالموت تعلق حقه بالتركة، فليس للوارث صرفها عنه.

والوجهان جاريان فيما لو ثبت على الميت دين بالبينة، ثم أقر الوارث للآخر بدين، أو أقر الوارث لشخص بدين، ثم لآخر بدين آخر.

ص: 335

والمعظم- كما قال الإمام- في الأخيرة على التسوية.

قال ((الرافعي)): وهما مبنيان على القولين في أن المحجور عليه بالفلس إذا أقر بدين أسنده إلى ما قبل الحجر، [هل] يقبل إقراره في زحمة الغرماء؟ لأن التركة كمال المحجور عليه، من حيث إن الورثة ممنوعون عن التصرف فيها؟ وهذا ما أبداه الإمام احتمالًا لنفسه، وهو في ((تعليق)) القاضي الحسين أيضًا، ويوافقه قول المتولي: إنه لو ثبت على شخص دين في حياته، أو بعد موته، ثم تردت بهيمة لآخر في بئر كان قد احتفرها في محل عدوان، هل يزاحم صاحب البهيمة رب الدين القديم أم لا؟ حكمه ما سبق فيما إذا جنى المفلس بعد الحجر عليه، وقد قدمت ما فيه.

و [قد] صرح الإمام بالخلاف هنا.

ولو أقر في مرضه [لشخص بدين] ولآخر بعين، ولا مال له غيرها، فوجهان: أصحهما: أن العين تسلم للمقر له [بها] كما لو تقدم الإقرار له بها على الإقرار بالدين.

والثاني: أنهما يتزاحمان، لأن لأحد الإقرارين قوة السبق، وللآخر قوة الإضافة إلى العين، فاستويا، والله أعلم.

قال: وفي إقراره بالمال للوارث قولان.

وجه المنع: أن المريض محجور عليه في حق الوارث، بدليل منع الوصية له، فوجب ألا يصح إقراره له، كما أن الصبي لما أن كان محجورًا عليه في حق الناس كلهم، لم يصح إقراره لهم.

ولأنه متهم في ذلك، لأنه ربما قصد [أن] يزوي المال عن بعض الورثة لبعض، وإذا كان متهمًا وجب ألا يقبل إقراره.

وجه القبول وهو الصحيح: قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء:135] وقد تقدم أن شهادة المرء على نفسه إقراره عليها،

ص: 336

وذاك عام في كل حال للوارث وغيره.

وأيضًا: فإنه لو أقر له [في الصحة] لنفذ، فكذلك في المرض، كالأجنبي.

والجواب عما ذكر من توجيه القول الأول [أولًا] أنه يبطل بالأجنبي إذا أقر [له] بما زاد على الثلث من ماله، فإنه يقبل وإن كان محجورًا عليه فيه.

وعما ذكر ثانيًا: أنا لا نسلم أنه متهم، بل التهمة منتفية عن المريض أشد من انتفائها عن الصحيح، فإنه يكون مشرفًا على الآخرة، وقادمًا على ربه، وذلك أدعى لصدقه، روي أن أبا بكر- رضي الله عنه قال في عهده لعمر- رضي الله عنه:((هذا ما عهد به أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا، خارجًا منها، وأول عهده بالآخرة داخلًا فيها، في الحال التي يؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر)).

[ثم] على تقدير التسليم فالتهمة موجودة فيما إذا أقر لأخيه ولا ولد له، ثم حدث له، ثم مات، وقد سلم الخصم أنه يصح الإقرار له. ومنتفية فيما إذا أقر لأخيه وله ولد وارث، فمات، وصار الأخ وارثه، وقد قال الخصم: إن الإقرار يبطل، وذلك يبطل التعليل بالتهمة.

وأيضًا: فإن التهمة في الإقرار بالوارث أشد منها في الإقرار للوارث، وقد قال: لو تبنى ولدًا، وحرم به ابن عمه الكاشح، لقبل، فهاهنا أولى، وهذه الطريقة أخذت من قول الشافعي في ((المختصر)):((ولو أقر لوارث، فلم يمت حتى حدث وارث يحجبه، فالإقرار لازم، وإن لم يحدث وارث فمن أجاز الإقرار للوارث أجازه، ومن أبي رده، ولو أقر لغير وارث، فصار وارثًا، بطل إقراره)) انتهى. لأن معنى قوله: ((من أجاز الإقرار للوارث)): أجازه لوجه معتبر، [((ومن أبي رده)) لوجه معتبر،] فهو ترديد قول له، وقد قال الماوردي: إن أبا إسحاق كان يقول بهذه الطريقة في غير ((الشرح))، وأن ابن أبي هريرة كان يجعل إقراره للوارث

ص: 337

لازمًا قولًا، واحدًا، ويجعل ما قاله من بطلان إقراره حكاية عن مذهب الغير، وه أبو حنيفة ومالك وابن أبي ليلى، رضي الله عنهم أجمعين.

وقد حكى القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ هذه الطريقة عن أبي إسحاق، وأنه قال: إن القبول هو الذي قطع به الشافعي في كتبه، ولأجل ذلك قال الأكثرون: إن هذه الطريقة هي الصحيحة، وتبعهم الغزالي.

وعلى هذا: فيكون معنى قول الشافعي: من أجاز الإقرار للوارث، أي: في الصحة، لزمته إجازته في المرض من طريق الأولى، لأنها الحالة التي يتوب فيها الفاسق، ويصدق فيها الكاذب، ويؤمن فيها الكافر، فهي أبعد عن التهمة، كما ذكرناه.

ومن أبي، أي: الإقرار للوارث في المرض، لزمه رده في الصحة، لأن التهمة أقوى، وقد [وافق] على قبوله في الصحة، فتعين قبوله في المرض جزمًا، كذا كان بعض مشايخنا يقرره.

لكن في ((الشامل)): أن أبا حامد كان يقول: إن قول المنع منصوص عليه في الإملاء.

وقال ((الرافعي)): إن في ((تعليق)) الشيخ أبي حامد: أنه رجع إلى ذلك بعدما كان يقول بطريقة القطع بالقبول.

قلت: وقول الشافعي في ((المختصر)): ((ولو أقر لغير وارث، فصار وارثًا، بطل إقراره)) صريح في منع الإقرار للوارث.

وعن الإمام مال: إن كان المقر متهمًا لم يقبل إقراره، وإلا قبل، ويجتهد الحاكم فيه.

قال ((الرافعي)): واختاره الروياني، لفساد الزمان.

التفريع:

إن قلنا بصحة الإقرار للوارث فلا كلام، وإن قلنا بمنعه فالمعتبر- كما ذكرنا- كونه وارثًا حقيقة، وذلك إنما يتحقق بالموت، فيكون النظر إليه، وهذا ما أورده العراقيون، والماوردي، وحكاه القاضي الحسين، وتبعه الإمام، والبغوي عن الجديد.

ص: 338

وحكوا عن القديم: أن المعتبر أن يكون وارثًا عن الإقرار، نظرًا للتهمة.

وبعضهم يورد الخلاف المذكور وجهين، والأظهر ما جزم به العراقيون واختيار أبي إسحاق والروياني مقابله.

ولا نظر- بالاتفاق- إلى الحالة المتخللة بين الإقرار والموت، صرح به القاضي والإمام.

ولو أقرت في مرض موتها بأني أبرأت الزوج عن الصداق في حال الصحة لم يقبل على القول الذي عليه نفرع، قاله القاضي الحسين في كتاب التفليس، وهو موافق لما حكاه هنا فيما إذا أقر في المرض: أنه كان قد وهب من وارثه شيئًا في الصحة، وأقبضه إياه: أنه لا يصح على هذا القول أيضًا، دون ما إذا قلنا: إن الإقرار للوارث صحيح، فإنه يصح فيهما.

وقد حكى الإمام مع هذه الطريقة في مسألة الهبة طريقة أخرى قاطعة بالمنع، لذكره ما هو عاجز عن إنشائه في الحال، وهي التي رجحها الغزالي، ويظهر جريانها في مسألة الإبراء.

وقد حكى الإمام عن القاضي اختيار القبول في مسألة الهبة، لأنه قد يكون صادقًا، فليكن له طريق إلى إيصال الحق إلى المستحق، وهذا يوافقه ما ذكره الغزالي في طلاق المريض: أنه إذا أقر في المرض: أنه أعتق في الصحة، لا يحسب من الثلث، وعليه ينطبق قول الماوردي والمصنف والبغوي: إنه لو أقر في المرض: أنه أعتق أخاه في الصحة عتق، ولا يرثه إن منعنا الإقرار [للوارث] دون ما إذا لم نمنعه.

وقول القاضي أبي الطيب الذي حكيته في طلاق المريض: إن المريض [إذا أقر] بما فعله في الصحة، كان كما لو فعله في الصحة، ألا ترى أنه لو أقر في مرضه: أنه وهب في الصحة، وأقبض، كان من رأس المال، أي: كما هو المنصوص الذي صرح بنقله مجلي، لكن قد حكيت عن القاضي الحسين [ثم] أنه قال: لا يبعد أن يجعل من أقر بأنه طلق امرأته في حال الصحة وهو مريض فارًا، لأنه محجور عن إنشاء القطع، وهذا تباين بين.

نعم: لو أطلق الإقرار بالهبة، والإقباض، ولم يسند ذلك إلى حال الصحة،

ص: 339

فيشبه أن يكون كما لو أطلقت المرأة في المسألة السابقة الإقرار [بالإبراء] عن الصداق، وقد قال القاضي في التفليس فيها: إنه يحمل على الإبراء في المرض، فلا يقبل جزمًا، لأنه وصية لوارث.

ولو أقر لوارثه وأجنبي معًا، هل يصح في نصفه للأجنبي، بناء على القول الذي عليه نفرع أم لا؟ فيه قولان لابن سريج، قال ((الرافعي)): والظاهر الصحة.

وقد بقي من أنواع المحجور عليهم المرتد، وإقراره في بدنه لازم، وكذا في ماله قبل الحجر عليه وبعده، وإن قلنا: حجره كحجر المريض. وإن قلنا: كحجر السفيه، قال الماوردي: كانت عقوده باطلة، وفي إقراره وجهان، وبهذا يتم الكلام في الشرط الأول من شروط الإقرار الأربعة، كما قال الماوردي، وهو المقر.

واعلم أن لفظ الشافعي في ضبطه: ((من لم يجز بيعه، لم يجز إقرار))، وللأصحاب فيه تأويلان:

أحدهما- عن ابن أبي هريرة-: أنه من لم يجز بيعه بحال، لم يجز إقراره.

والثاني: أنه من لم يجز بيعه في شيء، لم يجز إقراره في ذلك الشيء.

قال: ويجوز الإقرار لكل من يثبت له الحق المقر به، لأن الإقرار حينئذ يكون قد صادف محله، واحتمل صدقه، وبهذا يخرج ما إذا أقرت المرأة بصداقها، أو الزوج ببدل الخلع، أو المجني عليه بالأرش لغيره، فإنه لا يصح، كما حكي عن صاحب ((التلخيص)) وغيره، لأن الصداق وبدل الخلع لا يكون لغيره، وكذا أرش الجناية على الحر.

وألحق الماوردي بذلك ما إذا أقر بحمل بهيمته لغيره، وقال: إنه لو قال في الصور الأربع: صار ذلك لفلان، صح في الصداق، والخلع، ولم يصح في الحمل، وكان في أرش الجناية على اختلاف حالين:

إن كان دراهم صح، وإن [كان] إبلا لم يصح.

وأطلق في ((التهذيب)) الحكاية عن شيخه بسماع الإقرار في مسائل صاحب ((التلخيص))، لأنه يتصور أن يصير للغير بالحوالة، وحمل ما قاله صاحب ((التخليص)) على الإقرار بذلك حالة ثبوته، فإنه لا يتصور حينئذ ثبوته للغير.

ص: 340

[قلت]: ويصير كما لو أعتق العبد، فأقر في المجلس بدين لسيده، أو غيره، فإنه لا يصح، كما قال البغوي، وفيه نظر في حق السيد، إذا قلنا: إن الدين لا يسقطه الملك الطارئ عليه، وفي حق [غير السيد] إذا صححنا شراء العبد بثمن في ذمته، أو علقنا أرش الجناية بها.

وقال الإمام فيما إذا فرض الإقرار بانتقال الصداق وبدل الخلع، أو في انتقال سائر الديون إلى إنسان: أنه لا محمل لذلك إلا تقدير بيع الدين، وفي صحته قولان، فالإقرار مخرج عليهما.

قال ابن أبي الدم: وهو في ذلك متبع للجرجاني، فإنه ذكر ذلك في بعض مصنفاته.

والوجه ما قاله الماوردي:

وقد اتفق الكل على أن الإقرار بالدين الثابت لشخص، يجوز إذا أمكن ثبوت ذلك الدين لذلك الشخص ابتداء.

وألحق في ((التهذيب)) به ما إذا [جني] على عبد لشخص، أو مال له، فأقر من له العبد ظاهرًا [والمال] بأن الأرش لآخر، لاحتمال أن يكون ذلك العبد والمال للمقر له.

وقد اتفق الكل على أن الإقرار بالدين الثابت لشخص، يجوز إذا أمكن ثبوت الدين لذلك الشخص ابتداء.

وألحق في ((التهذيب)) به ما إذا [جني] على عبد لشخص، أو مال له، فأقر من له العبد ظاهرًا [والمال] بأن الأرش لآخر، لاحتمال أن يكون ذلك العبد والمال للمقر له.

ثم قد يرد على كلام الشيخ ما إذا قال شخص: لإنسان علي ألف، أو: لواحد من بني آدم، أو: من أهل القرية ألف، فإن مثل ذلك يثبت له الحق المقر به.

وقد حكي عن رواية الشيخ أبي علي في صحة هذا الإقرار وجهان مبنيان على أنه إذا أقر لمعين بشيء، فكذبه المقر [له] هل يخرج من يده؟ فإن قلنا: نعم، صح إقراره هنا، وأخرج من يده. وإن قلنا [لا]، لم يصح هذا الإقرار.

قال ((الرافعي)): وهو الصحيح، وعليه اتجه السؤال.

وهذا هو الشرط الثاني من شرائط الإقرار.

والثالث سنذكره في أثناء الباب.

والرابع أن يكون عند من يصير الحق به محفوظًا، وهو أحد نفسين: إما حاكم

ص: 341

ملزم، أو شاهد متحمل، وليس له عند غير هذين تأثير.

فإن [كان] الإقرار عند حاكم، فمن شرطه: أن يكون بعد سماعه الدعوى عليه، فإن أقر [عنده] قبل السماع، أو من غير دعوى، ففي صحته لأصحابنا وجهان:

أحدهما: يصح، وحكاه ابن المنذر عن الشافعي.

والثاني: لا يصح، وهو اختيار البصريين.

قال الماوردي: ويشبه أن يكون اختلافهم في هذا مخرجًا على صحة القضاء بالعلم.

وإن كان عند شاهد، [فمن شرطه الاسترعاء للتحمل، فإن لم يسترعه، وأقر عنده، أو سمعه يقر] من غير قصد له- ففي صحة التحمل وجواز الشهادة بذلك وجهان سبق ذكرهما.

قال: وإن أقر لبعد بمال، ثبت المال لمولاه، كما أن الهبة منه والوصية له تكون لمولاه.

قال القاضي في ((الفتاوى)): وهذا إذا كان العبد مأذونًا له في التجارة، فإن كان غير مأذون له فوجهان، بناء على ما لو أقر للحمل مطلقًا.

وحكى الوجهين في ((التعليق)) - أيضًا- هكذا، وهما في ((الحاوي))، وقال: إن الأصح القبول، وهو قضية البنء المذكور، وهذا إذا قلنا: إن العبد لا يملك، أما إذا قلنا: إن العبد يملك، ففي ((المهذب)) و ((الحاوي)): أنه يصح الإقرار له، ويعتبر فيه إجازته ورده دون إجازة السيد ورده، وكذا قال في ((الحاوي)) فيما إذا كان مأذونًا، أو مكاتبًا.

واحترز الشيخ بلفظ ((المال)) عما إذا أقر له بنكاح، أو بتعزيز القذف، أو بقصاص، فإنه يكون للعبد، ويعتبر فيه قبوله ورده دون السيد، كما صرح به في ((المهذب))، وهو في القصاص ماش على أصله السابق في أنه يختص بالعبد.

قال: وإن أقر لبهيمة، لم يثبت المال لصاحبها، لأن البهيمة غير قابلة للملك في الحال والمآل، فكانت الإضافة إليها لغوًا، بخلاف العبد، فإنه قابل له على

ص: 342

الجملة، فصح إسناده إليه، [و] لقبوله لتعاطي سببه الغالب، وهو البيع.

وقد ألحق في ((الحاوي)) في أول الباب بذلك الإقرار لعقار زيد، أو لمسجد، أو رباط.

وحكى في الكل عند إطلاق الإقرار وجهين:

أحدهما: ما ذكرناه، وهو ما جزم به في أثناء الباب في الإقرار للدابة والدار.

والثاني: أنه يصح في الكل، وهو الذي صححه في أثناء الباب في الإقرار للمسجد والمصنع، وقال: إن الوجهين في الجميع مخرجان من اختلاف قوليه في الإقرار للحمل بإقرار [مطلق، وفي ((المهذب)) وغيره حكاية الوجهين في الإقرار] للمسجد والمصنع، بناء على الأصل المذكور.

ولا شك في أنه إذا أضاف الإقرار إلى وجه مستحيل، كإقراره لذلك بدين معاملة: أنه يكون باطلًا، كما أنه لاشك في أنه إذا أضافه إلى وجه يصح ولا يستحيل، كإقراره لماشية مسبلة بعلوفة، من وصية أو صدقة، أو لمسجد بمال من وصية، أو لرباط أو لمصنع بمال من وقف عليه- أنه يصح، كما قاله الماوردي، وإن كان لا يبعد في الحالة الأولى تخريج وجه في صحة الإقرار، وإلغاء سببه إذا قبلنا الإقرار المطلق، كما سنذكر مثله في الإقرار للحمل.

ولو قال: بسبب هذه الدابة على كذا صرف لمالكها في الحال، كما قاله الإمام، حكاية عن الأصحاب، وهو في ((الوجيز))، و ((التهذيب))، تنزيلًا على أنه استأجرها، أو جنى عليها.

وعن أبي عاصم العبادي وجه: أنه لا يصح، لأن الغالب لزوم المال بالمعاملة، ولا تتصور المعاملة معها.

قال ((الرافعي)): ومحل ذلك إذا قال: لمالكها بسببها علي كذا.

قلت: كما حكاه في ((الشامل)): أما إذا اقتصر على قله: بسببها [علي] كذا، لم يلزم أن يكون ذلك لمالك الدابة في الحال، ولكن يسأل، ويحكم بموجب بيانه.

قلت: وهذا ما أبداه الإمام احتمالًا لنفسه، ويؤكده أنه يحتمل أن يكون الغرم لغير مالك الدابة، بأن أتلفت شيئًا، وهي في يد المقر، فجعل المقر به للمالك

ص: 343

[مخالف لقاعدة] الإقرار في البناء على اليقين، والله أعلم.

قال: وإن أقر لحمل، وعزاه إلى إرث، أو وصية- صح الإقرار، لأنه يملك بذلك، فصح إسناده إليه.

قال: وإن أطلق، ففيه قولان:

أصحهما: أنه يصح، لأن كلام البالغ العاقل يحمل على الصحة في الأقارير ما أمكن، وهو ممكن هنا، لجواز ملكه له بطريق صحيح من وصية أو إرث، كما يصح الإقرار للطفل، وهذا ما اختاره أبو إسحاق، وقد وافق الشيخ على تصحيحه ((الرافعي)) وغيره، وهم متبعون فيه المارودي، وقال: إنه الذي نص عليه في كتاب الإقرار بالحكم بالظاهر، وإن المزني لم ينقل من هذا الكتاب شيئًا.

ومقابله: أنه لا يصح، لأن الحمل ليس من أهل المعاملة، وإيجاد سبب الاستحقاق، والظاهر من الدين في الذمة دين المعاملة، فإن الإرث والوصية أمور بعيدة الوقوع، فلا ينزل الإقرار عليها، كذا قاله الإمام، والقاضي، وهذا ما نص عيه في كتاب الإقرار والمواهب من ((الأم))، ونقله المزني.

والخلاف يجري كما قال [القاضي] الحسين فيما لو قال: له علي ألف [استدنته أو اغتصبته، ولم يقل: من أبيه، ولا: منه.

نعم، لو قال: علي ألف اقترضتها] منه، أو عن معاملة- فالذي حكاه العراقيون والماوردي والمراوزة: أنه يتفرع على الخلاف السابق، فإن رددنا الإقرار المطلق، فهاهنا أولى. وإن [قبلنا الإقرار] المطلق، قال العراقيون والماوردي: فهاهنا قولًا تبعيض الإقرار:

أحدهما: يصح، وتلغى الإضافة المفسدة.

والثاني: يبطل الجميع.

وحكى المراوزة وراء هذه طريقة أخرى، تفريعًا على قبول الإقرار المطلق: أن

ص: 344

هذه الإضافة تبطل، ويلزمه ما أقر به قولًا واحدًا، وإليها أشار في ((الوسيط)) بقوله:((وقيل: إن هذا هزل فلا يقبل قولًا واحدًا))، [أي: الإضافة هزل، فلا تقبل قولًا واحدًا]، كما لو قال: لفلان علي ألف لا يلزمني، فإن ذلك هزل لا يقدح في الإقرار، وهذه الطريقة أظهر في ((الرافعي))، ولم يحك البغوي سواها.

قال: فإن وضعته ميتًا، بطل الإقرار، أي: الذي كنا قد قبلناه للشك في حياته المصححة لملكه بالوصية والإرث، التي يسند إليهما الإقرار.

ولا فرق في ذلك بين أن تضعه لا بجناية جان أو تضعه بجناية جان على بطنها.

وسواء قلنا: إن الجنين يملك الغرة في آخر جزء من حياته، كما هو قولنا، أو قلنا: لا يملكها، كما هو قول آخر، كما قاله البندنيجي في كتاب الوصية.

ومن طريق الأولى الحكم ببطلان الإقرار، إذا لم تضع شيئًا، وتبين أن ما في بطنها ريح أو غيره، وقد صرح به الماوردي.

وفي كل من الحالين، ينظر:

فإن كان قد عزا ذلك إلى إرث، رد إلى ورثة الميت عن الحمل.

وإن كان قد عزاه إلى وصية، رد إلى ورثة الموصي.

وإن كان قد أطلق، ففي ((الحاوي)): أنه يقر في يده، لعدم مدعيه.

وقال القاضي أبو الطيب والغزالي [تبعًا] للإمام: إنه يطالب بالتفسير، فإن بين أنه إرث أو وصية، عمل بمقتضاه.

قال الغزالي: وهذه مطالبة ليس يتعين مستحقها، إذ لا ندري: أنها لمن هي؟ ولعل للقاضي ذلك بطريق الحسبة.

ولو مات قبل البيان، قال في ((التهذيب)): بطل، كما أو أقر [بحق] لرجل، فرد إقراره، يبطل.

ص: 345

وعن ((تعليق)) الشيخ أبي حامد: أنه يطالب ورثته بالبيان.

قال: وإن ألقت حيًا وميتًا، جعل المال للحي، لأن الميت كالمعدوم.

ثم ظاهر هذا الكلام يقتضي: أنه لا فرق في تسليم المال للحي بين أن يكون ذكرًا أو أنثى، واحدًا كان أو أكثر.

وقد قال الأصحاب فيما إذا كان واحدًا: إنه يجعل له إذا كان عن وصية ذكرًا كان أو أنثى، وإن كان عن إرث، فقد قال الماوردي: إن الأمر كذلك.

وفي ((تعليق)) القاضي الحسين: إنه كذلك إذا كان ذكرًا، وإذا كان أنثى جعل لها نصفه، والباقي يرد إلى سائر ورثة الأول.

وفي ((الرافعي)) و ((التهذيب)): أنه إن أسنده إلى إرث [من أب]، كان لها نصفه، وأن الحي لو كان اثنان ينظر:

فإن أسند الإقرار إلى وصية، كان بينهما على السواء، ذكرين كانا أو أنثيين، أو ذكرًا وأنثى.

وإن أسند إلى إرث، فإن كان ذكرين، كان لهما على السواء، وإن كان أنثيين، فالأمر كذلك عند الماوردي، والقاضي أبي الطيب، وابن الصباغ.

وفي ((تعليق)) القاضي الحسين و ((النهاية)): أن لهما الثلثين منه، والباقي يرد إلى ورثة الأول.

ثم قال القاضي وهو في ((النهاية)): فإن قيل: وجب أن يدفع الكل إليهما، ويحمل على أن التركة، قسمت وأقررنا على المقر للحمل، أخذًا بأسوأ الأحوال- فهذا غير صحيح، لأنه ما من درهم في التركة دينًا كان أو عينًا إلا وهو شركة بين الورثة كلهم، إذا لم يمكن اجتماع كل الورثة على القسمة، فلم تصح قسمتهم قبل انفصال الحمل، وهذا بناء على منع المقاسمة عن الحمل، وقد قيل بجوازها، كما هو مذكور في الفرائض.

وإن كانا وأنثى، فللذكر ثلثاه، وللأنثى ثلثه، وهذا إذا اقتضت جهة الوراثة ذلك، فإن اقتضت التسوية، بأن يكونا ولدي أم، قال ((الرافعي)): كان ثلثه بينهما بالسوية، بناء على ما نقله.

ص: 346

وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: إنه يكون بينهما.

ولو أطلق المقر الإقرار، قسم بينهما على السوية، كما حكاه ابن الصباغ عن ((التعليق)) ولم يورد الفوراني سواه.

ووجهه الماوردي بأن الأصل التساوي حتى يعلم سبب التفاضل.

وفي ((النهاية)) و ((الشامل)) - أيضًا- و ((الرافعي)): أنه يسأل عن الجهة، ويحكم بمقتضاها.

واعلم أن محل جعلنا المال المقر به للحمل إذا انفصل: إذا تحقق وجوده حالة الإقرار بأن وضعته لدون ستة أشهر من وقت الإقرار، فلو وضعته لأربع سنين [من حين الإقرار فما فوقها، لم يصرف له شيء، وكذا إن وضعته لأربع سنين]، فما دونها إلى ستة أشهر، وكانت فراشًا لزوج أو لسيد، أو [و] طئت بشبهة في المدة. ولو وضعته لأربع سنين ما دونها، ولم تكن فراشًا لأحد، ولا وطئت في المدة، فقد ألحق العراقيون، والماوردي، والقاضي الحسين ذلك بما لو وضعته لدون ستة أشهر.

وحكى الإمام وغيره في ذلك قولين عن رواية الشيخ أبي علي وغيره. والأصح منهما: الصرف له، كما يحكم بلحوق نسبه.

وفي كل حالة جعلنا المال للحمل، سلمناه إلى وصيه، لكن وجوبًا أو جوازًا؟ قال الفوراني: إن كان قد عزاه إلى إرث، كان فيه الخلاف السابق فيما إذا أقر لشخص بمال، وقال: هذا وارثه، والنص- كما تقدم-: الوجوب.

وقال القاضي أبو الطيب: محله إذا كان الوصي ثابت الوصية، فإن لم يكن من ذكر المقر أنه وصي على الحمل ثابت الوصية، فهو كما لو أقر لشخص بمال، وادعى أن هذا وكيله، لأنه لا يأمن من أن يبلغ الصبي، وينكر الوصاية، فيكون الدفع غير مبرئ كما في الوكيل، قال هذا تخريجًا على المذهب.

قال: ومن أقر [بحق] لآدمي، أي: متمحضًا كديون المعاملات [ونحوها]،

ص: 347

والقصاص، وحد القذف، أو غير متمحض، والمغلب فيه حق الله تعالى: كالزكوات، والكفارات، وحقوق الله تعالى التي لا تسقط بالشبهات، كما قاله في ((المهذب)) وغيره، لم يقبل رجوعه، لأنه حق ثبت لغيره فلم يملك إسقاطه، لما في إسقاطه من الإضرار به، ولأجل هذا قال ابن الصباغ وغيره في باب الشهادة على الحدود: إن الحاكم لا يعرض له بالإنكار فيها، لأن إنكاره لا ينفعه.

نعم، لو صدق صاحب الحق الراجع في رجوعه، بطل الإقرار إذا لم يتعلق بذلك حق الله تعالى وإن تعلق به حق، كما إذا أقر شخص بحرية عبده، ثم رجع عن ذلك، وصدقه العبد- لا يبطل الحكم بالحرية.

وكذلك لو ادعى ملك جارية، وحكم لها بها بيمينه، فأحبلها، فأتت بولد لحقه في ظاهر الأمر، ثم قال بعد ذلك: كذبت في دعواي، ويميني، والجارية ليست لي، وصدقته الجارية على ذلك- لا يحكم بردها على المدعى عيه، كما لا يحكم برق الولد وفاقًا.

وحكى الإمام قبل باب القافة بثلاث أوراق، وجها آخر: أنا نردها إليه، فإن الحق لا يعدو المدعي والجارية.

وقال: إنه لا أصل له، ومثله ما إذا أقر شخص بنسب بالغ عاقل، ثم رجع عنه، وصدقه هل يقبل رجوعه؟ فيه وجهان.

قال: وإن أقر بحد [من حدود] الله تعالى، وهي [حد] الزنى، والسرقة، والمحاربة، وشرب الخمر- قبل رجوعه، أي: سواء استوفى بعضه أو لا، لقوله- عليه السلام:((ادرءوا الحدود بالشبهات))، وهذه شبهة، لأنه يجوز أن يكون صادقًا في الرجوع، و [قد] روى أبو داود عن جابر بن سمرة [أنه] قال: رأيت ماعز بن مالكٍ حين جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا قصيرًا أعضل، ليس عليه رداءٌ، فشهد على نفسه أربع مراتٍ: أنه قد زنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلعلك

)) قال: لا والله، [إنه] قد زنى الأخر، قال: فرجمه، ثم خطب، فقال:

ص: 348

((ألا كلما نفرنا في سبيل الله، حلف أحدهم إنه ينب كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة، [أما]، إن الله تعالى إن أمكنني من أحدٍ منهم إلا نكلته عنهن))، وأخرجه مسلم. وروى أبو داود بسنده عن أبي أمية المخرومي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف اعترافًا، ولم يوجد معه متاعٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما إخالك سرقت؟ قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا، فأمر بقطعه، فقطع)).

وجه الدليل منهما: أن الرجوع لو لم يكن مقبولًا، لما كان للتعريض فائدة، وإذا ثبت ذلك في الزنى والسرقة، ففي المحاربة والشرب بالقياس عليهما.

وفائدة الرجوع عن الإقرار بالسرقة سقوط القطع، وعن الإقرار بالمحاربة إذا وجد القتل فيها بالحتم دون سقوط المال وأصل القتل، كما صرح به القاضي الحسين في باب حد الزنى.

ومنهم من قال: كما لا يسقط المال لا يسقط القطع في السرقة والمحاربة، لتعلقهما بحق الآدمي من حيث كونه صيانة له، ولهذا جرى الخلاف في أن المعاهد هل يقطع في سرقة مال المسلم وإن كان لا يحد في الزنى؟

قال الماوردي: وعلى هذا إذا هرب السارق يطلب. وهذه طريقة القاضي الحسين، وقد حكى الإمام في كتاب السرقة طريقة أخرى، وهي أن القطع يسقط وهل يسقط المال؟ فيه قولان، [تشبيهًا لذلك بإقرار العبد بالسرقة، فإن إقراره في وجوب القطع مقبول، وفي المال قولان]، [والصحيح] وإليه ذهب طوائف

ص: 349

من المحققين: سقوط القطع، وثبوت الغرم.

قال الإمام: والذي يوضح ذلك: أن ضمان السارق المال يسبق استيجابه القطع، فإنه إذا ثبتت يده على مال الغير، ضمنه بالعدوان، ثم يستوجب القطع بالإخراج من الحرز، وليس كإقرار العبد، فإن سبب قبول إقراره عدم التهمة، ولولا ذلك لما قبلنا إقراره في القطع، وفيه إتلاف طرف مملوك للسيد.

ولو أقر رجل بأنه استكره [على] الزنى، فالمهر والحد واجب عليه بإقراره، فلو رجع عنه لم يسقط المهر، وفي سقوط [حد الزنى جوابان للقاضي:

أحدهما: يحتمل أن يكون كحد السرقة.

ويحتمل أن يقال: يسقط] الحد قولًا واحدًا، لأن وجوب الحد ينقل عن المهر، ووجوب القطع لا ينقل عن مطالبة برد عين أو غرم، فارتباط القطع بالمال أشد من ارتباط الحد بالمهر.

قال الإمام: ومن سلك الطريقة الأخرى في حد السرقة، وقال: إذا سقط الحد، ففي سقوط الغرم خلاف قد يلتزم مثل هذا هنا، فيقول بسقوط الحد، وفي سقوط المهر تردد.

قلت: ويقوي هذا أن القاضي قال في باب حد الزنى: لو قال: زنيت بفلانة، أو: بفلان، هل يحد لأجل الذي قذفه؟ فيه خلاف.

وجه المنع: أن المقصود هو الإقرار بالزنى.

وعلى مقابله: إذا رجع عن الإقرار، سقط حد الزنى، وهل يسقط حد القذف؟ فيه وجهان، بناء على ما لو أقر بالسرقة، ثم رجع يسقط القطع، وفي الغرم خلاف.

ووجه اشبه: أن المقصود هاهنا الإقرار بالزنى دون القذف، وفي السرقة المقصود حق الآدمي بالإقرار، فمتى رجع عن المقصود، ففي التابع قولان.

ص: 350

واعلم أن كيفية الرجوع عن الإقرار أن يقول: كذبت في إقراري، أو: لم أزن، أو: قد رجعت عن إقراري، وكذا لو قال: لا حد علي.

قال الماوردي: مع احتمال فيه.

وحكى الإمام في كتاب اللعان عن شرذمة أن قوله: ما زنيت، لا يكون رجوعًا إلا أن ينبني الرجوع بعد الاعتراف بالإقرار.

ولو قال: لا تحدوني، قال الماوردي: لم يكن رجوعًا، لأنه يحتمل أن يريد به العفو والإطلاق، أو أن ينظر لأجل قضاء دين، أو وصية، أو أداء قرض، إلا أنه يسأل عن ذلك بعد الكف عنه، فإذا بين عن مراده، حكم بموجبه.

وفي ((تعليق)) القاضي الحسين وغيره فيما إذا قال: لا تقيموا الحد علي حكاية وجهين في كونه رجوعًا، وحكاهما الإمام عن صاحب التقريب، وقال: الأظهر: [أنه] لا أثر لذلك، وأنهما جاريان فيما إذا امتنع من الاستسلام.

ولو قال بعد شهادة الشهود على إقراره، أو حكم الحاكم به: ما أقررت- ففي ((تعليق)) القاضي الحسين: أنه لا يكون رجوعًا، وهو الذي حكاه الإمام في كتاب

ص: 351

اللعان، وطرده فيما إذا قال: هما كاذبان.

وعن أبي إسحاق وأبي الطيب: أنه كما لو قال: رجعت، أو ما زنيت.

تنبيه: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول: نكلته أي منعته عنهن.

ونبين التيس: صوته عند السفاد، يقال: نب التيس نبا، إذا صاح [وهاج] وهو بفتح النون، وتشديد الباء الموحدة.

والكثبة: اللبن القليل، وقيل: هي القليل من كل [شيء] جمعته من طعام وغيره.

والأخر في قول ماعز- بقصر الهمزة، وكسر الخاء- معناه: الأبعد، على الذم، وقيل: الأرذل، ومنه:((المسألة أخر كسب الرجل))، أي: أرذله وأدناه.

وقوله- عليه السلام في الحديث الآخر: ((ما إخالك))، أي: ما أظنك، وهو بالكسر، والفتح، لكن الكسر أفصح، والفتح هو القياس.

قال: ويستحب للإمام أن يلقنه الرجوع عن ذلك، أي: بالتعريض إذا رأى منه آثار الندم، كما قاله الماوردي، لما ذكرناه من الأخبار.

وقد يتمسك لظاهر قول الشيخ بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أسرقت؟ قل: لا)) لكن قد قال الإمام: إن بعض أهل الحديث لا يصحح هذه الرواية.

وقد صرح في ((الشامل)) بأن الشافعي قال: لا يأمره بالرجوع صريحًا لأنه يكون أمرًا بالكذب، وهو ما حكاه البندنيجي وغيره.

وعن المحاملي أنا لا نقول: إن التلقين مستحب، بل هو بماح، وهو مخير بين فعله وتركه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض لماعز، وكان تركه لذلك أكثر، ولو كان مستحبًا لما كان تركه أكثر، وهذا ما حكاه في ((الشامل)) وغيره في باب الشهادة على الحد عن الشافعي.

ونسب في ((البحر)) ما ذكره الشيخ إلى بعض الخراسانيين، [و] قال: إنه خلاف النص.

وفي ((النهاية)) في كتاب السرقة: أن من أقر بموجب حد، فهل يشبب القاضي بالرجوع عن إقرار؟ فيه تردد، وما ذهب إليه الجمهور: أنه لا يفعل ذلك.

ص: 352

ومن أصحابنا من قال: له ذلك.

ومنهم من قال: إن كان المقر ممن يعلم أن الرجوع عن الإقرار يسقط الحد لم يشبب.

وإن كان ممن يجهل ذلك، فلا بأس، وهذا ما أورده ابن الصباغ وغيره عن نصه في ((المختصر)).

ثم قال الإمام في آخر الفصل: ولعل الأصح الجواز، لقوله- عليه السلام: ((ما إخالك سرقت

)).

وقد خص الماوردي محل الجواز بما قبل الإقرار، فأما بعده فلا، إذ الستر متخصص بما قبل الظهور، وهذا مأخوذ من قول القاضي الحسين: ويستحب للقاضي أن يعرض به حتى لا يقر بما يوجب عليه القطع، ويقر بالمال.

ثم كيفية التعريض في الزنى: أن يقول: لعلك قبلت، لعلك لمست، ونحو ذلك. وفي السرقة: ما إخالك سرقت، أو لعلك سرقت من غير حرز.

وفي الشرب: لعلك لم تشرب مسكرًا، أو: لعلك شربت عصيرًا، أو لعلك لم تعلم ما هو.

[و] قال الإمام في كتاب السرقة: إنه يجري مسألة الرجوع بحضرته، ويذكر الحكم فيها.

واعلم أنه يستفاد من قول الشيخ: ويستحب للإمام أن يلقنه الرجوع عن ذلك استحباب الرجوع للمقر.

وقد حكى القاضي الحسين وغيره في استحبابه وجهين:

ووجه عدم الاستحباب قوله صلى الله عليه وسلم: ((لحد يقام في أرضٍ بحقٍ أزكى من مطر أربعين خريفًا)).

ووجه الاستحباب: القياس على الابتداء، فإن المستحب له ألا يقر، وهو ما حكيناه عن الشافعي في آخر الخمر.

ص: 353

وفي ((الحاوي)) في كتاب السرقة: أن الإقرار بحد الله تعالى: كالزنى، والسرقة، والشرب، هل يستحب أم لا؟ قال الشيخ أبو حامد- وهو الذي حكاه البندنيجي- إن لم يتكرر ذلك منه، و [لا] كان مشهورًا به فالمستحب له أن يكتمه ولا يقر به. وإن تكرر منه، وكان مشهورًا به، فالمستحب له أن يقر ولا يكتمه. قال: وليس لهذا الفرق وجه، والصحيح: أنه ينظر: فإن تاب منه، فالمستحب له أن يقر ولا يكتمه. قال: وليس لهذا الفرق وجه، والصحيح: أنه ينظر: فإن تاب منه، فالمستحب له أن يكتمه على نفسه، ولا يقر به، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى من هذه القاذورات شيئًا، فليستتر بستر الله

))، وهذا الحديث متفق على صحته كما قال الإمام.

وإن لم يتب، فالأولى أن يقر [به]، لأن في إقامة الحد تكفيرًا وتطهيرًا.

قلت: وفيما ذكره نظر يظهر لك إذا تأملت ما حكيناه فيما تحصل به التوبة، ثم إن صح فيظهر مجيئه في الرجوع من طريق الأولى.

وقد أغرب الإمام، وأبدى احتمالًا في وجوب الإقرار بالحد إذا قلنا: لا يسقط بالتوبة، وهو ظاهر، لأن استيفاءه شرط في صحة التوبة كما تقدم، والتوبة واجبة على الفور، والله أعلم.

فروع:

أحدهما: إذا استحببنا التعريض للمقر بالرجوع، وأبحناه، فهل يعرض الحاكم للشهود [بالحد]، بالتوقف عن الشهادة؟ فيه وجهان في ((البحر)):

أحدهما: لا، لأنه يعود إلى قدح في شهادتهم.

والثاني: يجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((هلا سترته بثوبك يا هزال)).

وقال عمر لزياد حين حضر لشهادته على المغيرة بالزنى: أيها يا سرح العقاب أرجو ألا يفضح الله على يديك أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: والأول أصح [عندي].

الفرع الثاني: إذا أقر بالزنى، لكنه قال:[إني] حددت- قال في ((البحر)) قبيل كتاب الشهادات: يحتمل أن يقال: لا يقبل قوله، لأنه يدعي استيفاء ما وجب عليه، فلا يقبل إلا ببينة، لإمكانها، بخلاف الرجوع عن الإقرار به. ويحتمل

ص: 354

أن يقال: يقبل، لأنه لو لم يقبل قوله في استيفاء الحد، لم يقبل في الرجوع، كما في الأموال، ويؤكد ذلك أنه لو أقر بالزكاة، ثم رجع لا يقبل، ولو ادعى دفع الزكاة إلى ساع آخر، قبل.

الفرع الثالث: إذا أقر بالزنى، ثم قامت البينة عليه [ثم رجع]، قال القاضي: قال ابن المرزبان: سقط الحد.

وحكى القاضي ابن كج فيه وجهين عن أبي الحسين بن القطان:

أحدهما: هذا، وعزاه إلى أبي إسحاق.

والثاني: أنه يقام، لبقاء حجة البينة، وإن بطلت حجة الإقرار، كما لو شهد ثمانية فرجع أربعة.

ولو قامت البينة عليه بالزنى، فروجع، فقال: صدق الشهود، ثم رجع عن الإقرار، قال القاضي الحسين: قال أبو إسحاق: سقط الحد، لأنه ثبت عليه بإقراره، ولا حكم للبينة مع الإقرار، والدليل عليه: أنه أمكن تكذيب الشهود، والطعن فيهم، فحيث ترك، ثبت ذلك بإقراره، وهذا قضية ما حكيناه عن القاضي أبي الطيب في مقدمة هذا الباب.

وقال غيره: هذا غلط، ولا يسقط الحد، لأنه ثبت بالبينة.

وفي ((الحاوي)) أنه لو اجتمع في حدود الله تعالى الإقرار بها والشهادة، فقد اختلف أصحابنا: هل تختص إقامتها بالإقرار، أم بالشهادة؟ على وجهين:

أحدهما: بالإقرار، عليه إن رجع عن إقراره، سقط عنه الحد.

والأصح من إطلاق هذين الوجهين عندي: أن ينظر في اجتماعهما:

فإن تقدم الإقرار على الشهادة، كان وجوب الحد بالإقرار، ويسقط بالرجوع.

وإن تقدمت الشهادة، كان وجوب الحد بها، ولم يسقط بالرجوع.

الفرع الرابع: إذا قتله قاتل بعد الرجوع عن الإقرار بالزنى، ففي وجوب القصاص عليه وجهان، رواهما ابن كج، والأصح: أنه لا يجب، وبه قال أبو إسحاق، لاختلاف العلماء في أنه هل يسقط بالرجوع.

الفرع الخامس: إذا رجع بعد ما جلد [بعض الجلد] فأتم الإمام الجلد،

ص: 355

ومات منه، والإمام ممن يرى سقوط الحد بالرجوع- فعن أبي الحسين رواية قولين في وجوب القصاص:

فإن قلنا: لا يجب، فيجب نصف الدية، أو توزع على السياط؟ فيه قولان.

قال ابن [كج]: وعندي [أنه] لا قصاص قولًا واحدًا، لأن الزهوق حصل من مباح ومحظور.

قال: وإن أقر العربي بالعجمية، ثم ادعى أنه لم يعرف، أي: وأمكن صدقه- قبل قوله مع اليمين، لأن الظاهر معه.

وهكذا لو أقر العجمي بالعربية ثم ادعى أنه لم يعرف.

وقد أفاد ما ذكره الشيخ أن الإقرار يصح بالعجمية كما يصح بالعربية، كما صرح به غيره.

قال: وإن أقر بمال، أي: دينا في ذمته، أو عن ثمن ما باعه، أو بهبة وإقباض، ثم ادعى أنه [أقر] بالمال على وعد، ولم يقبض، أي: بفتح الياء آخر الحروف، وكسر الباء ثانية الحروف، أو وهب، ولم يقبض، أي: بضم الياء، وكسر الباء، وطلب يمين المقر له، حلف على المنصوص، لأن ما ادعاه ممكن، فإن الناس يتعاملون ويشهدون قبل التقابض، فحلف لهذا الاحتمال، فإن امتنع من اليمين، حلف المقر، وبطل الإقرار.

ومقابله: أنه لا يحلف، إلا أن يبدي المقر عذرًا في الإقرار، فيحلف.

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن المنصوص التحليف في صورة الإقرار بالمال، والإقرار بالهبة والإقباض، والذي حكى الأصحاب النص فيها مسألة الهبة، وقالوا: إن ابن سريج وسائر الأصحاب عليه، وإن أبا إسحاق، وأبا علي بن أبي هريرة قالا بمقابله، وإنهما حملا النص على ما إذا أبدى عذرًا في إقراره، بأن ادعى أنه اعتمد في القبض على كتاب وكيله، فظهر أنه مزور، أو أطلق الإقرار بالقبض، لاعتقاده أن الإقباض بالقول، وهو قوله:((أقبضتك)) كاف، فإن له في هذه الحالة التحليف.

وألحق العراقيون مسألة الإقرار بالمال بالمسألة المنصوص [عليها]، فلذلك

ص: 356

سوى الشيخ بينهما، واقتضى كلامهم أن الراجح في الصورتين التحليف، ويؤيده أنهم قالوا- وكذلك المراوزة: إن حكم مسألة الإقرار بالهبة والإقباض حكم الإقرار بالرهن والإقباض حرفًا بحرف.

والصحيح عندهم في مسألة الرهن- كما قال ((الرافعي)) في كتاب الرهن- التحليف وإن كان الصحيح عند المراوزة مقابله.

وقد ادعى الإمام هاهنا أن ظاهر المذهب في مسألة الإقرار بالمال على وعد- عدم التحليف، وهو مقتضى كلام القاضي الحسين أيضًا، وأن ظاهر النص في مسألة الهبة: التحليف، وقد تنخل لك مما ذكرناه: أن المقر [إن] أبدى عذرًا في إقراره فله التحليف جزمًا هنا وفي مسألة الرهن، وإن لم يبد عذرًا فوجهان.

وفي ((الوسيط)) في كتاب الرهن: أنه لو شهدت بينة على الراهن: أنه أقر بالإقباض، فقال: صدقوا، ولكني كذبت في الإقرار، ففي قبول دعواه ثلاثة أوجه، الثالث- وهو الأعدل-: إن قال: غلطت لوصول كتاب الوكيل لي، أو أشهدت على الرسم في القبالة قبل التحقيق، فيسمع حتى يحلف الخصم.

وإن قال: كذبت عمدًا، فلا يسمع، وقضية هذا أمران:

أحدهما: إجراء الوجهين مع إبداء العذر، وهو موافق لما نقله أيضًا فيما لو تكفل، ثم قال: كنت أبرأت قبل كفالتي، ولم أعرف، فهل تسمع دعواه للتحليف؟ فيه وجهان يجريان في كل دعوى محتملة يناقضها عقد سابق، وكقوله في كتاب النكاح: إذا ادعى الراهن بيعًا قبل الرهن، وزعم أنه اعتمد- أي: في الرهن- على كتاب وكيله: أنه لم يبع، ثم بان أنه مزور- تقبل دعواه في وجه.

والثاني: إجراء وجهين مع تعمده الكذب، وقد قال هاهنا: ولا خلاف أنه لو قال: كذبت من غير تأويل، لم تقبل دعواه.

وظاهر هذا التناقض إلا أن يحمل ما ادعاه من نفي الخلاف على ما إذا كان الإقرار بالرهن والإقباض في مجلس القضاء بعد توجه الدعوى عليه، وما ذكره من الخلاف على ما إذا كان الإقرار عند الشهود، ويستأنس في ذلك بما حكاه الشيخ أبو محمد عن القفال: أن محل التحليف- إذا رأيناه- إذا قامت الحجة

ص: 357

على إقراره عند التقاضي بالرهن والإقباض، أما إذا أقر في مجلس القضاء بذلك بعد توجه الدعوى عليه، فلا يتمكن من التحليف وإن ذكر لإقراره تأويلًا، لأنه لا يكاد يقر عند القاضي إلا عن تحقيق.

والمحكي عن غير القفال: أنه لا فرق، لشمول الإمكان.

ولا خلاف أن الشهود لو شهدوا بمعاينة الإقباض، فادعى عدمه، ورام التحليف: أنه لا يجاب إليه، لما فيه من الطعن في الشهود.

وكذا لو ادعى أنه أقر بالدين، [لعزمه] على إتلاف يصدر [منه] في المستقبل به، ورام التحليف على عدم صدوره منه- لا يجاب إليه بلا خلاف، لعدم جريان العادة بمثله، صرح به القاضي والإمام. وهذا يقوي دعوى الغزالي نفي الخلاف في حالة تعمد الكذب، والله أعلم.

التفريع:

إذا قلنا بالتحليف فيما إذا كان قد أقر بقبض ألف [درهم] ثمن ما باعه، وادعى أنه لم يقبضه: فإن كان المشتري قد أقبضه الثمن، حلف عليه، وإن كان قد أقبضه عوضًا عنه، فلا يمكنه الحلف على إقباضه الثمن، لأنه كذب.

قال القاضي الحسين: فيحمل في كيفية حلفه وجهين:

أحدهما: يحلف على الإجمال، ويقول: بالله لا يستحق علي ألف درهم، لأنه لو حلف على إيصال عوض الألف إليه، لم يقبل منه، وينتقل اليمين إلى جنبة البائع.

[والثاني: له أن يحلف على إيصال عوض الألف إليه، ولا تنتقل اليمين إلى جنبة البائع]، لقوة جانبه بإقرار البائع.

وقد حكى الإمام الوجهين هكذا- أيضًا- وأصلهما: أن من أقر لشخص بدين، ثم قال: أقررت به على وعد، فقال المقر له: بل هو عوض من غير عين بعتها منك، وسلمتها إليك، وأنكر ذلك، فمن القول قوله مع اليمين منهما؟ وفيه وجهان حكاهما القاضي قبيل باب القافة ووجه قبول [قول] المقر له اعتضاده

ص: 358

بإقراره المقر، وهذا هو الصحيح، وبه جزم في الإشراف، وقد تقدم في كتاب الرهن عند الكلام في رهن المرهون بدين آخر عند المرتهن مثل هذين الوجهين، وأن اختيار البغوي منهما قبول قول المقر.

ولا شك في أن المقر له بالدين أو أعرض عما قاله عند توجه الدعوى عليه إذا رأيناها، وحلف أنه يستحق عليه ما ادعاه، كفى، صرح به القاضي.

قال: وإن وكل غيره في أن يقر عنه بمال، لزمه المال وإن لم يقر الوكيل، لأنه لا يأمر غيره أن يخبر عنه بشيء إلا وهو ثابت، ولهذا قلنا: لو قال: بعني هذه العين، كان إقرارًا [له] بالملك على الأصح، لأنه لا يطلب البيع منه والملك فيه للغير.

وقد أطلق الإمام القول في المسألة- كما أطلقه الشيخ- عند الكلام فيما إذا قال: أنا أقر لك بما تدعيه.

وغيره قال: إن هذا مفرع على قولنا: إن الوكالة باطلة، كما هو اختيار ابن سريج.

أما إذا قلنا بصحتها- كما هو ظاهر النص- لم يلزمه حتى يقر الوكيل [وإلا لم يكن للصحة معنى.

وقيل: لا يلزمه بمجرد التوكيل]، وإن قلنا ببطلان الوكالة- أيضًا- كما لو أخبر فلانًا أن له علي كذا، فإنه لا يكون إقرارًا له، كما حكاه في ((الزوائد)) عن ((العدة)).

وقد استقصيت الكلام في هذه المسألة في الوكالة على أبلغ وجه، فليطلب من ثم.

فرع: الوكيل بالخصومة إذا قال: المدعي أبرأ موكلي من هذا الحق، لا يكون إقرارًا من جهة الموكل، لأن عندنا لا يقبل إقرار الوكيل على الموكل، ولكن هل تسمع هذه الدعوى من الوكيل؟ فيه وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين قبيل باب القافة.

أحدهما: لا، لأن في ضمنها إقرارًا بالحق، فيكون فيه عزل الوكيل، لأنه إذا وجد الإقرار من صاحب الحق، أو من الوكيل- انعزل، والأصح القبول.

ص: 359

قال: ومن أقر لرجل بمال وكذبه المقر له، انتزع المال [من يده]، وحفظ- أي: إلى [أن] يظهر مالكه- لأنه لا يدعيه، وكذلك المقر له، فهو كالمال الضال يلزم الإمام حفظه.

وعلى هذا: لو رأى الحاكم استحفاظ المقر، فهو كما استحفظه عدلًا، قاله ((الرافعي)).

وقيل: يقر في يده، لأنا لا نعرف مالكه، ونراه في يد المقر، فهو أولى الناس بحفظه.

قال ((الرافعي)): ولأن يده تشعر بالملك ظاهرًا، والإقرار الطارئ عارضه إنكار المقر له، فسقط، وهذا ما ادعى القاضي الحسين: أنه ظاهر المذهب، ولأجله قال الإمام: إنه الذي ذهب إليه الأكثرون، وقد صححه النواوي.

ثم ما ذكره ((الرافعي)) من التوجيه يقتضي أنه يقر في يده لنفسه، لا لغيره [و] قد صرح به [في] ((المهذب)) حيث قال في توجيه هذا الوجه: إنه محكوم له بملكه، فإذا رده المقر له بقي على ملكه.

وقد حكيت عن الإمام في باب الدعاوى: أنه لو ادعى- على قولنا إنه يقر في يده- أنه ملكه، لم تقبل دعواه على ظاهر المذهب.

وعلى وجه: تقبل بشرط أن يصر المقر له على الإنكار والجحد، وهو ما ادعى ((الرافعي)) هنا أن قضية كلام الأكثرين ترجيحه، ويعزى لابن سريج.

فإذا جرى هذا الخلاف مع الدعوى، فمع عدمها أولى، وقد قدمت في هذه المسألة ثم ما يغني عن الإعادة، وكذا فيما إذا رجع المقر له عن التكذيب.

وقد حكي في أصل المسألة وجه ثالث: أنه يجبر المقر له على القبول والأخذ، وقد ذكرنا من قبل توجيهه، وهو بعيد.

ثم ظاهر كلام الشيخ وغيره يقتضي أن محل الخلاف ما إذا أقر بالعين، وهو ما صرح به القاضي الحسين والإمام و ((الرافعي)).

أما إذا أقر بالدين، فقد ذكرنا عن القاضي أبي الطيب [في باب الدعاوى]

ص: 360

[والإمام] ما يقتضي الجزم بأنه لا ينزع، وهو ما حكاه القاضي الحسين في ضمن مسألة أولها: إذا قال: لزيد علي ألف إلا نصف ما لابنه، وهو قضية ما حكيناه عن البغوي في هذا الباب من قبل.

وقد ادعى ابن يونس: أنه لا فرق في جريانه بين العين والدين، وقد قلنا ثم: إنه وجه استنبطانه من كلام ((الرافعي)).

ولا خلاف أن المقر به لو كان قصاصًا، أو حد قذف، فرده المقر له، بطل.

فرع: لو قال القاضي: في يدي مال لا أعرف مالكه، قال الشيخ أبو محمد: الوجه القطع بأن القاضي يتولى حفظه.

وأبعد بعضهم، فلم يجوز انتزاعه.

فرع آخر: إذا ادعى على رجل ألفًا من ثمن مبيع، فقال المدعى عليه: قد أقبضتك الألف، وأقام بينة على إقراره بالقبض يوم كذا، فأقام المدعي بينة على

ص: 361

إقرار المشتري بعد بينته بأنه ما أقبضه الثمن- سمعت، وألزم المشتري الثمن، لأنه وإن قامت بينة على إقراره بالقبض، فقد قامت- أيضًا- على أن صاحبه كذبه، فيبطل حكم الإقرار، ويبقى الثمن على المشتري، وعلى هذا لو أقام شخص بينة على إقرار الداخل بأن هذا الشيء الذي فلي يده له، ثم أقام صاحب اليد بينة على إقرار المدعي الخارج: أنه لا حق فيه فيه، ولم يذكر التاريخ- قال في ((البحر)) في الفروع قبيل كتاب الشهادات: يحتمل أن يقضي ببينة الخارج، لأن قوله: لا حق له فيه، إنما بنى- كما علقناه- على الأصل: أنه لا حق له فيه، فكما [أن] علمنا بهذا الأصل لا يمنع من القضاء بشهود الخارج على إقرار صاحب اليد، لم يكن قول المدعى عليه إذا وافق هذا الأصل مانعًا منه. قال: ومما يبين هذا أن هذه الدعوى لو كانت بدين في الذمة، فأقام المدعي بينة على إقرار المدعى عليه بكذا، وأقام الآخر بينة على إقرار المدعي: أنه لا حق له عليه- لم تكن هذه البينة دافعة لبينة المدعي، لما ذكرناه من المعنى.

قال: ومن ادعى على رجل حقًا، فقال: أنا مقر، أو أقر أو لا أنكر- لم يلزمه: أما في الأولى، فلاحتمال أن يريد أنا مقرٌ بأن الله واحد، أو ببطلان دعواك. وأما في الثانية، فلاحتمال أن يريد الوعد بالإقرار. وأما في الثالثة، فلاحتمال أن يريد: لا أنكر أنك مبطل في دعواك، وهذا قول الشيخ أبي حامد، ولم يورد القاضيان: أبو الطيب، والحسين غيره.

وقيل: إنه يجعل مقرًا بقوله: أنا مقر.

قال في ((الحاوي)): وهو أصح.

ولو قال: لا أقر، ولا أنكر، فهو كما لو سكت، فتعرض عليه اليمين، فإن أجاب، وإلا جعله ناكلًا.

ولو قال: زن، أو زنه، أو استوف، أو استوفه- ففيما وقفت عليه من ((تعليق)) القاضي الحسين: أنه يكون مقرًا وفي الحاوي و ((النهاية)) و ((المهذب)): أنه لا يكون مقرًا بقوله: اتزن، وفي قوله: اتزنه، وجهان:

الذي اختاره أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا- كما قال الماوردي. والمصنف- أن يكون مقرًا.

ص: 362

ونسب الإمام ومن تبعه هذا إلى صاحب ((التلخيص)).

والذي اختاره جمهور الأصحاب: أنه لا يكون إقرارًا، لأنه قد يزن ما لا يجب عليه.

قال الإمام: والوجه القطع به، كما في الأولى، فإنه ليس في واحدة منهما ما يشعر بالإلزام، وهذا ما أورده في ((الوجيز)).

والتفصيل والخلاف يجري فيما إذا قال: خذ، أو: خذه، أو: صحاح، أو: هي صحاح، كما قاله الماوردي والمصنف.

قال: وإن قال: أنا [مقر بما تدعيه، لزمه، إذا لا يحتمل ذلك غير الإقرار، [وكذا لو قال: لست منكرًا لما تدعيه]، أو: لست منكرًا أن تكون محقًا فيما تدعيه دون ما إذا قال: لا أنكر أن تكون محقًا، لجواز أن يريد في شيء آخر.

قال: وإن قال: أنا] أقر بما تدعيه، لم يلزمه، لأنه عد بالإقرار، وهذا ما أجاب به القاضي الحسين، والروياني، وغيرهما.

قال القاضي [الحسين]: ويخالف قول الشاهد: أشهد، فإنه محمول على الإقامة وإن كانت صيغته صيغة العدة، لأنه لا يتأتى إقامة الشهادة إلا بهذا اللفظ، بخلاف الإقرار.

وقيل: يلزمه، لأن قرينة الخصومة، وتوجه الطلب، يشعر بالتنجيز، وهذا- كما قال ((الرافعي)) - لا يحكى إلا نادرًا، وقد نسبه الإمام إلى الأكثرين، واختاره.

قال ((الرافعي)): ويعضد ترجيحه: أنهم اتفقوا على أنه لو قال: لا أنكر ما تدعيه، كان إقرارًا غير محمول على الوعد، لكن رأيت بعض أصحاب أبي عاصم أجاب عن هذا الإلزام بأن العموم إلى النفي أسرع منه إلى الإثبات، ألا ترى [أن] النكرة في معرض النفي تعم، وفي معرض الإثبات لا تعم ولك أن تقول: هب أن هذا الفرق بين، لكنه لا ينفي الاحتمال، وقاعدة الإقرار الأخذ باليقين.

قال الإمام: وبتقدير حمله على الوعد، فالقياس: أن الوعد بالإقرار إقرار، كما

ص: 363

أن نقول: التوكيل بالإقرار إقرار، وقد يظهر الفرق بينهما.

قال: وإن قال: بلى، أو: نعم، أو: أجل- لزمه، لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق، وكذا لو قال: لعمري، كما قاله في ((الحاوي))، و ((المهذب)).

قال ((الرافعي)): ولعل العرف يختلف فيه، ومن طريق الأولى أن يكون مقرًا إذا قال: صدقت وقد صرح به ((الرافعي)).

لكن هاهنا مباحثة، وهي أن اللفظ وإن كان صريحًا في التصديق، فقد تنضم إليه قرائن تصرفه عن موضوعه إلى الاستهزاء، والتكذيب، ومن جملتها الأداء والإيراد وتحريك الرأس الدال على شدة التعجب والإنكار، فيشبه أن يحمل قول الأصحاب: إن قوله: صدقت، وما في معناه يكون إقرارًا على غير هذه الحالة.

فأما إذا اجتمعت القرائن، فلا يجعل إقرارًا، ويقال: فيه خلاف، لتعارض اللفظ والقرينة، كما لو قال: لي عليك ألف، فقال في الجواب- على سبيل الاستهزاء-: لك [علي] ألف، فإن المتولي حكى فيه وجهين.

قلت: ويعضده أن القاضي الحسين حكى قبيل باب إقرار الوارث أن العراقيين من أصحابنا قالوا: إذا خاطب المولى مملوكه عند توبيخه بقوله: يا حر، إنه لا يعتق به، فإنه مبالغة في نفي الحرية، ومثله أن يقول لمن يريد تكذيبه: أنت صادق بمرة.

ولو قال المدعي: أليس لي عليك ألف؟ فقال: نعم- لا يكون إقرارًا.

ولو قال: بلى، كان إقرارًا.

ص: 364

والفرق: أن ((نعم)) لتقرير الكلام السابق، [و ((بلى)) لنفي الكلام السابق] وإثبات ما بعده، والسابق هنا نفي، فلذلك كان ((نعم)) مقررًا له، و ((بلى)) مقررًا للإثبات.

وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]: إنهم لو قالوا: [نعم]، كفروا. وهذا ما أورده [القاضي] أبو الطيب في أول الباب، والقاضي الحسين، وتبعه البغوي، وغيره.

وعن الشيخ أبي محمد، وبه أجاب المتولي: أنه يكون مقرًا بقوله: نعم كما في قوله: بلى، وهو الذي رجحه الإمام، ومن تبعه، لأن الإقرار يحمل على مفهوم أهل العرف لا على دقائق العربية.

ولو قال: لعل ما تقوله علي، أو: عسى، أو: أظن، أو: أحسب أو: أقدر لم يكن إقرارًا.

نعم: لو قال: هل لي عليك ألف، فقال: نعم- كان مقرًا.

وكذا لو: اقض الألف الذي عليك، فقال: نعم- كان إقرارًا.

قال [في ((المهذب))]: وجهًا واحدًا.

وقال في الزوائد: إن الطبري قال: ذكر شيخنا في رءوس المسائل: أنه لا يكون إقرارًا في أحد الوجهين، وهما جاريان- كما قال في العدة- فيما إذا قال: أعطني الألف الذي لي عليك، فقال: ما أكثر ما تتقاضى أو: لقد هممت أو: ليست بحاضرة.

وكذا فيما لو قال: والله لا قضيتكه.

ولو قال: غدًا، لم يكن إقرارً.

ولو قال: اشتر عبدي هذا، فقال: نعم، كان إقرارًا قاله في ((المهذب)) وغيره.

قال ((الرافعي)): ويشبه أن يجري فيه الخلاف السابق في الصلح فيما إذا قال: بعني.

ولو قال: اشتر مني هذا العبد، فقال: نعم، ففي ((الوجيز)): أنه إقرار، وهو محمول على التصوير السابق كما ذكره في ((الوسيط))، لا على هذه الصورة، فإن

ص: 365

الحكم فيها- كما قال ((الرافعي)) - أنه إقرار بمالكية البيع لا بمالكية المبيع.

ولو قال: لي عليك مائة، فقال: إلا درهمًا، أو: إلا دانقا، ففي كونه مقرا بما عدا المستثنى وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين.

ولو قال: مالك علي أكثر من مائة، ففي لزوم المائة له وجهان في ((الرافعي))، والراجح: عدم اللزوم، وبه أجاب في العدة، ويشبه أن يجري مثلهما فيما لو قال: ما لك إلا مائة، أخذًا مما حكيناه فيما إذا حلف لا يأكل إلا هذا، هل يحنث إذا لم يأكله أم لا؟ وفيه خلاف.

قال: وإن قال: [له] علي ذلك إن شاء الله، أو: إن شئت، لم يلزمه، لأن هذه الصيغة تستعمل للإلزام في المستقبل، ألا ترى أنه لو قال: لك علي كذا إن رددت عبدي، كان ذلك إلزامًا في المستقبل، ولأن الإقرار إخبار عن حق سابق، فلم يصح ((تعليق)) وجوبه على الشرط، لأن الشرط يطلب للاستقبال.

وهكذا الحكم فيما لو قال: استوفيت ما على مكاتبي إن شاء الله، كما قاله في ((الذخائر)) في كتاب النذر عن رواية صاحب ((التخليص)).

وعن صاحب ((التقريب)): أن من الأصحاب من جعل قوله: علي ألف إن شاء

ص: 366

الله، على الخلاف فيما إذا قال: علي [ألف] من ثمن خمر، لأنه لو اقتصر على [أول الكلام لكان إقرارًا جازمًا].

وقال الإمام: [والوجه تخريج الخلاف] فيما لو قال: [له] علي ألف إن شئت، أي: وإن لم يخرج في قوله: إن شاء الله، [لأنه نفي بآخر كلامه مقتضى أوله، وليس ذلك كقوله: إن شاء الله] فإنه يجري في الكلام كالتردد بخلاف ((التعليق)) بمشيئة غيره.

ولا خلاف في أنه لو قال لزوجته: أنت طالق إن شاء الله تعالى، لا يقع شيء، لأن الطلاق قابل ((للتعليق)) على الجملة، بخلاف الإقرار.

ولو قال المعسر: لفلان علي ألف درهم إن رزقني الله مالا، قيل: ليس بإقرار، بل ((تعليق)).

وقيل: هو إقرار، وذلك بيان لوقت الأداء.

قال ((الرافعي)): والأصح: أنه يستفسر، فإن فسر بـ ((التعليق)) لغا وإن فسر بالتأجيل صح.

ولو قال: له علي ألف إن مت، ففي الزوائد عن العدة: أنه لا يلزمه شيء، كما لو قال: علي ألف إن هب الريح، أو: مات أبي.

قال: وإن قال: إذا جاء رأس الشهر، فله علي ألف، [لم يلزمه، لما بيناه.

وإن قال: له علي ألف إذا جاء رأس الشهر]، فقد قيل: يلزمه، لأنه جزم بالإقرار أولًا، وما بعده يحتمل أنه ذكره لمعرفة المحل، فصار كما لو قال: له على ألف مؤجل إلى شهر، وهذا هو المنصوص، وبه جزم [القاضي] الحسين وابن الصباغ والمتولي.

ص: 367

وعلى هذا هل يقبل قوله في الأجل؟ سيأتي الكلام فيه.

وقيل: لا يلزمه، لأن ما أتى به ((تعليق))، إذ لا فرق بين تقدم الشرط وتأخره، كما تقدم ذكره في كتاب الطلاق، وهذا ما صححه النواوي.

وبعضهم قال- لأجل هذا- بجريان الخلاف في المسألة قبلها.

قال: وإن قال: إن شهد شاهدان [فله علي] ألف، لم يلزمه، [لأنه]((تعليق)).

وكذا الحكم فيما لو قال: له علي ألف إن شهد شاهدان، أو قال: له علي ما في حسابي، أو: ما خرج بخطي، أو: ما أقر به زيد عني، أو: ما شهد به زيد علي، كما قاله الماوردي.

وكذا لو شهد عليه شاهدان بحق، فقال: ما شهدا به علي [صدق، كما قاله في ((البحر)) في الفروع قبل كتاب الشهادات، بخلاف ما لو قال: ما شهدا به علي حق]، فإنه يكون مقرًا، والفرق أن الحق ما لزم، فلم يتوجه إليه احتمال، والصدق قد يكون فيما قضاه، فتوجه إليه الاحتمال.

وقضية هذا: أن يطرد فيما لو شهد عليه شاهد، فقال: هو صادق فيما شهد به علي، أو: عدل فيه.

وقد قال في ((التهذيب)): إنه يكون مقرًا، بخلاف ما لو قال: هو صادق، أو عدل.

قال: وإن قال: [إن] شهد شاهدان علي بألف فهما صادقان، لزمه في الحال، أي: سواء سماهما أو لا، لأنه أخبر بصدقهما، ولا يتصور صدقهما إلا إذا كان واجبًا عليه، وهذا ما حكاه صاحب ((التلخيص)).

قال في ((المهذب)): وهو اختيار شيخنا أبي الطيب الطبري.

وفي ((الحلية)) قول آخر: أنه لا يكون مقرًا، لما فيه من ((التعليق))، فيصير كقوله: إن شهدا لك علي بألف صدقهما، فإنه لا يكون إقرارًا، لأن غير الصادق قد يصدق، وقد حكاه في ((المهذب)) وجهًا، وهو ما أبداه القاضي الحسين احتمالًا.

قال: وإن قال: كان له علي ألف، فقد قيل: يلزمه، استصحابًا للأصل في

ص: 368

بقاء ما كان علي ما كان، وهذا ما حكاه القاضي الحسين، وحكاه ابن الصباغ عن اختيار [الشيخ] أبي حامد.

وقيل: لا يلزمه، لأنه لم يعترف في الحال بشيء، والأصل براءة الذمة، وهذا ما صححه النواوي.

والوجهان جاريان فيما لو قال: كانت هذه الدار في السنة الماضية له.

قال ((الرافعي)): ويقرب منهما الخلاف فيما إذا قال: هذه الدار أسكنت فيها فلانًا، ثم أخرجته منها، هل يكون إقرارًا له باليد، لأنه اعترف بثبوتها من قبل، وادعى زوالها، أو لا يكون، لأنه لم يعرف بيد فلان إلا من جهته؟ وبالثاني قال أبو علي الزجاجي في ((جوابات جامع الصغير)).

فرع: لو قال: ملكت هذه الدار من زيد، فهو إقرار بالملك لزيد، ودعوى لانتقالها منه، وهكذا لو قال: اشتريتها من وكيل زيد، فإن لم يصدقه زيد، حلف في الأولى على عدم البيع، وفي الثانية على عدم التوكيل، وترد إليه.

ولو قال: هذه الدار قبضتها من يده، كان إقرارًا له باليد، بخلاف ما لو قال: هذه الدار ملكتها على يد فلان، أو: قبضتها على يده، فإنه ليس بإقرار [بالملك له]، ولا باليد، لأن ظاهر اللفظ أنه ملكها أو قبضها بمعونته ووساطته، قاله أبو الطيب.

قال: وإن قال: له علي شيء، ففسره بما لا يتمول: كشقرة فستقة، أو جوزة- لم يقبل.

هذه الفصل ينظم ثلاث مسائل:

الأولى: أن الإقرار بالمجهول يصح، وهو مما لا خلاف فيه، كما قاله أبو الطيب، وادعى الإمام اتفاق العلماء عليه، [ووجهه بأن الإقرار إخبار عن سابق، والشيء يخبر عنه مفصلًا تارة، ومجملًا أخرى، ويخالف الإنشاء بحيث لا يحتمل الجهالة والإجمال، احتياطًا لابتداء الثبوت وتحرزًا عن الغرر].

ويخالف الدعوى بالمجهول حيث لا تصح، لأن المدعي يبغي حق نفسه، فلا يبعد أن نكلفه إعلام ما يطله، والمقر معترف لغيره، فيبعد إبطال قوله المتعلق

ص: 369

بإثبات الحق لغيره، وقد تقدم الكلام على ذلك في الدعاوى على أبلغ وجه.

الثانية: أنه يطالب بالتفسير، لأن به تظهر فائدة الإقرار، فإنه يرجع في التفسير إليه بما يمكن كصاحب الشرع إذا أجمل شيئًا يرجع في تفسيره إليه، فإن فسره بمال أو غيره- كما سنذكره- فالقول قوله مع اليمين إن نازعه المقر له، كما سنوضحه.

وإن لم يبين ففيه ثلاثة أوجه جمعها الإمام من تصريح الأئمة وتلويحهم، ولا يجيء منها في مسألتنا إلا وجهان:

أظهرهما- وإليه مال الجمهور، كما قال-: أنه يحبس إلى أن يبين، كما لو أسلم على عشر نسوة.

ولأن التفسير والبيان حق واجب عليه فحبس عليه، كما يحبس على المال، وهذا ما حكاه الفوراني، وكذا القاضي الحسين، ونسبه إلى الأصحاب كلهم، وحكاه في ((المهذب)) قولًا.

والثاني: [أنه] لا يحبس، بل يقال للمقر له: ادع عليه حقًا معلومًا، أي: إن لم تكن الدعاوى في الابتداء بحق معلوم، بل بأنه أقر لي بشيء وأنا أطالبه بتفسيره كما تقدم أن هذه الدعوى تسمع، ثم ينظر إلى إقراره به وإنكاره، ويعلق بكل حالة ما يليق بها، أي: فإن أقر بأنه ذاك فلا كلام، وإن أنكر قيل له: فبين ما أردت، واحلف عليه، وإلا حلفناه على ما ادعاه، فإن امتنع من البيان حلفنا المقر له [وقضينا له]، كذا قال ابن الصباغ.

قال الإمام في تمام حكاية هذا الوجه: فإن قال بعد توجه الدعوى: لست أدري، أقمنا ذلك منه إنكارًا، فإن استمر عليه بعد عرض اليمين، جعلناه نكولا، ثم إن أفضت الخصومة إلى يمين الرد، وحلف المدعي، قضينا بالمدعى، فإن امتنع من أدائه حبسناه، فأما الحبس من غير أن يدعي المقر له حقًا مبينًا، فلا سبيل إليه، وهذا الوجه حسن منقاس.

وقال في ((الوسيط)): إن هذا إبطال لفائدة التفسير.

ص: 370

أما إذا كان قد ادعى حقًا معلومًا أولًا، فأقر بأن له عليه شيء، أو أنكر، فأقام المدعي بينة على إقراره بأن له عليه شيء، وسمعنا الشهادة بالإقرار بالمجهول- كما هو أحد الوجهين في ((تعليق)) القاضي الحسين، والمجزوم به في ((الشامل)) - فطولب بالتفسير، فامتنع، فيظهر أن يقال: لا يحتاج إلى إعادة الدعوى، بل تعرض عليه اليمين. فإن امتنع جعل ناكلًا، وحلف المدعي.

وهكذا صور ((الرافعي)) هذا الوجه فيما إذا وقع الإقرار بالمجهول في جواب الدعوى.

والثالث- حكاه عن صاحب التقريب- إن قال المقر: غصبت منه عينًا من أعيان ماله، وامتنع عن بيانها وردها، حبس. وإن قال المقر [له]: لست أدري ما غصبه مني، فأما إذا كان الاعتراف بدين مرسل، فلا حبس بسبب الامتناع عن التفسير حتى يعين المدعي مبلغه، ثم تنتظم الخصومة على النسق الذي قدمناه.

قال الإمام: وهذا التفصيل وإن كان فيه أدنى تخييل، فالقياس الحق يوجب التسوية بين الإقرار بالغصب والدين، إذ قد يستبهم الأمر فيهما جميعًا على المقر والمقر له، وقد يعرض التمكين من البيان فيهما.

وهذا الوجه لا يجيء في مسألتنا، لأن الشيء قد يكون عينًا ليست بمال كما ستعرفه.

وقد حكى الغزالي في ((الوسيط)) عوضه: أنه بامتناعه عن التفسير، يجعل ناكلًا عن الجواب واليمين حتى يحلف المقر له، ويستفيد بإقراره تحول اليمين إليه، فيحلف على ما يدعيه، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب في المسألة، وحكاه في ((المهذب)) طريقة اختارها في ((المرشد))، وفي طريقة أخرى قولًا آخر، ويظهر أن الفرق بينه وبين الوجه الذي قبله: أنا لا نجعله على ذلك الوجه بامتناعه ناكلًا عن اليمين وإن جعل ناكلًا عن الجواب إذا كانت الدعوى محررة، وعلى هذا: نجعله بنفس الامتناع من التفسير ناكلًا عن الجواب واليمين كما قال.

وعن أبي عاصم العبادي في مسألتنا: أنه إذا امتنع من التفسير لم يحبس وإن قال: على ثوب أو فضة، ولم يبين يحبس.

قال ((الرافعي)): وقد أشار من شرح كلامه إلى أن الفرق مبني على قبول تفسير

ص: 371

الشيء بالخمر والخنزير، فإنه لا يتوجه بذلك مطالبة وحبس، والله أعلم.

فرع: لو مات المقر بالشيء قبل البيان، طولب به الوارث، فإن امتنع فقولان:

أحدهما: أنه يوقف مما ترك أقل مما يتمول.

قال ((الرافعي)): وأظهرهما: أنه يوقف الكل، لأن الجميع وإن لم يدخل في التفسير فهو مرتهن بالدين، وهذا فيه نظر إذا قبلنا التفسير بما ليس بمال كما سيتضح.

المسألة الثالثة: أن تفسير الشيء بما لا يتمول، لقلته وإن كان من جنس ما يتمول- غير مقبول، لأن قشر الفستقة، قشر الجوزة، وكذا قمع الباذنجان، ونحو كذلك.

ووجهه: أن لفظه على الإلزام، وذلك لا يلزم أحدًا، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب، وكذا الماوردي، وألحق بما ذكرناه: التمرة، واللقمة، أي: إذا لم يكن لهما قيمة، للكثرة.

ويجيء من طريق الأولى إلحاق الحبة من الحنطة والشعير والسمسم بذلك.

لكن قد حكى الإمام وغيره في الحبة من الحنطة والشعير والسمسم وقمع الباذنجان- وجهين، وقالوا: إن ظاهر النص القبول، وهو الذي صححه ((الرافعي)).

وقال في ((التهذيب)): إنه المذهب، لأن ذلك شيء يحرم أخذه، وعلى [من] أخذه رده، وتسمع الدعوى به.

ومقابل هذا أبداه القاضي الحسين احتمالًا من حيث إنه لا تسمع الدعوى به.

قلت: وهو المنطبق على كل حد من الحدين المذكورين في المقر به الذي هو الشرط الثالث من شرائط الإقرار، كما قال الماوردي، فإن أحدهما: كل شيء جازت المطالبة به، والثاني: كل شيء جاز الانتفاع به.

قال: وهذا أصح، لأنه حد لما تجوز المطالبة به، ولما يجوز الإقرار به.

لكن قال الإمام: إن قول القاضي: إنه لا تسمع الدعوى بذلك هفوة منه، فإن ما يجب رده ويحرم أخذه لا يمتنع طلبه، وإذا توجه طلبه فهو الدعوى بعينه.

ثم حكى عنه ترددًا في التفسير بالتمرة والزبيبة إذا لم يكن لهما قيمة،

ص: 372

للكثرة كما بالبصرة ونحوها، تفريعًا على القول بأنه لا يقبل التفسير بالحبة من الحنطة، وقال: الوجه: القطع بقبول التفسير بالتمرة، والزبيبة، ولا خلاف أنه يقبل التفسير بها إذا كان في موضع لها قيمة [فيه، قاله] الإمام أيضًا، وهو في ((تعليق)) القاضي.

قال: وإن فسره بكلب- أي: يجوز اقتناؤه- أو سرجين، أو جلد ميتة، لم يدبغ- أي: وهو قابل له- فقد قيل: يقبل، لأن ذلك يثبت فيه الحق والاختصاص، ويحرم أخذه، ويجب رده إلى من أخذ منه، فصح تفسير الإلزام به وإن لم يكن مضمونًا على من هو في يده، كما لو فسره بوديعة، وهذا أصح في ((الرافعي))، و [غيره]، وهو المختار في ((المرشد)).

وقيل: لا يقبل، لأن الإقرار إخبار عما يجب ضمانه، لكونه مالًا، وهذا لا يجب ضمانه، لأنه ليس بمال، وبهذا تخرج الوديعة.

وقد قيل: إنه لا يقبل التفسير بالوديعة أيضًا، لأنها في يده لا عليه، حكاه الإمام.

ويلتحق بما ذكره الشيخ من الخلاف التفسير بالخمرة المحترمة عند من يجوز إيفاءها، وهو ما أورده ((الرافعي))، ومن لم يجوزه كما هو ظاهر مذهب العراقيين، واستبعده الإمام في كتاب الرهن، فهو عنده كالتفسير بغير المحترمة.

والكلب القابل للتعليم داخل فيما ذكرناه، لأنه يجوز اقتناؤه، وقد صرح به ((الرافعي)).

قال: وإن فسره بخنزير، أو ميتة،- لم يقبل [أي: وإن قبلنها بما تقدم]، لأنه لا يجب تسليم ذلك، لأنه لا منفعة له، وهذا ما أورده القاضي الحسين، والإمام.

والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ ألحقا به الخمر.

وفي الخنزير وجه حكاه ابن الصباغ عن رواية الشيخ أبي حامد: أنه يقبل التفسير به أيضًا، وحكاه ((الرافعي)) في الميتة والخمر- أي: غير المحترمة-

ص: 373

وقال: إن الوجهين جاريان في جلد الميتة الذي لا يقبل الدباغ: كجلد الكلب، وكذا بالكلب الذي لا منفعه فيه.

والأصح في الكل: أنه لا يقبل.

وقد جمع في ((المهذب)) بين ما إذا فسر بالخمر، والخنزير، والكلب، والسرجين، وجلد الميتة قبل الدباغ، وحكى في الكل ثلاثة أوجه تبعًا للماوردي، ثالثها: لا يقبل تفسيره بالخمر والخنزير، ويقبل بالكلب، والسرجين، وجلد الميتة قبل الدباغ، وعلى ذلك جرى في ((التهذيب))، وصحح الثالث.

قال: وإن فسره بحد قذف، قبل، لأنه حق آدمي، وهذا ما صححه النواوي، واختاره في ((المرشد)).

وقيل: [لا] يقبل، لأنه لا يئول إلى المال بحال، فأشبه ما لو فسره برد السلام.

والوجهان حكاهما القاضي أبو الطيب عن رواية أبي محمد البافي.

والقائلون بالأول فرقوا بين ما نحن فيه ورد السلام وإن اشتركا في كونهما حقين بأن هذا الحد لا يسقط بالتأخير، ورد السلام- كما قال القاضي أبو الطيب- يسقط بالتأخير عن الفورية، فلا يكون حين التفسير حقًا عليه.

ولأنه لا يطالبه برد السلام في العادة، والإقرار يكون بما يطالب به عادة.

نعم، لو قال: له علي حق، قبل التفسير برد السلام، وعيادة المريض، قاله في ((التهذيب)) تبعًا للقاضي الحسين.

قال ((الرافعي)): وظني أن الفرق بينه عسير، وكيف لا والحق أخص من الشيء، فيبعد أن يقبل تفسير الأخص بما لا يقبل به تفسير الأعم؟!

قلت: ولأجل هذا قال القاضي بعد حكاية ذلك: والأظهر أنه لا يقبل التفسير به [هنا] أيضًا.

ص: 374

قال: وإن فسره بحق شفعة، قبل، لأن حق يئول إلى المال، ولهذا قبلنا فيه الشاهد واليمين، وقد جزم بهذا ابن الصباغ والبغوي والروياني.

واعلم أن الشيخ سكت عن التفسير المقبول بالاتفاق، وهو ما يتمول وإن قل: كفلس، ونحوه، لوضوحه.

نعم: لو نازعه المقر له في التفسير به، نظر:

فإن كان [في القدر] مع الاتفاق على الجنس والنوع، كما إذا فسر الشيء بمائة مثلًا، فقال المقر له: لي عليك مائتان، فإن صدقه على إرادة المائة بإقراره فهي ثابتة باتفاقهما، ويحلف المقر على نفي الزيادة لا غير. وإن لم يصدقه على إرادة المائة بإقراره، بل قال: أردت به المائتين، حلف على أنه ما أراد بإقراره مائتين، وأنه ليس عليه إلا مائة.

قال القاضي الحسين والإمام: لأنه لو حلف على أحدهما، واعترف بالآخر، لزمه المائتان، فلذلك لم يكتف على أحدهما، ويجمع بينهما في يمين واحدة على المشهور، ولم يحك ابن الصباغ غيره.

وعن ابن المرزبان: أنه لابد من يمينين، فلو نكل المقر حلف المقر له على استحقاق المائة الزائدة، ولا يحلف على الإرادة، لأن له مندوحة عنها، فإنه إذا حلف على استحقاق ما وقع التناكر فيه، حصل مقصوده. ولأنه لا يطلع عليها، بخلاف ما إذا مات المقر، وفسر الوارث، فادعى المقر له زيادة، حيث يحلف الوارث على نفي إرادة المورث، لأنه قد يطلع من حال مورثه على ما لا يطلع عليه غيره.

وبمثله لو أوصى بمجمل، ومات، وبينه الوارث، وزعم الموصى له أنه أكثر، يحلف الوارث- كما قاله القاضي الحسين هنا- على نفي الإرادة أيضًا، وكذا في كتاب الوصية، واعتبر ثم أن يدعي علم الوارث بالإرادة في مسألة الإقرار ومسألة الوصية.

وحكى البغوي هنا عنه: [أنه يحلف] في مسألة الوصية على نفي العلم باستحقاق الزيادة، ولا يتعرض للإرادة.

ص: 375

والفرق: أن الإقرار إخبار عن حق سابق، وقد يعرض فيه الاطلاع، والوصية إنشاء أمر على الجهالة، وبيانه إذا مات الموصي إلى الوارث.

وإن كانت المنازعة في الجنس بأن فسر المقر بدراهم، فقال المقر له: حقي عليك دنانير لا غير- بطل حكم الإقرار برده، وكان مدعيًا للدنانير، والقول قول المقر فيها، وهذا إذا صدقه في أنه أراد بإقراره بالشيء: الدراهم، فإن كذبه، وقال: إنما أردت بإقرارك الدنانير- حلف المقر على نفي الإرادة، [ونفي ما يدعيه] كما تقدم، وبطل الإقرار.

ولو قال المقر له: الدراهم أنا أستحقها، لكن ما ادعيت به غيرها، سلم إلى المقر له [الدراهم، ثم إن صدقه في إرادتها بالإقرار، فالقول قول المقر في نفي سواها، ويحلف عليه لا غير. وإن كذبه] في الإرادة، حلف على نفي الإرادة، ونفي ما يدعيه.

قال ((الرافعي)): وقد حكينا في كتاب البيع فيما إذا ادعى المشتري عيبًا قديمًا بالمبيع، وقال البائع: بعته وأقبضته سليمًا- في كيفية وجهين.

أحدهما: يلزمه أن يحلف كذلك.

والثاني: يكفيه الاقتصار على أنه لا يستحق الرد، فليجيء هاهنا وجه: أنه يكفيه نفي اللزوم، ولا يحتاج إلى التعرض للإرادة.

فرع: لو اقتصر المدعي بعد تفسير المقر الشيء بما يقبل على دعوى الإرادة، فقال: ما أردت بكلامك ما فسرت به، وإنما أردت كذا: إما من جنس ما فسر به، أو من غيره- لم تسمع منه على الأصح، لأن الإقرار والإرادة لا يثبتان حقًا له، بل الإقرار إخبار عن حق سابق فعليه أن يدعي الحق نفسه.

وفيه وجه ضعيف: أنه تقبل دعوى الإرادة المجردة، وهو ما حكاه القاضي الحسين في كتاب الوصية.

قال الإمام: والخلاف كالخلاف فيمن ادعى على خصمه أنه أقر له بألف يسمع منه، أم عليه أن يدعي نفس الألف؟ وقد قدمت في ذلك كلامًا في باب الدعاوى.

ص: 376

قال: وإن قال: غصبت منه شيئًا، ثم قال: أردت نفسه- لم يقبل، لأن مقتضى لفظه بظاهره: غصب شيء غير نفسه.

قال القاضي أبو الطيب، وتبعه ابن الصباغ: ولأن ذلك ليس بغصب على الحقيقة، لأن الحر لا تثبت عليه يد الغاصب، فقد فسر الغصب بما ليس بغصب، فلم يقبل منه.

قال في ((المهذب)): وكذا لو قال: غصبتك- أي: شيئًا- لا يقبل تفسيره بغصب نفسه، لما ذكرناه.

أما لو لم يقل شيئًا، فليس بغاصب لشيء يوجب غرما، وكذا لو قال: غصبت من زيد. قاله في ((الحاوي)).

ولو فسر في مسألة الكتاب المغصوب بما يقبل به التفسير في الصورة السابقة، قبل هاهنا من طريق الأولى، إلا بحق الشفعة والوديعة، ويقبل كما قال البغوي هنا بالحبة من الحنطة، وبقمع باذنجانة، وكذا بالخمر والخنزير على أحد الوجهين، كما حكاه في كتاب الوصية.

وقال ابن الصباغ هنا: إن أصح الطريقين في الخنزير: أنه لا يقبل التفسير به، وهو ما أورده القاضي أبو الطيب هنا، وألحق به الميتة.

وفي ((الرافعي)) - تبعًا لما قاله الغزالي، وكذا البغوي هنا- أنه يقبل بالخمر والخنزير، وأنه نص عليه في ((الأم)).

وقال ابن الصباغ: إنه نص في كتاب الإقرار بالحكم الظاهر في باب الغصب منه، فقال: لو قال: غصبت فلانًا على شيء، وفسره بخمر، أو خنزير- قبلته، وأرقت الخمر، وقتلت الخنزير.

ووجهه بأن الغصب لا يقتضي إلا الأخذ قهرًا، وليس في لفظه ما يشعر بإلزام ثبوت حق بخلاف قوله: علي.

ولو قال: له عندي شيء، قال ((الرافعي)): فكذلك يقبل التفسير بالخمر، والخنزير على المشهور، لأنه شيء مما عنده، وهذا مما ألحقه القاضي [الحسين] وغيره بالمنصوص عليه.

وقال الشيخ أبو محمد: لا يقبل. واختاره الإمام ومن تبعه، لأن قوله: له يشعر بثبوت ملك أو حق.

ص: 377

قال ((الرافعي)): وللأولين أن يمنعوا ذلك، ويحتجوا عليه بانتظام قول القائل: لفلان عندي خمر أو خنزير، ثم لهم أن يدعوا مثل ذلك في قوله: غصبت من فلان.

قال: وإن أقر بمال، أو بمال عظيم، أو خطير، أو كثير- قبل [في] تفسيره القليل، [أي: من المال] والكثير.

ووجهه في الأولى: صدق ذلك عليه مع أن الأصل براءة الذمة مما زاد.

وفي الباقي، فلأنه ما من مال إلا وهو عظيم، أو خطير، أو كثير بالإضافة إلى ما هو دونه.

ولأنه يحتمل أن يريد عظم خطره بكفر مستحله، ووزر غاصبه والخائن فيه.

وقد قال الشافعي في الكثير- كما قال القاضي والإمام-: أصل ما أبني عليه الإقرار: أن ألزم، وأطرح الشك، ولا أستعمل الغلبة، وإنما كان كذلك لأن الأصل براءة الذمة.

وقد أبدى القاضي الحسين وغيره احتمالًا أقيم وجهًا أنه يجب أن يزيد تفسير المال العظيم على تفسير مطلق المال، ليكون لوصفه بالعظم فائدة.

قال الإمام: وهذا كلام مبهم فإنه لا يتصور أن يفسر المال بشيء لا يقدر انحطاطه عنه، فإذا كان لا ينضبط على هذا الوجه تفسير المال المجرد، فكيف يتحقق تقدير زيادة على الأول. وكان شيخي أبو محمد يقول: من أصحابنا من قال: العظيم يستدعي مزيدًا، ثم اكتفى بأن يفسر بعظيم الجثة والذات، وهذا كله خبط. والوجه القطع بما قطع به الشافعي وإن تشوف متشوف إلى خلاف النص، فلا يجوز أن يعتقد فيه ضبط إلا من جهة الشرع، وهو أن [يحمل] على نصاب السرقة، فإنه ليس بالتافه شرعًا، أو على المبلغ الذي تغلظ اليمين فيه، أخذ من قول بعض الصحابة في عظيم من المال، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى هذين المسلكين، فالخبط بعدهما لا معنى له.

وعلى المشهور: لو فسر بالتمرة، ولا قيمة لها، للكثرة، فقد قال الإمام: الوجه القبول، لأنها مال وإن لم تتمول في ذلك الموضع.

ثم قال: هكذا يذكره العراقيون، ويقولون: كل متمول مال، ولا ينعكس.

ص: 378

وتلحق الحبة من الحنطة بالتمرة الواحدة.

ولو قال: له علي مال قليل، أو حقير، أو طفيف، أوتافه، أو نزر، أو يسير- فهو كما لو قال: مال، وتحمل هذه الصفات على استحقار الناس إياه، أو على أنه فإن زائل، فليكن بهذا الاعتبار قليلًا وبالاعتبار الأول كثير.

ولا خلاف في أنه لا يقبل تفسير فيما ذكرناه بخمر ولا خنزير، لأنه ليس بمال.

وهل يقبل تفسيره بأم ولد؟ فيه خلاف حكاه الشيخ أبو محمد، والأظهر: القبول، لأنها مال، بدليل أنها لو قتلت، أخذت قيمتها.

ولو فسر بوقف عليه، قال ((الرافعي)): فيشبه أن يخرج على الخلاف في أن الملك في الوقف لمن؟

فروع:

لو قال: لزيد على مال أكثر من مال فلان، قبل تفسيره- أيضًا- بأقل ما يتمول وإن كثر مال فلان، لأنه يحتمل أن يريد به أن مال فلان حرام، ومال زيد حلال، والقليل منه أكثر من الحرام، وكما أن القدر مبهم في هذا الإقرار، فكذلك الجنس والنوع.

نعم، لو قال: له علي أكثر من مال فلان عددًا، فالإبهام في الجنس والنوع دون القدر، حتى لو كان مال فلان مائة دينار، ففسر بأكثر من مائة درهم أو غيرها قبل كذا دل عليه كلام الماوردي غيره، حيث قال: لو قال له شخص: لي عليك مائة دينار، فقال: لك علي أكثر منها، ثم بين درهمًا-[قبل]، ولو قال: أكثر منها عددًا، لم يقبل إلا أكثر من مائة عددًا، وسواء بين دنانير أو غيرها.

وفي ((تعليق)) أبي الطيب فيما إذا قال: ((أكثر من مال فلان عددًا)): أنه ينظر: فإن

ص: 379

أقر أنه عرف مال فلان، وأن عدده ألف، لزمه مثل ذلك المال في المقدار وزيادة، ويكون الخيار إليه في قدره، وهو ما حكاه ابن الصباغ عن نصه في الإقرار بالحكم الظاهر.

وإن قال: ما علمت أن لفلان إلا كذا، لم يلزمه إلا ما اعترف به وإن قامت البينة على أن لفلان أكثر منه لأنه قد [لا] يطلع عليه.

ولو قال: له علي أكثر [من مال فلان من صحاح الذهب، فالإبهام في القدر وحده.

ولو قال: لزيد على أكثر] مما يشهد به الشهود على فلان، قبل تفسيره بأقل ما يتمول.

وكذا لو قال: أكثر مما قضى به القاضي على وجه هو الأظهر في ((الرافعي)).

ومقابله: أنه يلزمه القدر المقضي به وهو ما أورده القاضي الحسين، وحكاه الإمام عن الأكثرين، لأن قضاء القضاء محمول على الحق والصدق، بخلاف شهادة [الشاهد]، فإنها قد تكون زورًا.

ولو قال: لفلان على أكثر مما في يد فلان من المال، قبل تفسيره بما يتمول.

ولو قال: أكثر مما في يد فلان من الدراهم، لزمه مثلها إن عرف قدرها، وإن لم يعرف قدرها فأقلها ثلاثة، كذا قاله القاضي الحسين، وكلام الإمام يوافقه.

وقال في ((التهذيب)): لا يلزمه من جنس الدراهم، بل يلزمه بذلك العدد من أي جنس شاء وزيادة بأقل ما يتمول.

قال ((الرافعي)): وهو يخالف قياس ما سبق من وجهين:

أحدهما: إلزام العدد.

والثاني: إلزام زيادة على ذلك العدد، فإن التأويل الذي سبق للأكثرية ينفيهما جميعًا.

ولو قال: علي من الدراهم أكثر مما في يد فلان من الدراهم، فإن لم يكن في يده شيء لزمه أقل ما يقع عليه اسم المال من الدراهم، وإن كان في يده عشرة دراهم، لزمه عشرة دراهم وزيادة شيء، وهذا قياس ما حكيناه عن الماوردي،

ص: 380

وأبي الطيب، وغيرهما من قبل.

وقال ((الرافعي)): إن الأظهر ما نقله الإمام عن الجمهور: أنه لا يلزمه زيادة على الموجود في اليد، ومثله بما إذا كان في يده ثلاثة، حملًا للأكثر على ما سبق.

وحكى عن شيخه أنه لو فسره بما دون الثلاث، قبل أيضًا وقال: إنه منتجه.

ثم على ما قاله البغوي: لو قال المقر: لم أعلم أن في يده عشرة، وظننت: أنها ثلاثة، قبل قوله باليمين.

قال: وإن أقر بدراهم، أو بدراهم كثيرة- لزمه ثلاثة [دراهم]:

أما في الأولى، فلأنها أقل الجمع.

وأما في الثانية، فلأن الكثرة قد يعبر بها عن الحلال وغيره، فلم يلزمه زيادة على أقل الجمع بالاحتمال.

قال ((الرافعي)): وهكذا الحكم فيما لو قال: دراهم عظيمة، ويجيء فيه الوجه المذكور في المال الكثير والعظيم.

وفي ((الحاوي)) فيما إذا قال: له علي دراهم: أن بعض المتقدمين من فقهاء البصرة قال: أقل الجمع اثنان، فلا يلزمه إلا درهمان، وهذا نسبه القاضي أبو الطيب إلى بعض الناس من النحويين ،استبعده هو وغيره.

وعلى المشهور: لو فسر بأكثر من ثلاثة قبل.

قال القاضي الحسين: ولا فرق بين أن يقع التفسير قبل الحجر عليه بالسفه أو بعده.

فرع: لو قال: له علي أقل أعداد الدراهم، لزمه درهمان، لأن العدد هو المعدود، وكل معدود متعدد، فيخرج عنه الواحد.

قال: وإن قال: له علي درهم، ثم أعاده، أي أعاد القول في وقت آخر- لزمه درهم واحد، لأن الإقرار إخبار، ويجوز أن يخبر ثانيًا بما أخبر به أولًا، ولذلك لو فقال: رأيت زيدًا، ثم قال: رأيت زيدًا- لم يكن ذلك إخبارًا عن رؤية ثانية، وإذا كان كذلك لم يلزمه ما زاد على الدرهم بالشك.

ومن طريق الأولى إذا أعاد ذلك في المجلس، فقال: له علي درهم درهم، لاحتمال إرادة التأكيد.

ص: 381

وقد وافقنا الخصم عليه.

وهكذا الحكم فيما لو أعاد بعضه في وقت آخر، أو في المجلس، فقال: علي نصف درهم.

ولا فرق في ذلك بين أن يقع الإقرار عند الحاكم، أو عند الشهود، ولا بين أن تتحد اللغة أو تختلف، فيقر في أحد الوقتين بالعربية، وفي الآخر بالعجمية.

قال: وإن قال: له علي درهم من ثمن ثوب، ثم قال: له علي درهم من ثمن عبد، لزمه درهمان، إذ لا يحتمل أن يكون الثاني هو الأول.

وهكذا لو قال: [له] علي درهم بصري، ثم قال: له علي درهم بغدادي، أو قال: له علي درهم حال، ثم قال له علي درهم مؤجل إلى كذا، أو قال: له علي درهم مؤجل إلى شهر، ثم قال قبل تقضي الشهر: له علي درهم حال، ونحو ذلك، ولو أضاف الدرهم في أحد الوقتين إلى سبب، وأطلق في الوقت الآخر، نزل المطلق على المقيد، ولا يلزمه إلا درهم واحد، سواء تقدم الإطلاق أو التقييد.

وكذا لو أقر في أحد الوقتين بألف صحاح، أو مكسر، وأطلق في الآخر، لا يلزمه غير المقيد، وهذا بخلاف الإنشاءات، فإنه لو قال: قبضت منه يوم السبت عشرة، ثم قال: قبضت منه يوم السبت عشرة، ثم قال: قبضت يوم الأحد عشرة، أو خمسة، جعل قابضًا للأمرين، كما لو قال: طلقت [يوم السبت طلقة، ثم قال: طلقت] يوم الأحد طلقة- تقع طلقتان.

ولو قال يوم السبت: له علي خمسمائة، ثم قال يوم الأحد: له علي ألف- لم يلزمه غيره، كما لو قال يوم السبت: طلقتها طلقة، ثم قال يوم الأحد: طلقتها طلقتين- لم يقع عليه سواهما.

قال: ولو قال: [له] علي درهم ودرهم، لزمه درهمان، لأن مقتضى الواو العطف، والمعطوف غير المعطوف عليه، فلذلك لزمه درهمان.

ولو قال: له علي درهم، ودرهم، فالنص: أنه يلزمه ثلاثة.

ص: 382

والمحكي في نظيره من الطلاق: أنه يقع طلقتان على أحد القولين، وثلاث في الثاني.

وعن ابن خيران: أنه نقل الجواب في مسألة الطلاق إلى الإقرار، وجعلها- أيضًا- على قولين.

والأكثرون على تقرير النصين، وفرقوا بأن الطلاق يدخله التأكيد أكثر منه في الإقرار، لأنه يقصد به التخويف والتهديد، ولأنه يؤكد بالمصدر، فيقال: هي طالق طلاقًا، والإقرار بخلافه، فلذلك حمل التكرار على التأكيد في الطلاق، وحمل على العدد في الإقرار.

وعلى هذا: لو كرر عشر مرات أو أكثر، لزمه من الدراهم بعدد ما كرر.

وحكم ((ثم)) حكم الواو فيما ذكرناه، صرح به ((الرافعي)) تبعًا لابن الصباغ، والإمام وغيرهما.

قال ((الرافعي)): ثم ما ذكرناه عند الإطلاق، أما لو قال: أردت باللفظ الثالث درهمًا آخر، لزمه ثلاثة بلا خلاف.

ولو قال: أردت به تكرار الثاني، قبل، ولم يلزمه غير درهمين، وهو ما أورده الإمام والبغوي.

وفي ((الشامل)): أن ابن خيران قال في هذه الصورة: إنه يقبل منه، كما قال الشافعي في مثل هذه الصورة من الطلاق: إنه يقبل قول الزوج، وأن عامة الأصحاب فرقوا

وذكر ما ذكرناه من قبل، فقبل قوله في ذلك، بخلاف الإقرار، وهذا صريح في أن الراجح: أنه لا يقبل قوله والحالة هذه، وهو المختار في ((المرشد))، وكلام القاضي أبي الطيب يمكن حمله على ما قاله الأولون، فإنه قال: إذا قال: له علي درهم ودرهم ودرهم، قال ابن خيران: يلزمه درهمان، ويرجع في الثالث إليه، فإن قال: أردت التكرار، لم يلزمه، وإن قال: أردت الاستئناف، لزمه، وإن أطلق فقولان:

أحدهما: يلزمه درهمان.

والثاني: ثلاثة، كما قلنا فيما إذا قال لامرأته: أنت طالق، وطالق وطالق، تقع طلقتان، ويرجع في تفسير الثالثة إلى إرادته، فإن أطلق فقولان.

ص: 383

وأكثر أصحابنا على أنه يلزمه ثلاثة [دراهم] قولًا واحدًا، والفرق ما ذكرناه.

فقوله: ((وأكثر الأصحاب على أنه يلزمه ثلاثة)) يمكن عوده إلى حالة الإطلاق لا إلى حالة الإرادة.

وعلى هذا لو قال: أردت باللفظ الثالث تكرار الأول، فوجهان ذكرهما الإمام هنا، وفي نظير المسألة من الطلاق، وحكاهما القاضي في الطلاق، وألحق به الإقرار، وأظهرهما في ((الرافعي))، وهو المذكور في ((الوجيز)): أنه لا يقبل ويلزمه ثلاثة، لأن التكرار إنما يؤكد به إذا لم يتخلل بينهما فاصل، وهذا ما أورده الأصحاب في نظير المسألة في الطلاق.

وقال الإمام هنا: إن من أصحابنا من منع جريان الوجه الآخر هاهنا، وأجازه في الطلاق، قال: وبه ينتظم في المسألة ثلاثة أوجه.

والفرق على الثالث: أن الطلاق إنشاء صادر عن مصدر، فلا يمتنع التأكيد في وضعه، والإقرار إخبار، فكان أبعد عن التأكيد، بدليل أن الرجل يقول: أنت طالق طلاقًا، ويمتنع مثل ذلك في الإقرار، وهذا خيال لا حاصل له، ولا فرق بين البابين، والله أعلم.

قال: وإن قال: له علي درهم فدرهم، لزمه درهم على المنصوص.

وقيل: فيه قولان:

أحدهما: [يلزمه] درهم.

والثاني: درهمان.

واعلم أن النص في ((المختصر)) في هذه المسألة كما ذكره الشيخ، والنص فيما إذا قال لزوجته: أنت طالق فطالق: وقوع طلقتين.

واختلف الأصحاب لأجل ذلك في المسألتين على طريقين:

إحداهما- وهي المحكية في ((الشامل))، و ((المهذب)) و ((النهاية))، وغيرها عن ابن خيران- تخريج قول من كل مسألة إلى الأخرى، وجعلهما على قولين:

أحدهما: يلزمه درهم، وتقع طلقة واحدة، لأن الفاء تستعمل للعطف

ص: 384

وتستعمل للصفة، وإذا استعملت للعطف كانت كالواو، وإذا استعملت للصفة، لم يلزمه إلا درهم وطلقة، فيجوز أن يكون أدخلها للصفة بأن يريد: فدرهم جيد، أو رديء، أو لازم، أو يريد فطالق أنت حينئذ، فلا يلزم ما زاد على المحقق بالاحتمال.

والثاني: يلزمه درهمان، وتقع طلقتان، لأن الفاء ظاهرة في العطف كالواو.

وفي ((الحاوي)) أن ابن خيران خرج من مسألة الطلاق [إلى مسألة الإقرار] قولًا: أنه يلزمه درهما، وسكت عن ذكر التخريج من مسألة الإقرار إلى [مسألة] الطلاق، وكذلك فعل في ((الوجيز)).

قال الماوردي: وقد أشار الشافعي إلى مثل ذلك في الإقرار بالحكم الظاهر.

قلت: وإليه أشار ((الرافعي)) بقوله: وقد رأيت في بعض الشروح: أن ابن أبي هريرة نقل قولًا منصوصًا للشافعي أنه يلزمه درهمان.

والثانية- وهي المحكية عن الأكثرين، والصحيحة في ((النهاية))، وغيرها-: تقرير النصين، وفرقوا بوجهين:

أحدهما: أن الدراهم يدخلها التفصيل، فيجوز أن يريد: له علي درهم فدرهم أجود منه، أو أردأ، ومثل ذلك لا ينقدح في الطلاق، لأنه لا يوصف بالجودة والرداءة.

قال أبو علي في ((الإفصاح)): ووزان الإقرار من الطلاق: أن يقول: أنت طالق طلقة فطلقة، ويريد بذلك الصفة، فإنه يقبل منه كالإقرار، كذا حكاه عنه أبو الطيب وغيره.

وفي ((الحاوي)) بعد ذكر هذا الفرق: فإن قيل: فقد يوصف الطلاق بمثل ذلك، فيقال: طلاق سنة، وطق بدعة- قيل: ليس هذا صفة للطلاق، وإنما هو حال يرجع إلى صفات المطلقة والمطلق، لأن حكم الطلاق في الأحوال على السواء.

والثاني: أن الطلاق إنشاء والإقرار إخباره، والإنشاء أقوى وأسرع نفوذًا، ولهذا لو أقر اليوم بدرهم، وغدًا بدرهم، لا يلزمه إلا درهم، ولو تلفظ بالطلاق في اليومين، وقعت طلقتان، بل في الوقت الواحد على أحد القولين.

قال ((الرافعي)): ولابن خيران أن يمنع الفرق الأول، ويقول: يجوز أن يريد

ص: 385

بـ ((طالق)): مهجورة، أو لا يراجع، ويجوز أن يريد بـ ((طالق)) خبر مثله، وما أشبهه.

وأما الثاني فإنه يناقض الفرق المذكور في مسألة: درهم ودرهم ودرهم، وطالق وطالق وطالق.

ثم هذا الخلاف فيما إذا أطلق المقر، ولم يبين مراده بلفظ الفاء أو قصد به غير العطف، كما أفهمه لفظ القاضي الحسين، حيث قال: إن محله إذا لم يرد العطف، أما إذا أراده لزمه درهمان وطلقتان وجهًا واحدًا، كالواو.

لكن في ((النهاية)) و ((الشامل)) تصوير محل الخلاف إذا قال: أردت غير العطف، وقدرت: علي درهم فدرهم لازم، أو جيد، أو رديء، وهو ظاهر لفظ ((المختصر))، فإنه [قال]: إذا قال: لبه عندي درهم فدرهم، قيل: إن أردت: فدرهم لازم، فهو درهم، والله أعلم.

قال: وإن قال: له علي درهم تحت درهم، أو فوق درهم، أو مع درهم أو قبل درهم، أو بعد درهم-[فقد] قيل: فيه قولان:

أحدهما: درهم، لأنه يحتمل أنه أراد: فوق درهم في الجودة، وتحت درهم في الرداءة ومع درهم لي، وقبل درهم أملكه، وبعد درهم ملكته، فلا يلزمه ما زاد عليه بالاحتمال مع أن الأصل براءة الذمة، وهذا ما نص عليه في الصور الثلاث الأول، وهو في الأخيرتين على ما قال القاضي والإمام مخرج.

وابن الصباغ وغيره قال: إن الربيع رواه فيهما.

والثاني: درهمان، لأن هذه الألفاظ تقتضي ضم درهم إلى درهم، فأشبهت الواو، وهذا ما نص عليه في الأخيرتين، وهو مخرج- كما قال القاضي والإمام- فيما عداهما.

وبعضهم نسبه فيهما إلى رواية الربيع أيضًا.

قال ابن يونس: وكأن مبنى القولين: تعارض الأصل والظاهر.

قلت: ذلك خلاف أصل الشافعي في الإقرار كما تقدم.

ص: 386

وقيل: [إن قال: فوق درهم، أو تحت درهم، أو مع درهم لزمه درهم.

وإن قال: قبل] درهم، أو بعد درهم- لزمه درهمان، لأن ((قبل))، و ((بعد)) لا يحتمل إلا التاريخ، فالمفهوم التقدم في الوجوب، فصار أحد الدرهمين مضمومًا إلى الآخر، بخلاف ((فوق)) و ((تحت)) و ((مع)) فإن ذلك إشارة إلى المكان، والمقر بشيء لا يكون مقرًا بمكانه، وهذه الطريقة هي التي نص عليها في ((المختصر)).

وقال الصباغ: إن الشيخ أبا حامد لم يذكر غيرها، وهي التي اختارها أكثر الأصحاب، وتبعهم صاحب ((المرشد))، والنواوي، وعليها لو قال: له علي درهم قبله درهم، وبعده درهم، لزمه ثلاثة، حكاه القاضي الحسين.

[قال الرافعي]: ولمن قال بالأولى أن يقول: القبلية والبعدية كما يكونان بالزمان يكونان بالرتبة، ثم هب أنها زمانيان يرجعان إلى الوجوب، لكن يجوز أن يريد: لزيد درهم قل ثبت درهم لعمرو.

وفي المسألة وجه آخر ينسب إلى الداركي: أنه إذا قال: درهم معه درهم، أو فوقه درهم، لزمه درهمان، لرجوع الكناية إلى الأول الذي التزمه، وكذا قال بمثله ابن خيران وغيره فيما إذا قال: قبله أو بعده، دون ما إذا قال: تحت درهم، أو فوق درهم، أو مع درهم، أو قبل درهم، أو بعد درهم، والمشهور أنه لا فرق.

قال: وإن قال: له علي درهم في دينار، لزمه درهم، لأنه يحتمل أنه أراد في دينار لي، أو اقترضت منه درهمًا في ثمن دينار لي.

قال: إلا أن يريد: مع دينار، فيلزمه درهم ودينار، أي: على قول كما تقدم، لأن لفظه ((في)) تستعمل حيث تستعمل ((مع))، قال الله تعالى:{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29]، أي:((مع)) عبادي، ويقال: جاء الأمير في الجيش، أي: مع الجيش، وفي ذلك تغليظ عليه.

ولو قال: إنه وزن لنفسه درهمًا في ثمن بعض دينار، فهو كما لو قال: له في هذا العبد ألف، وفسره بذلك، وسنذكره، قاله أبو الطيب.

و ((الرافعي)) أحال الكلام في هذه المسألة بجملتها على مسألة العبد.

ص: 387

فرع: لو قال: لزيد علي درهم مع عمرو، قال الماوردي: فالظاهر أنه مقر لزيد بدرهم هو مع عمرو.

واليقين: أنه مقر بدرهم لزيد وعمرو، فرجع إلى بيانه، فأيهما أراده عمل به.

قال: وإن قال: له علي درهم في عشرة، لزمه درهم، لأنه يحتمل أنه أراد: أنه مختلط في عشرة لي.

قال: إلا أن يريد الحساب، فيلزمه عشرة، لأن ذلك موجبه عند أهل الحساب. فلو أيس من بيانه لم يلزمه غير درهم.

قال ابن يونس: وقيل: يلزمه عشرة، لأنه الظاهر من استعمال هذه اللفظة، وهذا إذا كان يعرف الحساب، أما إذا كان لا يعرفه، فيشبه أن يقال: لا يلزمه غير درهم وإن قال: أردت ما يريده الحساب كما لو أقر العربي بالعجمية، وهو لا يعرف معناها، وهذا يكشفه ما تقدم في الطلاق.

ولو أراد بـ ((في)) هاهنا ((مع)) لزمه أحد عشر درهمًا، قاله ((الرافعي))

قال: ولو قال: له علي درهم، أو دينار، لزمه أحدهما، وأخذ بتعيينه، لأنه إقرار بأحدهما، لأن ((أو)) للترديد.

وقيل: لا يلزمه شيء حكاه الإمام عن رواية الشيخ أبي علي، عن رواية صاحب ((التخليص)) وغيره.

والخلاف جارٍ كما قاله الماوردي- فيما إذا قال: علي ألف لزيد، أو عمرو:

أحدهما: لا يلزمه لأحدهما شيء، وهو ما اختاره في ((المرشد)).

والثاني: أنه مقر لأحدهما به، ويؤخذ بالبيان.

ولو قال: له علي ألف، أو على الجدار، لم يلزمه شيء، قاله في ((العدة))، كما لو قال: له علي ألف، أو على أخي، أو شريكي.

وكذا [لو] قال: له علي ألف أو لا، لم يلزمه شيء، للشك.

قال: وإن قال: درهم بل درهم، لزمه درهم، لأنه يحتمل أنه توهم عليه زيادة، فقصد الاستدراك بقوله:((بل)) ثم تذكر في الحال أنه لا زيادة له عليه،

ص: 388

وهكذا الحكم فيما لو قال: لا بل درهم، أو: لكن درهم.

وفي ((الحاوي)) حكاية وجه في مسألة الكتاب: أنه يلزمه درهمان، لأنه إذا لم يزد على الأول لا يكون استدراكًا، وكان رجوعًا، فلزماه معًا، ومن هذا يتخرج وجه فيما إذا قال: له علي درهمان بل من طريق الأولى.

ولو قال: له علي درهم بل لسالم مولاه، وكان سالم مأذونًا له، قال في العدة لزمه الدرهمان، لأنه أقر للسيد أولًا، ثم استدرك إقراره لمن هو دونه، فلا يكون ذلك مالًا واحدًا كما لو كان على المأذون دين، فإن أبا حنيفة وافق فيها.

قال: وإن قال: درهم بل درهمان، لزمه درهمان، لأن الدرهم داخل في الدرهمين، فلم يكن ذلك رجوعًا عن إثبات الدرهم، بل نفى الاقتصار عليه، وألحق به الدرهم الآخر.

وهكذا لو قال: قفيز بل قفيزان، ونحو ذلك.

قال ((الرافعي)): وهذا مشكل بما إذا قال: أنت طالق طلقة بل طلقتين، فإنه تقع الثلاث، ولا أردي لم لم يتصرفوا فيهما هاهنا تصرفهم فيما سبق من المسائل.

قال: وإن قال: درهم لا بل دينار، لزمه درهم ودينار، لأنه استدرك جنسًا آخر، وهو يقتضي إسقاط ما أقر به أولًا، فلم يقبل منه الإسقاط، وقبل منه الإثبات الثاني.

وضابط هذا: أنه متى أقر بشيء في الذمة واستدرك بغيره: إن اختلفا في الصفة والجنس لزمه كلاهما، وإن اتفقا في الصفة والجنس، واختلفا في القدر، لزمه الأكثر منهما.

وقولنا: ((في الذمة)) احترز عما لو قال: لو عنيد هذا الدرهم، بل هذان الدرهمان، فإنه يلزمه الثلاثة، لأن المشار إليه أولًا غير داخل في المشار إليهما ثانيًا، فلزمه الكل.

قال: [وإن قال]: درهمان بل درهم، لزمه درهمان، مؤاخذة له بقوله الأول، وقياس هذا أن يقال فيما لو قال: له علي درهم ودرهم بل درهم: أنه يلزمه درهما، وقد أطلق البغوي وغيره أنه يلزمه ثلاثة، وقد ذكرناه في نظير

ص: 389

المسألة من الطلاق، فليطلب من ثم إذا رأينا إلحاق الإقرار بالطلاق.

قال: وإن قال: له علي ما بين الدرهم والعشرة، لزمه ثمانية، لأن ((ما)) بمعنى ((الذي))، فكأنه قال: الذي له علي العدد الذي يقع بين الواحد والعشرة، وذلك صريح في إخراج الطرفين، فتخلص للزم ثمانية.

قال الماوردي: وهذا مما لم يختلف فيه أصحابنا.

وقريب منه قول الإمام: إنه الذي أطبق عليه الأصحاب.

وحكى القاضي أبو الطيب ومن تبعه عن رواية صاحب ((التخليص)) في المفتاح عن الشافعي: أنه يلزمه تسعة، لإدخاله العاشر فيه.

وقد نسب القاضي هذا المذهب إلى صاحب ((التخليص)) نفسه، وأنه وجهة بأن الحد إذا كان من جنس المحدود، دخل، والعشر من الجنس، فدخل، وهذا ما اختاره في ((المرشد)).

وفي ((الإشراف)): أن المزني نقل في ((المنثور)) أنه يلزمه عشرة، وقد حكاه أبو خلف السلمي عن القفال، لأن المقصود بيان غاية ما عليه، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أقوال، وبعضهم يوردها وجوهًا، ومثلها قد حكاه ((الرافعي)) فيما لو قال: أعطوه ما بين الدرهم والعشرة، وأن الأستاذ أبا منصور حكى عن بعض الأصحاب: أنه إن أراد الحساب، فللموصى له خمسة وخمسون، وإن لم يرد الحساب فله المتفق [عليه] وهو ثمانية.

قال ((الرافعي)): ثم لا شك في اطراد هذا في الإقرار.

ص: 390

قال: وإن قال: له علي من درهم إلى عشرة فقد قيل: يلزمه ثمانية، لأنه جعل الأول والعاشر حدين، والحد لا يدخل في المحدود، دليله ما لو قال: بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار لا يدخلان في البيع.

وقيل: [يلزمه] تسعة، لأن لفظة ((من)) لابتداء الغاية، فيدخل الأول، كما تقول: سرت من الكوفة إلى البصرة، ولا يدخل فيه العاشر، لأنه جعله حدًا.

ووجهه الإمام بأن تقدير الحد في الدرهم الأول بعيد وإذا كان الملتزم بالإقرار زائدًا على واحد، فتقدير الواحد في الطرف الأول خارجًا عن اللزوم بعيد، وليس ذلك كالتحديد الراجع إلى الجنس في الأمكنة وغيرها.

ووجهه الشيخ أبو حامد بأنه لو قال لفلان من هذه النخلة [إلى هذه النخلة]، دخلت الأولى في الإقرار دون الآخرة، فكذلك هاهنا وصحح هذا الوجه وكذلك العراقيون، وتبعهم في ((الوجيز)) و ((المرشد))، والنواوي.

وهذان الوجهان لم يورد الماوردي، والقاضي الحسين غيرهما.

وقيل: [يلزمه] عشرة: أما التسعة، فلما ذكرناه، وأما العاشر، فلأن الحد إذا كان من جنس المحدود [دخل، دليله: إدخال المرفق في الغسل، وهذا من جنس

ص: 391

المحدود] فدخل، وهذا ما صححه البغوي، وحكاه الإمام عن رواية شيخه.

والقاضي أبو الطيب خرجه من النص الذي حكاه في المسألة السابقة عن رواية صاحب ((التلخيص)).

ومثل هذه الأوجه محكي فيما إذا قال: أنت طالق من واحدة إلى الثلاث كما تقدم.

قال: وإن قال: له علي كذا، فهو كما لو قال: له [علي] شيء، لأن ((كذا)) مبهم كما أن لفظ ((الشيء)) مبهم، والتفريع كما تقدم.

وهكذا الحكم فيما لو قال: [له] علي كذا كذا، لأن ذلك بمنزلة قوله:[علي] شيء شيء، والتكرار للتأكيد، لا للتجديد.

قال: وإن قال:] له علي كذا كذا درهمًا، لزمه درهم، لأن حذف حرف العطف يجعل التكرار تأكيدًا، كقوله: شيء شيء، وقد فسر المبهم بدرهم، فصار كما لو قال: لو علي درهم درهم، لا يلزمه غير درهم.

وقد حكى الماوردي وابن الصباغ والإمام عن أبي إسحاق المروزي: أنه يلزمه أحد عشر درهمًا إذا كان يعرف العربية، كما صار إليه محمد بن الحسن فيما يعرفها وغيرها، الإمام نسب ذلك إلى أبي حنيفة، وتمسكوا فيه بأن ذلك أقل عددين ركب أحدهما على الآخر من غير عطف، ونصب الدرهم بعده، وسنذكر ما يبطل ذلك.

وما ذكره الشيخ يجري فيما لو قال: كذا كذا درهم بالرفع، أو الخفض، كما قاله القاضي أبو الطيب، والبغوي، وهذا منهما فيه نظر، لأنهما جزما القول كما ستعرفه فيما لو قال: له على كذا درهم، بالخفض: أنه يلزمه دون الدرهم، وقياس ذلك أن يقولا بمثله هاهنا.

نعم، هذا ظاهر على قولنا: إنه يلزمه بقوله: كذا درهم، بالخفض:[درهم]، والله أعلم.

قال: ولو قال: كذا وكذا درهمًا، فقد قيل: يلزمه درهمان، لأنه ذكر مبهمين، ثم ذكر الدرهم تفسيرًا عقيبهما، فاقتضى أن يكون تفسيرًا لكل واحد منهما، كما لو قال: له على خمسة عشر درهمًا، وهذا ما ادعى البندنيجي في كتاب الوصية أنه المذهب.

ص: 392

وقيل: فيه قولان:

أحدهما: درهم، لأن ((كذا)) عبارة عن الشيء، وعن بعضه، وقد ذكر الدرهم عقيب المبهمين تفسيرًا لهما، فجاز أن يريد أن نصفه لهذا ونصفه لهذا، فلا يلزم ما زاد عليه بالاحتمال، وهذا ما اختاره المزني، وكذا صاحب ((المرشد)) في حق من لا يعرف العربية.

وعلى هذا لو قال: كذا وكذا وكذا درهمًا، [لم يلزمه إلا درهم].

والثاني: درهمان، لما سبق، وهو الصحيح عند النواوي، والمختار في ((المرشد)) في حق من [لا] يعرف العربية، وهذه الطريقة رواها المزني، وقال ((الرافعي)): إنها مشهورة، واختارها ابن خيران، والإصطخري.

والذي قال به أبو إسحاق وعامة الأصحاب- كما قال في ((المهذب)) - الطريقة الأولى، وهؤلاء اختلفوا على ماذا يحمل نصه على أنه يلزمه درهم واحد: فبعض المتقدمين من الأصحاب- كما قال الماوردي- حملوه على ما إذا نواه، وصرف اللفظ عن ظاهره بالنية.

وابن أبي هريرة حمله على ما إذا قال: كذا كذا درهماً من غير واو، أو شك الحاكم: هل ذكر في إقراره الواو أم لا؟ وقال: إن الشافعي نص على هذا الحكم في الأم.

وأبو إسحاق حمله على ما إذا قال: كذا وكذا درهم بالرفع، فإنه لا يلزمه إلا درهم، لأنه حينئذ يكون خبرًا عن المبهمين، فيكون تقديرهما: درهم.

قال ابن الصباغ: وهذه الطريقة هي الصحيحة.

وغيره قال: إنها منصوص عليها في الإقرار والمواهب.

وقد حكى ((الرافعي)) فيما لو قال: له علي كذا وكذا درهم بالرفع طريقة أخرى حاكية للقولين، لكن الأصح طريقة القطع بأنه لا يلزمه غير درهم، وهي التي أوردها القاضي أبو الطيب.

ووراء ما ذكرناه في مسألة الكتاب قول آخر، ووجه.

فالقول حكاه الإمام: أنه يلزمه درهم وشيء:

ص: 393

أما الدرهم فلتفسير الجملة الثانية.

وأما الشيء فللأولى الباقية على إبهامها.

وهذا يوافق ما جاء في بعض نسخ ((المختصر)): أنه إذا قال: كذا وكذا درهمًا [قيل: أعطه درهمًا] وأكثر، والمشهور منها: أعطه درهمًا أو أكثر، أي: فسره بدرهم أو بأكثر منه.

والوجه حكاه الماوردي، وابن الصباغ، والإمام عن أبي إسحاق: أنه يلزمه إذا كان يعرف العربية أحد وعشرون درهمًا، كما صار إليه صار إليه محمد بن الحسن في حق من يعرفها وغيره، ونسبه الإمام، والفوراني، والقاضي الحسين إلى أبي حنيفة، تمسكا بأن أقل عددين عطف أحدهما على الآخر، ونصب الدرهم بعده ذلك، وسنذكر ما يبطله.

فرع: لو قال: [له] علي كذا [وكذا]، لزمه شيئان، وله تفسيرها بما شاء.

قال في ((التهذيب)): ويجوز أن يكونا مختلفين.

ولو قال: كذا بل كذا، فوجهان في ((الحاوي)):

أحدهما: يكون إقرارًا بشيء واحد، ويكون الثاني إثباتًا للأول.

والثاني: أنه يكون إقرارًا بشيئين، فيفسرهما بما شاء مما يقبل به تفسير الشيء.

قال: وإن قال: كذا درهم بالخفض، لزمه دون الدرهم، لأن قوله:((كذا)) عبارة عن بعض الشيء، وعن جملته، فلزمه البعض، لاحتمال إرادته إياه، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب، والبغوي، واختاره ابن الصباغ، و [كذا] صاحب ((المرشد)) في حق من يعرف العربية.

وقيل: يلزمه درهم، لأن قوله:((كذا)) لا يفهم معنى فيصير وجوده كعدمه، فينزل [جملة] كلامه عليه كقوله: علي درهم، ولو قال ذلك لزمه درهم، رفع أو نصب أو خفض، فكذا هنا، وهذا ما اقتضى إيراد ((الرافعي)) ترجيحه، ولم يحك الماوردي سواه، وهو المعزي في ((الشامل)) [إلى الشيخ] أبي حامد.

وقال في ((التتمة)): إنه لا يتجه غيره في حق من لا يحسن الإعراب، لأن هذه اللفظة لا تذكر في العادة ويراد بها بعض الدرهم.

ص: 394

وعلى هذا: لو قال: كذا وكذا وكذا درهم بالخفض، يظهر أن يكون الحكم كما لو قال: كذا درهمًا بالنصب، وقد صرح به الماوردي.

وعلى الأول قال القاضي أبو الطيب: له تفسير ما دون الدرهم بحبتين، ودانقين، وغيرهما، ويكون تقدير كلامه: كذا وكذا من درهم.

ولا خلاف في أنه لو قال: كذا درهم، بالرفع، أنه يلزمه درهم، ويكون خبرًا، وتقديره: علي شيء هو درهم.

ولو قال: كذا درهمًا، بالنصب، لزمه درهم.

وحكى الماوردي، وابن الصباغ، والإمام عن ابي إسحاق المروزي: أنه يلزمه عشرون درهمًا، إذا كان يعرف العربية، كما صار إليه محمد بن الحسن فيمن يعرفها وغيره.

ونسبه الإمام وغيره إلى أبي حنيفة، تمسكا بأنه أول اسم ينصب الدرهم المفسر عقيبه.

وأجاب الأصحاب عن ذلك وعما تقدم بأن تفسير الألفاظ المبهمة لا ينظر فيه إلى الإعراب، كما لا ينظر إليه في الأقاوير، ويدل عليه أنه لو قال: لهعلي مائة درهمًا، يلزمه المائة وإن كان ذلك خطأ في اللغة.

ولو قال: له علي [كذا] درهم صحيح، لم يلزمه مائة درهم بوفاق الخصم وإن كانت الموازنة التي ذكرت من اتباع العربية تقتضي لزوم المائة، وإنما كان كذلك لأن المتبحر في اللغة قد يخطئ فيها، فنزلنا الأمر على الظاهر، وأول ما يسبق على الفهم من الكلام عند الإطلاق.

وقولنا في فرض المسألة: درهم صحيح، حتى لا ينصرف اللفظ إلى نصف درهم، وربع درهم.

فإن قيل: قد حكى البندنيجي أن الطحاوي حكى عن بعض أصحاب أبي حنيفة: أنه يلزمه في هذه المسألة مائة درهم، عملا بالموازنة المذكورة، وهو محمد بن الحسن- كما قاله ابن الصباغ- فقد انتفى الإلزام.

قيل: المشهور عنهم الأول، وعلى تقدير تسليم الثاني، فالإلزام يتوجه من طريق آخر، وهو أنه إذا قال: كذا درهماً، [لزمه عشرون، وإذا قال: كذا كذا درهمًا

ص: 395

لزمه إذًا أحد عشر درهمًا]، وهذا من الغلط العظيم، لأن المقر كرر اللفظ بعينه مرة أخرى، فإن لم يزد ذلك في المقدار، فينبغي ألا ينقص منه، لأنه لا يكون أقل من التأكيد للأول بالثاني، والتأكيد لا يزيده نقصانًا.

ولو قال: كذا درهم، بالوقف، قال ((الرافعي)) وغيره: فهو كما لو ذكره بالخفض، أي: فيجيء فيه الوجهان، وكذا قاله ابن الصباغ.

قال: وإن قال: له علي ألف ودرهم، أو ألف وثوب، لزمه الدرهم والثواب، لتصريحه في الإقرار بهما، ورجع في تفسير الألف إليه، لأنه يجوز العطف على غير الجنس حقيقة، فيقول: رأيت رجلًا وحمارًا، كما يجوز على الجنس، فيقول: رأيت زيدًا وعمرًا، وإذا كان كذلك احتمل أن يريد العطف على الجنس وعلى غيره، فرجع إليه.

ولأن الخصم في مسألة الدرهم- وهو أبو حنيفة، وأبو ثور- وافقنا على أنه إذا قال: ألف وثوب: أنه يرجع في تفسير الألف إليه، وكذا في كل ما لا يتقدر بكيل، ولا وزن، كما قاله الماوردي، وابن الصباغ وغيرهما، فنقول في مسألة الدرهم: معطوف على مبهم، ليس بوصف له، فوجب ألا يفسر ذلك المبهم، أصله: ألف وثوب.

ولأن ما أفاد زيادة على العدد، لم يفد تفسيرًا.

دليله، ما إذا قال: ألف وثوب، أو عبد.

وهكذا الحكم فيما لو قال: ألف ودرهمان أو مائة ودرهم، أو ثوب، أو مائة ودرهمان، أو ثوبان- يلزمه الدرهمان والثوبان، ويرجع في تفسير الألف والمائة إليه، وله أن يفسر ذلك بجنس واحد، وأجناس مما يسوغ تفسير الشيء به، كما لو قال: له علي ألف.

فرع: لو قال: له علي ألفٌ درهمٌ، قال ((الرافعي)): كان له أن يفسر الألف بما لا تنقص قيمته عن درهم، وكأنه قال: الألف مما قيمة الألف منه درهم.

قال: وإن قال: له علي مائة وعشرة دراهم، كان الجميع دراهم، [لأن الدراهم] هاهنا لم تفد زيادة على العدد المذكور، فتعين أن تكون مفسرة وقد

ص: 396

تعقبت جملتين، كل واحدة محتاجة إلى التفسير، فصرفت إليهما والشاهد لذلك العرف.

وقيل: يلزمه عشرة دراهم، ويرجع في تفسير المائة إليه كالمسألة قبلها، وهذا قول ابن خيران والإصطخري.

وعلى هذا: لو قال: بعتك بمائة وعشرة دراهم، كان البيع باطلًا، للجهل بالمائة. والصحيح الأول، وهو المختار في ((المرشد)).

والخلاف جار فيما لو قال: مائة وخمسة عشر درهمًا، ومائة وثلاثة دراهم، ومائة وخمسون درهمًا، وخمسة وعشرون درهمًا، وألف وخمسون درهمًا، وألف ومائة درهم، وخمسون وألف درهم.

وفي ((الحاوي)) وجه ثالث: أنه إذا كان ما بعد الألف عددًا بلفظ الجمع، كقوله: ألف وثلاثة، أو أربعة دراهم، وهكذا إلى العشرة لم يكن ذلك تفسيرًا للألف. وإن كان ما بعد الألف عددًا منسوبًا للدرهم، كقوله: أحد عشر درهمًا فما زاد، كان تفسيرًا للألف، لأن التمييز أخص بالصفات والنعوت، ويكون تقدير الكلام: له علي ألف وأحد عشر من الدراهم.

قال أبو الطيب وغيره: ولا خلاف بين أصحابنا فيما لو قال: له علي خمسة عشر درهمًا: أن الدرهم تفسير للجميع، لأن الخمسة عشر وإن كان عددين، فإن أحدهما ركب على الآخر، فجريا مجرى العدد الواحد.

وكذا لا خلاف بينهم فيما لو قال: ألفًا إلا ثلاثة دراهم، لا يكون تفسيرًا، لأن ذلك تفسير للاستثناء، وتفسير الاستثناء لا يكون تفسيرًا للمستثنى منه، قاله الماوردي.

فرع: هو عكس مسألة الكتاب- إذا قال: له علي درهم ونصف، أو عشرة

ص: 397

دراهم ونصف- ففي النصف وجهان:

أحدهما- وبه قال الإصطخري-: أنه مبهم.

والثاني- وبه قال الأكثرون-: أنه نصف درهم، لجريان العادة به.

قال: وإن قال: له علي عشرة، أي دراهم، إلا عشرة، أي: دراهم- لزمه العشرة، لما ذكرناه في كتاب الطلاق.

أما إذا قال: له علي عشرة إلا عشرة كما هو ظاهر لفظ الشيخ- فهو شبيه بما لو قال: له علي شيء إلى شيئًا.

وقد حكى القاضي الحسين وغيره في بطلان الاستثناء وجهين:

أحدهما: يبطل.

والثاني: لا يبطل، لوقوع الشيء على القليل والكثير، فلا يمتنع حمل الثاني على أقل مما حمل عليه الأول.

وهذا يظهر مثله في قوله: عشرة إلا عشرة [لكن الأصحاب الحاكين لهذين الوجهين قاسوا الأول على ما لو قال: له علي عشرة إلا عشرة] وهذا يدل على أن ذلك متفق عليه وهو لا يخلو عن احتمال.

قال الإمام: وفي التردد في مسالة: شيء إلا شيئًا غفلة، لأنا إن ألغينا استثناءه اكتفينا بأقل ما يتمول، وإن صححناه ألزمناه- أيضًا- أقل ما يتمول، فيتفق الجوابان.

قال ((الرافعي)): ويمكن أن يقال: حاصل الجوابين لا يختلف، لكن التردد غير خال عن الفائدة، فإنا إذا أبطلنا الاستثناء. لم نطالبه إلا بتفسير اللفظ الأول، وإن لم نبطله طالبناه بتفسيرهما، وله آثار في الامتناع من التفسير.

قال: وإن قال: له علي درهم ودرهم إلا درهمًا، لزمه درهمان على المنصوص، وقيل: يلزمه درهم.

وقد بينا نظير ذلك في الطلاق على أبلغ وجه، وكذا قاعدة الاستثناء، فليطلب

ص: 398

من ثم، فإن الحكم في البابين واحد، لكنا قلنا ثم: إن الصحيح هو المنصوص، [وقد قال به الجمهور هنا أيضًا.

وفي ((الحاوي)): أن الصحيح هنا: أنه] يلزمه درهم، وقد شذ عنا ثم فروع، نذكر منها هنا ما يتيسر:

ومنها: إذا قال: لع علي عشرة إلا خمسة أو ستة، قال في التتمة: لا يلزمه إلا أربعة، لأن الدرهم الزائد مشكوك فيه، فصار كما لو قال: له علي خمسة أو أربعة، لا يلزمه إلا أربعة.

قال ((الرافعي)): ويمكن أن يقال: يلزمه خمسة، لأنه أثبت العشرة، واستثنى منها خمسة، واستثناء الدرهم الزائد مشكوك فيه.

قلت: ولا وجه إلا الأول، لما تقدم أن الاستثناء مع المستثنى من كاللفظ الواحد، لأنه أثبت شيئًا، ثم رفعه، ولهذا صح.

وفي ((العدة)) أنه لو قال: له علي ألف درهم إلا مائة درهم، أو خمسين درهمًا، لزمه الألف في أحد الوجهين، لأن الاستثناء المتأخر مشكوك فيه، فلا [يرفع المتقدم] المتيقن، كقوله: إلا مائة درهم، أو عشرة دنانير.

ومنها: لو قال: له على ألف درهم ومائة دينار، إلا مائة [درهم] وعشرة

ص: 399

دنانير-[لزمه الألف كاملًا، والاستثناءان يرجعان إلى الدنانير في أحد الوجهين.

ولو قال: له علي ألف درهم إلا مائة درهم وعشرة دنانير] إلا قيراطًا، لزمه تسعمائة وعشرة إلا قيراطًا في أحد الوجهين، [قالهما في العدة].

ومنها: لو قال: له علي درهم غير دانق فقضية النحو- وبه قال بعض الأصحاب- أنه إن نصب ((غير))، فعليه خمسة دوانق، لأنه استثناء، وإلا فعليه درهم تام، والمعنى: علي درهم إلا دانق.

وقال الأكثرون: السابق إلى فهم أهل العرف [منه] الاستثناء، فيحمل عليه وإن أخطأ في الإعراب.

ومنها: إذا قال: غصبته عبدًا إلا رأسه، أو إلا يده، ففيه وجهان:

أصحهما في ((الحاوي)): أنه يكون غاصبًا لجميعه، لإحالة ما استثناه.

والثاني: أنه يكون مقرًا بمجهول، ويرجع في بيانه إليه.

قال: وإن قال: له علي ألف درهم إلا ثوبًا، وقيمة الثوب، أي: الذي فسره، دون الألف، أي: ولو بأقل ما يتمول- قبل منه، لأن الاستثناء من غير الجنس، واستثناء الأكثر في الإقرار جائز عندنا، كما هو مقرر في الأصول، وهذا منه. نعم، حكى الماوردي عن أصحابنا وجهين في جواز استثناء الأكثر في غير الإقرار.

وقد قال الغزالي في مسألة الكتاب: إن هذا استثناء من الجنس، لأن تقديره: إلا قيمة ثوب.

نعم: فيه مجاز من حيث ذكر الثوب، والمراد قيمته.

أما إذا فسر الثوب بثوب قيمته ألف فأكثر، فوجهان:

أحدهما: أن التفسير باطل، والاستثناء صحيح، فيلزم أن يفسر بثوب قيمته دون الألف، وهذا ما صححه البغوي.

والثاني: أن الاستثناء باطل، ويلزمه الألف، وهذا ما صححه الإمام وغيره.

ومن هنا يظهر لك أن قول الشيخ: وقيمة الثوب دون الألف شرط لصحة الاستثناء، أو لصحة التفسير ومنه يظهر أن المحذوف في قوله: قبل منه، ماذا.

فرع: لو قال: له علي ألف درهم ومائة دينار إلا خمسين، فإن أراد بالخمسين

ص: 400

المستثناة جنسًا غير الدراهم أو الدنانير، [قبل منه بالشرط السابق.

وإن أراد أحد الجنسين من الدراهم، أو من الدنانير]، أو منهما قبل.

وإن فات بيانه، عاد إلى المالين، لكن هل يعود إلى كل واحد منهما جميع الخمسين، أو نصفها؟ فيه وجهان في ((الحاوي)).

قال: وإن قال: له علي ألف إلا دينارًا، رجع في تفسير الألف إليه، وأسقط منه الدينار، لما ذكرناه.

ولو فسر الألف بما لا يبقى منه شيء بعد إسقاط الدينار، ففيه وجهان:

أحدهما: يبطل الاستثناء، وهو المختار في ((المرشد)).

والثاني: يبطل التفسير.

وكما يصح استثناء المبهم من المعلوم، والمعلوم من المبهم، يصح استثناء المبهم من المبهم، كما إذا قال: له علي ألف إلا شيئًا، أو إلا عبدًا، ويكلف تفسيرهما معًا، فيبين جنس الأول، ثم يفسر الثاني.

ولو قال: شيء إلا شيئًا، فقد تقدم الكلام فيه، وكما يجوز الاستثناء مرة يجوز مرتين فأكثر، لكنه ينظر:

فإن عطف الثاني على الأول بواو العطف، كانا جميعًا بمنزلة الاستثناء الواحد، إذ لم يلزم من ذلك استغراق، مثاله: إذا قال: له علي عشرة إلا درهمين وإلا درهمًا، فيلزمه سبعة، كما لو قال: له علي عشرة إلا ثلاثة.

[وإن لزم منه استغراق، كما إذا قال: له علي عشرة إلا سبعة وإلا ثلاثة] فهل يلزمه عشرة كما لو قال: له علي عشرة إلا عشرة، أو نخص الثاني بالبطلان حتى يلزمه ثلاثة؟ فيه وجهان جاريان فيما لو قال: له علي عشرة إلا سبعة وثلاثة، وأصحهما في هذه الثاني.

وعن الشيخ أبي علي أنه قطع به في الأولى، وبه يحصل في الصورتين ثلاثة أوجه.

ص: 401

وإن كان الثاني بغير واو العطف، كان الاستثناء الثاني راجعًا إل ما يليه من الاستثناء الأول، ويعتبر صحته وفساده، لكونه مستغرقًا بالنسبة غليه، لا إلى الأول.

مثاله: إذا قال: له علي عشرة، إلا خمسة إلا اثنين، كان قد استثنى من العشرة خمسة، ومن الخمسة اثنين، والجميع سبعة، فيلزمه ثلاثة، ويشهد لهذه القاعدة قوله تعالى: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ

} [الحجر:58، 60] فاستثنى ((آل لوط)) من القوم، ثم استثنى امرأته من ((آل لوط)) من غير حرف العطف، فكان راجعًا إلى الاستثناء الذي يليه دون المستثنى منه.

والطريق في معرفة ما يلزمه في مثل ذلك مما لا يلزم إذا تعددت الاستثناءات بعد ما ذكرناه من القاعدة هنا، وما ذكرناه من قاعدة ثانية في كتاب الطلاق: أن الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي العام إثبات، وكذا من غير العام إذا تقدم النفي، إثبات- أن يجمع كل ما هو إثبات على اليد اليمنى مثلًا، وكل ما هو نفي على اليسرى، ثم يسقط المنفي من المثبت، فما بقي منه هو الجواب.

مثاله: إذا قال: له على عشرة، إلا تسعة، إلا ثمانية، وهكذا إلى الواحد، فالمثبت ثلاثون، والمنفي خمسة وعشرون، فإذا أسقطت خمسة وعشرين من ثلاثين، بقيت خمسة فهي اللازمة له.

قال الإمام: والطريق في تمييز المثبتات من المنفيات أن ينظر إلى العدد المذكور أولًا، فإن كان شفعًا فالأوتار منفية، والأشفاع مثبتة، وإن كان وترًا فبالعكس، ولهذا شرط، وهو أن تكون الأعداد المذكورة على التوالي الطبيعي، ويتلو كل شفع منها وتر، أو بالعكس كما ذكرناه.

وقد احترزنا بقولنا: إن الاستثناء من النفي غير العام إثبات إذا تقدمه إثبات عما إذا قال: ليس له علي عشرة إلا خمسة، فإنه لا يلزمه شيء عند الأكثرين، لأن عشرة إلا خمسة خمسة، فكأنه قال: ليس له [علي] خمسة.

وبقولنا: العام، أدخلنا ما لو قال: ليس له علي شيء إلا خمسة، فإنه يلزمه خمسة.

وفي ((النهاية)) وجه آخر في المسألة الأولى: أنه يلزمه خمسة كهذه.

ص: 402

وعلى هذا لا نحتاج في قولنا: إن الاستثناء من النفي [إثبات]، إلى شرط. ثم قضية قولنا: إن الاستثناء الثاني إذا وقع بغير حرف العطف يكون صحته وفساده بالنسبة إلى ما يليه من الاستثناء منه أنه إذا قال: لفلان علي عشرة إلا خمسة إلا عشرة: أنه يلزمه خمسة، لأن الثاني باطل، لكونه مستغرقًا، والأول صحيح، لكونه غير مستغرق، فاقتصر عليه.

نعم، لو انعكس الحال، فقال: له علي عشرة إلا عشرة إلا أربعة، ففيه الأوجه المذكورة في نظير المسألة من الطلاق.

قال: وإن قال: له هؤلاء العبيد العشرة إلا واحدًا، لزمه تسليم تسعة، لأن الاستثناء يصح وإن كان مجهولًا، كما لو قال: له علي عشرة إلا شيئًا، فكذلك هاهنا، إذ لا فرق بين العين والدين.

قال: [ويلزمه البيان]، لأن حق الغير تعلق بالمقر به منهم، فلزمه تعيين، كما لو أقر بطلاق إحدى نسائه على التعيين، أو عتق [أحد عبديه]. ثم هو بالخيار بين أن يعين من استثناه، وبين أن يعين المقر بهم التسعة، فإن نازعه المقر له في التعيين، فالقول قول المقر مع يمينه.

وهكذا الحكم فيما لو قال: له هؤلاء العبيد إلا واحدًا، يصح، ويطالب بالبيان، وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب، والحسين، وغيرهما حكاية عن النصف في ((المختصر))، ولم يورد في ((الوجيز)) غيره، وقال ((الرافعي)): إنه ظاهر المذهب.

وحكى في ((الوسيط)) فيها وجهًا آخر: أنه لا يصح، لأن الاستثناء إنما ورد في اللسان عن الأعداد، فلذلك يقبل، وإلا فالأصل أن رفع الإقرار السابق باطل.

فإن قلت: هل يجري هذا الوجه في الصورة السابقة؟

قلت: لا إن جردت النظر إلى ما علل به، لأن العدد ثابت فيها.

نعم: يمكن أن يأتي فيها [من مأخذ] سلكه الإمام في تصحيحه في نظير المسألة، وهو ما إذا أشار إلى عشرة دراهم، فقال: هذه الدراهم لفلان إلا هذا وهذا، متمسكًا بأن إضافة الإقرار إلى معين يقتضي الملك فيه نصًا، فإذا أراد الاستثناء في البعض كان راجعًا.

ص: 403

وأيده بأنه لو قال: له هذا الدرهم، وهذا الدرهم إلا هذا الدرهم، فلا خلاف على بطلان الاستثناء.

ولو قال: له علي درهم ودرهم إلا درهمًا، كان في صحة الاستثناء خلاف. ما ذكره من التصحيح هو ما أورده الغزالي في القسم الثاني من التعليقات من كتاب الطلاق، حيث قال: لو قال: لفلان هؤلاء الأعبد الأربعة [إلا هذا، لم يصح الاستثناء بلا شك، لأن الاستثناء في المعين لا يعتاد، وهذا التعليل يرشد إلى أن هذا مخصوص بما إذا عين المخرج من الجملة، لأنه الذي يعني بالاستثناء، أما إذا لم يعينه، بل أبهمه، كما إذا قال: له هؤلاء الأربعة] إلا واحدًا، فلا، وحينئذ فلا يكون منافيًا لما ذكره هنا.

لكن [لك أن تقول]: الغزالي ساق ذلك لتأييد مذهب القاضي فيما إذا قال لنسائه: أربعتكن طوالق إلا فلانة: أنه لا يصح الاستثناء، لأنه صرح بالأربع، وأوقع عليهن الطلاق، وهذا يدل على أنه عنى بالاستثاء المستثنى منه، وإلا لم يحصل التأييد، وحينئذ تتوجه المؤاخذة.

وقد قال القاضي: لو قال: أربعتكن إلا فلانة طوالق، صح الاستثناء، ونظيره في مسألتنا: أن يقول: هؤلاء الأعبد العشرة إلا هذا لفلان، فيصح جزمًا.

ثم قال الغزالي: والمسألة- أي في الطلاق- محتملة، إذ لا يلوح الفرق بين عدد [المطلقات وعدد] الطلقات، ولا بين التقديم والتأخير.

قال: فإن ماتوا إلا واحدًا، فذكر أنه [هو] المستثنى، قبل منه على المذهب، لاحتمال صدقه، والأصل ثبوت يده عليه، وبقاء تصرفه فيه، وهذا ما حكاه أبو الطيب والماوردي وغيرهما وجهًا، وصححوه، وقال الإمام: إنه الذي قطع به الأصحاب.

وغيرهم قال ما قاله الشيخ.

وقيل: لا يقبل، لأنه يرفع به حكم الإقرار، فأشبه ما لو قال: له [علي] ألف إلا ثوبًا، وفسر الثوب بما يستغرق [قيمة] الألف.

ص: 404

والقائلون بالأول فرقوا بأن الاستثناء هنا قد صح وقت الإقرار، وتفسيره لا يرفع الجميع، وإنا يظهر به تعذر تسليم المقر به، لموتهم، لا لمعنى يرجع إلى الإقرار، فأشبه ما لو ماتوا بعد البيان، بخلاف المسألة المقيس عليها، فإن التفسير يرفع جملة المقر به.

ولو قتلوا إلا واحدًا، فذكر أنه [هو] المستثنى، قبل وجهًا واحدًا وإن كان الحي أقل قيمة، لأن حق المقر له يتعلق بقيمة المقتولين، وقد ادعى القاضي أبو الطيب في ذلك الإجماع.

ومن هنا يظهر: أنه لو قتلهم من لا ضمان عليه، كان كما لو ماتوا، وأنه لو قال: غصبت هؤلاء العبيد إلا واحدًا، فماتوا كلهم إلا واحدًا، فذكر أنه [هو] المستثنى: أنه يقبل، كما قال الأصحاب كافة، لأن أثر الإقرار يبقى في مطالبته بقيمة الموتى.

فرع: لو مات المقر قبل البيان، قام وارثه مقامه، قاله القاضي الحسين.

قال: وإن قال: له هذه الدار إلا هذا البيت، أو هذه الدار له وهذا البيت لي- قبل منه:

أما في الأولى، فلأن ما أتى به صيغة استثناء، فعمل بموجبه، كما يعمل به عند الاستثناء من الأعداد، وهكذا الحكم فيما لو قال: له هذا الخاتم إلا هذا الفص ونحوه.

وأما في الثانية، فلأنه أخرج البعض بلفظ متصل، فأشبه الاستثناء، بل هو أبين منه، لأنه تصريح بمعنى الاستثناء، فكان أولى بالصحة، وهذا ما حكاه الإمام عن صاحب ((التخليص))، والقاضي الحسين عن القفال، وقال: إنه يشكل بما لو قال: هذه الدار لزيد، وهذا البيت لعمرو، أو هذه الشاة لزيد، وحملها لعمرو- فإنه

ص: 405

يحكم بالدار والبيت والشاة والحمل لزيد، لأنه لو سكت على قوله: هذه الدار وهذه الشاة لزيد، كان يستحق ذلك [كله، فكان رجوعًا عن بعض الإقرار، بخلاف ما لو استثنى ذلك]، لأن الاستثناء لبيان ما بدأ به من الكلام، كالتخصيص إذا ورد على العموم.

نعم، لو قال: هذا البيت لعمرو والحمل [له] والدار والشاة لزيد، سلم لعمرو البيت والحمل وهذا من القاضي تفريع على أمرين:

أحدهما: أن الإقرار بالشاة إقرار بالحمل، وسنذكر فيه ما يمكن ذكره.

والثاني: أن الإقرار بالحمل المجرد يصح كالإقرار للحمل كما أبداه الماوردي احتمالًا بعد أن حكى أن المزني نقل في ((جامعة الكبير)): أن الإقرار بالحمل باطل، لأنه لا يصح أن يملك منفردًا ببيع ولا هبة ولا ميراث.

قلت: وهذا يظهر أنه مفرع على أن الإقرار المطلق لا يصح إلا إذا أمكن أن يكون سببه من الأسباب الغالبة: كالبياعات والإتلافات، كما تقدم ذكره عند إطلاق الإقرار للحمل.

أما إذا لم يمكن أن يكون سببه إلا نادرًا: كالوصية، فلا، وقد تقدم أن الصحيح صحة الإقرار المطلق إذا أمكن أن يكون له سبب صحيح وإن كان نادرًا، وقضيته أن يكون الصحيح صحة الإقرار بالحمل كما ذكره الماوردي، لأنه تصح الوصية به، ولهذا لو أقر بالحمل وعزاه إلى وصية، صح جزما.

ثم مسألة الكتاب مفرعة على الصحيح في أن الاستثناء من غير الأعداد جائز، وإلا فقد حكى الغزالي الوجه السابق فيها، وطره فيما إذا قال: هذا الخاتم له إلا هذا الفص.

قال: وإن قال: له هذه الدار عارية، فله أن يرجع فيها متى شاء، لأن قوله: له هذه الدار، ليس صريحًا في الملك إلا إذا تجرد، أما إذا اقترن به ما يقدح فيه مع احتماله فلا.

قال الماوردي: فإن قيل: هلا كان على قولين من قوليه فيمن قال: له علي ألف قضيتها؟

ص: 406

قيل: الفرق: أنه في ادعاء القضاء رافع لكل ما تقدم، فلم يقبل، وهو في قوله: عارية، مثبت لحكم ما تقدم على صفة محتملة، فقبل.

وقال صاحب ((التقريب)): ينبغي أن يتخرج ذلك على ما لو قال: له علي ألف من ثمن خمر، لأن آخر كلامه يرفع أوله.

وليس بشيء، والفرق ما ذكره الماوردي.

وأيضًا: فإن الإضافة إلى العارية حقيقة، بخلاف الخمر، فإنه لا يملك حقيقة، [وهكذا الحكم] فيما لو قال: له هذه الدار هبة عارية.

فرع: لو قال: لك سكنى هذه الدار، قال الماوردي: فهو إقرار لازم، [تلك السكنى عن إجارة في الظاهر، فإن ادعاها، وطلب الأجرة، لزم المقر له دفع الأجرة إن قبل الإقرار،] وإن رده فلا أجرة عليه، كما لا سكنى له.

قال: وإن قال: له هذه الدار هبة، فله أن يمتنع من التسليم، لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض، وهو إلى خيرة الواهب، وإقراره لم يتضمنه.

ولا فرق بين أن تكون الدار في يد المقر له بالهبة أو لا.

وعن صاحب التقريب: أن ذلك يتخرج على ما لو قال: له علي ألف من ثمن خمر.

قال الغزالي: وهو فاسد.

وقال القاضي أبو الطيب: إن من أصحابنا من قال: إذا كانت في يد الموهوب له، فالقول قوله في القبض.

قال ابن الصباغ: وعزوه إلى الشافعي، وهو مقول على القول الذي يقول: إذا وهب له شيئًا في يده لا يحتاج إلى الإذن في القبض، وإذا مضى زمان يمكن يه القبض، صار مقبوضًا.

وقد حكي عن رواية الإمام وجه مثله فيما إذا وجد الرهن في يد المرتهن، وقال الراهن: غصبني، وقال المرتهن: بل أنت أقبضتنيه- أن القول قول المرتهن.

والصحيح: أن القول قول الواهب والراهن.

وعلى هذا: لو قال: وهبت منه الدار، وملكها، لم يكن- أيضًا- إقرارًا بالقبض على النص، كما حكيته في باب الهبة، فليطلب من ثم.

ولو قال: وهبتها له، وخرجت إليه منها، قال ((الرافعي)): لم يكن إقرارًا بالقبض

ص: 407

وعن القفال الشاشي: أنه مقر به.

وفي ((الحاوي)): إن كانت الدار عند الإقرار في يد الموهوب له، كان قوله:((وخرجت إليه منها)) محمولًا على الإقباض، لأنه الظاهر من معناه، وقد رواه المزني نصًا في ((جامعه الكبير)).

وإن كانت في يد المقر، سئل عن مراده [به]، فإن فسره بشيء محتمل غير القبض قبل.

قال: وإن قال: له علي ألف مؤجلة- أي: إلى وقت كذا- لزمه ما أقر به، أي: مؤجلًا لأن الأجل صفة في الدين كالحلول، وإذا كان كذلك فقد أقر بدين بصفة، فلزمه ما أقر به، كما لو أقر بدراهم نقص تحالف دراهم البلد، أو دراهم مكسرة. ولأنه أحد الصفتين، فقبل قوله فيه، كالحلول.

وقيل: فيه قولان:

أحدهما: يلزمه ما أقر به، لما تقدم.

والثاني: يلزمه ألف حالة، لأنه أقر بحق لغيره، وادعى لنفسه حقًا فقبل فيما عليه دون ما له، كما لو أقر بدار وادعى سكناها لنفسه سنة بإجارة.

ويفارق الإقرار بالحال، لأن ذلك مجرد حق عليه، وعلى هذا يلزم المقر له اليمين على الحلول [عليه] عند الطلب.

والصحيح الأول وإن ثبت الخلاف، وللقائلين به أن يمنعوا كون الإقرار بالحلول مجرد حق عليه، بل فيه حق له، وهو الإجبار على القبض وغيره كما تقدم.

ثم هذا إذا ذكر الأجل متصلًا باللفظ، ولم يبين سبب الدين، أو بينه، وهو يحتمل أن يثبت فيه الأجل، وألا يثبت: كالبيع ونحوه.

فلو ذكره مفصولًا، لم يقبل قوله فيه قولًا واحدًا، وكذا لو ذكره موصولًا وقال: إن سبب الدين قرض.

ولو قال: إن سببه تحمل عقل، فإن صدر به كلامه، فقال: ابن عمي قتل فلانًا خطأ ولورثه ذلك القتيل من ديته في ذمتي كذا مؤجلًا إلى سنة انتهاؤها كذا- فلا خلاف في القبول.

ص: 408

ولو جعله عجز كلامه، فقال: له علي كذا، من جهة تحمل العقل مؤجلًا إلى وقت كذا، ففيه- تفريعًا على طريقة القولين في المسالة السابقة- طريقان:

إحداهما- وهي التي أوردها في ((الوجيز))، والقاضي الحسين، ونسبها الإمام إلى المحققين- القطع بالقبول.

والثانية: طرد القولين.

قال ((الرافعي)): وهي الأظهر، لأن أول كلامه ملزم لو اقتصرت عليه، وهو في الإسناد إلى تلك الجهة مدع، كما في التأجيل.

فرع: لو شهد عليه شاهدان بألف، فقال: له علي ألف، لكنه مؤجل- حكى ((الرافعي)) في أوائل كتاب الدعاوى عن القفال: أنه تسقط الشهادة، وهو قضية ما حكاه عن القاضي أبي الطيب في أول هذا الباب.

ثم قال القفال: وهذا شخص قد أقر لغيره بدين مؤجل، ففي قبوله في الأجل الخلاف.

وقد قال البندنيجي في كتاب الدعاوى، والقاضي أبو الطيب في أواخر باب الدعوى على كتاب أبي حنيفة: أنه لا يقبل قوله في الأجل قولًا واحدًا، كما لو قامت عليه بينة بعشرة دراهم، فقال: إلا درهم.

قلت: وعلى قضية ما قاله القفال يظهر أن يجيء في المسالة ما حكيته عند الكلام فيما إذا شهد عليه بحد لله تعالى، فأقر به، ثم رجع عنه.

قال: وإن قال: [له] علي ألف من ثمن خمر، أو: ألف قضيتها- ففيه قولان: أحدهما: يلزمه، لأنه وصل بإقراره ما يرفعه، فأشبه ما لو قال: له علي ألف إلا ألفًا، وهذا ما صححه العراقيون، وغيرهم في الأولى، وهو في الثانية من طريق الأولى.

وعلى هذا: للمقر تحليف المقر له على نفي كونه ثمن خمر، وعلى عدم القضاء.

والثاني: لا يلزمه، لأن الكلام إنما يتم بآخره، لا يفصل آخره عن أوله، ولا أوله عن آخره، [كما لو قال: لا إله إلا الله، لا يفصل أول الكلام عن آخره] حتى يكون كفرًا ثم إيمانًا، وقد وصل بالكلمة الأولى ما هو محتمل وجائز عرفًا،

ص: 409

فوجب ألا يتبعض ولو رفع الأول، كما لو قال: أنت طالق- أو حرة- إن شاء الله تعالى.

ولأن الإقرار إخبار عما جرى، وما ذكره جار بين الناس، فاعتضد قوله بالظاهر، وفراغ ذمته، وهذا ما اختاره المزني وأبو إسحاق

والفرق بين ذلك والاستثناء المستغرق: أنه في الاستثناء وصل الإقرار بما يرفعه من الوجه الذي أثبته، فلم يقبل، وهذا ليس كذلك، ويخالف قوله: علي ألف مؤجل، حيث قطع فيه بالقبول على طريقة، لأنه ثم لم يرفع جملة الإقرار، فقبل كالاستثناء وهنا رفع جملته.

وعلى هذا للمقر له تحليف المقر أنه كان من ثمن خمر، وأنه قضاه.

وقيل في المسألة الثانية: يلزمه قولًا واحدًا، وهي التي صححها الغزالي، وادعى الإمام في [أثناء الكلام في] مسائل التفسير بالوديعة: أنها المذهب، ولم يحك الفوراني غيرها، لتناقض قوله، فإنه يصير كما لو قال: له علي ألف لا يلزمني، وهنا مما لا خلاف فيه، وهو كما لو قال: هذه الدار لفلان، وكانت لي إلى أن أنشأت الإقرار، فإن إقراره بالملك نافذ، وقوله: كانت لي لغو مطرح، كذا قاله الإمام هنا، ويوافقه قوله في آخر كتاب اللقيط: ول أقر بكون الشيء ملكًا له، وعزاه إلى نفسه، ثم أقر به لإنسان من غير أن يتخلل بين الإقرارين ما يتضمن نقل الملك، فإقراره لذلك الإنسان مقبول، وهذا بخلاف ما لو قال: داري أو ثوبي المملوك لي لفلان، فإن الإقرار باطل، نص عليه الشافعي، كما قال الغزالي.

[قال]: ولم يحمل قوله: داري، على إرادة الإضافة بالسكون أو المعرفة وإن كان له اتجاه.

والصحيح عند الجمهور طريقة القولين.

والطريقان جريان فيما لو قال: لفلان علي ألف أبرأني منها.

والقولان جاريان- كما قال الأصحاب- فيما ينتظم لفظه في العادة، ولكنه يبطل حكمه شرعًا، كما إذا أضاف المقر به إلى بيع فاسد: كالبيع بأجل مجهول، أو بخيار مجهول، أو قال: تكفلت ببدن فلان بشرط الخيار، أو ضمنت لفلان كذا

ص: 410

بشرط الخيار، وما أشبه ذلك، وهما في الحالة الأخيرة منصوص عليهما كما قال الماوردي، وألحق بها ما تقدم من الصور قال ((الرافعي)): وفي كلام الأئمة ذكر مأخذين لهذا الخلاف:

أحدهما: بناؤه على القولين في تبعيض الشهادة إذا شهد لابنه وأجنبي.

ولك أن تقول: هذا لا يشبه مسألة الشهادة، لأ، الشهادة تقول: هذا لا يشبه مسألة الشهادة، لأن الشهادة للأجنبي والشهادة للابن أمران لا تعلق لأحدهما بالآخر، وإنما قرن الشاهد بينهما لفظًا، والخلاف فيها يشبه الخلاف في تفريق الصفقة، وأما هنا فالمذكور أولًا مسند إلى المذكور آخرًا، ولكنه فاسد مفسد للأول، ولهذا لو قدم الإضافة إلى ثمن الخمر، فقال: لفلان من ثمن خمر علي ألف، لا يلزمه شيء بحال.

قلت: كما نص عليه الشافعي، كذا حكاه القاضي الحسين في باب التيمم من ((الفتاوى)).

ويؤيده ما حكاه الماوردي فيما إذا قال: إنما ضمنت لك هذا بشرط الخيار- أنه يقبل قوله قولًا واحدًا، لأن صيغة ((إنما)) تقتضي أن يتصل الضمان بغيره، فصار كالمتقدم ذكره.

قال ((الرافعي)): وفي الشهادة لا فرق بين أن يقدم ذكر الأب أو الأجنبي، ثم هب أنهما متقاربان، لكن ليس بناء الخلاف في الإقرار على الخلاف في الشهادة بأولى من العكس.

والثاني: أنه يجوز بناء هذا الخلاف على الخلاف في حد المدعي والمدعى عليه، فإن قلنا: المدلي [من] لو سكت تركناه وسكوته، فهاهنا لو سكت عن قوله: من ثمن خمر لترك فهو بإضافته إلى الخمر مدعٍ، فلا يقبل قوله، ويحلف المقر له. وإن قلنا: المدعي: من يدعي أمرًا باطنًا، فهو هنا المقر له، لأنه يدعي شغل الذمة، والأصل البراءة، فيكون القول قول المقر.

ولك أن تقول: لو صح هذا البناء لما افترق الحال بين أن يضيفه إلى الخمر موصولًا أو مفصولًا، ولا خلاف في عدم قبوله إذا أضافه مفصولًا، ولوجب أن يخرج التعقب بالاستثناء علي هذا الخلاف.

ص: 411

وقال الإمام بعد ذكر القولين في الخمر والضمان: وكنت أود لو فصل فاصل بين أن يكون المقر جاهلًا بأن ثمن الخمر لا يلزم، وأن الضمان مع شرط الخيار لا يلزم، وبين أن يكون عالمًا بذلك، فكان يعذر الجاهل دون العالم، ولكن لم يصر إليه أحد من الأصحاب.

واعلم أنه كثيرًا ما يطلب الفرق بين ما حكاه الشيخ هنا من القولين في قوله: له علي ألف [قضيتها]، وبين ما حكاه من الجزم فيما إذا قال: برئت إليه مما يدعيه، أو: قضيته أنه لا يقبل قوله في البراءة والقضاء إلا ببينة كما هو الصحيح، وإن كنا قد حكينا عن البندنيجي وابن الصباغ ثم: أنه علي القولين أيضًا.

ويظهر أن يقال- والله أعلم: إن قوله: برئت إليه، أو: قضيته لفظ واحد تضمن الإقرار والبراءة، والشيء الواحد لا يستعمل في الشيء وضده لغة وعرفًا وشرعًا، فأبطلناه فيما له، وصححناه فيما عليه.

وقوله: له علي ألف قضيتها لفظان، اقتضى أحدهما الشغل، وهو قوله:[له] علي ألف، والآخر البراءة، وهو قوله: قضيتها، وذلك منتظم لفظًا، واقع استعماله فيما نحن فيه عرفًا وإن امتنع شرعًا وعقلًا، فلا جرم خرج على القولين، والله أعلم.

فرع: إذا ادعى عليه مائة درهم، فقال: قضيتك منها خمسين- حكى القاضي أبو الطيب وغيره في أواخر باب الدعوى على كتاب أبي حنيفة: أن الشافعي نص في الأم على أن يكون مقرًا بالخمسين، مدعيًا لقضائها، فأقبل منه الاعتراف دون القضاء.

قال القاضي وغيره: وهذا ينبني على أن من ادعى عليه ألف، فقال: صدقت، ولكني قضيتك إياها، فقد اعترف بالألف وادعى القضاء، وفيه قولان، فإن قبلنا قول المقر في القضاء، لم يلزمه هنا قضاء الخمسين، وإلا لزمه.

وأما الخمسون الأخرى، فإنه ما أقر بها، لأن قوله: منها يحتمل عوده إلى الدعوى، والله أعلم.

قال: وإن قال: له [علي] ألف من ثمن مبيع لم يلزمه حتى يقر بقبض

ص: 412

المبيع، أي: سواء عين المبيع أو لم يعنيه.

قال الماوردي: لأن عقد المعاوضة جمع ثمنًا ومثمنًا، فلما كان إقراره بالثمن من عبد باعه غير لازم له، إلا أن يقر بقبض ثمنه، كذلك إقراره بثمن عبد ابتاعه غير لازم له، إلا أن يقر بقبض الذي ابتاعه، وتحريره قياسًا: أنه أحد نوعي ما تضمنه العقد من عوض، فوجب أن يكون لزوم الإقرار به موقوفًا على لزوم ما في مقابله، قياسًا على المبيع، وهذا ما نص عليه الشافعي في ((المختصر))، ولم يحك الماوردي، والعراقيون سواه.

وحكى المراوزة فيما إذا قال: له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، فإن سلم سلمت- طريقين كما في الإقرار بالدين المؤجل:

أحدهما: القطع بأنه لا يلزمه حتى يقر بقبض المبيع.

والثاني: في المسألة قولان:

أحدهما: هذا.

والثاني: لا يقبل قوله في أنه عن ثمن مبيع، ويلزمه في الحال، وهذا الطريق يجري فيما ذكره الشيخ من طريق الأولى.

والصحيح الأول، وألحق به الماوردي ما إذا قال: أقرضني ألفًا، ثم قال: لم أقبضها، فإن القول قوله عنده، ولا يلزمه الألف، لأن القبض يلزم القرض، فإذا لم يصرح به المقر في إقراره، فليس يقر بلزومه.

قال الفوراني: ولو قال: اشتريت منه سلعة بألف، فإن سلمها لي سلمتها إليه- فقول واحد: إن قوله مقبول.

قال: وإن قال: له علي ألف درهم نقص.

اعلم أن الدرهم [في] حقيقته عبارة عن وزن وقدر معلوم، قد يعبر به عن المضروب، غير أن الحكم فيه متعلق بالقدر منه، كذا قاله الماوردي هنا، وقال في كتاب السرقة: إنه كان للناس قبل الإسلام درهمان: أكبرهما البغلي، وزنه: ثمانية دوانيق، وأصغرهما الطبري، وزنه أربعة دوانيق، فجمع بينهما في الإسلام،

ص: 413

وأخذ نصفهما، فكان ستة دوانيق، وهي دراهم الإسلام يعدل على عشرة منها سبع مثاقيل، لأن المثقال لم يختلف.

والدانق- كما قال هنا، وتبعه الروياني-: ثاني حبات.

[وحكى ((الرافعي)) عن ابن سريج وأبي عبيد القاسم بن سلام: أنه ثمانية حبات]، وخمسا حبة من الشعير المتوسط الذي لم يتغير، وتكون كل حبة مقطوعًا من طرفها ما دق وطال، وقد قال هنا- وكذا القاضي أبو الطيب، والحسين-: إن لهم درهمًا آخر يسمى: الخوارزمي، وزنه أربعة دوانيق ونصف.

وقال القاضي الحسين إن لهم درهمًا آخر، وزنه سدس أو اقل.

فإذا عرفت ذلك بنيت عليه مسألة الكتاب، وهي إذا قال: له علي ألف درهم نقص، لزمه ناقصة الوزن، لأن وصفه إياها بأنها نقص بمنزلة الاستثناء، لأنه ينقص بعض المقدار الذي أفاده الإطلاق.

وعلى هذا ينظر:

إن كان قوله: نقص متصلًا، يقبل، وإن كان منفصلًا فلا، ويلزمه ألف وازنة من دراهم الإسلام.

وقيل في المسألة قولان، بناء على تبعيض الإقرار:

أحدهما: ما ذكره الشيخ.

والثاني: يلزمه ألف بوزن الإسلام، لأنه أقر بجملة ثم نفاها، وأثبت غيرها، فلم يقبل النفي، كما لو قال: له علي ألف بل خمسمائة، وقد نسبت هذه الطريقة إلى أبي علي بن خيران.

والذي أورده القاضي أبو الطيب الطريقة التي أوردها الشيخ، لكن هل يلزمه من الدراهم الطبرية أو الخوارزمية أو الدراهم الأخرى؟ لم أر فيه نقلًا، ويظهر أن يقال: يرجع إليه في التفسير، فإنه تعذر بيانه، نزل على أقل درهم، لأنا قد قلنا: إن ذلك ينزل منزلة الاستثناء، وقد تقدم أنه لو قال: له علي عشرة إلا خمسة، أو ستة، لزمه الأقل، وهو أربعة، لأنه المحقق، فكذا هنا.

قال: وإن قال: [له علي] ألف درهم، وهو في بلد أوزانهم ناقصة، لزمه من دراهم البلد على المنصوص- أي: في كتاب الإقرار والمواهب- لأنه

ص: 414

المعروف فيها، فنزل عليه كما ينزل مطلق الثمن في البيع عليه، وهذا ما اختاره القاضي أبو حامد.

وقيل: يلزمه ألف وازنة، حملًا للمطلق على المعهود في الإسلام وأكثر البلدان.

قلت: ويمكن بناء الخلاف في ذلك أن الاصطلاح الخاص هل ينزل منزلة الاصطلاح العام أم لا؟ كما تقدم في مواضع، ومنها: إذا توافق الزوجان على تسمية ألف في عقد النكاح ألفين.

لكن قضية ذلك- لو صح- أن يكون الصحيح لزوم الألف وازنة، لأن الصحيح ثم لزوم الألفين، وقد اختاره الشيخ أبو حامد هنا، وفرق بينه وبين البيع بأن الإقرار إخبار عن حق سابق، وهو يصح مع الجهالة، فلم يكن للعرف فيه مدخل، والبيع إيجاب في الحال تنافيه الجهالة، فأثر فيه العرف، تشوفًا للتصحيح.

لكن الصحيح هو المنصوص، وهو المختار في ((المرشد)).

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن ما ذكره هو الحكم عند الإطلاق، وهو ما أورده في ((الشامل))، تبعًا للقاضي أبي الطيب.

وفي ((المهذب)): أن محل الخلاف عند دعواه إرادة ذلك مفصولًا عن الإقرار، أما عند الإطلاق فيلزمه من دراهم الإسلام، وعلى ذلك ينطلق إيراد الماوردي والقاضي الحسين.

ولا خلاف أنه لو قال- والصورة هذه- له علي ألف درهم نقص: أنه لا يلزمه غيرها، صرح به القاضي الحسين.

وقد فرع ابن القاص على المنصوص ما لو قال: [له علي] ألف درهم، وكان في بلد يتعاملون فيها بالدراهم عددًا: أنه يجب أن يكون عددًا [غير موزونة]، اعتبار بعادتهم.

وقول الشافعي في الإقرار والمواهب: ((إذا قال: له علي مائة عددًا، فيه وازنة)) - مفروض فيما إذا كان ذلك في بلد يتعاملون بالوازنة، ويلزمه أن تكون عددًا بحكم اللفظ، ووازنة بحكم الاسم، لأن كونها عددًا لا ينافي الوزن.

ص: 415

ولا يشترط أن يكون كل واحد ستة دوانيق، بل المعتبر أن يكون وزن المائة مائة، قاله في ((التهذيب)).

ثم الوجهان في مسألة الكتاب- كما قال القاضي الحسين و ((الرافعي)) - جاريان فيما إذا أطلق لفظ الدراهم في بلد أوزانهم أكثر من دراهم الإسلام: كغزنة، هل يحمل على دراهم تلك البلد، أو على دراهم الإسلام؟

فإن قلنا: يلزمه من دراهم تلك البلد، فقال: أردت دراهم الإسلام، فإن قاله منفصلًا، لم يقبل، وإن قاله متصلًا، ففيه الطريقان.

والأصح- كما تقدم- القبول.

ولو أطلق لفظ الدراهم في بلد أوزانهم وافية، ثم قال- مفصولًا-: أردت النقص، فالمشهور: أنه لا يقبل منه، كما إذا ذكر الاستثناء منفصلًا.

وحكى ((الرافعي)) أن الروياني حكى عن جماعة الأصحاب القبول، واختاره، لأن اللفظ محتمل له، والأصل براءة الذمة، ثم قال: وهو غريب.

قال: وإن قال: له درهم صغير، وهو في [بلد] أوزانهم وافية، لزمه صغير، أي: في القدر- وازن منها، أي: ولا يكون قوله: صغير بمنزلة قوله: درهم ناقص، لأن لفظ الدرهم صريح في الوازن، والوصف بالصغير يجوز أن يكون من حيث الشكل، ويجوز أن يكون بالإضافة إلى الدرهم البغلي، فلا يترك الصريح بالاحتمال.

قال القاضي الحسين: ولأن درهم الإسلام صغير بالنسبة إلى الدرهم البغلي. أما إذا كان في البلد أوزانهم ناقصة، ففي ((الشامل)): أنه يلزمه ناقص منها.

وقضية ما أورده الإمام، ومن تبعه: أن يجيء فيه الخلاف السابق فيما إذا أطلق لفظ الدرهم في بلد أوزانهم ناقصة، لأنهما قالا: إن قوله: له علي درهم [صغير، كقوله: له علي درهم].

قال ((الرافعي)): ويشبه أن يكون هذا هو الأظهر، لأنا لا نفرق بين أن يقول: مال، وبين أن يقول: مال صغير، فكذلك في الدراهم، وهو ظاهر ما ذكره في ((المختصر)).

وعن الشيخ أبي حامد ومن تابعه: أنه إذا قال: درهم صغير، لزمه من الدراهم

ص: 416

الطبرية، لأنه أصغر من دراهم الإسلام، فتؤخذ باليقين، وأنهم لم يفرقوا بين بلدة وبلدة وهو قضية ما [قاله] في ((الحاوي)).

وقال في ((التهذيب)): إذا قال: له علي درهم صغير، فإن كان بطبرية، يلزمه من نقد البلد، وإن كان ببلد وزنه وزن مكة فعليه وزن مكة، وكذلك إن كان بغزنة.

قال ((الرافعي)): ولك أن تقول: الجواب فيما إذا كان بطبرية لا يلائم الجواب فيما إذا كان بغزنة، لأنا إما أن نعتبر اللفظ، أو عرف البلد:

إن اعتبرنا اللفظ فليجب الوازن بطبرية.

وإن اعتبرنا عرف البلد، فليجب نقد البلد بغزنة.

قلت: الذي أتبعه قسم آخر وهو الظهور، ولا شك في أن الظاهر: إرادته الناقص فيما إذا كان [بطبرية، وأما إذا كان] بمكة، فاحتمال إرادة الصغر في الوزن مساوٍ لاحتمال إرادة الصغر في الجثة، والدرهم- كما ذكرنا- صريح في درهم [الإسلام]، فقوي بذلك أحد الاحتمالين، وبه حصل الظهور.

وإذا كان بغزنة فلا شك أن درهم الإسلام ناقص [وصغير] بالنسبة إلى درهم غزنة، وإذا كان كذلك فاحتمال إرادة الصغر في الوزن مساوٍ لاحتمال إرادة الصغر في الجثة، وقد قلنا: إن الدراهم صريح في الدرهم الإسلامي، فقوي به احتمال إرادة الصغر في الوزن، وذلك يفيد الظهور، والله أعلم.

وقد ألحق الغزالي وإمامه قوله: علي درهم، بقوله: درهم صغير، فيما ذكراه فيه، ووافقهم عليه البغوي.

قال: وإن قال: له [علي] درهم كبير، وفي البلد دراهم كبار القدود، لزمه درهم وازن منها، عملًا بحكم الاسم واللفظ، لأنه أمكن اجتماعهما، وهذا كما قلنا فيما إذا قال: له علي مائة درهم عددًا في بلد أوزانهم وافية.

والقدود- بضم القاف والدال- جمع: قد، وهو الجسم والجرم، والمراد به هنا الاتساع.

قال: وإن قال: ألف درهم زيف، ففسره بما لا فضة فيها- أي:

ص: 417

كالفلوس المضروبة- لم يقبل، لأن ما [لا] فضة فيها لا تسمى: دراهم.

ولا فرق بين أن يقولك ذلك مفصولًا، أو موصولًا، قاله [القاضيان: أبو الطيب، والحسين].

قال ابن يونس: ومن أصحابنا من قال: إذا قاله موصولًا، قبل.

قال: وإن فسره بمغشوش، قبل على ظاهر المذهب، لأنها تسمى دراهم.

قال القاضي أبو الطيب: ولا فرق في ذلك بين أن يقوله متصلًا، أو منفصلًا.

وقيل: لا يقبل إلا أن يكون متصلًا بالإقرار-[أي: قوله: ((إنها زيف))]، لأن ذلك نقصان فيما أقر به، فاعتبر فيه الاتصال، كالاستثناء.

ومحل هذا الخلاف- كما قال الماوردي-: إذا كان الإقرار في بلد يتعاملون فيها بالمغشوش، فإن كان في بلد لا يتعاملون فيها [به]، لم يقبل تفسيرها منفصلًا قولًا واحدًا، وعليه ينطبق قوله في ((المهذب))، وكذلك ((الرافعي))، تبعًا للشيخ أبي حامد: إن الحكم فيها كالحكم في التفسير بالدراهم الطبرية، لأن هذا حكمها إن وصل التفسير بالناقصة بالإقرار في بلد أوزانهم ناقصة، لم يلزمه غيرها، وإن فصله عنه، فظاهر النص: أن الحكم كذلك.

وقيل: يلزمه ألف وازنة.

وإن قال ذلك في بلد أوزانهم وافية، لم يقبل قولًا واحدًا.

تبنيه: قوله ((زيف)) بضم الزاي، وتشديد الياء المفتوحة، ومجموعة: زائف، يقال: درهم زائف، ودرهم زيف بفتح الزاي وإسكان الياء.

ص: 418

والمغشوش من الدراهم: هو الذي فيه نحاس، أو غيره، يقال: غشه يغشه غشًا بكسر الغين.

قال: وإن قال: له علي دراهم، ففسرها بسكة غير البلد- قبل منه، كما لو أقر بثوب أو عبد مطلق، لا يلزمه ما هو ملبوس عامة أهل البلد، وجنس عبيدهم.

ولأن الإقرار إخبار عن سابق، والجهالة لا تنافيه، فثبت مجهولًا، ورجع في التفسير إليه، لاحتمال صدقه، وهذا ما نص عليه.

وقال المزني: لا يقبل منه، ويلزمه من نقد البلد، كما لا يقبل تفسيره بالناقصة، وقياسًا على الثمن المطلق في البيع، وقد حكاه الشيخ أبو حامد عن غيره من الأصحاب.

والصحيح: المنصوص، ويخالف ما لو فسر بالناقصة [إن لم نقبل]، لأنه ثم رفع [بعض] ما أقر به، ولا كذلك هنا.

والفرق بينه وبين البيع، حيث ينزل مطلقه على سكة البلد، لأنه إيجاب في الحال، تنافيه الجهالة، فحمل على عرف البلد، تصحيحًا للعقد، بخلاف الإقرار.

والسكة هاهنا: الحديدة المنقوشة، تضرب عليها الدراهم، فعبر الشيخ بالسكة عن الضرب، تبعًا للشافعي، رحمه الله.

والحكم فيما لو أقر بدراهم في بلد دراهمها بيض النقرة أن له التفسير بقوة السوداء.

قال: وإن قال: له عندي ألف، ففسرها بدين، قبل منه، لأن هذا اللفظ يحتمله، ويستعمل له.

فإن قيل: لفظة ((عندي)) تستعمل في الأعيان، فكيف يقبل التفسير بالدين؟

قيل: قد يكون سببه عينًا مغصوبة، أو أمانة يتعدى فيها.

قال: وإن قال: له علي ألف وديعة، أي: ونازعه المقر له، وقال: الوديعة غيرها- فهي وديعة، لأن لفظة ((على)) تقتضي الإيجاب، والوديعة يجب حفظها،

ص: 419

والتمكن منها، [فوافق آخر كلامه أوله، فقبل منه.

قال: فإن قال: كان عندي أنها باقية، أي: حين أقررت، فإذا إنها هالكة، لم يقبل، لأنه أقر بوجوب التمكين منها]، فلم يقبل رجوعه عنه.

قال: وإن ادعى أنها هلكت بعد الإقرار، قبل منه، لأن ما ادعاه محتمل، ولا مناقضة بينه وبين إقراره الأول، بل يلائمه، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب، والحسين، وغيرهما.

وحكى الإمام عن المراوزة، وصاحب التقريب في أصل المسألة: أنه لا يلزمه إلا ألف واحد.

ولكن هل تكون مضمونة عليه أم لا؟ فيه قولان.

أحدهما: أنها مضمونة عليه، أخذا بقوله:((علي)) في أول إقراره، وعلى هذا لا يقبل قوله في التلف بعد الإقرار، ولا في البرد، كما قاله في ((التهذيب)).

والثاني: لا، فإن الكلام بآخره، وعلى هذا يكون الحكم كما ذكره الشيخ. وأصل القولين- كما قال-: له علي ألف مؤجل إلى شهر، هل يقبل قوله في الأجل أم لا؟

وأشار في ((التهذيب)) إلى أنهما مبنيان على أن قبول قوله في لزوم ألف واحد كان لماذا؟ وفيه معنيان:

أحدهما: لأن عليه التخلية بينها وبين المالك.

والثاني: لأنه يحتمل أن يكون قد تعدى فيها، فإن قلنا بالأول، لم تكن مضمونة عليه، وإلا كانت مضمونة، وجزم بأنه إذا أحضرها لا يلزمه غيرها.

وفي ((النهاية)) حكاية عن العراقيين: أنهم قالوا: إذا قلنا فيما إذا قال: له علي ألف، ثم فسرها بوديعة-: لا يقبل، فهاهنا قولان:

أحدهما: يلزمه ألفان.

والثاني: ألف.

وأن مأخذهما ما لو قال: له علي ألف من ثمن خمر، وقد نسبهما ((الرافعي))

ص: 420

إلى تخريج أبي إسحاق من قوليه فيما إذا قال: كان له علي ألف قضيتها، هل يقبل أم لا.

والمشهور ما ذكره الشيخ، بل ادعى القاضي أبو الطيب إجماعنا مع الخصم عليه، كما سنذكره.

وفي ((العدة)) و ((الإبانة)): أنه لو قال: له علي ألف دفعها إلى وديعة، فالقول قوله.

ولو قال: له علي ألف أخذتها منه وديعة، قال المتقدمون من أصحابنا: هو كما لو قال: دفعها إلى.

وقال أبو حنيفة: لا يقبل قول، لأن [الأخذ يقتضي الغصب ظاهرًا]، فإذا ادعى الوديعة لم يقبل، وأن القفال قال: يحتمل أن يكون هذا مذهبًا.

وفي ((التهذيب)) فيما إذا قال: دفع لي فلان ألفًا، ثم فسره بوديعة، وقال: تلفت- قبل.

وكذلك لو قال: أخذت [أو قبضت] من فلان ألفًا، ثم فسره بوديعة، يقبل.

وقال أبو حنيفة في الثانية: إن القول قول المقر له إذا ادعى الغصب، وبه قال القفال.

ولو قال: أخذت من لافن وديعة، فعند أبي حنيفة لا يقبل التفسير.

وعلى رأي القفال يكون على قولي تبعيض الإقرار، وقد ذكرت هذا الفرع في آخر باب العارية، فليطلب منه.

قال: وإن قال: له علي ألف، ثم فسرها بوديعة- أي: وأحضرها- ونازعه المقر له، فقال: هذه الوديعة، والذي أقررت به غيرها، قبل- أي: التفسير- لأن كلمة ((علي)) كما تقتضي إيجاب شيء [في الذمة، تقتضي إيجاب شيء] معين من وجوب حفظ، وتمكن من رد، أو رد، وقد فسر لفظه بأحد محتمليه، فقبل مع أن الأصل براءة ذمته.

ولأنه يجوز أن يريد بلفظة ((علي)) عندي، وذلك سائغ لغة، قال الله تعالى:{عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء:14] أي: عندي.

ص: 421

ولو قال: له عندي ألف، ثم فسره بوديعة، قبل، فكذلك هاهنا، تحرزًا من إيجاب شيء بالاحتمال، وهذا ما نص عليه في ((المختصر)).

قال الغزالي: وفي موضع آخر فإنه قال: لو قال: له علي شيء، ثم فسره بوديعة- قبل.

و [هذا الحكم] هو الذي أورده صاحب التقريب، والماوردي، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والمراوزة، كما قال الإمام، ومنهم: القاضي الحسين، والفوراني.

وقيل: لا يقبل، لأن كلمة ((علي)) للإيجاب في الذمة، ألا ترى أنه لو قال: الألف التي على فلان علي، كان ذلك ضمانًا، فدل على أنها تقتضي الإيجاب في الذمة، وإذا كان كذلك، فقد التزم تفسير مال في الذمة، وجاء بمال آخر، فلم يسقط به، كما لو أقر بثوب فجاء بعبد، يكون له، ويطالب بالثوب، وهذا ما اختاره في ((المرشد)).

والقائلون بالأول قالوا: قد أجمعنا على أنه لو قال: لفلان علي ألف وديعة، قبل ذلك منه، ولو كانت لفظة ((علي)) تقتضي الذمة لا غير، لوجب ألا يقبل تفسيره بالوديعة، لأنه أقر بألف، وعقبه بما يسقطه، كما لو قال: له علي ألف بل عبد، وما ذكر في مسألة الضمان إنما صح لانحصاره.

وقد حكى في ((المهذب)) هذين الطريقين قولين، تبعًا للشيخ أبي حامد، فإنه حكاهما، ونسبهما إلى نصه في ((الأم))، ولم يحك الإمام عن العراقيين غيرهما، وأنهم صححوا الأول، وعليه فرعان.

أحدهما: قال القاضي الحسين: يحلف بالله، إنه لا يلزمه تسليم ألف أخرى إليه، وما أراد بإقراره إلا هذه، فإن امتنع [من الحلف]، حلف المقر له، واستحق ألفين.

الثاني: لو لم يتفق تسليم الألف الذي أحضره، فهل يكون مضمونًا عليه أم لا؟ ظاهر كلام الشيخ أنه يكون وديعة، لأنه قبل تفسيره بها، وهو ما صرح به ابن الصباغ في موضعين من الباب، تبعًا للقاضي أبي الطيب.

وعلى هذا لو ادعى رده أو تلفه بعد الإقرار قبل قوله مع اليمين، كما في

ص: 422

المسألة السابقة على الأصح.

وقال الإمام- حكاية عن الأصحاب-: إن الألف يكون مضمونًا عليه، لقوله:((علي)) فلو ادعى تلفه لم يسقط عنه الضمان، وكذا لو ادعى رده لم يصدق، وهذا ما صرح به القاضي الحسين، ويوافقه قول الفوراني: إنه إذا فسر بوديعة، ولم يأت بها لا يقبل قوله.

قال ((الرافعي)): والمفهوم من كلام الأصحاب الأول.

واعلم أن محل الخلاف في أصل المسألة: إذا لم يقل: إنه تعدى في الوديعة، فلو قال: تعديت فيها، قال القاضي الحسين: قبل قوله، ولم يلزمه [إلا ألف] واحد، لأنها عليه.

وعكس هذا لو فسر إقراره بأنها وديعة، شرط عليها ضمانها أن لو تلفت، وقد تلفت، قال القاضي الحسين- حكاية عن الأصحاب-: لا يقبل قوله، ولا تسمع دعواه، للمناقضة.

ثم قال: والذي عندي: أنه تسمع دعواه، لأنه محتمل، والقول قول المقر له، لأن الظاهر معه، كما لو أقر على نفسه بألف، ثم ادعى أنها من ثمن خمر، تسمع دعواه، للاحتمال.

والإمام حكى الوجهين، وأجراهما في مسألة الخمر أيضًا.

قال: وإن قال: له علي ألف في ذمتى، ثم فسرها بوديعة- أي: وأتى بها- فقد قيل: يقبل، لجواز أن يكون قد تعدى فيها، فكان ضمانها في ذمته.

وقيل: لا يقبل، وهو الأصح، لأنه صرح بأنها في ذمته حالة إقراره، والوديعة لا تكون في ذمته وإن تعدى فيها، وإنما تصير في الذمة بالتلف، ولا تلف، وهذا ما أورده البغوي.

قال الإمام: وعلى هذا: لو أتى بألف، وادعى أنه الذي أقر في ذمته، لأنه وديعة تعدى فيها- ففي قبول قوله وجهان، وهما جاريان فيما لو قاله: له علي ألف درهم دينًا، ثم فسر بوديعة تعدى فيها.

قال الإمام: ولو لم يذكر في هذه الصورة سبب الضمان بعد جدًا الحكم باتحاد الألف.

ص: 423

وألحق بعض الأصحاب هذا بما لو قال: في ذمتي ألف.

أما لو قال: الألف الذي أقررت به بدل الألف الذي كان عندي وديعة وتلفت، قبل قوله على المشهور، ولم يحك أبو الطيب وابن الصباغ غيره، لاحتمال التعدي فيه.

وفي ابن يونس حكاية وجه: أنه لا يقبل أيضًا.

تنبيه:- المراد بالذمة: الذات، والنفس، لأنه في اللغة تكون بمعنى العهد، وبمعنى: الأمان، كقوله- عليه السلام:((يسعى بذمتهم أدناهم))، و:((من صلى الصبح فهو في ذمة الله تعالى))، و ((لهم ذمة الله ورسوله))، وبه سمي أهل الذمة، فاصطلح الفقهاء على استعمال الذمة بمعنى: الذات، والنفس، لأنها تطلق على العهد والأمان، ومحلهما الذات والنفس، فسمى محلهما باسمهما.

فرع: لو قال: له عندي ألف درهم وديعة، أو مضاربة دينًا، صح إقراره بذلك، وهو لا يحتمل غير وديعة أو مضاربة تعدى فيها، فيلزمه.

ولو قال: أردت أنه شرط علي ضمانها، لم يقبل.

نعم، لو قال: له عندي ألف وديعة، شرط ضمانها، قيل [و] كانت وديعة غير مضمونة، لأن ما كان أمانة لا ينقلب مضمونًا بالشرط، كعكسه.

ولو قال: له علي ألف درهم وديعة دينًا بشرط الضمان إن تلفت، قال القاضي الحسين وغيره: فهذا رجل وصل بإقراره ما يسقطه، وفيه قولان.

ولو قال: له علي ألف درهم عارية، لزمه ضمانها.

قال في ((الشامل)) و ((المهذب)) - تبعًا للقاضي أبي الطيب وغيره-: لأن إعارة الدراهم والدنانير تصح في أحد الوجهين، فيجب ضمانها، وهو ما أورده الماوردي.

وفي الوجه الثاني: لا تصح إعارتها، فيجب ضمانها، لأن ما وجب ضمانه في العقد الصحيح، وجب ضمانه في العقد الفاسد.

ص: 424

وقد حكى الوجهين هكذا لا غير القاضي الحسين، والإمام.

وقال في ((الوسيط)): إن في طريقة المراوزة: إذا لم تصح إعارتها فهي باطلة، لأنها غير قابلة لإمكان الانتفاع أصلًا، فلا ضمان.

وقد حكيناه عن القاضي والإمام في باب العارية.

قال الغزالي: وعلى هذا يخرج إقراره على قولي الإضافة إلى الجهة الفاسدة.

قال: وإن قال: له في هذا العبد ألف درهم، ثم فسرها بقرض أقرضه في ثمنه، أو بألف وزنها- أي: المقر له- في ثمنه لنفسه، أو بألف وصى له بها من ثمنه، أو أرش جناية جناها العبد- قبل، لأن الإقرار مبهم وما ذكره من التفسير محتمل، والعبد في يده، فقبل إقراره، ويلزمه في المسألة الأولى في ذمته، ولا تعلق لذلك بالعبد.

وفي المسألة الثانية نستفسره عن كيفية الشراء؟

فإن قال: إنه انفرد بشرائه بالألف، كان العبد كله له.

وإن قال: اشتريناه معًا في عقد واحد، سئل عما بذله هو أيضًا في ثمنه، فإن كان ألفا، كان العبد لهما نصفين، وإن كان ألفين، كان بينهما أثلاثا، وهكذا على النسبة.

قال ابن الصباغ وغيره: ولا فرق بين أن يكون ما ذكره قيمة العبد، أو أقل، أو أكثر، لأنه قد يعين، وقد لا يعين.

وقد حكى الماوردي ذلك عن الشافعي، وأنه قصد به الرد على مالك.

وإن قال: وقع شراء كل أحد منا منفردًا بعقد، وبين مقدار المشتري [قبل] منه وإن تفاوتت الحصص، واستوى الثمنان، كما إذا قال: شرى ربعه بالألف، واشتريت ثلاثة أرباعه بألف، أو أقل أو أكثر، وللمقر له عند تكذيبه تحليفه.

وفي المسألة الثالثة يباع العبد، ويدفع للمقر له من ثمنه ألف [درهم] والفاضل كما قال الإمام- للمقر، فلو أراد أن يدفع إليه ألفًا من ماله، قال في ((المهذب))، و ((التهذيب))، و ((الحاوي))، وغيرها: لم يجز، لأن بالوصية يتعين حقه في ثمنه.

قال ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب: فلو رضي المقر له، جاز.

ولو لم يزد ثمنه على ألف، انفرد به المقر له، قاله الإمام، ويظهر أن يجيء فيه

ص: 425

الوجه الذي سنذكره من بعد تلو المسألة الثانية.

وفي المسألة الرابعة يكون حكمه حكم العبد الجاني.

قال: وإن فسرها بأنه رهن بألف له عليه، فقد قيل: يقبل، لأن حق المرتهن يتعلق بالمرهون والذمة، فصدق تفسيره، وهذا هو الصحيح في ((المهذب))، و ((تعليق)) أبي الطيب، و ((الحاوي))، وبه جزم في ((التهذيب)).

وقيل: لا يقبل، لأن الدين يتعلق بالذمة، والعين وثيقة به، فكان تفسيره مخالفًا للظاهر، فلم يقبل.

وعلى هذا قال الأصحاب: يؤاخذ بإقراره بالألف التي ادعى أن العبد مرهون بها، ويطالب بتفسير الإقرار الأول.

قلت: وفيه نظر، من حيث إنه لو فسره بقرض أقرضه في ثمنه، فإما أن يقبل أو لا، فإن لم يقبل، أشكل بما تقدم، وإن قبل: فإما أن يلزمه ألف، أو ألفان، فإن ألزمناه ألفين أشكل بما قدمناه فيما إذا قال: له علي ألف، ثم قال في وقت آخر: له علي ألف من جهة قرض، ونحوه، أو بالعكس: أنه يحمل المطلق على المقيد، فلا يلزمه إلا ألف واحد.

وإن ألزمناه ألفًا واحدًا، شابه في المأخذ ما إذا قال: له علي شيء إلا شيئًا، من حيث إنه لو فسر بذلك لم يلزمه إلا ألف، وإن امتنع من التفسير، لا يلزم إلا بالمحقق، وهو ألف فليجر فيه ما ذكرناه فيما إذا قال: له علي شيء إلا شيئًا، وهذا يظهر بمطالعة ما ذكرناه ثم، والله أعلم.

والحكم فيما لو قال: له من هذا العبد ألف درهم، كما لو قال:[له] فيه، صرح به الغزالي، والمصنف، والبغوي وغيرهم.

ووجهه الماوردي بأنهما حرفًا صفة، يقوم أحدهما مقام الآخر، وليست الألف جزءًا من العبد، وإنما يتوصل إليها من العبد، فاستوى الحكم في قوله ((من)) وفي)).

نعم: لو قال: له من هذا العبد بقيمة ألف، كان إقرارًا بملك جزء من العبد قدره قيمة ألف، وهل يصير الإقرار مقدرًا بالقيمة، أو يرجع فيه إلى بيانه؟ فيه وجهان:

ص: 426

أصحهما عند الماوردي: الثاني.

ومقابله منسوب إلى اختيار أبي القاسم الصيمري، وهو المختار في ((المرشد))، وعليه لو كانت قيمة العبد ألفًا لا غير، قال الصميري- حكاية عن بعض الأصحاب: إنه لا يصير المقر له مالكًا لجميع العبد، لأن من يوجب التبعيض، فلابد من إخراج بعضه.

وزعم أن الصحيح عنده: أنه يكون مقرًا بجميعه، استشهادًا بقول الشافعي فيما لو قال: له من هذا المال ألف، فكان المال كله ألفًا-: إنه إقرار بجميعه تمسكًا بقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج:30]، أي: اجتنبوا الأوثان الرجس، وهذا ما اختاره في ((المرشد)).

ولا شك في أنه لو قال: له علي ألف في هذا العبد: أنه يلزمه الألف عند عامة الأصحاب، وإن لم تبلغ قيمة العبد ألفًا، كما قاله البغوي، والطبري في العدة، إلا ما حكى عن ابن القاص فإنه قال- كما حكاه [في ((العدة))]: إنه يسأل، فإن قال: إنه نقد في ثمنه ألفًا، يقال: وأنت كم نقدت؟ فإن قال: ألفين، كان بينهما أثلاثا.

والبغوي حكي عنه أنه يستفسر.

وقالا: إن الأصحاب غلطوه، لأن لفظة ((على)) للإلزام، لكن لك أن تقول: قد قال الأصحاب فيما لو قال: له علي ألف درهم في هذا الكيس، وكان فيه دون الألف، هل يلزمه تمامها؟ فيه وجهان.

أحدهما- وهو اختيار الشيخ القفال-: أنه يلزمه الإتمام، كما لو لم يكن فيه شيء، فإنه يلزمه الألف، لأن لفظه ((علي)) تقتضي الإلزام.

قال ((الرافعي)): وهو أقوى، وهذا وزان ما ذكروه هاهنا.

والثاني: وهو المحكي في العدة عن رواية أبي ثور عن الشافعي، واختاره أبو زيد-: أنه لا يلزمه إلا ما في الكيس، للحصر، فهلا أجروا مثل هذا هنا؟

ولو قال: له علي الألف الذي في هذا الكيس، فإن كان ناقصًا، قال الغزالي:

ص: 427

فالأظهر أنه لا [يلزمه الإتمام]، للحصر.

وعن رواية الشيخ أبي علي وجه آخر ضعيف: أنه يلزمه الإتمام.

قال ((الرافعي)): ويمكن أن يخرج على الخلاف في أن الإشارة تقدم، أو اللفظ؟ ولو لم يكن في شيء، فهل يلزمه الألف أم لا؟ فيه [قولان- ويقال:] وجهان قربهما الشيخ أبو علي من الخلاف فيما إذا قال: والله لأشربن [ما في] هذه الإداوة ولا ماء فيها، هل تنعقد اليمين؟ فإن قلنا: نعم، صح الإقرار ولزم وإلا فلا.

فرع: لو امتنع من التفسير، قال الإمام: كان امتناعه عنه بمثابة، كل مقر امتنع عن تفسير لفظ مجمل مذكور في صورة الإقرار، وقد قدمنا أن تجديد المطالبة بالتفسير لا معنى له، فليدع المقر له وجهًا، وليبن عليه مطالبة المقر.

فرع: لو قال: له في هذا العبد شركة، كان له تفسيرها بأي قدر كان، لأن ذلك اشتراك.

ولو قال: له في عبدي هذا ألف فهو كا لو قال: له في مالي، وسنذكره.

قال: وإن قال: [له] في ميراث أبي، [أو: من ميراث أبي] ألف، فهو دين على التركة.

وإن قال: [له] في ميراثي من أبي، أو: من ميراثي من أبي، فهو هبة من ماله. والفرق: أنه في هاتين الصورتين أضاف الميراث إلى نفسه، ثم جعل له من منه جزءًا، وإذا جعل له جزءًا من ماله، لم يكن ذلك إلا على وجه الهبة، وفي الصورتين الأوليين، لم يضف الميراث إلى نفسه، ولا جعل له جزءًا من ماله، بل أضافه إلى المقر له، لأن ملك أبيه قد زال عن المال بموته، ولا يصير ميراث الأب له إلا لدين تعلق به، فلذلك صار إقرارًا بالدين.

قال القاضي الحسين: إلا أن في هذا الفرق إشكالًا، فإن الدين عندنا لا يمنع الإرث، فإضافته إلى نفسه لا تمنع كونه إقرارًا على أبيه.

ص: 428

ولعل الشافعي بنى ذلك على العرف والعادة، فإنهم لا يضيفون إلى أنفسهم إضافة الملك إلا في الملك المستقر.

وعلى هذا المقر بالخيار في الصورتين الأخيرتين بين أن يقبضها فتمضي الهبة، وبين أن يمسكها فترد الهبة، كما قاله أبو الطيب وغيره.

وقاعدته قد سبقت، وهي أن من أقر بالهبة لا يكون مقرًا بالإقباض.

ثم قد يظهر مما ذكرناه: أنه يصح أن يقول [لشخصٍ]: وهبتك من مالي ألف درهم، من غير إشارة إلى شيء معين، وهذا ما نص عليه.

وعن صاحب التقريب وغيره تخريج قول آخر [في لزوم الألف] فيما إذا قال: له في ميراثي من أبي ألف- من نصه فيما إذا قال: له في ماله ألف درهم: أنه يلزمه وإن كان الأصحاب كافة على الأول.

قال: وإن قال: له في هذه الدار نصفها، أو: من هذه الدار نصفها، لزمه.

وإن قال: في داري، أو: من داري نصفها، فهو هبة.

والفرق ما ذكرناه.

وهذا ما نص عليه.

وعن رواية الشيخ أبي علي عن بعض الأصحاب تخريج قول آخر في الصورتين الأخيرتين: أنه يلزمه نصف الدار- مما خرج منه صاحب التقريب القول في المسألة السابقة.

وقال الشيخ أبو علي: إنه خطأ، لأنه لو قال: داري له، لم يكن إقرار، فذكر الجزء مثله، وهذا إذا لم يقل: بحق واجب، فإن قاله، كان إقرارًا، لأنه قد اعترف أن المقر له يستحق ذلك، فلزمه.

وهكذا الحكم فيما لو قال: في ميراثي من أبي، أو: من ميراثي من أبي.

قال: وإن قال: له في مالي ألف، لزمه.

وإن قال: من مالي، فهو هبة على المنصوص، أي: في الصورتين في كتاب الإقرار والمواهب.

والفرق: أنه إذا قال: في مالي، فقد جعل ماله ظرفًا للألف التي ذكرها، ويجوز

ص: 429

أن يكون ظرفًا لها بأن تكون مختلطة بماله، وإذا قال: من مالي، فقد أضاف المال إلى نفسه، وجعل الألف جزءًا منه، وما جعله جزءًا من ماله، فلا يكون لغيره إلا على وجه الهبة.

وقيل: هذا غلط في النقل، ولا فرق بين أن يقول: في مالي، وبين أن يقول: من مالي، في أن الجميع هبة، كما نص عليه في مسألة الميراث والدار.

ومن الأصحاب من وافق على أنه لا فرق بين أن يقول: في مالي، أو: من مالي في أن الجميع هبة، وحمل النص فيما إذا قال: في مالي: أنه يلزمه على ما إذا تقدمت كلمة ((علي)) بأن قال: علي في مالي ألف، فإنه حينئذ يلزمه الألف، لأن ((علي)) للإلزام.

وفي المسألة طريقة أخرى، وهي تصحيح النقل، وتخريج قول من نصفه في مسالة [الميراث والدار] إلى هذه المسألة، وإثبات قولين فيها، لعسر الفرق، وتشبيها لذلك بتعقيب الإقرار بما يرفعه، وقد ذكرنا أن منهم من خرج من هذه المسألة إلى المسألتين قولًا: أنه يلزمه، وأثبت فيهما قولين.

والصحيح في ابن يونس الطريقة الثانية في الكتاب.

وقال ابن الصباغ: إن الأولى أشبه، والقائلون بها قالوا في الفرق: إن قوله: في داري نصفها، لو جعلناه إقرارًا، لم يبق بعده ما يسمى دارًا، وقوله: في مالي ألف درهم، الذي يبقى له بعد الألف يسمى: مالًا، فلذلك جعلناه مقرًا به.

قال ابن الصباغ: إلا أن هذا القائل يلزمه أن يفرق بين هذه المسألة وبين قوله: في ميراثي من أبي، ولا يجد فرقًا.

نعم: قوله: له، يقتضي الملك، والهبة قبل القبض غير مملوكة، ولم يأت بما ينافي الملك إذا قال: في مالي، لأن ((في)) للظرف وإذا قال: من مالي، فقد أضاف الملك [كله]، إلى نفسه فنافى الإقرار، فافترفا.

ثم محل الخلاف- كما قال أبو الطيب- حكاية عن ابن القاص: إذا لم يقل: بحق واجب، فإن قاله، فسواء أضافه إلى نفسه، أو لم يضفه، فإنه يكون إقرارًا، ولا يكون هبة، لأن الهبة لا تكون حقًا واجبًا.

ص: 430

قال: وإن قال: له عندي تمر في جراب، أو سيف في غمد، أو فص في خاتم- لم يلزمه الظرف، لخروجه عن الإقرار، واحتمال كونه للمقر، وبالقياس على ما لو قال: له عندي عبد في دار، أو دابة في إصطبل، لا يكون مقرًا بالدار والإصطبل، وإن كانا ظرفين.

وهكذا الحكم عندنا فيما لو قال غصبتك حنطة في غرارة، أو سفينة، أو زيتا في حب أو سيفًا في حمالة، أو فصًا في خاتم، كما نص، وكذا في عكسه لو قال:[له] عندي جراب فيه تمر، وغمد فيه سيف، وخاتم فيه فص، أو عليه فص، كما قاله في ((المهذب))، لكن في ((النهاية))، و ((تعليق)) القاضي الحسين فيما إذا أقر بخاتم فيه فص حكاية وجهين، أظهرهما: أنه مقر بهما جميعًا، وهو موافق في الدليل لما في ((المهذب)) و ((التهذيب)) [فيما إذا] قال: عندي خاتم، لزمه الخاتم والفص، لأن اسم الخاتم يجمعها، بل قال الثعالبي في ((فقه اللغة)): إنه لا يقال: خاتم، إلا فهو فتخة.

وجعل في ((الوسيط)) محل الوجهين إذا أقر بخاتم ثم جاء بخاتم فيه فص، وقال: ما أردت الفص، وأن الأظهر: أنه مقر به.

وقال ((الرافعي)): إنه الذي ينبغي أن يقطع به، لأن الاسم شامل، فيكون رجوعًا عن بعض المقر به.

وقد أجرى الإمام وغيره الوجهين فيما إذا أقر بجارية حامل، هل يدخل الحمل في الإقرار أم لا؟

أحدهما- وبه أجاب القفال-: نعم، كما في البيع.

وأظهرهما: لا، بخلاف البيع، لأن الإقرار إخبار عن سابق، وربما كانت الجارية له دون الحمل، بأن كان الحمل موصى به.

وقد سلم القفال أنه لو قال: هذه الجارية لفلان إلا حملها، يجوز، بخلاف البيع.

ص: 431

على أن في ((النهاية)) حكاية وجه آخر: أنه لا يصح هذا الاستثناء.

والغزالي في ((الوسيط)) حكى الوجهين في مسألة الجارية على النعت السابق، فقال: إذا قال: له عندي جارية، فجاء بجارية في بطنها جنين له، وقال: إن الجنين لي، هل يقبل؟ فيه الوجهان، لكن بالترتيب، وهنا أولى بالقبول.

وأجراهما في ((الوسيط)) هكذا فيما إذا أقر بجارية معينة، وكانت حاملًا، وقال: ما أردت الحمل، وظن ((الرافعي)) أنهما مخالفان لما حكاه الإمام، فقال: ينبغي أن يرتب الخلاف في ذلك على ما لو أقر بجارية معينة، وكانت حاملًا، هل يدخل الحمل في الإقرار أم لا؟

فإن قلنا بالدخول، ففيه في هذه الحالة الوجهان.

وإن قلنا بعدم الدخول، فيقطع في هذه الصورة بأنه لا يكون مقرًا بالحمل، إذا قال: جارية في بطنها حمل.

ويقرب مما ذكرناه إذا قال: شجرة عليها ثمرة، فإن كانت مؤبرة، لم تدخل في الإقرار، كالبيع.

وعن ((فتاوى)) القفال: أنها تدخل.

وإن كانت غير مؤبرة فوجهان، أظهرهما وهو الذي أطلقه في ((التهذيب)): أنها لا تدخل، وقد ضبط الإمام- تبعًا للقفال- ما يدخل في الإقرار تبعًا، وما لا يدخل، فقال: إذا أقر بعين، وللغير بها اتصال، واللفظ من طريق اللغة لا يشتمل عليه، نظر:

فإن كان لا يدخل في مطلق البيع: كالثمرة المؤبرة، لم يدخل تحت الإقرار.

وإن كان يدخل تحت مطلق البيع، والاسم لم يتناوله على مذهب اللغة، ففي المسألة وجهان.

ولا خلاف أن الاسم إذا تناوله لغة في الدخول، كـ ((البستان)) يتناول ((الأشجار))، ولفظ ((الشجرة)) يتناول ((الأعصاب)).

وعبر ((الرافعي)) عن ذلك، فقال: ما لا يندرج في البيع، ولا يتناوله الاسم، فهو غير داخل، وما يندرج في البيع ويتناوله الاسم فهو داخل، وما يندرج في البيع، ولا يتناوله الاسم، ففيه وجهان:

ص: 432

والعبارة الأولى أولى، لما ستعرفه.

وقد حكيت في باب الدعاوى عن الإمام، والماوردي: أنه حكى أن ما يندرج في البيع يندرج في الإقرار عند الكلام في التنازع في العرصة.

وقد شذ عن القاعدة المذكورة ما حكاه المحاملي في كتاب الرهن عن ابن سريج، والبندنيجي قبل باب القافة: أنه إذا أقر لرجل بجارية، وكان لها ولد: أنه يحكم له بالجارية، وهل يحكم له بولدها؟ فيه وجهان، وظني أني حكيتهما من قبل، والله أعلم.

فرع: لو قال: [له] عندي ثوب مطرز، ففي ((المهذب)) و ((التهذيب)) حكاية طريقين فيه:

أحدهما: يلزمه الثوب بطرازه.

والثاني: وهو ما أورده الماوردي: إن كان الطراز منسوجًا فالأمر كذلك، وإن كان مركبًا بعد النسج، فوجهان:

أحدهما: أنه يلزمه الثوب بطرازه، وهو المختار في ((المرشد)).

والثاني: لا يلزمه الطراز.

قلت: وقد يظهر لك من هذا: أن محل الوجهين في الفص: إذا كان مركبًا بعد عمل الخاتم، ومحل الجزم بدخوله: إذا كان من نفس الخاتم، والله أعلم.

تنبيه: الجراب: بكسر الجيم وفتحها، والكسر أشهر وأفصح، وجمعه: أجربة، وجرب، وهو وعاء من جلد معروف.

[و] الغمد: بكسر الغين المعجمة: غلاف السيف، وجمعه: أغماد، وغمدت السيف، أغمده غمدًا، وأغمدته- أيضًا- إذا جعلته في غمده، فهو مغمود ومغمد، وتغمده الله برحمته: وغمده بها.

والفص: بفتح الفاء وكسرها، والفتح أفصح وأشهر، وجمعه: فصوص.

قال: وإن قال: له عندي عبد عليه عمامة، لزمه العبد والعمامة.

وإن قال: له دابة عليها سرج- أي: أو: مسروجة- لم يلزمه السرج.

والفرق: أن للعبد يدًا على ما في يده، [فيكون العمامة في يده]، وكذا ما

ص: 433

عليه من ثياب، وفي وسطه من منطقة، وفي رجله من خف، وما في يد العبد لمولاه، والدابة لا يد لها، فهي وما عليها في يد المقر، فأخرج منها ما تناوله الإقرار، وبقي الباقي، وهذا ما أورده ابن القاص في ((التخليص)).

قال الإمام: وذهب بعض الأصحاب إلى موافقته، وهو أبو زيد، كما قاله العمراني في الزوائد.

وقال الغزالي: إن العراقيين قالوا به- أيضًا- وهو المذكور في ((الشامل)) وغيره من كتبهم.

وحكى ((الرافعي)): أن الأكثرين قالوا: لا فرق بين المسألتين، فلا يجعل مقرًا بالعمامة، وعليه ينطبق قول البغوي وصاحب العدة: إنه الذي قاله عامة الأصحاب، ووجهوه بأنه لا يدخل في الإقرار إلا ما أقر به، وأما ما احتمل دخوله وعدم دخوله، فلا، ألا ترى أنه لو قال: لفلان في يدي دار مفروشة، لا يكون مقرًا بالفرش وإن جعله صفة مع أن ما كان في دار الإنسان فهو في يده.

قال في الزوائد حكاية عن الشيخ أي علي: وقولهم: إن يد العبد على ما معه ممنوع، فإن من غصب عبدًا، ضمنه وما معه، بخلاف الحر.

وقد أجاب ابن القاص في المفتاح بمثل جواب الجمهور.

وقد حكى الإمام مثل ذلك أيضًا.

وقال ((الرافعي)): إنه وهم، بل جوابه في المفتاح كجوابه في ((التخليص)).

[والأصح- كما قال النواوي- ما عليه الجمهور.

وإذا تأملت ما ذكرناه، علمت أن ما ذكره صاحب ((التخليص))]، ومن [تبعه غير] خارج عما ذكرناه من القاعدة فيما يتبع وفيما لا يتبع، فإنه إنما جاء من جهة اعتقاد كون للعبد يد على ما معه، لا من جهة تضمن الإقرار لذلك، ولهاذ قال ابن الصباغ: إن لزوم العمامة لم يكن من جهة دخولها في الإقرار، وإنما جاء من جهة يد العبد.

ص: 434

فإن قلت: قد تقدم في البيع ذكر خلاف في أن بيع العبد هل يندرج فيه ما عليه من ثياب؟ خلاف، ومقتضى القاعدة: أن يجري فيه الوجهان إذا قلنا باندراج الثياب في البيع، [لأن اسم العبد لا يتناول الثياب لغة، وهي تندرج في البيع].

قلت: هذا لا بشك وارد على ما ذكره ((الرافعي)) في ضبط القاعدة كما تقدم، وغير وارد على ما ضبطها به الإمام وغيره، لأنه شرط في العين التي لا يتناولها الاسم [الاتصال بما تناوله الاسم] والثياب منفصلة عن العبد، لا متصلة، والله أعلم.

قال: وإن ادعى رجلان ملكًا في يد رجل بينها نصفين، فأقر لأحدهما بنصفه، وجحد الآخر، فإن كان قد عزيا إلى جهة واجدة، من إرث أو ابتياع، وذكرا أنهما لم يقبضا، أي: بأن قالا: غصب هذه الدار من أبينا، ونحن ورثناها منه، أو: اشترينا هذه الدار من فلان عقدًا واحدًا، وأنت غصبتها منا قبل القبض من يد البائع، كذا قاله القاضي الحسين عن العراقيين.

قال: وجب على المقر له أن يدفع نصف ما أخذ إلى شريكه، لأنهما اعترفا أن الدار بينهما [وما بقي يكون مشتركًا، كما لو كان ذلك طعامًا فهلك بعضه، فإن الباقي يكون بينهما]، وهذا ما حكاه الإمام عن النص في مسألة الإرث، لكن لفظ ((المختصر)): لو أن رجلين ادعيا دارًا في يد رجل، فقالا: ورثناها عن أبينا، وأقر لأحدهما بنصفها، فصالحه عن ذلك الذي أقر له به على شيء، كان لأخيه أن يدخل معه فيه.

وألحق الشيخ أبو حامد وأصحابه- كما قال ((الرافعي)) - ومنهم القاضي أبو الطيب والماوردي- مسألة البيع بها، وهو اختيار القاضي الحسين [وجماعة من المحققين، كما قال الإمام، ولم يحك القاضي الحسين] في ((تعليقه)) عن العراقيين غيره.

ونقل ابن الصباغ: أن القاضي في المجرد حكى فيها وجهًا آخر، عزاه ((الرافعي)) إلى أبوي علي: ابن أبي هريرة، والطبري-: أنه لا يجب على المقر له دفع شيء إلى شريكة، وبه قال ابن كج، لأن البيع من اثنين بمنزلة الصفقتين، وقد حكاه الإمام- أيضًا- عن رواية- الشيخ [يعني: أبا علي]- والصيدلاني،

ص: 435

والفوراني، ولم أر في ((الإبانة)) غيره.

وقال ابن يونس: إن الشيخ أبا حامد لم يذكر سواه.

ثم أشار الإمام إلى أن هذا الخلاف يبنى على الخلاف في أن الصفقة تتعدد بتعدد لمشتري أم لا؟

فإن قلنا بالتعدد فلا مشاركة، كما لو اشتريا في صفقتين، فإنه لا يتخيل خلاف في المشاركة، بل الوجه القطع بأنه إذا أقر لأحدهما في هذه الصورة، لا يشاركه الآخر، فإن الشراء متميز [عن الشراء تميز] الشراء عن الهبة.

وقد تلخص مما ذكرناه: أن في مسألة الإرث لا خلاف في المشاركة، كما هو ظاهر النص، وفي مسألة البيع وجهان.

فإن قلت: قد نص الشافعي على أنه إذا ادعى ورثة ميت: أن لأبيهم حقًا على إنسان، فأنكر، وأقاموا شاهدًا واحدًا، وحلف بعضهم دون الباقي، استحق الحالف قدر نصيبه، ولم يشاركه فيه من لم يحلف، والمسألة كالمسألة من حيث المعنى، فهلا خرج من كل مسألة إلى الأخرى قول، وجعلتا على قولين، كما هو عادة الأصحاب في مثل ذلك؟

قلت: قد حكاه الغزالي في ((الوسيط))، واستغرب في الحكاية، لأن المشهور في ذلك أن ابن القاص في شرحه قال: إن من أصحابنا من قال في مسألة الشاهد واليمين بالمشاركة، تخريجًا من النص في مسألة الإقرار.

والصحيح- كما قاله ابن الصباغ وغيره في باب القضاء مع الشاهد- تقرير النصين، ولم يورد الماوردي والبندنيجي غيره.

والفرق: أن الذي لم يقر له في مسألة الإقرار لم يسقط حقه، والذي امتنع من اليمين في مسألة الشاهد واليمين، أسقط حقه بإبائه، فلا يجوز أن يستحقه بيمين غيره.

[و] لأن المجحود كالمغصوب، وغصب بعض التركة يوجب التساوي

ص: 436

في الباقي، والممتنع هاهنا قادر على الوصول إلى حقه بيمينه، فصار كالمسلم والتارك له على خصمه، وجرى ذلك أخوين أقر رجل لأبيهما بدين، فقتله أحدهما، ولم يقتله الآخر، فإن حق القاتل خالص له لا يشاركه فيه غير القاتل، لأنه تارك لحقه منه.

وحكى الإمام أن من الأصحاب من قال: المدعى في مسألة الشاهد واليمين ليس عينًا مستحقة [بينهما]، بل دينا، وفي مسألة الإقرار المدعى عن، فلو كانت مسألة الإقرار في الدين، لكانت مسألة الشاهد واليمين، ولكان المقر له منفردًا بما سلم له لا يشاركه الآخر.

ولو كانت مسألة الشاهد واليمين في عين، لاشترك الناقل والحالف في المأخود.

قال: وهذا بعيد.

قال: وإن لم يعزيا إلى جهة واحدة، أي: إما لكون أحدهما عزى ملكه إلى بيع، والآخر إلى هبة، [أو أحدهما إلى إرث، والآخر إلى بيع]، ونحو ذلك، أو لكونهما أطلقا الدعوى بالملك من غير ذكر سبب [ملك]، أو أطلق أحدهما، وذكر الآخر السبب.

قال: أو أقرا بالقبض، أي: بأن قالا: ورثناها من أبينا، أو اشتريناها من زيد في عقد واحد، وقبضناها- لم يلزمه أن يدفع إليه شيئًا:

أما في الأولى، فلأنهما إن عزيا إلى شيئين مختلفين، لم تكن دعوى كل واحد مقتضية للمشاركة، فلا يلزمه.

وإن أطلقا الدعوى بالملك من غير ذكر السبب، أو أطلقه أحدهما، وبينه الآخر، فيجوز أن يكون السبب مختلفا، فلا ينزع منه ما ثبت له ظاهرًا بالشك.

وأما في الثانية، فلأن بالقبض قد استقر ملك كل واحد منهما على ما قبضه، وحصلت المساواة الممنوع من ضدها في الإرث، ويجوز أن يطرأ الغصب على نصيب أحدهما دون الآخر، وإذا كان كذلك، لم تلزم المشاركة بالاحتمال، ووراء ذلك أمور:

ص: 437

أحدها: حكى الإمام فيما إذا أطلقا الدعوى بالملك، ولم ينسباه إلى سبب: أن الأصحاب ألحقوا هذا بما أسندا دعواهما إلى الشراء أو غيره من الأسباب المتحدة الواقعة على موجب الشركة، وقد مضى التفصيل فيه، وهذا يقتضي أن [يكون] في المشاركة وجهان.

وقد حكى ((الرافعي)) أن المنصوص عليه في ((المختصر)) ما ذكره الشيخ، وهو كذلك، ولم يحك غيره.

الثاني: حكى المتولي وغيره وجهًا فيما إذا أقر بالقبض في مسألة الإرث- بالمشاركة، لأن إيجاب [الإرث] الشيوع.

قلت: وقد يقال: إن على هذا ينطبق ما أطلقه المصنف في ((المهذب))، وابن الصباغ، تبعًا للقاضي أبي الطيب، والغزالي، تبعًا للفوراني دون إمامه- من المشاركة من غير تقييد بعدم القبض، كما هو ظاهر النص في ((المختصر)) في مسألة الإرث، كما حكيناه من قبل، لأنه حينئذ يكون لا فرق بين أن يقبضا أو لا، ولذلك صح الإطلاق.

لكن قد يكون إطلاقهم محمولًا على الظاهر، فإن قرينة دعوى الإرث تدل على أنه لم يقبض، وإلا لما جرت العادة بأن الإنسان إذا ورث شيئًا وقبضه، ثم غصب منه: أن يدعي الإرث مع أن الأصل عدم القبض.

ثم الذي يظهر: جريان هذا الوجه في مسألة البيع- أيضًا- إذا ألحقناها بها، لما ستعرفه.

والذي عليه الأكثرون- كما قال ((الرافعي))، ولم يحك القاضي الحسين عن العراقيين غير ما ذكره الشيخ.

وعن الشيخ أبي حامد: أنه علله بأنه يحتمل أن يكون قد اشترى نصيب أحدهما، واستولى على الجملة.

قيل: وهذه العلة ترشد إلى أن اشتراط عدم القبض في المشاركة يليق بمسألة البيع، لا بمسألة الإرث، لأن بيع الموروث يصح قبل القبض.

الثالث: اعتبر الماوردي في عدم المشاركة مع وجود الاعتراف بالقبض وقوع القسمة، ولم أره لغيره.

ص: 438

واعلم أن الإمام و ((الرافعي)) قالا: إن الوجهين المذكورين في المشاركة فيما إذا عزيا إلى بيع جاريان فيما لو عزيا إلى هبة.

والماوردي قال: إن حكم الهبة حكم البيع، وفيه نظر، من جهة أن الهبة لا تتم إلا بالقبض، وقد تقدم أن المقبوض لا مشاركة فيه.

فرع: إذا صالح المقر له على النصف المقر به، حيث قلنا: يشاركه الآخر، قال القاضي أبو الطيب وغيره: بطل في نصيب الآخر، وهل يصح في نصيب المقر له؟ فيه قولًا تفريق الصفقة.

وحكى الإمام: أن طوائف من الأصحاب ذكروا وجهًا في صحة الصلح في جميع النصف، وهو ظاهر النص في السواء، أي: حيث قال ذكرنا، كان لأخيه أن يدخل معه فيه، يعني: في مال الصلح، كما قاله المزني، واعترض به على الشافعي.

قال: ولست أعرف لهذا وجهًا، وكل ما يتكلف ذكره في التصحيح يتضمن استبداد المقر له بالنصف، وثمنه، وأقصى ما قيل فيه: أن المقر له والمدعى عليه هما المتعاقدان، وهما متقاربان، والعبرة بتقارر المتعاقدين، وهذا أخذ من كلام القاضي الحسين، فإنه هكذا قال:

قال: وهذا باطل قطعًا، فإن المقر له إن كان يعرف حكم المسألة، يعترف لصحابه بحصته في النصف المقر به، وإن كان لا يعرفه، فهو كذلك، ومن ظن ملك الغير ملك نفسه، لم ينفذ بهذا السبب بيعه.

والقاضي أبو الطيب وغيره دروا على المزني، وقالوا: هو نقل كلام الشافعي مختصرًا، فوهم في معناه، وليس مراد الشافعي أن الأخ يشارك أخاه [في مال الصلح، بل في النصف الذي أقر به، وقد ذكره في الأم مفسرًا فقال: إن أخاه] يرجع عليه بنصف ما أقر له به.

أما إذا أقر لأحدهما بجميعه، فحيث قلنا: يكون النصف بينهما، فكذلك الكل، وحيث قلنا: ينفرد المقر له بالمقر به، فإن عاد، وادعى النصف الآخر، سلم إليه، لجواز أن يكون قد اقتصر على دعوى النصف، لتيسر بينته، أو لكونه يخاف جحوده الكل.

ص: 439

ولو قال: النصف الآخر لصاحبي، سلم له، وإن لم يثبته لنفسه، ولا لصاحبه، ففيه ثلاثة أوجه، ذكرناها في باب الدعاوى.

تنبيه: قوله: عزيا إلى جهة أي: أضاف، يقال: عزوته إلى كذا، وعزيته، وعزواه، وعزياه: لغتان، والواو أفصح.

قال: وإن أقر رجل، فقال: هذه الدار لزيد، لا بل لعمرو، أو غصبتها من زيد، لا بل من عمرو- لزمه الإقرار الأول، لما تقرر أن من أقر بحق لآدمي لا يقبل رجوعه.

قال: وهل يغرم للثاني؟ فيه قولان:

وجه [عدم] الغرم: أن العين باقية، يمكن عودها إلى صاحبها، ومنازعته فيها، وهو يقول: أنا معترف لك بها، وإنما الشرع انتزعها، فلا يلزمني الغرم، وهذا ما حكاه في ((المختصر))، أخذًا من نصه عليه في كتاب الإقرار والمواهب من الأم.

ووجه الثاني: أنه أحال بينه وبين ماله، فلزمه الغرم، كما لو غصب عبدًا، فأبق من يده، أو درة فسقطت في ((البحر))، وهذا ما نص عليه في كتاب الإقرار بالحكم الظاهر الذي لم ينقل المزني منه شيئًا مع الأول، وهو الصحيح في ((تعليق)) أبي الطيب، و ((الشامل))، وغيرهما.

وقيل: إن سلمها الحاكم بإقراره ففيه قولان، لأنه معذور، وتوجيههما ما تقدم.

وإن سلمها المقر بنفسه، لزمه الغرم قولًا واحدًا، لأنه غير معذور، وهذه طريقة أبي على الطبري، وآخرين من أصحابنا، كما قال الماوردي.

قال: والصحيح: أنه لا فرق بين المسألتين، لأن الحاكم إنما سلمها بإقراره، فهو كما لو سلمها بنفسه، وهذه طريقة أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، وقد صححها القاضي أبو الطيب، وغيره أيضًا.

ووراء ذلك طريقان:

إحداهما: في المسألة الثانية أنه في تغريمه القولان، وفي المسالة الأولى، لا يغرم قولًا وحدًا، لأنه لم يقر بالجناية، فلا يغرم، ولا كذلك في الثانية، فإنه أقر بالجناية.

ص: 440

والثانية: حكاها الماوردي قبيل الكلام فيما إذا شهدا بحرية عبد، فردت شهادتهما من كتاب الإقرار عن رواية أبي إسحاق، عن بعض الأصحاب في المسألة الأولى: أنه إن أخطأ فلا ضمان عليه، وإن تعمد ففيه القولان.

وليست الطريقتان بشيء.

والخلاف في المسألة الأولى جار فيما لو قال: غصبت هذه الدار من زيد، وغصبها زيد من عمرو، كما حكاه الماوردي وغيره.

فروع

أحدها: لو أقر بأن العبد الذي في تركة أبيه لفلان، [لا بل لفلان]، فطريقان:

منهم من خرجه على القولين.

ومنهم من قطع بأنه لا يلزمه الغرم.

والفرق: أنه إذا أقر بما يغلب على ظنه، ولا يؤخذ بالعلم والإحاطة يعذر، وإذا أقر في مال نفسه، حمل على العلم والإحاطة، لأنها ممكنة، فلم يعذر في الرجوع عن الإقرار، قاله ابن الصباغ وغيره.

الفرع الثاني: إذا قال: غصبت هذه الدار من زيد، وغصبتها من عمرو، فهل يكون كما لو قال: غصبت هذه الدار من زيد لا بل من عمرو، أو يكون حكمه [حكم ما] لو قال: غصبتها من زيد وعمرو، حتى تسلم إليهما؟ فيه وجهان في ((الحاوي)).

الفرع الثالث: إذا كان في يد شخص عين، فانتزعها شخص منه باليمين مع النكول، ثم جاء آخر يدعيها، هل له طلب القيمة؟ إن قلنا: إن يمين الرد مع النكول كالبينة فلا، وإن قلنا: كالإقرار، فعلى الطريقين في الغرم.

قال: وإن باع شيئًا، وأخذ الثمن، ثم أقر بأن المبيع لغيره- فقد قيل: يلزمه الغرم قولًا واحدًا، لأنه قد أخذ عوضه، وللقبض أثر في الضمان، ألا ترى أنه لو غر بحرية أمة، فنكحها، وأحبلها، ثم أجهضت بجناية جان يغرم المغرور الجنين لمالك الجارية لأنه يأخذ الغرة؟!

ص: 441

ولو سقط ميتًا من غير جناية جانٍ لم يغرم، وهذا ما نسبه الماسرجسي إلى ابن أبي هريرة، وهو الصحيح عند البغوي والنواوي وغيرهما.

وقال ابن الصباغ: إنه يجيء على طريقة من اعتبر في القولين تسليم الحاكم.

وقيل: على قولين، كما تقدم.

وأخذ العوض لا أثر له فيما نحن فيه، ألا ترى أنه لو باع الوديعة ضمن، ولو وهبها ضمن؟! فاستوى أخذ العوض وعدمه.

وعلى الطريقين يتخرج سماع الدعوى على البائع بقيمة العين المبيعة، إن قلنا: يغرم سمعت، وإلا فلا، كذا قاله ((الرافعي)).

ويجيء فيه على طريقة ذكرنا مثلها في باب الدعاوى: أنا إذا قلنا: لا يغرم، هل تسمع الدعوى عليه، بناء على أن اليمين المردودة كالبينة أو كالإقرار، وقد حكى القاضي الحسين الطريقين المذكورين في الكتاب في حالة عدم أخذه الثمن وفرق على الأول- وهو الذي صححه أيضًا- بين هذه الصورة، وبين الصورة الأولى بأنه هاهنا فوت عليه العين بقوله، فصار كما لو فوتها عليه بفعله، وأشار إلى أن المفوت إنشاؤه البيع، كما قاله الإمام.

ومحل الخلاف- كما حكاه الإمام في كتاب الغصب عن صاحب التقريب- إذا قال: بعته وهو ملكي، فإن أطلق البيع، ولم يدع الملك، لم يضمن، فإن الإنسان قد يبيع ما لا يملك.

قال القاضي الحسين قبيل باب الإقرار بالوارث: والقولان جاريان فيما لو أعتق العبد، ثم اقر به لآخر: أنه غصبه منه، له يغرم للمقر له؟ وكذا حكاها الماوردي، وفي ذلك نظر يظهر لك مما تقدم من أن شهود العتق والطلاق إذا رجعوا بعد الحكم يغرمون.

قال: وإن قال: غصبت من أحدهما، [أخذ بتعيينه] لأنه أقر بمبهم، فرجع إليه فيه.

قال: وإن قال: لا أعرفه، وصدقاه، انتزع منه، لأنه اعترف بأنه ليس له، وكانا خصمين فيه، لأن الحق فيه لأحدهما باعترافه، ولا مزية لأحدهما على الآخر.

ص: 442

قال القاضي الحسين في كتاب الدعاوى: ويحلف كل واحد منهما صاحبه بأنه لا يلزمك تسليم هذا [المال] إلى، فإن حلفا كان بينهما، وكذا إن نكلا.

وقال القاضي أبو الطيب هنا: إنهما إذا حلفا، وقف حتى يصطلحا.

ومن طريق الأولى: أن يكون الحكم كذلك إذا نكلا.

وقد ذكر في ((الشامل)) الوقف في الصورتين هاهنا، وقال في باب الدعوى في الميراث: إنهما إذا صدقاه، أو كذباه، وحلف، فهل يوقف أو يقسم بينهما؟ فيه وجهان، والمذكور منهما في ((الحاوي)) هنا و ((الرافعي)) الأول.

وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، قال القاضي الحسين: سلم إلى الحالف، وهو الذي أورده ابن الصباغ وغيره نا.

قال: وإن كذباه، [أو أحدهما]، فالقول قوله مع يمينه، لأنه أعرف بحاله، ويلزمه أن يحلف إذا كذباه لكل منهما يمينًا واحدة، كما حكاه الإمام هنا، وأحال الكلام فيه على ما ذكره فيما إذا زوج المرأة وليان من رجلين، والتبس الحال، وقد ذكر هو ومن تبعه ثم: أن الزوجين لو ادعيا عليها العلم بالأسبق، وادعت عدمه- في كيفية حلفهما إذا لم يرضيا بيمين واحدة [وجهان:

أحدهما: تحلف لكل منهما يمينًا.

والثاني: تحلف لهما يمينًا واحدة، حتى لو حضرا أحدهما، وادعى، فحلفت على نفي العلم بالأسبق من العقدين، ثم حضر الآخر، ورام حلفها كذلك، لم تحلف، ولو حضرا معًا، ورضيا بيمين واحدة] كفى [بلا خلاف]، وقد أشرت إلى ذلك في باب اليمين في الدعاوى.

قال: وإن قال: هو لفلان، سلم إليه، ولا يغرم للآخر شيئًا، لأنه لم يقر له بشيء.

نعم: هل له تحليفه؟ الصحيح- وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب وغيره-: أنا إذا قلنا: إنه يغرم لو أقر، حلفه، وإلا فلا.

وحكى الإمام أن بعض الأصحاب أبعد، فقال: إذا قلنا: لا يغرم، انبنى تحليفه

ص: 443

على أن يمين الرد مع الحلف كالبينة أو كالإقرار؟ فإن قلنا: كالإقرار، فلا يحلف، وإلا حلف.

فإن امتنع، وحلف المدعي، قضى له بالعين، وقد تقدم مثل هذه الطريقة في باب الدعاوى، وذكرت فيه عن صاحب ((الإشراف)) [وغيره] شيئًا يتعلق بما نحن فيه، فليطلب منه.

قال: وإن قال: غصبت هذه الدار من زيد، وملكها لعمرو، لزمه أن يسلم إلى زيد، لأن قوله غصبتها من زيد، يقتضي أنها كانت في يد زيد [بحق]، فأعيدت إليه، وقوله بعد ذلك: وملكها لعمرو إن كان شهادة فهي مردودة، لإقراره بالغصب، وإن كان إقرارًا فهو غير معمول به في الحال، لأنه خرجت عن يده بقوله السابق، وشرط نفوذ الإقرار في الحال: أن يكون المقر به في يد المقر، بحث لو ادعى الملك لنفسه لكان القول قوله.

قال: ولا يلزمه لعمرو شيئًا، لأن قوله: وملكها لعمرو، لا ينافي قوله: غصبتها من زيد، لجواز أن تكون في يد زيد بإجارة من عمرو، أو رهن، فلم توجد منه إحالة، فلم يضمن، وهذا ما نص عليه، وهو الصحيح في الطرق، والمحكي في ((النهاية)) عند الجمهور.

وقيل: إنه على قولين، حكاه القاضي الحسين، واختاره في ((التهذيب)).

فرع: لو قال: استعرت هذه الدار من زيد، وملكها لعمرو، سمعت شهادته لعمرو، لأن شهادة المستعير مسموعة، قاله الماودري.

قال: وإن قال: هذه الدار ملكها لزيد، وقد غصبتها من عمرو، فقد قيل: هي كالمسألة قبلها، أي: تسلم لعمرو، ولا يغرم لزيد شيئًا، لأن الإقرارين إذا كان غير متنافين، فلا فرق بين تقدم أحدهما وتأخيره، وهذا أصح في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب والحسين.

وقيل: تسلم إلى الأول- أي: لزيد- لأنه أقر له بالملك أولًا، ومقتضى ذلك: أن تسلم العين له، فلم يقبل رجوعه عنه.

ص: 444

قال: وهل يغرم للثاني؟ - أي: لعمرو-[فيه قولان]، لما سبق وهذا ما أورده الماودري، وقال: إن الحكم هكذا فيما لو قال: هذه الدار لزيد، وقد استعرتها من عمرو.

قال ((الرافعي)): وفي هذه الطريقة مباحثة، لأنا إذا غرمنا المقر في الصورة السابقة للثاني فإنما نغرمه القيمة لأنه أقر له بالملك، وهنا جعلناه مقرًا باليد، دون الملك، فلا وجه لتغريمه القيمة بل القياس أن يسأل عن يده: أكانت بإجارة، أو رهن، أو غير ذلك؟

فإن أسندها إلى إجارة، غرم قيمة المنفعة.

وإن أسندها إلى رهن، غرم قيمة المرهون، ليتوثق به في دينه، وكأنه أتلف المرهون، ثم إن وفي الدين من موضع آخر ترد القيمة عليه.

قال: ومن أقر بنسب صغير مجهول النسب، أي:[والحرية]، وأمكن صدقه، ولا منازع له فيه، ثبت نسبه، لأنه أقر له بحق، لا ضرر فيه على غيره، فأشبه ما لو أقر له بمال.

وأيضًا: فإن إقامة البينة على النسب تعسر، فل لم يثبت بالاستلحاق، لضاع كثير من الأنساب.

والمجنون في هذا المعنى كالصغير.

نعم، لو بلغ الصغير، وأفاق المجنون، وأنكر النسب، فهل يندفع [النسب]؟ فيه وجهان، حكيناهما في باب اللقيط، كالوجهين فيما إذا ادعى شخص رق صغير في يده، وحكم له به، فبلغ، وادعى الحرية.

والأظهر منهما في ((التهذيب))، وغيره، وبه جزم الماوردي، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والمصنف-: أنه لا يندفع، وعلى هذا: لو رام المقر له تحليف المقر، قال ابن الصباغ: لا يحلف، لأنه لو رجع، لم يقبل، فلا معنى لتحليفه، بخلاف العبد الصغير إذا بلغ، ورام تحليف من حكم له بملكه، فإنه

ص: 445

يمكن منه، لأنه لو أقر بذلك، ليعمل به، وهذا منه تفريع على أن من ثبت نسبه بالاستلحاق والتصديق منه، لكبره، ثم توافق هو والمستلحق على نفي النسب: أنه لا ينتفي، كما ذهب إليه الشيخ أبو حامد وطائفة، كما قاله في ((الحاوي))، واختاره في ((المرشد))، قياسًا على ما لو ثبت نسبة بالفراش.

أما إذا قلنا: إن النسب ينتفي في هذه الصورة، كما حكاه في ((التهذيب)) عن أبي علي بن أبي هريرة، والمصنف عن ابي على الطبري، والماوردي عنهما وطائفة- فيظهر أن له التحليف.

ثم قضية التشبيه الذي ذكرناه: أن الصبي لو كان مراهقًا عاقلًا: أن يكون في اشتراط تصديقه خلاف، كما تقدمت حكايته في الكتاب فيما إذا ادعى رق مثل هذا من هو في يده، هل يحتاج إلى تصديقه كالبالغ، أم لا؟ كذلك لو كذب في حال صباه، هل يؤثر- إذا قلنا: إنه بعد البلوغ مؤثر- أم لا؟ ولم أر للأصحاب تعرضًا لهذا، بل الذي رأيته فيما وقفت [عليه] من كتبهم ما ذكره الشيخ.

أما إذا كان الصغير رقيقًا للمستلحق، فهو كالحر.

وإن كان لغيره، ففي ((التهذيب)) وغيره: أنه لا يثبت.

ولو كذب المقر الحس، بأن يكون الصغير في سن لا يتصور أن يولد للمستلحق، أو أتت به امرأة من بلاد بعيدة، لم يخرج إليها المستلحق، ولا أتت تلك المرأة إلى بلده قبل ذلك، ولا وصل إليها ماؤه، كما أشار إليه ((الرافعي))، ولا احتمل شيء من ذلك، فلا اعتبار بإقراره، كما قاله ((الرافعي))، والقاضي الحسين.

وأطلق [ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب] والماوردي القول باللحوق فيها.

ومحل الكلام في احتمال اللحوق وعدمه باب ما يلحق به النسب.

ولو كذبه الشرع بأن كان المستلحق مشهور النسب من غير مدعي النسب، لغا إقراره أيضًا بالنسبة إلى النسب، لما فيه من الإضرار بالغير.

ولا فرق بين أن يصدقه ذلك الغير والولد لو كان بالغًا، أو لا، لما فيه من حق الله تعالى.

ص: 446

نعم: لو كان المستلحق [عبدًا للمقر المستلحق]، فهل يعتق؟ فيه وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين، في باب تدبير الصبي، وأجراهما فيما لو كان مجهول النسب بالغًا، وكذب سيده في الاستلحاق، وكذا فيما لو قال لزوجته: أنت ابنتي، وكانت مشهورة النسب من غيره، أو كبيرة- في أنه هل ينفسخ النكاح أم لا؟

ولو كان في حال الإقرار ثم منازع في النسب، فقد تقدم حكمه في باب اللقيط.

تنبيه: قول الشيخ: ومن أقر

، إلى آخره يقتضي أنه لا فرق فيما ذكره بين المسلم والكافر، والرشيد والسفيه، والحر والعبد، لأن لفظة ((من)) عامة، فشملت من ذكرناه، وهذا مما لا شك فيه في المسلم إذا كان رشيدًا، وأما الكافر فقد تقدم الكلام في استلحاقه في باب اللقيط، والسفيه ملحق في هذا بالرشيد عند الجمهور، وقد ذكرناه في كتاب الحجر.

وحكى القاضي أبو الطيب وابن الصباغ عند الكلام في الإقرار للوارث في صحة إقراره وجهين، والأصح الأول.

وأما العبد، فهو كمن عليه ولاء، وسيأتي، على أنه يخرج بقول الشيخ من بعد:((فإن كان ميتًا ورثه))، فإن العبد لا يرث، فيكون هذا كالمبين للمراد من الأول، ومنه يظهر أن المراد بالصغير: الحر أيضًا.

فإن قلت: لفظة ((من)) تشمل الذكر والأنثى، وفي استلحاق المرأة الولد خلاف تقديم في اللقيط، فلم لا نبهت عليه أيضًا؟

قلت: جوابه ما تقدم في باب تحمل الشهادة: أن النسب مختص بجانب العصبة، فهي مخرجة بقول الشيخ: بنسب، والله أعلم.

قال: فإن كان- أي: الصغير- ميتًا- أي: حالة الاستلحاق- ورثه.

هذا الفصل ينظم حكمين:

أحدهما: أن استلحاق الصغير بعد موته كما هو في حياته، لأن الشرائط المعتبرة في حياته موجودة بعد وفاته، وما يتوقع من تهمة الإرث فلا أثر لها، لأن أمر النسب مبني على التغليب والإمكان، ولهذا يثبت بمجرد الإمكان، ولهذا يثبت بمجرد الإمكان.

وأيضًا: فلما كانت تهمة وجوب نفقة المستلحق إذا كان فقيرًا في مال

ص: 447

المستلحق في حال حياته وتصرفه في ماله- غير مانعة من الاستلحاق، وكذا تهمة سقوط القصاص عنه إذا كان قد قتله، ثم استحلقه، فكذلك تهمة الميراث لا تكون مانعة منه.

الثاني: أن الإرث يثبت، لأنه فرع النسب، وإذا ثبت الأصل، ثبت فرعه، حيث لا مانع، ولا مانع.

وهكذا حكم استلحاق من بلغ مجنونًا بعد موته، أما استلحاق من طرأ عليه الجنون بعد البلوغ، فسيأتي.

قال: وإن أقر بنسب كبير- أي: عاقل حر- لم يثبت نسبه حتى يصدقه، لأنه يمكن تصديقه، فاعتبر، بخلاف الصغير والمجنون، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وغيرهما في كتاب العاقلة، وهاهنا، فيكون شرطًا زائدًا عل ما ذكر في الصغير، وبه تكمل الشرائط أربعة، فإن أنكر، كان للمقر تحليفه، فإن نكل، حلف المدعي وثبت النسب.

وكذا لو قال كبير لشخص: أنت أبي، فأنكر، فله طلب يمينه.

قال: وإن كان ميتًا، لم يثبت نسبه، لفوات شرطه، وهو التصديق.

ولأن تأخر الاستلحاق إلى الموت يوشك أن يكون خوفًا من إنكاره، وهذا ما أورده القاضي الحسين في ((تعليقه))، والماوردي، وهو الأصح في ((التهذيب))، وقد حكاه بعضهم قولًا، والمصنف وجهًا، مع وجه آخر صححه: أنه يثبت، وقال في ((الشامل)): إنه المذهب، ونسبه ((الرافعي)) إلى الأكثرين، ولم يورد المتولي سواه، إلحاقًا له بالصغير، ومنعوا كون التصديق شرطًا على الإطلاق، بل هو شرط إذا كان المستلحق أهلًا للتصديق.

وأما الكلام الثاني، فهو تمسك بالتهمة، وقد بينا أنه لا اعتبار بها في النسب.

ويجري الوجهان فيما لو استلحق ميتًا طرأ عليه الجنون بعد البلوغ، أما إذا كان الكبير عبدًا لغير المتسلحق، وصدق، فهل يثبت نسبه؟ فيه وجهان في ((الرافعي))، و ((التهذيب))، وهما جاريان في العتق، وقد يؤخذ المنع من كلام الشيخ- كما سيأتي: إن المقر لو كان [عبدًا] فهو كمن عليه ولاء، ومن عليه ولاء، هل يصح إقراره بأب؟ فيه خلاف:

ص: 448

الذي ذكره الشيخ: المنع.

ووجه الأخذ: أنه لابد في ثبوت نسب الكبير من التوافق عليه، من جهة المقر، والمقر به، فنقيس أحد الأمرين على الآخر، ويشهد لذلك أن ابن اللبان قال: من قبل من أصحابنا إقرار المرأة بالولد، قبل الإقرار بالأم، ومن لم يقبل إقرارها، لم يقبل [الإقرار بالأم، لإمكان البينة، كذا حكاه في الزوائد عنه، وأنه قال- أيضًا-: من قبل إقرارها، قبل إقرار ورثتها بولدها، ومن لم يقبل إقرارها، لم يقبل] إقرار ورثتها إلا أن يصدقهم زوجها.

تنبيه: المفهوم من التصديق: أن يقول الشخص: صدقت، وما في معناه، إذ هو الحقيقة، وقد تقدم في باب تحمل الشهادة: أنه يقوم السكوت مقامه عند العراقيين على تفصيل فيه، ومنازعة، فليطلب منه، ولأجله قال بعض المتأخرين: إن الشرط في البالغ عدم التكذيب، أو وجود التصديق؟ يجتمع من كلام الأصحاب فيه وجهان.

قال: وإن أقر من عليه ولاء بأخ، أو أب، لم يقبل، لما فيه من الإضرار بالمولى.

وفيه قول آخر: أنه يقبل، كالحر إذا كان له عم، فأقر بأخ.

والصحيح- وبه جزم القاضي أبو الطيب، وغيره في باب دعوى الأعاجم ما ذكره الشيخ، وفرقوا بفرقين:

أحدهما: أن الميراث بالولاء حق من حقول الملك، والعبد لا يملك إسقاط حق سيده فيما طريقه المال، دليله، عدم قبول إقراره بجناية الخطأ بالنسبة إلى ((التعليق)) بالرقبة، وليس كذلك الميراث بالنسب.

والثاني: أن الولاء يثبت من طريق المعاوضة، وهو الشراء المتقدم للعبد، فهو كسائر الأملاك، وقد بينا أنه لا يملك إسقاط الملك بحال، فكذلك حق الملك.

قال: وإن أقر بنسب ابن، فقد قيل: يقبل، لأن به حاجة إلى استلحاق الابن، لأنه لا يتصور ثبوت نسبه من جهة غيره إلا بالبينة، بخلاف الأخ، والأب، فإنه يتصور ثبوت نسبه من جهة أبيه وجده.

ولأن المعتق ليس له منعه من أن يستولد ولدًا، فهو قادر على سبب استحداثه،

ص: 449

فلا يكون له منعه منه إن أقر به، لأن من قدر على الإنشاء قدر على الإقرار، وهذا ما نص عليه في كتاب اللقيط، وصححه البندنيجي في باب دعوى الأعاجم، وكذلك النواوي، ولم يحك القاضي أبو الطيب في باب عقل من لا يعرف نسبه غيره.

وقيل: لا يقبل، كالإقرار بالأخ.

وقد حكى الماوردي، وابن الصباغ في كتاب السير قبل باب المبارزة- وجهًا ثالثًا: أنه إن أمكن أن يكون ول له بعد عتقه، قبل، لأنه يملك الاستيلاد، ولا يملكه قبل ذلك.

قلت: وقياس هذا أن يقال: إن أمكن أن يكون ولد له بعد أن أذن له السيد في التزويج قبل.

وإقرار العبد بالنسب كإقرار من عليه الولاء، سواء، قاله في التتمة، وقد قدمت ذكره في باب اللقيط، فليطلب منه.

فرع: إذا أقر الابن على أبيه بالولاء، فقال: هو معتق فلان، ثبت الولاء عليه وإن كان المقر مستغرقًا، كما في النسب، قال القفال في ((الفتاوى)).

قال: وإن أقر الورثة بنسب- أي: لم ينفه من ألحق به- فإن كان المقر به يحجبهم- أي: كما إذا أقر الأعمام بأخ للميت، والإخوة بابن لأبيهم، أو المعتق بابن أو أخ أو عم للمعتق، ثبت النسب، لما روى عمرو شعيب عن أبيه عن جده: أن النبيصلّى الله عليه وسلّم ((قضى في كل مستلحقٍ استلحق بعد أبيه: ((فقد لحق بمن استلحقه))، وهذا نص عام فيما نحن فيه.

ولأن الورثة يخلفون مورثهم في حقوقه، وفي إثباتها بالحجج والبينات في قبض الديون، والقصاص، والنسب حق له إثباته حيًا، فكان لورثته إثباته ميتًا، كالديون، والقصاص.

قال: [دون الإرث]، لأنه لو ثبت يحجب المقرين، وخرجوا عن أن يكونوا

ص: 450

وارثين، وحنيئذ يبطل الإقرار، لأن صحة الإقرار معتبرة بأن يكون المقر وارثًا، ألا ترى أن الابن الكافر إذا أقر بأخ من أبيه المسلم، لم يثبت نسبه، لعدم الإرث، وإذا بطل الإقرار، بطل النسب والإرث، فكان ثبوته يؤدي إلى نفيه، فبطل، وأثبت النسب دونه، فإنه قد يثبت ولا ميراث، لموانع، فيجعل هذا منها.

وقيل: يثبت الإرث فيه، لثبوت النسب، فإنه فرعه، ولأن الأصحاب أجمعوا على أن الابن المستغرق إذا أقر بأخ ثبت نسبه وميراثه وإن كان بإقراره يخرج عن أن يكون جميع الورثة، فلما كان هذا غير مانع، كذلك الأول، وهذا قول ابن سريج.

قال: وليس بشيء.

وقال القاضي أبو الطيب: إنه خلاف الإجماع، ولا يشبه ما ذكره، لأنه إذا كان المقر به كبيرًا فقد اتفقا على ذلك، وإن كان صغيرًا لم تعتبر موافقته، فقد أقر كل من يعتبر إقراره.

وقال ابن الصباغ: عندي أن قول ابن سريج هو الصحيح، وهو في ذلك متبع لصاحب التقريب، وجماعة، كما قال ((الرافعي)).

قال: وما احتج به الأصحاب فلا يصح، لأنه إنما يعتبر في الإقرار أن يكون وارثًا لولا إقراره، وخروجه من الإرث بإقراره لا يمنع صحته، كما ذكره أبو العباس فيما إذا أقر بأخ، فإنه خرج بإقراره عن أن يكون جميع الورثة.

وقول القاضي: إنه لا يعتبر موافقة الصغير فهو حجة عليه، وقد كان يجب ألا يثبت حتى يبلغ، فيقر، فإنه وإن كان صغيرًا فهو وارث، دليله: ما لو كان الوارث اثنين أحدهما صغير- أي: أو مجنون- فأقر البالغ أو العاقل بأخ آخر، لم يقبل، ولا يقال: لا يعتبر موافقة الصغير والمجنون.

ويدل على ما قلته من أنه يعتبر أن يكون وارثًا لولا إقراره من الأصول: أن رجلًا لو ثبت له ملك عبد عند الحاكم بالشهادة، فقال: هذا العبد لفلان- ثبت بذلك ملكًا للمقر له وإن كان خرج بإقراره عن أن يكون مالكًا، ولو أقر غير المالك، لا يثبت بإقراره الملك، وإنما يثبت لولا إقراره، لكان محكومًا له بالملك.

ص: 451

قلت: قوله: وإقرار غير المالك لا يثبت به الملك ممنوع، بل إقرار المالك لا يثبت الملك، دليله: ما لو شهدت البينة: أنه ملكه إلى حين إقراره له بالملك، لم تسمع، ولو قال: ملكي لفلان، لم يسمع، ولا يصح إقراره كما تقدم ذكره، بل الذي يصحح الإقرار كونه في يد المقر، بحيث لو ادعى الملك لنفسه لقبل لا كونه مالكًا، ولعله مراده.

وقد حكى الإمام عن المحققين وجهًا آخر أن النسب لا يثبت لأنه لو ثبت، لاقتضي الإرث، ولو ورث لحجب المقر، وإذا حجبه، خرج عن أهلية الإقرار، فيبطل، وإذا بطل الإقرار، بطل النسب.

فرع: لو ادعى مجهول النسب على أخي الميت: أنه ابن الميت، ونكل الأخ عن اليمين، فحلف المدعي، ثبت النسب، ثم إن جعلنا اليمين المردودة مع النكول كالبينة، ورث، وحجب الأخ، وهو المختار في ((المرشد)). وإن جعلناها كالإقرار، ففيه ما تقدم، قاله في ((المهذب))، و ((الحاوي))، غيرهما.

ثم إذا ورثناه عند جعلنا ذلك كالبينة، فمات المجهول، هل يرثه المنكر؟ يشبه أن يقال: الحكم فيه كما لو أقام مجهول البينة على ثبوته، هل يرثه المنكر؟ وقد قال الماوردي: إنه إن أصر بعد موته على الإنكار، لم يرثه، وإن رجع عنه ورث.

قال: وإن لم يحجبهم- أي: كما إذا أقر الأبناء بابن آخر، أو الإخوة بأخ آخر، أو الأعمام بعم آخر، ونحو ذلك- ثبت النسب، والأصل فيه مع ما تقدم: ما روي عن عائشة- رضي الله عنها قالت: اختصم عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن وليدة زمعة، فقال عبد: هو أخي ولد على فراش أبي، وقال سعد: هو ابن أخي عبد، عهد إلى أنه ألم بها في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((هو لك يا عبد)) وفي رواية: ((الولد للفراش، وللعاهر الحجر))، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقرار عبد زمعة بالنسب.

فإن قيل: سودة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخت عبد، [و] لم ينقل أنها اعترف به.

فالجواب: أن زمعة كان كافرًا، وكذا عبد، وسودة أسلمت في حياته، فكان عبد قد حاز الميراث كله من أبيه، فكان الاعتبار بإقراره وحده.

ص: 452

وعلى أنه يجوز أن يكون- عليه السلام سمع إقرارها بذلك في البيت، أو وكلت أخاها في الدعوة، لأنها عادة النسوة، ويدل عليه أنه قال لها:((واحتجبي يا سودة))، فلولا أنها كانت معترفة، لكانت [محتجبة] مقيمة على الاحتجاب [الأول].

فإن قيل: حكمه- عليه السلام إنما هو بالملك، لأنه قال:((هو لك عبد)).

فجوابه: أن التعليل ينفي ذلك، مع [أن عبدًا] ما ادعى رقه، فكيف يحكم له به؟

وقوله: ((هو لك)) أي: أخ لك.

وقوله: ((عبد)) [هو] غير منون على النداء، كقوله تعالى:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف:29]، أي: يا يوسف.

فإذا ثبت أن الوارث إذا كان واحدًا صح استلحاقه، فالجمع بذلك أولى، لأن أبا حنيفة قد وافق عليه.

قال: والإرث، لأنه فرع النسب، والفرع يثبت بثبوت أصله ما لم يكن مانع، ولا مانع.

فرع: لو قال المستغرق: فلان أخي، ثم فسر الأخوة بالرضاع، فعن الروياني: أنه حكى عن أبيه: أن الأشبه بالمذهب: أنه لا يقبل.

فقال: وإن أقر بعضهم، وأنكر البعض- أي: كما إذا خلف الميت أخوين وابنين، فأقر أحدهما، وأنكر الآخر، أي:] وحلف- لم يثبت النسب، لأن إقرار من أقر ليس بأولى من إنكار الآخر، فسقطا، وبقي الأمر كما كان، وهذا مما لا خلاف فيه، كما قاله أبو الطيب، ولأجله ادعى ابن الصباغ فيه الإجماع، وهو كذلك في ((الحاوي)).

قال: ولا الإرث، لقوله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} الآية [النساء:176]، وقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية [النساء:11] فأثبت الميراث للأخ والولد، وهذا ليس بأخ ولا ولد.

ولأنه أقر بنسب لم يثبت، فوجب ألا يثبت به فرعه من الميراث، كما لو أقر بنسب معروف النسب لغيره.

ص: 453

ولا فرق في ذلك بين إرث مما في يد المنكر، أو المقر على المنصوص، وهو الصحيح، ولم يورد القاضي أبو الطيب والحسين سواه.

وعن صاحب التقريب حكاية تخريج قول: أنه يرث مما في يد المقر.

قال ((الرافعي)): وربما نسب ذلك إلى ابن سريج.

والفوراني حكاه قولًا مجردًا عن ذكر التخريج، وقد يستدل له بمسائل:

منها: إذا قال أحد الابنين: فلانة بنت أبينا، وأنكر الآخر- فإنه يحرم على المقر نكاحها إن كانت مجهولة النسب، وكذا إن كانت مشهورة النسب على أحد الوجهين، مع أن التحريم فرع النسب الذي لم يثبت.

ولو قال أحدهما لعبد في التركة: أنت ابن أبينا، وأنكر الآخر، حكم بعتق نصيبه على أحد الوجهين.

ومنها: لو قال أحد الشريكين في العقار لثالث: بعت منك نصيبي بكذا، فأنكر [الشراء] لا يثبت الشراء، وتثبت الشفعة على الصحيح.

ومنها: لو قال: لزيد على عمرو كذا، وأنا ضامن، وأنكر عمرو، لزمه ما ضمنه على الصحيح.

ومنها: إذا اعترف الزوج بالخلع، وأنكرت المرأة، ثبتت البينونة وإن لم يثبت المال الذي هو الأصل.

ومنها: لو قال لعبده: بعتك نفسك بكذا، وفرعنا على الصحيح في صحة ذلك كما ذكرناه في باب العتق- فأنكر العبد الشراء، عتق وإن لم يثبت البيع الذي هو الأصل.

وإذا قلنا بظاهر المذهب، فذاك في الظاهر، فأما في الباطن، فهل على المقر- إذا كان صادقًا، لعلمه بنسبه، أو لإقرار مورثه عنده به- أن يشركه فيما في يده؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي، وغيره:

أحدهما: لا، لما تقدم.

والثاني: وهو المذكور في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب عن بعض الأصحاب لا غير-: المشاركة.

ص: 454

قال ابن الصباغ: وهو الصحيح، لأنه عالم باستحقاقه، فيحرم عليه منع حقه منه، كما لو قامت البينة بذلك.

والقائل بهذا يقول: يثبت الإرث في الباطن، وهل يثبت في الظاهرة؟ فيه وجهان: ظاهر المذهب: المنع.

وفي العدة عن الشيخ أبي حامد: أنه قال بعكس ذلك: إنه لا يثبت في الظاهر، وهل يثبت في الباطن؟ فيه وجهان.

وقد رويت الطريقتان عن رواية صاحب التقريب.

ثم إذا قلنا بالمشاركة، فبكم يشركه؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الماوردي:

أحدها: بنصف ما في يده، لأن قضية ميراث البنين التسوية، فلا يسلم لأحد شيء ما لم يسلم للآخر مثله، والثالث بزعمهما غصبهما بعض حقهما.

والثاني-: وهو الأصح في ((الرافعي))، ولم يورد أبو الطيب سواه- بثلث ما في يده، لأن حق الثالث بزعم المقر شائع فيما في يده ويد صاحبه، فله الثلث من هذا، والثلث من ذلك.

وقد حكى هذين الوجهين الشيخ أبو حامد- كما قال ابن الصباغ- وقال: إنهما ينبنيان على القولين فيما [إذا] أقر بعض بدين على المورث، وأنكر الآخر، هل يلزمه الجميع في حصته، أو لا يلزمه إلا حصته.

والثالث حكاه في الزوائد عن ابن اللبان، أنه يشركه بثلث ما في يده، ويضمن له سدس ما في يد أخيه إن كانت القسمة قد وقعت بالاختيار من غير حاكم، لأن يده ثبتت على نصف جميع التركة مشاعًا، فالزائد الذي في يد الأخ المنكر على حصته ثلث ما في يده قد كان في المقر منه بحكم الإشاعة نصفه، وهو السدس، فضمنه، ليسلمه له بالقسمة.

ولو كانت القسمة وقعت بحكم الحاكم على المقر، وأقرع بينهما، لم يضمن.

وعلى هذا لو لم المقر بالأخ المجهول حتى قاسم أخاه بغير حاكم، فهل يضمن؟ فيه وجهان في الزوائد:

ص: 455

أحدهما: يضمن، لأنه وجد منه التسليم.

والثاني: لا يضمن، لأن القسمة وجبت عليه في الظاهر.

وحكى الإمام بدل هذا الوجه الثالث عن صاحب التقريب: أنه إن قاسم المقر المنكر أعيان التركة قهرًا، والمقر ممتنع عن القسمة، فلا يغرم غير ثلث ما في يده.

وإن جرت القسمة بينهما طوعًا، فيلزمه أن يغرم له مع ثلث ما في يده ما حصل في يد صاحبه، وهو ثلث ما معه، لأن التركة كانت ثابتة في يدهما على الجميع ثبوتًا شائعًا، فلما اقتسما، فقد رفع المقر يده عن نصف حصة الثالث، وسلمه، وترك المنكر على المقر مثل ذلك، فضمن من ذكرناه.

قال: وعلى هذا لو كان المقر جاهلًا بالثالث حال وقوع القسمة طوعًا، ثم بعد القسمة أحاط علمه به، ففي المسألة وجهان حكاهما صاحب التقريب، وقد تقدم مثلهما على الوجه الثالث.

فرع: لو كان المنكر اثنين، والمقر واحد فللمدعي النسب طلب يمينهما، فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، لم يرد اليمين على المدعي، لأنه لا يثبت بها نسبًا، ولا يستحق بها إرثًا.

وفي الزوائد في حلفه وجهان:

أحدهما: هذا.

والثاني: يحلف، لأن الحالف قد يقر، فيثبت بيمينه على الناكل.

وقد بقى من أقسام المسألة: ما إذا أقر بعض الورثة، والبعض ممن لا يصح إقراره- لصغر أو جنون- وقد قال القاضي الحسين: إنه يثبت في الحال حتى لو مات أحدهما، ورثه الآخر، ثم إذا بلغ الصبي، وأفاق المجنون: فإن صدق استمر الثبوت، وإن كذب بان أنه لم يكن ثابتًا بإقراره.

وإن مات الصبي والمجنون قبل ذلك، استقر الثبوت، هذا حكاه الإمام عن بعض المحققين، وقال: إنه متناقض، لأن ما يتعرض للوقف والتبين منتهى نظر، فلا معنى لإطلاق القول بنفوذ الحكم.

والصحيح: أنه لا يثبت النسب في الحال، عملًا بما ذكرناه من قبل، لكن يوقف إلى البلوغ والإفاقة، فإن حصل التصديق ثبت، وإن حصل التكذيب فالحكم كما تقدم.

ص: 456

وإن مات قبل ذلك، فإن لم يكن له وارث غير المقر، ثبت، وإن كان له غيره، فلابد من تصديقه.

أما إذا كان المورث قد نفى من ألحق به باللعان [أو غيره]، فهل للورثة استلحاقه حيث يستلحقونه لولا النفي؟ فيه وجهان في ((النهاية))، عن رواية القاضي:

أحدهما: اللحوق، كما لو استلحقه المورث قبل الموت، وهذا ما أورده معظم العراقيين، ومنهم ابن الصباغ، وقال القاضي الحسين: إنه الذي قاله أصحابنا.

والثاني: المنع، لأنه نسب قد سبق الحكم ببطلانه، ففي إلحاقه بعد الموت إلحاق بعد الموت إلحاق عار بنسبه، وشرط الوارث أن يفعل أن يفعل ما فيه حظ المورث، لا ما يضره، وهذا ما أورده في ((الحاوي))، و ((المهذب))، و ((التهذيب))، ولم يحك القاضي الحسين قبل باب الشهادة على الشهادة غيره.

ولو لم يصدر من المورث نفي، لكن صدر من أحد الورثة إنكار له، ثم مات، ووارثه المقر بالنسب، فهل يثبت الآن؟ فيه وجهان، سواء أعاد الإقرار به، أو لم يعده، كذا قاله القاضي الحسين، والإمام، وهما في ((الحاوي)) وغيره من كب العراقيين:

وأظهرهما: الثبوت، ولم يورد القاضي أبو الطيب سواه، وادعى ابن الصباغ: أنه المذهب، لأن جميع الميراث قد صار له.

والثاني: المنع، لأن إقرار الفرع مسبوق بإنكار الأصل.

ويجري الوجهان فيما لو خلف المنكر وارثًا غير المقر، وصدق على النسب، وقد جزم أبو الطيب فيها بالثبوت أيضًا.

ولا خلاف أنه لو أقر أحد الورثة، وسكت الباقون، ثم مات الساكت، ووارثه المقر أو غيره، وصدق على النسب: أنه يثبت، لأن إقراره غير مسبوق بتكذيب أصله.

فروع:

أحدها: لو أقر الابن المستغرق بأخوة مجهول، فصدقه المجهول على أنه ابن الميت، وأنكر أن يكون المقر ابنه- ففيه ثلاثة أوجه:

أصحها: أنه لا أثر لهذا الإنكار، ويرثان.

ص: 457

والثاني: لا يثبت نسب المنكر [ونسب المقر بحاله وإرثه، حكاه في ((الإنابة)) عن القفال.

والثالث: أنه يثبت نسب المنكر]، ويحتاج المقر إلى إقامة البينة على نسبه.

قال القفال: وهو غلط.

الفرع الثاني: إذا أقر المستغرق بأخوة شخص، وصدقه، ثم إنهما أقرا بنسب ثالث، وأنكر الثالث نسب الثاني، ففي سقوط نسب الثاني وجهان في ((المهذب)) وغيره:

وأصحهما- ولم يورد الماوردي، والقاضي أبو الطيب، والحسين، وابن الصباغ سواه-: السقوط، لأنه ثبت نسب الثالث، فاعتبرت موافقته، لثبوت نسب الثاني.

الفرع الثالث: إذا أقر بأخوة مجهولين، وصدق كل واحد منهما الآخر، ثبت نسبهما.

وإن كذب كل واحد منهما الآخر، فوجهان:

احدهما: يثبت نسبهما، لوجود الإقرار ممن يحوز التركة.

والثاني: ولم يورد في ((المهذب)) غيره-: أنه لا يثبت.

ولو صدق أحدهما الآخر، وكذبه الآخر، ثبت نسب المصدق دون المكذب، إذا لم يكونا توأمين، فإن كان توأمين فلا أثر للتكذيب.

قال الماوردي، والمصنف: وكان الإقرار بأحدهما إقرارًا بالآخر.

الفرع الرابع: إذا كان في يد ثلاثة إخوة جارية، معها ولد، فقال أحدهم: هي أم ولد أبينا، والابن أخونا، وقال الثاني: هي أم ولدي، وولدها ني، وقال الثالث: هي جاريتي، وولدها عبدي- قال القاضي أبو الطيب في ((شرح الفروع)) عن ابن الحداد: عتق ثلثها وثلث ولدها بإقرار الأول، وبإقرار الثاني يصير ثلث الولد حرًا أيضًا، لاعتراف بالبنوة، ويثبت نسبه، إذ لا منازع له فيه، فإن بإقرار الأول وحده لا يثبت نسبه من الأب، وثلث الجارية يصير أم ولد، ويسري العتق والاستيلاد إلى حق مدعي الملك إن كان موسرًا، فيغرم له قيمة ثلث الأم وقيمة ثلث الولد، وإن كان معسرًا، لم يسر، ويبقى حق مدعي الملك على الرق.

تبينه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمورًا:

ص: 458

أحدها: أن تصديق جميع الورثة كاف في ثبوت النسب، سواء كانوا ذكورًا كالأولاد إذا أقروا بولد آخر للميت، أو بأخ له، أو عم، والإخوة إذا أقروا بأخ [آخر] للميت، أو بابن أو عم، والأعمام إذا أقروا بعم آخر للميت، أو بابن، أو أخ، والأولاد والأب إذا أقروا بأخ للميت، والإخوة والأجداد إذا أقروا بأخ للميت.

أو كانوا إناثًا: كالبنات، والأخوات إذا أقروا ببنت أخرى، أو ابن، أو أخت أخرى، أو أخ، لأنهن يستغرقن جميع الميراث.

أو كانوا ذكورًا وإناثًا، وهو كذلك كما صرح به الأصحاب، وألحقوا بالحالة الثانية ما إذا لم يكن للميت سوى بنت واحدة هي معتقته، وهل يرث المقر به إذا كان أخًا لها؟ فيه وجهان إذا قلنا: إن المقر به إذا كان يحجب لا يرث:

أحدهما: نعم، يرث، لأنه لا يحجبها، فإنه يبقى لها الثلث.

والثاني: لا يرث، لأنه يحجبها عما تستحقه بالولاء، فيصير كما لو لم يخلف إلا بنتًا ومعتقًا، فأقر بابن للميت لا يرث، لحجبه المعتق.

الأمر الثاني: أنه لا فرق في الوارث الذي يعتبر تصديقه بين أن يكون من أصحاب الفرائض أو من العصبات، ممن يرث بالنسب، أو بالسبب: كالزوجة، والمعتق، وهو كذلك على المشهور، وألحقوا الزوج بالزوجة في اعتبار تصديقه، ويظهر أن يكون هذا مفرعًا على أن المرأة يصح استلحاقها، وإلا فقد ذكرنا عن ابن اللبان: أنه قال: من لم يقبل إقرار المرأة بالولد، لم يقبل إقرار ورثتها به.

وعلى هذا لا يمكن اعتبار تصديق الزوج.

وفي ((الرافعي))، و ((النهاية)) حكاية وجه منسوب في ((الحاوي)) إلى البصريين من أصحابنا: أنه لا يعتبر تصديق الزوج والزوجة، لأن الزوجية تنقطع بالموت.

ولأن المقر به النسب، ولا شركة في النسب وهو جار- كما قال الغزالي وغيره- في العتق.

وقال الماوردي: إن مثله يجري فيما إذا ادعى شخص أخوة من الأم، لا يفتقر إلى تصديق الأخ من الأب، وإذا ادعى أخوة من الأب، لا يفتقر إلى تصديق الأخ من الأم، لأنه لا نسب بينهما.

ص: 459

والمذكور في ((الإبانة)) وغيرها الأول.

ولو كان لبيت المال مدخل في الوراثة، كما إذا مات شخص، وخلف بنتًا لا غير، وصدقها الإمام، لا على وجه الحكم، فهل يثبت النسب؟ فيه وجهان في ((المهذب)) وغيره، بناء على أن الإمام، هل ينزل منزلة الوارث الخاص أم لا؟

والمذكور منهما في ((تعليق)) أبي الطيب، و ((الشامل)): القبول، وهو الذي نسبه الماوردي إلى الشيخ أبي حامد، وقال: إنه غير صحيح، لأن الإمام لا يملك حق بيت المال، فينفذ إقراره، ولا يتعين مستحقه من المسلمين، فيعتبر تصديقه، فلا يثبت، وهذا ما اختاره في ((المرشد)).

أما لو كان على وجه الحكم، انبنى على القضاء بالعلم، هل يجوز أم لا؟

والوجهان جاريان- كما قال ((الرافعي)) - فيما لو مات شخص لو وارث له، فأقر الإمام له بوارث- هل يثبت نسبه؟

قلت: وعلى القبول ينبغي أن يراعى حاله، فإن كان صاحب فرض، ورث، وإن كان غصبة فلا، بناء على الصحيح في أن المقر به إذا كان يحجب لا يرث.

الأمر الثالث: أن تكون حيازة المستغرق تركة المستلحق به بغير واسطة، لأنه حينئذ يصدق أنه وارثه حقيقة، وقد قال الأصحاب: لا فرق فيه بين أن يكون بغير واسطة [أو بواسطة]، كما إذا أقر بعمومة مجهول، وهو حائز لتركة أبيه الحائز لتركة جده الملحق به، فإن كان قد مات أبوه قبل جده، والوارث ابن الابن، فلا واسطة، ولو كان الحائز لتركة الجد أبوه وعمه، ثم مات عمه، ولا وارث له غير غير أبيه، أو هو، فالأمر كذلك.

فإن قلت: هذا منهم يفهم أنهم اعتبروا أن يكون المقر حائزًا لميراث الملحق به النسب لو قدر موته حين الإلحاق.

قلت: كلامهم يأبى ذلك، لأنهم قالوا: لو مات شخص مسلمًا، وترك ولدين، أحدهما مسلم والآخر كافر، ثم مات الابن المسلم، وترك ابنًا مسلمًا، وأسلم عمه الكافر- فحق الإلحاق بالجد لابن ابنه [المسلم، لا لابنه] الذي أسلم بعد موته، ولو كان الأمر كما قيل، لكان حق الإلحاق للابن، لا لابن الابن.

ص: 460

قال: وإن أقر الورثة بزوجية امرأة المورث، ثبت لها الميراث، كما لو أقروا بنسب شخص، ثبت له الميراث، وهكذا الحكم فيما لو أقروا بزوج للمرأة.

وعن القديم قول: أنه لا يقبل فيهما، لأن الزوجية قد انقطعت بالموت، بخلاف النسب.

والصحيح الأول، لقصد الميراث.

قال: وإن أقر البعض، وأنكر البعض، فقد قيل: يثبت لها الإرث بحصته، لما ذكرنا أن القصد بالإقرار بالزوجية الما، وهو مما يتبعض ثبوته، فآخذنا المقر به، كما لو أقر بغصب حصة من الموجود، وأنكر باقي الورثة.

فعلى هذا بكم تشارك؟ فيه الوجه السابق.

وقيل: لا يثبت، كما في نظيره من النسب، وهو الأظهر عند الغزالي، تبعًا لإمامه، والقاضي الحسين، وقد اختاره النواوي، وصاحب ((المرشد)).

ثم ظاهر كلام الشيخ وغيره يقتضي أن هذا الخلاف- وهو قولان، كما قال في ((المهذب))، ووجهان، كما قال في ((الحاوي)) وغيره- مفرع على قولنا بعدم الإرث في نظير المسألة في الإقرار بالنسب، لأنهم جزموا في مسألة النسب بعدم الإرث، وحكوا الخلاف في هذه المسألة، وقد صرح به الماوردي، والفرق بينهما من وجهين:

أحدهما- أشار إليه القاضي الحسين-: أن المقر في مسألة الزوجية، لم يقر بحق عليه في مقابلته حل له، لأن النكاح ينتهي بالموت، ولا يتصور إرثه بعد وفاة المورث، بخلاف ما إذا أقر بالنسب وأنكر البعض، فإنه أقر بحق عليه بإزاء حق له، وهو أن يكون وارثًا للمقر به، فلما لم يثبت حق نفسه وهو إرثه منه، كذا لا يثبت ما أقر به، دليله ما لو قال: بعت هذا العبد منك بألف، فأنكر الشراء، لا يلزمه تسليم العبد إليه.

والثاني- قاله الماوردي-: أن الزوجة ترث بعد ارتفاع الزوجية بالموت، فجاز أن ترث مع عدم ثبوت الزوجية، والنسيب لا يرتفع نسبه بالموت، فلم يجز أن يرث مع عدم النسب.

وقد قال ((الرافعي)): إن الحكم هاهنا كالحكم في مسألة الإقرار بالنسب من غير بناء.

ص: 461

قال: وإن أقر الورثة بدين على مورثهم، لزمهم قضاؤه من التركة، لقوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]، ولهم أن يوفوه من غير التركة كما تقدم في مواضع.

ولم تكن تركة، أو كانت ولم يضعوا أيديهم عليها، لم يلزمهم الوفاء من أموالهم.

نعم، لو تبرعوا بالأداء، وجب على رب الدين القبول، حيث يجب عليه لو كان الباذل له المديون، ولا فرق بين أن يكون للميت تركة أولا.

وقال الإمام في كتاب القسامة: وظني أني رأيت لبعض الأصحاب إلحاق الوارث بالأجنبي في حالة عدم التركة، وقد حكيت ذلك مرة أخرى من قبل.

وكما يجب قضاء الدين المعترف به من التركة، يجب تنفيذ الوصايا المعترف بها من ثلثها، عملًا بالآية المذكورة.

فلو أقر الورثة بدين ووصية، فهل يزدحمان عند الضيق، وتكاذب المقر له بالدين والوصية، أو يقدم الدين؟

قال الأصحاب: إن تقدم الإقرار بالوصية ثم تعقبه الإقرار بالدين، ولم تتسع التركة لهما، كما إذا كانت ألفًا، والموصى به الثلث، والدين ألف، ففيما يفعل وجهان:

أحدهما: تقدم الوصية، لتقدمها، والباقي لرب الدين، وقد ادعى الإمام قبل باب القافة [بورقتين]: أنه لا خلاف فيه.

والثاني: يصرف الجميع لرب الدين، كما لو ثبتا بالبينة، [وهذا ما] حكاه الغزالي عن الأكثرين، ولم يورد الماوردي والفوراني وغيره.

ومنهم من ينسبه إلى تخريج الصيدلاني، وهو مخرج على أن إقرار الوارث والموروث يتساويان، كما قدمنا أنه الصحيح.

ولو انعكس الحال، وأقر بالدين [أولًا، ثم بالوصية، فقضية الوجهين صرف الألف لرب الدين]، وهو الذي حكاه الماوردي، والفوراني، وكذا الإمام في الموضع المذكور.

ص: 462

ولو أقر لهما معًا، كما إذا ادعيا ذلك، فقال: صدقتما، فالحكاية عن الأكثرين: أنه يقسم الألف بينهما أرباعًا، لأنا نحتاج إلى الألف للدين، وإلى ثلث الألف للوصية، فيتزاحم على الألف ألف وثلث [ألف] فيخص الوصية ثلث عائل، وهو الربع، وهذا ما حكاه الماوردي، ونسبه الإمام في الموضع المذكور إلى ابن الحداد، ومعظم الأئمة، [ثم] قال: وهو المذهب، وقال الطبري في العدة: إنه مذهب القفال.

لكن الصحيح عندي: أن المال كله لصاحب الدين، وهذا ما حكي عن الصيدلاني، قياسًا على ما لو ثبتا بالبينة.

قال ((الرافعي)): وهذا هو الحق، سواء قدمنا عند ترتيب الإقرارين الأول منهما، أو سوينا بينهما.

وقال الإمام ثم: إنه غريب، وإنا إذا قلنا بمقابله، فهل للمقر له بالدين أن يرجع على الوارث بغرم ما أخذه الموصي له، لأنه يقول له: لو كنت قدمت الإقرار لي بالدين، لم يفت علي فأنت المضيع له بإقرارك؟

قال الشيخ أبو علي: إنه على القولين أقر الإقرار إذا تضمن إيقاع حيلولة بين إنسان وبين حقه، ولا خلاف أنهما لا يجريان بالنسبة إلى صاحب الوصية [وإن أخر الإقرار بها عن الدين]، لأن وضع الوصية التأخير عن الدين، فالإقرار بها وضعه التأخير [عنه] أيضًا، فلم يضعه المقر في غير موضعه.

قال: وإن أقر بعضهم [بالدين]، وأنكر البعض، ففيه قولان:

أحدهما: يلزم المقر جميعه في حصته، لقوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فوجب ألا يرث إلا بعد قضاء الدين، لأن صاحب الدين مقدم، وليس بمشارك.

ولأن ما أخذه المنكر من التركة كالمغضوب في حق رب الدين، وغصب بعض التركة يوجب قضاء الدين من باقيها، فلزم أخذ جميعه منه، وهذا ما خرجه

ص: 463

أبو عبيد بن حربويه، وأبو جعفر الإستراباذي من مقتضى نص الشافعي في القسامة على أنه إذا حلف أحد الابنين في القسامة، واستحق بأيمانه نصف الدية، وكان على المقتول دين، قضى جميعه من حصه الابن الحالف، فكذلك في هذه المسألة، وقد وافقهما على هذا التخريج بعض الأصحاب، وهو ابن سريج، كما قاله في ((البحر)).

قاله الماوردي قبيل باب الشاهدة على الشهادة: وعلى هذا لا يغرم المقر كل الدين حتى يحلف المنكر، فإذا حلف، غرم، وصار المقر خصمًا له ويحلفه- أيضًا- إن استدام على الإنكار، ولا يسقط عنه اليمين في حق المقر باليمين الأولى.

والثاني: يلزمه بقسطه، لأنه لو لزمه جميع الدين ما قبلت شهادته إذا كان عدلًا مع غيره، أو مع اليمين، لأنه يصير بالشهادة حينئذ دافعًا عن نفسه، وقد وافق الخصم- وهو أبو حنيفة- الشافعي، وجمهور الفقهاء على قبول شهادته بالدين على الميت، فدل على أنه لم يكن يلزمه بالإقرار إلا حصته.

ولأن إقراره كالشهادة، والدين كالعين، فلما استوى حال الشهادة في الدين والعين في إلزامه منه بقدر حصته، [وجب أن يستوي حال إقراره بالدين والعين في إلزامه منه بقدر حصته]، وهذا هو الأصح.

والمذكور في ((المختصر)) في كتاب الشهادات: الثاني، وفي جميع كتب الشافعي، كما قاله الماوردي، وعليه أكثر الأصحاب، وفرقوا بين ما نحن فيه وبين مسألة القسامة بأنه لم يحصل في مسألة القسامة من التركة إلا ما حلف عليه، وهو نصف الدية، فلذلك قضى جميع الدين منه، كما لو غضب بعض التركة، يقضي الدين من الباقي، وهاهنا التركة موجودة في يد الوارثين، فتعلق الدين بجميعها، ولزم المقر في حصته نصف ذلك.

وأيضًا: فإن الشافعي فرض مسألة القسامة في حالة اعتراف الابن بالدين، فإنه قال:((فإن أقسم الولي الآخر، قضى بالنصف الآخر، ثم رجع الأول عليه))، يعني: بنصف الدين، وهاهنا أحد الابنين جاحد للدين، فلو كان أحد الابنين ثم جاحد، لم يقض من الدين إلا بقدر حصة المقر.

ص: 464

وفي ((البحر)): أن صاحب ((الحاوي)) قال: الأصح عندي من إطلاق القولين: أنه ينظر في التركة.

فإن لم تقسم حتى أقر أحدهما بالدين، قضى جميعها منها، وكان محسوبًا من حق المقر دون المنكر.

وإن اقتسم الابنان التركة، ثم أقر أحدهما بالدين، لم يلزمه منه إلا نصفه، لأن المقر معترف باستحقاق جميع الدين في جميع التركة، [فصار] قبل القسمة مقرًا بجميعه، وبعد أخذ النصف بالقسمة مقرًا بنصفه. انتهى.

قلت: وعلى هذا التفصيل يظهر أن يقال: في المسالة ما ذكرناه عن صاحب التقريب وابن اللبان في مسألة إقرار بعض الورثة بالنسب دون بعض، لأن من وضع يده على تركة وضعا مضمنًا، كان لمن له على الميت دين مطالبته، كالورثة [بشرطه].

ثم ما ذكرناه عن الشافعي من أن شهادة بعض الورثة بالدين على الميت مسموعة وهو ما نص عليه في ((المختصر)) في كتاب الشهادات: الثاني: ولم يحك العراقيون والماوردي غيره، مع حكايتهم القولين في لزوم وفاء جميع الدين من حصته، أو بالقسط، وحكى القاضي الحسين وغيره في الموضع المذكور في قبول الشهادة قولين، سواء أقر أولًا ثم شهد، أو شهد أولًا ثم أقر، وقال: إنهما مبنيان على القولين في مسألة الإقرار: إن قلنا: يلزمه الجميع في حصته، لم تقبل، وإلا قبلت، وهذا ما نسبه الإمام إلى المحققين من أصحابنا، وقال في ((البحر)): إن القفال توسط، فقال: إنه ينظر: إن شهد قبل أن يقر قبلت. وإن شهد بعدما أقر، فإن قلنا: بالإقرار يلزمه جميع الدين عند تمام الشهادة- لم تقبل شهادته، وإلا قبلت.

وعلى هذا لو أخر في شهادته لفظة ((أشهد)) عن الاعتراف بالدين، أي: بأن قال: لفلان على أبي كذا، أشهد به، قال في ((البحر)) في الفروع المذكورة قبل كتاب الشهادات: فهو كما لو قدم لفظة ((الشهادة)).

ويحتمل وجهًا آخر: أنه لا يقبل إذا أخر لفظة الشهادة، ولكنه بعيد ضعيف.

ص: 465

وقد فرع ابن الصباغ وغيره في باب الأقضية باليمين مع الشاهدين على القولين في الكتاب- ما إذا كان على الميت دين، [وله] به شاهد أقامه الورثة، وحلف معه أحدهم، ونكل الباقي، فهل يقضي جميع الدين مما حلف عليه أم لا؟

قالوا: إن قلنا: إن الوارث إذا امتنع من الحلف، يحلف الغريم- كما هو أحد القولين المذكورين في باب التفليس- فلا يقضي منه إلا بقدر حصته.

وإن قلنا: الغريم لا يحلف انبنى على أن الناكلين هل يشاركون الحالف فيما حلف عليه، أم لا؟ [وفيه خلاف] سبقت حكايته في هذا الباب، فإن قلنا: يشاركونه، قضى الجميع منه، وإلا جاء القولان المذكوران في الكتاب.

فرع: لو أقر أحد الابنين بوصية أبيه لشخص، وأنكر الآخر، قال الماوردي: فإن كانت الوصية بالثلث، فلا يلزم المقر منها المقر منها إلا بحصته، بوفاق أبي حنيفة، وجميع أصحابنا، بخلاف الدين.

والفرق: أن جميع الدين يستحق فيما وجد من قليل التركة وكثيرها، والوصية بثلث التركة، لا تستحق إلا من جميعها، ولو كانت الوصية معينة: كالوصية بدار، فإن كانت باقية في التركة، فلا يلزم المقر إلا نصفها، وإن كانت قد حصلت في سهم المقر بعد القسمة، لزمه جميعها، لأنه يعترف [بها] للموصى له.

قال القاضي الحسين: ولا يرجع [على أخيه] بشيء، لأن الاستحقاق ثبت بقوله، فلا يقبل على غيره.

وقال الماودري: إنه يصير خصمًا لأخيه في نصفها، وهذا لا منافاة بينه وبين القاضي، خصوصًا إذا أعدنا الضمير في قوله:((في نصفها)) إلى التركة، لا إلى العين، لأن مقتضى قول المقر عدم صحة القسمة، كما تقدم ذكر ذلك في بابها.

وإن كانت قد حصلت في سهم المنكر، فلا شيء على المقر بها، لأنه لا يملكها، ولا مطالبة عليه بقيمتها، فإذا حلف المنكر، بريء من المطالبة، وحصلت له الدار، وبطلت الوصية فيها، كذا قاله الماوردي.

ص: 466

وقال القاضي الحسين: إنه يغرم نصف قيمتها للموصى له.

ولو شهد المقر على أخيه [بها مع آخر، استرجعت منه، وكذا لو حلف معه، ولا يرجع المنكر على أخيه] بشيء، لأنه بالإنكار جاحد للاستحقاق.

وقال القاضي الحسين: إنه يرجع عليه بنصف قيمة العين.

قلت: وفي سماع شهادته وتغريمه نصف القيمة إذا صدرت القسمة بالتراضي نظر، من حيث إن الشهادة تتضمن بطلان القسمة، فهي مناقضة لما صدر منه من القسمة، ونحن لا نسمع الدعوى بمثل هذه التضاد، لأجل التحليف، فكيف نسمع الشهادة؟! فإن حمل ذلك على ما إذا وقعت القسمة بالإجبار، كان النظر في إيجاب نصف الغرم، لأن مقتضى [الشهادة] بطلان القسمة، وإذا بطلت فلا غرم، لأنا نخرج تلك العين من التركة، ونقسم الباقي، والله أعلم.

ولو كانت الوصية بألف درهم مثلًا- قال القاضي الحسين: ففيها القولان:

أحدهما: أن جميع الألف يوفى من ثلث نصيب المقر.

والثاني: لا يوفى منه إلا نصف الألف، سواء كان قبل القسمة، أو بعدها.

وحكى الإمام عن صاحب التقريب طريقة أخرى قاطعة بالقول الثاني، وقال: ليست بشيء، بل لا فرق بين الوصية والدين.

قال: وإن كان لرجل أمة، فأقر بولد منها، أي: حيث يلحقه نسبه، ولم يبين بأي سبب وطئها- صارت الأمة أم ولد له، لأن الولد محكوم بحريته بلا خلاف عندنا، والظاهر من حال المملوكة: أن السيد أحبلها به في ملكه، فحمل الإقرار عليه، وهذا ما دل عليه ظاهر النص، كما قال القاضي الحسين، والإمام، وقال: إنه بعيد عن القياس- أي: في الإقرار- لأن المتبع فيه اليقين، وهو الذي رجحه الشيخ أبو حامد وجماعة، كما قال ((الرافعي))، وتبعهم البغوي، وصاحب ((المرشد)).

وعلى هذا لا ولاء على الولد.

قال في ((التهذيب)): ولا يجوز للمقر ببيعها.

وقيل: لا تصير، لأن الأصل الرق، ويحتمل أن يكون الاستيلاد في نكاح متقدم على الملك، فلا نوقع العتق مع الشك، وهذا قول أبي إسحاق، وأبي علي الطبري، وأكثر الأصحاب، كما قاله القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ في أثناء

ص: 467

أحد الفرعين الذين سنذكرهما- إن شاء الله تعالى- ولم يورد الماوردي في موضع من الباب غيره.

وعلى هذا يكون الولاء على الولد، وللمقر بيعها، وإذا مات عتقت على ولدها إن حاز جميع التركة، وإلا عتق منها حصته، ولا يقوم عليه الباقي وإن كان موسرًا، كما تقدم.

قال الماوردي: ولها أن تدعي على الورثة: أنه أصابها في الملك، فإن صدقوها، ثبت الاستيلاد وإن كان على الميت دين يستغرق قيمتها، كما لو أقر به المورث.

وإن كذبوها، وادعوا استيلادها في غير وجه، ففيه وجهان:

أحدهما: أن القول قول الورثة مع أيمانهم على نفي العلم، استصحابا لرقها.

والثاني: أن القول قولها مع يمينها على البت، اعتبارًا [بالظاهر] من الملك، وعدم النكاح من قبل.

ولو بين فقال: وضعته في ملكي، قال القاضي الحسين: فإن قلنا في المسألة السابقة: إنها تصير أم ولد، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، وهذا ما حكاه الإمام عن الأئمة، لأن تلك يتطرق إليها احتمال العلوق، واحتمال الوضع في غير الملك، [وهذه لا يتطرق غليها إلا احتمال العلوق في غير الملك]، وهذا عندي لغو إذا كان يتطرق الاحتمال إلى اللفظ، فإنه يخرج الإقرار عن أن يكون صريحًا، فلا فرق بين أن يخرج باحتمال، أو باحتمالين.

ويجيء مما قاله القاضي في المسألة طريقان:

إحداهما: القطع بالثبوت، وهي التي أوردها ابن الصباغ.

والثانية: إثبات الخلاف فيها.

وقد حكاهما ((الرافعي))، وصحح الثانية.

ولو قال: هذا ولدي منها، علقت به في ملكي، فلا خلاف في ثبوت الاستيلاد. ولم يخرج الأصحاب في ذلك وجهًا، لاحتمال أن تكون حالة العلوق مرتهنة، كما خرجوا لأجل مثل هذا الاحتمال وجهًا فيما سنذكره، ولا ولاء على الولد في هذه الحالة بلا خلاف أيضًا.

ص: 468

وألحق الإمام بهذه الحالة ما إذا قال: هذا ولدي منها، وملكي عليها مطرد منذ [عشر سنين]، وكان الولد ابن سنة.

ولو قال: هذا ولدي منها، علقت به في نكاح، فلا تصير أم ولد جزما، وعلى الولد الولاء جزما.

قلت: وينبغي إذا قلنا: الإقرار المطلق ينزل على العلوق في الملك- أن ينظر: هل كانت زوجة [له] أم لا، كما قلنا في الطلاق: إذا قال لزوجته: أنت طالق طلقة قبلها طلقة.

لكن لك أن تقول: محل الكلام في أن الإقرار المطلق ينزل على العلوق في الملك، إذا لم يعهد أنها زوجة [له، كما أفهمه الماوردي الذي حكيناه من قبل.

أما إذا عهدت زوجة له]، فلا.

ولو قال: علقت به في وطء شبهة، فهل تصير أم ولد؟ فيه القولان فيما إذا وطىء أمة الغير بشبهة، ثم ملكها، هل تصير أم ولد له أم لا؟ كما تقدم، ولا ولاء على الولد، لأنه خلق حرًا.

ولو بين أنه وطئها زنى، قال ((الرافعي)): فإن كان منفصلًا عن اللفظ، فهو كما لو لم يبين السبب، وإن كان متصلًا باللفظ، فلا يثبت النسب، ولا أمية الولد، قاله في ((التهذيب)).

ولك أن تقول: ينبغي أن يتخرج على قولي تبعيص الإقرار.

قلت: لا وجه لذلك، لأن المسألة مصورة في ((التهذيب)) بما إذا كان التفسير منفصلًا، لأنه قال في صدر المسألة: إذا كان أمتان لكل واحدة ولد، فقال: أحد هذين الولدين ولدي، يؤمر بالتعيين، فإذا عين في أحدهما، ثبت نسبه، وهل تصير أم ولد؟ نظر:

ص: 469

إن قال: بملك اليمين، صارت أم ولد له وإن قال: استولدتها بملك النكاح، لم تر أم ولد له، وإن قال: بوطء شبهة، فهل تصير أم ولد؟ وقضيته فيه قولان، [وإن أطلق فقولان] أيضًا.

وإن قال: استولدتها بالزنى، لم يقبل هذا التفسير، وهو كالطلاق.

وإذا كان كذلك فقوله: ((هذا ولدي)) صدر منه منفصلًا في أول لفظه، وقضيته أن تكون أمه أم ولد على قوله، وقوله بعد ذلك: استولدتها بالزنى يرفع ذلك، ويرفع- أيضًا- كون الولد حرًا نسيبًا، فكان مثل قوله: له علي ألف، ثم يقول: من ثمن خمر، فيلزمه قولًا واحدًا.

نعم: لو قال ابتداء: أحدهما ولدي، استولدت أمه به بالزنى، اتجه التخريج كما قال. وقد ذكر الأسحاب في هذا الباب فرعين يتعلقان بما نحن فيه.

ص: 470

أحدهما: إذا كان لرجل أمتان، لكل واحدة ولد، ولا زوج لهما، ولا واحدة منهما فراشًا له، فقال أحدهما ولدي، علقت به أمه في ملكي- صح هذا الإقرار، وطولب بالبيان، كما لو أقر بطلاق إحدى المرأتين، فإذا عين أحدهما ثبت نسبه، وكان حرًا، لا ولاء عليه، وأمه أم ولد، وللأمة الأخرى أن تدعي أن ولدها هو الذي أقر به، وأنه استولدها، وتحلفه عليه، كذا قاله ((الرافعي)) وغيره، وفيه نظر، لأن المسألة مصورة بما إذا لم تكن فراشًا له، وقد تقدم أن السيد إذا لم يعترف بالوطء، لا تسمع عليه دعوى الاستيلاد، ومن طريق الأولى سماع دعوى الولد عند البلوغ بأنه أراده بالإقرار.

وإذا سمعت دعوى الأمة وولدها، فالقول قول المقر مع يمينه، فإن حلف، فذاك، وإلا حلف المدعي، وثبت النسب، والاستيلاد، كما قاله الإمام وغيره.

ولو مات السيد قبل البيان، قام وارثه المحقق مقامه في تعيين الولد، وكذا في كيفية الاستيلاد، حتى إذا قال: الوطء جرى في نكاح، لم تصر أم ولد.

قلت: وفيه نظر، إذا قلنا: إن الإقرار المطلق يحمل على الاستيلاد في الملك، فإن قول الوارث حينئذ يكون مبطلًا له، فينبغي ألا يقبل، بل نقول: لو كان المورث حيًا، وقد أطلق، ثم ادعى أنه أراد الاستيلاد في النكاح، فينبغي هذا ألا يقبل، لما فيه من إبطال حق ثابت، ويؤيده ما ذكرناه عن البغوي: إذا قلنا: إنها تصير أم ولد عند الإطلاق، لا يتمكن المقر من بيعها، لكن ابن الصباغ وغيره قالوا: إنا نقبل تفسير المقر بكونها علقت به في النكاح إذا طالبناه بالتعيين، بعد إطلاق القول بأن هذه ولده من هذه، وكذا البغوي قاله كما حكيناه من قبل، فلا جرم قبلوا في ذلك إقرار الوارث أيضًا.

وكان الجواب: أن محل القولين في كون المطلق يحمل على الاستيلاد في الملك أم لا إذا تعذر البيان، أما مع وجوده فلا، ويشهد لذلك ما ذكر فيما إذا قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وقال: أردت بالثالث تأكيد الثاني: أنه يقل وإن كان عند الإطلاق نوقع عليه الثلاث على الصحيح.

ومن هذا القبيل: إذا قال: هذا المال لورثة زيد، فإن مطلقه يحمل على التساوي على عدد الرءوس وإن تفاوتوا في الميراث، فلو قال المقر بعد ذلك:

ص: 471

أردت الميراث، قبل وإن نازعه أقلهم حصة، كما قاله الماوردي في هذا الباب.

وقد أشار مجلي إلى شيء يعضد ذلك، حيث قال: إذا قال لزوجته: أنت [علي] حرام، ونوعى به الطلاق- يقع، وإن جعلناه صريحًا في إيجاب الكفارة، لأن محل قولنا: إذا خلا عن النية.

رجعنا إلى المقصود: فإن قال الوارث: لا [علم لي] بالولد منهما، أو لم يكن للميت وارث، عرض الولدان على القائف، فأيهما ألحقه به، لحقه، وكانت أمه أم ولد، لأنا صورنا الفرع بما إذا قال المقر: علقت به في ملكي، واعتماد القائف في هذه الحالة على رؤية سابقة للميت، أو على رؤيته قبل الدفن، أو رؤية بعض عصبته، فيجد الشبه.

وإن لم [يكن] قائف، أو كان وتعذر عليه التمييز- أقرع بين الولدين، ولا ينتظر بلوغهما حتى ينتسبا، بخلاف ما لو تنازع اثنان في ولد، وتعذر تمييز القائف، لأن الاشتباه هاهنا في أن الولد أيهما؟ فلو اعتبرنا الانتساب، فربما انتسب كل واحد منهما إليه، فلا يرتفع الإشكال.

ثم إذا خرجت القرعة على أحدهما عتق، ولا يثبت النسب، ولا الميراث، لأنه لا [مدخل للقرعة] فيهما، ويصير هذا كما لو شهد رجل وامرأتان بالسرقة، يثبت المال دون القطع، كذا قاله الأصحاب، واعترض عليهم ابن الصباغ [فأبدى فرقًا] بين الصورتين ذكر مثله الأصحاب في الفرق بين ثبوت المال في السرقة بالشاهد والمرأتين، وعدم ثبوت الدية بشهادة الرجل والمرأتين على القتل العمد، ثم أجاب بما ليس بالقوى.

وحكى الماوردي عن ابن خيران: أنه قال: يثبت النسب بها، لأن الحرية تثبت له بالولادة، فلم يجز أن يرتفع أصله ويثبت حكمه.

ثم قال: وهذا خطأ، لأن القرعة لا تدخل، لتمييز الأنساب المبهمة، وتدخل لتمييز الحرية المستبهمة.

وعلى المشهور: هل يوقف نصيب ابن بين من خرجت القرعة له، وبين الآخر؟ فيه وجهان:

ص: 472

أحدهما: نعم، لأنا نتحقق أن فيهما ابنا وارثًا، فوقف، كما لو طلق إحدى امرأتيه على التعيين، ومات قبل التعيين، وتعذر البيان، وهذا ما نسب الإمام إلى الأكثرين.

وأصحهما في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب، و ((المرشد)): لا، لأنه إشكال وقع اليأس عن زواله، فأشبه ما إذا مات شخص، وهو مجهول العصبة، لا يوقف ميراثه وإن علمنا: أن في العرف له عصبة، وكان الجهل بأقرب عصبته مسقطًا لحكم عصبته، كذا قاله الماوردي، وهل تكون أمه أم ولد، والصورة كا ذكرنا في صدر الفرع؟ فيه وجهان في ((النهاية))، وقال: إن المذهب عدم الحصول، لأنها تبع النسب، فإذا لم نجعله ولدًا، لا نجعلها أم ولد.

قال ((الرافعي)): والذي أورده الأكثرون: مقابله، لأن المقصود العتق، والقرعة عاملة فيه، وكما تفيد حريته تفيد حريتها.

ولو كان السيد قد قال: أحد هذين ولدي، علقت به أمه في نكاح- لم تصر من حكمنا بكونها أم ولد في حالة من الأحوال في الصورة السابقة في هذه الصورة أم ولد.

وكذا [لو] قال: علقت به من وطء شبهة في أحد القولين.

ولو أطلق القول بالاستيلاد، جاء فيها القولان المذكوران في الكتاب، صرح به البغوي.

أما لو كانت الأمتان مزوجتين، لم يقبل قول السيد، وولد كل أمة ملحق بزوجها.

ولو كانتا فراشًا للسيد، لحقه الولدان بحكم الفراش.

ولو كانت إحداهما مزوجة، والأخرى خلية- لم يتعين إقراره في الأخرى، بل يطالب بالتعيين، فإن عين في ولد المزوجة، لم يقبل، وإن عين في ولد الأخرى قبل، وثبت نسبه.

وإن كانت إحداهما فراشًا له، لم يتعين إقراره في ولدها، بل يؤمر بالتعيين، فإن عينه في ولد الأخرى، لحقه بالإقرار، والولد الآخر يلحق به بالفراش.

الفرع الثاني: إذا قال من له أمة لها ثلاثة أولاد: أحد هؤلاء ولدي منها، ولم تكن مزوجة، ولا فراشًا للسيد قبل ولادتهم- طولب بالتعيين، فمن عينه منهم

ص: 473

ثبت نسبه، وورث، والقول في الاستيلاد على التفصيل والخلاف الذي مر.

ثم إن كان المعين الأصغر، [رق الأوسط والأكبر، وإن كان المعين الأوسط، فالأكبر رقيق، وأمر الأصغر] مبني على استيلاد الأم، فإن لم نجعلها أم ولد، فهو رقيق- أيضًا- وإن جعلناها أم ولد، قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما: ففيه وجهان:

أحدهما: أن حكمه حكم الأم في صفة الاستيلاد، يعتق بموت السيد، لأنه ولد أم ولد، وهو المختار في ((المرشد))، وقال في ((التهذيب)): إنه المنصوص.

والثاني: لا، لأن ولد أم الولد قد لا يكون كأمه، بل رقيقًا، كما لو أحبل الجارية المرهونة، وقلنا: لا تصير أم ولد، وبيعت في الحق، وولدت [أولادًا، ثم ملكها] أولادها، فإنا نحكم بأنها أم ولد على الصحيح، وبأن الأولاد أرقاء لا يأخذون حكمها على الصحيح أيضًا.

وفيهم وجه حكاه الإمام: أنهم يأخذون حكمها.

وأيضًا: فإنه إذا أحبل جارية الغير بالشبهة، ثم أتت بأولاد من نكاح، أو زنى، ثم ملكها وأولادها- تكون أم ولد على قول، وأولادها أرقا لا يأخذون حكمها.

وإذا أمكن ذلك، لم يحكم باتباعهم لها في الصفة، كما لو صرح به، لأن الاحتمال فيما مبناه على اليقين كالمحقق، ومفهوم كل واحد من هذين الوجهين أنه لا يثبت نسبه.

وفي ((الحاوي)): أنا هل نحكم بثبوته؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم، لأن الظاهر استمرار الفراش.

والثاني: لا، لاحتمال انقطاعه ببيعها، كما تقدم.

وعلى هذا هل يكون حكمه حكم الأم؟ فيه الوجهان.

والذي ذكره ((الرافعي)) أنه ينظر:

فإن لم يدع الاستيلاد بعد ولادة الأوسط، فقد صارت فراشًا له بالأوسط، فيلحقه الصغر، وهكذا قاله القاضي الحسين والإمام.

ص: 474

وفي ((التهذيب)) وجه: أنه لا يثبت نسبه، ويكون حكمه حكم الأم، لأن الاستبراء حصل بالأوسط.

قال ((الرافعي)): ولم أر لغيره ذكره.

قلت: وهو عين ما ذكره الماوردي كما حكيناه إذا تأملته، ومقتضى إطلاق القاضي أبي الطيب وابن الصباغ.

وإن ادعى الاستبراء، قال القاضي [الحسين]: فهل يحكم بكونها أم ولد [أم لا]؟ فيه الوجهان.

و ((الرافعي)) قال: إن ذلك ينبني على أن نسب ملك اليمين، هل ينتفي بدعوى الاستبراء؟ وفيه خلاف مذكور في اللعان:

إن قلنا: لا ينتفي، فهو كما لو لم يدع الاستبراء.

وإن قلنا: ينتفي فلا يلحقه الأصغر، وفي حكمه الوجهان عند الإطلاق: وأظهرهما: أن حكمه حكم الأم، لما تقدم.

وما ذكره ((الرافعي)) من أن نسب ملك اليمين، هل ينتفي بدعوى الاستبراء؟ [فيه خلاف، قد يفهم أن من وطيء أمة، وأتت بولد يمكن أن يكون له- يكون في نفيه بدعوى الاستبراء] والحلف عليه خلاف، وهذا مما لا خلاف فيه، بل الخلاف الذي أشار إليه [فيما إذا] استبرأ أم ولده، ثم أتت بولد بعد ذلك في زمن يحتمل أن يكون حادثًا بعد الاستبراء، هل يلحقه، لزعمنا: أن الفراش لا يقطعه الاستبراء، أو لا يلحقه، لقولنا: إن الاستبراء يقطعه، لأن هذا هو المذكور ثم، وقد أشار إليه الإمام هاهنا.

ولو كان المعين الأكبر، فلا يخفى حكمه، والقول في حكم الأوسط والأصغر على ما ذكرناه في الأصغر إذا عين الأوسط.

ولو مات السيد قبل التعيين عين وارثه، فإن عين الولد، سئل عن كيفية الاستيلاد، كما قاله أبو الطيب، فإن بينه عمل ببيانه، وإلا كان فيه الوجهان فيما إذا أطلقه الميت.

ص: 475

وإن لم يعين، وقال: لا أعلم، أو: لم يكن له وارث محقق- عرضوا على القائف، ليعين، والحكم عند تعيينهم كما لو عين السيد، والأم هل يحكم بكونها أم ولد؟ فيه قولا الإطلاق، أو وجهاه، لأنه لا مدخل للقافة في أمية الولد، قاله القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما.

ولو عين القائف نسب اثنين منهم، انتفى نسب الثالث، ولم يثبت نسب الاثنين، بل انحصر الابن في واحد منهما، قاله الماوردي.

ولو تعذر التعيين من جهة القائف، قال الماوردي: فإن كان السيد قد قال: إن الاستيلاد حصل في غير الملك، أقرع [بينهم]، ولا نسب لمن خرجت له القرعة، وهو مما لم يختلف فيه المزني وسائر أصحابنا.

وإن كان قد قال: إن العلوق حصل في الملك- أي: أو أطلقه، وقلنا: المطلق يحمل على ذلك- فهل يحكم بنسب الصغير؟ فيه وجهان ينبنيان على أن المقر لو عين الأوسط هل يحكم بنسب الصغير؟ فيه الوجهان:

فإن قلنا: يكون نسيبًاً، فكذلك هاهنا، لأنه لا يخلو من أن يعينه أو أن يعين غيره: فإن عينه، كان نسيبًا [وحده]، وإن لم يعينه كان نسيبًا مع المعين، وعلى هذا يثبت الإرث. قال ابن سريج: وهذا قول المزني.

وإن قلنا: لا يكون نسيبًا فيما إذا عين المقر الأوسط، فكذلك هاهنا، لكن هل يحكم بتبعيته لأمه؟ فيه الوجهان:

فإن قلنا بالتبعية، عتق، وتسقط القرعة بين الآخرين، ويرقان.

وإن قلنا: لا تثبت له صفة الأم، لم يعتق، فعلى هذا يقرع بين الثلاثة، فإذا خرجت على أحدهم عتق، ولا يرث، ورق من سواه، والأم حرة في الأحوال كلها، لأنها أم ولد.

والذي أورده ((الرافعي)) وغيره فيما إذا فات التعيين من جهة القائف: أن النص: أنه يقرع بينهم، لمعرفة الحرية، وهو المختار في ((المرشد)).

وثبوت الاستيلاد على التفصيل الذي سبق.

واعترض المزني في ((المختصر)) بأن الأصغر حر بكل حال، [لأنه إما أن يكون المستلحق، أو ولد أم الولد، وولد أم الولد يعتق بموت السيد، وإذا كان

ص: 476

حرًّا بكل حال]، وجب ألا يدخل في القرعة، لأنها ربما خرجت على غيره، فيلزم إرقاقه.

وقد حكى الإمام عن بعض الأصحاب: أنه صار إليه، وضعفه بما سنذكره، واختلف الأصحاب في الجواب عنه:

فسلم بعضهم حريته، وقال: إنه لا يدخل في القرعة ليرق إن خرجت لغيره، بل ليرق غيره إن خرجت عليه، ويقتصر العتق عليه، وعلى هذه الطريقة الفوراني، وينطبق عليها قول الإمام في تضعيف قول المزني: إنا إنما نقرع بين عبدين نتحقق أن [فيهما حرًا، ومن] الجائز أن يكون المتسلحق الصغير، ويكون الأكبران رقيقين، فكيف نقرع بينهما؟!

ومنع آخرون من حريته، بناء على أنها وإن كانت أم ولد، فولد أم الولد يجوز أن يكون رقيقًا كما تقدم، وهذا ما أورده ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب.

وذكر الفوراني طريقة أخرى: أنه حر بكل حال، والأظهر الأول.

ثم إذا أقرعنا بينهم، فمن خرجت عليه فهو حر، والمشهور: أن النسب والميراث لا يثبتان.

وعن المزني في ((المختصر)): أن الأصغر نسيب بكل حال، لأنه دائر بين أن يكون هو المراد بالاستلحاق وبين أن يكون ولد أمته التي صارت فراشًا له بولادة من قبله.

قال ((الرافعي)): وجرى الأصحاب على دأبهم في الطعن على اعتراضاته مبادرين، لكن الحق المطابق لما تقدم: أن يفرق بين ما إذا كان السيد قد ادعى الاستبراء قبل ولادة الأصغر، أو لا؟ ويساعد في الحالة الثانية.

وإذا ثبت النسب ثبتت الحرية لا محالة، وحيث لا يحكم بثبوت النسب، فهل يوقف الميراث؟ فيه الوجهان السابقان في الفرع قبله، واختيار المزني وبعض الأصحاب- كما قال الماوردي-: الوقف، وقال الإمام: إنه الأقيس.

وتأول المزني قول الشافعي: ((ولا ميراث)[يعني] لمن عتق بالقرعة، لا أنه

ص: 477

أراد ترك الوقف.

والأصح عند الأكثرين- كما قال ((الرافعي)) -: مقابله، وفرقوا بين ما نحن فيه وبين مسالة الطلاق بفرقين:

أحدهما: أن الزوجية ثبتت وتيقنت، ثم وقع الإشكال، فلهذا لم يسقط الإرث فيها، وفي مسألتنا الإشكال وقع في ابتداء النسب.

والثاني: أنا إذا أوقفنا [ميراث زوجة، جاز أن يصطلح الزوجتان على زوجية إحداهما، وإذا أوقفنا] الميراث للأولاد، لم يكن لهم أن يصطلحوا على أن أحدهم الوارث، ويخرج الباقيان أنفسهما من النسب، لأن أحدًا لا يملك إخراج نفسه من النسب.

ثم إذا رأينا بالوقف، فقد اختلف الرواة عن المزني في كيفيته:

فجماعة رووا عنه: أنه إذا كان له ابن معروف النسب، يدفع إليه ربع الميراث، ويدفع ربعه للأصغر، ويوقف النصف، وهذا موافق لأصله في أن الصغير نسيب بكل حال.

قال أبو إسحاق: وهو خلاف قول الميت، لأنه لم يقر إلا بابن واحد من الثلاثة.

وجماعة رووا عنه أنه يدفع نصف الميراث إلى معروف النسب، ويوقف النصف للمجهول، هذا ما أورده الماوردي، تفريعًا على وجه الوقف، والله أعلم.

[وقد نجز شرح مسائل الباب بعون الله وحسن توفيقه في يوم الاثنين، سادس شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، والحمد لله على كل حال، وصلوات الله وسلامه على محمد خاتم أنبيائه، وآله وصحبه أجمعين، وكتبه عبد الرحمن بن وسام].

ص: 478