الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب تحمل الشهادة وأدائها، والشهادة على الشهادة
ولا يصح التحمل إلا بما يقع به العلم، لقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] فشرط في الشهادة أن تكون بحق معلوم، فدل على أنها لا تجوز بحق غير معلوم، ولا أن تكون بمعلوم ليس بحق، وقوله تعالى:{وَلَا تَقْفُ} [الإسراء:36] أي: لا تتبع، من قولهم: قفا فلان أثر فلان، إذا تبعه، ويقال: هو مقتف أثر فلان، وقاف أثره، {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، ومعنى ذلك: لا تقل في شيء بما لا تعلمه، فإن جوارحك شواهد عليك، كذا قاله أبو الطيب.
وفي ((البحر)): أن قتادة قال في تفسير هذه الآية: لا تقل: سمعت ولم تسمع، ورأيت ولم تر، وعلمت ولم تعلم. وهو قريب مما في ((الحاوي))، فإنه قال: الآية دليل على أنه يشهد بما علمه بسمعه، وبصره، وفؤاده، فالسمع للأصوات، والبصر للمرئيات، والفؤاد للمعلومات، فجمع في العلم بين جميع أسبابه، ليخرج من غلبة الظن إلى حقيقة العلم، وقد روي [عن] عطاء وطاوس عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة، فقال:((هل ترى الشمس [طالعة]؟ قال: نعم، قال: [على] مثلها فشاهد، أو فدع)).
ولأن الشهادة مشتقة من المشاهدة التي هي أقوى الحواس دركًا، وأثبتها علمًا، لم يجز أن يشهد إلا بأقوى أسباب العلم في التحمل والأداء، وهذا هو الأصل في الشهادة، وقد يلحق الظن بالعلم في بعض الصور، للحاجة كما ستعرفه.
قال-[رحمه الله ولا يصح التحمل إلا بما يقع به العلم] فإن كان فعلًا:
كالزنى والغصب، لم يصح التحمل فيه إلا بالمشاهدة، أي: ولا يصح بالاستفاضة، لأن بالمشاهدة يصل إلى العلم به من أقصى جهاته، وما أمكن الوصول إلى علمه بالأقوى، لم يجز أن يشهد به إذا وصل إليه بالأضعف، لما ذكرناه من الأدلة السالفة.
ومن هذا القسم: الرضاع، والولادة، والاصطياد، والإحياء، وكون المال في يد الشخص، والقتل، والقطع، وشرب الخمر، والسرقة، واللواط، ونحو ذلك.
ويسمع في هذه الأشياء شهادة الأصم.
قال: وإن أراد أن يتعمد النظر إلى ما تحت الثياب، لتحمل الشهادة، جاز على ظاهر النص، لأن سعد بن عبادة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلًا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: ((نعم))، فدل على أن للشهود أن يتعمدوا النظر إلى موضع الزنى.
قال الأصحاب: ولأن الذين شهدوا بزنى المغيرة بن شعبة تعمدوا النظر إلى فرج المغيرة والمرأة، ولم ينكر [ذلك عليهم] أحد، وهذا ما اختاره صاحب ((التلخيص))، وأبو إسحاق، وابن أبي هريرة، وهو مأخوذ من قول الشافعي:((وتقبل شهادة النساء فيما لا يجوز للرجل غير ذي المحارم أن يتعمدوا النظر إليه لغير شهادة))، فإن هذا يقتضي أنه يجوز تعمد النظر إليه للشهادة.
وقيل: لا يجوز، لأن الزنى مندوب إلى ستره، والعيوب التي تحت الثياب تقبل فيها شهادة النساء منفردات، فلا حاجة إلى تعمد النظر إلى العورات، هذا قول أبي سعيد الإصطخري، واختاره في ((المرشد))، وقال: إن الذين شهدوا على المغيرة وقع بصرهم عليه اتفاقًا.
وقيل: لا يجز في غير الزنى- أي: كالرضاع، والعيوب، ويجوز في الزنى، والفرق: أن الزانيين هتكا حرمة أنفسهما، وليس كذلك المرضعة وذات العيب.
ولأن شهادة النسوة تقبل فيما عدا الزنى، فلا حاجة بنا إلى تعمد الرجال العورات لأجله، ولا كذلك الزنى، فإن شهادة النسوة لا تقبل فيه، فلو لم نجز
للرجال أن يتعمدوا النظر لإقامة الشهادة عليه، لأدى إلى بطلان حد الزنى، فإن وقوع البصر على ذلك اتفاقًا نادر.
وقيل: يجوز في غير الزنى، ولا يجوز في الزنى، لأن الزنى مندوب إلى ستره، وهو حق لله تعالى، وهو مبنية على المساهلة والدرء والإسقاط ما أمكن، وغير الزنى بخلاف ذلك.
والصحيح في ((البحر)) و ((الرافعي)) وغيرهما: الأول.
قال ابن القاص: وكان ابن سلمة يقول بالوجه الثالث، لأجل ما ذكر من الفرق حتى وجد في ((أحكام القرآن)): أن شهادة الرجال في الرضاع والولادة جائزة رأوه مفاجأة أو تعمدوا قاصدين به أداء الشهادة. فرجع عنه.
وأيد ذلك صاحب ((التلخيص)) بأنه لو وقعت في يد امرأة أكلة، جاز للرجل أن يداويها، وينظر إليها وإن كان يتهيأ طلب امرأة تداويها، فكذلك ما نحن فيه.
قال في ((الحاوي)) في باب ما يجب على المرء من القيام بالشهادة: ويستحب توقف الشهادة على تحمل الشهادة بالزنى، والشرب، ونحو ذلك. ولا خلاف في أنه يجوز أن يتعمد النظر إلى الوجه عند تحمل الشهادة لها، أو عليها، وكذا عند الأداء إذا كان لا يعرفها، ليضبط حلاها وإن كانت في غاية الجمال، إلا أن يخاف الفتنة، فلا ينظر، ويكف عن الشهادة إلا أن تكون متعينة عليه، فإنه ينظر بعد ضبط نفسه، كما قاله الماوردي، والرافعي.
نعم، لو تعمد النظر للوجه من غير حاجة بشهوة، فسق به، ولو كان بدون شهوة، ففي جوازه خلاف مذكور في ((الوسيط)) وغيره في كتاب النكاح.
وقال الماوردي هنا: إنه مبني على خلاف ذكره العلماء في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((لا تتبع النظرة النظرة، فإن الأولى لك، والثانية عليك
…
)).
فمنهم من قال: يريد لا تتبع نظر عينك نظر قلبك، فعلى هذا لا يأثم بالنظر بغير شهوة، ويكون على عدالته، وقد حكى الإمام هذا عن الجمهور.
ومنهم من قال: لا تتبع النظر الأولى التي وقعت سهوًا بالنظرة الثانية التي أوقعتها عمدًا، فعلى هذا يكون بمعاودة النظر آثمًا يخرج به عن العدالة، فلا تقبل شهادته إلا بعد التوبة، وهذا ما ذهب إليه طوائف من الأصحاب.
وقال الإمام في أول كتاب النكاح: إن إليه ميل العراقيين.
ثم إذا جاز أن ينظر إلى وجهها، ليعرفها في الشهادة لها عليها، قال في ((البحر)): قال جمهور الفقهاء: يجوز أن ينظر إلى جميع وجهها، لأن جميعه ليس بعورة، وعلى هذا هل يجوز النظر إلى كفيها؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم، لأنه ليس بعورة.
والثاني- وهو قول الأكثرين-: لا يجوز، لاختصاص المعرفة بالوجه.
وقال في ((الحاوي)) بعد حكاية أقوال العلماء فيما يباح النظر إليه من الوجه عند التحمل أوردها الروياني [أيضًا]: والصحيح أنه ينظر إلى ما [يعرفها به]، فإن كان لا يعرفها إلا بالنظر إلى جميع وجهها، جاز له النظر إلى جميعه، وإن كان يعرفها بالنظر إلى بعض وجهها، لم يكن له أن يتجاوزه إلى غيره.
وفي ((الرافعي)): إن الصميري ذكر أنه لو نظر إلى أكثر وجهها وسمع كلامها، جاز، ولعله محمول على إحدى هاتين الحالتين.
قال الماوردي: ولا يزيد على النظرة الواحدة إلا ألا يتحقق إثباتها إلا بنظرة ثانية، فيجوز [منه]، وسنذكر من بعد شيئًا يتعلق بذلك.
قال: وإن كان عقدًا- أي: [من] بيع ونحوه، وطلاق ونحوه، أو إقرارًا- فلابد من مشاهدة العاقد، والمقر، وسماع كلامهما- أي: ولا يكتفي في ذلك بالتسامع- لأن ما أمكن إدراكه بعلم الحواس، لم يجز أن يعمل فيه بالاستدلال المفضي إلى غالب الظن.
تنبيه: المفهوم من قول الشيخ أن العاقد والمقر لو كان امرأة فلابد من مشاهدته، والمشاهدة إنما تحصل بسفر النقاب، وكشف الوجه.
وعبارة الإمام في ذلك: أنه لا يحل تحمل الشهادة على منقبة.
وقريب منها قول الغزالي: لا يجوز تحمل الشهادة على امرأة منقبة.
قال الرافعي: إن لك أن تقول: ما ينبغي أن يتوقف جواز التحمل على كشف الوجه، لأن حضور امرأة، أو شخص تحت النقاب، وإقرار ذلك الحاضر متيقن، فإذا رفعت المرأة إلى القاضي، والمتحمل يلازمها يتمكن من الشهادة على عينها بأنها أقرت بكذا، وهو نظير صورة الضبط في شهادة الأعمى.
وقد يحضر قوم يكتفي بإخبارهم في التسامع، قبل أن تغيب المرأة- إذا لم يعتبر في التسامع طول المدة، كما سيأتي- فيخبرون عن اسمها، ونسبها، فيتمكن من الشهادة على اسمها ونسبها، بل ينبغي أن يقال: لو شهد اثنان تحملا الشهادة على امرأة لا يعرفانها أن امرأة حضرت يوم كذا بمجلس كذا، فأقرت لفلان بكذا، وشهد عدلان أن المرأة المحضرة يومئذ في ذلك المكان هذه- كان يثبت الحق بالبينتين، [أليس] لو قامت بينة على أن فلان بن فلان الفلاني أقر بكذا، وقامت بينة أخرى على أن هذا الحاضر هو فلان بن فلان- ثبت الحق، فما الفرق بين تعريف المشهود عليه المطلق باسم ونسب، وبين تعريفه بزمان ومكان، وإذا اشتمل التحمل على هذه الفوائد، وجب أن يجوز مطلقًا، ثم إن لم يعرض ما يفيد جواز الشهادة على العين، أو على الاسم والنسب، ولم ينضم إليه ما يتم به الإثبات، فذاك شيء آخر.
قلت: وما ذكره فقه ظاهر لا ينكره ذو فطنة، لكن مراده الأصحاب بأنه لا يجوز التحمل على المرأة المنقبة، ليؤدي ما تحمله، اعتمادًا على معرفة صوتها، كما أشار إليه الروياني في بعض كلامه هنا، ولا يقدح في ذلك ما قاله المتولي في كتاب النكاح: أنه لو قال: زوجتك هذه، وهي منقبة، لا يصح، لأنها مجهولة، كما لا يتحمل الشهادة عليها إلا بعد مشاهدتها، لأن حالة التحمل في النكاح ملحقة بحالة الأداء في غيره، لوجوب ذلك.
ولكن لقائل [أن] يقول: قد حكى الماوردي أن الناس اختلفوا في جواز تحمل الشهادة عمن لا يعرفه، ولمن لا يعرفه.
فمنع منه قوم، لأن المقصود بالشهادة أداؤها، ومع الجهالة لا يصح، فصار الشاهد غارًا.
وقال قوم: يكفي المقر أن يأتيه بمن يعرفه، ثم يشهد عليه بعد التعريف، ولا يشهد عليه قبله.
والذي عليه الجمهور: أنه يجوز أن يشهد على من لا يعرفه، ولمن لا يعرفه إذا أثبت صورتهما، وتحقق أشخاصهما، ثم إن عرفهما عند أداء الشهادة أدى، وإلا لم يجز [له إقامتها.
ثم ظاهر إطلاق الغزالي وإمامه يقتضي منع التحمل على المرأة المنقبة مطلقًا].
وقد قال في ((الحاوي)) و ((العدة)): إن هذا مخصوص بما إذا لم يعرفها الشاهد فيه، فإن عرفها منتقبة لم تكشفه.
فإن قلت: قد حكينا فيما لو كان العاقد أو المقر من وراء ثوب خفيف مشف في جواز التحمل عليه وجهان:
أحدهما- وهو الأصح في ((الرافعي)) -: الجواز، لأنه لا يمنع من مشاهدة ما وراءه.
والثاني: لا يجوز، لأن الاشتباه معه يجوز، وهذه الصورة أولى أن يجري فيها [هذا] الخلاف، لأن البشرة ثم مشاهدة، وليست هنا كذلك.
قلت: الفرق أن البشرة ثم وإن شوهدت فمن وراء حائل لا يمنع الاشتباه كما ذكرنا، وهنا المنتقبة بعض وجهها مكشوف، وهو المعتمد في المعرفة، فلا اشتباه معه.
فرع: لو دخل رجلان بيتًا لا ثالث معهما فيه، وقد عرف ذلك شخص، وجلس على بابه، فسمعهما يتعاقدان عقدًا- قال البندنيجي: قال أصحابنا: صار متحملًا للشهادة، لأنه يقطع أنه ليس في البيت سواهما.
قال: وهذا عندي فاسد، [لأنه] وإن قطع أنه لا أحد سواهما، فهو لا يعرف البائع من المشتري منهما.
قال: إن كان نسبًا، أو موتًا، أو ملكًا مطلقًا- جاز أن يتحمل [بالاستفاضة] من غير معارضة، أي: ويؤدي.
هذا [الفصل] ينظم ثلاث مسائل:
الأولى- النسب:
ووجه جواز التحمل فيه بذلك: أن النسب لا يدرك قطعًا ويقينًا، وثبوته من طريق الظاهر، فلم يكلف تحقيقه فيه، لأن ذلك يؤدي إلى إسقاط الشهادة عليه.
قال في ((الإشراف)): ويجوز أن يشهد على النسب وإن لم يعرف المنسوب إليه بعينه.
واعلم أن بان يونس قال: ما ذكره الشيخ في النسب من جانب الأب، أما إذا كان من جانب الأم، فهو كالنكاح. وهو في هذه العبارة متابع للغزالي، وفيها نظر، لأن النسب مأخوذة من الانتساب، وهو إلى الأب لا إلى الأم، ويدل [عليه] ما ذكره الأصحاب عند قولهم: إن الولد لا يزوج أمه، ولذلك لما أراد الإمام حكاية الخلاف في جانب الأم، قال: إن من أصحابنا من يلحق الانتماء إلى الأم بالانتساب إلى الأب، وهذا التقرير لا يحوج كلام الشيخ إلى تقييد، بل يكون على إطلاقه كما أطلقه غيره من العراقيين.
ثم قال الإمام: وهذا الخلاف قريب [المأخذ] من تردد الأئمة في أن المرأة كما تقدم.
وقد قال في ((الوجيز)): الأصح ثبوت الانتماء إلى الأم بالاستفاضة.
وحكى في ((الوسيط)) عن بعضهم القطع به.
قلت: وقد يقال: إن في كلام الشيخ ما يدل عليه، لأنه يجوز تسمية الانتماء إلى الأم نسبًا، على سبيل المجاز.
وفي كلام الشيخ ما يدل عليه، لأنه قال بعد ذكر النسب والموت والملك المطلق: جاز أن يتحمل بالاستفاضة من غير [معاينة، ومعاينة] ذلك من جانب الأب محال، فدل على إرادة جانب الأم.
لكن جوابه: أن المراد معاينة النسب، وهو الولادة على الفراش، لا معاينة النسب نفسه، ويدل على ذلك أنه قال ذلك في الملك، والملك لا يشاهد، إنما المشاهد أسبابه من البيع والهبة والاحتطاب، ونحو ذلك، وهي التي أراد الشيخ أنه لا يحتاج إلى معاينتها، والله أعلم.
الثانية: الموت:
قال القاضي أبو الطيب: ووجه جواز التحمل فيه بالاستفاضة: أنه لا يكاد يدرك حقيقة، لأنه ربما لحقته سكتة، وقد أمر بتعجيل الدفن، فلا يمكن تركه حتى يتحقق موته، لوقوعه في الأسفار- وهي كثيرة- والبراري، والقفار.
وقال غيره: لأن أسبابه كثيرة خفية، وظاهرة، يتعذر الوقوف عليها، فاكتفى فيه بالاستفاضة، كالنسب.
[قال في ((الإشراف)): يجوز أن يشهد به من لم يعرف الميت بعينه]، وهذا ما أورده الجمهور.
وحكى القاضي الحسين أن من أصحابنا من يلحق الموت بالمختلف فيه، فإنه على الجملة يمكن فرض العيان فيه.
قال الإمام: وهذا وإن كان منقاسًا فلا تعويل عليه، فإن موت الإنسان مما يشتهر ويقع في أفواه الناس كالنسب، وعماد تحمل الشهادة هذا.
الثالثة: الملك المطلق:
ووجه جواز التحمل فيه بالاستفاضة فقط: أنه لا يتصور العلم فيه وإن تصور الإحاطة بأسبابه، لأن حصوله بالبيع ونحوه فرع كون البائع مالكًا، وكذلك الكلام مملوكًا، فانفلت من مالكه، ومن احتطب أو احتش احتمل أن يكون من شيء مملوك جهل حاله، وإذا كان كذلك التحق بالنسب، وهذا ما أورده العراقيون، والفوراني.
وقال الإمام: أنه بعيد، فإن فرض له ثبوت فهو فيه إذا لم يعارض هذا التسامع يد وتصرف من الغير، ووراءه أوجه:
أحدها- حكاه الماوردي عن بعض الأصحاب-: أنه لا يشهد بالملك بمجرد الاستفاضة، وهو الذي حكى الإمام عن القاضي القطع به، وقال: إنه قياس المراوزة.
نعم، إذا رآه يتصرف فيه شهد به، لأنه يجتمع له في العلم به السماع والمشاهدة، فيصل إليه من أقصى نهاية المكنة.
والثاني: أنه لا يشهد بالملك بالاستفاضة والتصرف، بل لابد مع ذلك من أن يكون في يده، وبه أجاب في ((الرقم))، ويحكى عن نصه في ((حرملة))، فإذا اجتمع ذلك جازت الشهادة [به] بلا خلاف، كذا قاله الإمام.
وفي ((البحر)) أن بعض أصحابنا بخراسان قال: في الأملاك قول آخر أنه لا تجوز الشهادة فيها حتى يعلم سبب الملك. وهو أقيس، لكنه خلاف ظاهر المذهب المنصوص.
والاستفاضة المذكورة هنا صورتها أن يستفيض في الناس: أن هذه الدار، أو هذا العبد ملك زيد من غير إضافة إلى سبب، فإن كان المستفيض سبب الملك لم يتحمل عليه، كما تقدم.
قال ابن الصباغ وغيره: إلا أن يكون السبب الميراث، فيجوز، لأن الميراث يستحق بالنسب والموت وكلاهما يثبتان بالاستفاضة.
وقد ألحق الإمام بهذه الصور الثلاث صورة رابعة، وهي الشهادة بالإعسار، فقال: إنه يتحملها بالاستفاضة، لأنه لا مطلع عليه، ولو لم يكن في إثباته طريق لتخلد الحبس على المعسر من غير درك منتهى.
وفي ((الإشراف)) عند الكلام في الجرح والتعديل: أن الشاشي قال: تسمع في العدالة الشهادة بالشيوع من جماعة وافرة، وهذه صورة خامسة.
قال: وأما النكاح، والوقف، والعتق، والولاء- فقد قيل: يشهد فيها بالاستفاضة، لأن هذه الأشياء إذا ثبتت بقيت ودامت واشتهرت، وشهود المشاهدة [قد] يزولون لطول الزمان، فلو قلنا: لا تثبت بالاستفاضة، لتعطلت غالبًا.
وقد أيد في النكاح بأن أحدًا لا يشك في أن عائشة- رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، والمستند فيه الاستفاضة، وهذا قول صاحب ((التخليص))، و ((الإيضاح))، وابن أبي هريرة، والإصطخري، وقال في ((الشامل)): إنه أقيس، وقال في ((البحر)): إنه أصح عندي، واختاره في ((المرشد))، والنواوي، و [في] ((الحاوي)): أن بعضهم جزم به في الولاء، لقوله صلى الله عليه وسلم:((الولاء لحمة كلحمة النسب)).
وحكى أنه هل يحتاج عند الشهادة بالزوجية إلى أن يرى الزوج داخلًا إليها، وخارجًا من عندها- وجهين كالتصرف في الملك مع تظاهر الخبر.
وقيل: لا يشهد، لأن ذلك نشأ عن لفظ مسموع، فأشبه البيع.
قال البندنيجي: وهذا قول أبي إسحاق وغيره من أصحابنا.
وقال القاضي الحسين: إنه الأظهر. وتبعه الإمام، والغزالي، والقاضي الروياني في ((جمع الجوامع)).
وقال في ((البحر)): إنه الأشبه بمذهب الشافعي [والأصح].
وقال الرافعي: إن به أجاب القفال في ((الفتاوى))، وأن العبادي رجحه أيضًا، وأن هؤلاء قالوا: ما ذكره الأولون يمكن تداركه بالشهادة على شهود الأصل، واستحبوا للحاكم أن يجدد شهود كتب الوقف مهما خاف انقراض الأصول.
قلت: وهو الذي نص عليه الشافي كما حكاه الأصحاب عنه في باب عقد الذمة.
وعن صاحب ((العدة)) أن هذا ظاهر المذهب، لكن الفتوى بالجواز للحاجة. ثم أعلم أن محل الخلاف المذكور فيما إذا استفاض أن هذه زوجة فلان، لا عقد النكاح بينهما، وأن هذا وقف على فلان أو جهة عامة كما قاله الصيدلاني وغيره، لا أن فلانًا أنشأ الوقف.
وعن الشيخ أبي محمد: أن محله إذا كان الوقف على جهة عامة: كالفقراء، أما الوقف على معين فلا يجز استناد الشهادة فيه إلى الاستفاضة وجهًا واحدًا.
قال الإمام: وهذا لا اعتداد به، لأن الخلاف يجري في النكاح مع اختصاصه بشخص معين.
[و] قال في الإشراف: إنا إذا جوزنا الشهادة بالاستفاضة على الوقف فلا يشهد على المصرف، بل يشهد على المصرف، بل يشهد أنه وقف مؤبد، ثم الأمر بعد ذلك إلى القاضي يصرف غلة الموقوف إلى من يؤدي إليه اجتهاده، وأن هذا عتيق فلان، لا أنه أعتقه، وأن لزيد الولاء على عمرو.
وقد ألحق البندنيجي بهذه الصورة [صورة] خامسة وهي تولية القضاء إذا كان الموضع قريبًا كما تقدم.
والدين لا يثبت بالاستفاضة على الأصح.
وحكى الهروي وجهًا: أنه يثبت وإليه أشار ابن الصباغ عند الكلام في الملك المطلق بقوله: وأصحابنا لا يسلمون عدم ثبوته بالاستفاضة.
قال: وأقل ما يثبت به الاستفاضة اثنان، لأن الحاكم يعتمد على قولهما في الحكم، فكذلك الشاهد، وهذا قول الشيخ أبي حامد وأبي حاتم القزويني، ولم يورد البندنيجي والقاضي أبو الطيب سواه، ونسبه ابن الصباغ إلى المتأخرين من أصحابنا، وحكاه الإمام عن العراقيين، وأنهم قالوا: لا يعتبر في ذلك لفظ الشهادة من المخبرين، وكذا لا يشترط أن يأتي المخبر بصيغة الشهادة على الشهادة، لكن يعتبر أن يكونا عدلين، وتطيب نفس السامع بهما، وقد حكاه غيره.
وقال الماودري: إن هذا وهم من قائله، لأن قول الاثنين من أخبار الآحاد، وأخبار الآحاد لا تبلغ التتابع المستفيض، بل الصحيح أن الاعتبار في ذلك بالعدد المقطوع بصدق مخبره، وهو عدد التواتر المنتفي عن المواطأة والغلط، وعلى جرى [النواوي.
وقد حكى] الإمام هذا والذي قبله وجهين عن رواية الشيخ أبي علي، وأن القاضي وشيخه وغيرهما لم يوردوا غير الثاني، وقال: إن الأول وإن [كان] بعيدًا عن القياس فهو متجه عندي من جهة أن التواتر إنما يفيد العلم إذا كان مستندًا إلى معاينة المخبرين، هذا مما لابد منه، و [هو] غير ممكن في الأنساب، فإنه لا مستند لها من عيان.
قال الرافعي: وينبغي على الوجه الثاني ألا تعتبر العدالة ولا الحرية ولا الذكورة.
وقد حكى ابن الصباغ: أن كلام الشافعي يقتضي أن تكثر به الأخبار، لأنه شرط تظاهر الأخبار وذلك أن يكون بانتشارها كثيرًا، وكأنه يشير إلى قول الشافعي:((من شرط جواز الشهادة فيما ذكرناه أن يتظاهر به الخبر زمانًا طويلًا ممن يصدق، ولا يكون هناك دافع يدفعه، ولا منازع ينازع فيه، ولا دلالة يرتاب)).
قال ابن يونس: ومفهوم كلام ابن الصباغ: أنه إذا كثرت الأخبار بحيث يقع في قلبه صدقهم، وإن لم يبلغوا عدد التواتر كفى.
ويقرب من ذلك قول الإمام: الذي أراه أن من اشترط الاستفاضة فربما يكتفي
[بالإشاعة] من غير تكثير، فإن التواتر إذا كان لا يوجب العلم بالباطن، وهو العلم حقًا، فالعماد أمر يرجع إلى العادة في إثارة غلبات الظنون، وهذا يكفي فيه الإشاعة وعدم التكثير.
وعلى هذا قال في ((البحر)): إذا تظاهر الخبر: إن كان من رجال ونساء، وصغار وكبار، وأحرار وعبيد- فهو الأوكد، لامتزاج من تصح شهادته بمن لا تصح.
ولو انفرد النساء والعبيد، صح به تظاهر الخبر، لقبول خبرهم.
ولو انفرد به الصبيان مع اختلاف أحوالهم، وشواهد الحال بانتفاء التصنع والمواطأة- احتمل في صحة التظاهر بهم وجهان.
وفي ((تعليق)) القاضي أبي الطيب: أنه سئل في الدرس عما إذا سمع من واحد، وسكن إلى قوله، هل يجوز له أن يتحمل الشهادة على ذلك، أم لا؟ فقال: يحتمل أن يقال: يجوز، لأن الاعتبار بما يسكن إليه قلبه، ويغلب على ظنه، وقد حكاه في ((المهذب)) وجهًا، وكذلك أبو الفرح السرخسي، وبه يحصل في المسألة- إن صح حمل النص على ما قاله ابن يونس- أربعة أوجه، وعليها يتخرج ما إذا أخبر شخص بأن هذه المرأة المنتقبة فلانة [بنت فلان]، ولم يكن يعرفها، ولا كشفت عن وجهها، وطلب منه أن يتحمل عليها أو لها شهادة، ويؤديها في غيبتها، فإن كان المخبر له عدد التواتر، انبنى جواز ذلك على خلاف الأصحاب في أن من شرط الاستفاضة تكرار الأخبار، وامتداد مدة السماع أو لا يشترط ذلك، ويكفي أن يخبر الشاهد جماعة لا يرتاب في صدقهم دفعة واحدة؟
فإن قلنا بالأول، وهو الذي أورده كثيرون- كما قال الرافعي، [و] منهم الروياني فإنه قال: الملك المطلق يثبت بسماع الخبر الشائع على اختلاف أحوالهم يقولون: هذه الدار لفلان، وهذه الدابة لفلان، ويتكرر ذلك على مرور الزمان، لا يرى فيهم منكر ولا منازع- فلا يجوز التحمل عليها، ولا لها، وعليه يدل ما حكاه في ((البحر)) - أيضًا- عن الشافعي حيث قال: ويسعه الشهادة على النسب
إذا سمعه زمانًا ينسب إلى نسب، وينسبه غيره إلى ذلك النسب، ولم يسمع دافعًا، ولا دلالة يرتاب بها، فهذه شروط أربعة: طول الزمان في انتسابه إلى ذلك النسب، ونسبة غيره إياه، وعدم الدافع، وعدم الأدلة التي هي سبب الريبة.
وكذلك قول الماوردي: إن النسب يثبت بسماع الخبر الشائع الخارج إلى حد الاستفاضة في أوقات مختلفة وأحوال مختلفة متباينة من مدح، وذم، وسخط، ورضا يسمع الناس فيها على اختلافهم يقولون: هذا فلان بن فلان، فيخصونه بالنسب إلى أب أدنى، أو يعمونه بنسب أعلى فيقولون: هذا من بين هاشم، أو [من] بني أمية.
وإن قلنا بالثاني- وهو ما روى القاضي ابن كج القطع به- جاز له التحمل. ولو كان المخبر دون عدد التواتر، وفوق الاثنين على النحو الذي رآه الإمام يكون الحكم كما إذا أخبره عدد التواتر.
وعلى رأي الماوردي ومن معه [لا يجز له التحمل.
ولو كان المخبر عدلان، فعلى رأي الشيخ أبي حامد ومن معه] يجوز له التحمل، صرح به الرافعي وغيره، ومنه يظهر أن القائل بهذه الطريقة لا يشترط تكرر الخبر، فإنه لا معنى لاشتراطه مع الاكتفاء بخبر الاثنين.
وللإمام احتمال في منع ذلك أيضًا.
وفي ((أدب القضاء)) لابن أبي الدم: أن الشيخ أبا محمد كان يميل إلى جواز تحمل الشهادة على المرأة المنتقبة بالتعريف، للحاجة إلى ذلك، لا بناء على ثبوت النسب بالتسامع من عدلين إذا لم يكن يراه، [بل] لضرورة الناس إليه في مدايناتهم.
قال القاضي الحسين: وهذه عادة أهل هراة وغيرها من البلدان تأتي المرأة المحتشمة المخدرة مع شاهدين يقولان: نشهد أن هذه بنت فلان، ثم هي تقر بأن لفلان على كذا، فتكتب شهادته على الصك، ثم تودي الشهادة، وقد يحمل على هذا الوجه.
وعلى الوجه الثاني الذي صار إليه الماوردي: لا يجوز له التحمل، وإليه صار القفال، فإنه استشهد في مثل ذلك، فكتبك أشهدني فلان وفلان: أنها فلانة بنت فلان، وأنها أقرت، فلما طلب للأداء امتنع، وقال: كيف أشهد والشاهدان في السوق، يعني: أن شهادتي شهادة الفرع، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين، ولم يورد في ((الوجيز)) سواه.
ولو كان المخبر عدلًا واحدًا، وقد طابت النفس بخبره، فالذي يجيء على الأوجه المذكورة أولًا: أنه لا يشهد عليها، وعلى الأخير يتحمل، وقد حكاه الرافعي عن الشيخ أبي محمد، سلوكًا به مسلك الأخبار، وكذا حكاه ابن أبي الدم عن الهروي عنه.
قال الرافعي: وعليه جرى جماع من المتأخرين منهم القاضي الروياني.
وحكى عن رواية ابن كج عن الإصطخري أنه قال: إذا كان الشخص يعرف نسب امرأة، ولا يعرف عينها، فدخل دارها، وفيها نسوة سواها، فقال لابنها الصغير: أيتهن أمك أو لجاريتها: أيتهن ستك، فأشار إلى امرأة، فسمع إقرارها، جاز أن يشهد: أن فلانة بنت فلان أقرت بكذا، وأنه لم يقم إخبار عدلين بذلك مقام إخبار الصغير والجارية، لأنه أشد وقعًا في القلب وأثبت.
فروع:
أحدها: إذا سمع رجلًا يقول لآخر: هذا ابني، وصدقه الابن، أو: أنا ابن فلان، وصدقه فلان، قال العراقيون- كما حكاه الإمام، وأورده ابن الصباغ-: يجوز أن يشهد على النسب.
وكذا لو استلحق صبيًا أو بالغًا، فسكت.
قال ابن الصباغ: وإنما أقاموا السكوت في النسب مقام النطق، لأن الإقرار على الأنساب الفاسدة لا يجوز.
نعم، لو أنكر المستلحق ذلك لا يثبت النسب، ولا يشهد به.
وفي ((المهذب)) وجه: أنه لا يشهد عند السكوت إلا إذا تكرر منه الإقرار والسكوت.
وقال الإمام بعد حكاية ما ذكرناه أولًا: وهذا في قياس الفقه خطأ صريح، فإن قول الشخص الواحد من غير إشاعة في حكم الدعوى حيث ذكروه، ونحن وإن كنا نثبت نسب المولود بالدعوى فيستحيل أن يجوز اعتمادها للشهادة على النسب مطلقًا. نعم، يشهد الشاهد على الدعوى، ثم يقع الحكم بموجبها، وعلى هذا جرى الغزالي.
وقال الرافعي: إنه القياس الظاهر، وربما أمكن تنزيل إيراد بعض الناقلين عليه، وهو في ((الحاوي))، لأنه قال: إذا قال رجل لرجل: أن ابنك، وصدقه، ثبت بتصديقه النسب، ويكون ثبوته بينهما بالإقرار، وتكون الشهادة عليه كالشهادة على الإقرار.
وإن لم يصدقه، ولم يكذبه، فإن لم يشهد حال إمساكه بالرضا لم يثبت النسب، و [إن] شهد حال إمساكه بالرضا، فقد قال أبو حامد الإسفراييني: يثبت النسب، لأن الرضا من شواهد الاعتراف، وهذا على الإطلاق ليس بصحيح، والحكم فيه: أنه إن لم يتكرر ذلك لم يكن اعترافًا بالنسب، وإن تكرر وزال عنه شواهد الخوف والرجاء في أحوال مختلفة، صار اعترافًا بالنسب، لأن أكثر الأنساب بمثله تثبت. وهكذا لو ابتدأ أحدهما فقال للآخر: أنا أبوك، اعتبر حال الابن بمثل ما اعتبرت به حال الأب، وكان الجواب فيهما سواء. وهذا منه يدل على أن قول أي حامد في جواز الشهادة على الإقرار بالنسب في حالة السكوت لا على أصل النسب، فإن الصحيح أنه إذا تكرر منه الإقرار والسكوت يجوز أن يشهد على إقراره بالنسب، لأنه لا يريد شواهد حاله بالرضا بالتصديق [على التصديق]، وقد تقدم القول بأن شهادته عند التصديق تكون على الإقرار، وكلام البندنيجي لا يأبى ذلك، فإنه قال: لو سمع رجلًا يقول لمجهول النسب: هذا ابني، أو سمع رجلًا يقول [لرجل]: هذا أبي: والأب ساكت، صار متحملًا للشهادة، لأن سكوت سكوت راضٍ بذلك.
[الفرع الثاني:] إذا استشهد اثنان بأن فلان بن فلان وكل هذا، كانت الشهادة بالوكالة شهادة بها وبالنسب جميعًا عندنا.
قال في ((البحر)): لأن الشهادة توجب ما تضمنها من مقصود وغير مقصود، كمن شهد بثمن في بيع، كان شاهدًا بالبيع وإن قصد الثمن.
الفرع الثالث: إذا وكل شخص شخصًا بمجلس الحاكم، وغاب، والحاكم لا يعرفه بالنسب، فشهد شاهدان أنه فلان بن فلان- ثبتت الوكالة، وكان للوكيل أن يخاصم في غيبته، بخلاف ما [لو] انتفى ذلك، فإنه لا يخاصم عنه إلا بحضوره.
قال القاضي الحسين- كما ذكرناه في [باب] الوكالة-: ويكتفي القاضي بالعدالة الظاهرة في هذين الشاهدين، ويتساهل في البحث والاستزكاء.
وعن القاضي أبي سعد الهروي أنه يجوز الاقتصاد فيه بمعروف واحد.
قال الرافعي: وليجر مثل ذلك هنا.
واعلم أنه لا يشترط عند الشهادة فيما المستند فيه الاستفاضة التصريح بها.
قال في ((المرشد))، بل يطلق الشهادة بأنه ابنه، أو ملكه، كما يشهد فيما شاهده. وفي أدب القضاء لابن أبي الدم: أنه لو صرح في الشهادة بذلك، فقال: أشهد بالاستفاضة أن هذه الدار ملك زيد، لأني رأيته يتصرف فيها مدة طويلة بالبناء، والتخريب، والإسكان، والإيجار [من غير] منازع، مع شيوع ملكيته لها بين الناس- لا تسمع.
والمذكور في ((الإشراف)) وغيره: أنه لو شهد أن الشيء استفاض بين الناس، لم يرتب على شهادته شيء، لأن الشيء قد يستفيض بين الناس وهو يعلم خلافه.
قال الرافعي: لكن عن الشيخ أبي عاصم أنه لو شهد شاهد بالملك، وآخر بأنه في [يده] مدة طويلة يتصرف فيه بلا منازع- تمت الشهادة، وقضية ذلك
الاكتفاء به بذكر السبب، كما ذكره الشارح لكلامه، والظاهر الأول.
قال: وإن رأي رجلًا يتصرف في دار، أي: بالسكن، والإسكان، والهدم، والبناء، والرهن، والبيع، والفسخ، مدة طويلة من غير معارضة- أي: منازعة- جاز أن يشهد له باليد والملك، لأن العرف قاض بأن هذا يدل على الملك.
قال الماوردي في كتاب اللقيط: وبالقياس على الحاكم، فإنه يحكم بالملك بذلك، والحكم أوكد من الشهادة، وهذا قول ابن أبي هريرة والإصطخري.
وقال الإمام: إنه الذي ذهب إليه جماهير الأصحاب، وصححه في ((التهذيب))، والنواوي.
وقيل: يشهد له باليد دون الملك، وهو الأصح، لأن هذا التصرف مع طول المدة كما يجوز أن يكون في ملكه أن يكون في ملك غيره، واستفاده بولاية أو نيابة، وذلك يقدح في الجزم بالشهادة.
قال الماوردي ثم: ويخالف الحاكم، لأن للحاكم أن يجتهد، وليس للشهود أن يجتهدوا، وهو قول أبي إسحاق.
وقال الإمام: إنه الذي ذهب إليه القاضي وطائفة من المحققين، والشيخ في تصحيحه متبع لشيخه القاضي الطبري، كما قاله في ((البحر)) وتبعهما فيه.
أما إذا انتفى التصرف، ولم يوجد إلا مجرد اليد، قال القاضي الحسين: فلا خلاف أنه لا يشهد بالملك، وهو ما ادعى الإمام في باب الشهادة بالجناية أنه الرأي الظاهر.
قال الرافعي: ويجوز أن يشهد له باليد.
وفي ((التهذيب)): أنه إنما يشهد له باليد إذا رآه في [يده] مدة طويلة.
وقال الإمام هنا: إن شيخه كان يقول: اليد والتصرف يدلان على الملك مذهبًا واحدًا، واليد الدائمة بمجردها هل تدل على الملك؟ فعلى قولين:
[وليست] آمن صدور هذا عن غير ثبت، فإني لم أر أحدًا من الأصحاب غيره يذكر هذين القولين في اليد المجردة، فلذلك لا أعتد به، ولا أعده من المذهب.
نعم، لو وجد التصرف بالإيجار خاصة مرة بعد أخرى، هل يكفي حتى يجري فيه الخلاف السابق أم لا؟ فيه خلاف.
وجه المنع- وهو الأصح في ((الوسيط)) -: أن مثل هذا يتفق من المستأجر مدة طويلة، ومن الموصى له بالمنفعة.
وقال الرافعي: إن الموافق لإطلاق الأصحاب الاكتفاء بها، وليجر الوجهان في مجرد التصرف بالرهن مرة بعد أخرى، لأن الرهن قد يصدر من المستعير.
ولو وجد التصرف التام مع اليد لكن في مدة قليلة، قال العراقيون: فلا يشهد بالملك وجهًا واحدًا.
ولو وجدت اليد والتصرف في المدة الطويلة، لكن ثم منازع: فإن كانت له بينة لم يشهد له بالملك وجهًا واحدًا، وإن لم تكن له بينة، فالمفهوم [من] إطلاقهم أنه لا يشهد به أيضًا.
وعن ابن كج رواية وجهين فيه.
ثم ما المراد بالمدة القليلة والطويلة؟
قال الشيخ أبو حامد: القليلة كالشهر والشهرين. وهو الذي أورده ابن الصباغ. وفي ((الزوائد)) أن الطبري قال: القليلة كاليومين والثلاثة.
وعن الشيخ أبي عاصم: أن فيما دون عشرة أيام وجهين، وبهذا يظهر لك اختلافهم في الأكثر.
وفي ((أدب القضاء)) لابن أبي الدم عن الشيخ أبي علي أنه قيل: المدة الطويلة سنة.
قال الرافعي: وهو كوجه ذكرناه في مدة التسامع إذا اعتبرنا امتداد مدته.
وقيل: ستة أشهر.
وقيل: شهران.
وحكى الرافعي عن البغوي وغيره أن المرجع في ذلك إلى العرف، وكأن المعتبر مدة يحصل فيها غلبة الظن.
قال ابن كج: ويجوز للشاهد أن يعتمد في الشهادة باليد على الاستفاضة.
قال الرافعي: وقد ينازع فيه، لإمكان مشاهدة اليد.
واعلم أنه لا فرق في الشهادة على الملك بالتصرف والتسامع واليد بين الدور والعبيد والثياب إذا كان المشهود به يتميز عن أمثاله، كذا قاله الرافعي هنا.
وحكى في كتاب اللقيط: أنه لو رأى في يد رجل صغيرًا يدعوه بأمره، وينهاه، ويستخدمه، هل [له] أن يشهد له بالملك؟ فيه وجهان عن رواية الشيخ أبي علي، وعن غيره: أنه إن سمعه يقول: هو عبدي، أو سمع الناس يقولون: هو عبده- شهد له بالملك، وإلا فلا.
قال: ومن كانت عنده شهادة لآدمي، لم يشهد بها- أي: ولو بعد الدعوى- حتى يطالب بها صاحب الحق، كي لا يتهم، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو فيه الكذب، فيحلف الرجل اليمين لا يسألها، ويأتي بالشهادة قبل أن يسألها))، وهذا ساقه مساق الذم، فاقتضى المنع.
قد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((شر الشهود الذين شهدوا قبل أن يستشهدوا))، فلا فرق في ذلك بين أن يكون صاحب الحق قد علم بشهادته [له] أو لا [يعلم].
نعم، إذا لم يعلم يستحب له أن يعلمه [حتى] يستدعيه فيشهد [له].
فإن شهد قبل أن يستشهد، لم تقبل شهادته، للتهمة، الحديث دال عليه. قال الماوردي قبيل باب شروط الذين تقبل شهادتهم: وكان ما فعله مكروهًا.
فإن قيل: فقد روى مسلم وغيره عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بخير الشهداء: الذي يأتي بشهادته- أو يخبر بشهادته- قبل أن يسألها)) الشك من عبد الله بن أبي بكر أحد الرواة، وهذا يقتضي الندب فضلًا عن الجواز.
قلنا: قد قال بالجواز بعض الأصحاب فيما إذا وقعت الشهادة بعد الدعوى،
فصحح الشهادة [بعد الدعوى]، اعتمادًا على ظاهر الخبر، ويوافقه ما حكيناه في باب صفة القضاء: أن للقاضي أن يسأل المدعى عليه بعد الدعوى، وكذا الحكم بعد إقامة الشهادة من غير طلبه على رأي فيهما، لأن ذلك مقصود الدعوى.
أما إذا وقعت الشهادة قبل الدعوى، فقد قال هذا القائل: إنها لا تسمع، وعلى هذه الحالة يحمل الحديث الأول، أو على حالة كذبه، لأنه- عليه السلام قال:((ثم يفشو الكذب))، أو على الشهادات التي يقطع بها على المغيب، فيقال: فلان في الجنة، وفلان في النار، ونحو يذلك.
والصحيح الأول، وهو الذي أورده البغوي.
وعلى هذا: فالحديث الثاني إن كانت الرواية فيه أن يخبر شهادته فهو موافق لما ذكرناه، ولا يحتاج إلى تأويل، وإن كانت: أن يأتي بشهادته فهو محمول على ما تسمع فيه شهادة الحسبة من القطع في السرقة، والجلد في الحدود، وغير ذلك مما سنذكره، أو على ما يعلمه دون غيره، ولو لم يظهره لضاع حكم من أحكام الدين، وقاعدة من قواعد الشرع، أو على الشهادة في [الأمانة والحقوق تكون لليتيم والمجنون، والزكاة، والكفارة، فإن الشهادة في] ذلك تسمع عندنا قبل الاستشهاد، كما صرح به في ((البحر)) في الفروع قبل كتاب الشهادات، وفي ((الحاوي)) قبيل باب شروط الذين تقبل شهادتهم، وقالا: إنه يندب إلى ذلك.
أو على سرعة إجابة الشاهد إذا استشهد، فلا يمنعها، ولا يؤخرها كما يقال: الجواد من يعطي قبل السؤال، عبارة عن حسن أدائه وتعجيله.
أو على حالة عدم علم المشهود له، كما ذكره بعض أصحابنا، واقتضى إيراد ابن يونس أن الشهادة تسمع في هذه الحالة وجهًا واحدًا.
وقد ظهر لك مما ذكرناه أن الشهادة قبل الدعوى غير مسموعة، وبعدها وقبل الاستشهاد وجهان، ومحلهما إذا كان المدعى عليه قد أنكر، فلو كان مقرًا لم تسمع وجهًا واحدًا.
قال الماوردي في باب ما على القاضي في الخصوم: لأن الإقرار أصل هو أقوى، والبينة فرع هو أضعف، ولا يجوز ترك الأقوى بالأضعف.
ولو سكت ولم يقر ولم ينكر، فهل تسمع البينة؟ فيه وجهان في ((الحاوي)) في الموضع المذكور.
وقد يقرب من الخلاف السابق في سماع البينة على المدعي عليه وهو في المجلس دون مراجعته.
وفي ((النهاية)) في باب الشهادة على الجناية في سماع الشهادة في حقوق الآدميين من القصاص والمال قبل الدعوى، ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان صاحب الحق جاهلًا به سمعت، وإلا فلا، والمذهب منها، والأصح- كما قاله في كتاب السرقة-: عدم السماع.
قال: وكان شيخي يقرب الخلاف من أصل [في] الغصوب، وهو أن من رأى مالًا مغصوبًا في يد غاصب، فهل له أن يأخذه، ويحفظه على مالكه من غير إذن من المالك، ولا نصب من الوالي؟ وفيه خلاف، ووجه الشبه بين.
ثم قال: ولو قيل: إن هذا الخلاف يختص جريانه بالمال دون القصاص، أي: فلا يسمع فيه إلا بعد الدعوى- لم يبعد، والوجه التسوية، فإن القصاص مع تعرضه للسقوط بالشبهات خص بمزية في الإثبات لا تجري في الأموال، هي أيمان القسامة.
وفي ((الحاوي)) في باب الشهادة [بالجناية: أن أصحابنا اختلفوا في كيفية سماع الشهادة] قبل الدعوى على ثلاثة أوجه:
أحدها: تسمع إذا كان الولي طفلًا أو غائبًا، ولا تسمع إذا كان بالغًا حاضرًا.
والثاني: تسمع إذا لم يعرف الولي شهوده، ولا تسمع إذا عرفهم.
وهذا والذي قبله جعلهما القاضي أبو الطيب شيئًا واحدًا، فقال: قال بعض أصحابنا: الشهادة مقبولة إذا لم يكن عنده علم بما يشهد به الشاهدان، [أو لمن] لا يعبر عن نفسه مثل الصغير والمجنون.
والثالث- وهو قول أبي إسحاق المروزي، وأبي علي بن أبي هريرة، والجمهور-: أنها تسمع في الدماء خاصة، ولا تسمع في غير الدماء إلا بعد الدعوى، والفرق من وجهين:
أحدهما: [لتغليظ الدماء] على غيرها من الحقوق.
والثاني: أنها من حقوق المقتول تقضي منه ديونه، وتنفذ منها وصاياه، فجاز للحاكم أن ينوب عنه في سماع الشهادة قبل دعوى أوليائه.
قال: ويجئ على هذا التعليل أن يسمعها في ديون الميت، ولا يسمعها في ديون الحي، وهذا قد حكاه ابن الصباغ والبندنيجي عن أبي إسحاق.
وعلى التعليل الأول لا يسمعها في ديون حي ولا ميت.
وإذا قلنا بالصحيح في عدم السماع مطلقًا، فهل يصير الشاهد مجروحًا بالأداء؟ فيه وجهان، أشبههما في ((الرافعي)): المنع.
ويحكى القطع به عن الشيخ أبي عاصم العبادي، لأن المبادرة قد تكون عن جهل منه.
قال الرافعي: وظاهر الإطلاق أن الخلاف في سقوط عدالته مطلقًا، ويؤيده أن القاضي أبا سعيد قال: الوجهان ينبنيان على أن المبادرة من الصغائر، أو الكبائر.
قلت: وقد صرح به الإمام في أوائل كتاب الدعاوى فيما إذا وقعت الشهادة قبل الدعوى، حيث قال: لو ادعى ألفًا فشهدت له البينة بألفين- فالألف الزائد لا يثبت، وفي ثبوت الألف المدعى وجهان.
وإن لم يثبت، ورددنا الشهادة، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في جرح الشهود حتى ترد شهادتهم على وجه عمومًا، وعلى ذلك ينطبق ما قاله البغوي في كتاب الإقرار والصورة هذه، وقد شهد له شاهد بألف وآخر بألفين: إنا إذا قلنا: إن الشاهد بالألف الزائد يصير مجروحًا، إن المدعي يحلف مع شاهد [الألف] ويأخذه، فلو لم يردها عمومًا، لكانت شهادته بالألف المدعى مسموعة إذا أعيدت، فيأمر بإعادتها، ولا يحتاج إلي اليمين، كما صرح به الإمام.
ثم قال الرافعي: لكن منهم من يفهم كلامه وقوع هذا الخلاف في قبول تلك
الشهادة فيه إذا أعادها، لا في سقوط العدالة مطلقًا، واستأنس فيه بما سنذكره عن الغزالي والبغوي.
قلت: وهو الذي صرح به القاضي الحسين في كتاب الإقرار، حيث قال: لا خلاف أنه لا يصير مجروحًا في غير تلك القضية، وفي تلك القضية وجهان، ولأجل ذلك قال الإمام ثم فيما إذا ادعى ألفًا، وشهد له شاهد بألفين-: إن الألف الزائدة لا يثبت، لأنه حصلت الشهادة به قبل الدعوى.
لكن اختلف أئمتنا فيمن شهد لإنسان بحق قبل أن يستشهد، فهل يصير مجروحًا في تلك القضية أم لا؟
فمنهم من قال: لا يصير مجروحًا، لأن ما جرى منه لم يخرم عدالته، بدليل قبول شهادته في سائر القضايا سوى هذا، وهذا مما لم يختلف فيه المحققون، لكن شهادته [فيه] مردودة، لانعدام الدعوى.
ثم قال: وهذا هو القياس الذي لا يعارض فيه.
ومنهم من قال: يصير مجروحًا في تلك القضية، لأن ابتداره إلى إقامة الشهادة قبل أن يستدعى يشعر بقيام غرض له في نفسه حمله على ذلك، والشهادة قد ترد بالتهم.
ثم لا يمتنع التبعيض في الجرح والعدالة، بدليل أن الفاسق إذا ردت شهادته، ثم تاب، وظهرت عدالته، واستقامت حاله- فشهادته في سائر الخصومات مقبولة.
ولو أعاد الشهادة المردودة، لم تقبل، وبهذا يتحصل في المسألة طريقان:
فإن قلنا: إنه يصير مجروحًا، فقد تقدم الكلام في اعتبار توبته واستبرائه، وتقدم الوعد بأنا نذكر أنه إذا أعاد تلك الشهادة بعد الدعوى هل تقبل أم لا؟
وقد حكى الإمام في كتاب الإقرار في ذلك وجهين ينبنيان على أنه هل يصير مجروحًا، أم لا؟
فإن قلنا: يصير مجروحًا، لم تقبل، كما لا تقبل شهادة الفاسق المعادة بعد التوبة، وهذا أثر الجرح، ولا فرق على هذا بين أن يطول الزمان أو يقصر.
وإن قلنا: لا يصير مجروحًا، قبلت، وهذا ما ذكره شيخي.
وذكر القاضي: أنا إذا قلنا بعدم القبول، فهذا الرد لا يتأبد، كشهادة الفاسق، بل إذا استبرأه القاضي مدة، وظهر عنده انتفاء التهمة قبل شهادته، وهذا أقيس وأحسن.
وقد [جمع] الغزالي في ((الوسيط)) ذلك في كتاب القسامة، وقال: إذا أعادها هل تقبل؟ فيه ثلاثة أوجه- وهي في ((النهاية)) فيه أيضًا-:
ثالثها: إن أعادها بعد التوبة عما جرى، ويذكر أنه لا يعاود مثله، ولا يبادر للشهادة، واستبرأه كما قاله الإمام فيه- قبلت، إلا فلا.
قال الإمام: والفرق بينه وبين الفاسق أن الفاسق إذا ردت شهادته تلحقه غضاضة تبلغ به الأنفة، وقد يتهم في إعادة تلك الشهادة، وهذا لا غضاضة عليه.
وما حكيناه عن القاضي يقرب منه ما في ((التهذيب)) هنا، فإنه قال: إن قلنا: إنه يصير مجروحًا، فلا تقبل إذا أعادها في ذلك المجلس، وتقبل في غيره، لأنه لا يلحقه بعدم القبول عار يكون متهمًا في الإعادة.
وإن قلنا: لا يصير مجروحًا، قبلت إذا أعادها في ذلك المجلس، وفي غيره.
فرع: شهادة المختفي [مسموعة عندنا] على المشهور، ولا تكون من قبيل الحرص على الشهادة، وصورتها: أن يختفي في موضع يحضره متنازعان في حق، ومن هو عليه ينكره في الظاهر، ويقر به في الباطن، فإذا سمعه شهد عليه.
وحكى الفوراني والقاضي الحسين قولًا للشافعي في القديم: أن شهادته لا تقبل مطلقًا كمذهب مالك، وعليه يخرج ما حكاه في ((الزاوئد)) عن رواية الطبري عن أبي إسحاق أنه قال: لا يجوز أن يشهد على شخص بما لم يشهده على نفسه، كما لا يجوز أن يتحمل الشهادة عنه، وسوى في ذلك بين أن يقر بين يديه بدين، أو عين، أو يراه يعقد عقد بيع، أو إجارة، وسمع كلامه، أو يراه [و] قد قتل شخصًا، أو جرحه، أو أتلف عليه مالًا.
والمحكي عن أبي إسحاق: اشتراط ذلك في الشهادة على الإقرار، والسكوت
عما عداه، وعليه جرى في ((المهذب)).
فعلى الأول- وهو المذهب- قال الأصحاب: يستحب أن يخبر الخصم بأنه شهد عليه قبل الأداء حتى لا يبادر إلى تكذيبه إذا شهد، فيعزره القاضي.
ولو أحضره رجلان حسابهما، وقالا: لا تتحمل ما تسمعه منا، فسمع منهما شيئًا، صار متحملًا له، ووجب عليه الأداء عند الطلب.
قال ابن أبي أحمد: ولو ترك الدخول في الشهادة على مثل هذا المعنى، كان أحب إلي.
ولو قال الشاهد للمقر: أشهد عليك بذلك، فقال: لا، ففي بطلان شهادته عليه بالإقرار وجهان في ((الحاوي)) في باب الشهادة على الشهادة.
وعلى الثاني: يكفيه في صحة التحمل أن يقول للمقر: أشهد [عليك بذلك؟ فيقول: اشهد علي بذلك، أو قال: نعم.
ولو قال: اشهد]، فثلاثة أوجه حكاها الماوردي في الشهادة على الشهادة: ثالثها: إن قال: اشهد علي كفى، دون ما إذا قال: اشهد.
ويجب عليه عند أداء الشهادة على الإقرار أن يقول: وقد أشهدني بذلك، وعند أداء الشهادة في غيره- كالشهادة على ثمن في بيع حضره، أو قرض أقرضه، ونحو ذلك- يجب أن يذكر السبب، كذا قاله في ((البحر)) في الفروع قبل كتاب الشهادات، وهو في ((الحاوي)) في باب ما على القاضي في الخصوم.
وفي ((البحر)) قبل باب الشهادة على الشهادة: أن صاحب ((الحاوي)) قال: عند الشافعي يجوز تحمل الشهادة على المختبئ إلا أن يكون في غفلة تنفذ عليه الحيلة والخداع، فلا يجوز حينئذ التحمل حتى يراه المقر، أو يعلم به.
قال الروياني: وهذا أصح عندي.
وحكى عنه أنه قال بعد حكاية وجهين في الحاجة إلى الاسترعاء في الإقرار: والأصح عندي من إطلاق الوجهين أن يعتبر حال الإقرار، فإن اقترن به قول أو أمارة تدل على الوجوب، استغنى به عن الاسترعاء، فالقول: أن يقول له: علي ألف درهم بحق واجب، والأمارة: أن يحضر المقر عند الشاهد ليشهده على نفسه، فيعلم بشاهد الحال أنه إقرار بواجب.
[و] إن تجرد الإقرار عما يدل على الوجوب من قول أو أمارة، افتقر إلى الاسترعاء، ولم يصح تحمل الشهادة به على إطلاقه.
قال: ومن كانت عنده شهادة في حد من حدود الله تعالى، فإن رأى المصلحة في الشهادة، أي: مثل أن يكون مرتكب الجريمة غير نادم عليها، أو في سترها عليه إغراء للغير بالفاحشة، ونحو ذلك.
قال: شهد، رعاية للمصلحة، فلو توقف عن الشهادة والحالة هذه، قال الماوردي في باب ما يجب على المرء من القيام بالشهادة-: كان مكروهًا، وليس بمعصية. وتبعه في ((البحر)).
قال: وإن رأى المصلحة في الستر- أي: مثل أن لم تظهر تلك الفاحشة، ورأى مرتكبها قد ندم- استحب [له] ألا يشهد، لقوله عليه السلام:((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم))، كما أخرجه أبو داود والنسائي.
وخرجا- أيضًا – عن زيد بن نعيم عن أبيه: أن ماعزًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه، وقال لهزال:((لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك)).
وسبب ذلك أن مالكًا أبا ماعز أوصى إلى هزال بابنه ماعز، وكان في حجره يكلفه فوقع ماعز على فاطمة جارية هزال، فحث على الإقرار بذلك.
وهزال: بفتح الهاء وتشديد الزاي، وفتحها، بعد الألف لام.
وقد تقدم في باب حد السرقة حكاية وجه: أنه لا يسمع فيها شهادة الحسبة، بناء على شائبة حق الآدمي، كما لأجلها قطع المهادن على قول.
و [قد] أطلق القاضي الحسين والرافعي في باب حد الزنى حكاية وجهين في استحباب كتمان شهادة الشهود في حدود الله تعالى، وأن أصحها المنع كي لا يتعطل.
وقال الماوردي: إن ما ذكرنا مفروض فيما إذا لم يتعلق بترك الشهادة إيجاب حد على غير مرتكب الجريمة، فإن تعلق به كمن شهد عليه ثلاثة بالزنى، فلم تكمل شهادتهم، وجب على الرابع الأداء، وأثم بالتوقف. وتبعه في ((البحر)).
وهذا ما يتعلق بحق الله تعالى في الحدود، وأما حقه في غير الحدود، فتسمع الشهادة فيه من غير دعوى ولا استشهاد، كما ذكرنا أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم
بخير الشهود ....))، وعنه احترز الشيخ بقوله:((ومن كانت عنده شهادة لآدمي))، والأصحاب يعبرون عن هذا بشهادة الحسبة، وعدوا من ذلك الشهادة على أرباب الأموال بالزكوات دون الشهادة على المستحقين بقبضها، وكذا الشهادة بالوصية للفقراء غير المحصورين، حتى قالوا: يسمع في ذلك [شهادة] اثنين من الفقراء، لأنهما لا يتعينان للصرف، فإن القاضي يجوز أن يحرمهما، كذا قاله القاضي الحسين في باب الشهادة بالوصية، وقد حكيناه من قبل عن ((التهذيب)) و ((الكافي)). ولو كان الفقراء محصورين لم تسمع.
ومن ذلك الطلاق البائن منه والرجعي، وكذا الخلع ليثبت المال، كما نقله الإمام، وأبدى فيه احتمالًا سنذكره.
وأطلق البغوي القول بمنع شهادة الحسبة فيه.
ومن ذلك بقاء العدة وانقضاؤها، والبلوغ، والإسلام، والردة، والإحصان، والتعديل، والاستيلاد، والعتق، سواء فيه العبد والأمة.
وفي ((الرافعي)) أن في ((الفتاوى)) أن الشهادة بالعتق إنما تسمع عند الحاجة. ومن ذلك الرضاع.
قال الرافعي: وفي ((الفتاوى)): أن الشهادة إنما تسمع به إذا [كان] بينهما نكاح، أو أراد التناكح، فلو لم يقل الشاهدان ذلك لم تسمع.
وكذا لو قامت بينة بالطلاق البائن، ثم شهد اثنان بأن بينهما رضاعًا، لم تسمع.
وفي الشهادة بالتدبير وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين، و ((تعليق)) العتق ملحق به.
وشراء القريب حكى الغزالي فيه وجهين، وتبعه الرافعي.
وقال القاضي الحسين في ((التعليق)) في باب الشهادة بالوصية: الظاهر من المذهب: أنها لا تقبل، لأنهم يثبتون الملك أولًا، ثم العتق يترتب عليه.
ويحتمل أن يقال: تسمع.
وفي ((النهاية)) حكاية الجزم عن القاضي بعدم القبول، ثم قال: وفي القلب منه
شيء، وليس يبعد أن نقول: تثبت بشهادة الحسبة، لكن الأوجه ما ذكره القاضي، فإن العوض ركن في البيع، فلو أثبتناه لأثبتنا العوض من غير دعوى، ولو أثبتنا العتق من غير مال، لكان هذا إجحافًا، وليس كالخلع، فإن العوض ليس مقصودًا، ولست ابعد في الخلع ثبوت المال تبعًا حتى لا يتعطل حق الزوج بالكلية، ولا أبعد أن يثبت الطلاق، ولا تثبت البينونة، كما لو خالع [الرجل] محجوزًا عليها بالسفه.
والعفو عن القصاص أطلق القاضي الحسين وغيره فيه السماع.
وعن القاضي أبي سعد الهروي حكاية وجه آخر: أنها لا تسمع فيه لأن ترك القاتل الدعوى مع الحرص على الحياة يورث التهمة في شهادتهم.
والوقف على الجهات العامة تسمع فيه شهادة الحسبة.
وعلى المعين قال في ((الوسيط)): الصحيح أنها لا تسمع، وهو قول الصيدلاني، كما قال الرافعي، وبه قطع الروياني في ((جمع الجوامع)).
وفي ((تعليق)) القاضي الحسين: أنا إن قلنا: لا يثبت بالشاهد واليمين سمعت فيه شهادة الحسبة كالعتق. وإن قلنا: لا يثبت بالشاهد واليمين سمعت فيه شهادة الحسبة كالعتق. وإن قلنا: يثبت بهما، فلا، وهذا يقتضي إجراء خلاف في السماع على قولنا: إن الملك لله تعالى، والقطع بالمنع إذا قلنا: إنه للآدمي، وهو موافق لما في ((الوسيط))، لأن الصحيح- كما تقدم- أنه يثبت بالشاهد واليمين، وإن قلنا: إن الملك لله تعالى.
وفي ((النهاية)): أن الصيدلاني قطع بالسماع إذا قلنا: إن الملك لله تعالى، وأن الذي ذهب إليه معظم الأصحاب خلاف ذلك، فإن الغالب على هذا الوقف حظوظ خاصة متعلقة بأشخاص، وهذا موافق لقول القاضي.
والشهادة بالنسب لا تسمع عند القاضي قبل الدعوى، وبه أجاب في ((الوسيط)) في الباب الثالث عند الكلام في الشهادة على المرأة المنقبة.
وعن الصيدلاني فيما إذا شهد شاهدان بأن هذه المرأة ولدت هذا الولد على فراش هذا لستة أشهر، والزوج يقول: أتت به لأقل من ستة أشهر- السماع.
قال الإمام: وهو مخالف لما ذكره القاضي، فحصل في المسألة تردد، والمسألة
ولا تسمع شهادة الحسبة على الكتابة، ولا على أداء النجم الأخير منها.
قود يقال بالسماع، بناء على أنه لا يقبل في [أداء] النجم الأخير [إلا] شاهدان.
ولا تسمع على وجود الصفة التي علق عليها العتق. نعم: يجب أن يشهد من شاهد أداء النجوم ووجود [الصفة، لأجل] ما شاهده بالعتق حسبة، قاله القاضي الحسين.
قال: [ولو] شهدوا بأن هذه الدار للمسجد الجامع، أو شهدوا بأن هذه الأرض ملك لهذا الرجل، فأقر ملك للمسجد الجامع، أو بأن للمسجد الجامع في ذمته شيئًا- هل تسمع هذه الشهادة أم لا؟
فيه جوابان، بناء على أنه [إذا] أقر للحمل بمال مطلقًا، هل تقبل؟ وفيه قولان،
ووجه الشبه: أنه لا يتصور المعاملة بينه وبين الحمل، كما لا يتصور أن يعامل المسجد.
وكذا الخلاف فيما لو اقر بأن هذه [الدار] التي في يدي للمسجد.
قلت: وما ذكره من جريان الجوابين في حالة قول الشاهدين: نشهد بأن هذه الدار ملك [لهذا] الرجل، فأقر بأنها ملك للمسجد- نظر، لأن كونها ملكه يمنع صحة [إقراره بها للمطلق] التصرف، فيكف للمسجد؟!
فرع: ما تسمع فيه شهادة الحسبة، هل تسمع فيه دعوى الحسبة؟ فيه وجهان ذكرناهما في أول باب الدعاوى، والمنع منسوب إلى القفال، ومقابله للقاضي الحسين، ولعله في غير حدود الله تعالى.
أما في الحدود فقد قال ابن الصباغ وغيره في باب النكون ورد اليمين-: إنه لا تسمع فيها الدعوى إذا لم يتعلق للآدمي بها حق، لأنه يستحب سترها.
وقد يقال: إن هذا التعليل يرشد إلى أن محل المنع، إذا كان الستر مستحبًا، أما إذا كان غير مستحب، وهو في الحالة التي تكون المصلحة في الشهادة عليه [بها] كما تقدم، فتسمع، والله أعلم.
قال: ومن شهد بالنكاح ذكر شروطه، أي: الذي تقدم ذكرها في الدعوى، إذا قلنا: إن ذكر الشروط واجب في الدعوى، لأن الناس مختلفون في ذلك، فقد يكون الشاهد لا يعتقد شيئًا شرطًا، فيجزم بالشهادة، بناء على اعتقاده، والقاضي يعتقد خلافه، فوجب البيان، لأجل ذلك، وعظم خطر النكاح.
[أما] إذا قلنا: لا يشترط ذكر الشروط في الدعوى، ففي ((النهاية)): أنه لا يحتاج إلى ذكرها في الشهادة- أيضًا- لأن الشهادة تبين الدعوى، فكانت على حسبها، كذا قاله في كتاب الدعاوى.
وعلى الأول هل يحتاج إلى ذكر الشروط في الشهادة على الإقرار بالنكاح؟ فيه وجهان.
قال: ومن شهد بالرضاع، شهد أنه ارتضع [من ثديها]، أو من لبن حلب منها، وذكر عدد الرضاع، ووقته، لاختلاف الناس في ذلك، فإن منهم من [يرى أن إيجار الصبي اللبن لا يحرم، ومنهم من يرى أن القليل يحرم ومنهم من] يرى أن وقوعه بعد الحولين يؤثر، فوجب ذكر صوره الحال، ليعلم القاضي فيه باجتهاده.
قال القاضي أبو الطيب: ويحتاج أن يقول: إنه ارتضع منها، أو أرضعته في الحولين، خمس رضعات متفرقات، في خمسة أوقات مختلفة.
قال ابن الصباغ: وفي قوله: ((متفرقات)) كفاية عن ذلك.
وقال الرافعي: إن في قوله: ((خمس رضعات)) كفاية عن ذكر التفرق، فإنه إذا لم يكن تفريق، لم يكن الحاصل رضعات بل رضعة طويلة. وما قاله فيه نظر، لأن المأخذ في الاشتراط- كما ذكرنا-[كون ذلك] مختلفًا فيه، والناس قد اختلفوا فيما لو انتقل من ثدي امرأة إلى ثدي أخرى في وقت واحد، هل ذلك رضعة، أو أكثر؟ وذكر التفريق ينفي هذا الاحتمال، فلذلك احتيج إليه.
وهل يشترط ذكر وصول اللبن إلى الجوف؟ فيه وجهان ادعى الإمام أنهما
مأخوذان من فحوى كلام الأئمة:
أحدهما: أنه لا يشترط، لأنه لا يشاهد، وهذا ما اقتضاه كلام الشيخ، وهو الذي يقتضي كلام الإمام ترجيحه.
وأظهرهما عند المتولي وغيره: الاشتراط، وبه قال الصيدلاني، وجزم ابن الصباغ وغيره، قياسًا على اشتراط ذكر الإيلاج في الشهادة بالزنى، وهكذا ظاهر النص في ((المختصر))، فإنه قال: وتوقف حتى تشهد أنه رضع المولود خمس رضعات كلهن إلى جوفه.
وعلى الأول لو استراب القاضي وجوز أن يكون الإرضاع غير مفض إلى وصول اللبن إلى الجوف المعتبر- فله أن يستفصل بلا خلاف.
نعم لو مات الشاهد قبل الاستفصال، فهل يجوز التوقف؟ قال الإمام: هذا هو الذي يظهر فيه تردد الأصحاب.
قلت: ويشهد لهذا التردد ما حكاه ابن أبي الدم: أن الشاهد إذا شهد بحق، وسأله الحاكم [عن] مستند شهادته، وكيفيتها، وهل يعرف المشهود عليه عينًا، أو اسمًا، أو نسبًا، أو يعرف مجموع ذلك، لكونه غير فقيه، أو توهم من الفقيه غفلة دلت عليها قرينة حاله، وارتاب الحاكم في ذلك، يجب على الشاهد تفصيل ما سأل عنه، فإن امتنع مع جهله توقف الحاكم في الإمضاء بشهادته، فلو مات الشاهد قبل التفصيل هل يتوقف؟ فيه خلاف، وسنذكر في الإقرار- إن شاء الله تعالى- تفصيلًا لم يذكره ابن أبي الدم هنا.
وهذا الذي ذكره الشيخ من التعرض لما ذكرناه لم يختلف الأصحاب فيه من العراقيين والمروازة، إذا وقعت الشهادة على فعل الرضاع، وقد صرح به الفوراني [وغيره].
أما إذا وقعت الشهادة بأن بينهما حرمة الرضاع، فقد قال ابن الصباغ: إن الحاكم لا يسمع هذه الشهادة، لما ذكرناه، بل لابد من ذكر الشرائط أيضًا.
وقال الفوراني وغيره: إنه لا يحتاج إلى ذكر الشرائط. ولأجل ذلك قال الرافعي: قد أطلق جماعة- منهم الإمام- أن الشهادة المطلقة على أن بينهما رضاعًا محرمًا، أو حرمة الرضاع، أو أخوته، أو بنوته- مقبولة، ويؤكده قول الغزالي:((ثم يشهد على البت: أن بينهما رضاعًا محرمًا)).
لكن الأكثرون على أنه لابد من التفصيل والتعرض للشرائط، وهو ظاهر النص.
وحكى في ((التهذيب)) الوجهين معًا، وقال: إن الصحيح اشتراط التفصيل.
قال الرافعي: ويحسن أن يقال: إن كان المطلق فقيهًا موثوقًا بمعرفته، فيقبل منه الإطلاق، وإلا فلابد من التفصيل، وينزل الكلامان على هاتين الحالتين، أو يخص الخلاف بما إذا لم يكن المطلق فقيهًا، وقد سبق مثله في الإخبار عن نجاسة الماء وغيره.
قلت: إن أراد بالفقيه فقهًا يوافق مذهبه مذهب القاضي في الرضاع فهو قريب، وقد ذكرنا مثله وجهًا ثالثًا فيما إذا شهد الشاهد بأن فلانًا يستحق على فلان كذا.
وإن أراد مطلق فقيه كيف كان، فلا يحسن التفصيل، لأن مادة الاشتراط اختلاف الناس في شرائطه، فقد يكون الفقيه والقاضي مختلفين فيها، فلا يحصل المقصود.
وإذا قلنا بما ذهب إليه الأكثرون فهل تسمع الشهادة على الإقرار بالرضاع مطلقة؟ فيه وجهان حكاهما المتولي وغيره.
ولو قال: هي أختي من الرضاع، فعن ((البحر)) وغيره: أنه لا حاجة إلى التعرض للشرائط إن كان من أهل الفقه، وإلا فوجهان.
وفرق بين الإقرار والشهادة بأن المقر يحتاط لنفسه، فلا يقر إلا عن تحقيق.
واعلم أنا إذا اشترطنا ذكر وصول اللبن إلى الجوف- كما هو ظاهر النص- فالشاهد قد يتيقين ذلك بأن يعاين الحلب وإيجار الصبي المحلوب وازدراده، وحينئذ يشهد به، ولا إشكال، وقد يشاهد القرائن الدالة عليه، وهي التقام الثدي من غير حائل- كما قاله المتولي- وامتصاصها، وحركة الحلق بالتجرع وبالازدراد بعد العلم بأنها ذات لبن، ومشاهدة هذه القرائن قد يفيد اليقين، فيشهد إذ ذاك به، وقد لا يفيده فيفيد الظن القوي، وذلك يجوز الشهادة- أيضًا- كما نقول في الشهادة بالملك المطلق، بناء على التصرف واليد والتسامع.
نعم: لو شاهد التقام الثدي والامتصاص، وهيئة الازدراد، ولم يعرف أن المرأة
ذات لبن- هل يحل له أن يشهد؟ فيه وجهان عن رواية أبي الفرج السرخسي، وأشبههما: المنع، لأن الأصل عدم اللبن.
ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يشهد على الرضاع مستندًا إلى رؤية أخذ المرأة الصبي وجعله تحت ثيابها، وأدنته منها، كما يفعل المراضع وإن سمع صوت الامتصاص، لأنه قد يمص أصبعه، قاله المتولي.
ولو حكى الشاهد صورة الحال المسموعة له، للجزم بالشهادة ولم يجزم بها، لم يترتب على حكايته حكم، إن كنا نعلم أنه لا مستند للشاهد سوى ذلك، لأن معاينة الأحوال تفيد ما لا يمكن أن يعبر عنه، فإذا جزم الشهادة دل على أثرها في الظن، بخلاف ما إذا ذكر الحال من غير جزم.
قال: ومن شهد بالقتل ذكر صفة القتل، لما ذكرناه في الدعوى [به].
قال: فإن قال: ضربه بالسيف، فمات، لم يحكم به، لأنه ليس كل مضروب بالسيف ينجرح به، وإن انجرح احتمل أن يموت بسبب آخر.
قال: حتى يقول: فمات منه، أو يقول: ضربه بالسيف فقتله، لأنه حينئذ ينتفي الاحتمال المذكور.
وفي ((النهاية)): أن في طريق العراق ما يدل على أنه إذا قال: ضربه بالسيف فمات، أن القتل يثبت، وقد أقام [في]((الوسيط)) ذلك وجهًا.
قال الإمام: وهذا إن لم يكن خلل من النسخة فهو خلل منهم ظاهر غير معتد به.
قال الرافعي: ويدل على الاختلاف أنك لا تجد في طريق [العراق] ذكر هذا الوجه.
ولو قال: ضربه بالسيف، فأنهر الدم، ومات مكانه- ثبت القتل، نص عليه في ((المختصر)).
قال الماوردي: فلو ادعى الجاني: أنه مات بسبب آخر ليس له تحليف الولي.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا بخلاف ما لو قال: ضربه بالسيف، فسال دمه، ومات مكانه، فإنه لا يثبت القتل.
والفرق: أن إنهار الدم سبب ظاهر في الإفضاء إلى الموت، بخلاف السيلان.
قال الرافعي: وفي لفظ الإمام ما يشعر بالنزاع فيما إذا قال: ضربه بالسيف، فأنهر الدم، ومات مكانه، [فإنه قال: لو ضربه بالسيف، وأنهر دمه، ومات مكانه] بتلك [الجراحة]، ثبت القتل، فاعتر أن يقول:((بتلك الجراحة)).
ويقوي النزاع أنه قال: الشاهد يعرف حصول القتل بقرائن يشاهدها تفيده العلم، فإذا حصل شهد به، فإن لم ير إلا الجراحة، وإنهار الدم، واتصال الموت به، فهذا عندي بمثابة الشهادة على الملك، تعويلًا على اليد، [بل الوجه عندي- وإن كانت مسألة الجرح في الصورة كمسألة اليد]- ألا يتحمل الشهادة على القتل، فإن معاينة القتل ممكنة، وتلقي العلم من قرائن الأحوال ليس يقينًا، والأملاك لا مستند لها، يعني: وغاية المتعلق بها مخايل علامات، على أن الرأي الظاهر: أن مجرد اليد لا يسلط على الشهادة بالملك ما لم ينضم إليها تصرف الملاك.
ولو قال: ضربه بالسيف، فأنهر دمه، ولم يشهد بموته، قال الماوردي: نظر [في موته]:
فإن كان بعد زمان لا يجوز أن تندمل فيه الجراحة، حكم على الجارح بالقتل، فإن ادعى أنه مات من غيرها، فله تحليف الولي.
وإن كان موته بعدها بزمان يجوز أن تندمل فيه الجراحة، حكم عليه بالجراحة، ولم يحكم عليه بالقتل، حتى يقيم وليه البينة: أنه لم يزل ضمنًا مريضًا حتى مات [فيحكم عليه حينئذ بالقتل.
قال القاضي أبو الطيب وغيره: ولو ادعى الجاني في هذه الحالة أنه مات] بسبب آخر، حلف الولي مع شهادتهما: أنه مات منها، لأنه الشهود شهدوا على الألم، ولم يشهدوا على الموت منه فيمينه لا تنافي شهادتهما، لجواز أن يكون ما ادعاه صحيحًا.
وهكذا الحكم- كما قال القاضي أبو الطيب وغيره- في الشهادة على ما دون النفس إذا قال: أشهد أنه ضربه بالسيف على رأسه عمدًا، واتضح أو فاتضح، أو قال: وجدناه متضحًا- لم تسمع، لأنه يجوز أن يكون ضربه ووجده متضحًا من شيء آخر، بل إنما تسمع إذا قال ضربه بالسيف فأوضحه، أو فاتضح من ضربه، أو وجدناه متضحًا من ضربه، وحينئذٍ يقال للشاهد: عين الموضع المتضح، وبين الطول والعرض، فإن بين ذلك مع آخر، ثبت القصاص، أو الدية عند تعذر القصاص.
وإن لم يعيناها، نظر:
فإن لم يكن على رأسه غير موضحة واحدة، فالحكم كما لو عينا، قاله الماوردي.
وفي ((الرافعي)): أنه لا يثبت القصاص في هذه الحالة، لاحتمال أنه كانت على رأسه موضحة صغيرة، ووسعها، وإنما يجب القصاص إذا قالوا: أوضح هذه الموضحة.
وحكى في إيجاب الأرش وجهين.
وإن كان في رأسه موضحة أخرى فأكثر، حكم للمجني عليه بالدية دون القصاص، أي: إذا عجز الشاهدان عن تعيينها، قاله الماوردي، وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب وغيره، واختار الشيخ أبو محمد، وصححه الرافعي، وحكى وجهًا آخر: أنه لا يجب، وهو ما أورده الفوراني وحكاه الإمام عن اختيار القاضي الحسين، لأن هذه الجراحة لو ثبتت صفتها لوجب القصاص، وقد تعذر إثبات القصاص، فلا تثبت الجناية أصلًا، كما لو شهد رجل وامرأتان على موضحة لا يثبت الأرش كما لا يثبت القصاص.
والقائلون بالأول فرقوا بأن القصاص إنما لم يثبت، لتعذر رعاية المماثلة- فإن المحل مقصود فيها- لا لنقص في البينة، فإن الشاهد بها رجال، بخلاف صورة الاستشهاد.
وقد أيد بنص الشافعي في ((الأم)) على أنه لو شهد شاهدان أن فلانًا قطع يد فلان، ولم يعينا، والمشهود له مقطوع اليدين- لا يجب القصاص، وتجب الدية.
قال الرافعي: ولو كان مقطوع يد واحدة- والصورة هذه- فهل تنزل شهادتهم على ما تشاهد مقطوعة، أو يشترط تنصيصهم؟ يجوز أن يقدر فيه خلاف، والذي حكاه الماوردي الأول.
وقد اعتبر القاضي الحسين، وتبعه الإمام والغزالي في شهادة بالموضحة التعرض لوضوح العظم، [من حيث إن لفظ ((الموضحة)) مأخوذ من ((الإيضاح))، وليس فيها تعرض لإيضاح العظم]، والمطلوب إثبات العظم، وتنزيل لفظ الشاهد على الألقاب التي اصطلح عليها الفقهاء لا وجه له.
نعم، قد يخطر للفطن في هذا المقام: أن الشاهد لو كان فقيهًا وقد علم القاضي منه ذلك، وتبين له أنه لا يطلق الموضحة إلا على ما يوضح العظم فهذا موضع التردد، فيجوز أن يكتفي به، لفهم المقصود، ويجوز أن يقال: لابد من كشف الأمر لفظًا، فإن للشرع تعبدات في ألفاظ الشهادات وإن كان العلم قد يحصل بغيرها.
قال: وإن شهد بالزنى- ذكر الزاني- أي: من رجل وامرأة- لاحتمال أن يكون قد جهل إباحة أحدهما للآخر، لزوجية، أو ملك، فأقدم على الشهادة بذلك، أو رآه يطأ جارية ابنه، أو جارية مشتركة بينه وبين غيره، فظن أن ذلك مما يوجب الحد عليهما.
قال: وكيف زنى بها، لأنه ربما رآه قد وطئ فيما دون الفرج، أو عانق، أو قبل، أو لمس باليد، أو نظر بالعين، فاعتقد ذلك زنى يوجب الحد، لأنه روى أنه صلى الله عليه وسلم قال:((العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والفرج يصدق ذلك ويكذبه))، وقد شهد لاعتبار ذكر كيفية الزنى قصة المغيرة، فيحتاج الشاهد به أن يقول: أدخل ذكره، أو غيب حشفته في فرجها، فإن قال مع ذلك: مثل المردود في المكحلة، والخاتم في الإصبع أو الفم، أو الرشاء في البئر- كان آكد، كذا قاله القاضي أبو الطيب.
وقال القاضي الحسين في باب حد الزنى: وقد قيل: إن [ذكر] التشبيه بما ذكرناه واجب، لأنه لما غلظ بالعدد غلظ بالتشبيه، ليكون أبلغ، فلو ترك ذلك لم يجب الحد، وهذا ظاهر نصه في ((المختصر))، فإنه قال: ولا يجوز على الزنى
واللواط، وإتيان البائهم إلا أربعة يقولون: رأينا ذلك منه يدخل في ذلك منها دخول المردود في المكحلة، ويعضده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز حين قال: جامعتها: ((أولجت ذكرك في فرجها كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر؟)) قال: نعم، فأمر برجمه.
وإذا كان هذا في الإقرار ففي الشهادة أولى، لأن الشهادة بينة من غيره.
قال: وفي أي موضع زنى [بها]، لأن الشهود ربما اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: في هذه الزاوية، وقال الآخر: في زاوية أخرى، فيسقط الحد، ومن هنا نأخذ أنه يذكر في أي وقت زنى، وقد اعتبره القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، وجعلوا ما يصرح به شاهد الزنى أربعة أشياء، هي ما ذكره الشيخ مع هذه، والشيخ في اقتصاره على الثلاثة متبع للشيخ أبي حامد، فإنه لم يذكر سواها كما حكاه في ((البحر)).
وحكى الماوردي ذلك لا عنه، ثم قال: وعلى قياس سؤالهم عن المكان يجب سؤالهم عن زمانه، وليس إطلاق هذا القول عندي صحيح، والواجب أن ينظر: فإن صرح بعض الشهود بذكر الزمان والمكان، وجب سؤال الباقين عنه.
وإن لم يصرح بعضهم به، لم يسألوا عنه، لأنه لو وجب سؤالهم عن المكان والزمان، لوجب سؤالهم عن ثيابه وثيابها، وعن لون المزني بها من بياض أو سواد، وعن سنها من صغر أو كبر، وعن قدها من طول أو قصر، لأن اختلافهم فيه موجب لاختلاف الشهادة، وهذا يؤدي إلى ما لا يتناهى، فهو غير معتبر في السؤال فكذلك في المكان والزمان.
وفي ((البحر)) في الفروع المذكورة قبل كتاب الشهادات ما يقتضي شرطًا آخر في الشهادة بالزنى، وهو تقدم لفظة ((أشهد)) على قوله:((إنه زنى))، فلو قدم لفظ الزنى على لفظه ((أشهد)) لم تسمع شهادته، لأنه يصير متهمًا في دفع حد القذف عن نفسه.
قال: ويحتمل أن يقال: لا فرق بين تقديم قوله: ((أشهد)) وبين أن يقدم الزنى، ويعقبه بقوله:((أشهد به))، لأن الكلمة واحدة عند الوصل، ولهذا قوله:((لا إله إلا الله)) توحيد
وإن كان لو اقتصر على أوله يكون كفرًا، ويصح ((تعليق)) الأيمان بالصفة والاستثناء، ولا يقال: إنه متهم بوصل الصفة والاستثناء.
قال: فإن لم يبين الشاهد ذلك سأله الحاكم [عنه]، أي: وجوبًا، كما صرح به [القاضي] أبو الطيب، فإن به يندفع المحذور من إقامة الحد، وتبرئة العرض.
ولأن الحد يسقط بالشبهة فلا يجوز إيجابه بمطلق الشهادة، لاحتمال شبهة فيها.
قال في ((البحر)): فإن لم يبينوا حدوا بالقذف، لأنهم قذفة، ولم يصرحوا بالشهادة حتى يندفع حكم القذف، نص عليه الشافعي في ((الأم)).
وإن ذكروا ما ليس بزنى، قال الماوردي: فلا يحد المشهود [عليه]، وهل يحدون؟ ينظر: إن صرحوا في أول الشهادة بأنه زنى، حدوا قولًا واحدًا، [وإلا فلا يحدون قولًا واحدًا].
ولو فسر ثلاثة منهم الشهادة بما هو زنى، وفسر الرابع بما ليس بزنى، ففي حد الثلاثة القولان، والرابع إن قال في أول شهادته: إنه زنى حد قولًا واحدًا، وإلا فلا يحد قولًا واحدًا.؟
فرع: من شهد بالسرقة يحتاج في صحته شهادته أن يذكر جنس المال، وقدر النصاب، وصفة الحرز، وتسمية المسروق منه، كما قاله في ((التهذيب)).
قال القاضي أبو الطيب: ويذكر: أنه لا يعلم [أن] فيه شبهة له.
قال البن الصباغ: وينبغي أن يكون هذا تأكيدًا، لأن الأصل عدم الشبهة.
قال القاضي الحسين: ويحتاج أن يقول: هذا بعينه سرق، لأن الظاهر من مذهب الشافعي أن البينة لا تسمع على الغائب في حدود الله تعالى، وهذا منه يفهمك أمرين:
أحدهما: أن هذا مطرد في جميع الحدود.
الثاني: أنه لو قال: فلان بن فلان الفلاني سرق، وكان حاضرًا مجلس الحكم
من غير أن يشير إليه، وعرفه القاضي بتلك النسبة- سمعت شهادته، لفقد العلة التي ذكرها، وسنذكر ما ينازع فيه.
فوائد:
أحداها: هل تسمع البينة بالمجهول، ثم يطالب الشاهد بالبيان كما يطالب المقر بالمجهول به، أم لا، لأنها مأخوذة من البيان؟ فيه وجهان في ((الشامل))، و ((المهذب)) في كتاب الإقرار، وجزم ابن الصباغ بقبول الشهادة على الإقرار بالمجهول.
وقد حكيت عن القاضي الحسين في أوائل باب الدعاوى حكاية وجهين في سماع الشهادة على الإقرار بالمجهول، وبذلك يجتمع في المسألتين ثلاثة أوجه، ثالثها: تسمع على الإقرار بالمجهول، ولا تسمع بالشهادة بالمجهول.
الفائدة الثانية: هل تسمع الشهادة على حاضر من غير إشارة إليه؟
قال أبو إسحاق المروزي: نعم. وهذا موافق لما أفهمه كلام القاضي الحسين الذي حكيته من قبل.
وقال غيره من أصحابنا: لا، إذا أمكنت الإشارة إليه. صرح به القاضي أبو الطيب عند الكلام في شهادة الأعمى، وعلى هذا لا تسمع الشهادة على الحاضر بالسرقة من طريق الأولى.
الفائدة الثالثة: يشترط في صحة الشهادة أن يأتي الشاهد بلفظة: ((أشهد)) عند الأداء، فلو قال:((أعلم))، أو:((أتحقق))، ونحو ذلك- لم يقم مقام قوله:((أشهد)) على الأصح تعبدًا كما تعبدنا بالعدد، وهذا ما جزم به الماوردي في [باب] ما على القاضي [في] الخصوم، وصاحب ((البحر)) في الفروع المذكورة قبل كتاب الشهادات.
وفي ((النهاية)) في كتاب الإقرار حكاية وجه أن ذلك يقوم مقام قوله: ((أشهد))، وضعفه.
الفائدة الرابعة: يشترط أن يؤدي كل شاهد ما تحمله من الشهادة مصرحًا به في لفظه حتى لو شهد شهادة صحيحة، فقال الشاهد الآخر: أشهد بمثل ما
شهد به هذا الشاهد، لم تصح شهادته، قاله الماوردي في أوائل باب ما على القاضي في الخصوم. ووجهه بأنه موضع أداء، وليس موضع حكاية، وبهذا يظهر لك أنه لا فرق عنده بين أن يقول:(([أشهد] بمثل ذلك))، [أو]((أشهد بذلك))، وإن كان العمل في وقتنا على الثاني.
الفائدة الخامسة: يستحب للشاهد استئذان الحاكم قبل الأداء، ليصغى إليه، فإن الشهادة عنده وهو غافل لا أثر لها، وقد اعتبر أبو عاصم العبادي الاستئذان فقال: لو شهد قبل [الاستئذان لا يعتد بشهادته قال القاضي أبو سعد: ولا وجه له، نعم لو أقام الشاهد الشهادة] قبل الإذن من القاضي، وذكر أنه لم يسمع الشهادة، بل كان ذاهل العقل عنها، فتلك الشهادة باطلة.
قال: وتجوز الشهادة [على الشهادة] في حقوق الآدميين، أي: التي لا تثبت إلا بشاهدين، أو بشاهد وامرأتين، أو بأربع نسوة، لقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وقوله تعالى: {وَلَا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا
…
} [البقرة:282]، ولم يفرق بين أن تكون الشهادة أو غيرها من الحقوق، فهو على عمومة.
ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك، فإن شهود الواقعة قد يغيبون، أو يموتون.
ولأن الشهادة من حقوق الآدميين اللازمة للأداء، وحقوق الآدميين تثبت تارة بالإقرار، وتارة بالشهادة، والشهادة على الإقرار مقبولة، فكذلك على الشهادة.
قال: وفي حدود الله تعالى قولان:
أصحهما: أنه يجوز، لأنها من الحقوق التي تثبت بالشهادة، ويجب استيفاؤها إذ ذاك، فجاز أن تثبت بالشهادة على الشهادة كغيرها من الحقوق، وهذا ما [قال] البندنيجي والإمام: إنه أقيس.
ومقابله: [أنه] لا يجوز، لأمرين:
أحدهما: أنها تدرأ بالشبهات.
والثاني: أنه مندوب إلى سترها، لقوله- لقوله- عليه الصلاة والسلام:((من أصاب من هذه القاذورات شيئًا، فليستتر بستر الله، فإن من يبد لنا صفحته نقم عليه حد الله تعالى)).
وإذا كان كذلك لم يكن بنا حاجة إلى سماع الشهادة فيها، وهذا ما صححه البغوي، والرافعي، والنواوي، واختاره في ((المرشد))، و [قد] قيل بطرده في القصاص وحد القذف، نظرًا إلى العلة الأولى، فإن هذه أيضًا تسقط بالشبهات، قاله الماوردي وغيره، ونسبه البغوي إلى تخريج ابن الحداد، وهو ضعيف باتفاق الكل، ومما استدل به على ضعفه: أن الشافعي نص- كما حكاه الإمام وغيره- على السماع في القصاص.
واقتصر في ((الإشراف)) عل حكاية هذه الطريقة الضعيفة، فقال: في جواز الشهادة على الشهادة في العقوبات قولان، سواء كانت لله تعالى أو للآدميين.
ولا يجري [القول] الثاني جزمًا- كما قاله ابن الصباغ- في الشهادة على الشهادة في استيفاء القاضي الحد، لأنها شهادة بحق آدمي، وهو [سقوط الحد عنه].
والقولان في الأصل جاريان في جواز كتاب القاضي إلى القاضي كما تقدم، وصرح به هنا القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم.
وقال ابن القاص: إنهما جريان في الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي: أن يطرد الوجه المذكور في القصاص، وحد القذف في الشهادة على الشهادة في كتاب القاضي إلى القاضي، وقد صرح به الغزالي تبعًا لإمامه، وقال: على هذا لا معنى للدعوى على الغائب بالقصاص. وفيه نظر، لأنه قد يبغي إثباته، ليستوفي
منه عند حضوره، خشية من موت [شهود] الأصل أو غيبتهم.
تبنيه: عدول الشيخ عن قوله: ((وفي حقوق الله تعالى قولان)) إلى ما ذكره يعرفك أنهما لا يجريان في حقوق الله تعالى المالية: كالزكاة، والكفارة، وكذلك الوقف على الجهات العامة، والمساجد، بل تجوز الشهادة على الشهادة فيها وجهًا واحدًا، كما صرح به غيره.
فرع: هل يجب على شاهد الأصل أن يشهد على شهادته إذا طولب بذلك؟ أطلق الماوردي القول بعدم الوجوب، ووجهه بأن شاهد الأصل إن كان قادرًا على الأداء فالتحمل موجب لأدائها عند الحكام، إذ هو المقصود منه، وليس بموجب للإشهاد عليها، فلم يلزمه غير المقصود بتحملها.
وإن كان عاجزًا عن الأداء فكما ذكرناه.
ولأن الشهادة [على الشهادة] لا تسقط عنه فرض أدائها، فلم يلزمه بالتحمل فرضان.
ولأن المقر لما لم يلزمه الإشهاد على إقراره، كان الشاهد بالتحمل أولى ألا يلزمه الإشهاد على شهادته.
واختار لنفسه أن وجوب الإشهاد يعتبر بالحق المشهود به، فإن كان مما ينتقل إلى الأعقاب: كالوقف المؤبد، لزمه الإشهاد، وكذلك الإجارة المعقودة إلى مدة لا يعيش إلى انقضائها في الغالب بمثابة المنتقل في وجوب الإشهاد على شهادته، وكذلك الديون المؤجلة بالأجل البعيد.
وقال في ((المرشد)): لا يجب على شاهد الأصل أن يشهد على شهادته إلا أن يخاف ضياع الحق المشهود به.
وقال في ((الانتصار)): عندي أن يختلف باختلاف حال الشاهد، فإن كان في مرض مخوف، أو يريد الجهاد ونحو ذلك، وجب.
وقال الشاشي: عندي أنه لو بنى هذا على وجوب الإشهاد على الحاكم فيما حكم به وكتبه المحضر، كان أشبه.
قلت: وفيما ذكره نظر، لأنه جمع في كلامه بين الإشهاد على القاضي وكتبة
المحضر، والإشهاد على القاضي واجب بلا خلاف، والكتبة تقدم الخلاف [فيها]، فاقتضى كلامه أن يكون الإشهاد على شهادته واجبًا بلا خلاف في وجوبه خلاف، وهذا تناقض بين.
ثم لو سلم من ذلك لما كان التشبيه بكتب المحضر مناسبًا أصلًا.
وفي التشبيه بإشهاد القاضي نظر، لأن إشهاد القاضي يفيد أمرًا زائدًا على البينة، ولا كذلك الشهادة على الشهادة، والله أعلم.
قال: ولا يجوز أن يتحمل الشهادة على الشهادة، أي: إذا سمع الشاهد شاهدًا يقول في سوق أو طريق، [ونحو ذلك]-: أشهد أن لفلان [على فلان] كذا- لم يجز أن يجعل مستنده في التحمل ذلك، لأنه يحتمل [أن يكون] قد تساهل بذلك، أو قاله وعدًا وعد به، فلا يكون حقًا واجبًا، فلم يجز أن يشهد عليه به، ومن طريق الأولى لا يجوز أن يتحمل عليه إذا سمعه [يقول]: لفلان [على فلان] كذا، من غير لفظ الشهادة.
قال: إلا أن يسترعيه الشاهد بأن يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهد على شهادتي بذلك، لأنه إذا قال ذلك انتفى الاحتمال المذكور.
واعتبر في ((التهذيب)) أن يشهد عنده، وعليه ينطبق ما سنذكره عن الإمام.
[والاسترعاء]: هو قوله: ((فاشهد على شهادتي بذلك)). قال الإمام: وهو ((استفعال)) من ((الرعاية)).
وقال النواوي: إنه مأخوذ من ((الرعية)) أو ((المراعاة))، كأنه يقول للمتحمل: أقبل على رعاية شهادتي، وتحملها.
واعتبار نطق شاهد الأصل بلفظ الشهادة عند استرعاء شاهد الفرع مفرع على المذهب في أن لفظ الشهادة متعين في الأداء للحاكم كما تقدم.
أما إذا قلنا: لا يتعين، ويقوم ما في معناه مقامه، فهو هنا أولى، وقد صرح به الإمام.
وفي معنى ما ذكره الشيخ قول شاهد الأصل: إني شاهد بكذا، وأشهدتك على شهادتي، أو يقول: إذا استشهدت على شهادتي فقد أذنت لك في أن تشهد.
قال البغوي حكاية عن القفال: وكذا لو قال: أشهدتك على شهادتي أن فلانًا أقر لفلان بكذا، أو قال: أشهد على شهادتي أن لفلان على فلان كذا- جاز.
ولو قال: أشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهد أنت بها- لم يكن استرعاء، حكاه الماوردي وابن الصباغ عن نصفه في ((الأم)).
وما ذكرناه من اعتبار الاسترعاء يخالف الإقرار حيث قلنا: إن المذهب الذي نص عليه الشافعي: أنه يجوز لمن سمع شخصًا يقر لآخر بحق أن يشهد عليه من غير استرعاء خلافًا لأبي إسحاق.
وفرق الأصحاب بينهما فريقين:
[أحدهما:] أن الشهادة على المقر شهادة على [عين] من عليه الحق، فإقراره بالحق يقتضي أن يكون عليه فإن لم يكن عليه، فهو المفرط، ومن عليه
الحق هنا لا تفريط من جهته، والشاهد قد يتساهل، فلا يكون تقصيره سببًا لإضرار غيره.
والثاني: أن الإقرار إخبار، وشروط الشهادة أغلظ من شروط الخبر، ولذلك [يعتبر] رجوع الشاهد، ولا يعتبر رجوع المقر.
وفي ((تعليق)) أبي الطيب و ((والشامل)) حكاية وجه [آخر]، نسبه الماوردي إلى البصريين: أنه لا يصح التحمل بقوله: ((فاشهد على شهادتي بذلك))، ما لم يقل:((وعن شهادتي))، ليكون إذنًا له في التحمل بقوله في التحمل بقوله:((على شهادتي))، [والأداء بقوله:((وعن شهادتي)).
والأصح في ((الشامل)) وغيره: الأول، وهو قول البغداديين.
ونسب الفوراني ذلك الوجه إلى بعض العلماء، واقتصر على حكاية مقابله عن المذهب.
قال: أو يسمع رجلًا يشهد عند الحاكم بحق، أو يسمع رجلًا يشهد على رجل بحق مضاف إلى سبب به الحق: كالبيع، والقرض، لأن ما ذكرناه من الاحتمال منتف هاهنا.
وفي معنى الشهادة عند الحاكم الشهادة عند المحكم.
قال في ((التهذيب)) - وتبعه الرافعي-: سواء جوزنا التحكيم، أو لم نجوزه، لأنه لا يشهد عند المحكم والقاضي إلا وهو جازم بالقول المشهود به.
وعن الإصطخري: أنه إنما يتحمل عند سماع الشهادة عند المحكم إذا جوزنا التحكيم، وهو ما أورده في ((الإشراف)).
ومن طريق الأولى جواز الشهادة للحاكم والمحكم على شهادة من شهد عنده إذا لم يتفق حكمه بذلك.
وألحق ابن القاص بلك ما إذا سمع الشاهد يحمل شاهدًا يصح تحمله على شهادته، مسترعيًا له، فقال: يجوز للسامع التحمل، لأن القصد معرفة عدم التساهل، وهو حاصل هنا، وبهذا يكمل سبعة مواضع يجوز للشاهد أن يشهد فيها على الشهادة.
وفي ((الحاوي)): أن بعض أصحابنا البصريين قال: لا يتحمل في صورة الإقرار، مع ذرك سبب الشغل [إلا] بالاسترعاء، وقد حكاه الإمام عن الأكثرين، ورآه الأظهر.
وروى الشيخ أبو حاتم القزويني وجهًا مثله في أنه لا يتحمل على ما رآه يشهد عند القاضي [إلا] بالاسترعاء. والمشهور الأول.
قال القاضي الحسين: وكذا يجوز للشخص أن يتحمل الشهادة على القاضي إذا قال في [مجلس حكمه]: قضيت بذلك وإن لم يسترعه.
قال: ولا تجوز الشهادة على الشهادة إلا أن يتعذر حضور شهود الأصل.
وجه المنع في حالة عدم التعذر: أن الأقوى في باب الشهادة لا يترك مع إمكانه، كما تقدم دليله، وشهادة الأصل أقوى من شهادة الفرع، لوجهين:
أحدهما: أنها تثبت نفس الحق، وشهادة الفرع إنما تثبت شهادة الأصل.
والثاني: أن احتمال الخطأ والخلل يكثر في شهادة الفرع، ويخالف الوكالة، [حيث يجوز تصرف] الوكيل مع حضور الموكل، لأنه قد يعجز عن تحصيل مقصوده، بخلاف شاهد الأصل، فإنه قادر على تحصيل المقصود.
ويفارق الرواية، لأن بابها أوسع، بدليل عدم اعتبار العدد فيها، وقبولها من العبد، والمرأة.
ووجه الجواز عند التعذر: دعاء الحاجة إليه، وهو الذي لأجله سوغت الشهادة على الشهادة كما تقدم.
قال: بالموت أو المرض، أي: الذي يجوز ترك الجمعة، لا ما يمنع الحضور، كما قاله الإمام، أو الغيبة إلى مسافة تقصر فيها الصلاة.
أما حصول التعذر بالموت فظاهر، وهو الغاية القصوى، ولهذا قال الشعبي: إنه لا يسمع شهادة الفرع إلا عند موت شاهد الأصل.
وحكى ابن يونس هذا المذهب عن المسعودي من أصحابنا، ولم أره في غيره.
وأما حصوله بالمرض الذي وصفناه، وبالغيبة في المسافة المذكورة، فلأن الأصل لو طلب للأداء فيهما لم يجب عليه الحضور، وذلك موجب للتعذر، ومنه
يظهر لك أن خوف الأصل من سلطان جائر ونحوه، واتصافه بعذر يسوغ له ترك الجمعة [ملحق بذلك، كما صرح به الأصحاب].
قال الرافعي: وهذا في الأعذار الخاصة دون العامة التي تشمل الأصل والفرع: كالمطر، والوحل الشديد.
قال الأصحاب: وتسمع شهادة الفرع إذا شهد بعجز شاهد الأصل عن الحضور، أو على قول الأصل: إن عاجز عن الحضور.
واعلم أن ما ذكره الشيخ من اعتبار مسافة القصر ليس منقولًا عن الشافعي، فإنه لا نص له في المسألة كما قاله البندنيجي والروياني، وإنما هو من تخريج القاضي أبو الطيب من نص الشافعي على أن ولي المرأة إذا كان غائبًا فيما دون ما تقصر فيه الصلاة، لم يجز لأحد تزويجها، وإن كان في موضع مسيرته أكثر مما تقصر فيه الصلاة، [جاز] للحاكم تزويجها، وقد حكاه القاضي الحسين وغيره [من المراوزة] وجهًا، حيث قالوا: إن كانت الغيبة في مسافة القصر سمعت شهادة الفرع.
ولفظه في ((الوجيز)): فوق مسافة القصر.
قال الرافعي: ولا حاجة إلى لفظة: ((فوق))، بل المعتبر مسافة القصر فما فوقها.
قلت: والغزالي في لك متبع للشافعي كما دل عليه النص السابق في غيبة الولي، ومراده مسافة القصر، قال الله تعالى:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال:12]، أي: اضربوا الأعناق، وقال تعال:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء:11]، أي: اثنتين فما فوقهما.
قالوا: وإن كانت الغيبة في مسافة العدوى- وهي التي إذا خرج من بيته لأداء الشهادة مبتكرًا يرجع إلى أهله قبل الليل- فلا تسمع.
وإن كانت دون مسافة القصر وفوق مسافة العدوى، كما إذا أدركه الليل قبل عوده إلى منزله- فوجهان.
وأجروا ذلك [كله] في تزويج المرأة في غيبة الولي الأقرب، وفي الاستعداد، وفي كتاب القاضي [إلى القاضي][و] في وجوب الحضور للأداء على الشاهد إذا كان في مثل تلك المسافة، ومنه تخرج في مسألتنا وجه: أنه لا تسمع شهادة الفرع إلا في مسافة القصر كما ذكره الشيخ، وقد حكى عن ابن القطان- أيضًا- لكن في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب وغيره من كتب العراقيين: أن أصحابنا اعتبروا في المسافة أن يكون في موضع يشق عليه الحضور إلى مجلس الحكم، لتعب يلحقه، ولا يلزمه الحضور.
وفي ((الشامل)) نسبة هذا القول للشيخ أبي حامد، [و] قال الماوردي: إنه [الظاهر من] مذهب الشافعي.
قال الرافعي: وهذا يجوز أن يحمل على المشقة اللاحقة بالمجيء مما فوق مسافة العدوى، ويجوز أن يجعل أعم من ذلك، وإلى المحمل الأول ميل ابن الصباغ.
قلت: ابن الصباغ لم يمل إلى الأول، وإنما المائل إليه الشيخ أبو حامد، لأن ابن الصباغ حكى أن يوسف اعتبر في هذه الغيبة ما فوق مسافة العدوة، ثم حكى عن الشيخ أبي حامد ما حكيناه عنه، وأنه قال: وهذا قريب مما قاله أبو يوسف، وكلام البندنيجي [مصرح] بالحمل الأول، فإنه قال:[قال] أصحابنا: المشقة كما قال أبو يوسف، لكن كلام الماوردي يميل إلى المحمل الثاني، لأن المأخذ في التعذر كما ذكرنا عدم إيجاب الحضور إلى الأداء على شاهد الأصل، وقد ذكرنا عن الماوردي أن الشاهد إذا دعي للأداء خارج البلد لا يلزمه
الإجابة، سواء قربت المسافة أو بعدت، وسواء كان ذا مركوب أو لم يكن، لأن مفارقة وطنه مشقة يسقط معها فرض الإجابة.
قلت: ويظهر أن يقال: إن الاعتبار في هذه المسألة بالمسافة التي لا يلزم الحضور منها إلى الجمعة على من هو خارج البلد، وهي التي لا يسمع منها النداء في الموضع الذي تقام فيه الجمعة بالشرائط المذكورة، لأن عدم إيجاب الحضور إلى الجمعة في هذه الحالة لأجل المشقة اللاحقة به، والأصحاب قد جعلوا المرض المانع من إيجاب الجمعة مجوزًا لسماع شاهد الفرع هنا، وكذا الأعذار المسوغة لترك الجمعة، فكذلك ينبغي أن تراعي المشقة التي تسقط بها الجمعة عند الخروج عن البلد هاهنا أيضًا.
وعلى كل حال فالأظهر هاهنا اعتبار ما فوق مسافة العدوى، لا مسافة القصر، وهو الذي اختاره النواوي، تبعًا للرافعي والروياني وغيرهما.
وإن كان الأظهر في تزويج مولية الغائب عندهم اعتبار مسافة القصر في الغيبة، وفرقوا بأن الولي إذا زوج لم يحتج إلى الحضور، بل يوكل، والشاهد يحتاج إلى الحضور.
وأيضًا: فإن الخصم قد يهرب فيفوت الحق، والنكاح لا يفوت غالبًا بهذا القدر من التأخير، ووراء ما ذكرناه وجه آخر محكي عن أبي الطيب بن سلمة: أنه يقبل شهادة الفرع وإن لم يتعذر حضور شهادة الأصل بما ذكرناه.
وقال ابن أبي الدم: إنه من تخريج صاحب ((التلخيص))، وإليه ذهب القفال الشاشي.
قلت: ويظهر أن يكون بناء على الوجه الذي حكيناه عن القاضي أبي حامد: أنه لا يجب على الشاهد الحضور عند القاضي للأداء، بل إذا اتفق اجتماعهما لزمه أن يؤدي، ثم ما ذكرناه [هاهنا في المسافة] يظهر جريان مثله في كتاب القاضي إلى القاضي، فإن الأصحاب متفقون على أنهما سواء حتى قال القاضي أبو الطيب [وابن الصباغ] وغيرهما: كل موقع قلنا: إن الحكم بالشهادة على
الشهادة جائز، قلنا: الحكم بكتاب القاضي إلى القاضي جائز، وكل موقع قلنا: إن الحكم بالشهادة على الشهادة لا يجوز، لم يجز الحكم بكتاب القاضي إلى القاضي، والله أعلم.
قال: وإذا أراد أن يؤدي الشهادة على الشهادة، فإن [كان قد] تحمل بالاسترعاء، قال: أشهد أن فلان بن فلان-[أي: وقد عرفته باسمه ونسبه، كما قاله ابن الصباغ]- يشهد على فلان بن فلان [بكذا]، وأشهدني على شهادته بذلك.
وإن رآه يشهد عند الحاكم [بحق]، قال: أشهد أن فلان [بن فلان] يشهد بكذا عند الحاكمز
وإن رآه يشهد بحق مضاف إلى سبب، ذكر نحو ما ذكرناه، أي: فيقول: أشهد أن فلان بن فلان يشهد على فلان بن فلان بكذا من ثمن مبيع أو قرض، ونحو ذلك، على نحو ما سمع.
وكذا يحكي صورة الحال في باقي المواضع، ليكون مؤديًا لها على الوجه الذي تحملها، فيعرف الحاكم صحتها من فسادها.
ولفظ الإمام في الصورة الأولى: أن يقول: أشهاد أن فلانًا شهد عندي أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته، وأذن لي أن أشهد إذا استشهدت، وأنا الآن أشهد على شهادته.
وهذا ذكره على الوجه التام الذي لا خلاف فيه، وما ذكره الشيخ بناء على ما حكاه أولًا من مذهب البغداديين، وهو الأصح.
قال الأصحاب: وكذا إذا تحمل الشهادة على مقر إن كان تحمله بالاسترعاء، قال في شهادته: أشهد أنه أقر عندي، وأشهدني على نفسه.
ووجوب قوله: وأشهدني على نفسه، مفرع على مذهب أبي إسحاق كما تقدمن وإلا فلو اقتصر على قوله: أقر عندي، كفى على المذهب كما تقدم.
وإن كان تحمله لكونه رآه يتعاطى سبب الشغل من بيع، أو إتلاف، ونحوهما، ذكره.
وإن كان تحمله على الإقرار من غير استرعاء ولا حضور عنده، قال في شهادته: أشهد أني سمعته يقر بكذا، ولا يقولك أقر عندي، ليكون الحاكم هو المجتهد دون الشاهد.
فإن أراد الشاهد أن يجتهد رأيه في صحة الإقرار وفساده، لم يجز، وكان الحاكم أحق بهذا الاجتهاد.
وأن أراد أن يجتهد رأيه في لزوم الأداء وسقوطه عنه، فوجهان في الحاوي.
فرع: إذا لم يبين الشهاد كيفة التحمل، سأله الحاكم، فإن [كان فقيهًا]، قال الغزالي: يكفيه أن يقول: أشهد على شهادته، وله الإصرار عليه، [ولا يلزمه] بيانه.
وفي ((الحاوي)) ما يقتضي خلافه، فإنه عدد أداء الشهادة على الصفة التي تحملها شرطًا، وقال: لو قال شاهد الفرع: أشهد على فلان بكذا، لم يجز، لأن الحق على المقر لا على الشاهد.
قال: ولا تقبل الشهادة [على الشهادة] من النساء، أي: في الموضع الذي تقبل شهادتهن فيه أصلًا، لأن المقصود بشهادة الفرع إثبات شهادة الأصل، لا أصل الحق، وذلك ليس بمال، ولا يئول إلى المال، ويطلع عليه الرجال، فلم تسمع فيه شهادة النسوة، كالنكاح.
وفي رواية العمراني حكاية وجه عن رواية الطبري: أنها تقبل، و [هو] في ((البحر)) - أيضًا- وقال: إنه ليس بشيء.
وعن ابن كج حكايته في الولادة.
والمشهور- ما ذكره الشيخ، ومنه يظهر لك أنه لو أقام شاهدًا فرعًا على واحد، وأراد أن يحلف معه- لا تثبت شهادته، لأن ما لم تقبل شهادة النسوة، لا يثبت بالشاهد واليمين. نعم، لو أقام شاهدين على أصل، وأراد أن يحلف معهما فيما ثبت بالشاهد واليمين- صح.
قال: ولا تثبت شهادة كل واحد من شاهدي الأصل إلا بشاهدين، لما ذكرناه في عدم سماع شهادة النسوة.
وحكى ابن أبي الدم: أن الشيخ أبا محمد حكى في ((السلسلة)) قولًا قديمًا للشافعي: أنها تثبت بشهادة فرع واحد، كالحر.
قال: ولم أر لغيره حكايته، فلا يعتد [به].
قال: فإن شهد اثنان على أحد الشاهدين، ثم شهدا على الآخر- ففيه قولان:
أحدهما: يجوز، لأنها شهاة على شخصين، فجاز أن يجتمعا عليهما في حقين، كما لو شهدا على مقرين.
قال الرافعي: وهذا ما اختاره العراقيون، وهو كذلك، لأن البندنيجي، والروياني صححاه، واختاره في ((المرشد)).
والثاني: لا يجوز، لأنهما قاما مقام أحد الشاهدين، فلو قاما مقام الآخر أشبه ما لو شهد الواحد على الحق مرتين، وهذا ما اختاره المزني، وصححه القاضي الحسينن والسرخسي، والنواوي، وقال البغوي: إنه الجديد.
وفي ((الحاوي)): أن القولين ينبنيان على أن الحق يثبت بشهود الأصل، أو بشهود الفرع؟ وفيه قولان:
أحدهما: يثبت بشهود الأصل، ويتحمله عنهم شهود الفرع، وهذا ما صححه القاضي الحسين، فعلى هذا: يصح أن يشهد شاهد الفرع عن كل واحد من شاهدي الأصل.
قلت: ولا تثبت شهادة الأصل بشهادة النسوة أيضًا، كما تقدم.
والقول الثاني: أن الحق يثبت بشهود الفرع، وهم متحملون للشهادة عن شهود الأصل، لجواز شهاداتهم بعد موت شهود الأصل، فعلى هذا لا يجوز أن
يشهد الفرع الواحد عن أصلين.
قلت: ويظهر بناء الوجه الصائر إلى سماع شهادة النسوة فيه عليه.
قال الماوردي: وقد عكس أبو حامد الإسفراييني ذلك، فجعل ثبوت الحق بشهود الأصل مانعًا من أن يشهد شاهد الفرع على كل واحد من شاهدي الأصل، وعليه جرى الشيخ أبو علي والبندنيجي، واستدل للقول بأن الحكم بشهود الأصل: بأن شهادة شهود الفرع تسمع على التضاد، فيجوز أن يشهد شاهدان على زيد بأن الدار لبكر، وعلى عمرو بأن الدار لخالد، ولو كان الحكم [بشهود الفرع] لما ساغ ذلك.
التفريع:
إن قلنا بالأول، فلو كان المشهود به قصاصًا ونكاحًا ونحوهما- كفى شاهدان.
وعلى الثاني لابد من أربعة، [وعلى هذا: لو شهد أربعة] على كل من شاهدي الأصل فوجهان:
أصحهما في ((الوسيط)): الجواز.
وقال الإمام: إنه [الذي] لا يجوز غيره، لأنه قد شهد اثنان على شهادة زيد، واثنان على شهادة عمرو، ولا [يضر] تعرض شاهدي زيد لشهادة عمرو، [و] بالعكس.
ولو كان المشهود به مما يثبت بشاهد وامرأتين: كالأموال، والأصل شاهد وامرأتان، فعلى الأول: يكفي شاهدان يشهدان على الرجل، وعلى كل من المرأتين. وعلى الثاني: لابد من ستة.
ولو كان مما يثبت بأربع نسوة: كالرضاع، فعلى الأول، يكفي شاهدان يشهدان على كل امرأة منهن، وعلى الثاني: لابد من ثمانية.
قال الرافعي: وعلى الوجه الذي حكاه ابن كج في أن شهادة النسوة [على
شهادة النسوة] مقبولة فيما تقبل فيه شهادتهن، يجئ هاهنا وجهان:
أحدهما: يكفي شهادة أربع، بناء على القول الأول.
والثاني: لابد من ستة عشر، فيشهد كل أربع منهن على امرأة، وهذا بناء على القول الثاني.
ولو كان مما لا يثبت إلا بأربعة من الرجال: كفعل الزنى، إذا قلنا: إنه يثبت بالشهادة [على الشهادة]، فعلى الأول هل يكفي شاهدان أم لابد من أربعة؟ فيه قولان ينبنيان على أن الإقرار بالزنى، هل يثبت باثنين أم لابد من أربعة؟ وفيه قولان.
ووجه الشبه: أنهم لا يشهدون على فعل الزنى، بل على قول بينته، فإن قلنا: يثبت الإقرار [باثنين]، كفى هاهنا اثنان يشهدان على كل واحد من الأربعة. وإن قلنا: لا يثبت الإقرار إلا بأربعة، فكذا هنا لابد من أربعة يشهدون على كل واحد من شهود [الأصل].
وعلى القول الثاني فيما يكتفي به قولان ينبنيان- أيضًا- على أن الإقرار بالزنى يثبت باثنين أم لابد من أربعة؟ فإن قلنا: يثبت باثنين كفى هنا ثمانية يشهد كل اثنين على واحد، وإن قلنا: لا يثبت إلا بأربعة فلابد من ستة عشر كل أربعة منهم على واحد من شهود الأصل.
وإذا جمعت ذلك، حصل [لك] في المسالة أربعة أقوال:
يكفي شاهدان.
يكفي أربعة.
يكفي ثمانية.
لابد من ستة عشر.
ولو شهد على شهادة الفروع فروع في القصاص ونحوه، فعلى الأول يكفي اثنان، وعلى الثاني لابد من [أن] يشهد على كل فرع من الفروع الأربعة فرعان، فيجتمع ثمانية، وعلى هذا فقس.
قال: ولا يحكم بالشهادة على الشهادة حتى تثبت عنده عدالة شهود الأصل والفرع، لأن عدالة الشهود شرط في الحكم، فلو كان شهود الفرع ثابتي التزكية عنده، وزكوا شهود الأصل- قبلت تزكيتهم، وقيل: ذلك شرط في الحكم بشهادة الفرع، حكاه البغوي، وعلى هذا لا تسمع شهادة الابنين على شهادة أبيهما إذا منعنا تزكية الأب لابنه، أما إذا قلنا بالمذهب، فالمذهب سماع شهادتهما على شهادته إذا كان معروف العدالة من غيرهما.
وفي ((البحر)) في الفروع المذكورة قبل كتاب الشهادات احتمال في عدم السماع، لأنهما قد يعلمان جرحه ويكتمانه، ولا يقال: إن هذا موجود فيما لو شهد الأب والابن بحق، [ومع هذا تسمع] شهادتهما، لأن أحدهما لو جرح الآخر والصورة هذه وعدله شخصان عمل بشهادتهم، بخلاف شاهد الفرع إذا جرح شاهد الأصل، فإنه لا يعمل بشهادته وإن عدله سائر الناس.
وقيل: لا يجوز لشاهد الفرع تزكية شاهد الأصل كما لا يجوز لأحد شاهدي الأصل تزكية الأصل الآخر من غيره، وهذا من تخريج القفال، ونقل عنه أنه خرج من هنا إلى ثم وجهًا آخر. أنه تسمع تزكية أحد الأصلين للآخر، وجعل في المسألتين وجهين، والمشهور الفرق.
وقد فهم ابن أبي الدم من إيراد القاضي الحسين ما ذكرناه حكاية عن القفال أن الوجهين يجريان في أن الأب والابن إذا شهدا بحق هل تسمع شهادتهما أم لا؟ وليس الأمر كذلك، وهذا يفهمه من طالع كلامه، والله أعلم.
تنبيهان:
أحدهما: ما المراد باعتبار عدالة شهود الأصل والفرع، هل حالة الأداء، أو حالة التحمل، أو في الحالتين، أو فيهما وما بينهما؟
المشهور: أنه لابد من اعتبار ذلك [فيهما] حالة أداء شهود الأصل، وهو المفهوم من قوة كلام الشيخ: أنه أراده.
وفي كلام القاضي الحسين ما يفهم أنه لا يعتبر عدالة شهود الأصل عند أداء الفرع كما سنذكره.
والمشهور: أنه لا يعتبر عدالة شهود الفرع حالة التحمل كما لا يعتبر ذلك فيما إذا أراد أن يتحمل على المقر نفسه، وتعتبر في شهود الأصل حالة تحمل شهود الفرع حتى لو كان الأصل إذ ذاك فاسقًا لا يصح التحمل لأن شهود الفرع يشهدون عند التقاضي: أشهدنا فلان بن فلان فإذا كان شهود الأصل فسقة، فلا يعتمد على قولهم، فلا يصح التحمل، كما لو شهدوا عند التقاضي وكانوا فسقة لا تقبل شهادتهم، وهذا مما خلاف فيه.
وعن [القاضي] الحسين في اعتبار عدالة شهود الفرع عند التحمل احتمال، لأن هذه ولاية، وقد حكاه ابن أبي الدم وجهًأ عن رواية الشيخ أبي علي، وفائدته: أنه لو حسن حالهم عند الأداء، لم تقبل، والمشهور اعتبار استمرار شهادة شاهد الأصل على العدالة إلى ما بعد الحكم بشاهد الفرع، بناء على أن شاهد الأصل إذا كان عدلًا في حالة التحمل، ثم فسق، ثم حسن حاله- لا يجوز لشاهد الفرع الأداء ما لم يجدد الشهادة على الأصل، كما هو الصحيح، وينسب إلى ابن سريج، ولم يحك في ((الإشراف)) غيره.
وقد حكى الرافعي أن في ((الجرجانيات)) لأبي العباس الروياني تفريعًا على هذا: أن شاهد الفرع يحتاج أن يقول- على وجه-: أشهدني على شهادته وكان عدلًا إلى اليوم، أو: إلى أن مات، إن كان قد مات.
أما إذا قلنا: لا يحتاج شاهد الفرع بعد توبة شاهد الأصل إلى تجديد التحمل- كما حكاه الإمام وجهً، وقال: أنه لا يعتد به وإن كان قضية إيراد ((التهذيب)) كما قال الرافعي: اختياره- فلا يعتبر في شاهد الأصل الاستمرار على العدالة، كما لا يعتبر استمرار شهود الفرع عليها.
التنبيه الثاني: في قوله: ((حتى تثبت عنده عدالة شهود الأصل)) ما يعرف أنه لابد من تسمية شهود الأصل حتى لو قال شاهد الفرع: أشهدني عدل رضي مقبول الشهادة لي على كذا، لم تصح هذه الشهادة، كما صرح به العراقيون، والمروازة، خلافًا لمحمد بن جرير الطبري المقول فيه: إنه من أصحابنا كما تقدم، لأنه قد يكون عدلًا عند الفرع، وفاسقًا عند غيره، فيصير مجهول الحال عند الحاكم، وهذا بخلاف الشهادة عند حاكم، لم يصرح الشاهد بتسميته على أحد
الوجهين، لأن الحاكم عدل بالنسبة إلى كل أحد، بخلاف شاهد الأصل.
قال: وإن شهد شهود الفرع، ثم حضر شهود الأصل [قبل أن يحكم]- لم يحكم حتى يسمع من شهود الأصل، كما لو وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة.
قال الإمام: ولا يكفيه تصديق شهود الفرع بل لابد من إنشاء الشهادة من الأصل.
وحكم [برء] شاهد الأصل قبل الحكم حكم قدومه.
ومن طريق الأولى إذا رجع شهود الأصل عند الشهادة [قبل الحكم]، أو قالوا: ما أشهدنا شهود الفرع- لا يحكم بشهادة الفرع، بخلاف ما لو كان ذلك بعد الحكم، فإنه لا يؤثر.
وفي ((تعليق)) القاضي الحسين إبداء احتمال أقامه وجهًا فيما إذا حضر شهود الأصل قبل الحكم: أنه يقضي بشهادة الفروع، ولا يؤثر حضور شهود الأصل كما لو حضروا بعد الحكم، والمشهور الأول.
فإن قلت: حضور شهود الأصل كاف في عدم قبول شهادة الفرع، فما فائدة تكذيبهم لشهود الفرع؟
قيل: فائدته أن شاهد الأصل لو غاب بعد ذلك، أو مرض لا تسمع شهادة [شاهد] الفرع عليه، لأن بتكذيبه بطلت شهادته، بخلاف حضوره، فإنه لا يبطل الشهادة، ولكن يمنعها، حتى لو غاب شاهد الأصل بعد ذلك، أو عجز عن الحضور عند الحاكم، وأعاد شاهد الفرع الشهادة- قبلت، وحكم بها.
ويقوم مقام تكذيب شهود الأصل للفروع شهادة شاهدين عليهم بذلك قبل الحكم.
ولو شهد بعد الحكم أن شهود الأصل كذبوا شهود الفرع قبل الحكم، نقض الحكم قولًا واحدًا.
قال الإمام: ولنا قولان فيما إذا قضى القاضي بشهادة شاهدين، ثم قامت بينة على فسقهما حالة الحكم، هل ينقض ذلك الحكم أم لا؟ وقد يعسر الفرق بينهما.
فروع:
أحدهما: إذا طرأ على شهود الأصل ما يمنع من قبول شهادتهم قبل الحكم بشهادة الفرع، فهل يؤثر؟ قال الأصحاب: ينظر:
فإن كان الطارئ موتًا، أو مرضًا أو غيبة، لم يؤثر، بل هو المراد بالتحمل وإن [كان] فسقًا أو عداوة أو ردة، منع.
قال الإمام: لأن هذه أمور لا تهجم دفعة واحدة، بل الفسق يورث الريبة فيما تقدم، والردة تشعر بخبث في العقيدة سابق، والعداوة لضغائن كانت مستكنة، وليس لمدة ((من قبل)) ضبط، فينعطف إلى حالة التحمل.
وللقاضي الحسين احتمال في طرآن الفسق [والردة]، لأنه قال: لو كان شهود الأصل عدولًا حالة التحمل للفرعيين، ثم طرأ عليهم فسق، أو ردة فالظاهر من المذهب أن ذلك يوقع ريبة في شهادة الفرع.
وللإمام احتمال في عدم إلحاق الردة بالفسق، مأخذه ما ذكرناه في باب حد القذف: أن طرآن الردة على المقذوف لا يقدح في الإحصان السابق، على النص، بخلاف طرآن الزنى، فإنه يقدح على النص.
ولو كان الطارئ جنونًا، أو عمى، فثلاثة أوجه، جمعها الإمام من كلام شيخه والصيدلاني:
أحدها: أنه لا يؤثر كالموت، وهذا ما قال الإمام: إنه المذهب، وإنه الذي يجب القطع به، وما عداه تخيط في المذهب، ولأجل ذلك صححه الغزالي وغيره، ولم يحك البندنيجي وكذا البغوي عن شيخه غيره، وهو المذكور الإشراف، وألحق الخرس بالجنون.
والثاني: أنه يؤثر، إذ بطلت أهليتهما، لقبول شهادتهما، وإنما استثنى الموت، للضرورة.
والثالث: أن الجنون يمنع، بخلاف العمى، فإن الأعمى أهل، وإنما امتنع عليه التعيين، ولهذا لا يحكم ببطلان ما أداه قبل العمى إذ حصل العمى قبل الحكم بشهادته.
ثم إذا قلنا: تبطل، فلو زال المانع بأن أبصر الأعمى، وأفاق المجنون، قال ابن أبي الدم: فالمذهب: [أنه] لابد من إعادة التحمل، ومن أصحابنا من قال: لا يحتاج إلى الإعادة، قال في ((الوسيط)): وهذا أقيس، والأول أشهر.
والإغماء لا يؤثر في الغيبة، وفي الحضور ينتظر زواله، فلا يسلط شاهد الفرع على الشهادة.
قلت: ولو قيل: إنه يسلك بالشهادة على شهادته مسلك تزويج موليته كما ذكرناه في النكاح- لم يبعد، بل أولى، لما عرفت من الفرق بينهما.
الفرع الثاني: إذا قال شاهد الأصل لشاهدي الفرع: نسيت أني أشهدتكما على شهادتي على زيد بكذا، وأنا ذاكر لشهادتي على زيد به، فقال الفرعان: نحن ذاكران أنك أشهدتنا- قال ابن أبي الدم: فالذي وقع لي: أن شهادة الفرعين لا [تجوز إلا] أن يجدد التحمل، ثم رأيته كذلك في كتب الأصول.
الفرع الثالث: إذا حمل شهود الأصل شهود الفرع الشهادة على رجل لا يعلم الفروع اسمه ولا نسبه، جاز ولهم أن يشهدوا على عينه، وكذا على نسبه إن تعرفوا ونسبه بعد ذلك.
ولو كان الفروع لا يعرفون عين المشهود له، وتحملوا الشهادة له على نسبه، جاز.
قال القاضي الحسين، والفوراني: وكل ما جاءه، وادعى: إن فلان بن فلان، فعليه أن يؤدي الشهادة له، ثم ينظر: فإن أقر الخصمان بأنه هو فذاك، وإن تناكرا، فعلى المدعي إقامة البينة على اسمه ونسبه، فإن قامت بينة بذلك، حكم له.
في ((فتاوى)) القاضي: أنه لو أقر رجل، فقال: لفلان بن فلان علي كذا، وأشهد عليه شاهدين، فجاء رجل، وقال: أنا فلان بن فلان الذي أقر لي بالحق عندكما، فاشهدا لي- فليس لهما أن يشهدا حتى يعرفا أنه هو المقر [له]، فلو أقام الرجل بينة عند القاضي أنه فلان بن فلان حينئذ يشهدان له به، وهذا مناقض لما تقدم، فليكن في المسألتين جوابان، والله أعلم.
الفرع الرابع: إذا شهد [أصل] وشهد مع فرع على أصل [آخر]، لا يثبت
بشهادته شهادة ذلك الأصل، لأنه حينئذ يكون قد قام بثلاثة أرباع الشهادة والشهادة لا يثبت بشهادته أكثر من شطرها.
وقد نجز شرح مسائل الباب، فلنختمه بفرع يتعلق به، وهو أن الشاهد هل يجوز له أن يشهد باستحقاق زيد على عمرو درهمًا مثلا إذا عرف سبب شغل ذمته به أم لا؟
قال ابن أبي الدم في موضع من أدب القضاء له: فيه وجهان مشاعان في لسان أئمة المذهب، والمشهور فيما بينهم: أنها لا تسمع.
قال: وهذا لم أظفر به منقولًا مصرحًا به هكذا، غير أن الذي تلقيته من كلام المروازة، وفهمته من مدارج مباحثاتهم المذهبية، أن الشاهد ليس له أن يرتب الأحكام على أسبابها، بل وظيفته نقل ما سمعه من إقرار، أو عقد تبايع، وغير ذلك، أو شاهده من غصب، أو إتلاف، ونحو ذلك، ثم الحاكم ينظر فيما نقله الشاهد إليه، فإن كان سببًا صالحًا عنده، رتب عليه موجبه، وإن لم يره سببًا صالحًا، وهو مجتهد فيه، لم يعمل به، والسبب في ذلك أن الأسباب الملزمة متنوعة، مختلف فيها، فقد يظن الشاهد شيئًا سببًا، وليس هو سببًا عند أحد من الأئمة، أو عند الحاكم فقط، فكلف الشاهد نقل ما سمع أو رآه، لينظر الحاكم فيه.
والذي رأيته منقولًا ما حكاه الماوردي في مسألة رهن الشيء بدين، ثم رهنه بدين آخر عند المرتهن، مسألة الخلاف المشهور، وهو أنه إذا أقر الراهن والمرتهن عند شاهدين أن العبد رهن بألفين، نظر: إن قيدا إقرارهما بشرح أراد الشاهدان ألا يذكرا شرح الإقرار، بل يشهدان أن العبد رهن بالألفين- قال: فإن كان الشاهدان من غير أهل الاجتهاد، [لم يجز، ووجب عليهما شرح حال الإقرار.
وإن كان من أهل الاجتهاد] فهل يجوز لهما أن يجتهدا في الإقرار، ويؤديا الشهادة عند الحاكم على ما يصح في اجتهادهما؟ فيه وجهان:
الأصح: أنه لا يجوز لهما ذلك، وعليهما نقل الإقرار إلى الحاكم مشروحًا
على صورته، وهكذا القول في كل شهادة طريقها الاجتهاد.
وإن كان إقرار المتراهنين مطلقًا بأن أقرا عندهما أن هذا العبد رهن بألفين مطلقًا، ولم يقيدا، لكن علم الشاهدان أن الذي وقع في الباطن هو رهن العبد أولًا على دين، ثم على دين آخر، فهل يجوز لهما، أو يجب عليهما أن يشهدا بالإقرار المطلق، وليس عليهما الإخبار بما علماه في الباطن؟ فيه وجهان، أصحهما: أن عليهما أن يشهدا بالإقرار المطلق، وعليهما- أيضًا – أن يشهدا بما علماه في الباطن.
وهكذا القول في كل ما علمه الشاهد مع ما تحمه إلا أن يكون ما علمه ينافي ما تحمله، أو يعتقد أنه منافٍ لما تحمله، فيلزمه الإخبار بما تحمله.
وهذا كله مبني على الوجهين في اختصاص الشاهد.
هذا كله كلام الماوردي، وملخصه أن العامي لا يجوز له إطلاق الشهادة المقيدة باجتهاده، وهل يجوز للشاهد المجتهد؟ فيه خلاف فيما طريقه الاجتهاد.
ومفهوم هذا: أن السبب إذا كان مجتمعًا عليه، جاز أن يشهد بالاستحقاق.
والذي أراه ألا يسمع هذا من الشاهد، وعليه بيان السبب كيف كان، سدًا لباب الاحتمال، ونفيًا للريب، كما فعلنا ذلك في شهادة النفي المحصور المضاف إلى زمن مخصوص محصور، فإن الشهادة مما ينبغي أن يحتاط لها.
وقال قبل ذلك بثلاث ورقات، أو أقل، أو أكثر: إن الشاهد لو قال: أشهد أن هذا يستحق في ذمة هذا درهمًا، هل تسمع هذه الشهادة؟ فيه ثلاثة أوجه حكيناها [عنه من قبل]:
المذهب أنها تسمع، ويعمل بها.
والثاني: لا تسمع، لأن هذا من وظيفة الحاكم.
والثالث: إن كان الشاهد متمذهبًا بمذهب القاضي سمعت، وإلا فلا. انتهى. وقد يظن من رأى كلامه في الموضعين أنه متناقض، وهو مما لا شك فيه، نعم: كلام الماوردي مع هذا [لا تناقض فيه]، لأن ذلك محمول على جواز الإقدام للشاهد، وهذا في جواز الحكم بتلك الشهادة، والله أعلم.