الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: العوامل الضرورية لحفظ كتاب الله
أولا: الاستعداد الشخصي والعمر المناسب
…
المبحث الثاني: العوامل الضرورية لحفظ كتاب الله
ثمة عوامل مختلفة، تتآزر في أصولها، وتتداخل في أهدافها وتحقق مجتمعة الحفظ الأمثل لكتاب الله.
ولقد بدا لي ـ من أجل البحث العلمي ـ تصنيف هذه العوامل حسب أهميتها ودورها إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول "العوامل الضرورية" التي من شأنها تدقيق المادة المحفوظة على مستوى جيد إن تضافرت مجتمعة، وتحقيق الحفظ بمستوى أدنى إلى تخلف بعضها.
الصنف الثاني "الوسائل الأساسية" وهي التي يستحيل حفظ القرآن بغيرها.. حفظا متقنا يمكن أداؤه على مستوى مقبول، في أي وقت، دون جهد أو عناء.
الصنف الثالث "العوامل الثانوية" وهي وإن كانت تسهم في "الحفظ" إلا أنها تعين على "التذكر" للمحفوظ بشكل فعّال.
وعلى ضوء هذا التقسيم، ندخل إلى صميم الموضوع:
العوامل الضرورية لحفظ القرآن الكريم
أولا: الاستعداد الشخصي والعمر المناسب:
أـ الاستعداد الشخصي:
تقرر الدراسات التربوية الحديثة أن ثمة صفات شخصية لها دور فعّال في عملية الإنجاز أيا كان، دراسة واستيعابا، أو حفظا واستذكارا.
وهي الصفات هي:
1ـ الرغبة desire
2ـ والتطلع expectation.
3ـ والاهتمام interest.
وإذا اجتمعت هذه الصفات في الطالب أوجدت لديه التركيز الذي يأتي تلقائيا، ومن ثم لا يجد صعوبة كبيرة في الإنجاز.
ومن هنا يعلل علماء النفس تذكر الإنسان الأشياء التي
تهمه، ونسيانه ما ليس كذلك1.
وعلى ضوء هذه المنطلقات التربوية النفيسة يقوم التخطيط والتربوي أثناء وضع المناهج الدراسية الملائمة لميول الطلاب وأعمارهم واتجاهات بيئتهم.
وإذا كان المسلم في غير مجال القرآن الكريم قد تتوفر لديه كل أو بعض هذه الصفات، إلا أنه في مجال القرآن الكريم حفظا ودراسة وتلاوة وتدبرا، تتدافع في حسه الكامن هذه الصفات بصورة لا تتوفر عند غير المسلمين.
فمن من المسلمين لا يرغب أو لا يهتم بحفظ كتاب الله؟؟!
ومن منهم لا يتطلع إلى أن يكون له الإلمام اليسير فضلا عن الباع الطويل في دراسة القرآن الكريم؟! وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وهو حبل الله الممدود إلى الأرض من تمسك به فاز ونجا..
على أن منهج العبادة في الإسلام ـ ومنه حفظ القرآن ـ يقوم فوق ذلك على أساس "الإخلاص" لله وحده، وتنهار العبادة تماما إذا داخلها شيء من الرياء أو الشرك.
1 المدخل إلى علم النفس: ص 240و 257.
ولذا يجاء بالرجل يوم القيامة الذي تعلم القرآن وعلمه وقرأ القرآن، فيعرفه الله نعمه فيعرفها، فيقول له: فما عملت بها؟ فيقول: تعلمت فيك وعلّمته، وقرأت فيك القرآن. فيقول له: كذبت. ولكن تعلمت ليقال هو عالم فقد قيل، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم يؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار1.
ومن هنا ينفرد المسلم الحق بعنصر "الإخلاص" لله وحده وهو أساس قبول العمل الصالح.
بيد أن حفظ القرآن الكريم أمر غير متيسر لكل أحد، فقد تكون لدى الإنسان الرغبة في ذلك، ويحفزه الاهتمام، ويدفعه التطلع إلى ما أعده الله من دار الكرامة لمن حفظ كتابه وعمل به، وفوق ذلك يتوفر لديه الإخلاص، والبعد عن الرياء..لكن عامل السن قد لا يساعده، فلنتحدث برهة عن هذا العامل الهام..
ب ـ العمر المناسب:
بادئ ذي بدء لست ممن يحصر إمكان حفظ القرآن في سن الطفولة أو الشباب أو ما بين السنة السابعة إلى الخامسة عشرة
1 رواه مسلم، والنسائي في فضائل القرآن، ص112، الحديث 108.
باعتبارها سن "تقبل" المعلومات والمحفوظات في يسر وسهولة..فجل الصحابة الذين اشتهروا بقراءة القرآن وإقرائه وإتقانه لم يحفظوه في طفولتهم..بل لم يسلم أكثرهم إلا وقد جاوز سن الطفولة أو المراهقة.
ومع هذا كان "إسلامهم" هو الدافع إلى الاهتمام بالقرآن وحفظه والعمل به، وبرعوا في ذلك على مثال لا نظير له..
وما من شك أن عهد الصبا عهد "الحفظ" وقديما قالت العرب: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر.. والأطفال إلى سن دون المراهقة أو بعدها بقليل هم "المادة" الأساسية الأولى لحفظ القرآن الكريم ويتلخص سبب ذلك علميا في أن الأطفال يتمتعون بالتذكر الآلي roie memory بصورة خاصة وهذا يفسر لنا قدرة الأطفال على استرجاع الأناشيد دون أي فهم للمعنى..وعندما ينمو الطفل عقليا وتكون مادة الحفظ في مستوى إدراكه يفضل التذكر القائم على الفهم1.
يقول أبو حامد الغزالي: "الصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة، خالية عن كل نقش وصورة، وهو
1 علم النفس د. مصطفى فهمي، ص277، ط، مكتبة الخانجي بمصر.
قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عوّد الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عوّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك..ومهما أهمل في ابتداء نشئوه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذابا حسودا سروقا نماما لحوحا، ذا فضول وضحك وكياد ومجانة، وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب"1.
ويقول العلامة ابن الجوزي: "
…
أما تدبير العلم فينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل بالقرآن والفقه وسماع الحديث، وليحصل له المحفوظات أكثر من المسموعات لأن زمان الحفظ إلى خمس عشرة سنة، فإذا بلغ تشتت همته
…
وأول ما ينبغي أن يكلف حفظ القرآن متقنا، فإنه يثبت ويختلط باللحم والدم! "2.
وفي البخاري: باب تعليم الصغار
…
في كتاب فضائل القرآن، والمقرر في واضع المشاهدة والتجربة أن الحفظ في عهد الصبا هو الأكثر دقة والأسرع تذكرا والأعمق انطباعا والأدوم وقتا..
1 إحياء علوم الدين8/130ـ131 ط: الأولى1395هـ.
2 صيد الخاطر، ص 234، ط لبنان.
وإذا كان بعض الفقهاء كره للطفل أن يحفظ القرآن الكريم كما هو المأثور عن النخعي وسعيد بن جبير فذلك لسبب ذكروه وهو خشية الملال له أو قبل تعلقه وإدراكه الواعي.
لقد اشتهر من الصحابة من كان يحفظ القرآن في صباه كابن عباس إذ يقول: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم "أي المفصل"1.
وجمهور الفقهاء على جواز تحفيظ القرآن للأطفال؛ لأنه ادعى إلى ثبوته ورسوخه عندهم، قال ابن جبير؛ يترك الصبي مرفها أولا، ثم يؤخذ بالتدريج، قال ابن حجر: والحق أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص2.
وهذا الأسلوب الحكيم وهو "التدرج" يفقده بعض الآباء والمعلمين الذي يأخذون الطفل بالزجر والعنف غير المحمود، فتنشأ لديه ما يسمى بالعقدة النفسية ولا ترتاح نفسه لتلاوة كتاب الله أو الدراسة أيا كانت بوجه عام.
قال السيوطي رحمه الله: "ثم ظهرت لذلك حكمة في
1 رواه البخاري4/1922 فضائل القرآن، باب تعليم الصبيان القرآن.
2 فتح الباري9/83.