المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أما بعد: فإني قد ترددت كثيرًا في كتابة هذا الموضوع - كيف تخشعين في الصلاة

[رقية المحارب]

الفصل: أما بعد: فإني قد ترددت كثيرًا في كتابة هذا الموضوع

أما بعد: فإني قد ترددت كثيرًا في كتابة هذا الموضوع وذلك خشية أن يظن بي ما ليس فيَّ من الخشوع، ولكن لما رأيت كثيرًا من النساء لا يحسنَّ الصلاة اجتهدت في إلقاء محاضرة في جمع كثير من النساء. وبينت فيها كيفية الخشوع في الصلاة، وكيف تستطيع المسلمة أن تنال هذه الصفة التي لا يمتاز بها إلا المؤمنون المفلحون كما قال تعالى:(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون: 1 - 2] ، وقد نالت هذه المحاضرة - بحمد الله - إعجاب الكثيرات حيث وقعت منهن موقع الماء العذب الزلال من العطشان في الصيف الحار.

وطالبني كثير ممن لم يحضرن بإعادة هذه لمحاضرة لّما بلغهن استفادة من حضر، وتمكنهن من الخشوع بعد تطبيق ما ذكرتُ، واعتذرتُ لهن من الإعادة خشية السآمة ووعدتهن خيرًا.

وقد عنَّ لي الآن أن أكتب المحاضرة التي ألقيتها، لتكون الفائدة أعمَّ بحيث يبلغ الكتاب ما لم يبلغ الخطاب.

وأنا في هذا كلَّه استعين بالله، وأتوكل عليه وأسأله التوفيق والسداد لما فيه الخير والرشاد.

رقية

‌فضل الخشوع

إن الله_ سبحانه_ قد امتدح الخاشعين في مواضع كثيرة من كتابه فقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون: 1 - 2] .

وقال: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ)[البقرة:45] .

وقال: (خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[آل عمران:199] .

وقال: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء:90] .

وقال: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)[الإسراء:109] .

ص: 2

وامتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم الخشوع وبين فضل البكاء من خشية الله فقال: " لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم "(1) .

وقال: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله

وذكر منهم: ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " (2) . وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء" (3) .

وغيرها من الأحاديث كثير. وأصل الخشوع كما قال ابن رجب: " لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء لأنها تابعة له"(4) .

والخشوع: خمود نيران الشهوة، وسكون دخان الصدور، وإشراق نور التعظيم في القلب، واستحضار عظمة الله وهيبته وجلاله.

قال الجنيد: الخشوع تذلُّل القلوب لعلام الغيوب.

والقلب أمير البدن، فإذا خشعَ القلب، خشع السمع والبصر والوجه وسائر الأعضاء وما ينشأ عنها، حتى الكلام.

الخشوع يقظة دائمة لخلَجَات القلب وخفقاته ولفتاته حتى لا يتبلد، وحذَرٌ من هواجسه ووساوسه، واحتياط من سهواته وغفلاته ودفعاته، خشية أن يزيغ وتعتريه القسوة.

(1) رواه الترمذي في كتاب الجهاد / باب ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله.

(2)

متفق عليه. رواه البخاري في أبواب الصلاة / باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، ومسلم في الزكاة / باب فضل إخفاء الصدقة.

(3)

الحديث أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب البكاء في الصلاة والترمذي في كتاب الشمائل المحمدية / باب ما جاء في بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(4)

الخشوع في الصلاة / ابن رجب ص 17 مكتبة الحرمين.

ص: 3

والخشوعُ عِلمٌ نافع يباشر القلب، فيوجب له السكينة والخشية، والإخبات والتواضعَ والانكسارَ لله، وكل أولئك رشْحٌ من فيْض الخشوع (1) .

والخشوع أولُ علم يُرفع من بين هذه الأمة:

عن شداد بن أوس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما يرفع من الناس: الخشوع)(2) .

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول شيءٍ يُرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعًا)(3) .

وقال حذيفة رضي الله عنه: "أول ما تفقدون من دينكم: الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم: الصلاة"

ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه وأطرافه، مع فراغ قلبه من الخشوع وخلوه منه - كان ذلك خشوع نفاق، وهو الذي كان السلف يستعيذون منه.

قال حذيفة رضي الله عنه: " إياكم وخشوع النفاق، فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع "

ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا طأطأ رقبته في الصلاة، فقال:"يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب "

(1) ينظر رسالة: الخشوع وأثره في بناء الأمة. لسليم بن عيد الهلالة- دار ابن الجوزي. والخشوع في الصلاة، لابن رجب الحنبلي. تعليق: علي عبد الحميد - طبع: دار عمار.

(2)

صحيح: أخرجه الطبراني في الكبير، والبخاري في خلق أفعال العباد، والنسائي في الكبرى، والبيهقي في المدخل، والحاكم وابن حبان، والبزار والخطيب في اقتضاء العلم العمل، والطبراني في الأوائل، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(3)

صحيح: رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم 543، وصحيح الجامع رقم 2569.

ص: 4

ورأت عائشة رضي الله عنها شبابا يمشون ويتماوتون في مشيتهم، فقالت لأصحابها:" من هؤلاء؟ فقالوا: نساك، فقالت: كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقا "

وقال الفضيل بن عياض: "كان يكره أن يري الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه "(1) .

والخشوع يحصل بمعرفة الله -سبحانه- بأسمائه وصفاته. فإذا أدرك العبد عظمة الله وكبرياءه وقوته- سبحانه - واستقرت هذه المعرفة في قلبه فإنّ ذلك يظهر عليه في سلوكه وأقواله.

ولما كان العبد يتقلب في ملك الله ويرى آياته لا تنقطع.

أصابه التبلد والفتور فاحتاج من يوقظه كل حين، والصلاة خير موقظ فهي توقظه خمس مرات في اليوم والليلة.

والقلوب تتفاوت في الخشوع بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وبحسب تفاوت مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع؛ فمِنْ خاشع لقوة مطالعته لقرب الله من عبده، واطلاعه على سرِّه وضميره، المقتضي للاستحياء من الله تعالى ومراقبته في الحركات والسكنات. ومن خاشع لمطالعته لكماله وجماله، المقتضي للاستغراق في محبته، والشوق إلى لقائه ورؤيته. ومن خاشع لمطالعة شدة بطشه وانتقامه وعقابه، المقتضي للخوف منه.

وهو سبحانه جابر المنكسرة قلوبهم من أجله، وهو سبحانه وتعالى يتقرب ممن يناجيه في الصلاة ويعفر وجهه في التراب بالسجود، كما يتقرَّب من عباده الداعين له، السائلين له، المستغفرين من ذنوبهم بالأسحار، ويجيب دعاءهم، ويعطيهم سؤالهم، ولا جبرَ لانكسار العبد أعظم من القرب والإجابة. (2)

والخشوع يتأتى للقلب غالبًا إذا بذل العبد أسبابه، كما أنَّ القلب يقسو ويغفل إذا ترك أسباب الخشوع.

(1) ينظر مدارج السالكين 1/517 -521.

(2)

الخشوع في الصلاة ص 13، 14

ص: 5