المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أثناء الصلاة أول ما يبدأ به المصلي استقبال القبلة والدنو من - كيف تخشعين في الصلاة

[رقية المحارب]

الفصل: ‌ ‌أثناء الصلاة أول ما يبدأ به المصلي استقبال القبلة والدنو من

‌أثناء الصلاة

أول ما يبدأ به المصلي استقبال القبلة والدنو من السترة حتى لا يكون بينه وبينها سوى ثلاثة أذرع حال قيامه (1) وممر شاة حال سجوده (2) - ثم يكبر تكبيرة الإحرام.

أما كيفيه الخشوع بتكبيرة الإحرام فإن عليكِ أيتها المصلية أن ترفعي يديك حذو منكبيكِ أو حِيال أذنيكِ متوجهة بباطن الكفين إلى القبلة ممدودة الأصابع ضامة لها- وتشعرين وأنت بهذه الحال بالاستسلام التام لرب العباد، وتخيلي لو أن أحدًا أراد منك أن تذعني له وتستسلمي، فأمرك برفع يديك ومدها، لارتعدت مفاصلك خوفًا من بطشه بكِ، وهو بشر مثلك، فكيف بمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه - سبحانه - وكيف بمن الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، يأمرك بأن تستسلمي وتقفي بين يديه؛ ذلاً وخضوعًا له، رافعة يديك معلنة التسليم التام له، متخلية عن كل شيء في يديك تملكينه، فالأمر أعظم من أن تستمسكي بشيء من أمور الدنيا فهذا وقوف بين يدي من بيده كل شيء. كيف يمر عليك التكبير والحال هكذا بسهولة!! ويذهب معنى التكبير ومراده من نفسك وتبقى حركته وإشارة اليدين به، أو ليس الله بقادر على أن يأخذك بغتة أتأمنين ذلك؟ إذا عانق الخيال مثل هذه المعاني وأنت ترفعين يديك لتكبيرة الإحرام، فإن الخشوع سيمتلك قلبك والخضوع سيسطر على جوارحك ولن تنفكي من أن تنطقي تكبيرة من فؤادك معلنة البراءة من كل شيء فالله عندك أكبر من كل شيء..

(1) قال النووي: " قال أصحابنا ينبغي له أن يدنو من السترة ولا يزيد ما بينهما على ثلاث أذرع فإن لم يجد عصا ونحوها جمع أحجارا أو ترابا أو متاعه

" 4/217

(2)

أخرجه مسلم في الصلاة / باب بيان سترة المصلي 4/225،، وابن خزيمة في الصلاة/ باب الدنو من المصلى 2/11 من حديث سهل بن سعد قال:" كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار قدر ممر الشاة"

ص: 21

ولم يأمرك بالتكبير والاستسلام إلا ليعلم تسليمك وموافقتك على بيع الدنيا الزائلة بالآخرة الباقية. فله الحمد ما أعظمه وله الحمد ما أكرمه، وحريُّ بنا أن نستسلم راغبين فرحين مغتبطين.

ثم يحلق العقل في ملكوت الله وبينما هو كذلك إذ تنطلق كلمة التسبيح والحمد لمن هذا شأنه، فتقولين:" سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك".

وأنت في قيامك هذا تقفين موقف الذليل الخاضع تضعين يدك اليمنى على اليسرى على صدرك بكل استكانة لمن أوقفك هذا الموقف، وسيوقفك الموقف الرهيب يوم القيامة تنظرين موضع سجودكِ بكل إطراق وتفكر فيما ترددين من الألفاظ مقتدية بنبيكِ محمد –صلى الله عليه وسلم الذي كان:" إذا صلى طأطأ رأٍسه ورمى ببصره نحو الأرض "(1) تخشين أن ينصرف الله عنك وتستحضرين قوله –صلى الله عليه وسلم: "إذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت"(2) وقوله: "لا يزال الله مقبلاً على عبده في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه"(3) .

(1) حديث صحيح انظري صفة الصلاة للألباني حيث خرجه ص 69.

(2)

رواه الترمذي والحاكم وصححاه، انظري صفة الصلاة للألباني ص 70 وصحيح الترغيب رقم 553.

(3)

رواه أبو داود وغيره وصححه ابن خزيمة وابن حبان، انظري صفة الصلاة ص 70 وصحيح الترغيب رقم 555.

ص: 22

وتخيلي أنك ترددين هذه الكلمات بين يدي الله يوم القيامة واقفة بين يديه، والكل ينظر إليكِ ليعلم أي منقلب وإلى أي دار تصيرين، وإذا بك تسبحين الله تنزيهًا له عن كل نقيصة ، وتحمدينه على كل نعمة وأعظم نعمة هي نعمة الإيمان الذي أوقفك هذا الموقف بين يديه لتنالي رضاه وتفوزي بجناته، ثم تقرين وتعترفين أن كل ما ذكر اسم الله عليه أو فيه تبارك اسمه ، وذلك لبركة اسمه، فهذه صلاتك تبدأ بذكر الله فإذا بها يتبارك ثوابها فتكون الحسنة بعشر أمثالها وتكون عن عشر صلوات، فأي بركة بعد هذه البركة، وإذا قلت: وتعالى جدك أيقنت أن الله – سبحانه – عالٍ مقامه مستغن بنفسه عن عباده وخلقه.

فإذا تذكرتِ أن الله يأبى الشرك وهو أغنى الشركاء عن الشرك، سارعتِ القول: ولا إله غيرك.

فأي كلمات أبلغ من هذه الكلمات في مثل هذا المقام وصلى الله وسلم علي من قال:" إن أحب الكلام إلى الله أن يقول العبد سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك"(1) .

ولما كان القلب يقسو حينما يألف ما اعتاد عليه ولا يتأثر به لم يكن رسول الله –صلى الله عليه وسلم يكتفي بهذا الاستفتاح فقد كان يستفتح الصلاة باستفتاحات متعددة.

فإذا وجدت من نفسك اعتياداً على هذا الاستفتاح حتى أصبحت تقولينه ولا تشعرين إلا بانتهائه لقوة حفظك له، فلا تستشعرين قوله ولا معناه، وبالتالي تضيعين جزءاً من الصلاة بلا خشوع فعليك باستبداله بغيره من أدعية الاستفتاح، وذلك كقوله:" اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد " وكان يقوله في الفرض (2) .

(1) رواه أبو داود والطحاوي، قال الألباني: بإسناده حسن انظري صفة الصلاة ص 74.

(2)

روا أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي انظري صفة الصلاة ص 72.

ص: 23

وتخيلي وأنتِ ترددين هذا الدعاء أنك تقفين بين يدي الله – سبحانه – وقد جمعت خطاياك منذ كلفتِ حتى متِ فإذا بها تبلغ زبد البحر، فإذا اليد تشهد، وإذا الرجل تشهد، وإذا اللسان يشهد، وإذا الجلد يشهد بما فعلت واكتسبت وأنت تنظرين للنار وتنظرين للخطايا وتتوقعين أنها سائقتك إلى النار ، لا محالة، فتستغيثين بالله وتلجئين إليه فارة من ذنوبك تقولين بلهف وشفقة:"اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب".

وهذا أقصى حد للبعد تعرفينه!

ولا تكتفين بذلك بل تلحين في الدعاء وتقولين: "اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس"، وذلك خشية أن لا يكفيك بُعدً الذنوب عنك وخشية أن يدركك من ذلك شيء لعلمك بكثرتها.

وإنما اختير الثوب الأبيض دون غيره؛ لأن نقاء الأبيض الظاهر لا يكون إلا بالنقاء الحقيقي باطنًا، أما الألوان الأخرى فقد يظهر نقاؤها وهي في الحقيقة تحتفظ بشيء من الدنس في باطنها. ثم لا تكتفين بذلك بل تطلبين النقاء التام فتسألين الله أن يطهرك بالغسل بالماء والثلج والبرد.

تخيلي نفسك تلحين بهذا الدعاء يوم القيامة، فإذا تخيلت ذلك وأنت تقرئينه في الصلاة فستخشعين بلا ريب.

فإذا اعتادت نفسك هذا الدعاء وهذا الاستفتاح فاستبدليه بغيره كقوله: " الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلاً "(1) . وإذا قرأت هذا الاستفتاح فتذكري أن أبواب السماء تفتح له – كما ورد في الحديث أن رجلاً من الصحابة استفتح بها فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "عجبت لها فتحت لها أبواب السماء "(2) .

(1) رواه مسلم وأبو عوانه، انظري صفة الصلاة ص 74.

(2)

رواه مسلم وأبو عوانه، انظري صفة الصلاة ص 74.

ص: 24

وأبواب السماء التي لا تفتح إلا للملائكة الأبرار والمؤمنين الأخيار تفتح لكلمات قلتيها في صلاتك. سبحان الله.. أبواب السماء بعظمتها تفتح بكلمات يقولها العبد في صلاته، كيف تعلمين أن أبوابًا تفتح بكلمات تقولينها ويبدو لك الكنز العظيم، فتتركين استغلال الفرصة بصعود كلمات أخرى تسألين الله فيها خير الدنيا والآخرة، فليست تفتح أبواب السماء لكل كلمة وليست تفتح لأي أحد قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)[الأعراف: 40] .

فالأمر ليس بالهين فكم مَِلك لا تفتح له أبواب السماء، وكم غني لا تفتح له أبواب السماء، وأنتِ تفتح لكِ بكلمات، ولكن لا بد من الإخلاص في هذه الكلمات، لا بد أن تخرج من قلب واعٍ، صادق مؤمن.

وإن وجدت من نفسك اعتيادًا على هذه الاستفتاحات فاستبدليها بغيرها مما ورد في السنة الصحيحة أسوقها إليك هنا ليسهل عليكِ استحضارها وقت الصلاة وحفظها.

"وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا [مسلمًا] ، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ،لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت [سبحانك وبحمدك] أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنبي جميعًا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك [والمهدي من هديت] أنا بك وإليك [لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك] تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك "(1) .

(1) رواه النسائي قال الألباني بسند صحيح صفة الصلاة ص 73.

ص: 25

"اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، [ولك الحمد، أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن] ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، [أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت] ، [وما أنت أعلم به مني] ، أنت المقدم وأنت المؤخر، [أنت إلهي] لا إله إلا أنت "(1) .

" اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطك المستقيم"(2) .

ثم استعيذي بالله من الشيطان الرجيم مستحضرة معنى الاستعاذة، وهو اللجوء إلى الله والاعتصام به، فأنتِ تريدين الخشوع في صلاتك والشيطان يتربص لك، ليوسوس لك، فإذا أردت النجاة من الشيطان ووسوسته فالجائي إلى الله فهو يكفيك، وتأكدي من أن الله كافيك ما دمت قلت ذلك مؤمنة موقنة بقدرة الله وغلبته وملكوته.

والصيغة التي يسن لك أن تستعيذي بها هي "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه "(3) .

وكان أحيانًا يستعيذ بقوله: " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه "(4) .

(1) رواه البخاري ومسلم وأبو عوانة وأبو داود وابن نصر والدارمي، خرجه الألباني في صفة الصلاة ص 75، وما بين القوسين زيادة من بعض الروايات تنسجم معه وهي عن صحابي واحد راجعي مقدمة صفة الصلاة.

(2)

رواه مسلم وأبو عوانه صفة الصلاة ص 76 كما أن هناك غيرها من الاستفتاحات.

(3)

صحيح. قاله الألباني، وهو مخرج في إرواء الغليل رقم 342.

(4)

صحيح. قاله الألباني، وهو مخرج في إرواء الغليل رقم 342.

ص: 26

ثم سمي الله قائلة "بسم الله الرحمن الرحيم" ومرادك بذلك أنك تبدئين صلاتك باسم الله، وتثنين بالثناء عليه بصفاته التي تليق بجلاله.

وكل ذلك تقولينه في سرك – الاستفتاح والاستعاذة والبسملة.

ثم تبدئين قراءة سورة الفاتحة بتلاوة حسنة تحسنين صوتك بها، وتخشعين فيها.

والطريق إلى الخشوع فيها بأمور:

* قراءتها آيةً آية. أي تقرئين آية ثم تسكتين ثم تقرئين الآية التي بعدها، وذلك اقتداء برسولنا محمد –صلى الله عليه وسلم.

استشعري وأنت تقرئين كل آية أنك تخاطبين الله سبحانه ويرد عليك كل آية. فإذا قلت "الحمد لله رب العالمين"، قال الله تعالى:"حمدني عبدي "، وإذا قلت الرحمن الرحيم: قال الله تعالى " أثنى علي عبدي "، وإذا قلت: مالك يوم الدين، قال الله تعالى:"مجدني عبدي"، وإذا قلت: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله تعالى:" هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل "، وإذا قلت اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال الله تعالى:" هذا لعبدي ولعبدي ما سأل "(1) .

وأنت في قراءتك للفاتحة تسكتين وتستحضرين الرد في كل آية فتكونين بذلك مشغولة الذهن. بما يزيدك خشوعًا وطمأنينة.

واحرصي على التأمين بقولك آمين بعد قراءة الفاتحة، فإن معناها اللهم استجب. وإذا كنت في جماعة وأمنت عند تأمين الإمام فوافق تأمنيك تأمين الملائكة غفر لك ما تقدم من ذنبك.

وقد ورد في ذلك الحديث الصحيح المتفق عليه: " إذا قال أحدكم في الصلاة " آمين " والملائكة في السماء تقول " آمين " فوافق أحدهما الآخر – غفر له ما تقدم من ذنبه ".

ثم اقرئي بعد الفاتحة سورة أو آيات بحسب ما يتيسر لكِ وإذا أردت تحقيق الخشوع في صلاتك، فإن أهم ما يمكنك من الخشوع ويزيدك استشعارًا به قراءتك في قيامك، واجتهدي أن تفعلي ما يلي:

(1) رواه مسلم وغيره انظري صفة الصلاة ص 78.

ص: 27

أن تراعي حالك قبل الصلاة، فإن كنت مهمومة قلقة فاقرئي آيات تفيدك بمعنى تفريج الله لعبده الصابر، وإن كنت حزينة على دنيا فاتتك فاقرئي ما يزهدك فيها، ويصور لك سرعة زوالها، وإن كنت تشعرين بالملل من الحياة وأنت مع ذلك تقصرين في أداء واجباتك فاقرئي ما يحثك على السعي والكسب، وإن كنت خائفة من تقصيرك وتخشين اليأس فاقرئي آيات رحمة الله وتوسعته على عبده بالعفو عنه، وإن كنت في حال مواساة في فقر أو لديك ميت حبيب لك قريب منك فاقرئي آيات نعيم الجنة ووصفها، وهكذا.

وأنت في ذلك تحرصين على القراءة المرتلة تقفين عند كل آية، فإن كانت آية رحمة ونعيم سألت الله من رحمته، وإن كانت آية عذاب استعذت بالله منها وإن كانت صفة من صفات الله سبحته، وكبرته، وإن كانت آية نعمة من نعم الله منَّ بها على عباده حمدته على ذلك، وهكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان إذا قرأ (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) [القيامة: 40] قال: "سبحانك فبلى"، وإذا قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) [الأعلى: 1] قال: "سبحانك ربي الأعلى"(1) .

وقد كانت قراءته –صلى الله عليه وسلم ترتيلا لا هذّاً ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفاً حرفًا (2) . حتى "كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها"(3) .

كما عليك أن تحسني صوتك بالقرآن فإن رسول الله –صلى الله عليه وسلم قال: " زينوا القرآن بأصواتكم [فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا] "(4) .

(1) رواه أبو داود والبيهقي بسند صحيح، قاله الألباني. صفة الصلاة ص 86.

(2)

رواه ابن المبارك في الزهد، وأبو داود وأحمد بسند صحيح، قاله الألباني، صفة الصلاة ص 105.

(3)

رواه مالك ومسلم.

(4)

رواه البخاري تعليقًا، وأبو داود والدارمي، والحاكم، وتمام الرازي بسندين صحيحين، قاله الألباني صفة الصلاة ص 106.

ص: 28

واعلمي أن حسن الصوت بالقرآن ليس هو تلك النغمات التي قد تُخرج القرآن عن معناه كالمد في غير موضع المد، أو زيادة الغنة للحرف أكثر من حقه، وإنما حسن الصوت هو خفض الصوت في مواضع الخوف والبكاء والتباكي، وإظهار معنى الآيات بحيث يشد السامع للآيات كأنما يخاطب هو بها، وقد قال –صلى الله عليه وسلم:" إن من أحسن الناس أصواتًا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله "(1) .

والحرص في المد في مواضعه يزيد القراءة حسنًا وكانت قراءة رسول الله –صلى الله عليه وسلم مدًا. (2)

واحرصي أن تطيلي في هذه القراءة بقدر ما تستطيعين، وذلك ليرق قلبك وتزدادين خشوعًا، كما أن طول القراءة وطل القيام أفضل الصلاة، وقد قال –صلى الله عليه وسلم:" أفضل الصلاة طول القيام "(3) .

عليك بتفهم ما تقرئي، فما دعاك الله لفعله تعزمين على فعله والمسارعة إليه، وما دعاك لتركه ونهاك عنه، تعزمين على تركه والبعد عنه، وهذا هو التدبر الذي أمر الله به حيث قال:(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24]

وقال: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)[النساء: 82]

(1) قال الألباني: حديث صحيح رواه ابن المبارك في الزهد، (1/162) من الكواكب 575 والدارمي، وابن نصر والطبراني وأبو نعيم في أخبار أصبها والضياء في المختارة، انظري صفة الصلاة 106.

(2)

عن قتادة قال: " سئل أنس كيف كانت قراءة النبي –صلى الله عليه وسلم فقال كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم" رواه البخاري قال في المرقاة: "والمراد أنه كان يمد ما كان في كلامه من حروف المد واللين بالقدر المعروف وبالشرط المعلوم عند أرباب الوقوف"

(3)

رواه مسلم والطحاوي.

ص: 29

واعلمي أنك إذا أردت الخشوع في الصلاة فعليك بإزالة الأقفال التي على قلبك، إذا أردت إزالة هذه الأقفال، فإنها لا تُزال إلا بالتدبر لآيات الله.

ورحم الله الحارث المحاسبي إذا يقول: " وليكن الأصل الذي تطالب من نفسك من الفهم إعظام الله – سبحانه- في قلبك وإجلاله، فإذا قرأت آية فيها تعظيم له أو تنزيه له أو خبر عمن كذب عليه فإن استطعت أن تموت فمت، ورُوي عن إبراهيم النخعي أنه كان إذا مرَّ بمثل قوله تعالى:(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ)[المؤمنون: 91] خفض بها صوته تنزيهًا وخضوعًا للباري – تعالى – من كل شيء، ذلك لأن قلب المصلي منير بالصلاة يزداد بها بصائر.

والذي يصلي ويفهم ما يقرأ ليعرف خطأه وصوابه وعيوبه ونعم الله عليه وكيف شكره وكيف خوفه وحزنه على دينه لأنه يتلو الدلائل على ذلك كله والداعي إليه.

وينبغي أن يخاف أن يكون ممقوتًا إذ يجد نفسه مخالفة لأشياء من الطاعات وعاملة لأشياء من المعاصي قد اشتبهت عليه، أو ناسيًا الرحمة إذ لا بد أن يكون قد عمل طاعة قد منَّ الله – عز وجل – بها فيشكره عليها، فكفى للنفس زجرًا تفهمها لما تتلو وتفكرها فيه.

قال الحسن: " من أحب أن ينظر من هو فليعرض على نفسه القرآن ". والمرتل في صلاته مع ما يناله من الرقة وصلاح قلبه لن يخلو من فائدة تلاوته إما معنى تنبه له عقله، أو علم يفيده أو بصيرة في دينه، ولن يخلو من حجة له أو عليه.... " (1) .

*إن الصلاة فرصة لتعلم القرآن وحفظه حيث حثنا على ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم فقال: "تعلموا كتاب الله وتعاهدوه واقتنوه، وتغنوا به، فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تفلتًا من المخاض في العقل (2) .

(1) فهم الصلاة ص 57.

(2)

رواه الدارمي وأحمد بسند صحيح، قاله الألباني في صفة الصلاة ص 106، والمخاض الإبل، والعقل: الحبل الذي يربط به البعير.

ص: 30

ولكي تحوزي الخشوع في الصلاة أقول لكِ: ((إياك أن تجعلي قراءتك للآيات مقصورة على قصار السور طوال عمرك، وأنت قادرة على الحفظ فإن الحفظ يورث من الخشوع مالا يوصف وذلك أنك إذا حرصتِ على قراءة جديدة من حفظكِ في صلاتكِ، فإنه سيكون لصلاتكِ في نفسكِ أثر آخر، وذلك أنكِ ستشعرين بمغالبة نفسك وشد ذهنك إلى ما حفظته حديثًا، لأنك لا تستطيعين استحضاره بدون ذهن مركز على التذكر، وفي ذلك تستطيعين بكل سهوله التخلص من التفكير في غير الصلاة. أما ما حفظته من قصار السور واعتاد عليه لسانك فإنك تستطيعين قراءته بكل سهولة وذلك لأنه لا يحتاج إلى تذكر ولا إلى ذهن حاضر وبهذا ينطلق لسانك بقراءة قصار السور في الصلاة بينما ينطلق عقلك في وادٍ آخر، فلا تشعرين بمعاني الآيات ولا تدركين خشوعًا في صلاتك.

وإذا كنت عازمة على تعلم القرآن وحفظه فأحسن وسيلة لذلك وأسهلها أن تجلسي في مصلاك قبل الصلاة بعشر دقائق وتحفظي آيتين أو ثلاث بما يعادل سطرين أو ثلاثة أو أربعة ،وإذا حفظت هذه الآيات فاقرئيها في صلاتك، وبهذا تحوزين أجر انتظار الصلاة ،وأجر الحفظ، وأجر الخشوع حيث تخشعين بما تقرئين من حفظك الجديد أكثر من خشوعك بما أعتدت على حفظه من قصار السور. وقبل أن تبدئي بذلك أذكرك أن لك بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف، فإذا تذكرت ذلك أقبلت بهمة ونشاط وحرص، واعلمي أنك لو فعلتِ ذلك لاستطعتِ حفظ القرآن في سنتين، ثم إذا حفظت فعليك بتحري اتباع السنة في القراءة كقراءة الأعراف في المغرب، وقراءة السجدة والدهر في فجر الجمعة، وقراءة المؤمنون في الفجر وهكذا)) (1) .

(1) تجدين الكلام عن القراءة مفصلاً بالأدلة الثابتة في صفة الصلاة للألباني رحمه الله ص 89- 104.

ص: 31