المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جهود علماء الدعوة السلفية بنجدتجاه النوازل والأحداث - مجلة البيان - جـ ١٦٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌تغيير الصورة بالفعل لا بالقول

- ‌«الخسار» الاستراتيجي

- ‌جهود علماء الدعوة السلفية بنجدتجاه النوازل والأحداث

- ‌الحكم الظاهر على أهل الكبائر

- ‌تعظيم الآثار رؤية شرعية(2 - 2)

- ‌الحاجة إلى نشأة فرع جديد في علوم الدعوة

- ‌نحو إدارة دعوية واعية

- ‌الحواجز المصطنعة

- ‌حوار مع فضيلة الشيخ عبد المجيد الزندانيجاءنا صندوق النقد الدولي بالجوع والربا وتحطيم الإنتاج

- ‌ثبت بطلان الجبرية (الجينية)

- ‌معاذ الله ما كانوا أباة

- ‌قِمَّةُ التَّمَرُّدِ

- ‌كيف نتعامل مع الألفاظ المجملة

- ‌إندونيسيا بين أمل الصعود وخطر التفكك

- ‌جذور التيارات الفكرية في الحياة السياسية الإسرائيلية

- ‌بركان البلقان والدور الأمريكي المشبوه(2 - 2)

- ‌تطورات الأحداث في مورو

- ‌مرصد الأحداث

- ‌دمار الحياة.. أم حياة الدمار

- ‌صورتان

- ‌الشريعة

- ‌ماذا يُراد بأمتنا العربية والإسلامية؟الاستعمار النفسي في ثوبه الجديد

- ‌وإذا مرضت فهو يشفين

- ‌مسابقة اللجنة التعليمية في المنتدى الإسلاميلعام 1422ه

- ‌أفلا يتدبرون القرآن

- ‌إن الجهاد إلى الإله مُحبَّبُ

- ‌راية واحدة لا رايات

- ‌درب النصر

- ‌من رسائل القر اء

- ‌ردود

- ‌هل ما يقوم به الفلسطينيون عنف

الفصل: ‌جهود علماء الدعوة السلفية بنجدتجاه النوازل والأحداث

دراسات في الشريعة والعقيدة

‌جهود علماء الدعوة السلفية بنجد

تجاه النوازل والأحداث

د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [*]

مقدمة:

التعامل مع النوازل والمستجدات يحتاج إلى رسوخ في العلم، وبصيرة بالأدلة

الشرعية، واستيعاب لمقاصد الشريعة وقواعد المصالح والمفاسد، كما يحتاج إلى

توصيف صحيح، وفقه دقيق لتلك الواقعة، ليتسنى تنزيل الحكم الشرعي الملائم

لتلك النازلة.

ولم يكن علماء نجد بعيدين عن قضايا واقعهم ومستجدات عصرهم، بل كان

لهم تأثير بارز ودور رئيس في حل النوازل والحوادث، فكانوا أصحاب المواقف

الشجاعة إزاء تلك القضايا، وأرباب القرار الصحيح تجاه النوازل والمستجدات؛

ولا غرو في ذلك؛ فقد أنعم الله - تعالى - عليهم بالفقه في دين الله، وفهم تلك

الوقائع والأحداث، ونعرض جملة من تلك الجهود في هذا المقام:

1 -

لما هجمت جيوش إبراهيم باشا على نجد في أواخر الدولة السعودية

الأولى وقصدوا استئصال الدعوة السلفية وأتباعها، ساعدهم جماعة من أهل نجد من

البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم وانتصارهم، فعندئذ ألَّف الشيخ سليمان بن

عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رسالته القيّمة: «الدلائل في حكم موالاة

أهل الإشراك» [1] .

ففي هذه الأوضاع المضطربة والفتن المتقلبة يبرز دور العلماء الربانيين،

العالمين بالله - تعالى - وبأمره؛ فقد صنف الشيخ سليمان رسالته في زمن فتنة،

وفي أحوال مشوبة بالخوف والهلع من جيوش إبراهيم باشا، ولا يخفى ما يؤول

إليه حال بعض الخاصة فضلاً عن العامة زمن الفتن والهلع من الذهول والحيرة

والانتكاس. وصنَّف الشيخ سليمان هذه الرسالة في وقت زاغت فيه قلوب،

وانساقت إلى مظاهرة المشركين وموافقتهم، فقرر الشيخ وبالأدلة الكثيرة أن مَنْ

ظاهَرَ الكفار وتولاهم فهو منهم، كما قد وقع فيه أولئك الخونة، يقول الشيخ سليمان

بن عبد الله في هذه الرسالة:

«الدليل السادس عشر [2] : قوله - تعالى -: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ

عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ

الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ] (الحج: 11) . فهذه الآية مطابقة

لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة سواء بسواء؛ فإنهم قبل هذه الفتنة يعبدون

الله على حرف، أي على طرف، ليسوا ممّن يعبُد الله على يقين وثبات، فلما

أصابتهم هذه الفتنة، انقلبوا عن دينهم وأظهروا موافقة المشركين، وأعطوهم

الطاعة، وخرجوا عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين.

هذا مع أن كثيراً منهم في عافية، ما أتاهم عدو، وإنما ساء ظنهم بالله فظنوا

أنه يديل [3] الباطل وأهله على الحق وأهله، فأرداهم سوء ظنهم بالله [4] » .

2 -

ويعيد التاريخ نفسه؛ حيث هجمت العساكر التركية على بلاد نجد -

سنة 1253 هـ - وساعدهم من ساعدهم حتى استولوا على كثير من نجد، فصنّف

الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله رسالة قوية سماها: «سبيل النجاة والفكاك من

موالاة المرتدين وأهل الإشراك» [5] .

فكانت هذه الرسالة سبباً في تحقيق عقيدة الولاء والبراء واستقرارها بعدما

كادت عواصف الفتن أن تزحزحها.

ونقتطف من تلك الرسالة السطور الآتية:

«أخبر - تعالى - أن الذين في قلوبهم مرض أي شك في الدين وشبهة

يسارعون في الكفر قائلين: [نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ](المائدة: 52)، أي:

إذا أنكرت عليهم موالاة الكافرين قالوا: نخشى أن تكون الدولة لهم في المستقبل،

فيتسلطوا علينا، فيأخذوا أموالنا ويشردونا من بلداننا، وهذا هو ظن السوء بالله

الذي قال الله فيه: [الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ

وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] (الفتح: 6) » [6] .

3 -

وفي سنة 1265هـ وقعت معركة «اليتيمة» بين جيوش فيصل بن

تركي وبين أهل القصيم بقيادة أمير بريدة عبد العزيز بن محمد آل أبي عليان،

واشتد القتال بين الفريقين، وانهزم أهل القصيم وقتل الكثير منهم، وفرّ أميرهم إلى

عنيزة، ولم يدرِ ما يفعل. فأتى إليه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين [7]-

وكان قاضي بلدان القصيم - فقال له: يا هذا اتق الله، واربأ بنفسك؛ فإن البلاد

ليست لك ولا بيدك، وأمرها بيد أهلها، وليس لك فيها أمر ولا نهي، وهم يريدون

إصلاح أنفسهم مع الإمام فيصل، فإن أردت أن تكون كذلك فافعل.

ثم إن رؤساء بلد عنيزة أتوا إلى الشيخ عبد الله أبي بطين وقالوا: إن هذه

الأمور التي منا وقعت، والحوادث التي منا صدرت لا يصلحها إلا أنت، ولا يزيل

غضب الإمام فيصل غيرك.

فقال لهم: إنكم تعلمون أني لست من أهل بلدكم ولا من عشيرتكم، ولا يحسن

مني الدخول في هذا الشأن الذي أوله إلى آخره من تسويل الشيطان؛ فأعفوني

ودعوني، وأرسِلوا في هذا الأمر غيري.

فقالوا: إن هذا الأمر تعيّن عليك والصلح لا يصلح إلا على يديك، فركب

الشيخ عبد الله إلى الإمام فيصل - وهو في بلد المذنب - فأكرمه وأجابه إلى كل ما

طلب من العفو والصفح عنهم، وأعطاهم الأمان [8] .

4 -

لما توفي فيصل بن تركي سنة 1282هـ، وتولى الحكم من بعده ابنه

عبد الله، حصل شقاق واختلاف بين عبد الله وأخيه سعود، فوقعت حروب طاحنة،

وفتن متلاطمة بين عبد الله، وأخيه سعود.

وكان للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله دور

ظاهر في الإصلاح، وجمع الكلمة وحفظ الدماء، ودرء الفتنة، ودفع الشر والفساد

بحسب الطاقة.

لقد أوتي الشيخ عبد اللطيف قوة وبصيرة، وحكمة وعلماً، ونصحاً وإشفاقاً

على الراعي والرعية.

وقد سطّر الشيخ عبد اللطيف رسائل كثيرة [9]- أثناء تلك الفتنة الطويلة [10]

تضمنت عرضاً شاملاً، وتحليلاً وافياً لتلك الأحداث الجسام، وموقفه من تلك

النوازل.

ونختار إحدى هذه الرسائل:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين: زيد بن محمد،

وصالح بن محمد الشثري [11] ، سلمهما الله - تعالى -.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل أوصلكم

الله إلى ما يرضيه، وما ذكرتموه كان معلومًا، وموجب تحرير هذا ما بلغني بعد

قدوم عبد الله [12] وغزوه من أهل الفرع، وما جرى لديكم من تفاصيل الخوض في

أمرنا والمراء والغيبة، وإن كان قد بلغني أولا كثير من ذلك، لكن بلغني مع من

ذكر تفاصيل ما ظننتها، فأما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض

ونسبتي إلى الهوى والعصبية، فتلك أعراض انتهكت وهتكت في ذات الله أعدُّها

لديه - جل وعلا - ليوم فقري وفاقتي، وليس الكلام فيها، والقصد بيان ما أشكل

على الخواص والمنتسبين من طريقتي في هذه الفتنة العمياء الصماء، فأول ذلك

مفارقة سعود لجماعة المسلمين وخروجه على أخيه، وقد صدر منا الرد عليه

وتسفيه رأيه ونصيحة ولد عائض [13] وأمثاله من الرؤساء عن متابعته والإصغاء

إليه ونصرته، وذكرناه بما ورد من الآثار النبوية والآيات القرآنية بتحريم ما فعل

والتغليظ على من نصره، ولم نزل على ذلك إلى أن وقعت وقعة جودة [14] ، فثل

عرش الولاية وانتثر نظامها، وحبس محمد بن فيصل، وخرج الإمام عبد الله

شاردًا وفارقه أقاربه وأنصاره، وعند وداعه وصيته بالاعتصام بالله وطلب النصر

منه وحده، وعدم الركون إلى الدولة الخاسرة [15] .

ثم قدم علينا سعود بمن معه من العجمان والدواسر وأهل الفرع وأهل الحريق

وأهل الأفلاج وأهل الوادي ونحن في قلة وضعف وليس في بلدنا [16] من يبلغ

الأربعين مقاتلاً، فخرجت إليه وبذلت جهدي، ودافعت عن المسلمين ما استطعت

خشية استباحة البلدة، ومعه من الأشرار وفجار القرى من يحثه على ذلك ويتفوه

بتكفير بعض رؤساء أهل بلدتنا، فوقى الله شر تلك الفتنة ولطف بنا، ودخلها بعد

صلح وعقد، وما جرى من المظالم والنكث دون ما كنا نتوقع [17] ، وليس الكلام

بصدده وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعتقده، وصارت له ولاية بالغلبة والقهر تنفذ

بها أحكامه، وتجب طاعته في المعروف كما عليه كافة أهل العلم على تقادم

الأعصار ومر الدهور، وما قيل من تكفيره لم يثبت لديّ، فسرت على آثار أهل

العلم، واقتديت بهم في الطاعة في المعروف وترك الفتنة وما توجب من الفساد على

الدين والدنيا، والله يعلم أني بار راشد في ذلك، ومن أشكل عليه شيء من ذلك

فليراجع كتب الإجماع كمصنف ابن حزم ومصنف ابن هبيرة وما ذكره الحنابلة

وغيرهم، وما ظننت أن هذا يخفى على من له أدنى تحصيل وممارسة، وقد قيل:

سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم.

وأما الإمام عبد الله فقد نصحت له كما تقدم أشد النصح، وبعد مجيئه لما

أخرج شيعة عبد الله سعودًا وقدم من الإحساء ذاكرته في النصيحة وتذكيره بآيات الله

وحقه، وإيثار مرضاته والتباعد عن أعدائه وأعداء دينه أهل التعطيل والشرك

والكفر البواح، وأظهر التوبة والندم، وأضمحل أمر سعود وصار مع شرذمة من

البادية حول المرة والعجمان، وصار لعبد الله غلبة ثبتت بها ولايته على ما قرره

الحنابلة وغيرهم كما تقدم أن عليه عمل الناس من أعصار متطاولة.

ثم ابتلينا بسعود وقدم إلينا مرة ثانية، وجرى ما بلغكم من الهزيمة على عبد

الله وجنوده، ومر بالبلدة منهزمًا لا يلوي على أحد، وخشيت من البادية، وعجلت

إلى سعود كتاباً في طلب الأمان لأهل البلدة وكف البادية عنهم، وباشرت بنفسي

مدافعة الأعراب مع شرذمة قليلة من أهل البلدة ابتغاء ثواب الله ومرضاته، فدخل

البلدة وتوجه عبد الله إلى الشمال، وصارت الغلبة لسعود والحكم يدور مع علته،

وأما بعد وفاة سعود [18] فقدم الغزاة ومن معهم من الأعراب العتاة والحضر الطغاة،

فخشينا الاختلاف وسفك الدماء وقطعية الأرحام بين حمولة آل مقرن [19] مع غيبة

عبد الله وتعذر مبايعته بل ومكاتبته، ومن ذكره يخشى على نفسه وماله أفيحسن أن

يترك المسلمون وضعفاؤهم نهباً وسبياً للأعراب والفجار؟ وقد تحدثوا بنهب

الرياض قبل البيعة، وقد رامها من هو أشر من عبد الرحمن وأطغى ولا يمكن

ممانعتهم ومراجعتهم، ومن توهم أنى وأمثالي أستطيع دفع ذلك مع ضعفي وعدم

سلطاني وناصري فهو من أسفه الناس وأضعفهم عقلاً وتصوراً، ومن عرف قواعد

الدين وأصول الفقه وما يتطلب من تحصيل المصالح ودفع المفاسد لم يُشكِل عليه

شيء من هذا، وليس الخطاب مع الجهلة والغوغاء، إنما الخطاب معكم معاشر

القضاة والمفاتي والمتصدرين لإفادة الناس وحماية الشريعة المحمدية، وبهذا ثبتت

بيعته وانعقدت وصار من ينتظر غائبًا لا تحصل به المصالح فيه شبه ممن يقول

بوجوب طاعة المنتظر وأنه لا إمامة إلا به.

ثم إن حمولة آل سعود صارت بينهم شحناء وعداوة والكل يرى له الأولوية

بالولاية، وصرنا نتوقع كل يوم فتنة وكل ساعة محنة، فلطف الله بنا وخرج ابن

جلوي من البلدة، وقتل ابن صنيتان، وصار لي إقدام على محاولة عبد الرحمن في

الصلح وترك الولاية لأخيه عبد الله، فلم آلُ جهدًا في تحصيل ذلك والمشورة عليه

مع أني قد أكثرت في ذلك حين ولايته ن ولكن رأيته ضعيف العزم لا يستبد برأيه،

فيسر الله قبل قدوم عبد الله بنحو أربعة أيام أنه وافق على تقديم عبد الله وعزل نفسه

بشروط اشترطها بعضها غير سائغ شرعًا، فلما نزل الإمام عبد الله ساحتنا اجتهدت

إلى أن محمد بن فيصل يظهر إلى أخيه، ويأتي بأمان لعبد الرحمن وذويه وأهل

البلد، وسعيت في فتح الباب واجتهدت في ذلك، ومع ذلك كله فلما خرجت للسلام

عليه وإذا أهل الفرع وجهلة البوادي ومن معهم من المنافقين يستأذنونه في نهب

تخيلنا وأموالنا، ورأيت معه بعض التغير والعبوس، ومن عامل الله ما فقد شيئاً،

ومن ضيع الله ما وجد شيئاً، ومن ضيع الله ما وجد شيئاً، ولكنه بعد ذلك أظهر

الكرامة ولين الجانب، وزعم أن الناس قالوا ونقلوا، وبئس مطية الرجل زعموا،

وتحقق عندي دعواه التوبة وأظهر لدي الاستغفار والتوبة والندم، وبايعته على

كتاب الله وسنة رسوله.

هذا مختصر القضية، ولولا أنكلم من طلبة العلم والممارسين الذين يكتفون

بالإشارة وأصول المسائل لكتبت رسالة مبسوطة ونقلت من نصوص أهل العلم

وإجماعهم ما يكشف الغمة ويزيل اللبس، ومن بقى عليه إشكال فليرشدنا رحمه الله،

ولو أنكم أرسلتم بما عندكم مما يقرر هذا أو يخالفه وصارت المذاكرة لانكشف

الأمر من أول وهلة، ولكنكم صممتم على رأيكم، وترك النصيحة من كان عنده

علم، واغتر الجاهل ولم يعرف ما يدين الله به في هذه القضية وتكلم بغير علم،

ووقع اللبس والخلط والمراء والاعتداء في دماء المسلمين وأعراضهم، وهذا بسبب

سكوت الفقيه وعدم البحث، واستغناء الجاهل بجهله واستقلاله بنفسه، وبالجملة

فهذا الذي نعتقد وندين الله به، والمسترشد يذاكر ويبحث، والظالم المعتدي حِسابنا

وحسابه إلى الله الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر يوم

يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور.

وأما ما ذكرتم من التنصل والبراءة مما نسب في حقي إليكم فالأمر سهل

والجروح جبار، ولا حرج ولا عار، وأوصيكم بالصدق مع الله واستدراك ما

فرطتهم فيه من الغلظة على المنافقين الذين فتحوا للشرك كل باب، وركن إليهم كل

منافق كذاب، وتأمل قوله بعد نهية عن موالاة الكافرين: [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا

عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً

وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] (آل عمران: 30)[20] .

يظهر من إيراد هذه الرسالة ما كان عليه العلامة عبد اللطيف من رسوخ في

العلم الشرعي، وفهم للوقائع وتحقيق مناطها؛ حيث بيّن - زمن الفتنة العمياء -

مشروعية ولاية المتغلب وأن الإمامة تثبت بالغلبة والقهر، لذا أمضى ولاية سعود

بن فيصل، ثم أمضى ولاية عبد الله بن فيصل - بعد تغلبهما -.

كما نلحظ انهماك الشيخ عبد اللطيف بالإصلاح ودرء الفساد ما استطاع إلى

ذلك سبيلا، فكان يباشر بنفسه مدافعة المفسدين مع ضعفه وقلة حيلته، وكثرة

المحن والأخطار.

ويتجلى فقهه للمصالح والمفاسد وتقديرها (فسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم)

فإن ثوبت ولاية المتغلب الظالم أحسن حالا من الفتنة. كما نلمس ما عليه الشيخ

عبد اللطيف من الوصية بالصدق مع الله والتذكير بالبعث والنشور، (يوم يبعثر ما

في القبور ويحصل ما في الصدور) فإن خير ما يعصم العبد من الفتن هو اللجوء

إلى الله - تعالى - والاستعداد للقائه.

5 -

وفي سنة 1308هـ انهزم أهل القصيم أمام محمد بن رشيد في واقعة

المليداء، وقتل منهم ألف رجل، ولما ظفر ابن رشيد ذلك الظفر انتقل من معسكره،

ونزل بالقرب من بريدة، وكان قد غضب على أهل القصيم وحلف بالطلاق أن

يبيحها، وهابه أهل القصيم مهابة شديدة، فجعلوا يتوقعون ماذا يحله بهم من

العقوبات، فخرج إليه الشيخ العلَاّمة محمد بن عبد الله بن سليم [21]رحمه الله

وذكَّره بآيات العفو، وحضَّه على المسامحة والصفح، وقال له: يا ابن رشيد!

اذكر قدرة الله عليك، واعلم أنه من فوق الجميع، فبكى محمد بن رشيد وقام مستوياً

على قدميه يقول: اللهم إني قد عفوت، يشير بيده إلى بريدة ويكررها، ثم جلس

وقد سكن غيظه، وانكسرت حدته، فأكرم الشيخ وسأله عن يمينه بالطلاق فأفتاه

الشيخ [22] .

6 -

وفي عصرنا الحاضر عصفت رياح التغريب ببلاد المسلمين، فظهر

تيار جارف من الأفكار المستوردة، وكمٌّ هائل من النوازل والمستجدات، ولقد كانت

القوانين الوضعية بمختلف صورها وأنواعها من أشنعها جرماً وإثماً، وأخطرها

ضرراً.

وقد تصدى علماء نجد لتك القوانين، فكتب بعضهم [23] لولي الأمر - آنذاك -

نصيحة جاء فيها:

(ثم آلت بك الحال - هداك الله - وأخذ بناصيتك إلى الوقوع في أمور كثيرة

هي من أسباب زوال تلك النعمة، ومن موجبات التغيير وحلول النقمة،: [إِنَّ اللَّهَ

لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) ، منها إلزام الناس أن

يظلم بعضهم بعضاً، وأن ترفض الطريقة النبوية الجارية في أسواق المسلمين

وبياعاتهم، وأن يقام فيها القانون المضارع لقوانين الكفار الجارية في أسواقهم؛

فإن لله وإنا إليه راجعون، ولك هو إلزامكم بحجر الناس على مقدار

من السعر في الصرف لا يزيد ولا ينقص، وهذا من أعظم الفساد في

الأرض والتعاون على الإثم والعدوان، وأكل الناس بعضهم أموال بعض

بالباطل) [24] .

وحذر الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله من التحاكم إلى الطواغيت،

فكان مما قاله: «إن كثيراً من الطوائف المنتسبين إلى الإسلام قد صاروا يتحاكمون

إلى عادات آبائهم، ويسمون ذلك الحق بشرع الرفاقة كقولهم: شرع عجمان،

وشرع قحطان، وغير ذلك، وهذا هو الطاغوت بعينه الذي أمر الله باجتنابه.

فمن فعله فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه

في قليل ولا كثير» [25] .

وأما الشيخ العلَاّمة محمد بن إبراهيم رحمه الله فقد كان بصيراً بخطر

تلك المؤسسات الوضعية، ومن ثم اتخذ موقفاً حازماً تجاه أي هيئة أو مؤسسة ذات

حكم وضعي [26] .

وألَّف رسالة عظيمة بعنوان: «تحكيم القوانين» قرر فيها - بالأدلة

الشرعية - وجوب إفراد الله تعالى بالحكم، وذكر الحالات التي يكون فيها الحكم

بغير ما أنزل الله - تعالى - كفراً أكبر أو كفراً أصغر.

وكتب الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله مؤلفاً في ثلاثة أجزاء

بعنوان: «الحق أحق أن يتبع» في الرد على القوانين الوضعية [27] .

7 -

وأما العلَاّمة عبد الرحمن الناصر السعدي (ت 1376هـ) فهو أبرز

علماء نجد في علاج القضايا والنوازل، حيث كان أنموذجاً متميزاً في هذا الباب،

فكان مدركاً لمستجدات عصره ومتغيراته، ويتجلى ذلك فيما يلي:

أ - مناداته بأهمية التعرف على السياسة الدولية ومقاصدها؛ حيث يقول:

«قد عُلِمَ من قواعد الدين أنَّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن الوسائل

لها أحكام المقاصد، ولا يخفى أنه لا يتم التحرز من أضرار الأمم الأجنبية

والتوقي لشرورها إلا بالوقوف على مقاصدهم ودرس أحوالهم وسياساتهم،

وخصوصاً السياسة الموجهة منهم للمسلمين؛ فإن السياسة الدولية قد أسست على

المكر والخداع وعدم الوفاء، واستعباد الأمم الضعيفة بكل وسائل الاستعباد؛ فجهل

المسلمين بها نقص كبير وضرر خطير، ومعرفتها والوقوف على مقاصدها وغاياتها

التي ترمي إليه نفعه عظيم، وفيه دفع للشر أو تخفيفه، وبه يعرف المسلمون كيف

يقاتلون كل خطر» [28] .

ب - وكتب العلامة السعدي رسالة رائعة إلى الشيخ محمد رشيد رضا سنة

1346هـ[29] يقترح عليه أن تُعنى مجلة المنار بالردّ على الملاحدة والزنادقة.

ويظهر من خلال هذه الرسالة ما كان عليه السعدي من سعة الاطلاع، وبُعد

الأفق، ورحابة الصدر؛ حيث طالع مجلة المنار، وأثنى عليها خيراً، وأبدى شيئاً

من مآثرها في نصرة الإسلام والمسلمين، مع أن المجلة تكاد تكون مفقودة في نجد

آنذاك، بدليل أن محمد رشيد رضا - في جوابه على رسالة السعدي - يقول:

«كنت منذ سنين كثيرة أتمنى لو يطَّلع علماء نجد على المنار، ويفتح بيني

وبينهم البحث والمناظرة العلمية الدينية فيما يرونه منتقداً لينجلي وجه الصواب

فيها، وقد كنت كتبت إلى إمامهم [30] بذلك، وإنني سأرسل إليه عشر نسخ من

كل جزء ليوزعها على أشهرهم، وفعلت ذلك عدة سنين، ولكن لم يأتني منه

جواب، ثم ترجَّح عندي أن تلك النسخ كانت تختزل من البريد البريطاني في سنيّ

الحرب وما بعدها» ، بل إن الشيخ السعدي كما في هذه الرسالة قد طالع تفسير

«الجواهر في تفسير القرآن» لطنطاوي جوهري، وكشف عن مزالقه، مع

أن السعودية قد منعت هذا الكتاب ولم تسمح بدخوله إلى بلادها؛ لما تضمنه من

انحرافات [31] .

كما ألمح السعدي إلى ما نسب إلى مجلة المنار من تأويلات فاسدة فقال بكل

تؤدة وأدب: «وقد ذكر لي بعض أصحابي أن مناركم فيه شيء من ذلك، وإلى

الآن ما تيسر لي مطالعته، ولكن الظن بكم أنكم ما تبحثون عن مثل [هذه] الأمور

إلا [من] وجه الردّ لها والإبطال، كما هي عادتكم في ردّ ما هو دونها بكثير» .

ج - ومن جهود العلامة السعدي في علاج النوازل الحادثة أنه حرر مسألة

«زراعة الأعضاء» تحريراً بليغاً [32]، فكان مما قاله في مطلع هذه المسألة:

«جميع المسائل التي تحدث في كل وقت سواء حدثت أجناسها أو أفرادها يجب

أن تُتَصور قبل كل شيء؛ فإذا عُرِفت حقيقتها وشُخِّصت صفاتها، وتصورها

الإنسان تصوراً تاماً بذاتها ومقدماتها ونتائجها، طُبِّقت على نصوص الشرع وأصوله

الكلية؛ فإن الشرع يحل جميع المشكلات، مشكلات الجماعات والأفراد» .

وأخيراً: فإن جهود هؤلاء الأعلام تجاه النوازل كثيرة سواء كانت جهوداً

علمية أو عملية، ولعل هذه الأمثلة المذكورة تكون حافزاً لطلاب العلم وأهله في

السعي إلى بيان المسلك الشرعي تجاه المستجدات؛ فما أكثر الأحداث والنوازل في

هذا العصر التي لم تحرر علماً وتحقيقاً، وما أكثر المستجدات التي تحتاج إلى

مواقف عملية واضحة؛ فالتنصل والانزواء ليس حلاً ولا تبرأ به الذمة، والله

المستعان.

(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة بكلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

الرياض.

(1)

انظر الدرر السنية، 7/310.

(2)

من الأدلة الشرعية على تحريم موالاة الكفار.

(3)

من الإدالة وهي الغلبة.

(4)

الدلائل، ص 47، 48، باختصار.

(5)

الدرر السنية، 7/310.

(6)

سبيل النجاة والفكاك، ص 17، 18.

(7)

ولد الشيخ أبو بطين في روضة سدير سنة 1194هـ، ودرس على كبار علماء نجد، وجلس للتدريس، تولى القضاء في عدة مناطق، ولقب بمفتي الديار النجدية، له مؤلفات توفي في شقراء سنة 1282هـ، انظر: مشاهير علماء نجد، ص 235، وعلماء نجد، 2/567.

(8)

انظر تفصيل ذلك في عنوان المجد، 2/262 269، وتذكرة أولي النهى والعرفان، 1/126، 127.

(9)

انظر الدرر السنية: 7/183، 245، 247، 250.

(10)

عاش الشيخ عبد اللطيف إحدى عشرة سنة بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي.

(11)

الشيخ زيد بن محمد آل سليمان والشيخ صالح بن محمد الشثري من تلاميذ الشيخ عبد اللطيف، وكانا في الحريق جنوب الرياض، انظر: ترجمة للشيخ صالح الشتري في كتاب: إتحاف اللبيب في سيرة الشيخ عبد العزيز أبو حبيب، ص 49.

(12)

عبد الله بن فيصل بن تركي.

(13)

يقصد: محمد بن عائض رئيس قبائل عسير وأميرًا بها.

(14)

كانت وقعة (جودة) بين عبد الله بن فيصل وأخيه سعود، عام 1287هـ، قد هزمت جيوش عبد الله بن فيصل، وقتل الكثير من رجاله، وسجن أخوه وقائد جيشه محمد بن فيصل في القطيف.

(15)

الدولة التركية.

(16)

الرياض.

(17)

دخل سعود الرياض دون مقاومة، واستولى عليها، ونهبت جنوده الرياض، وعاثت فيها فساداً.

(18)

توفي سعود سنة 1291هـ.

(19)

آل مقرن هم آل سعود.

(20)

الدرر السنية، 7 / 252 - 253.

(21)

ولد الشيخ محمد بن سليم في بريدة عام 1240هـ، وطلب العلم على كبار علماء نجد، وجلس للتدريس وتولى القضاء، وكان صاحب وقار وسمت، توفي في بريدة عام 1323هـ ، انظر: علماء آل سليم، 1/20، وعلماء نجد، 3/872.

(22)

انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/286، وعلماء آل سليم، 1/19.

(23)

كتب هذه الرسالة مجموعة من علماء آل الشيخ وهم: محمد بن عبد اللطيف، وصالح بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف،

ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، ومحمد بن عبد الله بن عبد اللطيف رحمهم الله.

(24)

الدرر السنية، 7/ 386.

(25)

الدرر السنية، 8/272، 273، باختصار.

(26)

انظر: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، 12/250، 252، 254، 255، 264، 265، 267، 268، 269، 270، 468.

(27)

انظر: موقف الشيخ الدوسري من القوانين الوضعية ودفاعه عن الشريعة في رسالة (حياة الداعية الدوسري) ، للطيار رسالة ماجستير غير مطبوعة، ص 326 - 329.

(28)

رسالة وجوب التعاون بين المسلمين، ص 13.

(29)

مجلة المنار، مجلد 29، ج2، ص 47.

(30)

الملك عبد العزيز آل سعود.

(31)

انظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري، لفهد الرومي، 2/638 678.

(32)

انظر: الفتاوى السعدية ، ص190 ، ومجموع الفوائد للسعدي، ص89 -97.

ص: 8

دراسات في الشريعة والعقيدة

الإصلاح التشريعي في مصر

من التأصيل المتعثر إلى الجموح العلماني ثم عودة

التأصيل نماذج النجاح والإخفاق

(3)

عبد العزيز بن محمد القاسم [*]

azalgasem@hotmail.com

استقرت الشريعة الإسلامية مرجعاً للقضاء في مصر منذ الفتح الإسلامي،

وكان أول انحراف منظم قد جاء مع تحكيم المماليك لبعض قوانين التتار [1] ، ومن

التحولات المهمة في تاريخ التشريع في مصر تعيين الظاهر بيبرس لأربعة قضاة

يمثلون المذاهب الأربعة [2] ، وقد أسهم ذلك في تشتيت القضاء، واستمر ذلك إلى

سنة 1516م حين حكم العثمانيون مصر، فعينوا قاضياً عثمانياً يشرف على القضاة

الأربعة [3] ، ثم صدر في عهد سليمان القانوني تنظيم قضاء الولايات العثمانية تحت

قضاة العسكر الذين يعينون نوابهم في الولايات على مذاهب أهلها، ثم صار القضاة

يُنصَّبون بإرادة سلطانية بعد انتخابهم من شيخ الإسلام بما فيهم قاضي مصر الذي

ينصِّب قضاة مصر [4] .

وفي آخر ولاية محمد علي صدرت إرادة سلطانية بتخصيص الفتوى والقضاء

بمذهب أبي حنيفة [5] ، ولما احتل نابليون مصر سنة 1797م وخرج لغزو الشام

خرج قاضي القضاة في مصر وانضم إلى أمير الحج في مقاومته للاحتلال الفرنسي،

فأمر نابليون بقطع صلة القضاء المصري عن الخلافة العثمانية، وطلب من

أعضاء الديوان والعلماء اختيار عالم شرعي يتولى القضاء، فاختاروا الشيخ أحمد

العريشي سنة 1214هـ/1799م، وكان الديوان عبارة عن محكمة ويتكون من اثني

عشر تاجراً نصفهم من الأقباط والباقي من المسلمين، وقاضيه الكبير قبطي ينظر

الديوان في أمور التجارة والمواريث والدعاوى، لكن هذا الديوان أخفق في مهامه،

فأعيدت ولايته إلى القاضي الشرعي، وكان مما قرره نابليون أنه: «سوف تكلف

القوة العامة بتطبيق القانون؛ لكنها سوف تكون تابعة على نحو صارم لقرارات

القضاة الشرعيين» [6] .

وبعد هزيمة الفرنسيين على يد القوات العثمانية والبريطانية في معركة أبي

قير وانسحابهم تولى محمد علي بعد اضطرابات شعبية انتهت باختياره وتوليته،

فمضى يعزز حكمه، وقد نصَّ الفرمان العثماني الصادر سنة 1841م الذي جعل له

ولاية مصر ولورثته على وجوب تطبيق القوانين والإجراءات الإدارية العثمانية

بمصر، ثم عدل ليكون التطبيق بما يتناسب مع أوضاع مصر، وقد صدرت سلسلة

من التعديلات على نظام الملكية والضريبة الفلاحية منذ بداية فترة محمد علي بما

فيها ملحق جنائي لقانون الفلاحة الصادر سنة 1830م، ويتضمن بعض المخالفات

الشرعية فيما يتعلق بالسرقة، وفي سنة 1839م صدر قانون السياسة الملكية

المتعلق بعقوبات موظفي الدولة.

وكان أكثر قوانين محمد علي ابتعاداً عن الشريعة القانون الصادر سنة 1844م

المسمى: (جمعية حقانية) ، وفي سنة 1845م أنشئت بالقاهرة والإسكندرية

محاكم خاصة للفصل في القضايا التجارية بين المصريين والأجانب، وفي سنة

1856م طبق في تلك المحاكم قانون التجارة العثماني المقتبس من القانون الفرنسي،

وفي سنة 1861م وسع سعيد باشا القضاء المختلط، فأسَّس مجلساً مدنياً مختلطاً

يضم سبعة أعضاء يرأسهم مصري ومعهم أجنبي وأرمني ويهودي، ويحضر

مندوب من القنصلية الأجنبية عند رغبته، واستفحل أمر القضاء المختلط حتى

بلغت الدول التي تطبق قوانينها في القضاء المصري المختلط 17دولة، ولم يكن

عدد رعايا تلك الدول مجتمعة يتجاوز ثمانين ألفاً. وتشمل القوانين المطبقة في

القضاء المختلط أنواع القوانين المحلية للدول الأجنبية، ويتحصل من ذلك كمية

هائلة من القوانين واجبة التطبيق؛ فكانت الفوضى قد بلغت منتهاها بهذا التنظيم،

كما كان الأجانب في المجال الجنائي في حصانة تامة أمام المحاكم المختلطة [7] ،

وكانت الشرطة لا تملك حق تفتيش منازل الأجانب مما أعطاهم نفوذاً كبيراً في

المجتمع، وأراد والي مصر إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي المتوفى سنة

1312هـ/ 1895م بمشورة من وزير خارجيته نور باشا أن يصلح تلك الفوضى،

فأسس المحاكم المختلطة سنة 1875م بعد أخذ موافقة خمس عشرة دولة أجنبية

لتتولى سلطة المحاكم القنصلية، وكان غالب قضاة المحاكم المختلطة أجانب، ففتح

الباب لتغلغل النفوذ الأجنبي في سلطتي القضاء والتشريع، فكان مشروعه إصلاحاً

عكسياً تدهورت معه مؤسسات القضاء والتشريع المحلية وخضعت للتغريب

الشامل [8] ، فطبقت تلك المحاكم القانون المدني الذي وضعه المحامي الفرنسي

مونوري مستنسخاً باللغة الفرنسية من القانون المدني الفرنسي استنساخاً

مخلاً [9] .

وفي سنة 1880م تألفت لجنة لوضع لائحة لمحاكم وطنية نظامية على غرار

المحاكم المختلطة، ومن بين أعضاء اللجنة محام إيطالي وهو قاض في محكمة

الإسكندرية المختلطة، وقامت اللجنة بوضع لائحة لترتيب المحاكم الوطنية الجديدة

صدرت سنة 1881م، وقامت اللجنة نفسها بوضع قوانين هذه المحاكم، فصيغت

على مثال القوانين المختلطة، ووضع (موريوندو) التقنين المدني الوطني

المصري، فنقله نقلاً شبه حرفي من القانون المدني المختلط، فصدر في سنة

1883م باللغة الفرنسية، ثم ترجم إلى العربية، ثم تتابعت القوانين في الصدور،

ولم يكن باعث إصدارها على النماذج الغربية هو الحاجة التحديثية بقدر ما كان

ناشئاً عن ضغوط أوروبية؛ ففي التقنينات الجديدة من العيوب والخلل والارتجال ما

يُجزَم معه بعدم منافستها للمدوَّنات الفقهية المقننة وعلى رأسها (مرشد الحيران)

الذي طبعته الدولة سنة 1890م [10] ، وقد كان بديلاً لمجلة الأحكام العثمانية التي

رفض الخديوي إسماعيل تطبيقها لما يوحي به ذلك من هيمنة الدولة العثمانية

عليه [11] .

ولننظر نموذجاً يبين ضعف الاستنساخ؛ فهذا أكبر القوانين التي وضعت وهو

القانون المدني الصادر سنة 1883م الذي يعتبر عمود التشريعات لاحتوائه على

تنظيم الالتزامات والعقود، وكبرى النظريات، فقد تضمن من الخلل ما يخل

بجوهر وظيفته. يقول السنهوري رغم تأييده لتحديث التقنين: «وأول ما يعيب

هذا التقنين أنه محض تقليد للتقنين الفرنسي العتيق، فجمع بين عيوب التقليد

وعيوب الأصل الذي قلده؛ فهناك مسائل ذات خطر كبير.. ولا نجد لها أثراً في

التقنين الفرنسي.. فمبدأ التعسف في استعمال الحق ونظرية الاستغلال.. وحوالة

الدَّيْن والإعسار المدني كل هذه المسائل الخطيرة لا نعثر على نص واحد فيها لا في

التقنين الأصيل ولا في التقنين المقلد، وحتى فيما احتواه هذان التقنينان من

النظريات والأحكام منها فقد ورد ناقصاً مبتوراً.. ففي تقنيننا القديم فضول

واقتضاب، وفيه غموض وتناقض، ثم هو يقع في كثير من الأخطاء

الفاحشة..» [12] .

وأثناء الاحتلال البريطاني حاول البريطانيون توطين المفاهيم القانونية

البريطانية في النظام التشريعي المصري؛ فعين البريطانيون مفتشاً عاماً للرقابة

يدعى: (ماكسويل)، ومديراً عاماً للإصلاح يدعى:(كليفورد لويد) وحاولا:

«ما بوسعهما لمراعاة المفاهيم القانونية البريطانية الأساسية في القوانين الجديدة،

فقاومهما وزير الحقانية آنذاك نوبار باشا، ثم حققوا نجاحاً جزئيا عندما فرضوا

مستشاراً بريطانياً لوزير العدل المصري سنة 1888م،:» وكانت هذه طريقة

البريطانيين في التأثير التدريجي غير الراديكالي حتى لا يثيروا اعتراضات

قوية « [13] ، وحين حاول البريطانيون إحداث تغيير كبير فيما عرف بمشروع

قانون» إصلاح الأخطاء والشواذ «كما سمَّاها (وليم برونيات) مستشار وزير

العدل قاومه المحامون ورجال القضاء بقوة فسقط، ونقل لتطبيقه في

العراق وطبق فيه [14] ، وكان ذلك آخر مراحل التغريب التشريعي

تقدماً وجذرية.

ثم بدأت موجة العودة للشريعة الإسلامية تدريجياً، وكان أول خطواتها صدور

القانون المدني الجديد سنة 1948م الذي صحح جوانب من الانحرافات السابقة، ولا

زالت المسيرة في تقدم على مستوى التأصيل والدراسة وفي جوانب من التطبيق،

لكن طريق العودة طويل وخاصة في جوانبه السياسية كما سيأتي.

ويتبادر إلى الذهن تساؤلات كبيرة عن تفسير حدوث هذه التغيرات الشاملة في

مدة متقاربة، وما الباعث إليها؟ وأين المؤسسات العريقة في مصر؟ أين الأزهر

والقضاء الشرعي؟ وأين الزعماء الوطنيون؟ وهل حدثت مقاومة لهذا التغريب

الهش المقفر من وجوه عديدة؟ وأين البدائل الشرعية؟ أليست الأمة الإسلامية رائدة

الحضارة الفقهية؟ والسؤال الأخير: ما تفسير استقبال أوروبا والعالم لثورة تنظيم

القوانين، والتحول من النظام العرفي ونظام السوابق إلى نظام التقنين؟

سأبدأ بالسؤال الأخير فأمهد به لمناقشة هذه القضايا.

ثورة التقنين في العالم وعلاقتها بحملة نابليون على مصر:

إن دراسة الظروف التي اقتحمت فيها القوانين الوضعية مجتمعاتنا واستخلاص

القدر المشترك بينها وبين واقعنا اليوم يقدم الأساس المتين لفهم التحولات وأسبابها

وخطوات ملء المنخفضات ومواقع الطلب التطبيقي التي تتسلل إليها النظم الحديثة

دون تصحيح ومعالجة، وما أشبه الليلة بالبارحة! فالدراسة تظهر أن الأخطاء

تتكرر برسمها وروحها وتفاصيلها تقريباً، ولتكون تلك الأخطاء هي الذرائع لتنحية

شريعة ربِّ العالمين، وفقه خيار الأمة لتحل محلها النظم والمراجع والثقافات

الوضعية بكل آفاتها الفلسفية والعقائدية، ويظهر بيقين من عبر التاريخ التي يأتي

على نماذج منها هذا المقال أن المبادرة والتحفز العلمي والفكري والعمل الإيجابي

البنائي لكفيل بحول الله - تعالى - أن يحصر التحول في الوسائل واستخلاص

مزايا الجديد دون تفريط بمفاهيم الشرع ومقاصده ومصادره، وهذا ما يدعو إلى

بيان ظروف الاحتلال التشريعي كما يسميه السنهوري في كتابه: (نظرية العقد)

الصادر سنة 1935م وتدارسها وإظهار خطوات العمل مما يستطيعه المتخصصون

في الدراسات الفقهية والفكرية والمحتسبون وأهل التخصصات القانونية، وتمهيداً

لذلك فلننتقل إلى ظروف الثورة التقنينية في أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص.

ظروف هيمنة حركة التقنين في أوروبا:

أدوات الهيمنة وانتهاك الحقوق:

استحكمت حلقات الهيمنة والاستغلال والظلم والتعدي على الحقوق على

الشعوب الأوروبية من قبل ثلاث سلطات وهي: الكنيسة، والإقطاع، والنظم

الإمبراطورية. وقد كانت الكنيسة تحتكر المعرفة بما في ذلك المعرفة القانونية

وتقاتل دون شيوعها وانفلات زمام السيطرة عليها من يدها، فحرمت كل من يخالف

اتجاهاتها وقراراتها، وقامت في سبيل ذلك بحملات التفتيش الهائلة على مدى قرون

طويلة، وأصدرت قرارات بعقوبات عظيمة ضد من يتجرأ على مخالفتها؛ وذلك

لحماية امتيازاتها الدينية والمادية التي كانت تهيمن عليها؛ فقد بلغت سلطتها إلى

مستوى توجيه سياسة أوروبا بكاملها، وقد أصدرت قرارات الحرمات ضد سلاطين

كبار مثل هنري الرابع. أما نفوذها المادي فيوضحه مراجعة خريطة أملاك الكنيسة

في أوروبا؛ حيث بلغت في مناطق وأزمنة عديدة ما يتجاوز ثلث الملكية العقارية؛

ونعلم ما تعنيه الملكية العقارية في أوروبا حيث الخصوبة وضيق المساحة وكثافة

السكان؛ ففرنسا على سبيل المثال في أول القرن التاسع كان يقطنها ثلاثون مليون

نسمة، وندرك مقدار النفوذ الكنسي المترتب على ذلك إذا قارنا ذلك بمصر التي لا

يصل سكانها في ذلك العهد إلى ثلاثة ملايين نسمه، أما التنظيم الإقطاعي فقد كان

تنظيماً شرساً لاستغلال الشعوب الأوروبية بنظام السخرة أي العمل بمجرد الغذاء

والمأوى دون ملكية أو حقوق معتبرة؛ فالتقاضي في الإقطاعية يخضع لسلطة السيد

خضوعاً مطلقاً عبر آليات متعددة منها ملكية النبلاء ونظام رق الأرض ليجعل

الإنسان:» في منزلة الحيوانات «.

ولنعلم فداحة ظلم التنظيم الإقطاعي فسنعرض لبعض الأمثلة؛ إذ كان يخضع

للنظام الإقطاعي في روسيا مثلاً أربعة أخماس السكان، وفي بولونيا يخضع سبعة

ملايين ونصف المليون من السكان لعشرة آلاف نبيل [15] ، ومع ظهور المفاهيم

والنظم السياسية الجديدة التي حلت محل السلطة الإقطاعية بشكل متتابع في أوروبا

لم يفقد النبلاء والكنسيون نفوذهم وامتيازاتهم المقننة بقوانين عرفية وكنسية جائرة،

وقد تكاملت مفاهيم ونظم الإقطاع والنظم السياسية التالية مع النظم والطموحات

الإمبراطورية ليتكون من تلك التجمعات مراكز القوة في القارة تصطرع من أجل

الهيمنة والنفوذ لتلتهم مقومات القارة البشرية والمادية في فترات حروب طويلة

يتخللها فترات سلم قصيرة أضنت الشعوب الأوروبية وهيأتها للثورة والتحول،

وكان من أخطر وسائل الثورة والتحول الطباعة وما تقدمه من إمكانيات التواصل

الذي لم يعرف من قبل.

حركات مقاومة نظم الهيمنة القديمة وتشريعاتها:

لقد مهدت عمليات التنظير المتواصل للحقوق، وكشفت المظالم الكنسية

والإقطاعية ونشوء المدن التجارية السبيل لمقاومة الجور القانوني الهائل الذي يلف

القارة عبر النظم المختلفة، حتى تجسد ذلك مع الثورة الفرنسية التي حولت الأفكار

النظرية إلى تجسيد يطابق بعض الأفكار حيناً ويهدمها أحياناً أكثر، لكنها كانت

الحركة الأعمق أثراً في مسيرة التحول نحو تحرير الحقوق.

لنقرأ بعض ملامح ذلك الصراع الفكري؛ ففولتير مثلاً تولى الحملة على

الكنيسة مردداً العبارة التي عرف بها:» لنسحق الشائنة «، يعني بها الكنيسة،

وتلك كانت نزعته طيلة حياته، واعتقد الجمهور:» أن محاربة الإكليروس طبقة

رجال الكنيسة قد تكفي لتقويم الحكومات ولجعل المجتمعات كاملة وللإيصال إلى

السعادة «فانتشر الإلحاد في كل مكان، وقدم رجال الكنيسة تنازلاتهم في محاولة

لمقاومة الاجتثاث، ونادوا بالمتدين المستنير الذي يجمع العلم مع التدين المسيحي،

ولم يوقف هذا تلك الهجمات وانتصاراتها، ولم تكن هذه الحال قاصرة على الكنيسة

الكاثوليكية؛ بل أدركت الكنائس البروتستانتية المنفتحة فنزلت بها:» مصائب

مماثلة.. - قادت إلى - نزعة عامة إلى المذهب العقلي والدين الطبيعي

والأخلاق « [16] . وعلى الجانب الآخر خلخلت دعوات المساواة ثقافة الإقطاع؛

ففي سنة 1754م نشر جون جاك روسو كتابه الأشهر:» خطبة في منشأ وأسس

التفاوت بين البشر «، ثم تبعه العقد الاجتماعي ليؤسس العلاقة في الشراكة

الاجتماعية تأسيساً قانونياً [17] باحثاً عن العدل المفقود في النظم الأوروبية، فقال

بمبدأ العدل والفضيلة المطبوعة في أعماقنا، فيلتقط (عمانوئيل كانط) ذلك

وينطلق ليؤسس لقواعد الأخلاق بما فيها العدل في فلسفته النقدية، وليقدم تأصيلاً

فلسفياً بدرجة ما للمحافظة الاجتماعية خلافاً لاتجاه الفلسفة الفرنسية المتشدد.

لم تقف المعاقل القديمة أمام الفكر الإصلاحي المنادي بإزاحة الظلم الاجتماعي

بأنواعه المختلفة، واشترك في المعركة فلاسفة الأرستقراطية المحافظة وعلى

رأسهم في المجال التشريعي (مونتيسكو) صاحب المدونة الشهيرة (روح الشرائع)

فحاول أن يثبت أن الدساتير السياسية ترتبط بنواميس طبيعية توجدها كظروف

الإقليم والتربة وطبيعة الشعوب وأخلاقها متخذاً من ذلك الحجة لئلا يمس الدستور

الفرنسي وطبقة الأشراف الفرنسية بحجة حق الفتح، وينتهي إلى أن العدل والحق

قيمة يحددها الواقع ليضفي المشروعية بذلك على النظم القائمة وما فيها من ظلم

طبقي وتشريعي [18] .

الثورة الفرنسية.. نفوذ وثقافة تبحث عن رسالة:

في ظل هذه التحولات الكبيرة في عقل القارة وضميرها ونظمها اشتعلت

الثورة الفرنسية، وأجهزت على نظام الإقطاع، والكنيسة لتنطلق طاقة الثورة

وتندلع آثارها في أرجاء أوروبا، فزلزلت أنظمتها ومراكز قواها وأفكارها التقليدية،

وكان من أنفذ وسائل الثورة والتحول المضامين الثقافية والحقوقية.

في هذه الأثناء كان التنافس الاستعماري بين فرنسا وبريطانيا في ذروته،

وكان أهم مراكز النفوذ البريطاني الداعمة لاقتصادها المستعمرات البريطانية في

الهند باعتبارها مصدر المواد الخام وسوقاً كبيرة للمنتجات البريطانية، وقد أدرك

الاستراتيجيون الفرنسيون أهمية مصر لخنق الاقتصاد البريطاني بتضييق الطريق

الرابط بين بريطانيا والهند [19] ، وكان للمذكرة التي قدمها رئيس الجالية الفرنسية

في مصر ويدعى: (مجالون) سنة 1798م لوزير الخارجية الفرنسي (تاليران)

أثر حاسم في تغيير استراتيجية فرنسا تجاه مصر، قدم على إثرها تاليران لحكومته

تقريره مبيناً فيه الظروف الاستراتيجية المواتية لاحتلال مصر ومن ذلك سوء إدارة

المماليك وعجزهم عن المقاومة، وفي سنة 1798م صدرت أوامر الحكومة

الفرنسية لنابليون بأن يجهز الحملة لاحتلال مصر. وبالفعل احتل نابليون مصر،

واستعدى ذلك بريطانيا فتحالفت مع العثمانيين وهزموا الأسطول الفرنسي في معركة

أبي قير، فانسحب نابليون وخلَّف وراءه القائد الفرنسي كليبر الذي قتل، ثم

انسحبت القوات الفرنسية تنفيذاً لاتفاقية دولية بين فرنسا من جهة والعثمانيين

والبريطانيين من جهة أخرى.

نابليون يصدر قانونه المدني بعد عودته من مصر:

في هذا المناخ الثقافي والسياسي التنافسي المتوتر بزغ فجر تحول تاريخي

عالمي عظيم في المجال التشريعي استهلته فرنسا بإصدارها القانون المدني الفرنسي،

وهو أول قانون مدني يصدر في أوروبا، وقد صدر بدعم كبير من نابليون حيث

عارض الجمهوريون المشروع، فرفض المجلس التشريعي الأبواب الأولى منه،

فسحب نابليون المشروع ثم كرَّ بحركة بوليسية تمكن بها من السيطرة على المجلس،

فوافق على القانون في مارس سنة 1804م وذلك بعد أقل من خمس سنوات من

عودة نابليون من مصر [20] ، ثم تبعه قانون المرافعات المدنية الفرنسي، والقانون

التجاري الفرنسي سنة 1807م، وقانون الإجراءات الجنائية الفرنسي سنة 1808م،

وقانون العقوبات الفرنسي سنة 1810م.

وقد أدت حركة التقنين الفرنسية هذه إلى جدل فكري أوروبي عريض شارك

فيها الفلاسفة ورجال القانون؛ ففي ألمانيا مثلاً كان أبرز معارضي التقنين (سافيني)

أحد أنصار المدرسة القانونية التاريخية التي تعتقد أن القانون ثمرة الحركة

الاجتماعية، وأن تقنينه يؤدي إلى الإخلال بوظيفته بحسب هذه المدرسة [21] . وفي

المقابل كان (تيبو) من أبرز مؤيدي التقنين، وأصدر رسالته في هذا المعنى سنة

1814م، وقد تراجع معارضو التقنين. وبمساعدة من الظروف الطبقية

والاجتماعية والفكرية والثورية التي تقدَّمَ إيجاز لملامحها اكتسحت حركة التقنين

أوروبا والعالم كله حتى قيل بأن:» أهم الخصائص المميزة لهذا العصر الحركة

العامة للتقنين في أوروبا وأمريكا وكذلك في بعض دول آسيا وأفريقيا « [22] وكان

هذا التحول أحد أوجه التأثير الحركي العالمي للثورة الفرنسية، ومن المفارقات

الظاهرة هنا العلاقة الخفية بين الثورة الفرنسية الغازية المنتصرة على مصر - قبل

تدخل العثمانيين والإنجليز - والتحولات التشريعية في فرنسا. وبعبارة أخرى:

هل كانت مصر والفقه الإسلامي في عزلة عن هذا التحول التشريعي في فرنسا

والعالم من ورائها؟

إن الإجابة على هذا التساؤل يفرض قدراً من الحذر لتحقيق الموضوعية في

هذه المسألة، فلا يجوز الإبحار في أوهام حالمة تربط كل حركة في أوروبا بتراث

المسلمين؛ لكن في الوقت نفسه لا يجوز الصمت أمام النقل غير المشكور من ثقافة

المسلمين الذي تمارسه أوروبا وقد اكتشف في مجالات عديدة تتبعها بعض مؤرخي

الفكر.

علاقة قانون نابليون بالفقه الإسلامي:

لقد حققت أوروبا تقدماً في مجالات الفكر السياسي والقانوني، وتطور عبر

حقب من الزمن إثر علاقاتها مع العالم الإسلامي ونشاطات مفكريها، وهذه مسألة

تاريخية معروفة [23] ، غير أن ما يهمني هنا هو العلاقة المباشرة بين حملة نابليون

على مصر وصدور التقنين المدني الفرنسي المعروف بقانون نابليون.

تكشف حوادث تاريخ الحملة الفرنسية أن نابليون قد تعامل مع علماء الشريعة

في مصر، وتعرَّف على جوانب من أحكامها، وقد حاول أن يهيمن على توجهاتهم،

فواجهته عقبة الصمود الفقهي وجعلته يتراجع في حالات كثيرة أبرزت أمامه

مفهوم الشريعة وقدسية أحكامها ونفاذها، وكان نابليون يعلم بمشورة المستشرقين

عمق علاقة المسلمين بأحكام الشريعة، ويسمي الأزهر:(سوربون الشرق) ،

وعلماؤه هم:» الذين يصوغون الرأي العام، ومن ثم فإن عليه ربط السلطة

الفرنسية ربطاً وثيقاً برجال الدين هؤلاء « [24] وقرر أن تُحْكَم القاهرة عبر ديوان

مؤلف من تسعة أشخاص معظمهم من العلماء، ثم قرر في سنة 1799م أن الجرائم

التي تقع في مصر إنما يرجع اختصاص النظر فيها بشكل طبيعي إلى المحاكم

الإسلامية ما عدا ما يهدد الأمن العام وما يخص الفرنسيين [25] .

وقد درس علماء الحملة الفرنسيون الشريعة ضمن مكونات الثقافة المصرية

الإسلامية برعاية مباشرة من القائد الفرنسي كليبر الذي أمر بتكوين لجنة لدراسة

مصر الحديثة تتكون من مجموعة من العلماء المقربين من كليبر، وذلك قبل سنة

1799م، ليبدأ برنامج دراسة مصر في المجالات الحضارية والطبيعية المختلفة،

وكان في صدارتها التشريع، لاحظ هذا في نص تاريخي عن الحملة يقول:» إن

جميع جوانب مصر الإسلامية واردة في البرنامج: التشريع، الأعراف المدنية

والدينية، الإدارة، الشرطة، الحكم والتاريخ.. «، [26] . لم تكن الهمة العلمية

باهتة أو هامشية؛ لقد كانت واضحة المعالم جلية الأهداف، ولنترك الناشر الذي

كلفه الجنرال كليبر بالمهمة ويدعى (الألزاسي) يوضح ذلك؛ فقد كتب مخاطباً

حكومة بلاده عن علماء الحملة بقوله:» إن الذين يملكون هذه المجموعة مستعدون

لأن يجعلوا عملهم متاحاً للجميع تحت إشراف الحكومة.. هذا المشروع الذي سوف

ترحب به كل حكومات أوروبا.. إن الأبحاث المتعلقة بالحالة الراهنة والحديثة

لمصر إنما تقدم موضوعاً مهماً للفلسفة وللسياسة. فالقوانين والعادات والتاريخ

والحكم والصناعة والتجارة.. تستحق دراية أشمل بها لا يمكن انتظارها من الرحالة

الفرنسيين أو الأجانب الذين سبقونا، وقد جمعت الأشخاص الذين بدوا لي أكثر

ملاءمة للتنافس في هذا العمل، ومنحتهم كل السلطة والإمكانات التي يحتاجون

إليها « [27] .

لقد كان هؤلاء العلماء يدركون أنهم أمام ثروة عظيمة، فاستعصى عليهم

التعامل فيما بينهم استئثاراً من بعضهم بما أدرك من تلك الكنوز. يقول ناشر العمل

الموسوعي ذاك:» إن هؤلاء العلماء الذين انهالت عليهم الغنيمة التي كانوا معتزين

بها عن حق كانوا يحيون في حذر متواصل أحدهم من الآخر، وكانوا يرفضون

تبادل بحوثهم فيما بينهم.. والحال أن الجنرال كليبر قد جمعهم عدة مرات عنده دون

أن يتمكن من التوصل إلى شيء حاسم، وفي نهاية الأمر خطر له أن يقترح عليهم

أن أكون ناشراً لهذا العمل المهم، وقد وافقوا على ذلك، وأرسل الجنرال في

طلبي.. وقد وقَّع الجميع على هذا الاتفاق « [28] . وبذلك يعتبر بعض

المؤرخين الفرنسيين أن:» التركة الأساسية لحملة مصر هي تركة علمية

وإيديولوجية ونحن ندين لها بهذا الأثر المهم (وصف مصر) وهو عمل يثير

الإعجاب، ويكمن في أساس أية معرفة علمية عن مصر أكانت مصر القديمة أم

مصر الإسلامية « [29] .

ولم تكن البحوث المباشرة لعلماء الموسوعة في وصف مصر هي المصدر

الوحيد لتأثير الفقه الإسلامي على قانون نابليون، بل يمكن تتبع مصادر أخرى،

منها ما ذكره بعض المؤرخين عن اصطحاب نابليون لمجموعة من كتب الفقه

والأحكام حين انسحب قافلاً من مصر. ولاحظ هنا أنه انسحب في ظروف هزيمة

عسكرية وتدهور سياسي خطير للموقف الفرنسي في أوروبا بعد هزيمة الجيوش

الفرنسية أمام التحالف الأوروبي في جنوب القارة. يقول المؤرخ محمد فريد بك

المحامي:» وكذلك فعل نابليون الشهير حينما دخل مصر في أوائل القرن الثالث

عشر من الهجرة؛ فإنه أخذ كثيراً من كتب الفقه وأحكام الشريعة الغراء « [30] .

من خلال هذه الحقائق يمكن أن نستنتج بوضوح اكتشاف الفرنسيين للفقه

الإسلامي، ودوره الكبير في المجتمع المصري المسلم، وبهذا سيكون من الصعب

افتراض المصادفة المحضة حين يُصدِر نابليون القانون المدني بعد عودته من مصر

بأربع سنوات وبضعة أشهر، وتتحول هذه القرائن التاريخية إلى أدلة واضحة على

العلاقة بين قانون نابليون والفقه الإسلامي مع المقارنة الموضوعية وتتبع أحكام

الفقه الإسلامي المخالفة لأحكام القانون الروماني السارية قبل قانون نابليون. وقد

حاول الشيخ سيد عبد الله تتبع أحكام الفقه الإسلامي المدرجة ضمن هذا القانون في

كتابه: (المقارنات التشريعية) المطبوع قبيل صدور القانون المدني المصري سنة

1948م.

وما يهمنا في هذا السياق هو تفطُّن نابليون للوظيفة الاجتماعية التي يقوم بها

الفقه المدوَّن ذو المعالم الواضحة المستقل عن الطبقات والسلطات في المجتمع

المصري، وجوهر عملية التقنين لا تتجاوز هذا المفهوم؛ إذ هي في الواقع

الحضاري عبارة عن ضبط عادل للحقوق مفصل وواضح المعالم يعرفه الجميع

بيسر وسهولة، ويستعلي على التغيير بالهوى والممارسة الفردية أو الطبقية، وهذا

بالضبط ما كانت تتشوَّف إليه أوروبا في حالتها الحقوقية في تلك الحقبة، ويمكن أن

نلخص حالة فقدانه الشائعة في أوروبا بأنها حالة منخفَض حقوقي جذبت بقوة هائلة

هذا المفهوم من الفقه المصري الذي عرفه نابليون بحسه المرهف النفاذ المعروف

عنه.

إن ما نستنتجه من هذه الملاحظات هو الدور الكبير الذي صنعه الفقه

الإسلامي في التحول العالمي نحو التقنين، وبذلك يمكن أن نعتبر موجة التقنين من

ثمرات تفوق الفقه الإسلامي التي التقطتها الحركية المتدفقة للثورة الفرنسية وجعلتها

واحدة من أهم وسائلها في تغيير العالم وتحويله نحو ثقافتها، في الوقت الذي يغط

فيه أصحاب الثقافة الأصليين في سبات يفقدون به التأثير على حركة العالم ونظمه،

فضلاً عن امتلاك زمام المبادرة في نظمهم وتشريعاتهم، وما ذلك إلا من ثمرات

التردد والانكفاء والضعف الحضاري.

مواجهة الاحتلال التشريعي في مصر:

طرحنا فيما تقدم التساؤل عن أسباب تمكن حركة التقنين في مصر الموصوفة

في صدر هذا المقال؛ مع أن واقع الفقه في مصر كان من أهم وسائل تحريك

التقنين في فرنسا نفسها، وهل استسلمت مصر للتشريعات الفرنسية المصبوغة

بالثقافة الفرنسية والأوروبية الوضعية وتقبلتها؟

لقد كانت الآثار المباشرة للحملة الفرنسية محدودة [31] ، لكنها خلفت آثاراً غير

مباشرة لا زالت نتائجها تصبغ المجتمع والثقافة المصرية، وكان من أهم تلك

النتائج كسر العزلة الدولية والحضارية التي فرضتها الدولة العثمانية على المجتمع

المصري والعربي، فتحطمت تلك الحواجز فجأة، وتركت الأبواب مشرعة أمام

الاتصال المباشر بالعالم الخارجي وبخاصة أوروبا، فانطلق محمد علي بعد استتباب

الحكم له يتصل بإيطاليا، فأرسل لها بعثة سنة 1813م لدراسة العلوم العسكرية

وبناء السفن والهندسة وغيرها، ثم تحول إلى فرنسا، فأرسل لها أول بعثة علمية

كبيرة سنة 1826م.

ومن آثار الحملة الفرنسية اكتشاف مكانة الأزهر، ومقدرته القيادية في

المجتمع؛ فقد واجه الفرنسيون ثورتين شعبيتين قادهما الأزهر، كما قاد الأزاهرة

ثورة ضد الأمير المملوكي عثمان البرديسي فهرب من القاهرة، ثم قادوا مع الزعيم

الشعبي عمر مكرم ثورة ضد خورشيد باشا وولوا محمد علي باشا بشروط سُمِّيت:

(المشروطية) كانت في وقت مبكر بمثابة الدستور وذلك سنة 1220هـ /1805م،

ثم قرر الباب العالي عزل محمد علي، لكن العلماء قادوا حركة شعبية ثبتته من

جديد [32] ، وكان سليمان الحلبي قاتل القائد الفرنسي كليبر تلميذاً أزهرياً أعدم ومعه

ثلة من شيوخ الأزهر، فوجه محمد علي جهوده لتكبيل الأزهر، فحاصر موارده

الوقفية، وأعمل الدسائس بين شيوخه مما أسهم في تحطيم دوره السياسي الذي كان

يقوم به في أزمان المحن:» فمن سنة 1809م 1815م بدأ محمد علي بتصفية

الأوقاف، وألحق جرايات المساجد والعلماء بالدولة؛ وكان ذلك جزءاً من بدء

معركته ضد العلماء، وهو ما سيترك آثاره السلبية لاحقاً على مجمل مشروع محمد

علي، ويكون سبباً رئيساً من بين أسباب عدم قدرته على مواجهة الدول الكبرى،

وقد فقد تأييد العلماء « [33] ،» لقد دفع محمد علي ثمن هذا الخطأ غالياً عندما

أحاطت به جيوش الغرب، وأنزلت به عسكرياً الضربة القاضية؛ فالاعتماد على

الجيش والدولة بعيداً عن مشاركة فعلية للشعب وقياداته لا تنفع عند مواجهة جيوش

متفوقة.. أما عندما يدخل في الحساب مقاومة المجتمع والشعب وتكون المعركة

دفاعية فإن مواجهة مثل تلك الجيوش تصبح ممكنة بل قابلة للانتصار، كما حدث

في مثال تجربة محمد علي عام 1807م « [34] .

كما حطم محمد علي الروابط المهنية لأرباب الحرف، والتجار، وتعامل معهم

كما تعامل مع المجندين لخدمة الجيش؛ فتحطمت الصنائع والحرف، واضمحلت

طبقة التجار، وخسر بذلك طبقة وسطى كان يمكن أن تقود إلى مجتمع صناعي

مستقر، واشتغل بتسخير المجتمع المصري وموارده لتحقيق طموحاته العسكرية،

فاستنزفها في مغامرات لم يكتب لها النجاح، وقد أدى ذلك فيما بعد إلى تحول

المجتمع المصري إلى حطام لا يملك الحد الأدنى من وسائل التماسك والثبات للدفاع

عن مقوماته الاقتصادية والثقافية، فأضعف ذلك الحكومات المصرية المتوالية في

وجه الدول الكبرى، ومهد السبل لاستفحال الفساد دون قدرة على المحاسبة والإنكار،

فغرقت الدولة في الديون حيث تجاوزت ديون مصر في عهد الخديوي إسماعيل

126مليون جنيه بريطاني، وعجزت عن القيام بالتزاماتها؛ مما أدى إلى التدخل

الأجنبي بشكل خطير؛ حيث اشترت الحكومة البريطانية أسهم الحكومة المصرية

في قناة السويس سنة 1875م، ورهنت أراضي مصرية لأسرة روتشيلد مقابل

ديون الحكومة، وكانت الخطوة الثانية للتمكين الأجنبي بسبب الإسراف وسوء

التدبير المالي هي تأسيس (صندوق الدَيْن) ليرأسه أربعة أجانب يتولى استلام

المبالغ المخصصة للديون من المصالح المحلية، واستفحل التدخل بإصدار الخديوي

إسماعيل لمرسوم يفرض الرقابة الأجنبية على واردات ومصروفات مصر، ثم

فرضت بريطانيا وفرنسا على الخديوي التنازل عن الحكم المطلق وثروات أسرته،

وشكلت الحكومة بوزيرين أجنبيين أحدهما فرنسي والآخر بريطاني، ثم أخفقت هذه

الحكومة لفسادها المالي، فشكلت الوزارة الأوروبية الثانية، ثم خلع الباب العالي

الخديوي إسماعيل بتدخل من بريطانيا وفرنسا وعيَّن محمد توفيق خلفاً لوالده،

فانساق للتوجيه الغربي مما شحن مصر وهيأها للثورة العرابية الشهيرة التي انتهت

بالاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882م، وكانت سياسة بريطانيا هي التمكن من

(النفوذ الفعلي في مصر)[35]، وقد نتج عن ذلك انتقال:» السلطة الفعلية في

مصر بطريقة مستترة إلى ممثل إنجلترا في مصر، أو القنصل البريطاني وأعوانه

من المستشارين الذين عينوا في الوزارات المختلفة « [36] ، ثم عينت الحكومة

البريطانية رجل الاستعمار البارع اللورد كرومر سنة 1883م، وهكذا ترسخ نفوذ

المستعمر، وبدأ تطور الفكر الوطني وكانت قضيته الكبرى تحقيق الاستقلال من

الهيمنة العسكرية، ووجد هذا التيار في الخديوي عباس الثاني الذي خلف والده

رمزاً وطنياً تواقاً إلى التحرر من نفوذ الإدارة الاستعمارية، فالتف حوله الوطنيون

وعلى رأسهم مصطفى كامل الزعيم الشاب الذي درس في المدارس الأميرية وتابع

تعليمه في فرنسا؛ لكنه كان ممن ورث الفكر السياسي لدى جمال الدين الأفغاني:

» فكان قوي العقيدة الدينية ورأى أن الدين والوطنية توأمان متلازمان، وأن الرجل

الذي يتمكن الدين من فؤاده يحب وطنه حباً صادقاً « [37] وكان يؤمن بالجامعة

الإسلامية، وأسس الحزب الوطني في مواجهة حزب الأمة الذي يمثل كبار الملاك.

أما حزب الأمة فقد أسسه أعضاء شركة صحيفة (الجريدة) ، وهم من أتباع

محمد عبده بعد تحوله عن طريق شيخه جمال الدين وانتهاجه لمسلك التغيير

ومواجهة الاحتلال عبر التربية والتعليم بعد عودته من منفاه إثر الثورة

العرابية [38] ، وكان من أبرز أتباعه الوطنيين سعد زغلول، وهم باتجاههم

التربوي الذي صُبغ بفكر محمد عبده يخالفون مسلك مصطفى كامل الذي رفع شعار

الجلاء الكامل، وقد انضم إلى حزب الأمة فيما بعد كبار اللبراليين المصريين

المؤمنين بالتغيير الاجتماعي المتابع للغرب من أمثال طه حسين، ومحمد

حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق [39] .

وبعد سنوات من المقاومة والمواقف خضع الخديوي عباس الثاني لسلطة

الاحتلال منذ سنة 1899م، وكانت قضية ذلك الجيل هي الاستقلال وتأسيس المدنية

لمقاومة الهيمنة الأجنبية، كما أن ذلك الجيل من الوطنيين قد:» تأثر..

بالاتجاهات الغربية واختلف عن أولئك الذين تتلمذوا في الأزهر وتأثروا بالبيئة

الدينية، وحدث تصادم بين الفكر التقليدي والفكر المتأثر بالغرب، وانعكس ذلك في

برامج الأحزاب السياسية التي ظهرت في مصر فيما بين عامي 1907 - 1914م.

استمر الحزبان في عملهما، واستحوذا على عقول المصريين تحت ضغط

هيمنة المستعمر [40] ، وراجت عاطفة الحزب الوطني لتبنيه للجامعة الإسلامية،

فاستقطب المؤمنين بالعمل بوضوح لتحقيق الجلاء، ولم يهتم الحزب بالجوانب

الاقتصادية والاجتماعية فضلاً عن التشريعية لتركيزه على التحرير، وكان يدعو

إلى التحديث: «غير أن هذا لا يعني أن على مصر أن تقلد أوروبا تقليداً أعمى؛

إذ يجب أن تبقى وفية لمبادئ الإسلام المفسرة تفسيراً صحيحا» [41] ، وأما حزب

الوفد - الذي أسسه تلاميذ محمد عبده - فقد أخذ اتجاهاً علمانياً مخالفاً لتوجه محمد

عبده فكانت فيه: «فئة ممن احتفظوا بالولاء الفكري لمعلمهم، غير أنهم أخذوا

يعدُّون العدة لمجتمع علماني يبقى الإسلام فيه محترماً، لكنه لا يكون الموجِّه للقانون

والسياسة» [42] ؛ فقد عمَّقت صحيفة الجريدة لسان حزب الأمة التي يرأسها لطفي

السيد ذو التوجه اللبرالي المتأثر بالنصارى اللبنانيين وعلى رأسهم بطرس البستاني،

وشبلي شميل، وأنطون فرج التوجه نحو الثقافة الغربية خاصة في مجال

الدستور والعلوم السياسية والديمقراطية؛ فالانطباع: «القوي الذي تتركه فينا

قراءة تلك المقالات هو الاندهاش من الدور الصغير الذي لعبه الإسلام في تفكير

رجل تتلمذ على محمد عبده.. لم يكن الإسلام هو المبدأ المسيطر على تفكيره؛ فهو

يهتم كالأفغاني بالدفاع عنه لكنه لا يهتم كمحمد عبده بإعادة الشريعة الإسلامية إلى

مركزها كأساس خلقي للمجتمع» [43] كما يقول حوراني.

وبعد الحرب العالمية الأولى أعلنت بريطانيا الحماية على مصر، وهي مرتبة

بين الضم والاحتلال. وبعد انقضاء الحرب العالمية الأولى انعقد مؤتمر الصلح في

باريس، واستيقظت الحركة الوطنية، وتوجه زعماء وطنيون على رأسهم سعد

زغلول إلى دار الحماية يطالبون باستقلال مصر والسماح بسفرهم لبريطانيا لعرض

القضية الوطنية على مؤتمر الصلح؛ فألقت السلطات القبض على الوفد، ونفتهم في

اليوم التالي إلى مالطا، فانفجرت الثورة الشعبية، فواجهها الاحتلال بالعنف؛ مما

فجَّر الجمهور بفئاته المختلفة وفي الأقاليم كافة، وحدث تحول جديد حيث تحركت

المرأة المصرية: «فنزلت لأول مرة في حياتها إلى ميدان النضال السياسي مسجلة

الخطوة الأولى في أخطر تطور اجتماعي في تاريخ البلاد؛ ففي يوم 6مارس - من

سنة 1919م - قامت السيدات والآنسات بمظاهرة كبرى مكونة من عدد يربو على

الثلاثمائة من كرام العائلات.. ولقد وجدت المرأة المصرية في الثورة الناشبة

فرصة العمر لتؤكد وجودها في المجتمع المصري» [44] ، وكان هذا التحول من

أبرز المتغيرات الاجتماعية التي استجابت لدعاوى التحرير الليبرالي للمرأة، وكان

ارتباط تلك الحركة بمطالب الاستقلال قد منحها زخماً سياسياً ووطنياً كبيراً، وكان

ذلك يدعم المفاهيم التي تحميها القوانين المستغربة، فأوجدت الصلة الجماهيرية

الحية مع القيم المودعة في تلك القوانين.

ولنلاحظ هنا أثر الظروف الثورية المتوقدة التي حدث فيها هذا التحول

وصلتها بالاستقلال، وخاصة أن قاسم أمين قد انطلق في كتابه من أن انحطاط الأمة

الإسلامية سببه زوال القوة المعنوية بسبب الجهل، والجهل يبدأ من العائلة؛

فالعلاقة بين الرجل والمرأة وبين الأم والولد هي أساس المجتمع، وقوة العائلة هي

القوة التي تنتشر في المجتمع؛ فجوهر القضية الاجتماعية هي قضية المرأة، وتبدأ

قضية المرأة، بتعليمها وإزالة حجابها لتتمكن من دورها في المجتمع، هكذا توهم،

ومضى بالأمة خطوة على طريق التآلف مع الأخلاق القادمة لتتفاعل هذه الخطوة

فيما بعد مع مؤثرات أخرى تمهد لتحلل الأخلاق، خاصة عند تفاعلها مع الزخم

الوجودي الذي شاع بعد الحربين العالميتين.

أدرك سعد بملاحظته لحركة الثورة أن وراءه قوة شعبية تحميه في مواقفه؛

فدفعه ذلك إلى مزيد من التشدد؛ فقد سرت في نفسه آثار الحركة الاجتماعية التي

أجبرت بريطانيا على إطلاق سراحه، ومن هنا ندرك بعداً وطنياً مهماً يتمثل في

زخم الشرعية التي انتزعها حزب الأمة الليبرالي بوصفه محركاً وطنياً ينافح عن

الاستقلال ويصوغ الثقافة والمواقف.

كما ظهرت في هذه الفترة آثار الجور الذي مارسه المستعمر، فأدى إلى تطور

الرؤية الشعبية لمجموعات من الحقوق المنتهكة، وتحققت بذلك المقدرة على تكوين

مواقف فئوية تطالب بالحقوق المنتهكة المتراكمة عبر حقب من الزمن، ولنضرب

مثالاً لذلك بحقوق العمال؛ فقد تعرضت هذه الطائفة إلى تجاوزات مستمرة على

حقوقهم وصلت إلى مستوى السخرة في بعض الأحيان، وقد أدى الاتصال بالثقافة

الجديدة إلى الوعي بالحقوق والمفاهيم التي تحميها؛ فظهرت الدعوات للمطالبة

بتعويضات العمل ونهاية الخدمة والأجور العادلة والعمل النقابي وغيرها، وقد كان

لاستغلال الاستعمار الوحشي لمجموعات العمال والفلاحين أثر بالغ في تطوير

الوعي بالحقوق العمالية؛ وذلك إبان الحرب العالمية؛ حيث نقلوا بالعربات

العسكرية إلى جبهات القتال للقيام بالأعمال المدنية في الجبهات وطرق الإمداد

كالطرق ونقل المؤن والذخائر والحفر والردم؛ فقد ساقت السلطة المحتلة من

الفلاحين مائة وخمسة وثلاثين ألف رجل للجبهة السورية لوحدها، فنشطت الحركة

العمالية بعد الحرب حتى أسفرت جهودهم عن ميلاد وثيقة تاريخية نشروها بعنوان:

(مشروع قانون حماية العمال) سنة 1919م قبيل الثورة الشعبية، وهكذا ولدت

آلية جديدة من رحم الثقافة القانونية لحماية حقوق العمال التي غاب عنها الفقيه

الشرعي بحركته الحية المعهودة في عصور ازدهار الفقه والاجتهاد؛ فحلَّ البديل

الأجنبي وسدَّ الفراغ الإصلاحي [45] .

(*) قاض سابق، ومستشار شرعي حالياً.

(1)

دخول القوانين الوضعية في مصر، إبراهيم السنيدي، رسالة ماجستير، قسم الثقافة الإسلامية، كلية الشريعة بالرياض 1/28.

(2)

رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين 1/57.

(3)

دخول القوانين، مرجع سابق 1/28.

(4)

درر الحكام في شرح مجلة الأحكام 4/612.

(5)

دخول القوانين الوضعية، مرجع سابق 1/29.

(6)

الحملة الفرنسية، ص 535 544.

(7)

الإصلاحات القانونية في مصر، ج أندرسون، بحث منشور بمجلة الاجتهاد، العدد الثالث،

ص 267.

(8)

الخلف بين النخبة والجماهير، طارق البشري، ضمن أوراق ندوة القومية العربية والإسلام، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 281.

(9)

الوسيط في شرح القانون المدني، عبد الرزاق السنهوري، دار النهضة العربية 1/12.

(10)

تاريخ الفقه الإسلامي، محمد أحمد سراج، أحمد فرج حسين، ط 1999م، ص 158.

(11)

الاجتهاد والتقليد، محمد الدسوقي، ط دار الثقافة قطر، 1407هـ، ص 189.

(12)

الوسيط، مرجع سابق، 1/14 15.

(13)

أندرسون، مرجع سابق، ص 273.

(14)

أندرسون، مرجع سابق، ص 273.

(15)

تاريخ الحضارات العام، مجموعة مؤلفين بإشراف موريس كروزيه، منشورات عويدات، بيروت، 5/508.

(16)

المرجع السابق، 5/90 95.

(17)

المرجع السابق، 5/ 95 98.

(18)

تاريخ الحضارات، مرجع سابق، 5/ 101 102.

(19)

فرنسا والإسلام، جاك فريمو، ترجمة هاشم صالح، دار قرطبة للنشر والتوثيق، قبرص،

ص 33، 20.

(20)

النظرية العامة للقانون، سمير عبد السيد تناغو، توزيع منشأة المعارف بالإسكندرية،

ص 367، أصول القانون، د عبد المنعم فرج الصدة، ط دار النهضة العربية، 1978م، 117.

(21)

النظرية العامة للقانون، مرجع سابق 368، أصول القانون، مرجع سابق، ص 117.

(22)

النظرية العامة للقانون، مرجع سابق، ص 369.

(23)

ذكر المستشرق الشهير (جوزف شاخت) نماذج لتأثير الفقه الإسلامي في قوانين التجارة الدولية وفي الحياة القانونية في الأندلس والبحر المتوسط وروسيا وفي القوانين الكنسية واليهودية، تراث الإسلام، ترجمة د حسين مؤنس وزميله، سلسلة عالم المعرفة، 2/ 106.

(24)

الحملة الفرنسية في مصر، بونابرت والإسلام، تأليف هنري لورنس وآخرين، ترجمة بشير السباعي، ط سينا للنشر، 1995م، مرجع سابق، ص 154.

(25)

المرجع السابق، ص 302.

(26)

المرجع السابق، ص، 438.

(27)

المرجع السابق، ص 439.

(28)

المرجع السابق، ص 508.

(29)

المرجع السابق، ص 625.

(30)

تاريخ الدولة العثمانية، ص 208.

(31)

دراسات في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، د عمر عبد العزيز عمر، ط دار النهضة العربية، بيروت 1990م، ص 138.

(32)

تجربة محمد علي الكبير، منير شفيق، ط دار الفلاح، بيروت، ص 9 11.

(33)

المرجع السابق، ص 15.

(34)

المرجع السابق، ص 49 50.

(35)

دراسات في تاريخ العرب الحديث، عمر عبد العزيز عمر، مرجع سابق، ص 347.

(36)

المرجع السابق، ص 349.

(37)

المرجع السابق، ص 366 367.

(38)

في بداية القرن صدر كتاب: (مصادر تفوق الأنكلوسكسون) اشتهر آنذاك يقرر أن سبب التفوق البريطاني هو مناهج التربية التي تبني في الفرد روح المبادرة، وقد قارن بين المنهجين التربويين في فرنسا وبريطانيا، وكان له أثر بالغ في انتشار مفاهيم الإصلاح من خلال التربية، فتلقفه الوفديون، وكان له تأثير في المناخ الثقافي بشكل عام راجع ألبرت حوراني، الفكر العربي،

ص 189.

(39)

دراسات في التاريخ العربي الحديث، ص 386 - 387.

(40)

الفكر العربي، ألبرت حوراني، ص 205.

(41)

المرجع السابق، ص 208.

(42)

المرجع السابق، ص 177.

(43)

المرجع السابق، ص 180.

(44)

المرجع السابق، ص 427.

(45)

دراسات في تاريخ العرب، مرجع سابق، ص 435.

ص: 16