الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الافتتاحية
هذه هي القضية
هل أصبح المسلم منبوذ هذا العصر؛ يتحاشاه الناس كما يتحاشون من الجمل
الأجرب؟
إن الحملة الإعلامية الخبيثة التي تُشَن عليه تريد ترسيخ هذه الصورة في
أذهان الناس. وتستغل أخطاءً هنا وهناك كي تكتمل الصورة ويكتمل العرس
الإعلامي الذي يقوده الغرب بعد أن استفرد بالمسلمين على الساحة العالمية.
إن من طبيعة الغربي في تفكيره وسلوكه أن لا يرضى بالتنازلات القليلة،
فكلما تنازلت له عن شيء يطلب المزيد، أما المسلمون فليسوا على استعداد لترد
دينهم وعقيدتهم إرضاءً للغرب. وأما الذين يلهثون وراءه، فهل يستطيعون بعد
الانسلاخ عن دينهم تغيير جلودهم؟ .
لا شك ستبقى نظرة الغرب إليهم نظرة فوقية ولو قبَّلوا أقدامه.
ليست (قضية الأصولية) هي الغضية المستهدفة عند الغرب، وإنما المستهدف
هو الإسلام عقيدة وسلوكاً وحضارة، وقد عبرت عن هذه النوايا صحيفة يهودية
عندما طالبت بإلغاء البرامج الدينية من الإذاعة والتلفاز، بل وإلغاء العبارات
الدينية! .
تقول الصحيفة: (الأمر العجيب في القاهرة أن حوانيت الملابس تُسمع فيها
آيات القرآن، وتذيع إذاعة القرآن الكريم هذه الأيام (19) ساعة يومياً، ويدل
استطلاع الرأي أن 96% من المستمعين المصريين يفضلون هذه الإذاعة على
غيرها) ، وتعلق الصحيفة على إلغاء برامج إذاعة القرآن والاقتصار على تلاوة
الآيات: (إن خلفية إلغاء البرامج الدينية من الإذاعة الإسلامية هو ادعاء الدوائر
العلمانية، إن مصر تستخدم عبارات دينية في جميع مجالات الحياة، مما يشكل
تربة خصبة للإسلام الأصولي..) [1] .
لقد عبر عن هذا الاتجاه أيضاً (أنس الشابّي) ، التونسي العلماني الذي كتب
معاتباً لدولة مجاورة لأنها تستقدم المشايخ من الأزهر لإلقاء المحاضرات والدروس
الدينية، يقول: (لا يمكن للأزهر إلا أن يكون السند الخفي والظاهر للتطرف
والانغلاق والتحجر، لأنه كان ولازال دائماً وأبداً معارضاً للتطور، وخصماً لحرية
الفكر، ومنذ بدايات هذا القرن مثَّل الأزهر مؤسسة الانغلاق، يدل على ذلك:
1-
فصْله للشيخ علي عبد الرازق، وإخراجه من زمرة العلماء عام 1925
بسبب إصداره كتاب (الإسلام وأصول الحكم) .
2-
تشنيعه على طه حسين إثر نشره (في الشعر الجاهلي) ، واتهامه بالكفر.
…
3-
مصادرته كتاب (مقدمة في فقه اللغة العربية) للدكتور لويس عوض،
ومصادرته (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ.
4-
الضغط لسحب كتب فرج فودة من السوق.
ذلك هو حال الأزهر..) [2] .
إن تقسيم الإسلام إلى إسلام أصولي وآخر متنور ما هو إلا مؤامرة تستهدف
شق صف المسلمين على أمل الاستفر اد بكل قسم منهم على حدة لتسهل عمليه
القضاء على المسلمين بالتدرج. ولعل أخطر ما يردده الغرب المعادي وتلاميذه
ومريدوه هو إسقاط عبارات التشنيع على المسلمين؛ تلك الصفات التي تصفهم
(بالأصولية) التي تعني عند الغرب ما لا تعنيه في اللغة العربية، واستخدام هذا
المصطلح ينسلك في إطار التضليل والتشويه.
هذه هي القضية واضحة لا التواء فيها، إنها صدور منطوية على كُره
الإسلام وأهله، وكم يبدو العلمانيون متناقضين حين يتظاهرون بالعلم والثقافة،
ويتكلمون عن سماحة الإسلام ويسره، وأنه ليس دين تشدد، وهم يحاربون الإسلام
سراً وعلانية، وأما القوميون الذين بدؤوا بالتقرب من الإسلاميين عندما أحسوا بقوة
تيار العودة إلى الدين - عادوا ونكصوا رؤوسهم وساروا في (الزفة) ، التي تهاجم
المسلمين، وأظهروا الشماتة بما يقع لهم، ونقول لهؤلاء وأولئك: إن الله ناصر
دينه، وجاعل لهذا الأمر فرجاً، والعاقبة للمتقين، وهناد حقيقة ناصعة يجب أن
يكونوا على بينة منها وهي: أنه لا يفلح عرب بلا دين؛ تلك خصوصية العرب،
وهذا قدرهم. وإذا ابتعدوا عن الإسلام فسيصيرون مِزقاً وأحاديث، وقد كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول لقريش في أول الدعوة: «قولوا كلمة تَدين لكم
بها العرب والعجم» ويقول - تعالى - مذكِّراً بما أنعم عليهم: [وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ
قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ]
[الأنفال: 26] .
ويقول الصحابي الجليل أبو برزة الأسلمي: (وإنكم - معشر العرب - كنتم
على الحال الذي قد علمتم من جهالتكم، والقلة والذلة والضلالة، وأن الله - عز
وجل - نعشكم بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم خير الأنام، حتى بلغ بكم
ما ترون..) [3] .
وها نحن نُتخطف من أرضنا، وليس لنا وزن يُذكر، ولا يكيل بمكيالنا أحد،
ولم أَرَ في واقعنا المعاصر أمة يجري عليها التقسيم والذل كما نراه في واقع العرب
والمسلمين، وبماذا نفسر هذا الغبن والكنود والجحود من الغرب للشعوب الإسلامية
التي تقطن المنطقة العربية، إلا أن العرب هم مادة الإسلام، وقطب الرحى،
والغرب يعلم هذا ولكن القوميين والعلمانيين لا يعلمون بل يتجاهلون.
نحن لا نخاطب -إزاء هذا الواقع الأليم - فئة من الناس لا يكرمهم الله -
سبحانه وتعالى بأن يكونوا أنصاراً لهذا الدين، ويكون الدين عزاً لهم، ذلك لأنهم
لا يستحقون هذا التكريم: [ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ ولَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا
وهُم مُّعْرِضُونَ] [الأنفال: 23] .
ولكننا نقول لمن بقيت فيهم بقية من أنفة وشمم: كونوا مع المسلمين في
مقاومة هذا الإذلال وهذا القهر الذي نعانيه جميعاً. أليس في هذه البقية عقلاء
يقولون الحقيقة ويصدعون بها، ويتساءلون عن المصلحة من هذه الدماء التي تُسال، وهذه الأوطان التي تخرَّب، ويعلمون أخيراً أن العز والتمكين لا يُنالان إلا بهذا
الدين، وأن هذه الحملة الشرسة على الإسلام لتدل على كماله وقوته ونفوذه في
قلوب الناس، ولابد للمسلم أن يصبر ويصابر، ويأخذ بسياسة النفس الطويل، ولا
تستخفه الجعجعة الإعلامية، ولا إرجافها وتهويلاتها.
ورحم الله عمر رضي الله عنه حين قال: (يعجبني الرجل إذا سِيم خطة
ضيم أن يقول: لا، بملء فِيه) .
رئيس التحرير
(1) هآرتس 21/3/1993.
(2)
جريدة الصحافة 20/12/1992.
(3)
سير أعلام النبلاء، 3/43.
فتوى العلامة الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن آل جبرين
تقديم: هيثم الحداد
وردنا من أحد القراء السؤال التالي:
ما تقولون في بعض الشباب من المسلمين الذين يعيشون في مجتمعات الغرب، وأحياناً في مجتمعات شرقية غير إسلامية، أو في مجتمعات إسلامية، ويفتون
لأنفسهم بأخذ الأموال أو المتاع ويتحايلون على ذلك بشتى الوسائل، وربما يحتجون
لذلك بأن تلك البلاد علمانية أو غير إسلامية. فهل يجوز ذلك؟ ! وما الدليل؟ وما
هو الأسلوب الذي نبين به - لهؤلاء - الحكم الشرعي الصحيح والتصرف اللائق
بالمسلم. أفتونا مأجورين وجزاكم الله خيراً.
قبل أن نعرض هذا السؤال على أحد العلماء للإجابة عليه لا بد من توضيح
الأمور التالية:
إن أسباب هذه الظاهرة عند هؤلاء الشباب هي الأمور التالية:
1-
عدم أخذهم للقدر الكافي من العلم الشرعي الذي يساعدهم في معرفة هذه
المسائل وأحكامها.
2-
عزوف هؤلاء الشباب عن أهل العلم الذين اشتُهروا به، وأخذهم العلم
عن الذين لم يبلغوا درجة كافية من العلم تخولهم الإفتاء في مثل هذه الأمور الشائكة
والخطيرة، فأخذوا العلم من غير أهله.
3-
ومع ما تقدم، فلم يقوموا ببحث هذه المسائل بحثاً علمياً من كتب أهل
العلم المعتبرة، حتى يبرئ ذمتهم أمام الله عز وجل حينما يقفون بين يديه،
وذلك ببذلهم غاية جهدهم في طلب الحق، والوصول إليه، وحتى لا يتعلق برقابهم
شيء من حقوق العباد - حتى وإن كانوا كفاراً - فلا يستطيعون التخلص منها إلا
بردها إلى أهلها إن أمكن.
4-
وقبل ذلك كله، حماسهم واندفاعهم، ولعل ذلك ناشئ من غيرتهم على
هذا الدين، وبغضهم لأهل الكفر والنفاق.
والمفترض على هؤلاء الشباب أن يكونوا من طلاب الحق، غير المتبعين
للهوى، أو المتعصبين لأحد، ولذلك سنبحث هذه المسألة بصورة موجزة، سريعة، وسنعرض أصلها الذي يُبنى عليه حكمها، فما كان فيه من حق أُخذ، وعمل به،
وما كان غير ذلك ترك وطرح، فنقول:
يقسم الفقهاء الدُّور إلى قسمين رئيسيين، دار الإسلام، ودار الكفر.
أما دار الإسلام فهي الدار التي تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة مستعلية.
وأما دار الكفر فهي الدار التي تكون أحكام الكفر فيها ظاهرة مستعلية.
وإذا استقرأنا أحوال دار الكفر، وأحوال الكفار، تبين لنا أن دار الكفر لا
تنفك عن أحوال ثلاث: الأولى: أن يُعقد لأهلها عقد موادعة أو معاهدة، والمعاهدة
هي مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة، بعوض أو بغير عوض ولو
كان فيهم من يقر على دينه ومن لا يقر [1] والأصل في مشروعية المعاهدة الكتاب
والسنة والإجماع، أما من الكتاب فقول الله عز وجل: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لَهَا وتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] [الأنفال: 61]، قال ابن كثير: (وقول من قال بأن
…
هذه الآية منسوخة بآية السيف فيه نظر أيضاً؛ إن آية (براءة) فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفاً، فإنه تجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم) [2] .
وأما من السنة فصلح الحديبية، ووجه الاستدلال ظاهر. وأجمع المسلمون
على جواز عقد الهدنة في الجملة. وأما شروط المعاهدة فهي أربعة:
1 -
أن يكون العاقد لها الإمام أو نائبه.
2-
أن تكون بمصلحة.
3-
أن تخلو عن شرط فاسد.
4-
أن تكون مدتها معينة، مؤقتة.
وهذه الشروط متفق عليها في الجملة [3] . ويترتب على عقد الموادعة أو
المهادنة دخول المعاهدين في جملة المعصومين، فلا تحل دماؤهم ولا أموالهم إلا
بحقها، وهذا مجمع عليه من الفقهاء، ولم يخالف فيه مخالف، لتضافر الآيات
والأحاديث على وجوب الوفاء بالعهود، والمواثيق، وأصل عقد الهدنة يتضمن أمن
كل طرف من المتعاقدين، على نفسه وماله وغير ذلك، فالاعتداء على نفس
المعاهد أو ماله يعتبر نقضاً صريحاً للعقد والعهد الذي قال الله فيه: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] [المائدة: 1]، وقال:[وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً][الإسراء: 34] .
الثانية: أن تكون محايدة، لا تنحاز لا إلى المسلمين ولا إلى الكفار، وأصل
هذه الصورة، قوله عز وجل: [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً
فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
وجَدتُّمُوهُمْ ولا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ ولِياً ولا نَصِيراً (89) إلَاّ الَذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ولَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ
لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً] [النساء: 89-90] ، ودون الدخول في تفصيل أسباب نزول هذه
الآيات، فإن هؤلاء المهادنين يُلحَقون بالمعاهدين، ولذلك فإن أغلب الفقهاء لم
يجعلوا هذه الدار قسماً مستقلاً؛ لأنه جرى بينهم وبين المسلمين عهد، يجب الوفاء
بما تضمنه ذلك العهد.
الثالثة: أن تكون حالة الحرب قائمة بين المسلمين وبين تلك البلاد، فهي ما
تعرف بدار الحرب وأهلها هم الحربيون، وهؤلاء هم من غير المعصومين، فتباح
أموالهم ودماؤهم وغيرها في الجملة، ولكن لابد من الوقوف على بعض التفصيلات:
إن من دخل من هؤلاء الحربيين إلى ديارنا بأمان من غير استيطان، لغرض
من الأغراض - كالرسل، والتجار وغيرهم - فإنه يصبح مستأمناً [4] ومقتضى
تسميته مستأمناً، أن يأمن على نفسه وماله وعرضه، ومقتضى أيضاً أن يؤمن على
أموال غيره ودمائهم فلا يخون ولا يغدر، وإلا انتقض عهده وأمانه، وهو أيضاً
مقتضى العقد الذي يبرم بين الدولة المسلمة وغيرها بخصوص ما يتعلق بهؤلاء.
وألحق بعض الفقهاء بالمستأمنين، من يدخل من المسلمين إلى دار الحرب
بأمان، كالرسل والتجار وذوي الحاجات وغيرهم [5] وهذا الإلحاق ظاهر،
فمقتضى إذن هذه الدولة الحربية لنا بالدخول بأمان، يعني عهداً من الطرفين بأمان
الآخر، وخلافه خيانة، والخيانة محرمة، فلا يجوز لنا أن نسرق من أموالهم، ولا
نحتال عليهم، وقد نص على ذلك غير واحد من الفقهاء.
أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن سعيد بن جبير، قال: لما قال أهل
الكتاب: [لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ][آل عمران: 75]، قال نبي الله: كذب
أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميَّ هاتين إلا الأمانة فإنها
مؤداة إلى البر والفاجر [6] .
الثانية: بما أن العصمة قد انتفت عن هؤلاء الحربيين فإنه يجوز سرقة
أموالهم، لكن ما حكم المال المسروق؟ هل يلحق بالغنيمة [7] أو لا؟ ؛ قولان:
فالمالكية - وكذا ابن حزم - يلحقونه بالغنائم وههنا أمور: فلا يتولى قسمة الغنيمة
إلا الإمام أو نائبه وليس ذلك لآحاد الرعية، وليس لأحد أن يأخذ منها شيئاً قبل
القسمة إلا ما كان في طعام وعلف لدابته، وما احتاج إليه فيجوز أن يأخذ منه جائزة
قبل القسمة. ثم إن الغنيمة تُخَمَّسُ، فأربعة أخماسها للقائمين، والخمس الباقي
مختلف في كيفية توزيعه، وتفصيل ذلك في كتب الفروع.
وخلاصة ما تقدم: يقال لمن يستحل أموال الدولة الكافرة، يجب أن تثبتوا أن
هذه الدار هي دار حرب، وليست دار معاهدة، ولم يجرِ بينها وبين الدول
الإسلامية عهد أو معاهدة أمان، فإن تجاوزتم ذلك، فأثبتُّم أن هذه الدول هي دار
حرب، فيقال: كيف دخلتم تلك البلاد، هل دخلتموها بأمان أم لا؟ أنتم تدخلونها
بتصريح من تلك الدولة ولم تعطكم تلك الدولة ذلك التصريح، بل لم تسمح لكم
بالإقامة على أرضها إلا وهي تنظر إليكم على أنكم مستأمنون، ولستم أهل حرب،
وإلا لم تسمح لكم بالمكوث على أرضها ولا لحظة واحدة.
وبعد هذا البيان فقد عرضنا هذا السوال على العلامة الشيخ عبد الله بن عبد
الرحمن آل جبرين، فأجاب بما يلي:
(فإن هؤلاء الشباب الذين ينتمون إلى الإسلام ويعتزون به يجب عليهم أن
يظهروا تعاليمه ويبيّنوا محاسنه للخاص والعام وأن يعملوا بكل ما يستطيعونه من
الإرشادات والتوجهات الإسلامية ولا شك أن منها الأمانة العامة التي وصف الله بها
عباده وسماهم مؤمنين وقال - تعالى -: [فَإنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ] [البقرة: 283] ، وهذا لفظ عام ينطبق على كل مسلم ائتمنه أي بشر، فإن
عليه أن يكون مأموناً في سره وفي جهره ويبتعد عن الخيانة التي وصف النبي -
صلى الله عليه وسلم بها المنافق في قوله: «وإذا اؤتمن خان» ، ولقد ذم الله
أهل الكتاب بقوله - تعالى -: [ومِنْهُم مَّنْ إن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَاّ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَاّ مَا دُمْتَ
عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] [آل عمران: 75] ، أي
أنهم لا يخونون أمانتهم ويدّعون أن لا حرج عليهم إذا خانوا في ذلك في حق الأميين
من العرب بزعمهم أنهم ليس لهم دين أو أن دينهم غير محترم، ولقد أكد النبي -
صلى الله عليه وسلم حق المعاهد سواء أكان كتابياً أو غير كتابي، فحرم قتله
والاعتداء على ماله أو محارمه، وكل ذلك إظهار لمحاسن الدين الإسلامي فقال
تعالى: [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً][الإسراء: 34] وقال: [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] [المائدة: 1] ، ولا شك أن كل دولة قد اتفقت مع غيرها
على صلح وأمان إذا دخلت في حدودها وفي بلادها بعض الأفراد من غير أهلها فإن
ذلك دليل أنها قد وثقت به وائتمنته وأمنت خيانته وغدره، وإنما أباح الله أموال
الكفار التي تؤخذ على وجه المغالبة بالقتال، ولا يحل ذلك مع أهل المعاهدة. قال
- تعالى -: [فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلَاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ][الأنفال: 72] ، وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم الكفار واليهود المعاهدين بالوفاء بجميع أنواع الوفاء، فلما قتل عمرو بن أمية الضمري رجلين من المشركين ولم يعلم بعهدهما فداهما النبي صلى الله عليه وسلم، ولما قتل المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قوماً من الكفار وأخذ أموالهم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً فقال:«أما الإسلام فأقبل وأما المال فلا» ، ومنع الصحابة من الاعتداء على أموال المعاهدين من المشركين وأهل الكتاب حتى نقضوا العهد عملاً بقول الله - تعالى -:[وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُّمْ ولا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا]
[النحل: 91] ، فكل من دخل بلادنا بأمان فإنه يحرم الاعتداء عليه في النفس أو في المال إلا إذا نقض العهد أو خالف ما يقتضيه الشرع، وهكذا كل من دخل بلادهم بأمان فإنه يحرم عليه نقض العهد والخيانة ولو كانوا كفاراً كما ذكر ذلك المفسرون عند قوله - تعالى -:[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ]
[آل عمران: 75] ، ونحوها من الآيات، وإنما تباح أموال الحربيين إذا أُخذت على وجه المغالبة والقتال، فأما إذا دخل الحربي بلاد الإسلام لتجارة ونحوها فإنه يؤمَّن حتى يخرج ويبلغ مأمنه، ويجوز التلصص على بلاد المحاربين واختطاف ما يقدر عليه من أموالهم بخلاف من لهم صلح أو عهد أو اعتراف من الدول الإسلامية وغيرها، فلا يجوز الاحتيال على أخذ أموالهم خيانة وغدراً فإن ذلك حرام يجب فيه التعزير والعقوبة الرادعة عن مثله. والله أعلم) .
(1) مغني المحتاج4/260، المغني لابن قدامة1/517، وبدائع الصنائع للكاساني 7/108، والشرح الكبير للدردير 2/106.
(2)
ابن كثير عند تفسير الآية.
(3)
للتوسع انظر أحكام الأحلاف والمعاهدات في الشريعة والقانون، للدكتور خالد الجميلي.
(4)
انظر أحكام أهل الذمة لابن القيم 2/476.
(5)
انظر: اختلاف الدارين وأثره في اختلاف أحكام المناكحات والمعاملات، ص128.
(6)
انظر: تفسير ابن كثير عند تفسير الآية من سورة آل عمران.
(7)
الغنيمة هي المال الذي يأخذه المسلمون على وجه الغلبة والقهر، وهذا بالاتفاق، انظر: الجامع لأحكام القرآن تفسير قوله - تعالى-: [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ][الأنفال: 41] .
أخطار النزعة المادية في العالم الإسلامي
نقد كتابات جودت سعيد
عادل التل
تعريفات أولية:
نطمح في هذه الدراسة إلى وضع معايير ثابتة لتمييز وفرز الكُتاب والمفكرين
الذين يتقدمون إلى الناس بالمنهج المادي، من خلال الخطاب الإسلامي، والدعوة
الإسلامية، وبعبارة أدق، أولئك الذين يحملون النزعة المادية عند التعامل مع
النصوص الشرعية. كما نهدف من هذه الدراسة - ومن خلال رؤية معاصرة -
إلى إبراز منهج أهل السنة والجماعة، وعرض طريقة السلف الصالح في مواجهة
التحديات الاعتقادية الوافدة.
وهذه الدراسة لا تشمل الذين يرفضون الامتثال لمنهج الله، وبالوقت نفسه لا
تهتم بالرد المباشر عليهم. وبما أن جودت سعيد يعتبر من أولئك الكُتاب المنتمين
للفكر المادي والداعين إليه فإن معظم الشواهد في هذه الدراسة ستكون من خلال
كتبه ورسائله. وقبل أن نبدأ في تحديد الارتباط بين فكر جودت سعيد وبين المنهج
المادي، نحتاج إلى إجراء مقارنة خاطفة بين الاتجاهات المعاصرة التي تهتم بتحديد
مصادر المعرفة.
ولدينا ثلاثة مناهج ظاهرة تتنازع الهيمنة على الساحة الثقافية في العالم
الإسلامي المعاصر:
أولاً: منهج التفكير الإسلامي (الديني) : ويتمثل هذا المنهج بالاعتماد على
النصوص الشرعية، المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وتكون القيمة
الأساسية فيه لهذه النصوص، وتقدَّم على كل ما عداها من مصادر المعرفة عند
الاختلاف.
ثانياً: منهج التفكير الفلسفي (العقلي) : ويتمثل هذا المنهج بالاعتماد على
المذهب العقلي، وتكون القيمة الأساسية فيه للعقل كمصدر للمعرفة، ويقدم على
غيره من المصادر عند الاختلاف.
يقوم المذهب العقلي على تفسير كل شيء في الوجود من خلال العقل، سواء
في إثبات الشيء أو نفيه، أو تحديد معانيه..
ثالثاً: منهج التفكير المادي (الوضعي) : ويتمثل بالاتجاه المادي، الذي ينظر
إلى العالم الخارجي باعتباره يمثل الحقيقة الكبرى الكاملة، وأن هذه الحقيقة
…
الموضوعية ذات وجود مستقل عن وعي الإنسان، وغير خاضعة لشيء، وأن
…
المعرفة الصادرة عن المادة تقدم على كل معرفة أخرى عند التنازع.
والمذهب المادي: هو نظرية تقوم على اعتبار أن المادة هي الحقيقة الوحيدة، وأن الوجود ومظاهره وعملياته، يمكن تفسيرها كمظاهر أو نتائج للمادة.
ما هو المعيار الذي يحدد بموجبه الانتماء إلى أحد هذه المناهج؟
المعيار الذي يحدد الانتماء هو أسلوب التعامل مع النصوص الشرعية:
أ- في المنهج الإسلامي: نتعامل مع النصوص الشرعية بإثباتها وكما فهمها
الصحابة الذين عايشوا التنزيل وكما فهمها التابعون من الصحابة، وهذا هو منهج
أهل السنة والجماعة، وطريقة السلف الصالح وأسلوب المدرسة التجديدية.
ب - في المنهج الفلسفي: يكون التعامل مع النصوص الشرعية بطريق
التأويل وفقاً لمعطيات العقل، وبتقديم العقل على النقل، وهذا منهج الفرق الضالة
كالمعتزلة والرافضة وأمثالهم، وأسلوب المدرسة العقلية المعاصرة.
ج: في المنهج المادي: يكون التعامل مع النصوص الشرعية بإلغاء دلالتها
واعتبارها كأنها غير موجودة، والحصول على المعرفة من مصادر أخرى مثل
التاريخ أو السير في الأرض أو أحداث الكون، مما يستدعي -حسب رأي أصحاب
هذا المنهج - إلغاء النبوة والاعتماد على السنن (القوانين الطبيعية والاجتماعية)
بديلاً عنها (آيات الآفاق والأنفس) ، وإعطاء تفسير جديد لمفهوم الوحي ومفهوم
التلقي من الله، والاعتماد على قوانين تطور الطبيعة وقوانين تطور المجتمع في
سلم الدلالات الموضوعية، وهذا هو منهج المدرسة المادية التغييرية.
ولتحديد رأي جودت سعيد، وبيان موقفه من هذه المناهج، قمت بدراسة
جميع كتبه ورسائله ومقابلاته، ونستشهد هنا ببعض المقتطفات منها.
ونبدأ من خلال إشادته بالمنهج المادي الماركسي، فعندما تعرض لشرح آية
[إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ][الرعد: 11] قال:
…
الفكر الماركسي لبه ومبتداه ومنتهاه في إدراك محتوى هذه الآية، حيث لمحوا قدرة الإنسان على صنع التاريخ، والقيام بعملية التغيير، فهذا الضجيج الذي أحدثه الفكر الماركسي خلال أكثر من مئة عام، إنما كان تبنّيهم لهذه الفكرة وإدراكهم
لها [1] .
موقف غريب وعجيب في آن واحد..! غريب أن يصدر مثل هذا الرأي عن
رجل يعمل في حقل الدعوة، ويسعى لحل مشاكل الأمة الإسلامية، فإذا به يشهد
للفكر الماركسي بالأصالة والثناء عليه، وكأنه بأسلوبه هذا يُشعر الناس أن مصدر
الفكر الماركسي من كتاب الله، وظن أنه بهذه الطريقة - ومن خلال ذكر الآيات
القرآنية - يتمكن من تدعيم منهجه المادي بين المثقفين إسلامياً، لقد توهم أنه يحقق
هذه المهمة بنجاح، ودون عناء أو مشقة، وأنه يحقق بذلك ما عجز عنه أقطاب
الفكر الماركسي ودعاته في بلاد الإسلام، حين حاولوا - بالوسائل كافة وجميع
السبل- إيجاد الصلة بين المنهج الإسلامي والأفكار الماركسية، ولكن جودت سعيد
لا يزال مستمراً في هذه المحاولة، وهو هنا يشيد بهم ويطريهم على أنهم أول من
أدرك محتوى هذه الآية من القرآن الكريم، وعمل من خلالها. ويجب أن لا يصيبنا
الدوار من هذه الآراء، وأن لا نستغرب هذا الأمر..! لأن الأغرب من ذلك هو
دعوته الشباب المسلم إلى القيام بعملية التغيير، انطلاقاً من هذا المبدأ، إنها دعوة
سافرة لتبنّي منهج المادية، ويعتبر كتابه (حتى يغيروا ما بأنفسهم) تحقيقاً لهذه
…
الدعوة، فهو يدعوه من خلاله إلى التمسك بجانب الصواب في النظرية الماركسية
الشيوعية. ففي هذا الكتاب يقول: (وكذلك إذا تذكرنا أن علينا أن لا نبخس الناس
أشياءهم، وأن الحكمة لا تضر من أي وعاء خرجت، فإن الاعتراف بجانب
الصواب الذي في النظرية الماركسية لا يضرنا شيئاً، ولكن إذا رفضنا جانب
الصواب بسبب جانب الكفر الذي عندهم لا نكون مصيبين) [2] .
أية حكمة عند الماركسيين وأي صواب لديهم؟ ؟ فما لديهم إلا منهج يحمل
عوامل فنائه منذ قيامه، وهو لا يتلاءم مع الفطرة التي فُطر الناس عليها، لذلك
تزلزل وانهار كما كان متوقعاً له من قبل، لقد كان الماركسيون دائماً يسخرون من
المتمسكين بالفضيلة والحريصين على القيم ويقولون لهم: (أيها المثاليون المغفلون،
…
إنكم تبحثون عن سراب لا وجود له في الحقيقة.. حين تتكلمون عن الحق
…
والفضيلة والصدق والأمانة، إنها كلمات جوفاء يملؤها كل جيل بما يحلو له،
…
ولكنها هي في ذاتها ليست شيئاً ثابتاً محدداً يمكن التعرف عليها) .
…
لقد شعر جودت سعيد - وهو يتقدم إلينا بهذه الأفكار المادية - بعامل الضعف
والخجل من هذا الطرح لأنه يدرك أن هناك من يخاف على دينه من هذا التوجه
نحو الفكر المادي، لذلك تراه يستخدم عبارات الاطمئنان، ويؤكد أن الخوف على
آيات الله مستبعد في ظل الأفكار الشيوعية فيقول: (لم يعد هنا ما يجعلنا نخاف
على آيات الكتاب، لأن آيات الآفاق والأنفس ستبين أن آيات الكتاب هي
الحق) [3] .
والكاتب صريح في هذا كل الصراحة، وكأن لسان حاله يقول: خذ أفكار
الشيوعيين ودَعْ كفرهم، وربما يستمد هذا من المثل الشعبي المعروف: (خذ من
أقوالهم وما عليك من أفعالهم) . وقد عبر عن ذلك بقوله: (ولكن حين يصل
…
(الماركسي) من أقواله إلى القول: بأنه أصبح بناءً على ذلك من الواجب نبذ كل
نظرية إيمانية على الإطلاق - هنا نقول له: إن هذه النتيجة من تلك المقدمة هي
الفكرة الطوباوية الناشئة عن الكراهية والعاطفة لا عن الدراسة الموضوعية) [4] .
ومن المعروف أن الماركسية ليست شعاراً فقط، بل هي واقع عملي واعتقادي
ولا يمكن الفصل بينهما، وهم ينطلقون من شعار عريض (لا إله في الوجود والحياة
مادة) ، فلو فكروا أن يخدعونا - كما خدع الكاتب من قبل - ويبدلوا شعارهم إلى
عبارة أخرى مثل: (يوجد إله ولكن الحياة مادة) فهل يتبدل من الأمر شيء؟ وهل
يجوز لنا أن نقبل بالنظرية المادية من الشيوعيين من أجل التبديل الصوري؟ ! ،
لا يكون ذلك إلا إذا أجبنا - وعلى سبيل الدعابة - أن نطلق على من يكون إيمانه
على هذا النحو تسمية جديدة، (الماركسي المسلم) أو (الشيخ الأحمر) ! .
إن تقديم الأفكار الماركسية من خلال إلباسها العباءة الإسلامية أمر في غاية
الخطورة، وتمثل هذه العملية حالة خداع كبيرة، لا تزال الأمة الإسلامية تعاني من
آثارها باستمرار. ولا يزال صدى تلك المواجهات قائماً في الأذهان، حين حاول
البعض أن يقدم الإسلام إلى الناس في ثوب الاشتراكية، أو من خلال نظام
الديمقراطية، وقد اشتد نكير العلماء في مواجهة هذه المحاولة مما جعل معظمهم
يتراجعون عن موقفهم ويتبرؤون مما كتبوه في هذا الاتجاه.
وأما جودت سعيد فكان له أسلوب آخر، وطريقة مبتكرة للتعامل مع هذه
المسألة، حيث دعا صراحة للتمسك بالفكر الماركسي من خلال الدعوة للأخذ بجانب
الصواب الذي اكتشفه في النظرية الماركسية، يقول في كتابه (حتى يغيروا ما
بأنفسهم) [الرعد: 11][*] في أسلوب التباهي: (وحين يقول الماركسي: إن د راسة التاريخ الاجتماعي أصبحت علماً، ينبغي ألا نقول له أخطأت، بل نقول له: هذا حق، وإذا اعتبر أن مظاهر الطبيعة قادرة على إعطائنا حقائق موضوعية، علينا أن نراه تقريراً بأن آيات الآفاق تعطي حقائق موضوعية، ونزيد له أيضاً: بأن آيات الأنفس كذلك تعطي حقائق موضوعية)[5] .
هذا هو المنهج المادي من بدايته إلى نهايته.. وهذه هي الماركسية، تطل
برأسها من خلاله! والكاتب لم يدعنا في حيرة من أمرنا للتأكد من موقفه هذا،
واعتناقه جميع الجوانب في النظرية الماركسية، فها هو يقرر أسبقية المادة في
الوجود كما تقررها المادية الماركسية، ويعتقد بضرورة تقديم المعرفة الصادرة عن
المادة على كل شيء كما يقدمونها.
يقول: (فالوجود الخارجي المادي هو الحقيقة الثابتة، التي نرجع إليها عند
الاختلاف، والصور الذهنية قابلة للزيادة أو النقصان) [6] . والكاتب يلتقي في هذا
المنهج المادي مع الماركسيين إلى درجة التطابق تقريباً وسأترك المجال لرموز
الماركسية في إبراز جوانب الالتقاء بين أفكارهم وفكره، يقول ستالين: (إن المادة
والطبيعة والكائن هي حقيقة موضوعية، موجودة خارج الإدراك أو الشعور
وبصورة مستقلة عنه، وأن المادة هي عنصر أول، لأنه منبه الإحساسات
والتصور والشعور، بينما الإدراك هو عنصر ثانٍ مشتق لأنه انعكاس للمادة) [7] .
…
وقال إنجلز: (وخارج الطبيعة والإنسان لا يوجد شيء)[8] .
ومن الممكن أن يطرح القارئ علينا سؤالاًمحدداً، هل يقدم جودت سعيد المادة
أو الواقع على كلام الله؟ ، يقول في رسالته - مستخدماً أسلوب السخرية من
المسلمين الذين يتمسكون بالنصوص الشرعية -: (فالمسلمون - بكل سذاجة -
يظنون أن لهم القدرة على الاتصال بالمعاني التي أرادها الله بواسطة هذه اللغة،
دون الرجوع إلى الواقع الذي تتحدث عنه..) [9] ، يجب الانتباه إلى استخدام
أسلوب التعميم (المسلمون) دون استثناء، كما يلاحظ تجهيل الأمة التي كانت تعتمد
في جميع مراحلها على اللغة العربية، ولهذا قال -تعالى-: [كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
قُرْآناً عَرَبِياً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] [فصلت: 3] . وأما وصف المسلمين بالسذاجة والجهل
فلا تسأل عن ذلك، فقد ملأ كتابه بهذا اللون من التقريع دون تفريق أو استثناء، ثم
يقول محذراً المسلمين من العودة إلى النصوص أو التمسك بها: (ولكن ينبغي أن
نتعمق في فهم هذه الظاهرة، إن العودة إلى النصوص لم تكن لتحتل هذه الظاهرة،
ولو اقتصر على فهم هذه الحقيقة من الكلام أو من اللغة أو من النص لاستمر القتال، ولوجد ولأمكن أن تؤول النصوص؛ لأن النصوص قابلة للتأويل) [10] .
وها هو هنا يرفض فهم النصوص بواسطة اللغة، كما يرفض مفهوم التأويل،
وهو بهذا ينتصر للمنهج المادي في مواجهة منهج السلف الصالح والمنهج العقلاني
على حد سواء، ولكنه ينتقل بعد ذلك إلى مرحلة خطيرة وذلك بالتعبير عن كلام الله
بأسلوب الرمزية. لقد تعامل الله معنا بالرموز والحقائق، وقال لنا بأن نرجع دائماً
إلى الواقع والنظر فيه، وأن الرموز إن هي إلا مساعدات مرحلية مؤقتة يمكن أن
تختلف بحسب الزمان والمكان، ولكن سننه الواقعية لن تتغير وكلما رجعنا إليها
نجدها كما هي ثابتة: [فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً]
[الأحزاب: 43] ، وليست الرموز إلا [أَسْمَاء][مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ]
[الأعراف: 71][11] ، وموضع الخطر هو اعتبار كلام الله رمزاً وهو اللغة،
وأن الواقع يمثل الحقائق، ثم يظهر تناقضه الفاضح حين ذكر في أول الكلام أن الله
تعامل مع البشر بالرموز ثم قال في نهاية الكلام: إن الرموز [مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن
سُلْطَانٍ] [الأعراف: 71]، والله - تعالى - يقول:[وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]
[البقرة: 31] ، وهكذا يصبح الواقع المادي عنده مقدَّماً على كلام الله، حيث يقول
حول ذلك: (فحين يلح القرآن الكريم على الرجوع إلى الكون المادي والاجتماعي
لفهم سننه ونظامه، فإنه يدل بذلك على أن الواقع أدل على ذاته في كلامه
له) [12] ، وهذا تصريح واضح في اعتماد الواقع واستبعاد كلام الله، وقد قاده هذا الاعتقاد إلى موقف أشد خطراً وأبعد ظلماً، وذلك بالإعلان عن انتهاء مهمة النبوة نفسها، والتعامل مع السنن والقوانين.
انتهاء النبوة:
يقول الكاتب: (من هنا لما بدأ الاهتمام بالواقع والتفاهم مع الله بواسطة سننه، توقفت النبوة لأن النبوة مرحلة انتهت)[13] ، ويقوم هذا الرأي من واقع إيمانه
بمراحل التاريخ واعتبار مرحلة البشرية خلال فترة الأنبياء مرحلة طفولية،
والمرحلة المعاصرة مرحلة مراهقة، وأن البشرية بدأت تتجه نحو مرحلة الرشد،
…
وقد استمد هذا التصور من آراء (أوغست كونت) مؤسس المذهب الوضعي المادي
في أوربا، وعن مرحلية النبوة يقول نقلاً عن إقبال: (إن النبوة في الإسلام لتبلغ
كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة - ختم - النبوة نفسها، وهو أمر
ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمداً - إلى الأبد - على مقود
يقاد منه وأن الإنسان لكي يحصل على كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يُترك ليعتمد
في الناية على وسائله هو) [14] .
هل يصدق أن هذا الكلام يصدر عن إنسان عاقل؟ أن يقرر انتهاء مهمة
النبوة؟ وتسليم زمام الأمور إلى الإنسان، وهذا ما دعا إليه علماء أوربا الوضعيون
الماديون، وهذه الفقرة بالذات مستقاة من أفكار (فريدريك نيشته) الذي كان يقول
بنظرية الإنسان الكامل أو (إنسان السوبر مان)[**] ، ويقرر الكاتب أن البديل عن
النبوة التي تتضمن نصوصاً من كلام وحروف إلى السنن التي ليست كلاماً وحروفاً، فانظر إلى قوله: (انتبه إلى هذا محمد إقبال، وخاصة في بحث ختم النبوة،
لماذا ختمت النبوة؟ ولم يعد نبي ولا كتاب، لأن الكتاب والنبي الخاتم دلنا على
الطريق الذي لا ينتهي، دلنا على الكلام الذي ليس هو كلام حروف، وإنما حقائق
ملموسة) [15] . أليس هذا تصريحاً باستبعاد كلام الله من العمل، والاعتماد على
الكلام الذي يمثل الحقائق الملموسة؟ أي الحقائق المادية الحسية.
ولنا أن نتساءل كما أن من حق القارئ أن يتساءل معنا كيف يتصور جودت
سعيد النبوة؟ وما هي الصيغة التي يعتمدها في تحديدها؟ .
ينسجم رأيه حول النبوة مع مفهومه المادي، وإيمانه بالتطور ويعبر عن ذلك
بقوله:
(وفي طفولة البشرية، تتطور القوة الروحية إلى ما أسميه (الوعي النبوي)
…
وهو وسيلة للاقتصاد في التفكير الفردي والاختيار الشخصي وذلك بتزويد الناس
بأحكام واختيارات جاهزة، وأساليب للعمل أُعدت من قبل) [16] .
…
إذن النبوة قوة روحية واستعداد شخصي واختيارات وأساليب للعمل أو وعي
نبوي لا أكثر ولا أقل، فأين الوحي المباشر من الله (تعالى) ؟ !
يقول ابن تيمية: (والمتفلسفة الذين أثبتوا النبوات على وجه يوافق أصولهم
الفاسدة - ابن سينا وأمثاله - لم يقروا بأن الأنبياء يعلمون بخبر يأتيهم عن الله، لا
بخبر مَلَك ولا غيره، بل زعموا أنهم يعلمونه بقوة وعقلية أكمل من غيرهم في قوة
الحدس ويسمون ذلك.. القوة الحدسية..) [17] .
ومن أجل هذا المفهوم يعتقد محمد إقبال وجودت في ضرورة انتهاء النبوة
وإلغاء دلالة النصوص الصادرة عنها وفي ذلك يقول الثاني: (الذي أريد أن نفهمه
من هذا أن دلالة الكتاب يمكن أن تُلغى إلغاءً تاماً، وكأنها غير موجودة، والذي
سينبه المسلمين إلى هذا، ما جاء في الكتاب من الاهتمام بالتاريخ وأحوال البشر
وحوادث التاريخ، أي أن الذي سيعلّمنا ليس القرآن، وإنما نفس حوادث الكون
والتاريخ هي التي ستعلمنا..) [18] .
ثم يقول بما يؤكد تقديمه للواقع على كل شيء ولو كان كلام الله: (إن صخرة
ما أدل على نفسها من كل كلام يقال عنها حتى لو كان كلام الله..) [19] . وقد
لوحظ أن جودت سعيد يتضجر ويتضايق كلما احتج عليه أحد بقوله: قال الله أو قال
الرسول، أو حتى مجرد ذكر الله أو الرسول. ويتضح ضيقه في قوله: (.. لم تعد
ترهبني قعقعة الكلمات: الروح، النفس، الله أو الرسول أو قال فلان وفلان، نريد
أن نتحدث ماذا يحدث لنا، وكيف يحدث الفهم؟ كيف يعرف ما فهمناه أننا فهمناه؟
وكيف انتقلت إليَّ هذه الأفكار؟ دعونا من الحديث عن السماء، ولنبحث في
الأرض، لنعد إلى الإنسان المولود على الفطرة.
كيف تصوغ البيئة هذا المولود؟ ! ، إن ما يحدث أمامنا بقوى تحيط بنا
وتصدر منا وليس غيباً ولا خارقاً، كما أنها ليست مما لا يستطيع العقل
فهمها) [20] .
لماذا لم تعد ترهبه كلمات (الله) أو (الرسول) ؟ ماذا حدث عنده حتى فقدت هذه الكلمات قدسيتها في نفسه؟ ؟ ألسنا مسلمين؟ ؟ لماذا يريد منا أن ندع الحديث عن السماء، ونخلد إلى الأرض؟ [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ (175) ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ] [الأعراف: 175-176] .
* يتبع *
…
(1) كتاب (اقرأ وربك الأكرم) ، جودت سعيد، ص219.
(2)
كتاب (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، جودت سعيد، ص80.
(3)
كتاب (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، جودت سعيد، ص80.
(4)
المصدر السابق، ص81.
(*) وضع المؤلف هذه الآية الكريمة عنواناً لكتابه (5) المصدر السابق، ص81.
(6)
كتاب (اقرأ وربك الأكرم) ، جودت سعيد، ص57.
(7)
المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، ص29.
(8)
فورباخ ونهاية الفلسفة، ص16، طبعة دار التقدم بموسكو.
(9)
رسالة (انظروا) ، 40، اللغة والواقع، جودت سعيد، ص4.
(10)
المصدر السابق، ص5.
(11)
المصدر السابق، ص7.
(12)
المصدر السابق، ص8.
(13)
المصدر السابق، ص7.
(14)
كتاب العمل، ص131، جودت سعيد، وتجديد الفكر الديني، محمد إقبال، ص143-145.
(**) ذكر هذه النظرية الفاسدة في كتابه المترجَم الى العربية (هكذا تكلم زرادشت) البيان (15) رسالة (انظروا) ، 40، ص7.
(16)
كتاب العمل، جودت سعيد، ص130.
(17)
درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 1/179.
(18)
رسالة (انظروا) ، 40، ص8.
(19)
رسالة (انظروا) ، 40، ص8.
(20)
المصدر السابق، ص4.