المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(بسم الله الرحمن الرحيم) ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير واللهم - مجلة البيان للبرقوقي - جـ ١٥

[البرقوقي]

الفصل: (بسم الله الرحمن الرحيم) ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير واللهم

(بسم الله الرحمن الرحيم)

ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير

واللهم لك الحمد على كل نعمة عندنا أوليتها، وعلى كل درجة لنا أعليتها، وعلى ما وفقت من الفضل وأعنت عليه، وما فتحت من العلم ويسرت إليه. فإنه لأفضل إلا ما أسيت وأسديت، ولا هدي إلا ما أرشدت وهديت.

واللهو صلاتك وسلامك على سيدنا محمد أفضل من خلقت، وأفصح من أنطقت، وأكمل من سويته في الخلق إنساناً، وأحكم من أوليته قلباً ولساناً. وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، ومن أخذ بشريعته من الأخيار.

ونضرع إليك اللهم بالدعوات ظاهرةً وباطنة، ونتوجه إليه بالنيات بادية وكامنة، أن تنزل نصرك وتأييدك، وتجزل عونك وتسديدك، لأميرنا المفدى حمي العلم والأدب، وقبلة لغة العرب، (الحاج عباس حلمي الثاني) الذي رفعت فضائل عصره لدولة الأدب أعلامها، وأحيت فواضل مصره في أيدي الكتاب أقلامها.

أما بعد فإنا نتقدم لقرائنا بالثناء على ما لقينا منهم إقبالاً وكرماً ومروءة، والحمد لما شدوا منا معونة وإسعافاً ومؤازرة حتى خطا البيان إلى عصره الثالث أشد ما كان ركنا وأثبت ما كان عزماً وأفسح ما كان خطوة، وهو اليوم يغلق باب دهر ويفتح باب دهر، لأن العام الواحد في حياة المجلات العربية إنما هو آجال وأجيال، وما تقطع المجلة منها عاماً ونبتدئ عاماً إلا ما كانت بحول الله وقوته كأنها تبعث بعثاً جديداً، لتحاسب حساباً شديداً، فإن القراء عندنا وإن كانوا جموعاً غير أنها جموع قلة لا ترد ولا تجدي.

وأعجب ما في أمرهم أن أكثرهم يستمرئ حقوق المجلة ويهضمها ويصيبه العسر كله إذا طولب بها أو بما تيسر منها ولكن لا يصيبه شيء من عسر هذا (الهضم). . . فكيف لعمري يجد صاحب المجلة العربية ما يُغنى من جوع فضلاً عما يسمن من شبع؟.

ولقد خبرنا القراء على طبقاتهم، وداخلناهم على أنواعهم، وبلوناهم بحسناتهم وسيآتهم، فرأيناهم لا يتشابهون إلا في صفة واحدة هم فيها سواسية وإن الذي بينهم في كل ما عداها لمختلف جداً. فأما هذه الصفة فهي الحرص على المجلة وطلبهم إياها بهذا الحرص، وإلحاحهم علينا في هذا الطلب، والتوطئة لما يلحون بما يلبس الأمر علينا من الثناء مستطابا، والدعاء مستجابا، وملء الكتاب فخراً بنا وإعجاباً،. . . وأما بنعمة ربك فحدث.

ص: 1

ثم المواعيد العريضة من تأييد (البيان) وشد أزره، (والاشتراك) في أمره، ولولا التقي لقلنا على طبله وزمره. . . ثم ما شاء الله من قليل وكثير على هذه الوتيرة مما لو صح بعضه واستقام بعضه وفسد الباقي لرأيت (البيان) يدور حول الأرض دورة فلكية مع الشمس في أفق ومع القمر في أفق ولكن متى يستقيم الظل والعود أعوج؟.

ولو أن صاحب مجلة عربية (كالبيان) يجمع مثل هذه الكتب بعضها إلى بعض لقد كان يجمع منها مؤلفاً ضخماً وافر الحشد ممتلئاً من حساب نعمته وثروته، ولكن من ذا الذي يسره أن يجمع على نفسه مع الخسائر التي تذهب عليه حساب هذه الخسائر بالتواريخ والأسماء. . .؟.

تلك هي الصفة التي تسع القراء جميعاً ولا تضيق إلا على صاحب المجلة وحده، وأما الذين يختلفون فيه فأصناف كثيرة إذا نحن مخصناها جميعاً لم نجد زبدتها غير فئة واحدة هي التي يقوم بها العلم والأدب، وهي التي تمثل الروح والمبدأ، وهي التي تمشي بالحاضر إلى المستقبل، وهي التي يضرب بها قلب الأمة وينبض لها نبض التاريخ، وهي طائفة الفضلاء الأجواد التي (يأكل) سائر المشتركين على (حسابها). . .

والفرق بين هؤلاء وهؤلاء أن الفاضل لا ينفك أبداً يعمل على أن يزداد به الفضل وأن يزداد هو فضلاً فلا يدع مجلة أو صحيفة مرجوة الفائدة إلا اشترك فيها (دافعاً) لا مدافعاً ليعين أصحابها على تهيئة المزاج التاريخي الصحيح للأمة، وليكون عاملاً لنفسه مع نفسه ولأمته مع العاملين لأمته. وهو لا يشعر من طبعه بهذا الحس ويعتقد في نفسه هذا الواجب إلا إذا كانت سامي الأخلاق عالي النفس بعيد الهمة. فإن الأخلاق لا غيرها هي التي يشعر بها المرء أنه قطعة من أمته فتأبى له نفسه أن يكون قطعة من تلك القطع الرنة البالية التي تتمزق بكل سبب واه من الأسباب الاجتماعية لأنها أو هي منه فيكون مرآها في الأمة دليلاً ظاهراً من أدلة العدم. وهو يأنف من ذلك ويدعه لمن لا نفس له إلا النفس الحيوانية، تلك التي لا تحس المعاني والعواطف، والتي نعرفها في كثير من قومنا في بعض أدبائنا أيضاً، والتي هي أقوى ما تكون حين تكون في الجلود السميكة. . .

هذا الطائفة - طائفة الفضلاء - هي رأس مال العلم والأدب في كل أمة. وما الربح إلا بنسبة رأس المال كثيرة وقلة، وقد ترى أن صاحب المجلة العربية يستنفد وسعه في الإنفاق

ص: 2

عليها من كحر ماله ويدأب في العناية بها لا يتني ولا ينثني من اعترضته العقبات وناوأته الصعاب من أمور نفسه ولا يهن ولا يحزن من اعتراه الضعف والتخذيل من أمور الناس، ثم هو مع هذا كله لا ينال من عاقبة الصبر ولا يفيد من جزاء العمل شيء يسمى عوضاً مما بذل، ولا شيء يسمي ربحاً لما أنفق، لأنه إنما يتاجر بعقله في سوق تقل فيها العقول قلة واضحة، وأستغفر الله بل فاضحه.

وما المال الذي يسخر به ويبسط يده فيه ويقرضه ولا يقرضه ليجعل عمله بذلك عملاً إلا إحدى الوسائل في إظهار العقل الذي يتاجر في سوق الأدب بعلمه وتفكيره ونشاطه وقوته، وليس له من وراء ذلك ربح أوفي من أن يوجد في القراء العلم والفكر والنشاط والقوة، أو في القليل حب هذه الصفات العالية، أو في الأقل حب الانتفاع بها، أو في العدم لا حبها ولا بغضها. . . . حتى لا يشكو أصحاب المجلات من أهل المطل وهم الذين لا يحسون شيء من كل ذلك وإن أحسنوا فقهم من الغلظة وخديعة الطبع كأنهم لا يحسون.

وأكثر الناس عندنا: إما ذو مال لا عقل له أو لا عقل له إلا في المال - وذانك بائسان كلاهما في سوق العلم والأدب أفلس من الآخر. وإما ذو عقل ولا مال له وهو حزب الهبوط في سوقنا فلا يتألف إلا من قوم ذوي (عقول وإحساس) وهم الكرام، وهم القليلون، وهم طبقة الفضلاء. فالعقول سبيلهم إلى الرغبة في المجلة النافعة. والإحساس فهو سبيل صاحب المجلة إليهم لا يرهقهم ولا يعنتونه، ولا هو يشكوهم ولا هم يمقتونه، وكلاهما في عون الآخر، وهما جميعاً وهما جميعاً في عون الأمة، وليس بعد الأمة غاية تنتهي إليها محاسن الأخلاق الاجتماعية.

أما غير هذه الطبقة فهم همج هامج، وهم نشر لا نظام لهم وما دخلوا في عمل إلا أفسدوه على صاحبه وكانوا فيه القوة السلبية التي يجهد في رفع إساءتها أكثر مما يجهد في إحسان عمله، ويبتلي من دخائلها بما يغمر ظاهره وباطنه، فلا هم يدعونه يمضي لشأنه خفيفاً مستجمع النشاط مستحصد العزم رخي البال، ولا هم يرفهون عنه بعض أمره بالمعونة. وهم أثقل أمره بقل هم البلاء الحتم والقدر المقضي، وكلما كثروا على صاحب المجلة فسد نظامه واختل أمره وضعفت مادته وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء، وابتلى بالقلة في كل شيء ولا يكون بلاء القلة إلا من كثرة القراء. . .

ص: 3

نحن نعتقد أن قراء (البيان) خاصة هم في الجملة خلاصة الأمة وإن أكثرهم من ذوي الإحساس الشريف المتفضل فليس في مصر مجلة كبرى غير (البيان) وليس في العربية وآدابها مجلة تسد مسده، ومن أجل ذلك لا يكون عجيباً أن نعد من قراء البيان خلاصة الأمة، بل يكون عجيباً أن لا نعدهم، وما خلاصة الأمة إلا ذوو العقول والإحساس فيها.

غير أننا نعلم أن أكثرهم يستهين بأمر الاشتراك استخفافاً منه بالقيمة لضعفها في بذل يده وكرم نفسه وسخائه وأريحيته فقليلاً ما يجد من تلقاء نفسه باعثاً على المبادرة بها فلا يزال على ذلك ناسياً مستخفاً. وبعضهم على وفائه وشرف نفسه لم يألف بعد نظام الأمم الراقية في معونة صحفها وادخار قيمة الاشتراك مما ينفقون، واعتبارها مما لابد من إنفاقه على أنها من غذاء العقل ومن مؤنة التاريخ الذي تعوله الأمة كلها، فإذا جاء وقتها لا تستأخر عنه ساعة وكانت حاصرة في يد صاحب المجلة أو الصحيفة فلا تنقطع مادته ما بقي في عمله ولا يفتر في عمله ما بقيت مادته وبهذا ينصرف عن الفكر في القراء إلى الفكر فيما يرضيهم، وعن العمل في الطلب منهم إلى العمل في الطلب لهم، فلا يجد في نفسه ما يضطرب له ولا يعدم من نفسه بعد ذلك الحزم في النية وإنما الأعمال بالنيات.

هذان صنفان من قراء (البيان) وكان عندنا ثالث هو الذي لا يحس ولا يستحي ولا يبالي، وكان في عملنا كأنه عضو أشل فبترناه بتراً، وحذفناه حذفاً وطمسنا على آثاره طمساً، وما هو إلا شر لاحق، أو بلاء متلاحق، ولأن نتقدم خفافاً خير من أن نتأخر ثقالاً، ولأن تكون العدة على الأدب فئة قليلة ثابتة خير من أن تكون فئة كثيرة منهزمة.

ونحن نعلن أنه لم يبق للبيان من قرائه غير من يعتز بهم ويستند إليهم ويعتمد بعد الله عليهم من أديب سنى، وفاضل سري، وكريم سخي، غير أننا نسألهم متأدبين سؤال ذي رجاء وثقة، وذي محبة ومقة، أن يذكروا أطال الله بقاءهم أن قيمة الاشتراك ليست من ضرائب المواريث والتركات وأن يعرفوا وقاهم الله أنها ليست من ديون بعض المرابين، وأن يحفظوا أسعدهم الله أنها ليست أموالاً في التجارة، وأن يستيقنوا أغناهم الله أنها ليست مما يشق على أحد أن يجمعه، ولا يفقره أن يدفعه، ولا يغنيه أن يمنعه بل هي على قلتها مادة (البيان) وأساس نظامه، والذريعة إلى تمامه، وهي كل ما نستوجبه على القراء ولا تكاد تفي ببعض حقهم علينا من تحسين المجلة وإتقان موادها وتوفير أصنافها واطراد

ص: 4

التجويد في نسقها وكتابها وترتيبها وما إلى ذلك مما يضي إلى حد العلة، ويستغرق الوقت كله، ولا تنفع فيه من الجهد ولا من المال قلة.

وليس بين القراء وبين أن يروا من (البيان) نظاماً كنظام المجلات الأوروبية الكبرى إلا أن ينتظم كل واحد منهم في جمع ستين قرشاً من نفقات عامة، لا من نفقات طعامه، ومن حذق يده، لا من رزق غده، وإلا فمما ينفقه على حذائه، لا على غذائه، وما يبذله في لهوه وسرفه، لا ما يدخره لعزه وشرفه. وإلا - وأكرم الله قراءنا - فليس إلا ما قال الأول لعنة الله على الأدب إن كان بائعه مهيناً لن ومشتريه مما كسا فيه.

وهذه المجلة رعاكم الله لا تقوم بعصبية دينية ولا بعصبية قومية تجمع إحداهما عليها أيدي المشتركين غيرة على الدين أو غيرة على الجنس كسائر المجلات العربية الأخرى فليس لها إلا قوة مبدئها ومادتها ولغتها وهي كفيلة لنا بخواص القراء من أهل العقول والألسنة وفيهم الغناء كله والحمد لله لو يأخذون في أمرهم وإن قل بالحزم، ولو يدعون من أنفسهم هذا التهاون بالقليل وهم يعلمون أن السحابة صاعدة غير السحابة هابطة ولكنها إن لم ترتفع قطرة إلى قطرة وذرة إلى ذرة لم تهبط بالرحمة في وابل ولا طل.

و (البيان) فقد عرف الأدباء كافة أنه خزانة الأدب الحديث، وأنه لبس لهم في معناه ما يسده مسده، أو يرد مرده، وأنه على ذلك من حاجة المتأدبين يقوم من ألسنتهم ويرهف من أقلامهم ويشحذ من أذهانهم ويطرح نظرهم مطرحاً بعيداً في التفكير والنقد بما يقلب عليهم من فنون الأدب وأنواع المعاني، وما يهديهم إليه من مناحي الرأي وما يجلوه عليهم من قرائح الفلاسفة وخواطر الأدباء في عصور الدنيا وجهات الأرض. ثم هم منه أبداً في طرائف ممتعة. وعلى موائد مشبعة. يجمعون به أدباً إلى علم وعلماً إلى سلوة وسلوة إلى تفكهة، ويخرجون منه بالكثير الطيب والجيد البارع من كل ما تستقل به الطرقة وينضج الأسلوب وتتهيأ الملكة ويصح الرأي ولذلك كله أنشأناه، وعلى ذلك أدرناه، ومن أجل ذلك بذلنا في العمل ولم ندخر وجهدنا ولم نأل، وعانينا ولم نفتر، وصبرنا ولم نضجر، ومضينا ولم نلو، وكنا عند ما قدر أهل الفضل من الثقة بنا وحسن الظن فينا على ما اعترضنا من كلال المهنة وعلى ما حاق بنا من مطل بعض القراء. وعلى ما لقيناه من كفران الصنيع في بعض الأدباء. وعلى أشياء كثيرة مما تخر به العزائم هداً. وتخور عنده القوى جداً. ولا

ص: 5

يملك له المرء دفعاً ولا رداً.

وها نحن اليوم نبتدئ عامه الثالث على بركة الله ونستأنف عملنا على تيسير الله، والنية فيه ما قد نوينا من قبل من التشمير والجد في خدمة العلم ونشر الأدب وإحياء اللغة على أنا لا نألو في ذلك جهداً ولا ندع فرصة ننتهزها إلى الإحسان. في الإتقان. ولا نغفل طريقة نتخذها إلى الزيادة. من الإجادة وسيرى القراءان المزيد إن شاء الله مما بلغناه ميسور. وأننا نقطع إلى غايتنا البعيدة بأجنحة النسور. فإنه لنا لعز ما لا يكل مهما (جري)، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً.

ص: 6