الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الزوج المنكود
واشنجطن ارفنج كاتب أمريكي يعد في مقدمة كتاب الأمريكان، إذ امتاز برشاقة الأسلوب وخفة الروح، وملاحة الفكاهة، وهو من أقدر الكتاب على وصف أخلاق الناس وصورهم وأنماطهم، وهو في طليعة عشاق الطبيعة والمولعين بالسياحة والتجوال، وقد انحدر من العالم الجديد إلى إنكلترا فوصف أروع مناظرها، وصور أخلاق أهلها وتنقل بين أحقر أكواخها وأفخم قصورها، وجمع ذلك كله في كتاب سماه الصور أو الكشكول. وفي كتاب له آخر وصف أخلاق أسرة إنكليزية نزل عندها ضيفاً وصور أخلاق أفرادها حتى الخدم والوصائف فأبدع في ذلك كل الإبداع.
وإلى القراء قصة بديعة مستملحة الفكاهة قال أرفنج أنه وجدها بين أوراق مؤرخ هولندي مشهور بصحة تاريخه وشهد بأنها حقيقة لا يمازجها أدنى نصيف من الخيال وفي هذه القصة يرى القارئ الحذق في الوصف، والمهارة في إدخال الفكاهة، ويجد في كل فقرة منه مغزى جميلاً، ونكتة مستعذبة.
وكانت وفاة أرفنج في عام 1859، وقد قضى نحبه شيخاً كبيراً تنفس به العمر حتى جاز السابعة والسبعين.
كل من ساح على ضفاف الهدسون لابد أن يذكر جبال كاتسكل، حلقة منفرطة من سلسلة جبال الأبلشيان، وأنه ليراها عند العدوة اليسرى من النهر ناهضة شامخة الذرى تناطح أعاليها النجوم تشرف من ارتفاع عظيم على الإقليم السهل المنبسط.
كل تغير في فصول العام، أو في حال الجو، بل كل ساعة من ساعة النهار، تحدث تغييراً في ألوان تلك الجبال وأشكالها، حتى لقد عدتها النسوة الصالحات في نواحي الإقليم قاصيها ودانيها، أضبط (بارومتر) يقيس الجو ويرقبه.
فإذا صحا الجو وأشرقت السماء رأيت الجبال مكتسية لوناً ناضراً بنفسجياً، طابعة في صفحة الجو عند المساء تأوداتها وتعاريجها، وقد تراها إذا غابت الغمائم عن سماء الإقليم تجمع ذؤابة من الأبخرة فوق ذراها تبدو عند الطفل زاهية قانية كأنها تاج النصر والفخار. وعند سطح هذه الجبال الحسناء يلمح السائح دخاناً مصعداً من قرية هناك تطل سطوحها من خلال الأشجار، حيث ترى زرقة الربى قد بدأت تفني في نضرة السهل وخضراته.
قرية صغيرة قديمة العهد، بناها قوم من مستعمرة الهولنديين، أيام كانت الولاية في
حوزتهم، وقد شدوا لهم هناك مساكن من الآجر الهولندي، وجاءوا إليها بالنوافذ والأبواب.
في هذه القرية، في بيت من هذه البيوت، كان يعيش منذ سنين، أيام كان الإقليم ملك إنجلترا، رجل ساذج طيب القلب رقيق الحاشية، يدعى باسم رب فنان ونكل.
وكان جاراً محمود الجيرة، وزوجاً طيعاً، يمشي عبداً لزوجه، ولعل استعباد زوجه له أورثه ذلك الاستحواذ الذي أكسبه محبة الجيران وعطف أهل القرية، ذلك لأن الأزواج الذين يجدون في الدار زوجات آمرات، عاصفات ناهيات، يروحون خارج الدار مستضعفين خاضعين، ويقبلون على الناس متضامنين محبين، فإن أخلاقهم ولا ريب تخرج من نار النكبة الزوجية مرنة لينة، ولعمري أن عتاب الزوجة زوجه حين يضمهما السرير خير من خطب الدنيا بأجمعها، وأجدى على الرجال من المواعظ التي تعلم الناس الصبر والاضطلاع بالمتاعب، ولا لجاج في أن الزوجة الشكسة المتوحشة قد تعد من بعض الوجوه نعمة طيبة، وإذا صح ذلك فإن رب كل من زوجته في ثلاث نعم.
وكان محبوباً من نساء القرية وبمولاتها الصالحات، وكن يجنحن إلى الانتصار له، إذا ثار الخلاف بينه وبين زوجته، ولم يترددن مرة إذا ضمهن حديث الليل وندوة المساء في إلقاء كل اللوم على مدام ونكل، وكان أطفال القرية يهتفون من فرح إذا لمحوه مقبلاً عليهم، وأنهم ليصيحون لمجيئه مغتبطين، وكان يحضر ألعابهم، ويقاسمهم لهوهم، ويصنع اللعب لهم، ويعلمهم عمل الطيارات وتطييرها، ورمي الحصى وتسديد رميته، ويقص عليهم قصص العفاريت، ونوادر الساحرات، وحكايات الهنود، وكلما مر بالقرية منطلقاً، أحاط به جماعات الأولاد، يتشبثون بأذيال ثوبه، ويعلتون ظهره ويتسنمون كاهله، ويمزحون معه ويضحكون منه كما شاؤوا وشاء مراح الأطفال، وإنه ليجوب منافس القرية وسبلها ويمر على دورها ومساكنها، فلا يهر إليه كلب، ولا يزعجه نباح.
وأكبر عيب فيه كرهه كل عمل يعود عليه بالكسب، ولا تحسبن كراهيته من عوز فيه إلى الكدح والدأب، فقد تراه معتقداً عند ضفة النهر صخرة ندية رطبة وفي يده قصبة أشبه شيء في طولها وثقلها برمح الترتر، وكذلك يمضي في صيد السمك يومه، لا يمل ولا يسأم وإن لم تشجعه سمكة واحدة. وإنه ليتنكب بندقته الساعات الطوال متنقلاً بين الغاب والإجم، متروحاً بين المستنقعات والأكم، طالعاً الجبل، وهابطاً الوادي، في صيد بضعة حمائم أو
سناجب، ولا يتأخر أبداً عن إعانة جار له حتى في أشقى الكدح وأصعب الأعمال، وهو إذا حان حين اللهو كان السباق إليه، وإذا اجتمع أصحاب القرية للمراح واللعب، كان في طليعة اللاعبين، واعتادت النسوة أن يستقضينه شراء حوائجهن وقضاء مشاويرهن، ويستعن به في إنجاز الأعمال الخفيفة التي لا يرضى أزواجهن إنجازها وجملة القول كان رب معداً لخدمة كلة إنسان إلا خدمة نفسه، أما عمل واجب الدار وتعهد زرعه، والعناية بأمره، فقد وجد ذلك عليه مستحيلاً. وقد صرح يوماً بأن لا جدوى من العمل في مزرعته، والحق يقال إنها كانت أسوأ أرض في كل أرجاء الإقليم.
كل شيء فيها سيء فاسد، أسوارها أبداً متهدمة، وبقرته يوماً تهيم ويوماً تخوض في الزرع فتهصره، والعشب أكثر طلوعاً في حقله، والغيث يقع في غيبته.
وأما أولاده ففي أطمار بالية وتشريد، كأنما فقدوا عهائلهم، وإن منهم صبياً قزماً له ملامح أبيه، ورث عن والده عاداته كما ورث بالى أثوابه، يمشي دائماً في أثر أمه ظالعاً كالمهر، مرتدياً (بنطلوناً) خلقاً كان لأبيه، يرفعه بيده، كما ترفع السيدة المتأنقة ذيل ثوبها في اليوم الممطر.
على أن رب فإن ونكل كان واحداً من أولئك الرجال الناعمي البال ذوي الطبائع القانعة الحمقى، أولئك الذين يرون الحياة أمراً سهلاً، سيان عندهم في الرزق الخبز الأبيض والخبز الأسمر، وكل ما ينال من أقل فكر أو عمل، الذين يؤثرون أن يتبلغوا بفلس على أن يعملوا من أجل دينار، ولو ترك رب لنفسه، وأرخي له لببه، لنفخ الحياة كالصفير في قناعة تامة ورضى، ولكن زوجته كانت أبداً تطن في أذنه، زاجرة له على تجلده واستهتاره، والويل الذي يجره على بيته، والمصيبة التي ينزلها بأسرته، وكان لسانها يلوك صباح مساء الكلم الزواجر دون (انقطاع)، وكل قول يقول أو فعل يفعل لابد أن يرسل بلاغتها وسحر بيانها. ولم يكن له إلا سبيل واحدة في الجواب على محاضرات زوجته وخطبها. وهو أن يهز كتفيه ورأسه ويرفع عينينه ولا يفوه ببنت شفة. ولم يكن ذلك إلا ليبعث زوجته على رشقه بالكلم النبال كرة أخرى. حتى ليود أن يستجمع قواه وينفلت إلى خارج الدار. وما خارج الدار إلا الحمى الوحيد الذي يحتمي فيه التعساء من المتزوجين. بل هو الكنف الذي ينطاق إليه عبيد الزوجات.
وكان خليط رب الوحيد في البيت كلبه وولف وهو شبيه سيده تخاذلاً وخضوعاً. وكانت مدام ونكل تعدهما متحالفين على البلادة. مصطلحين على البطالة. بل تنظر إلى الكلب بالعين الغاضبة الساخطة. كأنه السبب في تبلد سيده وتشرده. والحقيقة أن الكلب من كرام الكلاب روحاً. وأشجعها نفساً. ولكن أية شجاعة تقف إزاء بذاءة امرأة. وأي باس يغني من أذى لسانها ويدها. ولا يكاد يدخل الكلب الدار حتى تنتكس هامته. ويتساقط ذنيه أو يلتيو بين ساقيه. وأنه ليختلس الخطي في فنار الدار كالمجرمين. ويلحظ سيدته شرزاً. فإذ لمح أقل إشارة منها بالمكنسة أو المغرفة جرى إلى الباب نابحاً عاوياً.
هذا والزمان يدور على رب ويزيد في نكده وشقائه. كلما تقادمت السنون على حياته الزوجية. فإن الخلق الحاد الذميم لا يعود بمر الدهر ناعماً ليناً. وإن اللسان السليط هو السلاح المشحوذ الذي يزداد من كثرة الاستعمال رهافة ومضاء. ومكث زماناً يعزي نفسه إذا طرد من داره. ويتلهى عهن برحاء همسه. بالتردد على ندوة في القرية تجمع عقلاءها وفلاسفتها وعاطليها. تعقد جلساتها عند مقعد هناك إزاء نزل صغير. تدل عليه صورة حمراء تمثل جورج الثالث. ملك بريطانيا في ذلك العصر.
هناك يجلسون في ظلال اليوم الصائف الطويل الشقة البليد. يتحدثون عن القرية وأحوالها. ويتكلمون في شئونها وشؤون أهلها. ويقصون حكايات منومة لا نهاية لها ولا معنى. ولو علم السياسي بأمرهم وهم يتناقشون في المجلس ويتجاذبون أطراف الحديث حول أنباء صحفية قديمة نفحهم إياها سائح مر بتلك الانحاء. لما ضن على هذا المنظر بشيء من ماله. وما أشد وقار المجلس وسكونه إذا انطلق فإن بومل. معلم القرية. يتلو عليهم الصحيفة في رفق وتؤدة. وفان بومل هذا أستاذ تنبال نشيط. لا تخيفه أضخم كلمة في قاموس اللغة. وما أعظم رزانة القوم وهم يتباحثون في شؤون سياسة مضى عليها بضعة أشهر.
أما رئيس المجلس وعريفه فرجل منهم يدعى نقولا فيدر وهو كذلك قسيس القرية ورب النزل. يأخذ مجلسه إزاء نزله من مطلع الشمس إلى غسق الليل. لا يبرحه إلا هارباً من حر الهاجرة إلى ظل الدوحة الباسقة. ومن جلساته وحركاته يعرف أهل القرية أوقات النهار. عوضاً من ساعاهم. ولم يكن يتكلم إلا نادراً. ويدخن بغليونه طول يومه. على أن أتباعه وخلطاءه. ولكل عظيم إتباع وخلطاء كانوا أكثر شيء علما بأمره وما يدور في خلده.
فإذا قرئ عليه نبأ. أو قصت عليه حكاية فلم ينشرح لها ولم يبتهج. رأوه قد بدأ ينفخ من غليونه أنفاساً قصيرة متتابعة. فإذا خف للقصة وأعجب بها. تنفس الدخان في دعة وسكون. وبعثها سحائب خفيفة غير معتمة. وحيناً يخرج لغليون من فمه ويدع ذؤابة الدخان تدور حول أنفه. ويطرق في سكون برأسه دليلاً على استحسانه التام.
ومن هذا الحمى الأمين كان رب الزوج المنكود عرضة لمطاردة زوجته له ومباغتتها، فقد كانت تنقض عليه وهو في الحفل مطمئن وادع. قاطعة على المجلس هيبته. مرسلة فيهم قحتها. حتى رئيسهم الرجل المهيب الوقور لك يكن لينجو من شر لسان المرأة المسترجلة المتوحشة. إذ كانت تهجم عليه بالتهمة. وترميه بأنه المشجع لزوجها على البطالة والكسل.
وبلغ برب المسكين اليأس. وجدية الحزن. فلم يكن يري وسيلة للفرار من بحث مزرعته وتعهدها. وصيحات زوجته وصرخاتها. إلا أن يأخذ بندقيته ي يده وينطلق في الغاب هائماً طائفاً.
هناك كان يجلس عند أصل شجرة. يقاسم كلبه ما في جعبته من رزق. وكان يعطف على الكلب ويحدب. كرفيق له في نكد الدنيا. وحليفه في عذاب البيت. وكان يخاطبه فيقول أي وولف المسكين. أن صيدتك لا تطلب لك من الحياة إلا حياة الكلب. ولكن هون عليك يا فتاي ولا تبتئس. فلن يعوزك الصديق الرحيم. ما دام في نفس صاعد. .
إذ ذاك يهز وولف ذنبه. وينظر إلى وجه سيده واجماً. وإن صح إن الكلاب تشعر بالرحمة. فإن معتقدي أن وولف كان يبادل سيده عطفه وحنانه.
ففي طوفة من طوفانه. في يوم خريف جميل. انتهى برب التجوال إلى ربوة من أعلى ربى تلك الجبال. وكان كعادته يتعزى بصيد السناجب. والسهل والحزن يضجان بقصف بندقيته. حتى إذا جاء الأصيل. حل به التعب واللهاث من أثر التيار والتطواف. فارتمى يرفه عن نفسه على ذروة في الجبل قد كساها العشب الأخضر ثوباً سندسياً يتوج جبين الهاوية. وقد أشرف من فرجة بين السرحات الباسقات على السهل المنخفض الممتد بضعة أميال من باسق أشجار الغاب. ورأى من كثب نهر الهدسون يجري في سكون وجلال. تعلوه غمامة اكتست حمرة الشفق. وتلوح عنده جارية تمخر العباب نائمة فوق صدره الزجاجي. ثم تغيب وراء الجبال الزرقاء.
وعلى الجانب الآخر واد منخفض وحش قفر انتثرت فوق أديمه صخور انحدرت من جواب الجيل وهضابه، تضيئه أشعة الشمس المنعكسة الراحلة، وكذلك جلس رب ساعة يفكر في هذا المنظر ويجلو عينه من روعته، والمساء مقبل متقدم، والجبال تمد ظلها الأزرق المترامى فوق البطاح والوديان. ورأى أن الظلام سيرخي لا ريب سدوله قبل أن يبلغ القرية. وذكر امرأته وهول نقائها فتنهد تهده الموجع الملتاع.
ولكنه كاد يهم بهبوط حتى سمع صوتاً من كثب ينادي رب فإن نكل. رب فإن ونكل! فدار بعينه ولكنه لم ير إلا غراباً محلقاً فوق الربى وحيداً. فظن أن مخيلته قد خدعته وأنبعث في سبيله منحدراً هابطاً. ولكنه سمع الصيحة نفسها ترن في سكون ذلك المساء وهدوئه رب فان ونكل! ورأى كلبه وولف راح يهر هريراً منخفضاً. ويقترب من جانبه مذعوراً. وينظر خائفاً إلى ناحية الوادي المنخفض. فاستشعر رب من ذلك رهبة خفية بدأت تستملكه، فنظر إلى جهة الوادي فلمح شبحاً غريباً صاعداً في رفق صخور الجبل. وقد أنقض ظهره شيء يحمله. فأدهشه أن يرى آدمياً في هذا المكان المبعد المتوحش. وظنه رجلاً من أصحاب القرية بحاجة إلى عونه. فأهطع إليه يريد أن يحمل عنه وزره.
وكلما اقترب منه ازدادت دهشته لغرابة مظهر الرجل وثوبه. رأي شيخاً قصير القامة ضخماً. يجلل هامته شعر وحف جئل. وتنحدر تحت ذقنه لحية كثة. يلبس لباس أهل هولندة القدماء. صداراً من القماش حول خصره. وسراويل كثيرة أعلاها عريض طويل. تزين حفافيها صفوف من الأزرار. وعند ركبته عدة منها. يحمل فوق كاهله دنا ضخماً. كأنما يحوى شراباً.
حتى إذا جاءه أشار إليه الغريب أن يقترب ويرفع عنه حمله. فأطاع رب وهو خجل من صاحبه الجديد مستريب. ثم تعاونا على الدن. وصعدا وادياً ضيقاً. لعله مجرى نبع من الجبل ناضب. وكلما انبعثا مصعدين سمع رب بين حين وحين صيحات داوية كأنها قصف الرعد البعيد. صادرة من واد عميق القاع. بين صخور شاهقة. يفضي إليه طريقهم الصعب. فوقف رب عن السير برهة متردداً. ولكن ظن أنها حنين من الرعد الممطر الكثير الحدوث عند ذروات الجبال الشم. فواصل السير منطلقاً وصاحبه بين عدوتي الوادي حتى أشرفا على أخدود يحف من حوله هاويات أفقية. قد نبتت على حافلها أشجار باسقة
الأفنان. منتشرة الأغصان. حتى لا ترى القبة الزرقاء إلا بين فرجات فروعها. ولا تشهد غمائم المساء إلا من أضعاف أعوادها. هذا وهما يسيران صامتين لا يتخاطبان. وإن كان رب في دهشة بالغة وعجب يذهل القلب. يسأل نفسه ترى أي غرض هناك من حمل دن فيه خمر إلى هذا الجبل الموحش. ولكن شيئاً غريباً غامضاً حول ذلك الرجل المجهول يثير الرعب ويحسم عرق التخاطب والتفاهم.
فلما بلغا الأخدود رأى حالاً عجباً. رأى في بقعة سهلة من بهرة الأخدود. جماعة من الرجال في مظاهر منكرة. يلعبون لعبة الدبابيس التسعة. مشتملين في أزياء غريبة منكورة. منهم من اتشح في سترة قصيرة. ومنهم من تسربل بسراويل طويلة. وفي مناطقهم الخناجر. يلبسون سراويل عدة. كلها على نمط سراويل الدليل. أما وجوههم فما شئت من غرابة ونكر. وإن فيهم رجلاً طويل اللحية مرسلها. عريض الصفحة ضخمها. متخازر العين خنزيريها، وفيهم رجل آخر يكاد وجهه لا يحوى غير أنف. تعلوه قلنسوة بيضاء أشبه بقمع السكر. حليتها ذيل ديك حمراوي. وللكل لحى مختلفة ألوانها. متباينة أشكالها. وفيهم رجل عليه مظهر الزعيم. شيخ عبل أسمر الملامح من أثر الجو. مشتمل في سترة مقفلة. ومنطقة عريضة. يتدلى منها سيف قصير. فوق رأسه قلنسوة عالية رائشة. وحول ساقيه جوارب حمراء. ينتعل حذاء عالي الكعب. حلاه نوع من الورد.
والذي زاد في عجب رب ودهشته أن القوم يتلهون ويلعبون. وهم متجهمون مكفهرون. في أرهب صمته. وأرعب هدوء. ورأى فيهم جماعة لهو محزنة لم يشهد قبلها شبيهة لها في تاريخ حياته. هذا وسكون المشهد لا يقطعه إلا صوت دحرجة الكرات وهي تدوي في الجبال كأنها زمجرة الرعود.
فلما دنا وصاحبه من الجماعة. وقفوا برهة عن لعبهم وحملقوا إليه جميعاً. بنظرات ثاقبة ثابتة ثابتة كنظرات التماثيل. بوجود دميمة ومعارف جهمة. طارت نفسه من هولها شعاعاً. واصطكت ركبتاه من رهبتها فرقاً. وشرع رفيقه يفرغ الدن في قواوير كبيرة. ثم أشار إلى رب أن يطوف على الجماعة بها. فأطاع وهو يرتعد خوفاً ووجلاً. حتى إذا جرعوها صامتين. عادوا إلى الكرات يلعبون. شجعها نفسا
وبدأ يذهب عن رب الروع. حتى أنه جسر في خلسة المختلس. ولا عين تراه. أن يتذوق
الشراب. وكان من طبعه ذا روح ظامئة صدياً. حرضته على معاودة اختلاس الجرعة بعد الجرعة. وكلما اشتف رشفة منها طالبته الأخرى. وما زال بالفوارير يعاودها حتى لعبت بحواسه سورة الخمر: وزاغ منه البصر. وتدلى رأسه فوق صدره ولم يلبث أن راح في سبات عميق.
فلما صحى من سكره، وجد نفسه عند الربوة الخضراء في البقعة التي رأى فيها شيخ الوادي ففتح عينيه فإذا الصبح مشرق والشمس ساطعة. والأطيار متزية فوق أرائك الشجر وفروع الدوح. وإذا النسر محلق في الجواء، طائر في نسمات الضحى العليلة، فقال في نفسه لا شك إنني لم أثم هنا طول الليلة الماضية وأخذ يذكر ما وقع له قبل سباته. يذكر الشيخ الغريب ودنه. والوادي وصخوره، وجماعة الدبابيس التسع وهو لهم. وقوارير الشراب وحمياها. ودعل يقول ويح هذه القوارير. ولعنة الله عليها. أي عذر أقدم لزوجتي. وأي شفيع يشفع؟.
والتفت حوله يلتمس بندقيته. ولكنه وجد بدل البندقية النظيفة الناعمة اللامعة بندقية عتيقة مرمية بجانبه. علتها طبقات من الصدأ. وقد تساقط زنادها: ونخرت الأرضية خشبها. فظن أن جماعة الجبل أرادوا مداعبته ومماجنته. فأسكروه من شرابهم. ثم سرقونه بندفيته.
ومالو ولف قد احتفى عنه واحتجب. أم لعله في أثر الستجاب أو طراد الحجل. فجعل يصفر له ويناديه باسمه. ولكن سدى. وردد الصدي صفيره وصريخه. على حين لا كلب ولا هرير.
فاستقر رأيه على أن يعود إلى ملعب الأمس فإذا لقى أحداً من الجمع أهاب به أن رد على كلبي وبندقيتي. ثم استوى واقفاً يريد مسيراً. فإذا به يشعر بتوتر في مفصله. وتراخ في قواه، فأخذ يحدث النفس ويقول أن نضاجع هذه الجبال لا تصلح لي ولا أصلح لها: ولئن رجعت من ملهاتي هذه بعلة النقرس. فسيكون لي شان مع مدام ونكل. وأي شأن!.
فبعد لأي هبط الوادي فاهتدى إلى الطريق الذي كان بالأمس يركبه في صحبة الشيخ. ولكنه عجب اذرأى غديراً مزبداً فضفاضاً ينبع هناك، طافراً من صخرة إلى صخرة. واثباً من ثنية إلى ثنية. مالئا الوادي خربراً وهدبراً. فتنكبه. وانطلق يسير في طريق غير سوى ويمشي بين دوح الصفصاف والبندق والغار. ويعارض سبيله عروش الأعتاب البرية.
تلوى فروعها وأعراشها. وتمدها من دوحة إلى دوحة. وسرحة إلى سرحة. وتحول بينه وبين طريقه بشباكها وحبائلها.
وانتهى به السير حيث الوادي يتفتح عند قرجة بين الصخور مقتضية إلى الأخدود على أنه لم ير لهذه الفرجة أثراً باقياً. بل رأي الصخور متطالة الأعناق قائمة كأنها السور المنيع. يتحدر فوقها النبع متعثراً في صفحة مزبدة من الماء، دافعة إلى حوض غائر القيعة تبسط أشجار الغاب فوقه رواق ظلالها.
هناك وقف رب لا متقدم له ولا متأخر، ينادي كلبه صريخاً وصفيراً، فلا يجيبه إلا نعيق سرب من الغربان صافات في الجو حول شجرة يابسة. قائمة فوق هاوية متألقة. كأنها من أمانها تنظر إلى المسكين وتسخر من حيرته.
وماذا هو لعمرك صانع؟. . هذا الصبح يتولى مظهراًَ. وهذا الجوع يقتله ألماً أحزنه أن يحتجب عنه كلبه وتتبدل بندقيته غير البندقية. ولئن هاله أن يلقي زوجته. فلا يغني عنه جوعه بين الجبال والربى.
فأطرق رأسه حزيناً، وتنكب البندقية الصدئة، وعاج على طريقه إلى الدار حزين الفؤاد مهموماً.
فلما اقترب من القرية. لقي جمعاً من الناس. ولكنه لم يعرف فيهم أحداً. فأخذت منه الدهشة مأخذها. فقد كان يظن أنه ما من رجل في هذه النواحي إلا وله به معرفة. ورأى زيهم غير زيه. ولباسهم غير لباسه. وكلما استقرت عليه أبصارهم. وضعوا أيديهم على لحاهم. حتى اضطر أن يفعل فعلهم. ولكن لشد ما كان عجبه إذ بصر بلحينه قد بلغت قدماً!.
وهذا هو الآن ملم على أرباض القرية. يمر على ترب من الأطفقال يعدون خلفه ضاحكين. ويشيرون إلى لحيته الشائبة مازحين. والكلاب. وكان عهده بها تعرفه. نهر إليه وتنبح في أثره.
رأي القرية نفسها قد تبدلت معالمها وحلت رسومها. وأصبحت أعمر من قبل حالاً. وأكثر نفيراً. ورأى صفوفاً من المنازل لم يرها. وبيوتاً طريقة لم يعرفها. ولم يجد المقام القديم. والدور المعهودة. وقرأ فوق الأبواب أسماء غريبة، ولمح في النوافذ وجوها جديدة وإذا كل شيء في البلد غريب.
فأخذ ذهنه يتيه في شعاب الوهم. ويفقد الرشد. وأخذ يسائل أأصابه مس من الجن أم تغيرت الأرض غير الأرض.
ولكن هذه قريته لم يتركها إلا عشية أو ضحاها. هذه جبال كاتسكل ممتدة الأعناق وهذه صفحة الهدسون الفضية تعج هناك. وهذه الأباطح والأودية والربى كما كانت.
ذلك ما حيره وأذهل لبه. وجعله يمضي متلدداً متحيراً يقول لنفسه ويحي أن قوارير الأمس قد ذهبت برشدي.
وانبعث يطلب السبيل إلى داره. فوجدها بعد عناء وتعب، ودلف إلى داره في خوف ورهب. متوقعاً أن يسمع في كل خطوة صوت زوجته وصياحها. ولكنه رأى عندها رسماً محيلاً وطللاً عافياً، سقوفاً متهدمة؟ ونوافذ متدنية متكسرة. وأبواباً متخلعة متداعية يطوف بها كلب جائع غائر الوجه كأنه كلبه. فناداه باسمه. ولكنه نأم إليه وكشر عن نابه منطلقاً. فكانت منه الطعنة النجلاء. والنكبة النكباء. وتابع رب طريقه متنهداً يقول لنفسه وأهالي. حتى كلبي قد نسيني. .
ودخل داره. وكانت مدام ولكل نقوم على تنظيفها وتعهدها. فإذا هي خاوية على عروشها. خالية من أهلها. فغلب خراب الدار على مخاوفه الزوجية. فصرخ بأعلى صوته ينادي زوجته وبنيه. فدوت الحجرات المهجورة بصدى صرخاته. ثم عاد السكون كما كان.
فخرج مسرعاً يريد معهده القديم إزاء النزل. فإذا هو قد عفت آثاره. واندرست رسومه. وقام في مكانه بناء خشبي يريد أن ينقض. كثير الشرفات كثير النوافذ. سدت ثلماتها بالقلانس الخلقة. والأوشحة البالية. وقد كتب على الباب فندق الاتحاد لصاحبه جوناثان دولتل ووجد بجل السرحة التي كانت تظل النزل الهادئ القديم بأفيائها. عموداً ممدواً. في رأسه شيء أشبه بقبعة حمراء. يلوح فوقه علم خفاق رسمت عليه نجوم وخطوط.
كل ذلك كان غريباً عند رب غير مفهوم. على أنه تبين عند الشارة وجه الملك جورج الثالث القرمزي. وطالما دخن تحت صورته وجلس. ولكنه رأى هذه أيضاً تغيرت وتطورت وتبدلت السترة الحمراء سترة زرقاء. واستحال الصولجان في قبضته سيفاً، وجللت الرأس قبعة هرمية الشكل، وكتب تحت الصورة بحروف كبيرة الجنرال واشنطن!.
وكان حشد من الناس حول الباب. ولكن ليس فيهم من يذكره. حتى لقد تغير خلق القوم وتحول. رآهم في جدال وصخب. وعهده بهم أهل دعة وحلفاء تهويم. وطفق يبحث بينهم غير مهتد عن نقولا فيدر. رب النزل وقسيس القرية. بوجهه العريض. وذقنه المزدوج. وغليونه المستطيل. ينفخ الذوائب من فمه بدلاً من الكلم الفارغة. وفان بومل المعلم والمقرئ يقرأ الصحف ويتلوها.
ولكنه رأى بدلهما رجلاً مقضوماً مهزولاً صفراوياً. امتلأت بالإعلانات جيوبه. يصيح بصوت جهوري. متشدقاً بحقوق الوطنيين. والانتخابات. وأعضاء المؤتمر والحرية. وموقعة بانكرزهل. وأبطال عام 76. وأسماء لا تحصى. لم تكن في أذن رب إلا الألسن البابلية.
وإن ظهور رب بلحيته المتدلية الشعناء. وبندقيته الصدئة الشوهاء. وأثوابه البالية النكراء. وفي أثره جيش من الأطفال والنساء. لم يلبث أن لفت أنظار ساسة ألحان ورجاله. فأقبلوا عليه يتقصون أنظارهم في الرجل مندهشين. وداناه خطيبهم فأخذه ناحية وجعل يسأله: لأي حزب أنت مصوت؟ فأفلت منه رب ولم يفهم مما قال حرفاً. وعمد إليه رجل من عرض الجمع. قصير القامة. خفيف الروح. فشده من ذراعه. وتطاول إلى أذنه فهمس أأتحادي أنت أم ديمقراطي؟ فازدادت دهشته ووجومه. وإذا برجل شيخ جليل. تخطى الجمع المزدحم إليه. واضعاً إحدى راحتيه في خصره. ومعتمداً بالأخرى على عصاه. حاد النظر ثاقبة فسأله في لهجة العابس الغاضب ماذا جاء بك إلى مكان الانتخاب. متنكباً بندقيتك يسعى في أثرك الغوغاء؟ ألفتتة في القرية أم مقتلة؟.
فقال رب وقد توجس منهم خليفة معاذ الله. يا سادتي. ما أنا إلا رجل وديع مسكين. ربيب هذه القرية ووليدها. ورعية مخلص لجلالة الملك. أصلح الله حاله!.
وإذ ذاك علا الصياح من كل مكان.
وصرخ الجمهور. . ملكي جاسوس؟ طريد - انقضوا عليه. . تألبوا. سيروا به! ولم يستطع ذلك الشيخ الوقور أن يعيد سكون الحفل إلا بعد مشقة كبيرة. فلما تم له ذلك زاد في تقطيب جبينه وتجهيم معارفه. وعاد يسأل الجاني المجهول عن سبب مجيئه إلى القرية. وعمن يريد فطفق رب يؤكد له وهو خاضع متذلل إنه لا يريد بأحد ضراً. وإنما بلغ مكانهم
باحثاً عن فئة من عشيرته وجماعة من جيرته كانوا يختلفون إلى ألحان. ويجلسون إزاء النزل؟.
فسأله الشيخ. ومن يكونون؟ سمهم. د
فأخذ رب يسترسل في الذكرى برهة. ثم سأل. أين نقولا فيدر؟.
فكان صمت. ولكن لم يلبث أن أجاب شيخ كبير. في صوت ضعيف خافت. . نقولا فيدرا عمرك الله لقد قضى نحبه منذ ثمانية عشر عاماً. لقد كان فوق قبره تاريخ حياته.
وأين بروم دوتشر؟.
ذهب إلى الجيش. في أول العهد بالحرب. فقال قوم إنه استشهد فيب هجمة (ستوني بوينث) وقال آخرون مات من رياح هوج عند سفح جبال (أنفانطنيوس) ولا أعلم من الأمر شيئاً. فإنه لم يعد من بعدها أبداً.
وأين فان بومل؟.
ذهب إلى الجيش. فكان قائداً. مغواراً. ومسعر حرب. اسلا. وهو اليوم في المؤتمر.
فلما سمع رب ذلك. طار لبه حزناً وأسى. على تحول داره وتغير صحابته وكاد يبخع نفسه حسرات على تغير الزمان وتبدل الأحوال. وماذا يريد هؤلاء بقولهم الحرب. . . المؤتمر. . . ستوني بوينت!.
لم يعد له من الشجاعة ما يجرئه على السؤال عن أصحاب غير هؤلاء. بل صاح من يأس قائلاً وهل فيكم من يعرف رب فان ونكل؟.
فقال اثنان منهم أو ثلاثة وكيف لا نعرفه. هذا رب فان ونكل جالس هناك عند أصل الشجرة.
فالتفت رب فرأى عندها فتى يحكيه يوم صعد الجبل بؤسه وتراخيه.
فاختلط الأمر عليه وبدأ يشك في نفسه ويستريب بشبيهه. وإنه ليتيه في مهامه الحيرة إذ أقبل الشيخ عليه يسأله من هو وما اسمه.
فقال رب من ذهول. . . الله يعلم! لست نفسي. بل ما أنا إلا رجل غيري. ذلك الجالس هناك. كلا. بل هذا رجل تقمصني. . لقد كنت ليلة الأمس رب ولكن ضرب على أذني فنمت. فغيروا بندقيتي. وتغير كل شيء وأين لي أن أعلم من أكون. وما اسمي.
فبدأ الحضور يتناظرون ويتلاحظون ويضعون أصابهم فوق جباههم. وتهامس بعضهم فيما بينهم أن يأخذوا منه بندقيته. لئلا يأتوا أمراً أدا. وعند ذلك أسرع الشيخ الوقور إلى لزوم مكانه الأول. وفي هذه اللحظة الرهيبة دافعت الجمع المتألب امرأة صبوح الوجه حسناء تريد أن تشهد الرجل ذا اللحية الشهباء يعني رب وكانت تحمل بين ذراعيها وليداً غضاً سميناً. أخذ يتشنج ويبكي خائفاً من هيأة الرجل فأهابت به المرأة. . علام البكاء يا رب. ولم التشنج أيها الصغير الأحمق. لا تخف فالشيخ ليس بذي أذى!.
وإن اسم الوليد. وسمعت أمه. ونبرات صوتها. وتضاعيف جرسها. كل ذلك أيقظ في ذهن رب نواعس الذكرى. وهواجع الماضي فأنشأ يسأل.
ما اسمك أيتها المرأة الرؤوم؟.
فكان جوابها. جودت جاردينيار.
واسم أبيك؟.
قالت. . واحر قلباه على المسكين. لقد كان اسمه رب فان ونكل. وها قد مضي عشرون عاماً على ذلك اليوم الذي خرج فيه من داره متنكباً بندقيته ولم نسمع بخبره أبداً.
رجع كلبه وحيداً. ولا يعلم أحد إذا كان قتل نفسه أم اختطفته الهنود. ولم أكن إذ ذاك إلا شابة صغيرة.
لم يبق لرب إلا سؤال واحد. فألقاه بصوت مرتجف. . . وأين أمك؟.
قالت. . لم تلبث بعده أن قضت. . قطعت شرياناً لما في ساعة غضب. من موجدة على بائع!.
فكان في هذا الجواب سلوة له ونعمة عين. ولم يستطع كتمان ما به. وفاضت في قللبه عاطفة الوالد فاخذ ابنته ووليدها بين ذراعيه وصاح باكياً. . هذا أنا أبوك. بالأمس رب فان ونكل الفتى. واليومك رب فان ونكل الشيخ. أوليس منكم رجل يعرف رب فان ونكل القديم؟.
فوقف الجمع مندهشين حائرين. حتى خرجت من بينهم عجوز. فجاءت تدلف إليه ووضعت يدها فوق جبينها تستعين على الذكرى. وتتشوفه من تحت يدها. وما نشبت أن صاحت. أجل يا قوم. هذا رب فان ونكل بعينه. مرحباً بمقدمك. وأهلاً بك. أبهذا الجار
العزيز القديم. لقد طال بك وبنا العهد. وبعد الأمد. فأين كنت يا جارنا طول هذه السنين العشرين؟.
فقص عليهم قصته. فكان عشرون عاماً لديه ليلة واحدة، فمضى يقص عليهم القصة، فلم تكن عشرون عاماً طوالاً في نظر رب إلا ليلة واحدة، وجعل الجيران يستمعون له. وهم يحدقون فينه الأبصار، وكان جماعة منهم يتغامزون ويتهامزون. وأما الرجل الوقور ذو القلنسوة الهرمية فرجع مطمئن السرب إلى الحفل ونهو يطبق شفتيه ويهز رأسه. وافتدى به الجمع فانطلقوا يهزون الرؤوس ويطرقون الهام.
واجتمعوا على أن يأخذوا رأى بطرس فاندروك الشيخ. وقد لاح لهم يمشي الهوينا عائجاً على الطريق، وكان هذا الشيخ من سلالة ذلك المؤرخ الهولندي الكبير المسمى بهذا الاسم.
وقد وضع تاريخاً عن الإقليم يعد من أقدم تواريخها. وبطرس هذا أقدم سكان القرية عهداً، وأوفاهم سناً، وأوسعهم علماً بعجائب هذه الانحاء وأساطيرها وموروث أنيابها وأخابيرها. فلما عرضوا القصة عليه وسألوه رأيه، عرف رب وتذكره، وأقر على صدق حكايته. وأكد للقوم أنه الحق ورثه كابرا عن كابر إن جبال كاتسكل كانت أبداً معاج قوم منكورين. ومعاد أشباح غريبة، وقد أثبتوا أن هندريك هدسون أول من كشف النهر واهتدى إلى الناحية. كان يقيم في الجبال عبداً على رأس كل عشرين عاماً، وإن أباه رآهم مرة في أثوابهم الهولندية القديمة يلعبون لعبة الدبابيس التسع في أخدود بين الجبال، وأنه نفسه سمع بأذن ذات أصيل من أصائل الصيف صوت كراتهم يدوي كأنه قصف الرعود.
وجملة القول إن الزحام تفرق، والحشد انتثر، وعاد إلى مسائل الأعقاب، وأخذت رب ابنته إلى دارها ليعيش في ظلها ويطمئن في جنابها، وكان لها دار صغيرة دافئة حسنة الرياش، وكان لها زوج من الفلاحين ناعم البال رخى الحال، وقد ذكره رب بين الأطفال الذين كانوا يتشبثون قديماً بأذياله. ويعقلون كاهله، وأما ابن رب، ووريثه وشبيهه، ذلك الذي كان جالساً عند أصل الشجرة، فقد أرادوه على أن يعمل في الأرض ويبحث في المزرعة ولكنه أبى إلا أن يميل إلى ما ورث عن أبيه وأخذ.
وراجع رب عيشه الأول، وعاد إلى ملاعبه الأولى، ومعاهده الماضية، وعاداته النائية، ووقع على جماعة من صحابته القدماء. وخلصائه الأولين. فإذا هم قد طحنهم الدهر بكلكله،
وأضعف من مرتهم بحدثاته، وأرهن من بأسهم بضرباته، فآثر أن يصطفي لنفسه أصحاباً من الشباب، وأخداناً من عصر الشباب، ولم يكن إلا حين حتى اكتسب مقتهم، وظفر بحبهم.
ورأى أن لا عمل لديه، وعلم أنه قد بلغ تلك السن التي يجوز للمرء أن يبلد بعدها ولا ضرار عليه ولا ذام، فأخذ مجلسه القديم إزاء النزل، وأكبره قومه ونادوا به رأساً من رؤوس القرية، وشيخاً من مشايخها. وعمدة يرجع في التاريخ إليه. ويعتمد في الرواية عليه. ومضى زمان قبل أن يستطيع أن يجاذب المجلس أطراف الحديث المردد. وقبل أن يعلم منهم غرائب الحوادث التي حدثت في غشيته. وكيف نشبت حرب زبون خلعت بها البلاد عنها سلطان إنجلترا عليها. وإنه لم يعد بعد رعية الملك جورج الثالث بل أصبح اليوم وطنياً حراً من الولايات المتحدة الأمريكية. وما كان رب سياسياً وما كان بالسياسة مشغوفاً. وقد تدل الدول. وتدور الممالك. وتستحيل الحكومات. فلا تترك لديه إلا أضعف الأثر. ولكن هناك نوعاً من الحكومة المطلقة. طالما تأوه من نيره. وكثر ما تكبد من سلطانه. وتوجع من سيطرته، وأعني به - حكومة ذات الوشاح.
والآن لشد ما كانت سعادته. إذ دالت هذه الدولة. وتقوضت هذه الحكومة. وأنقذت رقبته من ربقة الزوجة. وأعتق من أسار المرأة، وأصبح يدخل الدار كما شاء ويخرج كما يشاء لا يخشي من زوجة عسفاً ولا يرهب من مدام ونكل استبداداً ولا عنفاً. وكلما ذكر اسمها هز راسه. ورفع كاهليه. وحدق البصر، وهذه تحتمل أن تكون دليلاً على نكبته بفقدها أو برهاناً على غبطته بنجاته.
واعتاد أن يقص القصة على كل قادم ونزيل، ولاحظ السامعون أنه كان يتغير في بعض مواقع منها. وذلك لا ريب لأنه كان لا يزال إذ ذاك حديث عهد باليقظة وقد استقر به السرد على هذه القصة التي كتبتها. وما من رجل في القرية. ولا امرأة. ولا صبي إلا ويحفظها عن ظهر القلب. وادعى فئة من الجماعة أنهم يشكون في صحتها. وأصروا على أن رب كان ممروراً. وذلك ما جعله يظل في السرد متردداً متغيراً. ولكن الهولنديين من أهل القرية أجمعوا على أن القصة لا يشوبها من الكذب شائبة. وهم حتى اليوم كلما سمعوا في أصائل الصيف صوت المطر الراعد فوق الجبال قالوا هذا فندربك هدسون ورجاله في لعبة
الدبابيس التسع. وكان كل زوج متطامن لزوجته مستعبد. إذا نقل عليه عبء الحياة. وناء بالعيش حملاً يمني النفس برشفة من قوارير رب فان ونكل!. (تمت)