الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شذرات
من حديث المائدة:
لا نعد مبالغين إذا نحن قلنا أن ما تنقله من كتاب حديث المائدة هو خير ما أخرج لقراء العربية - ومن هنا كان خليقاً بقراء البيان أن يقرؤه ويمعنوا النظر فيه مرةً مرة ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً.
7
قال أستاذ مائدة الإفطار:
قد شاهدنا كثيراً أن المرء المتوسط الذكاء أنهض بواجبات الحب والصداقة من النابغة العبقري، ولنضرب لذلك مثلاً ساعتين (آلة قياس الوقت) إحداهما بسيطة الكيان، والثانية مركبة. فالبسيطة التي تريك الساعة والدقيقة جديرة أن ترضيك فتستصحبها ما حييت، وإن لم يك بها عقرب بريك الثواني أو كانت غير دقاقة ولا موسيقية ولا محلاة بالذهب والجوهر، وقصارى القول إنك لترضى هذه الساعة صاحبها مستديماً وإن هي لم تشتمل على غير بضع عجلات ويدين نافعتين ووجه طلق صريح. وأكثر ما يكون عدد العجلات في الساعة أو في الذهن أصعب ما يكون مراسهما وأشد ما يكون سياستهما. ولا تزال وثبات الخاطر الطموح وطفرات الخيال الجموح، مشفوعة بشيء من الأنانية ولكن خير أساس الحب والصداقة إنما هو نفس ساكنة مطمئنة وذهن مستنير صاف غير عرضة لما يصيب ذوي العبقرية عادة من الانفجارات والأزمات النفسية، وإنك تري الذهن الجبار إذا ثار لنظم قصيدة أو تأليف مقالة أقبل على القلب فامتص منه خلاصة دمه ولا يستطيع القلب في آن واحد أن يبذل دمه في تأليف الكلم الرائع ويبذله كذلك في اجتذاب فؤاد الصديق وتنعيم روح الرفيق.
وليس على الخل الوفي والصاحب الحميم أن يكون من المعرفة بالعلوم والفنون بحيث يشرك المرء في أميال ذهنه ومطالب نفسه من الأدب والمعارف. فإنك إن أردت مثل هذا الشريك فحبك بالكتب والعلماء (وبعد) فإن معظم ما جرى ويجري بالعالم من حوادث الحب والصداقة إنما كان بين من لا يعرفون القراءة والكتابة.
أما أن يتهافت المرء على غير ذي ود ويلقي بنات قلبه على كتلة تأخذ ما يلقي عليها ولا
تعطي ويرمي بأشعة روحه على صخرة لا يؤثر فيها ضوء الابتسام ولا ضغط إلا كف والشفاه، فهذا والله تضحية الأنفس البارة واستشهاد الأرواح الودودة، وأكثر ما يبتلى به أرق الجنسين وألطفهما - النساء.
لعلك لاحظت ما قلته آنماً من أن معظم ما جرى ويجري بالعالم من حوادث الحب والصداقة إنما كان بين من لا يعرفون القراءة والكتابة - وهل هؤلاء إلا النوع الإنساني إلا أفراداً قلائل هنا وهنالك. لا أقول إني أكره الكتب، كلا إني لأحبها ولي بها كشغف السمك بالماء. والطير بالهواء. وأحسبها نعم الأستاذ والرفيق. ولكني أعلم برغم ذلك أن أكابر رجال العالم لم يكونوا عادة من ذي البسطة والرسوخ في العلم. ولا كان ذووا الرسوخ في العلم عادة من أكابر رجال العالم. وكأني بزعماء الطائفة العبرانية كانوا لا يكادون يملكون بضعة أسفار وهم مع ذلك يمثلون لك أثم صورة من الرجولة. ولعلنا لو نستطيع نحن جماعة الأدباء أن ندعو إبراهيم لينازعنا الغداء أو العشاء يوماً ما عددنا ذلك مفخراً عظيماً وغنماً كبيراً.
وكل ما أردت أن أذكره عن الكتب هو أنه ما من إنسان ذي مفكرة قوية إلا ويرى نفسه أحياناً فوق الكتب والأسفار الإنسانية.
عند ذلك انبرى الفقيه فقال معترضاً ما أري الرجل الذي يجسر على حسبان نفسه في أية ساعة فوق شكسبير إلا مغتراً.
قال الأستاذ أعلم سيدي أن الرجل الذي لا تعتريه قط حالة نفسانية يحس أثناءها أنه مفعم الصدر بوجدانات ومعان فوق طانة التعبير ودون منال اللسان ولو أنه ملك أعنة البلاغة وأخذ بناصية البيان - إنما هو لا يعدو أن يكون عباد ألفاظ، على أني لا أكاد أحسب أنه يوجد مثل هذا الإنسان وما عليك يا سيدي إلا أن تذكر قوة الموسيقى وسلطانه فإن الأعصاب التي تتأثر بالأنغام تتشعب من مجاري النخاع في أحدها إحساساً، أعني حيث تنفرج لتسمو إلى خلايا الدماغ، فالموسيقى إذن يسري إلى موطن الإحساس من النفس لا إلى موطن التعقل. ولكنه (الموسيقي) يحدث برغم ذلك سلسلة عواطف وأفكار حسنة الانسجام مطردة السياق إلا أنها أفكار جد مخالفة للأفكار الاعتيادية المعهودة من حيث أنها تعجز اللسان المعبر وتعيي البيان المفسر. ثم ماذا تجد يا سيدي من البون البعيد إذا أنت
قابلت بين عواطف الإنسان وألفاظ اللسان! أتراك سمعت بامريء أنحله وأضناه قراءته قصة روميو وجوليت أو آخر انتحر أسفاً لما حل بامرأة عطيل من دنيسة زميله أياجو؟ وإني لأعرف من الرموز والعلامات ما هو أفصح بكثير من الكلم وأذكر حادث عن زوجة فتية السن وقفت لوداع زوجها وكان مزمعاً سفراً فلم تهيئ لموقف الوداع قصيدة ولا خطبة وإنما أعلنت بها وأبدت شكواها بطريقة أخرى - وذلك أنه امتقع لونها واكتسى وجهها من الألم الكمين والداء الدفين صبغة برتقالية، وفي الناس جانب عظيم لا يملكون من البلاغة والبيان إلا أسلوباً واحداً وهو أنهم يضنون ويهزلون حتى يدركهم الموت.
في هذه الأحوال التي تبلغ فيها العواطف أقصى منتهاها كيف يستطيع المرء القراءة؟ إن استطاعته القراءة دليل على أن إحساسه الشديد قد بدأ يفتر وأن تفكيره قد أخذ يتراخى، أنت تعجب أنى تبلغ القحة بإنسان عادي يحسب أنه قد يسموه به فكره أحياناً حتى يفوق فكر أكبر العقول - عقل شكسبير. على رسلك، وتدبر معي هذا الأمر في روية تعلم أن فرقاً عظيماً بين قراءة أحد الصبية كلام شكسبير وقراءة الأستاذين الجليلين كولوريج وسكليجل آيات هذا الشاعر الأكبر! فإذا كان ديوان شكسبير البحر الزاخر فقراءة الطفل فيه كالغرف باليد وقراءة الأستاذين الجليلين كالغوص على كل لؤلؤة بكر ودرة يتيمة، فسواء كان القارئ صبياً أو فيلسوفاً فإن ما قد يجول بخاطره ويفعم صدره أحياناً من شديد العواطف وجليل الأفكار لأسمى بكثير لا من حقيقة قول المؤلف بل من تأويل ذهن القارئ لقول المؤلف.
وكأني بمعظم قراء شكسبير تسمو بأذهانهم كلما هذا الشاعر أحياناً إلى طبقة من الإحساس والتفكير كالتي يرفعنا إليها الموسيقي. حينئذ يلقون ديوان شكسبير من أيديهم ثم يفضون إلى عالم الأفكار الذي لا يبلغ إليه اللفظ وقد نكون أنا وأنت من طائفة الأغبياء ولعلها الحقيقة إلا أن يوجد البرهان على ضد ذلك. ولكني وإياك قد ندرك أحياناً لمحة من ذلك العالم الروحاني حيث ترانا على ما بنا الآن من غباوة نمعن في أودية التفكير إلى ما وراء أبعد غايات الذهن الآدمي.
وإني أشهد أنه لتمر بي أوقات أكره فيها الكتب حتى لا أطيق أن أراها. وأحياناً أشعر أن من حاجة البدن وأسباب صحته ودوافع علته أن أنفث مكنونات الضمير قبل أن أضع فيه
شيئاً جديداً إذ أنه من أضر الأشياء أن تكتم في الضمير أفكار أو وجدانات كان ينبغي ظهورها اكتتام العلل والإدواء التي كان من حقها أن تبدو على ظاهر الجسد.
إني ما زلت أرى للحياة من جسامة الشأن وعظم الخطر مالا أراه للكتب وأحسب أن يوماً واحداً من هذه الحياة الدنيا بما بها من مئات آلاف المواليد والمنايا وما فيها من المودات والعداوات والانتصارات والهزائم والنعم والنقم - أحسب أن يوماً واحداً من الحياة الدنيا هو أوفر نصيباً من الإنسانية من كافة ما حبر وحرر من القراطيس والصحف. والأسفار والرسائل، وأعتقد أن ما يفوح للأزهار النابتة الآن على وجه البسيطة من الطيب هو لا محالة أذكى شذاً مما فاحت به الغوالي المقشرة منذ بدء الخليقة إلى وقتنا هذا.
8
قال شاعر المائدة: وعن شمالي من المائدة كان يجلس مخلوق ما رأيت أغرب هيئة منه إلا في معرض أو متحف، لردائة الأسود لمعان كأنما خرج من أيدي الصياقله لتوه وساعته، وكان مقوس الظهر، دليل على شدة انكبابه وفرط انصبابه على دقيق من العمل، وله أطراف ضئيلة آية على قلة السعي وطول القعود، ذو مفاصل كمفاصل الجراد يخيل إليك أنه ربما نشر مطوى جسده وطفر في الهواء لا يمشي، يلبس نظارتين يقول إنهما تريحان بصره بعد كده في استبانة الدقائق واكتشاف الغوامض، لصوته صرير ضئيل كأن في حلقومه آلة صغيرة بعيدة العهد بالزيت، ولم أدر ما حرفته، فقلت خليق بالمرء أن يعرف عمل جاره، ففاتحته الحديث وفي نيتي ذلك وكان موضوع كلام الناس يومذاك انتخاباً تؤخذ له العدد، فقلت:
من ترى يحرز الأغلبية غداً؟.
قال ليس غداً وإنما الشهر القابل.
فصحت متعجباً الشهر القابل! عجباً لك. أي انتخاب تقصد؟.
قال مندهشاً أريد انتخاب الرئيس لجمعية الحشرات وفي وجهه ولهجته دليل على شدة تعجبه وإنكاره أن يكون في الناس رجل يفكر في انتخاب آخر قال شد ما اشتدت المنافسات يا سيدي بين الذبابيين والفراشيين كلاهما يرجو إحراز الرئاسة.
قلت أحسبك من علماء الحشرات يا سيدي.
قال كلا أنا أشد تواضعاً من أن أطمح إلى مثل ذلك. ومن لي بأن أرى الرجل الذي يجرأ على إدعاء هذه الدعوى! أنا لا أنكر أنه قد يتأتى وجود جمعية تسمي نفسها جمعية علم الحشرات فأما الفرد الذي يدعي لنفسه ذلك فهذا لعمري دعى محتال وكاذب دجال، إنه محال يا سيدي أن يوجد الفرد الذي تسميه بحق عالماً حشرياً إذ علم الحشرات، أوسع نطاقاً وأبعد مدى من أن يحيك به فرد.
قلت وبي من أثر قوله ولهجته نوع من الهيبة هل لي أن أسألك يا سيدي ما موضوع دراستك من هذا العلم؟.
قال لقد قصرت مطامعي وحبست أيامي على مذاكرة باب الخنافس لا كل أصنافها - بل الخنافس الأصلية، وحسبك بهذا الباب درساً طويلاً يستنفد العمر المديد ليله ونهاره في البحث والفحص والمذاكرة فسعني إن شئت الخنفسي أو الجغرافي والثانية أولى. وقصاراي يا سيدي أن أفعل ما استحق به هذه التسمية.
وكان بيننا شاب فلكي يقضي زمنه بين المريخ والزهرة، بمعزل عن هذا العالم الأرضي، فدعانا ذات صباح إلى غشيان مرصده في ليلة صافية الأديم ساطعة الأفلاك، فكلنا أجاب الدعوة إلا صاحبنا الجغرافي فسألته عن السبب فقال:
كثرة العمل يا سيدي - بحث علمي لا يسمح لي بالنظر إلى الكواكب ولو كلمح البصر.
قتل حقاً؟ وهل لي يا سيدي أن أسألك عن موضوع ذلك البحث؟.
قال مع مزيد الارتياح يا سيدي. وأنه لم أهم الأبحاث وأصعبها وهو تحقيق ماهية الحشرة الطفيلية بيدوكيولوس ميليتا التي تركب ظهور النحل. .
يا للعجب العجاب! أيكون في هذا الكون شيء أعجب من هذه الدنيا، حقاً إن هذا العالم لفي جنة أيها الناس هاكم إنساناً مثلي ومثلكم يدعى إلى مرصد تدني له فيه بدائع السموات وروائع الأفلاك فيمنعه من انتهاز هذه الفرصة اشتغاله بحشرة دنيئة مما يركب ظهور النحل أما والله لا بد لي من نظرة في مجهر ذلك الجغرافي لأنظر هذه الحشرة التي تشغل من ذهنه ولبه مالا يشغله مشهد النجوم الباهر. وموكب السماء الفاخر.
قلت أتبيحني نظرة في مجهرك أتبين بها هذه الحشرة الطفيلية؟.
عند ذلك نشط الجغرافي وارتاح لي وهش واكتست عيناه نظرة إنسانية وسربل محياه
سمياء آدمية وخيل إلي أن ذراعيه تمتدان لمعانقتي. ولا غرو فهو الذي ما زلت أراه مهجوراً من أصحاب المائدة مهملاً منبوذاً لا يؤبه له ولا يعني به ولا يحس وجوده، ولا أبدي هو قط أدنى دليل على أنه من الأنس. فما هو إلا أن لمست منه ذلك الموضع الذي انحصرت فيه حيويته واجتمعت فيه إحساساته حتى أقبل عليَّ حاسراً لي عن وجه إنسانيته وإخائه.
وقال جئني عقب الإفطار مباشرة. جئني أراك الحيوان الذي ارتجت له أنحاء العالم الحشري ودوت له بكثرة التسآل أركانه.
وعلى ذلك غشيت غرفة الجغرافي ومرقده ومعمله ومعرضه - حجرة واحدة تؤدي هذه الوظائف جميعها.
قلت وددت لو أن في الوقت متسعاً فأنظر جميع نفائسك وكنوزك ولكني أخشى أن لا يكون لدي من الوقت أكثر مما يسع رؤية طفيلي النحلة. ولكن ما ألمح هذا الفراش المثبت في هذا الوعاء!.
قال الجغرافي: أجل أجلْ إنه لحسن ولقد جاءنا من أمريكا الجنوبية مع هذه الخنفساة. انظر إليها. واعلم أن الخنفساوات ملوك طائفة الحشرات والأفرشة فيها بمثابة الرجال والذباب الصبية.
وكانت الخنفساة التي لقتني إليها حيواناً قذراً خبيثاً أشد سواداً من عرض إبليس تشمئز منه النفس ويزوي دونه الوجه ونقدي برؤيته العين وأهون ما يستحق من المار به أن ينبذه بقدمه إن لم ينزل به ما هو أشد وأنكى. ولكن الجغرافي جعل يرنو إليه رنو الفرح المرتاح ويعيره نظر المحب إلى الحبيب المقبل.
وصاح ملحة وأيم الله وطريفة إبليس لها في طول هذه البلاد وعرضها من مثيل درة يتيمة ولؤلؤة فذة ثم في امتلاك الشيء المقطوع القرين للذة أية لذة. ولن تجد والله يا سيدي نظيرها دون أن تذهب إلى أمريكا الجنوبية.
فسرني جداً أن البلاد خلو من مثل هذه البلية معتقداً أن في الذي بالقطر من الخنافس المعتادة خير عوض من الحيوان المذكور، يغني غناءه ويؤدي وظائفه كافة.
قال الجغرافي هناك طفيليات النحل وأراني صندوقاً مملوأ بقطع من الزجاج قد أثبت على
كل منها طفيلي النحل معداً للفحص الميكروسكوبي فكان أكثر اندهاشي من حيوان ضئيل الجثة قد بسط وفرطح ذي أرجل ست تنتهي كل واحدة منها بمخلب كمخلب الأسد وأفظع.
قلت هذا هو الذي يمتطي صهوة النحلة ويأكل من لحمها ومن دمها جاعلها مركباً ومسكناً ومرقداً ومطعماً ومشرباً؟.
فلم تلح على وجه الجغرافي أدنى ابتسامة، وأكبر ظني أن الابتسام لا يعرف وجهه، وما أحسبه أنه سمع كلمتي هذه أو حاول أن يسمعها.
يعيش على النحلة هذا إن فكرت أنعم عيش وأرغده وأي عيشة ألذ من أن يظل ذلك الطفيلي على ظهر النحلة يسبح في الهواء ولا يتجشم مؤنة الطيران، ويدخل كل مكا تلجه النحلة ولا يتكلف أجرة الدخول ثم لا خوف عليه أن يزل من فوق تلك المطية أو يزيله عن ذلك المركب الوطيء مزيل، بل كيف وتلك مخالبه تسد نشبت في متن النحلة نشوب المنية في الآجال، ثم يمتص من عناصر جسد النحلة ما شاء، تأكل النحلة أطايب الجنان ويأكل هو أطايب النحلة، ويعيش في الهواء، وطوراً في سرادقات الزهر النضير، وأروقه النبت العشيب. وحيثما سار حفت ركابه مغردة الذباب تشنف أذنيه بأعذب النغمات، فما أحسب إلا أن دوى النحل وإن دق في مسامعنا هو في أذن ذلك الطفيلي أجهر من سمع المسمعات وعزف الضاربات. كل ذلك جال بذهني ودار بخلدي بينما الجغرافي يحسب أني أتأمل دقائق صفات الحشرة الخطيرة الشأن وخواصها.