المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تاريخ العلم في أوروبا - مجلة البيان للبرقوقي - جـ ١٥

[البرقوقي]

الفصل: ‌تاريخ العلم في أوروبا

‌تاريخ العلم في أوروبا

لم تقتصر الحروب الصليبية على جلب طائل الأموال إلى روما، تلك الأموال التي كانت تدفعها كل أمة مسيحية من خوف أو من تقي. بل كانت تزيد في سلطة البابا ونفوذه إلى حد كان شديد الخطر. وقد تغلبت السلطة الروحانية على أختها السياسية في كل مملكة من ممالك الغرب. وانزوت السلطة السياسية وأصبحت خادمة للأولى. وكان يفيض على روما من كل فج ومكان جداول من الذهب. وينابيع من المال. ومن ثم وجد الملوك والأمراء السياسيون إنهم لم يبق لهم من خير ممالكهم إلا الدخل النزر الطفيف. فرأى فيليب الجميل ملك فرنسا في عام 1300 من مولد السيد المسيح أن يمنع خروج هذه الأموال الطائلة من مملكته. وذلك بتحريم تصدير الذهب والفضة من البلاد الفرنسية دون ترخيص منه. ولم يقف اعتزامه عند ذلك بل أجمع على أن يجعل طبقة الكهنوت تدفع إليه الأتاوات والضرائب. فقام من جراء ذلك بينه وبين البابا حرب طاحنة. إذ حكم عليه البابا بالطرد من الكنيسية ولكي يكيل الملك له بكيله اتهم البابا بونيفاس الثامن بالالحاد، وطلب أن يتألف لمحاكمته مجلس عام، وأنفذ عصبة من رجاله الأوفياء إلى إيطاليا، فقبضوا على البابا وهو في قصره بأنا جني، وعسفوه عسفاً شديداً عجل بموته، وخلفه على كرسيه بنديكت الحادي عشر فلم يمض عليه إلا الزمن اليسير حتى مات مسموماً.

وعزم الملك فيليب علي أن يتقي الباباوية ويصلح فاسدها حتى لا تصبح بعد ذلك نهباً مقسماً بين بعض الأسرات الطليانية التي كانت في ذلك الحين تصوغ من دين أوروبا وتخرج من عقيدتها ذهباً وهاجاً، وأجمع أمره على أن يكون لفرنسا في هذه السلطة نصيب، ومن ثم صلحت ذات البيت بينه وبين كرادلة الباباوية، وارتقى أسقف من الفرنسيين إلى منصب رئيس الكهنة وغاب عليه اسم كليمنت الخامس، ونقل بلاط البابا من روما إلى أفينيو في فرنسا، ولم تعد روما حاضرة المسيحية.

ومضى بعد ذلك سبعون عاماً قبل أن تعود الباباوية إلى روما المدينة الأبدية، وكان ذلك في سنة 1376، وأن تقلص سلطاتها في إيطاليا أفسح المجال لنهضة فكرية مشهودة، ظهرت معالمها في مدن شمال إيطاليا التجارية وحدث في ذلك العهد أحداث أعانت على تقدم هذه النهضة. فإن خاتمة الحروب الصليبية قد أضعفت الإيمان بالمسيحية والركون إليها. إذ كان نتاجها التخلي عن الأرض المقدسة. أي أورشليم وأرباضها وتركها في أيدي العرب. ولقد

ص: 33

رجع من وطيس القتال آلاف المسيحيين فلم يترددوا في الشهادة لأعدائهم العرب. بأنهم ليسوا كما صورتهم الكنيسة ووصفهم أحبارها وكهانها. وإنما هم قوم مساعير حرب كرماء عدول. وانتشرت في جنوب فرنسا ومدنها المشرقة الزاهية. أريحية للأدب. وخفة للقصص الغرامية. أعان عليها أغنية الرحالة. وشجعتها نشائدهم. ولم تكن أغانيهم مقصورة على التشبيب والنسيب والبطولة والمعامع والحروب. بل كثر ما احتوت وصف المنكرات والفظائع التي كان رجال البابا وصنائعه يرتكبونها مثل المذابح الدينية التي وقعت في لانجويدوك. بل كثر ما قصدت إلى تمثيل المحرمات التي كان الكهنة يحتقبونها. من عشق غير مشروع. وصبابة غير مسموحة. وأخذت الفروسية والبطولة عن أسبانيا. وجاء معهما تلكم الفكرة النبيلة والعاطفة المحمودة. ونعني بها كلمة الشرف الذاتي التي قدر لها دهراً أن تستن لنفسها قانوناً في أوروبا.

ولم تكن رجعى الباباوية إلى روما ليرد لها سلطانها في شبه جزيرة إيطاليا. بل مضي جيلان على انتقالها ولم تسترجع بعض نفوذها ولو كانت قد عادت إلى حاضرتها الأولى بقوتها الأولى وبأسها السابق لما استطاعت أبداً أن تحارب تلك النهضة الفكرية التي كانت آخذة في التقدم في غيابها ولم ترجع الباباوية إلى روما لتحكم بل لتنقسم على نفسها، وقد خرج من هذه الضائقة وهذا الخلاف باباوان مزاحمان، وخرج إليهما ثالث يريد المنصب لنفسه وطفق كل منهم يطلب حقه ويسال منصته، ويبهل الآخر ويلعنه فأثار ذلك في أوروبا شرقها وغربها سخطاً عاماً وغضبة مسيحية وإجماعاً على إنهاء هذه المآسي المعيبة والمناظر الشائنة وتساءل المسيحيون كيف تصدق فكرة قبول قسيس لله على الأرض بل كيف تصدق فكرة بابا معصوم لا يخطئ ولا يأثم وهذه المضحكات المنديات، ولذلك عزم أشد رجال الدين قوة وبأساً على تأليف مجلس عام يكون هو المجلس الديني القائم على شؤون أوروبا بأجمعها ويكون البابا رئيسه المنفذ لقوانينه وأحكامه ولكن هذا الرأي لم يحقق ولو فعلوا لما كان حتى اليوم نزاع بين العلم والدين ولما نتج الإصلاح الديني ولما كان هناك شيع البروتستانت وشنشنتهم ولكن المجلس الذي عقد في كونستانس من أعمال سويسرا والمجلس الذي قام أيضاً في مدينة بازل لم يفلحا في تقويض سلطات البابا ولم ينجحا في الإتيان بهذه النتيجة المرضية.

ص: 34

وكذلك كانت الكاثوليكية في ضعف وتقهقر، وكلما رفع تأثير ضغطها، وانتزع منها بعض سلطانها، كان النبوغ الفكري في ارتقاء وظهور، وحوال ذلك الحين كان العرب قد اخترعوا طريقة صنع الوق من إطمار النيل وأخلاق القطن. وكان البندقيون أهل فينسيا قد نقلوا إلى أوروبا فن الطباعة من الصين. وكانت ضرورية لاختراع العرب. ومن ثم أصبح بين العالم تبادل فكري عام. لا يقف في سبيله عائق أو رصد. ولقد كان اختراع الطباعة ضربة قاضية على الكاثوليكية. وكانت من قبل تنعم بفائدة كبرى لا تقدير لها. وهي احتكار كل صلة بين الناس وكل تبادل. إذ كانت تنفذ من مقر أمرها في روما كل ما تسن من شريعة وتأمر من أمر إلى رجالاتها وصنائعها. وهؤلاء يدفعون بها إلى الناس من فوق المنابر ولكن جاءت المطبعة فأفقدتها هذا الاحتكار، وهدمت منها كل سلطة، وضاع في هذه العصور الحديثة تأثير المنابر، واستعيضت الصحيفة عن المنبر، ولكن الكاثوليكية لم تشأ أن تدلي بنعمتها القديمة دون حرب ونزاع، ولم ترض أن تنزل عن احتكارها دون مقاومة وقتال، بل لم تكد تكتشف عقبى ذلك الفن الجديد فن الطباعة حتى حاولت أن تضع له حداً، وتنشئ عليه رقابة، فوضعت قانوناً يقول بعدم جواز طبع كتاب دون ترخيصها، ومن ثم كان لزاماً على كل مؤلف أن يقدم كتابه إلى الكهنة فيقرؤه ويختبروه ويروا فيه رأيهم، وكان يجب أن يشهدوا له بأنه كتاب ديني قويم، وأصدر الباب اسكندر السادس سنة 1501 أمراً بحرم أصحاب المطابع الذين يطبعون التعاليم النكراء، وأمر المجس العام في عام 1515 بأن لا يطبع من الكتب إلا ما اختبره النقاد الدينيون، والأعوقب الطابع بالحرم والتغريم وقد وصى النقاد بأن يعنوا العناية الكبرى بأن لا يسمحوا بطبع كتاب يخالف الدين القديم وكذلك كانوا يرهبون كل بحث ديني ويخافون أن يخرج إليهم الحق من معتزله.

ولكن ما كانت قوي الجهل ومقاومته للحفق لتظفر بالغلب بعدما كفل الناس بينهم وسيلة للتبادل الفكري وهكذا انتهى الصراع وخرجت للعالم الصحف العصرية ولكنها لم تكن بادئ بدء حرفة قوم كثيرين وإن المجتمع الحاضر يرجع ارتقاءه ومزاياه إلى هذا التغير.

هذه هي نتيجة نقل صناعة الورق وفن الطباعة إلى أوروبا وكذلك كان إدخال بيت الإبرة أوروبا إذ تبعه كثير من النتائج المادية والأدبية وهي: كشف أميركا على أثر المنافسة التي قامت بين أهل فينسيا وأهل جنوه على تجارة الهند واجتياز داجاما ساحل الكاب وبلوغه

ص: 35

الهند من طريق ساحل أفريقيا ودوران ماجلان حول الأرض في سفينته فيكتوريا وعلى ذكر هذه النتيجة الأخيرة وهي أعظم عمل في تاريخ الإنسان نقول إن الكاثوليكية كانت تعتقد اعتقاداً لا رجوع عنه ولا رد له إن الأرض مسطحة والسماء مهاد الجنة والجحيم في العالم الأسفل وقام بعض رجالاتها ممن لهم المكان الأسمى فأتى بحجيج فلسفية دينية يرد بها على فكرة كروية الأرض ولكن انتهى النزاع فجأة اليوم ووجدت الكنيسة نفسها على خطأ.

ولم تكن هذه وحدها النتيجة الكبرى التي تبعث تلك السياحات الثلاث بل أن روح كولومب وداجاما وماجلات سرت بين رجال الغرب وأبطاله وكانت الجماعة الإنسانية تعيش حتى ذلك العهد على ذلك المبدأ القائل: الإخلاص للملك والطاعة للكنيسة وبذلك كانت تعيش لغيرها لا لنفسها وكان أثر هذا المبدأ قد جر على الجماعات تلكم الحروب الصليبية وطاحت هذه الحروب بآلاف لا عديد لهم من قوم لم تكن لتكسبهم كسباً أو ترد لهم ربحاً بل كانت عقابها الهزيمة الكبرى والخيبة الواضحة وقد دلت التجارب على أن الرابحين منها هم الكرادلة والأحبار والكهان في روما والسفانون في البندقية، ولكن لما رأى الناس خير بلاد المكسيك وثراء أرض بيرو وبركة الهند، وعلموا أن لكل إنسان أوتي حظاً من البطولة والبأس أن يدلي فيها دلاءه ويفوز منها بقسمه، لم تلبث أن تغيرت الدواعي التي تحرك الغريبين وتستنيرهم، إذ وجدت قصة كورتيز وأخيه بزار وأريحية المستمعين في كل مجلس وندوة، وهكذا غلبت الأريحية البحرية الحمية الدينية القديمة.

وإذا كنا نريد أن نستخرج المبدأ الذي قامت عليه كل التغيرات التي حدثت في المجتمع بعد ذلك؟ لم يكن ذلك من الصعب علينا، فقد كان كل إنسان يحبو من هو أعلى منه بكل مجهوداته، ولكنه أجمع منذ ذلك الحين على أن يتنعم هو وحده بثمرات عمله، وهكذا نهضت الشخصية، وتوارى الإخلاص للملك ولم يعد بعد إلا عاطفة حسية، أما عن الدين فدعنا ننظر ماذا ألم به.

إن الشخصية تنهض على مبدأ أن الإنسان سيد نفسه. وإن له الحرية في تكوين آرائه ومبادئه، والسراح في إنجاز كل ما يريد، ومن ذلك فهو أبداً في منافسة وتسابق مع بني جنسه وما حياته إلا بمظهر من مظاهر القوة.

ص: 36

وإن نقل حياة الغرب من ذلك الركود الذي أسنت فيه زهاء قرون وأجيال وأحياء مواتها وإدخال مبدأ الشخصية عليها هو تحريضها على نزاع يقوم بينها وبين المؤثرات التي كانت تعمل فيها وتظلم لها ولقد مر القرن الرابع شعر وولي على أثره القرن الخامس عشر فقامت فيهما منازعات ومناوشات كانت عنواناً على ما أتت به الأيام ونبوءة لما وقع من الأحداث بعد ذلك حتى إذا كان القرن السادس عشر في أوائله أعنى حوال عام 1517 نشبت الحرب الكبرى وقامت الموقعة المأثورة إذ تجسم مبدأ الشخصية في راهب جرماني صلب العود رابط الجأش وأعلن حقوقه في شكل ديني وكان منحاه هذا ضرورياً في بادئة الأمر وقامت إذ ذاك منازعات في مسألة بيع المغفرة وغيرها من المسائل التافهة ولكن لم يلبث أن وضح الصبح لدي عينين وعرف السبب الجوهري الداعي إلى هذا النزاع وهو أن مارتن لوثر أبى أن يفكر كما أمر رجال الدين ورفض أن يرضى بآراء أحباره وكهانه وأصر على أو له حقاً قائماً لا حول عنه وهو تفسير الإنجيل لنفسه.

ولم تر روما في مارتن لوثر إذ ذاك من النظرة الأولى إلا راهباً سوقه ضعيفاً صخاباً، لا خشية منه ولا أذى، ولو استطاعت محكمة التفتيش أن تقبض عليه يومئذ لانتهت منه ومن صخبه، ولكن مضى النزاع واستمر الخلاف، ورأت الكنيسة أن مارتن لوثر ليس واقفاً إزاءها وحده بل أن وراءه آلافاً من الرجال، لهم عزيمته وثباته، كلهم وقف على عونه ونصرته فهو يمضي في القتال بقلمه وكلمه، وهم يؤيديون آراءه وينصرون مبادئه بحد المشرفيات وغرب السيوف.

وقد انهال على مارتن لوثر من أفواه رجال الدين صيب من المثالب والشتائم كانت من كثرتها مضحكة. إذ قالوا أن أباه لم يكن زوج أمه بل عفريت مسيخ فسق بها، وإن مارتن مضى في حرب مع ضميره عشرة أعوام صار بعدها زنديقاً كافراً، وأنه ينكر خلود الروح. وإنه نظم في التغني بالسكر والخمر أغنيات وأناشيد، إذ كان بهذه المأثمة مولعاً، وأنه يسب الكتب السماوية. ويفرد كل السباب لموسى وأنه لم يكن يعتقد كلمة واحدة مما كان يخطب به الناس. وفوق ذلك إن الإصلاح الذي ينويه ليس من عمله وإنما من تخرص منجم. ولقد شاع على ألسنة أحبار روما أن أراسماس وضع بيضة الإصلاح ولوثر تقفها.

ولقد وهمت روما بادئ بدء في ظنها أن لا شيء في تلك الحركة إلا ضجة عرضية ما

ص: 37

تنشب أن تزول. وغاب عنها أن ترى أنها في الحقيقة خاتمة حركة داخلية كانت تعمل وتسري مدى قرنين في قلب أوروبا وتجمع لها في كل ساعة قوة وظهيراً. ولم تفكن إلى أن وجود ثلاثة باباوات يتبعهم ثلاث شيع يكره الناس على التفكير لأنفسهم. ويعلمهم أن هناك قوة أسمى من قوة البابا وأشد ركناً ومن ثم ما نشب أن قامت حروب ووقائع كان ختامها معاهدة ويستفاليا. ونزعت بذلك الممالك التي في شمال أوروبا ووسطها عنها الاستبداد الفكري الذي كان لروما عليها، وفكت الأسار الذي كانت تتقيد به أذهانها، وتقرر كذلك مبدأ الشخصية، وأسس حق الناس في حرية التفكير.

ولكن لم يستطع هذا المبدأ ولا الحق الذي أسسه أن ينفرا عن الكاثوليكية، ولما كان حزب البروتستانت لم يقم إلا بالنزاع والانفصال وجب أن يأخذ دوره منهما، ولذلك خرجت منه شيع وفرق. ورأت هذه الفرق أن لا خوف عليها من عدوها الأزرق يريد روما أن بعبارة أخرى الكاثوليكية فبدأت تضرم نار الخلاف بينها، وكان من ذلك أن جعلت كل طائفة منهم تنهض بالسلطة ثم تتدهور، لتأخذ مكانها طائفة أخرى، حتى حدث من هذا التقاتل مظالم وفظائع كثيرة أدت في خاتمة الأمر إلى التسليم بمبدأ التسامح الديني، ولكن التسامح ليس إلا حالاً وسطاً، وما دامت البروتستانتية سائرة في ذلك الانقسام الفكري فإنها ستصل إلى حال أسمى وأعلى شأناً، إلى ذلك الغرض الذي ترمي به الفلسفة في كل عصر من عصور التاريخ، ونعني به تلك الحالة الاجتماعية التي تتنعم من حرية التفكير بنصيب لا تحويل له ولا انقطاع.

والتسامح، إن لم يكن عن رهبة أو خوف، لا يأتي إلا من أولئك الذين يشعرون إنهم قادرون على قبول آراء غيرهم واحترامها. ولذلك كان التسامح نتاج الفلسفة وقد علمنا التاريخ أن التعصب الديني يضرم ناره، ولا يطفئها إلا الفلسفة.

ولم يكن غرض الإصلاح الديني إلا أن يذهب عن المسيحية تلك الآراء والأعياد الوثنية التي أدخلها عليها قسطنطين وخلفاؤه، إذ أرادوا أن يصلحوا بينها وبين الدولة الرومانية، وما كان غرض البروتستانت إلا أن يرجعوا بها إلى نقائها الأول، ومن أجل ذلك خلصوا بها من مثل عبادة العذراء وشفاعة القديسين.

وأقبل أدب العرب على المسيحية من طريقين، جنوب فرنسا، وصقلية، وجاء على أثره

ص: 38

علومهم، فكان لها من غياب البابا في أفينيون وحركة الإصلاح، فرصة سانحة، جعلتها تستقر في إيطاليا، وجاءت فلسفة أرسطو أو الفلسفة الاستنباطية مرتدية شملة عربية خلعها عليها ابن رشد، فاتخذت لها في السر أعواناً كثيرين، وفي الجهر أتباعاً ليسوا بالفئة القليلين. ووجدت أذهاناً تائقة إلى قبولها ومن بين هؤلاء الأعوان ليناردو دافنشي الذي نادى بذلك المبدأ الأساسي وهو أن التجربة والنظر هما الأساس الثقة في تحليل العلوم، وإن التجربة هي العمدة في تفسير أسرار الطبيعة، وهي ضرورية لتحقيق القوانين العلمية.

حتى إذا اطمأن بالعلم القرار في شمال إيطاليا لم يلبث أن بسط نفوذه في جميع أرجائها ونواحيها، وأخذ أعوان العلم وأنصاره يزدادون بازدياد تأليف المجامع العلمية وتكاثرها، ونحواً في إيطاليا نحو المغاربة في إسبانيا فألفوا مجامع لهم تشبه مجامع قرطبة وغرناطة ولتجدن مجمع طولوز الذي قام في سنة 1345 باقياً في فرنسا حتى يومنا هذا، كأنما ليكون دليلاً ناهضاً على السبيل التي جاءت المدينة منها، وكان هذا المجمع يمثل دولة الأدب الزاهية التي كانت قائمة في جنوب فرنسا، وأسس في مدينة نابلى أول مجمع لترقية العلوم الطبيعية، وكان مؤسسة العالم بورتا ولكن انفض هذا المجمع طوعاً لأوامر الكنيسة، وأقام البرنس فردريك ده سيزي في روما جمعية سماها جمعية الفهد، ويدل على غرضها شارتها، وهي فهد رافع عينيه إلى السماء، وهو يفتك بين مخالبه بكلب ذي ثلاثة أرؤس وقام في سنة 1657 مجمع في فلورنسا كان ينتدى أهله في قصر دون فلورنسا نفسه، ولبث عشر سنين فأمرت حكومة البابا بتعطيله فعطل، ولكن رفع أخو الدوق إلى مرتبة الكردينال تعويضاً لأخيه، وكان في هذا المجمع كثيرون من علماء ذلك العصر مثل توريسللي وكاستللي، وشروط الانخراط في سلك المجمع أن ينزع طالب الدخول كل عقيدة أو دين ويعتزم البحث عن الحقيقة، وقد أخرجت كل هذه المجامع كثيرين من العلماء من المعتزل الذي كانوا مخلدين إليه، ووصلت بينهم وقوت رابطتهم وأزكت فيهم هذه الرابطة نار القوة والعزيمة.

هاتان كلمتا الفيلسوف دريبر في تأثير العلم في أمريكا وتاريخ دخول العلم بلاد العرب، وسنبسط للقراء كلامه في تأثير العلم من الوجهتين الفكرية والاقتصادية في العدد القادم إن شاء الله.

ص: 39