الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ل
النبأ العظيم
العلم يؤيد الدين في مسألة المسائل
لا شيء يخلق نفسه وكل شيء يفنى
جوستاف لوبون
كان المذهب السائد بين علما الطبيعة حتى في هذه الأيام أن المادة لا تنعدم. وهذا المذهب هو أحد المذاهب العديدة التي أخذها العلم الحديث عن العلم القديم دون تغيير ولا تحوير. ومعنى قولنا أن المادة لا تنعدم، إنه لا يمكن إعدامها بأية وسيلة كانت، وإن شكل المادة وهيأتها ومظهرها وخصائصها من الممكن تغييرها بوسائل مختلفة، ولكنا لا نستطيع بحال من الأحوال أن نفني المادة نفسها، وقد ترى في الظاهر أن المادة تختفي في كثير من الأحوال، ومثل ذلك الماء في حال تبخره، ولكن هذا التلاشي الظاهر لا يدل إلا على تغير في شكل المادة، وليس علينا إذا أردنا أن نردها إلى أصلها إلا أن نبرد بخارها بمختلف الوسائل.
ولقد مضى على هذا المذهب العتيق مئات القرون من عهد الشاعر الروماني لوكريس، واضع تلك القصيدة المشهورة في طبيعة الأشياء والمتوفى سنة 51 قبل مولد السيد المسيح، إلى عهد العالم الكيماوي الطائر الذكر لافوزييه واضع الكيمياء الحديثة، وصاحب تلك النظرية القائلة لا شيء يفنى، ولا شيء يخلق نفسه والمتوفى عام 1794 من الميلاد، ولم يفكر أحد في نقد هذا المذهب وتمحيصه، بل أخذوه قضية مسلماً بها. حتى قام في أيامنا الحاضرة العلامة المحقق والفيلسوف النادرة الدكتور جوستاف لوبون، صاحب كتب روح الجماعات وسر تطور الأمم وحضارة العرب وروح الاشتراكية وروح السياسة وغيرها من الأسفار، فوضع كتاباً سماه سر تطور المادة خالف فيه كل العلماء الكيماويين المتقدمين منهم والمتأخرين، ونقض دعائم المذهب القديم وأتي بآرائه الحديثة في المادة ودعمها بالحجج والشواهد والتجارب الكيماوية، ففاق بكتابه هذا العلامة هيكل وإن لم يكن فاق به دارون ولامارك فقد أصبح في مصافهما، وقد أحدثت هذه الآراء الجديدة ثورة علمية بين علماء أوروبا، لأن كل عقيدة جديدة تجتاز ثلاث عقبات، الأولى أن يقوم الناس لمعارضتها محاربتها والتصريح بأنها طائشة فاسدة، والثانية أن يعترفوا بأنها حقيقية ولكن مبهمة،
والثالثة أن يشهدوا بأهميتها العظمى، ويطالب معارضوها وأعداؤها بشرف اكتشاف تلك الأهمية. ولقد جازت آراء جوستاف لوبون هذه الخطوات الثلاث، وكان انتشارها سريعاً جداً، ولم تمكث معارضة العلماء لها زمناً طويلاً، بل أخذها جماعة من مشهوري العلماء الكيماويين وأعادوا عمل التجارب التي عملها جوستاف لوبون، وتوسعوا فيها، ومن بين الجماعة السير ويليم رامزي أشهر مشهوري علماء إنجلترا، ووضع كتاباً له قال فيه أنه وقفه على إعلان الأبحاث التي قام بها لتحقيق التجارب المذكورة في كتاب الدكتور جوستاف، ولم تخالف نتيجة أبحاثه آراء صاحب المذهب الجديد إلا في شدتها وجرأتها.
والكتاب منقسم إلى قسمين قصر في القسم الثاني على تفاصيل تجاربه الكيماوية، وفي القسم الأول الكلام عن أبحاثه ونتائجه وآرائه، وبذلك تسهل على سواء القراء مطالعة الكتاب، والقسم الأول مجزأ إلى أبواب فالباب الأول عنوانه الآراء الحديثة في المادة، وهو مقسم أيضاً إلى فصول نريد أن نلم هنا بما يسعنا ذكره منها، وفي الأعداد القادمة نسترسل في بسط جميع أبحاثه للقراء:
بدأ الدكتور الكلام في نظرية انحلال المادة فقال إن المادة قابلة للانحلال وإن انحلالها يغيرها إلى أشكال أخرى تفقد فيها كل صفاتها وخصائصها الأصلية. وإن الأدلة على ذلك كثيرة اليوم، ونخص بالذكر جعل ذرات المادة تتفرق وتنبعث بسرعة شديدة تصير الهواء موصلاً للكهرباء، وتحترق كل الموانع التي تقف في سبيلها، ولما لم يكن في القوى التي عرفتها الكيمياء الحديثة ما يستطيع أن يحدث هذا الفعل، ولاسيما الانبعاث الذي تقرب سرعته من سرعة انبعاث الضوء، فقد أخذ العلماء الكيماويون يضعون نظريات عديدة لشرح كيفية ذلك، لفلم تفلح واحدة منها، ولم يقف في وجه كل نقد أو معارضة إلا نظرية تفريق الذرات التي وضعها الدكتور جوستاف لوبون منذ بدأ أبحاث مذهبه الجديد، فهي بذلك قابلة لتصديق الجميع عليها.
وقد مضت أعوام كثيرة منذ أثبت الدكتور عملياً أن المفعول الذي يشاهد في الأجسام التي تسمى المحدثة لفعل الراديوم مثل عنصر الأورانيوم ولم يعرف غيره من قبل من الممكن أن يشاهد في جميع الأجسام المادية وليس هناك تفسير لهذا المفعول إلا أنه نتيجة انحلال ذرات هذه الأجسام، وإن الأجسام المحدثة لفعل الراديوم لا تدل إلا على أن لها درجة في
المفعول أكبر من درجة أية مادة أخرى.
وليس معنى انحلال المادة انقسامها إلى أجزاء صغيرة تكون بمثابة ذريرات، بل معناه أن المادة تنحل ذراتها وتنتقل إلى أحوال متتابعة تفقدها خصائص المادة حتى تعود في النهاية إلى الأثير الذي يظهر أنها منه خرجت.
ثم انتقل الدكتور من ذلك إلى البحث عن تلك القوة الكبرى اللازمة لانبعاث الذرات في القضاء بسرعة الضوء فقال إن المادة ليست شيئاً جامداً عديم الحركة لا يمكنه إلا إظهار القوة الصناعية التي تعطى إليه، بل إن المادة تحتوي كنزاً كبيراً من القوة، القوة الكامنة في الذرات!.
ولكن مذهباص مثل هذا يصطدم مع كثير من المبادئ العلمية الأساسية، التي قررت بالإجماع، ولما كان العلماء قد اعتادوا أن يعدوا مبادئ علم الثرمودينامك أي علم العلاقة بين الحرارة والميكانيكا طأنها حقائق مطلقة لا يتسرب الخطأ إليها، ويفهموا أن المادة لا تستطيع أن تملك قوة غير تلك القوة التي تأتي إليها من الخارج، فقد أصر سواد العلماء، ولا يزال بعضهم مصراً، على البحث من الخارد عن مصادر القوة الحادثة من انحلال ذرات المادة، ولن يجدوها بالطبع، لأنها في المادة نفسها وليست خارجة عنها.
وهذا النوع الجديد من القوة - القوة الكامنة في الذرات - لا يعتمد في إثباته الدكتور جوستاف لوبون على النظر ولكن على نتائج تجارب له عديدة، ولئن كانت تلك القوة قد جهلت حتى اليوم، فهي أعظم من كل القوى المعترف بها، بل هي مصدر أغلبها، ولئن كان وجودها لم يعترف به في أول الأمر فقد بدأت اليوم تسير في سبيل التصديق.
وقد خرج الدكتور من تجاربه الكيماوية بالنتائج الحديثة الآتية:
[1]
إن المادة التي كان العلماء يتوهمونها لا تفنى، تنعدم ببطء من جراء الانحلال المستمر في الذرات التي تتركب منها.
[2]
إن نتائج انحلال المادة مواد هي من خصائصها وسط بين المادة والأثير، أي بين عالمين لا يزال العلم حتى اليوم يفصل بينهما.
[3]
إن المادة التي أجمع العلماء على أنها جامدة عديمة الحركة، ولا تستطيع إلا أن ترد القوة الصناعية التي تعطاها، هي على العكس من ذلك هي كنز قوة هائلة تستطيع أن
تتوزع من نفسها.
[4]
إن من هذه القوة الكامنة في ذرات المادة، الظاهرة من انحلال هذه الذرات، ينتج أغلب قوات الكون ونخص بالذكر الكهرباء والحرارة الشمسية.
[5]
القوة والمادة نوعان مختلفان لشيء واحد، فالمادة تمثل نوعاً ثابتاً من القوة الأنتراأتوميك أي الكامنة في الذرات، وأما الحرارة والضوء والكهربائية. . . الخ فتمثل أنواعاً غير ثابتة ولكنها من نفس هذه القوة.
[6]
تفريق الذرات وبعبارة أخرى انحلال المادة ليس إلا تحويل النوع الثابت من القوة المجتمعة المتجمدة التي نسميها المادة إلى تلك الأنواع غير المتجمدة المعروفة باسم الكهرباء والضوء والحرارة. . . الخ.
[7]
من الممكن إذن تحويل المادة العلمية إلى أنواع مختلفة من القوة ولا ريب إن طبيعة الأشياء هي التي جعلت القوة متجمدة في شكل مادة.
[8]
إن توازن القوى الهائلة المتجمدة في الذرات يكسبها صلابة شديدة، ويكفي لتفريق هذه الذرات وانفصالها اضطراب هذا التوازن بواسطة (كاشف) أي مادة تحدث رد فعل يوافقها.
[9]
إن الضوء والكهرباء وأغلب القوى المعروفة تحدث من انحلال المادة، ويتبع ذلك أن المادة المتشععة تفقد من تشععها جزءاً من جرمها فإذا تشعع كل طاقتها توارت بكليتها في الأثير.
[10]
إن قانون التطور المسنون للمخلوقات الحية هو أيضاً القانون الذي يجري على الأجسام المادية وإن الأنواع الكيماوية لا تختلف في شيء عن الأنواع الحية.
هذه هي النتائج التي استنتجها الدكتور. وقد استطرد بعد هذا الاستنتاج إلى البحث في التغيرات التي تحدثها هذه النتائج في فكرتنا العامة عن حركة الكون، فقال إن مسألة طبيعة المادة وطبيعة القوة هي إحدى المسائل التي استنفذت ذكاء كثير من الفلاسفة والعلماء ولم يظفر أحد بحلها التام، لأن ذلك يتطلب في الحقيقة معرفة السر الأول للمحسوسات وهذه المعرفة لم تجتمع لأحد حتى الآن ولذلك كانت الأبحاث التي يعرضها الدكتور ولا تضمن هذا الحل التام وإنما تؤدي إلى رأي في المادة والقوة مخالف جد الاختلاف للرأي المجمع عليه في هذه الأيام.
وقد استنتج الدكتور من بحثه في تركيب الذرة أنها مختزن هائل لقوة متركبة من عناصر اثيرية متماسكة من التوازن بدورات الأجزاء التي تتألف منها جاذبيتها وضغطاتها ومن تباين هذا التوازن تنشأ الخصائص المادة للأجسام من ثقل وشكل ومظهر.
ومن هذا نعتبر أن المادة ليست إلا نوعاً بسيطاً من الطاقة أو القوة، ونضيف إلى تلك القوى المعروفة من حرارة وضوء وغيرها قوة أخرى هي المادة أو القوة الكامنة في الذرات.
فإذا أحدثنا تغيراً في هذا التوازن، وكان هذا التغير شديد السرعة سميناه كهرباء أو ضوء. . . الخ وإذا كان هذا التوازن شديد الثبات سميناه مادة، ولنذهب بعيداً فنقول مع كثيرين من العلماء أن الأجسام المتماسك أجزاؤها من توازن قوى ذراتها تتركب من تموجات متكونة في الثير، ولهذه التموجات شخصية توهم العلماء حتى اليوم أنها أبدية، وما هي إلا وقتية، وإن هذه الشخصية تفني، وهذا التموج يقف في الأثير بمجرد وقوف القوات التي تضمن وجوده عن عملها، وإن الحرارة والضوء والكهرباء هي الخطوات الأخيرة التي خطتها المادة في طريق اختفائها في الأثير، وإذا اختلف جسم عن جسم فلا سبب هناك إلا أن يحوي أكثر أو أقل منه في القوة الذرية الكامنة.
وقال الدكتور بعد هذا أنه يجوز توهم قوة من غير مادة، لأنه ليس هناك ما يدل على أن القوة يجب أن تستند بالضرورة على عون، ولكن هذه الفكرة لا نستطيع أن نصل إليها، وإنما نحن نفهم الأشياء بإدخالها في الدائرة التي اعتدنا أن تمرح فيها أفكارنا، وإذا كنا نريد أن نبلو كنه القوة المحجوبة عنا فمن اللازم انحلالها حتى يتم لنا ذلك.
وقد تخلص الدكتور من ذلك التعاريف الآتية:
إن الأثير والمادة يمثلان جوهرين من نوع واحد، وإن الكهرباء والحرارة والضوء والمادة أدلة على ذلك، وأنها إنما تختلف بعضها عن بعض باختلاف طبيعة التوازن الموجود في الأثير وصلابته.
وكثيرون من العلماء وفيهم العلامة المشهور (فراداي) كانوا يجتهدون حتى الآن في محو فكرة الثنائية بين المادة واللطاقة، وكذلك اجتهد بعض الفلاسفة فقالوا إن المادة لم نلمسها ونحس بوجودها إلا بتوسط قوى تؤثر على حواسنا، ولكن كل هذه الآراء وشبيهتها
اعتبرت أنها استنتاج نظري، وعارضهم سواد العلماء فقالوا إنه من المستحيل تحويل المادة إلى طاقة وإن من طبيعة الثانية أن تحرك الأولى وتعمل فيها.
ثم بدأ الدكتور في فصل آخر يتكلم عن نتائج فناء المادة فأعاد قوله ممهداً أن المادة ليست أبدية وأنها تحوي مجتمعاً هائلاً من القوة، وإنها تختفي متحولة إلى قوة أخرى قبل أن تعود إلى ما نسميه العدم، ثم قال إنه يجوز لنا أنا نقول أنه إذا ظللنا عاجزين عن خلق المادة فإنا عارفون على الأقل كيف نعدمها من غير أن يكون لها عودة: وإن الشعار القديم لا شيء يخلق نفسه، ولا شيء يفنى يجب أن يغير بشعار جديد، هو لا شيء يخلق نفسه، وكل شيء يفني.
وقال إن الأهمية النظرية الناشئة من هذه الآراء خطيرة ذات بال فإن آراءه التي يدافع عنها اليوم ويسندها بالحجيج، لم تكن في العصر الذي اهتدى فيه إليها متينة الحجة والدفاع، وقد أمسك كثيرون عن إعلان مبلغ الأساس العلمي الضروري الذي يكفله مذهب بقاء المادة ومن ثم ترى هربرت سبنسر في فصل له عنوانه استحالة انعدام المادة يقول إذا استطعنا أن نتصور أن المادة يمكن أن تصير غير موجودة، كان لزاماً علينا أن نعترف بأن العلم والفلسفة أمران محالان ولا يخفي أن في هذه الجملة شيئاً من المبالغة والمغالاة فإن الفلسفة لم تتكلف يوماً أن تلقي بنفسها في عالم الاختراعات الحديثة، بل إن الفلسفة تتبع هذه الاختراعات، ولكن لا تسبقها.
وليس الفلاسفة وحدهم الذين يصرحون باستحالة نفقد فكرة أبدية المادة، بل كتب منذ سنين العالم الكيماوي باكويه وكان أستاذاً في جامعة الطب بباريس ما يأتي.
لم نر يوماً أن القابل للوزن يريد المادة يتحول إلى غيرها القابل للوزن أي الأثير بل إن عالم الكيمياء بأسره قائم على قانون عدم وجود مثل هذا التحول، أما إذا كان له وجود، فقل إذن السلام على النسب الجبرية الكيماوية!.
ويقول الدكتور رداً عليه أنه مصيب في تخوفه لأنه إذا كان انتقال المادة إلى الأثير شديد السرعة، وجب علينا أن نتخلى لا عن النسب الجبرية للكيمياء وحدها، بل عن النسب الجبرية للميكانيكا معها، ولكن هذه النسب لا تتأثر، لأن فناء المادة يسير ببطء شديد غير محسوس، وإن فقد ما يقل عن واحد من مائة من المليجرام، لا يمكن أن يظهر في كفة
الميزان ولذلك لا يحسب الكيماويون له حساباً.
أما الأهمية الحقيقية لمذهب فناء المادة وانتقالها أولاً إلى القوة، فلا تظهر إلا عندما نجد الوسائل التي تساعد على الانحلال السريع، فإذا جاء ذلك اليوم الذي يحصل الإنسان فيه عفواً على مصدر قوة لا نهاية لها، مهيأة لخدمته، فإن العالم ستتغير لاشك معالمه، ولكنا لسنا الآن عند ذلكم اليوم.
وفي الحقيقة ليس لهذه الآراء إلا أهمية علمية بحتة، وستظل في الحالة الراهنة مفتقرة إلى استعمالات كثيرة افتقار الكهرباء في عهد فولتا إلى مثلها.
ومع ذلك فإن أهميتها العلمية كبيرة لأنها تدل على أن محسوسات الكون التي حكم لها العلم بالبقاء والثبوت، ليست في الحقيقة ثابتة ولا قابلة للبقاء.
تعتقد الكيمياء منذ عهد لافوازييه أنها قد أظهرت لنا أنه من الممكن أن نجرد المادة من جميع خصائصها وصفاتها إلا واحدة منها - يعني أبديتها - وأنه من الهين أن نزيل الصلابة والشكل واللون والخصائص. وأن أشد الأجسام صلابة يمكن أن يتحول إلى بخار، ولكن كل هذه التغيرات لا تؤثر على جرم هذه الأجسام، بل يبقى جرمها على ما كان عليه من قبل في الوزن، فكأنه لم يمس.
وعدم تغير الأجرام في المادة هو المسألة الوحيدة المقررة الثابتة في عالم النظريات - ذلك العالم المتحرك المتحول - وهو الذي يجعل الكيماوي والعالم معاً يتبعان المادة في كل تحولاتها كأنها شيء متحرك متحول، ولكن مع ذلك غير قابل للانعدام، وبعبارة أخرى أبدي.
وقد تحاشى العلماء والفلاسفة البحث عن تعريف دقيق صحيح للمادة، لأن عدم تغير جرمها يقف عقبة دون ذلك، وإذا قطعوا النظر عن هذه النقطة الضرورية. فكل ما يستطيعون قوله هو أن المادة هي ذلك العنصر الغامض المتحول الذي تنشأ منه العوالم والمخلوقات التي تعيش فيها.
أما ثبات الجرم أو بقاؤه فراجح الأهمية، لأن عليه ينهض عالماً الكيمياء والميكانيكا.
وقد أضافوا إلى ذلك فكرة أخرى وهي انه لما كانت المادة لا تستطيع أن تخرج بنفسها من جمودها فقد استعين على تحريكها بجوهر مجهول عرفوه باسم القوة. ولذلك فصل علم
الطبيعة بينهما حتى اليوم، ولكن العلم الحديث جمع بينهما في اسم واحد هو الطاقة، وهكذا قام على أنقاض المذاهب العتيقة، بعد اجتهاد قرن كامل قوتان كبيرتان، أولاهما المادة وثانيتهما الطاقة لتحريكها.
هذه هي الآراء والنظريات الأساسية الذي ينهض عليها العالم الحديث، والتي تؤدي أبحاث سر تطور المادة إلى تقويض أركانها ونقض دعائمها.
وقد ختم الدكتور جوستاف لوبون الفصل الأول بقوله إذا كان قانون بقاء المادة سيهدم من هذه الضربات التي تزعزع ركنه، كان حقاً علينا أن نقول أن ليس في العالم شيء أبدى، وسيحكم على العلم بالنظر في تلك الآراء التي تعمل في كل المحسوسات، وهي النشوء والنمو والانحطاط والموت. . .
هذا هو العلم يضع يده في يد الدين، ويشهد له في مسألة ذات مكان وخطورة عندهما، وليطمئن علماء الدين، ولتقر أعينهم وليمضوا في دينهم مضي العلماء في علمهم، فإن الدين والعلم دائرتان مشتركتان في المركز، وذلكم المركز المشترك هو الحق.