المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدين الإسلامي والتوحيد - مجلة الحقائق - جـ ١٢

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌الدين الإسلامي والتوحيد

‌الدين الإسلامي والتوحيد

9

صفات الأفعال

قد أرشدنا البرهان إلى أن الله تعالى هو الخالق للكون لا عن مادة استمدها والصانع له لا بآلة استعملها والقيوم الذي لا تشغله الشؤون والقدير الذي لا تؤوده المعضلات ولا تعيبه المشكلات خلق فأحسن، وأسس فأتقن وبرأ البرايا صنوفاً وضروباً، وقسمها فرقا وشعوبا، ونظم الكون ورتب مصالحه العظمى إلى أكمل إتقان حسبما خصصت إرادته واقتضت حكمته (خلق كل شيء فقدره تقديراً).

هنا لا نريد أن نسوق البراهين الدالة على وحدانيته تعالى وانفراده بالخلق والإيجاد، وتنزهه عما شاكل مخلوقاته وعلوه عن كل ما يخطر بالبال، إذ الكون بجملته وتفصيله يدل على هاتين العقيدتين دلالة واضحة لا تحتاج لإحالة نظر وإعمال فكر وقد أشبعنا الكلام على ذلك في بحث الوحدانية وإنما الغاية التي نريدها هنا أن نبين مقصدين الأول أن كل ما يشاهد في الكون هو مخلوق لله تعالى وحده وأن ما ينسب إلى العباد من الأفعال والحركات هي نسبة مجازية (الله خالق كل شيء)(والله خلقكم وما تعملون) المقصد الثاني أن أفعال الله تعالى من خلق ورزق وإحياء وإماتة وتنعيم وتعذيب وإعطاء ومنع كلها محكمة ملقنة صادرة عن علم وإرادة واختيار مشتملة على حكم ومصالح لعباده ليست أسبابا باعثة على إقدامه ولا على مقتضية لفاعليته حتى يلزم استكماله بها فليس من أفعاله تعالى ما يكون واجبا عنه لذاته بحيث يصدر عنه بالعلية المحضة والاستلزام الوجودي إذ هو الفاعل المختار المتصرف في ملكه بما يقتضيه كمال ربوبيته وبالغ حكمته وليس من مصالح ما يجب عليه مراعاته وجوب إلزام بحيث لو لم يراعه لتوجه عليه اللوم إذ هو المتفضل بالخلق والإبداع والمتطول بالإيجاد والاختراع والوجوب عليه يستدعى القهر والتكليف (وهو القاهر فوق عباده).

فلا يلتفت إلى قول المتهورين الذين يزعمون أنه يجب على الله تعالى رعاية المصلحة في أفعاله وتحقيق وعيده فيمن تعدى حدوده وأن أفعاله تعلل بالأغراض إلى غير ذلك من شطحات الظنون ونزعات الأهواء التي ينزه مقام الإله عن نسبتها إليه.

ص: 3

أبرز الله تعالى هذا العالم مشحوناً بضروب من الحكم فكل ذرة من الذرات من جوهر وعرض وصفة وموصوف لا تخلو عن حكمة وتلك الحكمة منقسمة إلى جلية وخفية إما الجلية فكالعلم بأن الحكمة في خلق الشمس أن يحصل بها الفرق بين الليل والنهار فيكون النهار معاشاً والليل لباساً فتيسر الحركة عند الأبصار والسكون عند الاستتار وهذا من جملة حكمها الجلية ولها حكم دقيقة لا يعرفها إلا من عرف الحكمة (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً).

وكذا الحكمة في خلق السحاب ونزول الأمطار أن تنشق الأرض بأنواع النبات مطعماً للخلق ومرعى للأنعام وقد انطوى القرآن الكريم على جملة من الحكم الجلية التي تحملها إفهام الخلق تظهر لمن تتبعها دون الدقيق الذي تقصر إفهامهم قال تعالى (إنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضبا وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلبا وفاكهة وأبا).

وأما الحكمة الخفية فكما في سائر الكواكب السيار منها والثابت بأنه لا يطلع عليها كافة الخلق والقدر الذي يحتمله فهم العامة أنها زينة للسماء وليهتدي بها في ظلمات البر والبحر وقد لا تدرك الحكمة أصلاً كما في إيلام البهائم والأطفال لقصور العقول عن إدراك سرها فيجب التسليم له تعالى فيما يفعله إذ هو تصرف في ما يملك له الحكم والخلق والأمر لا شريك له في إيجاد شيء من المخلوقات ولا في إمداده بالبقاء ولا في إعدامه بالفناء لا يسأل عما يفعل بحكم ربو بيته وكمال علمه وحكمته الباهرة وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً) فحدوث هذه المبدعات المحيرة للعقول وهذه الصنائع البالغة نهاية الدقة على مقتضى الحكمة أمر لا ينكره مكابر مهما بلغت منه الرعونة بل محض النظر لأجهزة الحيوانات ودقة تركب أعضائها على بعضها يدفع الإنسان رغم أنفه لأن يندهش من سعة سلطان هذه الحكمة فما بالك لو صعد بفكره إلى استعراض سائر عوالم الكون مما يعلمه بالحس وما يدركه بالاستدلال.

ص: 4