الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شيء عن الأناضول الشرقي
عادات وأخلاق
تختلف العادات والأخلاق بين الأمم باختلاف الأقاليم والبلاد فما يستحسنه قوم من العادات يستقبحه آخرون ولو أمعنا النظر في عادات البلاد لوجدنا لكل بلدة عادة تمتاز بها عن الأخرى وبهذه المناسبة يجدر بنا أن نبحث قليلاً عن تأثير التمدن الحالي في أخلاق الأمم وهو بحث طالما تاقت النفس إليه ثم وجمت عنه لصعوبته - فنقول ليس التمدن في قوم إلا حصولهم على أسباب السعادة في الحياتين المادية والمعنوية وكان للمؤرخ ابن خلدون العمراني الشهير بحث في أسباب انحطاط الأمم بعد رقيها وتكلم على انقراض الدول بعد نجاحها فقال ما معناه: متى صارت الدولة غنية وتوفرت لديها وسائط الدعة والراحة مالت بكليتها للسرف والبذخ وانهمكت في الملاذ وفسدت أخلاقها فلا تلبث أن تضمحل وتنقرض هي وحضارتها:
هذه القاعدة الاجتماعية كانت تنطبق على أحوال الأمم ودولها في زمن المؤرخ وقبله أما الآن وقد كاد التمدن يعم أقطار الأرض فلا سبيل للانقراض والاضمحلال سيما وأن كل دولة من الدول الحاضرة قد أعدت العدد الكاملة لصيانة حقوقها وحفظ كيانها بين الهيئات الاجتماعية وصار لها حظ وافر من الرقي المادي والمعنوي وقسط عظيم من التمدن والحضارة.
(اللهم إلا بعض الدول الشرقية الغارقة في سبات الخمول والكسل ثم يوجد بين الدول المتمدنة روابط اجتماعية وعهود ومواثيق دولية يكفل لكل واحدة منها صيانة حقها في الغالب قلنا في الغالب لأن حقوق الدول لم تبن في الحقيقة إلا على أساس (الحكم لمن غلب) فالقوة إذاً هي التي تصون حق الدولة من أن يعبث به وتحفظ لها كيانها بين الدول ولما كانت قوات الدول الآن تكاد تكون متقاربة إن لم نقل متكافئة امتنع حينئذ تغلب دولة على أخرى وابتلاعها بتاتا كما يجري في القرون الأولى.
بقي علينا قضية الانهماك في الملاذ وفساد الأخلاق فهذه القضية لا تزال مسلمة في كل عصر وفي كل أمة فالبلاد التي توفرت فيها أسباب العمران والحضارة وزادت ثروتها وتنوعت موارد الارتزاق والكسب فيها كثرت فيها ترايضاً الملاهي وانهمك سكانها في
الملاذ ومالوا للسرف والبذخ كما قال العلامة في مقدمته_أما الأخلاق الفاسدة فهي عندي على قسمين منها ما يكون له علاقة كبرى بالوسط الذي تعيش فيه المرأة مثل الكذب والافتراء وشهادة الزور والاحتيال والغش والسرقة والخيانة ومنها ما يتعلق بالشخص ويكون له علاقة أيضاً بالمجتمع الإنساني مثل معاقرة الخمر والاشتغال بالميسر والسفاح وغير ذلك من ارتكاب المنكرات. ثم من المعلوم المقرر أن الفضيلة في حد ذاتها فضيلة والرذيلة كذلك بيد أن قبح الشيء وحسنه يتوقفان على الألفة والعادة فالغريبون ألفوا مثلا معاقرة الخمر واعتادوا الاشتغال بالميسر وولعوا بالسفاح والفحش ولذلك لا يرون هذا العمل قبيحاً ولربما كان عندهم حسنا أما الشرق فيعده عملا قبيحا للغاية. وفي الغرب أيضاً يستأجرون الناس للافتراش إلى أمد معلوم بأجرة معلومة ولا يعدونه قبيحاً بل يعدونه من دواعي التمدن والمرأة هناك تزاحم الرجل في الملاهي والمسارح وتكاتفه وتخاصره فوق مسارح الرقص ولا يعيبها ذلك إلى غير هذا من العادات والأخلاق التي يضيق عن وسعها الطرش وتعد في الغرب من دواعي التمدن ونتائج الحضارة والعمران على أنها قبيحة جداً في نظر الشرقيين.
ينتج معنا من هذه المقدمات أن التمدن يفسد بعض الأخلاق كما يصلح بعضها ففي البلاد الراقية يقولون أنه يقل الكذب والزور والخيانة والغش والخداع وتكثر أضدادها سيما احترام الشعور والعواطف ومراعاة سنن الاجتماع وحفظ آداب المعاشرة وبالجملة يقوم القانون المدني هناك مقام النواميس الشرعية وتقل العناية بأمر الدين ويندر الالتفات إليه. ثم يكثر هناك الفسق وإدمان الخمر والميسر وتزيد الخلاعة في النساء. يزيد بذخهن وتبرجهن ويكثر التردد على الملاهي والانغماس في الشهوات النفسانية أما البلاد التي قسطها من ذلك التمدن قليل فإنك ترى القضية فيها معكوسة نعم تكثر في هذه البلاد الشرور وتفسد الأخلاق التي لها علاقة كبرى كما قلنا بالمجتمع الإنساني ولكن يقل فيها الانهماك والميل للسرف والبذخ وسببه فقدان الوسائط فقط فمتى توفرت لديهم أسبابه أقدموا عليه لا محالة لأن النفس أمارة بالسوء ومطالبها كثيرة جداً في باب ملذاتها فهي لا تقنع بالقليل وليس لمطامعها في اللهو حد اللهم إلا النفوس التي أنشأت على الفضيلة منذ الصغر وشبت وشابت عليها.
إذا تنقلنا من بيوت الشعر في الصحراء إلى بيوت الحجر في القرى ومنها أتينا المدن الصغيرة ثم زرنا المدن من الشرق إلى الغرب نرى حينئذٍ الفرق الواضح بين عادات البلاد وتأثير التمدن في أخلاق الأمم وها أنا ذا واصف شيئاً من الأخلاق والعادات في الأناضول الشرقي فأقول:
هذه البلاد تكاد تكون محرومة من وسائط النقل بل من وسائل التمدن والحضارة فالأخلاق والعادات هناك تغلب عليها السذاجة وهي أقرب إلى الفشيلة منها إلى الرذيلة ويعجبني تمسكهم في تلك البلاد بأهداب الدين تمسكاً حقيقياً لا يشوبه رياء. حتى أن الفقير منهم يخرج زكاة ما ملكته يداه ولهم عناية عظيمة بصلاة الجماعة وتلاوة القرآن الكريم سيما في شهر رمضان المبارك والرجل والمرأة متساويان في العبادة والأخلاق الفاضلة كما أن المسيحي لا يكون أقل تمسكاً بدينه من المسلم. أما الملاهي فيمكننا أن نقول لا أثر لها في تلك البلاد حتى أنها تندر جداً في مراكز الولاية وتقدم بتاتاً في مراكز الأقضية وأما أهل القرى فهم لا يعرفون معنى اللهو والملهى. وقد اتفق في قضاء (ناظمية) أن بعض الضباط هناك كانوا يقصدون القهوة في ليالي رمضان ويلعبون بالورق ترويضاً للنفس وقتلاً للوقت الطويل ولربما كانوا يقامرون مقامرة خفيفة جداً لا يعبأ بها وليست من الأهمية بمكان فاشترك معهم بعض شبان البلدة فثارت لذلك ثورة الغضب من السكان وطلبوا إلى الحكومة تعطيل القهوة ومنع المقامرة وإلا تفاقم الشر وعظم المصاب فلبت الحكومة طلبهم ومنعت المقامرة واللعب بالورق وحدث أيضاً أن مفتي البلدة جمعته الصدفة ببعض الشبان من المأمورين والأهالي خارج البلدة ومعم موسيقي قروي يزمر لهم وهم يصفقون له وينشدون بعض الألحان فتاقت نفس المفتي للسماع فجلس إليهم غير متعمد ولما شاع الخبر أن المفتي يجالس الشبان في الملاهي وأنه يصغي لسماع الألحان المطربة قامت عليه القيامة وسلقوه بألسنة حداد حتى اضطر أن يكفر عن سيئاته ويعدهم بأن لا يعود لمثلها وإن عاد فهو من الظالمين.
أما المرأة في الأناضول فهي إذا خرجت من بيتها تكون متحجبة والحجاب هناك حجاب حقيقي يقصد به التستر الحقيقي فلا يكاد يرى من المرأة شيء تحت الحجاب حتى ولا تظهر تحته رشاقة قدها وانتظام هندامها وإذا مشت إلى الرياض ترويحاً للنفس وترويضاً
للبال فهي تمشي محفوفة بالوقار والحياء لا تبختر ولا تبرج في مشيها وهي لا تبدي زينتها للناظرين ولا تسحب ذيلها (الشاحط) أو ترفعه بيدها اليسرى ولتوكأ على الشمسية باليمنى وقناعها ثخين ولا فرق في ذلك بين المسلمة والمسيحية هناك حتى أنك لا تكاد تفرق بين المرأتين إلا باختلاف بعض الأزياء في الملبس.
المرأة هناك جاهلة ومن عجيب ما اتفق لحكومة (جارسنجاق) أنها لما رأت الأرمن هناك يعنون بتهذيب بناتهم وتعليمهن وأن لهم مدرستين للبنات إحداهما راقية جداً قصدت أن تفتح مدرسة لبنات المسلمين وبعد عناء كبير تيسر لها ذلك فكان الساخطون عليها أكثر من الراضين عنها بيد أنهم مالبثوا أن عادوا على الهدى لما شاهدوا بناتهم يتدرجن في مدارج التهذيب وصار لهن حظ من الأدب والتربية والنظافة حتى أن أولئك الآبار الذين نقموا على الحكومة بسبب تلك المدرسة فتحوا بعد ذلك اكتتاباً وجمعوا بعض النقود فاشتروا بها ماكينة للخياطة وأخرى للتطريز.
قلنا أن المرأة في الأناضول جاهلة ولكن ليس سبب جهلها الحجاب كما يتوهمه البعض بل سببه فقدان العلم ووسائطه وهنا نذكر بالمناسبة (والشيء بالشيء يذكر) ما يعن لنا في مسألة الحجاب فنقول ينبغي أن نعلم المرأة ولكن يجب علينا أن نحتفظ بحجابها وإن كان كلامنا هذا لا يروق بعض الشيء الجديد ورجال المستقبل الذين يودون أن نمزق حجاب المرأة بأظفار من حديد فإنه سيروق العقلاء من الأمة. ومن المضحكات أن يذهب بعضهم إلى أن الحجاب يمنع رقي المرأة وأنه إذا امتنع رقيها امتنع رقي الأمة التي تربيها تلك المرأة فنحن نقول أن الحجاب لا يمنع من رقي المرأة بتاتاً لأنه لا يمنع من تعلمها وتهذيبها بل يصون حقوقها ويحفظ مركزها الأدبي في الهيئة الاجتماعية ولا يخرج بها عن حدودها الطبيعية كما خرجت المرأة في الغرب والحجاب هو الضمانة الوحيدة لصيانة المرأة من التبرج والخلاعة والاسترسال في الملاهي ومزاحمة الرجل في معارك الحياة لأن على المرأة وظائف سامية في الهيئة الاجتماعية لا يجوز أن تشتغل بغيرها وهنا يعترض علينا منكرو الحجاب قائلين أن تحت الحجاب خلاعة وتبرجاً يفوقان الوصف وان الحجاب يساعد على ارتكاب المنكر أكثر من غيره فالمرأة المتحجبة تذهب لقضاء شهوتها وتعود من حيث لا يشعر بها أحد وأما إذا كانت مكشوفة الوجه فلا تجسر على الإتيان بهذا المنكر
لأنها تخشى أن يفضح أمرها وينكشف سترها ونحن نقول نعم قد يقع ذلك. ولكن خطأ صغيراً نادراً مثل هذا لا يقلل أهمية الحجاب وسيئة مثل هذه لا تمحو حسناته الكبيرة على حين أن المرأة التي يجوز لها الاختلاط بالرجال تكون معرضة كل آن لذلك الخطر الذي يتوهمه أصحابنا فإذا لم يكن للمرأة وازع من ضميرها ورادع من شرفها فلا الحجاب ولا عدمه يمنعانها من ارتكاب المنكر وأني لا عجب من قول القائلين بأن التعليم والتهذيب المدرسي يمنعان المرأة من الميل إلى شهواتها والانغماس في الملاهي والاسترسال للبذخ والسرف وأقول أن هذه سفسطة لا تنطبق مع نواميس الطبيعة البشرية ورقة إحساس المرأة وضعف إرادتها أليست المرأة هي المخلوق الضعيف الذي لا يمكن لجلساته الرفيقة أن تقاوم أقل حادثة من حادثات السكون؟ أليست هي التي تترنح لأقل نغمة من نغمات السرور وتحزن وتتألم لأقل طارق فجائي بل تحي وتسعد بالأمل والرجاء وتذبل وتذوي عند اليأس والقنوط فلا صبر لديها ولا جلد تلك طبيعة المرأة التي فطرت عليها وهذا تركيبها الجسماني وهذه حياتها الاجتماعية فليتق الله أولئك الذين يدعون أنهم أنصار المرأة وهم في الحقيقة أعداؤها الألداء ليتقوا الله في حرمانها من وظائفها التي خلقت لأجلها؛ إلى أن قال الكاتب:
إن رفع الحجاب عن المرأة يدفعها للاختلاط بالرجل ومزاحمتها إياه في وظائفه ويفسد أخلاقها ويعطل جيد آدابها ويطوح بها في مهاوي الفسق والفجور وبالجملة فإنه يحيد بها عن طريق الهدى، ثم قال:
أيها الأنصار هل يليق بكم أن تكلفوا المرأة بوظائف مهمة سامية مثل إدامة النسل وفيها ما فيها من أدوا الحمل والوضع والرضاع تلك الأدوار الهائلة ثم تكلفوها بتربية الأولاد وتسمونها المدرسة الأولى ثم بترتيب البيت وحسن إدارته ثم بخدمة الزوج خدمة حقة ومشاركتها إياه في السراء والضراء من أتعابه وأفراحه المعنوية هل يليق أن تكل بهذه التكاليف ثم ترفعوا عنها حجابها الذي يكفل لها حسن القيام بهذه الوظائف وتقذفوا بها في تيار المصائب الاجتماعية على ضعف جانبها ورقة شعورها؟
أما سمعتم ما قاله ويقوله علماء الغرب وفلاسفته في حق المرأة الغربية فما أحلى ذلك الفيلسوف الإنكليزي الذي قال (ينبغي أن تبقى المرأة امرأة ولا تخرج عن حدودها
الطبيعية، ولا سبيل على العمل بقول هذا الفيلسوف إلا بالحجاب.
الحضارة أ. ح