الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدين الإسلامي والتوحيد
12
النبويات
قدمنا أن للأنبياء عليهم الصلاة والسلام صفات كمال يجب الاعتقاد بثبوتها ويحسن بنا أن نورد الدلائل عليها تتميماً للفائدة، وتوفية لحق البحث فنقول:
أما دليل وجوب اتصافهم عليهم الصلاة والسلام بالصدق فللقطع بأنهم صفوة الله من عباده وخيرته من خلقه اصطفاهم لوحيه واجتباهم لتبليغ أمره ونهيه، وبعثهم إلى الأمم مرشدين هادين مؤيدين بالآيات الواضحة والمعجزات الباهرة تصديقاً لمدعاهم وتحقيقاً بأنهم رسل الله فكان إظهار المعجزات النازلة منزلة صدق عبدي فيما يبلغ عني أكبر دليل على صدقهم.
فلو جاز الكذب عليهم لجاز الكذب على الله تعالى لأن تأييد الكاذب تصديق له. وتصديقه كذب. وهو محال عليه تعالى وأيضاً لو جاز الكذب عليهم لضعفت الثقة بهم لعدم اطمئنان القلوب لأخبارهم، وارتياح النفوس لأقوالهم فتذهب الحكمة من بعثتهم.
وقد ضرب العلماء رضي الله عنهم مثلاً تتضح به الدلالة على صدق الرسل فقالوا مثال ذلك ما إذا قام رجل في مجلس ملك بمرأى منه ومسمع بحضور جماعة وادعى أنه رسول هذا الملك إليهم فطالبوه بالحجة فقال هي أن يخالف الملك عادته ويفعل كذا ففعل فلا شك أن هذا الفعل من الملك على سبيل الإجابة للرسول تصديق له ونازل منزلة قوله صدق هذا الإنسان في كل ما يبلغ عني. إذا تبين هذا فلا بد من الاعتراف بوجوب الصدق للأنبياء عليهم الصلاة والسلام في القول والفعل والإرادة والعزم وفي تحقيق مقامات الدين كلها كالتوكل والإخلاص وغيرهما.
وأما دليل وجوب الأمانة ويرادفها العصمة فلأنه لو جاز عليهم أن يخونوا الله تعالى بفعل محرم أو مكروه لكانت أممهم مأمورين به لأن الله تعالى أمرهم باتباعهم في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم وهو تعالى لا يأمر بمحرم ولا لكروه (إنَّ الله لا يأمر بالفحشاء) ومن المتفق عليه عندنا وعند أهل الكتاب أن الأنبياء هم سادات البشر وأشرفهم وأفضلهم أحبهم إلى الله وأعلاهم منزلة لديه وأطهرهم من كل رجس يشينهم ولا شكّ أنه تعالى ما اتخذهم وسائط
بينه وبين خلقه حتى صفى سرائرهم من الكدورات البشرية والرعونات النفسية إلى درجة لأن يتلقوا الوحي عنه بالإلهام وتارة بواسطة الملك النوراني الذي يرسله إليهم فيختلط بأرواحهم وينفث في قلوبهم ما أمره الله به من الأحكام والأخبار فأرواحهم إذا لم تكن في غاية من الطهارة والصفاء كيف يمكنها أن تتلقى الوحي من الله وتستأهل منصب النبوة الذي ليس فوقه منصب.
وأما دليل وجوب التبليغ فلأن وظيفتهم الإرشاد والتعليم والترغيب إلى الفضائل والترهيب عن الدنايا وتبيين الحدود والأحكام التي أمروا بتبليغها عن ربهم فلو كتموا شيئاً مما أمروا بتبليغه لأدى ذلك إلى نقص في وظيفتهم ولكانت جميع أممهم مأمورين بكتمان العلم لأن الله تعالى أمر العباد بالاقتداء بهم في أقوالهم وأفعالهم وحذر من الكتمان بقوله (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) وكيف يتصور كتمان شيء مما أمروا بتبليغه وقد أنزل الله على إمامهم وخاتمهم صلى الله عليه وسلم (يا آيها الرسول ما أنول إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) أي إن لم تبلغ بعض ما أمرت بتبليغه فحكمك حكم من لم يبلغ شيئاً منها.
وأما دليل وجوب الفطانة فلأن الله تعالى وهبهم من قوة الذكاء وسمو المدارك وأصالة الرأي ووفور العقل وثقوب الفهم ما به يتمكنون من إلزام الخصوم وإقامة الحجج الدامغة لدحض دعاوي أهل العناد فلو كانوا متسمين بالبلاهة والغباوة لما تكنوا من نصب الدلائل الواضحة والبراهين القوية لاحجاج الملحدين، ونسف صروح المتعنتين، ومما يرشدنا إلى أنهم عليهم الصلاة والسلام كانوا على جانب عظيم من الذكاء والفطنة ولهم المكانة العليا والقدم الراسخ لإقامة الحجة وإظهار الحق قوله تعالى (وتلك حجتنا آتينا إبراهيم على قومه) وقوله (يا نوح قد جادلتنا) وقوله (وجادلهم بالتي هي أحسن) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اقتدارهم لمجادلة أهل الكفر والطغيان ومقارعتهم بالحجة والبرهان حتى يفوزوا بالانتصار ويسجلوا على أعدائهم الخذلان والبوار.
وأيضاً فإن الغباوة والبلادة من صفات النقص التي لا يرتضيها أقل الناس لنفسه فضلاً عن الأنبياء الكرام المنزهين عن النقائض المتصفين بأسمى صفات الكمال التي تليق بهم.
ما يجوز للأنبياء عليهم الصلاة والسلام
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجوز في حقهم سائر الأعراض البشرية كالأكل والشرب والنوم والجماع وغير ذلك مما لا يؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية وذلك لأنهم من البشر فيجوز عليهم من الآفات والتغييرات والآلام والأسقام وتجرع كأس الحمام ما يجوز على البشر وهذا كله ليس بنقيضة فيهم لأن الشيء إنما يسمى ناقصاً بالإضافة إلى ما هو أتم منه وأكمل من نوعه وقد كتب الله على أهل هذه الدار فيها يحيون وفيها يموتون ومنها يخرجون وخلق جميع البشر بمدرجة الغير فقد مرض سيد الرسل صلى الله عليه وسلم واشتكى وأصابه الحر والقر وأدركه الجوع والعطش ولحقه الغضب والضجر وناله الإعياء والتعب ومسه الضعف والكبر ثم قضى نحبه وتشرف بروحه الرفيق الأعلى وتخلص من دار الامتحان والبلوى وهذه سمات البشر التي لامحيص عنها وذلك من تمام حكمته ليظهر شرفهم في هذه المقامات ويبين أمرهم ويتم كلمته فيهم وليحقق بامتحانهم بشريتهم ويرتفع الالتباس عن أهل الضعف فيهم لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب على أيديهم كما ضل بعض الأمم باعتقادهم بأنبيائهم الألوهية. وليكون ابتلاؤهم تسلية لأممهم ووفوراً في أجورهم عند ربهم.
إنَّ هذه الطوارئ والتغييرات المذكورة إنما تختص بأجسامهم البشرية المقصود بها مقاومة البشر ومعاناة بني آدم لمشاكلة الجنس وأما بواطنهم فمنزهة عن ذلك ومعصومة منه متعلقة بالملأ الأعلى والملائكة لأخذهم عنهم وتلقيهم الوحي منهم. (يتبع)