المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقالة خيالية في المفاضلة بين الشريف الرضي وأبي الطيب المتنبي للعالم الفاضل - مجلة الحقائق - جـ ١٦

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌ ‌مقالة خيالية في المفاضلة بين الشريف الرضي وأبي الطيب المتنبي للعالم الفاضل

‌مقالة خيالية

في المفاضلة بين الشريف الرضي وأبي الطيب المتنبي

للعالم الفاضل صاحب الإمضاء

وإذا قال في الرثاء أربي على الخنساء واستدر ماء السماء من الصخرة الصماء فمن ذلك ما رثى به جده سيد الشهداء ونعى أفول شمسه بمغرب كربلاء:

كربلا لا زلت كرباً وبلا

مالقي عندك آل المصطفى

كم على تربك لما صرعوا

من دم سال ومن دمع جرى

من قصيدة جمعت بين الطول والطول وسلبت بخمرة رقتها الألباب والعقول وإذا قام رائع نظمه مبرزاً مساوي خصمه حسبت أن كل نقيصة إلى خصمه تعزى فمن ذلك مالو نزل بيلملم لانهار صلد هضابه وتهدم

أَأَنقل بيتي في البلاد مجاورا

بيوت المخازي قد ضللت أذن جدا

خياماً قصيرات العماد تخالها

كلاباً على الأذناب مقعية ربدا

إذا عزّ ماء بينهم وردوا القذى

وإن قل زاد عندهم مضغوا القدا

ترى الوفد عن أعطانهم وقبابهم

من اللؤم أنأى من نعامهم طردا

أّأترك امطاء السوابق ضلة

واستحمل الحاجات أحمرة قعدا

وإذا جاء عائباً فوق سهماً صائباً. يلذع بحمئه فؤاد صديقه. ويكاد من الخجل يغص بريقه. فأصخ لما يتلى من آيات كتابه. وانتشق ما يتضوع عليك من نشر ملابه.

لأتاني وممطول من النأْي بيننا

قوارص تنبو بالجفون عن الغمض

ومولى ورى قلبي بلذعة ميسم

من الكلم العوراء مضاً على مض

فعذرا لأعدائي إذا كان أقربي

يشذب من عودي ويعرق من غضى

إذا ما رمى عرضي القريب بسهمه

عذرت بعيد القوم أما رمى عرضي

واستضيء بمشكاة التحقيق وشمس المعرفة. إن سلافة إطرائه ممزوجة بماء الأنفة. ترى مياه مدائحه في رياض العظماء سائلة. ويد عفته تأنف أن تكون مما سوى الله سائلة. فإن شئت أن تملأ فكرك من سلسال إطرائه. فإليك قوله وهو قطرة من هامر أنوائه:

ولولا ابن موسى لم يكن في زماننا

معاذ لجان أو محل لطارق

ص: 7

إذا هم لم يبعد به زجر زاجر

وإن ثار لم يعطف به نعق ناعق

وإن رام أملاك البلاد بفتكه

مشى الذل في تيجانها والمناطق

له العز والمجد التليد وراثة

وأخذاً من البيض الظبا والسوابق

ولو جر عليك نسيم نسيبه ذيول لطافته. لحكمت بعزل عنر بن ربيعة أمير الغزل من خلافته. وإن أحببت أن تجني من بنفسج عذاره. أو تتمتع ولك الحظ الأوفر من شميم عراره. فارتع في رياض مقاله. وتفيَّ في نعيم ظلاله. قال:

وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي

مواقع اللثم في داج من الظلم

وأمست الريح كالغيرى تجاذبنا

على الكثيب فضول الربط واللمم

واكتم الصبح عنا وهي غافلة

حتى تكلم عصفور على علم

وأَلثمني ثغرا ما عدلت به

أري الجني ببنات الوابل الرذم

فهذه شذرة من نفثات سحره. ونبذة من فنون شعره. فأنعم النظر في وجوه مخدراتها. وتأمل آيات محاسنها. ومحاسن آياتها. يظهر لك أن نظمه في أنوار الأدب النرجس والورد. وتحكم بأن له رآسة القريض من قبل ومن بعد.

إليك فقد أبرزت خود قريضه

فقل لي هداك الله هل أنت قانع

قريض يفوق الشمس في رونق الضحى

بهاء ولكن نوره الدهر ساطع

بلابل نظم في رياض معارف

على فنن الآداب هن سواجع

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

قلت:

لقد سرحت طرف الطرف في مخضل حدائقه. وأجلست عرائس الفكر على منصة رقائقه. فما جال في حلبة خلدي إلا ما ركنت قبل إليه. ولا مال قلب اعتقادي إلا إلى ما عولت عليه. وسأورد من سلساله ما يبطل تيمم الخاصر بصعيد الرضي الطيب. وأبرز من شموس بدائعه ما يوجب الشهادة أن الشاعر أبو الطيب. فقرطق أذنك بشنون نظمه تعلم أن أحمد شعر شعر أحمد. وأرشف بفم السمع رضاب ظلمه وسوف تقول العود أحمد. أما الفخر فهو باري قومه. والمطلع من أفق الخدر عروس شمسه وليس لغيره عنده بدان ولو سجد له الفرقدان وإليك فشم بارقة قوله واهتد بنجوم طوله:

ص: 8

سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا

بأنني خير من تسعى به قدم

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم

ويكره الله ما تأتون والكرم

ما أبعد العيب والنقصان من شرفي

أنا الثريا وذاك الشيب والهرم

وإذا جرد على أحد عضب لسانه. وفوق من قياس فكرته نبال بيانه زلزل قواعد جسمه بصواعق ألفاظه المحرقة. وقلقل دعائم جرمه بسطوات معانيه المرعدة المبرقة. فيتخيل لك أن المثالب هيولى والمهجو لها صورة. وتتوهم أنه محمول الخزي والقضية محصورة.

إني نزلت بكذابين ضيعهم

عن القرى وعن الترحال محدود

جود الرجال من الأيدي وجودهم

من اللسان فلا كانوا ولا الجود

ما يقبض الموت نفساً من نفوسهم

إلَاّ وفي يده من نتنها عود

وإذا خلع على شخص إزار عتابه. وأذاقه لباس اللوم والتعنيف من صاب خطابه. عثر في ذيلي الحياء والخجل. وشجى بما يسيغ من هبيد الحنظل. فألق السمع لتشهد قوله. يعاتب في بعض أغراضه سيف الدولة:

يا أعدل الناس إلَاّ في معاملتي

فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

أعيذها نظرات منك صادقة

أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره

إذا استوت عنده الأنوار والظلم

ولو لمحت بارقة المديح من ساطع أنواره. ورشفت جرعة الإطراء وإناء أفكاره. أبيت الاستضاءة بنور ذكاء. وأنفت أن تستمد من ضوء الكهرباء. ولن ترفع يد العفة من جانب الإطراء. إذا لم يكن له على معراج الفضل إسراء. وهو على ما فيه من الحوار. أمر خارج عن مفاضلة الأشعار. كما أن الشرف والنسب. ومكارم الأخلاق والحسب. لاتفيد في رفعة القول أو خفضه ولا تجدي نفعاً في تفضيل بعض الشعر على بعضه (كقوله):

ملك سنان قناته وبنانه

يتباريان دماً وعرفاً ساكبا

كالبحر يقذف للقريب جواهراً

جوداً ويبعث للبعيد سحائبا

وقوله:

ليس التعجب من مواهب ماله

بل من سلامتها إلى أوقاتها

ص: 9

أعيى زوالك عن محل نلته

لاتخرج الأقمار من هالاتها

ذكر الأنام لنا فكان قصيدة

أنت البديع الفرد من أبياتها

وقوله:

أرى كل ذي ملك إليك مصيره

كأنك بحر والملوك جداول

إذا أمطرت منهم ومنك سحابة

فوابلهم طل وطلك وابل

وقوله:

فجائت به إنسان عين زمانه

وخلت بياضاً خلفها ومأقيا

قال الثعالبي وهذا أحسن ما يمدح به ملك أسود ولا منتهى لحسنه وشرف معناه وجودة تشبيهه وتمثيله. آه ولو هصرت خصور الغزل من غضون أساليبه. وأرشفت رضاب النسيب من مبسم أعريبه لبادرت باللوم والتأنيب على من قال تشبيب جميل جميل التشبيب ولعلمت أنه يسبح وحده وكثير عزة من بعض جنده وإليك ماسجع به غريد حمائمه وهب على قامات الأفنان لطيف تسآئمه.

سفرت وبرقعها الحياء بصفرة

سترت محاسنها ولم تك برقعا

وكأنها والدمع يقطر فوقها

ذهب يسمطي لؤلؤ قد رصعا

كشفت ثلاث زوائب من شعرها

في ليلة فارت ليالي أربعا

واستقبلت قمر السماء بوجهها

فأرتني القمرين في وقت معا

وها أنا قد صدءت بمهند الحق امتثالاً لآية (فذكر) فيالك لوقفت موقف الإنصاف ونظرت بعين المتفكر فترى سحب وابله تزرى بسحبان وائل ونسيم شمائله يسحب ذيل الاختيال على الأواخر والأوائل وهذه نغبة طائر من تيار معارفه ولمعة بارق من أنوار طرائفه فكن حول كعبة لطائفه طائفاً واستظل بظل عارفه وارفاً.

أيا من بتفضيل القريض ينازع

تأمل فبدر الحق للعين ساطع

لأحمد نظم لويشير بطرفه

إلى الشمس أغضى نورها وهو خاشع

وإن ضاع نشر من ملاب قريضه

فدع كل طيب فهو لاشك ضائع

سيدري من المغبون منا ومنكم

إذا اقترفت عما تقول المجامع)

قال:

ص: 10

أراك ذكرت المحاسن وأعرضت عن المثالب كأنك لم تر ما أشار إليه ابن العميد وصدح به الصاحب ويالهما من شهيدين ملكاً في شرع الأدب نصاب العدالة ويالهما من فاضلين من شرق الفضل قرن الغزالة.

قلت:

لقد علمت ماغريا به من مذمة أقواله. ووجداه مر الطعم من عذوبة سلساله. ولاسيما ماقاواه به الصاحب وطاوله. وباراه من إظهار مساويه وحاشا أن يشاكله. وقد نشأ ذلك عن أسباب نقلت إلينا بصحيح الأخبار. وصرح بها جهابذة الأئمة متواترة الآثار. وكان الأجدر به الشكر لما أسدى إليه من الاستعانة بمعانيه. والحري به أن يبرز خرائد المحاسن من خدور مبانيه فقد ذكر الثعالبي نبذة من استعانة الصاحب بفرائده. وشذرة تحلى بها جيدة من دراري قلائده. ولولا الإطالة لأوردت منها ما حلال وطاب. وشهد على الصاحب أنه بها عد واحد الكتاب. ووما عابه عليه وأزرى قبح المطالع مع أنها بالحس أحرى قوله:

كفى بك داء أن ترى الموت شافياً

وحسب المنايا أن تكن أمانيا

ولم يدر أن ذلك كان لامور. كما يظهر لك بإيراد مدائح كافور. ولقد حمل التحامل ابن العميد على أن قال وأغرب في المقال في قوله:

فترى الفضيلة لاترد فضيلة

الشمس تشرق والسحاب كنهوراً

بعد أن أطرق ملياً يفكر فيه. ويتأمل فحوى ألفاظه ومعانيه. هذا يعطلنا عن المهم المعقول وما كان الرجل يدري ما يقول. فانظروا حياكم الله وبياكم. وأسعد الأنام بطلعة محياكم. هل هذا إلَاّ قصور عن فهم كلام البلغاء. إن لم نقل سلوك طرق التعصب في ليلة الضغائن الليلاء. إذ مثل هذا البيت لا يخفى على من هو في مرتبة الأدب أدنى فضلاً عمن حاز الدرجة القصوى. فكان قاب قوسين أو أدنى وإني تحدثاً بنعمة علام الغيوب. مستمد للأجوبة عن كثر ما نعياه عليه من العيوب. وبلم يبق إلَاّ النزر القليل وهو مما لا يخلو عن أمثاله إن فتشت نبيل.

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها

كفى المرء نبلاً أن تعدّ معائبه

قال:

ما هذا الانتصار الحامل على غمص حق الأفاضل. والاعتذار الذي هو عن مناهج القبول

ص: 11

بمراحل. والأزراء على من له في الأدب القدم الراسخ. والحط من رتبه من نار فضله في رأس علم شامخ. وما ذكرت وإن كان بعضه يزري بفرائد الترائب. ولكن لايمس بجانب ابن العميد ولابفضل الصاحب. ولولا ضياع الوقت بما لا يفيد. لا وردت مما نقما عليه جملة ما كنت منها تحيد. لكن أخال أن جواد تسليك جموح القياد. ودون الاستيلاء على عاصمة فكرك خرط القناد. على أني سأفرغ لك أيها الصديق ثانياً. وأخلد على صفحات الدهر من مساويه ذكراً باقياً.

قلت:

لم أكن لأجيبك بعد هذا إلا بالإحكام إلى ركين. فيرى أهل التمييز إذن (أنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) لكن من رفض التحكيم بعد وصوله إلى دائرة الاستئناف قضي عليه بأنه من الخوارج بإجماع ذوي الإنصاف. ولم يكن لنا حكم نركن إليه. ونعول بإبراز حقيقة دعوانا عليه. سوى رئيسنا العلامة النحرير. وأستاذنا النقاد البصير. فيصل أهل العلم وفرقانها وحاتم ذوي الأدب وديانها.

هو التكلامة الحبر الذي شهدت

بأنه الفرد بدو الخلق والحضرا

حبر به ربحنا بحر لمغترف

رحب الخلائق غيث يمطر الدررا

تنوير البصائر والأبصار وملتقى أبحر الفضائل وجوهر درها المختار

هو الإمام الذي لولاه ما سطعت

شمس العلوم ولا بدر العلا ازدهرا

ولا رأيت لسان العرب لاح لنا

وقد نضا عن محيا فجره الخمرا

فذهبنا إليه، ورضي كلانا بحكمه والتعويل عليه، فقال حفظه الله:

سأقضي قضاءً يشهد العقل أنني

به لم أكن عن مذهب الحق عادلا

قضاء عليم لايجابي بحكمه

ولم يخش في كشف الحقيقة عاذلا

هما ما هما في الشعر لكن أحمدا

له قصبات السبق إن كان صائلا

وإن يهج أو يمدح تجد كل ناظم

وإن كان ذا عقد من الفضل عاطلا

تفرد بالأمثال والسهل سبكها

ولكنها تعيي أرسطو الحكيم الحلا حلا

فلو كان في عصر الفلاسفة الأولى

رأيت ابن سينا خلفه متضائلا

حوت حكماً كالدر لكن ضوءها

إذا ما بدا شمت الدراري أوافلا

ص: 12

أضاءت على الدنيا عموماً ولاترى

بها الظل في نفي الإضاءة عاملا

دع الدر عقداً للعذارى فهذه

أعز وأسنى إذ تحلي الأفضلا

لها نفثة الألفاظ من سحر بابل

ولطف معانيها يريك الشمائلا

وأن يخترع خرت أولو اللب سجدا

وإن يتبع في النظم فاق الأوائلا

ولاتنس أفضال الشريف على الورى

ومنيجتري أن ينكر البدر كاملا

إذا ما جرى في حلبة الفخر لم يدع

بكرته سحبان وائل وائلا

فمن رام نيل الدر غاص ببحره

وخلى ثماداً خلفه وجداولا

معان إذا ماست بإبراد سنها

تحرت سويداء القلوب منازلا

بقالب ألفاظ ترى كل قالب

لما قبله حسناً وسبكاً مساجلا

كأن قد خلا مما يعاب وغيره

له من رديء الشعر ماقد هوى إلى

فرد كل وادٍ من أيادي قريضه

تر الحسن من تلك المسائل سائلا

فهذا قضائي في الشريف وأحمد

تراه إذا ما تبتغي الحق فاصلا

فما الصلتاني الذي قد علمتم

يساميه لما قام بالحكم قائلا

جرير مسود للفرزدق نسبة

كما أنه يسمو الفرزدق صائلا

وما أنا كالأعشى لدى قام حاكماً

وكان بهذا الحكم والله جاهلا

لقد قدم المفضول في الناس رتبة

وآخر من قد كان في الناس فاضلا

دمشق محمد أبو الخير الطباع

ص: 13