الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمون والسياسة الدينية
أصاب المسلمين في القرون الأخيرة من عوامل الضعف والانحطاط ما حرجت منه صدور الغيورين من محبي الإصلاح فتسلطت الأغيار عليهم وتداخلوا في شؤونهم فخربت البلاد وسادت الفوضى وانقسم الناس شيعاً وأحزاباً ورق الدين حتى صار التظاهر بالمروق أمراً هيناً لا يعبأ به بل ربما يعد عند الجهلة الأغرار تمدناً وتنوراً وكادت تزول من بينهم رابطة الدين وتستبدل بما لا يخرج عن دائرة الوهم ولا يكون له نصيب قوي من التأثير في اجتماع الأمم.
كل ذلك أصاب المسلمين بسبب ركونهم إلى أعداء دينهم من الأوروبيين ونظرهم إليهم نظر المعلم الناصح وانخداعهم بما يخدعونهم به من أنهم يخدمون الإنسانية من غير تفريق في المذهب والدين.
اغترت الدولة الإسلامية بقوتها يوم كانت سيدة الدول وظنت أن الأوروبيين يسعون لمصلحتها ويعملون لرقيها وسعادتها ليستفيدوا من قوتها فسهلت لم طرق التداخل في البلاد ليعمروها فلا والله لم يجدوا طريقاً للفساد إلَاّ سلكوه. ولا مورداً لتدمير البلاد إلَاّ وردوه. وأشد ما فعلوه تأثيراً هو تداخلهم في أمور التعليم فكانوا أساتذة في المدارس يبثون فيها أفانين الإلحاد وينفثون سموم التفريق بصور مختلفة وأشكال متنوعة ويدعون أنهم يخدمون الإنسانية والمدنية! أما الغاية الحقيقة التي يسيرون وراءها ويسعون للحصول عليها فهي إضعاف تلك الرابطة الدينية الإسلامية فتخرج على أيديهم من المسلمين من كانوا أشد ضرراً على المسلمين من الإفرنجة أنفسهم لأن العدو الداخلي لا يتقى كما يتقى العدو الخارجي فانساب هؤلاء التلامذة المتفرنجون في البلاد آخذين في الغالب مهنة التعليم حرفة لهم فتخرج عليهم أيضاً فريق كبير من المتفرنجين كانوا السبب الحقيقي في ضعف الرابطة الدينية بين العثمانيين وصاروا كلما غمزهم الأوروبيون مغمزاً لانوا له وظنوه أمراً بسيطاً لا يقصد به إضعافهم وحل رابطتهم فطمع فيهم العدو وجرد عليهم سلاحه السياسي الضار الذي لايبقي ولا يذر فعم الشر وطغى الفساد حتى كاد أهل الدين ييأسون من الصلاح والإصلاح لما يشاهدونه من تهور هؤلاء المتفرنجين وانصباغهم بالصبغة اللادينية وانخداعهم بما تخدعهم به أوربا من الأقوال الفارغة وغفلتهم عنما تنويه للمسلمين إلَاّ أن المفكرين من أهل الدين كانوا مدركين لهذا الأمر وهو ينادون ولا مجيب ويجأرون إلى الله
أن ينبه المسلمين من هذه الغفلة التي كادت تضر بالدولة العلية دولة الخلافة التي تجمع عامة المسلمين تحت لوائها فسعادتها سعادتهم وشقاؤها شقاؤهم. ولا ننكر أن بين السياسيين من يعرفون حقيقة الأمر ومبلغ الخطر ولكن يغضون على الأذى لما يتوهمون من ضعف الدولة المادي بصورة لاتقوى على دفع العدو إذا حافظت على مصالحها فكانوا يقبلون مداخلة أوربا تسكيناً لشرتها ويرتجون من وراء ذلك أن يتسع الوقت للدولة العلية فتنهض من سباتها وتأخذ لنفسها الحذر وتستعد للطوارئ إذا هي رفضت مايضر بالسياسة الدينية ولكن مع الأسف كان مايدسه أعداء الإسلام عاملاً كبيراً على إضعافها في حين أنها لم تنتبه فترقع الخرق من جهات أخرى لتكون في مأمن منهم يوم يظهرون مكنونات ضمائرهم فكان هذا الإغضاء عن تداخل أوربا خطأً محضاً لأن الدولة لم تتمكن من لم شعثها كما كانوا يتوهمون بل كان هذا الإغضاء مما سهل لأعدائها سبل المطامع ولو أدركت الدولة الأمر من أوله يوم أخذوا يعقدون المعاهدات لتجزئة بلادها بدعوى المحافظة على السلم والموازنة الدولية وغير ذلك من الأقاويل التي لا يقبلها إلَاّ من يرى الضعف في نفسه فلا يطيق دفاعاً. لو أدركت الدولة ذلك فأخذت نفسها بالسياسة الدينية وقامت تدعو عموم المسلمين للدفاع عن دينهم وشرفهم لوجدت من حماستهم وتفانيهم ما يعلم أوربا أن المسلمين ذوو قوة ومنعة وأن أموالهم وأبناءهم ودماءهم لا تزن عندهم شيئاً في سبيل الدفاع عن دين الله ولكن سلبت الدول بعض أملاكنا وتداخلوا في شؤوننا واستباحوا حمانا وقطّعوا بلادنا كما يتقطع الجسم عضواً بعد عضو ومع هذا كله لم يرتدع أولئك المتفرنجون عن غيهم ولم يزالوا ينادون بأن أوربا هي محبة الإنسانية والمدنية وأنها تعمل على نفع الإنسان فهل نحن بعد ذلك منتبهون؟
بلغ من تهجم أوربا وتجاسرها علينا أن قامت في هذه الآونة إيطاليا تلك الدولة الحقيرة التي غضب الله عليها وعلى بلادها تغتصب بلادنا الطيبة فأعلنت علينا الحرب بصورة تترفع عنها الصعاليك وخرقت العهود الدولية واقتحمت بأسطولها البحر وضربت طرابلس الغرب وأباحت الأعراض وقتلت الصبيان والعجائز والشيوخ وفعلت فيها من الأفعال البربرية ما يخجل وجه الإنسانية كل ذلك بمرأى من الدول التي تتبجح دائماً بحب الإنسانية والمدنية مما يؤكد ما أسلفناه وأن أوربا إنما تتظاهر بهذه الأمور لتقضي على المسلمين سلمياً وأن
القصد هو استئصال شأفة المسلمين لمخالفتهم في الدين وتعلقهم بخليفة المسلمين وإلَاّ فلمَ تغير هذه الدول على الشعوب الإسلامية الآمنة في سربها. الخافضة جناح الرحمة لمواطنيها ومساكنيها من غير ما ذنب سابق ولا عدوان موجب؟ هاج لذلك الشعب الإسلامي في سائر أقطار الأرض وعرف ما تريده هؤلاء الدول الغريبة فأظهروا تعلقهم بعرش الخلافة الأقدس ونهضوا لمساعدة إخوانهم الطرابلسيين لما بينهم من الرابطة الدينية المحكمة التي تجمع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فقام الشيخ السنوسي ينادي بالجهاد ويدعو الناس للدفاع عن إخوانهم في الدين، وعقد الهنديون الاجتماعات وأقاموا الاحتجاجات وطلبوا من حكوماتهم ردع إيطاليا عن اعتدائها الفظيع وعرض الإمام يحيى على دولة الخلافة مائة ألف مجاهد لإنقاذ إخوانهم من ظلم الأعداء الجائرين وأعلن مجتهدوا الشيعة وجوب الجهاد على كل مسلم ومسلمة لإعلاء كلمة الدين ورد كيد الظالمين.
وقام المصريون بما يسطره لهم التاريخ بمداد الذهب فأظهروا عطفهم على الأمة الإسلامية وتعلقهم بالدولة العثمانية فعقدوا الجمعيات وجمعوا الإعانات الطائلة وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
فظهرت بهذه الأعمال الرابطة الدينية بأجلى مظاهرها وعرف الناس عامة فضل تلك الرابطة وأنها قائمة بحول الله تعالى على أسس قوية لا تنقصها أحلام المتفرنجين وأنه لا حياة لهم إلا بها فتلفت أنظار المفكرين من علماء الدين إلى اغتنام الفرصة والسعي وراء إيجاد طرق للتعارف بين المسلمين ليستفيدوا من رابطتهم الدينية ويسعوا يداً واحدة لإيقاف هذا السيل الجارف الذي كاد يكتسح عموم الممالك الإسلامية علهم يرجعون إلى سالف عزهم وسامق مجدهم. حقق الله الآمال.