الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البقاء لله
لموت قبيلة أيسر من موت عالم
حديث شريف
رزأت دمشق بفقد نخبة من خيرة علمائها، وصفوة أتقيائها وفضلائها، فجلّ بذلك الخطب، وعظمَ المصاب، وحلت عرى الجلد، وهدمت دعائم الصبر، ولكن ما الحيلة وقد كتب الله الموت على خلقه، وقضى بذلك قضاءً حتماً على عباده، ولا رادّ لقضاء الله فاجئتنا الأيام وداهمتنا الليالي بفادحة عظيمة كورت ثلاث شموس من أفضل علمائنا المبرزين. بكى عليهم العلم والفضل وآسف عليهم الأدب والنبل. وهم الحسيب النسيب، شيخ الشيوخ في دمشق المعمر المدقق البركة الصالح الأستاذ الشيخ عبد الله الركابي الشهير بالسكري والعلامة المفضال سليل بيت العلم والمج، صاحب العفة والاستقامة الشيخ رضا الحلبي مفتي دمشق الشام والعلامة النبيل، آية الأدب والفضل، الورع الصالح، صديقنا الشيخ محمد أبي الخير الطباع مؤسس وصاحب المدرسة الوطنية بدمشق. وقد كان لموتهم رنة أسف عمت القاصي والداني، والقريب والبعيد. مصاب أدمى القلوب، وأجرى الدموع، وأسال الآماق وكأن لسان الحال يقول:
ولو كان سهماً واحداً لأتقيه
…
ولكنه سهم وثانٍ وثالث
فإنا لله وإنا إليه راجعون. وهنا يحسن بنا أن نذكر كلمة عن هؤلاء الأفاضل خدمة للعلم، وقياماً بواجب فضلهم عليهم من الله الرحمة والرضوان.
العلامة الشيخ عبد الركابي السكري
ولد رحمه الله سنة 1230 للهجرة بدمشق وتلقى علوم الفقه والكلام والتفسير والأصول والحديث واللغة والنحو والصرف والبيان وغيرها عن إجلاء قادة، وهداة سادة، من أفضلهم العلامة العمدة البركة محدث الديار الشامية الشيخ عبد الرحمن الكزبري والعلامة المحقق المدقق رأس الفقهاء الشيخ سعيد الحلبي والعلامة المحدث المفسر الصالح البركة الشيخ حامد العطار والعلامة المتفنن الورع شافعي عصره الشيخ عبد الرحمن الطيبي فحاز قصبات السبق في المعقول والمنقول وصار مرجع أهل عصره، وانقطع للقراءة والإقراء والتأليف، وعُين مدرساً للبخاري الشريف تحت قبة النسر بين العشائين وخطيباً لجامع
الشيخ الأكبر ورئيساً لمشيخة جامع بني أمية. وقد انفرد بعلو الإسناد حتى نقل عن بعض مشايخه أنه قال (وسندي هذا اليوم أعلا سند على وجه الأرض) وله التآليف العديدة، والتصانيف المفيدة في كثير من العلوم. وقد قال في بعضها (ومع ذلك لي بحمد الله تعالى نيف وعشرون مؤلفاً منها ما تم ومنها ما لم يتم فمن أعظمها كتابي المسمى بنعمة الباري شرح صحيح الإمام البخاري) وله كتاب شرح عقيدة الباجوري. وشرح على السنوسية، ورسالة في الإضافة لياء المتكلم، ورسالة في التهنئة بالأعياد، ورسالة في إغاثة الملهوف. وثبت جمع فيه إجازاته من شيوخه سماه تنبيه الإفهام في بيان صور إجازاتي من مشايخ الإسلام وقد انتفع منه خلق كثيرون منهم العلامة المفضال التقي الورع أوحد الفقهاء شيخنا الشيخ عطا الكسم والعالم التقي الحسيب النسيب السيد عبد الكريم أفندي الحمزاوي والعالم العامل الزاهد المرحوم الشيخ محمد الشاش وأخو الفقيد لأمه العالم الصالح المرحوم الشيخ عبد اللطيف الذهبي وغيرهم. وعمر حتى بلغ من العمر ما يقرب من مائة عام وكانت وفاته في الليلة الثالثة عشر من شوال سنة 1329 ودفن في مدفن خاص في تربة باب الصغير تغمده الله رحمته، وأدخله فسيح جنته.
العلامة الشيخ رضا الحلبي
هو العلامة المفضال الشيخ رضا ابن العلامة المحقق الجليل الشيخ أحمد ابن العالم العلامة الفقيه الورع الطائر الصيت الشيخ عبد الله ابن العلامة شيخ الشيوخ في عصره الحبر البحر الشيخ سعيد الحلبي. ولد رحمه الله بدمشق سنة 1379 وتلقى مبادئ العلوم في المدرسة الجقمقية وبعد أن تخرج فيها مدة سنتين واستوفى ما تدعو إليه حاجة المبتدي تاقت نفسه إلى الأخذ من العلوم بنصيب وافر فقرأ على والده وعلى العلامة المحدث المفسر الذائع الشهرة علماً وفضلاً الشيخ سليم العطار. وعلى العلامة الأوحد المنفرد بالتحقيق والتدقيق في جميع الفنون الشيخ محمد الطنطاوي وعلى العلامة المجمع على فضله صاحب التآليف العديدة مفتي دمشق الأسبق السيد محمود أفندي الحمزاوي وعلى العلامة الجليل المشهود له بالعلم والفضل الشيخ سعيد الأسطواني وغيرهم وبرع في الطلب حتى عد أوقد أقرانه ذكاءً وفضلاً واستقامة ونبلاً وفي سنة 1304 تقرر عليه تدريس البخاري الشريبف ودرس الفقه والوعظ في جامع بني أمية ثم في سنة 1317 وجهت عليه نيابة محكمة
الميدان فقام بها قيام الرجل الكفؤ قياماً دل على شرف في النفس، واستقامة في الأمر، ونزاهة في العمل، ثم عين سنة 1326 نائباً للمحكمة الشرعية الكبرى فكان أيضاً مثال النزاهة والعفة، جمع للقوة الإجرائية الرحمة والرأفة فكم أنقذ مظلوماً، وأغاث يتيماً، وأعان أيما ثم في سنة 13219 انتخب مفتياً لدمشق فزاد لطفاً على لطفه، وتواضعاً على تواضعه، وحسن مودة لمن يعرفه ولمن لا يعرفه، مما أوجب له الثناء من عموم معارفه والمترددين عليه وكان يظن لو امتد به الأجل أن ينفع وطنه، ويرقي شأن العلم والعلماء ولكن عاجله الأجل فانتزع من بين الآلاف من أصحابه وأحبابه، ولبى داعي ربه ليلة الجمعة لثلاث ليال خلون من ذي الحجة سنة 1329 وفي صبيحة يوم الجمعة ماجت الأرض بالألوف من الناس على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم الأمير والحاكم، والتاجر والعالم والغني والفقير، والصغير والكبير، ودلائل الأسف والحزن بادية على كل وجه، وأكثرهم يردد عبارات الحوقلة والترجيع حتى وصلوا به إلى مدفنه في مقبرة الدحداح حيث واروا جسده الكريم ثم انفضوا راجعين وألسنتهم رطبة بالثناء على عفته ونزاهته، واستقامته وكرائم خصاله. فنسأل الله له الرحمة والإحسان.
العلامة الشيخ محمد أبو الخير الطباع
ولد رحمه الله سنة 1298 وتربى يتيماً في حجر والدته العفيفة، تلك الوالدة التي كانت تشغل أكثر أوقاتها لاكتساب ما تنفق عليه. وبعد أن ترعرع وتعلم المبادئ الأولية، دخل المدرسة الرشدية، وكان رحمه الله نزوعاً لطلب العلوم الدينية، ميالاً للصلاح والتقوى، واقفاً مع أدب الشريعة الطاهرة، ترغب نفسه الأدب، ومطالعة كتبه فما عتم بعد أن أتم دروس المدرسة وحصل على شهادتها حتى اصطف مع طلاب العلم الشريف، وتحلى بجليتهم فتلقوه على الرحب والسعة، فقرأ على أجلة من الأفاضل، وعدة من الأماثل كالعلامة المحقق المدقق الورع الزاهد صاحب التصانيف الممتعة المفيدة الأستاذ الشيخ عبد الحكيم الأفغان نزيل دمشق. والعلامة العالم العامل محدث الديار الشامية المتفق على ورعه وجلالته الشيخ محمد بدر الدين المغربي حفظه الله وأبقاه والعلامة المتفنن العمدة المرحوم الشيخ سلطان الداغستاني والعلامة المحقق المفضال الشيخ محمود العطار وغيرهم وبعد أن تذوق لذة العلم والتعليم حنت نفسه الطاهرة إلى خدمة بني وطنه فدرس بمدرسة الريحانية
مدة لا تقل عن سنتين انتفع به خلق كثير. ثم شرع في توسيع نطاق الإفادة ونفع أهل الوطن فأسس مدرسته الوحيدة المعروفة (بالمدرسة العلمية الوطنية) وسعى في تحسينها وترقيتها فأقبلت الناس على أبوابها، ونمى عدد طلابها حتى ناف على 400 ولم يكن عمله هذا ليقطعه عن القراءة والإقراء فكنت ترى صباح مساء عدداً وفيراً من طلبة العلم يفدون داره للقراءة عليه، والأخذ عنه. وكان له عدة تآليف منها رسالة في الانتصار للكمال بن الهمام وأرجوزة في النحو وأخرى في الصرف وديوان كبير ضمنه بديع الشعر ورقيقه ورسالة في انتقاد شرح شعر أبي تمام ومقامة خيالية سبق نشرها في (الحقائق) وكتابات على كثير من كتب العلم والأدب. وما زال هذا دأبه وتلك عادته ينتفع منه صغير القوم وكبيرهم حتى لبى دعاء ربه وأجاب نداء خالقه في شوال سنة 1329 فأسف عليه كل من عرف أدبه وأخلاقه. وبكاه الناس وإنما بكوا الأدب والفضل، والغيرة والصلاح والنبل وكثير منهم يردد قول القائل:
الموت نقاد على كفه
…
جواهر يختار منها الجيا
فرحمه الله وأنزل على جدثه شأبيب العفو والغفران.