الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخط العربي
لا يرتاب أحد في أن الكتابة من أرف الصنائع وأسماها قدراً وأعظمها منفعة وأتمها فائدة إذ بها جمعت العلوم ودونت الأحكام وقيدت الحكمة وضبطت أخبار الأولين ووقائعهم ولولا الكتابة ما انتظمت شؤون العلوم ولا اتسعت دائرة المعارف والفنون الكتابة حافظة على الإنسان حاجته ومقيدة لها عن النسيان ومبلغة ضمائر النفس إلى البعيد الغائب ومخلدة نتائج الأفكار والعلوم في الصحف ورافعة رتب الوجود للمعالي فهي القطب الذي يدور عليه نظام الاجتماع البشري والأس الذي ترتكز عليه دعائم مصالحه وكفى الكتابة شرفاً أن الله تعالى أقسم بالقلم وما سطر به وأمتن على الإنسان بتعليمه الكتابة فقال سبحانه (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم) وقد تقرر لدى العمران أن الكتابة أشرف وأنفع من النطق لأن ما تثبته الأقلام باق مع بقايا الأيام وما ينطق به اللسان تدرسه السنون والأعوام مدعين أن قوام الذين والدنيا بسيئين السيف والقلم لكن رتبة السيف تحت رتبة القلم قال الشاعر:
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت
…
إن السيوف لها مذ أرهفت خدم
كانت كتابات الأمم كما في ابن خلدون اثنتي عشر كتابة وهي الفارسية والحميرية والعربية واليونانية والسريانية والعبرانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية وقد انقرض بعض هذه اللغات بانقراض من يتكلم بها.
أول من خط بالعربي مر أمر ابن مرة وكان يسكن الأنبار ومن الأنبار انتشرت الكتابة في العرب والذي نقل الكتابة من الأنبار إلى الحجاز حرب بن أمية جد الملوك الأموية إلا ن الخط العربي لأول الإسلام كان غير بالغ إلى الغاية من الأحكام والاتقان والإجادة ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة وبعدهم عن الصنائع قال ابن خلدون واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية والكمال في الصنايع إضافي وليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على مافي النفوس إلى أن قال ثم لما جاء الملك للعرب وفتحوا الأمصار وملوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة واحتاجت الدولة إلى الكتابة استعملوا الخط وطلبوا صناعته وتعلمه وتداولوه فترقت الإجادة فيه واستحكم وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان.
وذكر المؤرخون أن تحسين الخط العربي في الإسلام كان في زمن بني أمية وكان أول
خطاط في ذلك العهد رجل يدعى (قطبه) وكان أكتب الناس في عصره ثم جاء بعده الضحاك بن عجلان الكاتب في أول خلافة بني العباس فزاد على قطبه.
وكان حسن الخط في صدر الإسلام مختصاً بكتابة المصاحف وأول من كتب المصاحف في الصدر الأول مع حسن الحظ خالد بن أبي هياج كان يكتب المصاحف والشعر والأخبار للوليد ابن عبد الملك ثم مالك بن دينار وكان لخطوط المصاحف أنواع منها المكي والمدني والبصري والكوفي والمثلث والمدور والمحقق وهو العراقي والسجلي والأصفهاني ولم يزل الناس يكتبون بهذه الخطوط وبالخط العراقي إلى أيام المأمون فأخذ كتابه وأصحابه بتجويد خطوطهم فتفاخر الناس في ذلك وظهر رجل من صنائع البرامكة يعرف (بالأحول المحرر) عارف بمعاني الخط وأشكاله فتكلم على رسومه وقوانينه وجعله أنواعاً وكان يحرر النافذة من السلطان إلى ملوك الأطراف فرتب الأقلام وضم إليها أقلاماً أحدثها. منها قلم الأمانات والقلم المدمج والقلم المرصع والقلم النساخ ثم أتى بعده الفضل بن سهل فاخترع قلما هو أحسن الأقلام يعرف (بالرياسي) ثم ظهر بعده جملة من الخطاطين إلى أن انتهى حسن الخط للوزير أبي علي بن مقلة وزير المقتدر بالله العباسي وهو أول من نقل الخط الكوفي إلى خط النسخ وأبرزه في الصورة المعروفة اليوم ثم جاء بعده أبو الحسن بن هلال المعروف بابن البواب فهذب هذه الطريقة ونقحها وكساها طلاوة وبهجة كما ذكره ابن خلكان حتى قال في ترجمته لم يوجد في المتقدمين ولا المتأخرين من كثب مثله ولا قار به ثم انتقل حسن الخط بعده إلى جمال الدين ياقوت المستعصي مولى المستعصم العباسي وطار صيته في أنحاء البسيطة وكتب المصاحف الكثيرة. قيل بلغت ألفاً وواحداً وقد كتب لابن سينا نسخة من الشفاء في مجلد واحد وأهداه إلى الشاه (محمد طقلق) أحد ملوك الهند فأنعم عليه بألف مثقال من الذهب ويروى أن القطب الكبير سيدنا عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه كان يجل ياقوتاً ويثني عليه ويقول أن في يده سراً من أسرار الله.
ومازال الخط من ذلك العهد يزداد حسناً وجودة مع الاعتناء بشأنه وضبط قواعده وتنوع أساليبه إلى أن انتهى إلى جماعة من الخطاطين اشتهروا بالمهارة وكمال الاتقان وخلد لهم التاريخ ذكراً حسناً أشهرهم الحافظ عثمان رحمه الله تعالى وهو الذي فاق من تقدمه في حسن الخط وحاز قصبات البنى في مضمار هذه الصناعة بشهادة من كانوا معاصرين له
من الأساتذة المشهود لهم بكمال المعرفة وكانت له مكانة سامية عند السلطان مصطفى خان الثاني العثماني حتى روي أنه كتب خمسة وعشرين مصحفاً ماعدا الأجزاء المتفرقة ثم خلفه كثير من الأساتذة فسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم وميزه على كثير ممن خلق بما تفضل به عليه وتكرم.
وهنا يحمل بنا أن نذكر ما يؤيد وجود الكتابة في العرب ومعرفتهم بها نقلاً عن كتاب (بلوغ الأرب في أحوال العرب) باختصار فمن ذلك ما استلموه في لغتهم من الألفاظ الموضوعة لآلات الكتابة والكتَّاب إذ لو لم يعرفوها لم يضعوا تلك الألفاظ لمعانيها كقولهم (الدواة) وجمعها دوى ودويات (والليقة) اسم القطن أو الصوف الذي يلصق به المداد وهو من قولك لاق به الشيء يليق إذا ألصق به وسمي المداد (مداداً) لأنه يمد الكاتب. ومددت الدواة جعلت فيها المداد والمدة بالفتح غمس القلم في الدواة مرة للكتابة. وقد خثرت الدواة خثوراً إذا ثخن نقسها وهو المداد يقال له (نقس وانقاس) والقلم قبل أن تبريه يقال له أنبوبة فإذا بريته فهو قلم وما يسقط منه عند البري يسمى (بالبراية) وأنقت القلم حددت طرفه وشباته حدة. وقططته قطً والمقط مايقط عليه، والقط القطع عرضاً، والقدان يقطع الشيء طويلاً ويقولون قلم رشاش وذلك إذا حاف الشق على أحد جانبيه فدق وتعثر (أي كبا) بشظايا الكتاب (أي بأعصابه) ورشتش المداد، وتقول حقي القلم من كثرة الكتابة (أي رق) وتقول كتبت كتاباً وهو مصدر وإنما يطلق على المكتوب على السعة والكتابة صنعة الكاتب والطرس الكتاب الممحو الذي يستطاع أن تعاد فيه الكتابة أو الصحيفة التي محيت ثم كتبت والتطريس إعادة الكتابة على المكتوب وطرَّس الكتاب سوده والطلس باللام الصحيفة أو كتاب لم ينعم محوه فيصير طرساً وأنمجت نقطة من القلم ترششت ومجمج الكتاب ثيجه ولم يبين حروفه والتثبيج تعمية الخط وترك بيانه والصحف ما كان من جلود والقطا الصك وكتاب المحاسبة والمجلة صحيفة كانوا يكتبون فيها الحكمة قال النابغة:
مجلتهم ذات الآلة ودينهم
…
قويم به يرجون خير العواقب
والعهدة كتاب الشراء وهي وثيقة المتابعين وكتب له منشوراً يشد ورجعة الكتاب ورجعانه جوابه ويقال أجابه في هامشة كتابه إذا كتب بين السطرين وهو من قولك تهامش القوم إذا دخل بعضهم في بعض وهمش الجراد إذا تحرك ليثور وتقول نقطت الكتاب وأعجمته
وشكلته وقيدته وهذا كتاب غفل كقولك دابة غفل إذ لم يكن موسوماً والسجل كتاب العهد وتقول أمليت الكتاب وأمللته واستملة إذا سأل الإملاء والزبور والرقيم الكتاب وزبرت ورقمت كتبت وقرمطت قاربت بين الحروف مأخوذ من القرمطة وهي دقة الكتابة وسحيت الكتاب سحياً إذا قلعت منه سحاية وهي القشرة تأخذها عن القرطاس وخزمته ثقبته وحزمته شددته ويقال تربت الكتاب وأتربته وتربته وختمته ومنونته وأرخته تاريخاً وهذه إضبارة من كتب أي حزمة منها وإضمامة والكراسة ما تكرست أوراقه وتلبدت واحدة الكراس والكراريس وهي الجزء من الصحيفة والمصحف سمي مصحفاً لأنه أصحف أي جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدفتين وهما اللوحان اللذان يكتنفانه وله الغلاف وفيه العروتان والمحبرة والحبرية التي فيها الحبر وهو الزاج والرشق صوت القلم وحصرم القلم براه والمرقم كمنبر هو القلم ومثل ذلك بكثير في كتب اللغة والأدب مما يرشدك إلى أم الكتابة كانت منتشرة في العرب بدليل استعمال ما تقدم من الألفاظ الموضوعة لآلات الكتابة وما يتعلق بهذه الصناعة ولم يكن للعرب القرطاس المعهود اليوم بل كان عندهم كل ما يمكن أن يكتب عليه كالرق وربما كانوا يكتبون على العُسب والجريد وماشاكل ذلك وإنما حدث الكاغد (القرطاس) في زمن الملوك العباسية بإشارة الفضل بن يحيى زوكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه واتخذه الناس من بعده صحفاً لمكتوباتهم العلمية والسلطانية وبلغت الإجادةة في صناعته ما شاءت كما بسطه ابن خلدون في مقدمته والله أعلم.