الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حالتنا وفساد الأخلاق
قلما ترى أحداً من العقلاء المفكرين غير شاكٍ مما آلت إليه حالة المسلمين اليوم من الضعف بعد القوة، والذلة بعد العزة، والضعة بعد الرفعة.
وكلهم مجمعون على أنه لم يحل بهم ما حل من ضروب الهوان إلا لما طرأ عليهم من فساد الأخلاق والتهاون بأمر الدين، معتقدون أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم حسبما نطق به الكتاب العزيز.
ولكن ماذا تجدي الشكوى وما يغني التذمر إذا كان ذلك لا يتجاوز أطراف اللسان ولا يظهر منه إلا الثرثرة والشقشقة والإغراق في بيان سوء الحالة التي وصلنا إليها والتكهن بالنتائج الفظيعة المهلكة.
إنما الواجب على عقلاء المسلمين وعلمائهم وخاصتهم ومفكريهم أن يشخصوا الداء ويلتمسوا له الدواء الناجع وينهضوا بهذه الأمة إلى مستوى الأخلاق الفاضلة الكمالات الراقية ولا يتركوا وسيلة للوصول إلى هذه النتيجة السامية إلا استعملوها سواء كان بنصح الحكام ودلالتهم بالمعروف إلى طريق الخير ليسلكوها ومزالق الشر ليتجنبوها وحملهم على إزالة المنكرات الشرعية ومجازاة مرتكبيها أو بتأليف الجمعيات للوعظ والإرشاد وبيان ما طرأ على الدين من البدع التي كادت تشوه محاسنه وتضر بسمعته والحض على الاتفاق والوفاق ونبذ الشقاق وتوحيد المقاصد نحو ما يعلي شأن المسلمين في دينهم ودنياهم وأخلاقهم إلى غير ذلك.
من ينكر أن المسلمين أضحوا في فقر وفاقة وتأخر في جميع مقومات الحياة عن جميع الأمم الناهضة.
كانوا فيما سلف مثال الفضيلة والكمال والأخلاق العالية حتى تمكنوا في زمن غير طويل من القبض على أزمة أكثر الأمم في العالم فاطمئنوا لذلك وغفلوا عن تعهد ما به كانت رفعتهم وارتقاءهم وأهملوا واجبات دينهم فأخذهم الله بذنوبهم.
فشا فيهم فساد الأخلاق فكثر الكذب وشاعت الخيانة وعم التحاقد والتباغض وتفرقت الكلمة وصارت منكرات الشرعغ القطعية من العادات المألوفة ولا رادع ولا زاجر.
أضحى المسلمون من الضعف على حالة تذوب لها القلوب أسفاً، تراهم فرقاً واشياعاً لا جامعة تضمهم ولا عصبية تؤلف بين قلوبهم جعلوا بأسهم بينهم والأمم من ورائهم تبتلعهم
لقمة بعد أخرى وأمراؤهم وخاصتهم ركنوا إلى السكوت في كسر بيوتهم لا يتأمرون بمعروف ولا يتنافسون بفضيلة.
وعليهم للأمة فروض يستغرق أداؤها أعمارهم وهم لا يؤدون منها شيئاً.
وإذا أنفقوا أموالهم فعلى اللهو واللعب والشهوات البهيمية لا يدخل في حسابها شيء يعود بالمنفعة على الأمة والملة.
إذا تذكر الإنسان ما حاق بالمسلمين في هذه السنوات الأخيرة من الرزايا والمصائب ثم رأى أنهم لا يزالون أحزاباً وشيعاً يتنافسون على غاياتهم وشهواتهم ويضحون في سبيل ذلك مصلحة الوطن واستقلاله لا يكاد يصدق أن هذا العالم من نسل أجدادهم العظام الذين كانوا يضحون كل مرتخص وغال من مصالحهم وأموالهم وأرواحهم في سبيل حفظ الدين وسلامة الوطن وذود الأغيار عنه.
أعلنت دول البلقان الحرب على دولة الخلافة الإسلامية ظلماً وعدواناً وهي الدول التي بقيت زمناً طويلاً تحت رعاية الدولة العلية إلى أن نالت استقلالها التام تدريجياً وآخر ذلك كان عقيب إعلان الدستور منذ أربعة أعوام حيث رفعت بلغاريا سيادة الدولة العلية عنها.
كان بين هذه الدول الصغيرة من الاختلاف لشدة تنافسها وتحاسدها ولتغايرها في الجنس واللغة فما زال يتقرب بعضها من بعض بسعي كبارهم وزعمائهم إلى أن عقدت الاتفاق على إضرام نار هذه الحرب الضروس الذين يريدون بها التهام قسم عظيم من أملاكنا.
قلنا لما أعلن الحرب أن اتفاق هذه الدول مع ما قدمناه من وجوه الاختلاف بينهن سيكون أكبر باعث لنا على نبذ كل خلاف وتحزب ونسيان كل عداوة وشحناء والاجتماع يداً واحدة على قهر تلك الذئاب المفترسة.
أليس نحن أحق بالاتفاق منهم؟ أليس ديننا واحداً؟ أليس وطننا واحداً؟ أليس خليفتنا واحداً؟ ألا يقول كتابنا الكريم (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ألم يمتن الله علينا في محكم كتابه بقوله: (واذكروا إذ كنتم أعداء فآلف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا).
أعلن الحرب والأمة على مثل اليقين من أن هذه الحرب ستكون رافعة لشأننا مثبتة لعظمتنا لأن هذه الدويلات لا تجمع من الجنود مقدار ما تجمع دولتنا العلية فضلاً عن الصفات المعنوية التي امتاز بها الجندي العثماني في ميدان الكفاح فإنه ممتاز بالشجاعة والنجدة
والشهامة.
فما زالت تعمل الغايات وتحوم حولها مصالح الأحزاب حتى دخل العدو أرضنا واستولى على كثير من مدننا. فاللهم ألهم خاصنتا وأمراءنا أن يعرفوا أنهم مدينون بحقوق عظيمة للأمة وأن يقتصدوا في حب الذات فلا يحتقروا في سبيل هذه المحبة كل ما تتنافس أصحاب العقول المستنيرة في الحصول عليه.
وعليهم أن يعلموا أن لهذا اليوم ما بعده فليس ثمة إلا الحياة أو الفناء فإن لم نتناس الأحقاد والضغائن ونستعين جميعاً بالله على حماية أوطانا وحفظ ذمارنا وصيانة استقلالنا حق علينا كلمة الفناء والعياذ بالله تعالى.
أيحسن بالمسلمين الذين جعلهم الله خير أمة أخرجت للناس وكانوا في جميع أدوار حياتهم آية في الشهامة والمروءة والشجاعة حتى كانوا ينصرون بالرعب يقذفه الله في قلوب أعدائهم فينهزمون بجيش الرهبة قبل أن يشيموا لمعان الأسنة وبريق السيوف.
أيليق بهم وتلك صفاتهم أن تلين قناتهم وتخضد شوكتهم وتصير أعداؤهم على أبواب عاصمة خلافتهم وهم على ما هم عليه من تفرق الكلمة وفساد الأخلاق والاشتغال بالخصوصيات.
أما آن لهم أن يتوبوا من ذنبهم ويرجعوا إلى ربهم ويتناسوا أحقادهم؟ ويجتمعوا على ما فيه مصلحتهم وحفظ دينهم ووطنهم واستقلالهم ليبرهنوا على أنهم نسل أولئك الأسلاف الذين تطأطيء لهم الرؤوس إجلالاً كلما ذكرت أعمالهم الجليلة وآثارهم الباقية.
اللهم خذ بيد هذه الأمة إلى ما فيه صلاحها واصرف عنها كيد الكافرين إنك بالمؤمنين لطيف رحيم.