الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دليل نبوة سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم
من مقال للكاتب الشهير محمد قريد بك وجدي
قال كارلايل الفيلسوف الإنكليزي الشهير الذي يعد أكبر الإنكليز بعد شكسبير (توفي سنة 1881) م قال في إقامة الدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه الأبطال وديانة الأبطال ما معناه:
(لو جاءك رجل فادعى لك أنه بناءً فماذا تطلب من الأدلة على زعمه ذلك أكثر من أن بيني ذلك بيتاً مشيد الدعائم ثابت الأركان. ثم ماذا كنت قائلاً لو بني ذلك البيت من السعة بحيث يسع نحو مائة وثلاثين مليوناً من الأنفس ويعيش جديداً متيناً نحو ثلاثة عشر قرناً) هذا المثل نضربه لمحمد النبي العربي الذي قال أنه نبي ثم قرن مقالته هذه بتأسيس دين متين دخل فيه الناس أفواجاً ومازالوا متمسكين به اليوم تمسكاً لا يوجد له نظير في الأمم الأخرى. فإن زعم زاعم بان ذلك دين باطل فنجيبه بأن الباطل مثله كمثل أوراق البنك الزائفة تمر من يد ويدين ولكنها لا تكاد تمر في اليد الثالثة حتى تضبط وتعرف أنها زائفة فلا يقع في أحبولتها أحد هكذا عهدنا حال الأباطيل في هذا النوع الإنساني. وهذا الإسلام قد مضى عليه كل هذا الزمان وتولته رجال من كبار العقول أحقابا بعد أحقاب ولم يزل موضع الإجلال والإعظام إلى اليوم. أليس في هذا ما يدل على أنه حق؟
هذا معنى قول (كارلايل) في الفصل الذي خصصه للنبي صلى الله عليه وسلم من كتابه ذلك وهو قول جدير بالروية لمن ألقى السمع وهو شهيد. كل الناس يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم ظهر في أمة العرب وحده معلناً قومه بأنه أرسل إلى الناس كافة بدين الله الذي هو الإسلام دين الفطرة وكل الناس يعلمون أنه أوذي واضطهد هو ومن تبعه نحواً من ثلاثة عشرة سنة بمكة ثم هاجر إلى المدينة وهناك وجد أنصاراً قاتل بهم من قاتلهم حتى خضد شوكتهم وثلم حدهم وانتهى الأمر بجزيرة العرب كلها إلى الإسلام.
وكل الناس يعلمون أنه كان وهو صاحب الكلمة العليا ومالك ناصية الأمة بحذافيرها الزهد والعبودية والبعد عن حطام الدنيا كما كان أيام كانوا يرمونه بالحجارة ويستهزؤن به في النوادي. وكل الناس يعلمون أنه لما اشتد أذى الكافرين وثقلت وطأتهم على المؤمنين حتى
كان الرجل لا يعبد الله وهو مطمئن. أنزل الله على رسوله قوله تعالى (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم آمناً يعبدونني لايشركون بي شيئاً) وكل الناس يعلمون أن هذا الوعد الإلهي تحقق وصار العرب خلفاء الأرض وبلغوا من الملك ما لم تبلغه أمة قبلهم. هذه حادثة اجتماعية تحتاج إلى تعليل مقبول تطمئن إليه النفس وليس أمامنا إلا أحد فرضين وهما إما التسليم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله حقيقة أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وقد أنجز وعده ونصر عبده وأعز جنده وإما فرض أنه ليس برسول وأنه وصل إلى ما وصل إليه بالتدبير وحسن السياسة. إن مال مائل إلى الفرض الثاني ناقشناه المسألة وقلنا ينبني على أنه ليس برسول جملة أمور (أولاً) أنه مدعي النبوة كذباً (ثانياً) أنه تظاهر بما كان متصفاً به من الأخلاق والعبادة رياءً وانه استطاع أن يثبت على هذا الرياء طول حياته (ثالثاً) أنه استطاع أن يخفي حاله ذلك على كل أحد حتى أخص أصحابه وأخص نسائه (رابعاً) أن الله أيده ونصره وجعل كلمته العليا مع اتصافه بهذا الحال (خامساً) أنه مع اتصافه بهذا الحال أتى بعمل فاق كل المرسلين فإنه ليس في تاريخ الأنبياء انقلاب نشأ من بعثته رسول كالانقلاب الذي أحدثته البعثة المحمدية (سادساً) أن الأمة العربية من الغباوة بالمكان الأسفل (سابعاً) أنه مدع لكنه أتى بما أتى به المرسلون من الكمالات - لنفحص هذه الوجوه السبعة وجهاً وجهاً فنقول: أما فرض ادعائه النبوة كذباً فلا يثبت أمام النقد. لأن النبوة أمر خطير وشأن جليل لا يقدم على ادعائه زوراًَ وبهتاناً إلا رجل مطبوع القلب فاسد الفطرة سيء النية جريء على الله ومن كان كذلك كان حياته سلسلة جرائم وشبكة مآثم بعيدة عن الخير في كافة وجوهها مصروفة عن الفضيلة بسائر ضروبها فهل كان محمد صلى الله عليه وسلم في باكورة حياته من هذا الصنف من الناس أما شهد تاريخه بأنه كان من مكارم الأخلاق وطهارة الخلال قبل النبوة بحيث سماه معاصروه بالأمين لم تحفظ عليه جريمة ولم تعرف عنه خصلة ذميمة: ومن كانت حياته الأولى طهراً وصفاته غراً فكيف ينقلب بعد الأربعين إلى ضدها أو ترتكس طبيعته إلى نقيضها هل تبدلت سنة الخليقة، هل تحولت نواميس الطبيعة.
أما فرض أنه كان متظاهراً بتلك الخلال الكريمة والصفات القويمة رياءً فأوهى أمام الامتحان من الفرض الأول. لأن الرياء صفة النفوس المنحطة وديدن أصحاب القلوب الخوارة وهي خصلة عالية وصبغة ظاهرية إن استترت حيناً انكشفت بعده لا محالة بطبيعتها لأن الرياء لما كان حبالة لصيد أو وسيلة لكيد فهو ثوب مستعار تنفعل له النفس انفعالاً ما دام فيها أمل للوصول إليه ويكون شأنه كشأن سائر الصفات العارية من التلاشي أمام العوارض الفجائية والزوال أمام المخاوف الطاءرة! فصاحب هذا الحال يكون دائماً مضطرباً مذبذباً يكاد يظن أن نفسه تنم عليه! ثم إن حوادث الحياة وطوارق الحدثان وماجريات الأحوال كاشفات للغش فاضحات للتدليس فلا تجد مرائياً بالزهد أو بالشجاعة أو بالكرم إلا وقد فضح أشنع فضيحة أمام الناس لا سيما إن كان متعرضاً للحوادث يعالجها أو متصدياً للخلائق يكافحها! ومن أبعد الفروض عن العقل أن يدعي مدع إمكان الثبات على مثل هذا الرياء حياة بأكملها لأن المراآة لا تكون إلا نيل غرض فإن حصل ذلك الغرض عاجلاً أو آجلاً ضعفت المراآة وشفت عما وراءها من التمويه لأن نفس المرائي لا تكون عادة إلا نفساً منحطة سافلة يستطيرها بارق الأمل ويزدهيبها ظاهر النجاح فتفتضح سنة الله في خلقه ليتميز الحق من الباطل.
أما الفرض الثالث وهو أنه استطاع أن يكتم رياءه على أخص أصحابه ونسائه. فهذا الفرض أضعف أمام التمحيص من سابقيه لأن تاريخه دلنا أن كل صاحب أصحابه مثله فمن كانوا من أصحاب التدليس يكون لهم أخصاء على شاكلتهم يعاونونهم على نيل بغيتهم ويشاطرونهم المغنم من فضلتهم وقد دل تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أخص أصحابه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كانوا على شاكلته من الزهد في الدنيا والبعد عن زخارفها وقد تولوا الخلافة بعده بانتخاب الأمة لهم فلم تفتنهم السلطة ولم تستخفهم أبهة الملك وما كانوا إلا خدماً لمن تولوا شأنهم يلبسون أقل مما يلبسون ويأكلون أدنى مما يأكلون، يبيتون ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً. وها هن أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين كن أمثلة كمال وفضيلة وعلى غاية من الزهد والصلاح حتى لحقن به طاهرات تقيات فما هذا الرياء الذي يبلغ هذا المبلغ وما هي الفضيلة بعد ذلك؟.
أما فرض أن الله أيده ونصره مع اتصافه بهذه الصفات فهو أوهن من كل الوجوه التي
مرت! ومتى عهد أن الله يؤيد المرائين المفترين ويمكنهم من التسلط على قلوب العالم عامتهم وخاصتهم لا سيما وهم منتحلون لقب النبوة وواسمون أنفسهم بسيماء الرسالة وهي أكبر حوادث الوجود الإنساني خطارة. إذا ساغ لإنسان أن يفرض هذا الفرض فقد اتهم عدالة الله تهمة يستوجب عليها التعزير الكبير وأساء النظر في النواميس الاجتماعية كل الإساءة ودل على مقدار غفلته عن نظام الكون ونظام التهيئات الاجتماعية وإذا ساغ لأحد أن يفرض هذا الفرض فقد شك في سائر الديانات لأن الخالق إن أيد الباطل لهذه الدرجة فلا يبعد أن تكون سائر الديانات السابقة باطلة ولكن المعروف من رحمة الله ومن أحوال الكون بما لا شبهة معه أن الله عدو المبطلين المفترين وأن ملائكته والوجود وما فيه أعداء ألداء لهم بل أن نظام الكون وما أودع الله فيه من علائق مرتبة بين العلل والمعلولات وبين الأسباب والمسببات يأبى أن ينجح المبطلون أو يفوز المفترون والمدلسون! ذلك لأن التدليس والافتراء وما شاكلهما صفات منحطة لا تناسب إلا النفوس الساقطة ولا يمكن أن تكون النفوس الساقطة طليعة للانقلابات المرقية بوجه من الوجوه!
وقد نقل المسيحيون فيما نقلوه من أقوال عيسى عليه السلام في الإنجيل أنه لما قال لهم سيظهر بعدي أنبياء كذبة فاحذروهم - أن بعضهم سأله بأي علامة نميزهم فقال علامتهم أن الله لا يؤيدهم فما قولك فيمن أيده الله ونصره وأعلا كلمته وأظهر دينه على الدين كله؟.
أما فرض أنه مع اتصافه بذلك يأتي بأعمال تفوق ما عمله المرسلون فعجيب جداً لأنه لو تجاسر إنسان وفرض أن الله ربما ساعد المفترين المدلسين فهل يعقل أن يساعدهم حتى يأتوا بما يفوقون به سائر الأنبياء والمرسلين. وهذا هو التاريخ أمامنا ناطق بأن ما أتاه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في مدى ثلاث وعشرين سنة من أول رسالته إلى يوم وفاته من هدم الوثنية من جزيرة العرب بأسرها وتأسيس أمة حية ركينة الرابطة قامت بأجل عمل في العالم مما لم يتسن مثله لأي رسول سابق فهل يتصور أن الله يأخذ بيد المفترين حتى يعلو بهم على الأنبياء والمرسلين.
متى عهدنا أن الله تعالى يعلي شأن الرذيلة ويحط قدر الفضيلة بل متى عهدنا أن الله يرفع التدليس على النبوة.
أما فرض أن الأمة كانت من الغباوة بالمكان الأسفل حتى راج فيها كل هذا التدليس فمن
الفروض الساذجة فإن التاريخ دلنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بين ظهراني مكة نحواً من ثلاث عشرة سنة وهو يدعوهم إلى الله فلم يقبل الدعوة منهم إلا نفل قليلون وكان الباقون من تسلط الشك عليه بحيث يقولون كما حكى الله عنهم (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا) إلى قوله عز اسمه (أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه) الآية، وقد كانوا من شدة الشكيمة والبعد عن العقيدة وتمكن الشك من قلوبهم بحيث قال الله عنهم (ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون).
أما الفرض السادس وهو أنه مدعٍ وجاء بما جاء به النبيون من الكمالات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة العبادات فمن الفروض التي لا تثبت أمام النقد فإنه قلب لسنة الكون. إذ كيف يفرض أنه مفتر ثم ينتظر منه الإتيان بشريعة تعد أعدل شريعة ظهرت في الوجود لاشتمالها على أصول العدالة واحتوائها على روح القسط. متى عهدنا القلوب السافلة والنفوس المنحطة مصدراً لأمثال الشرائع الكاملة والقوانين الفاضلة التي ترقي الأمم وتحفظ كيانها.
هذه فروض يقتضيها زعم من يتجاسر فيزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول وقد أريناك مكانها من العلم فلم يبق أمامنا إلا الفرض الأول وهو أنه رسول رب العالمين وإمام الأنبياء الصالحين وخاتم رسل الله المخلصين وأنه أرسل رحمة للعالمين، بكتاب من عند الله مبين سيكون كتاب الناس أجمعين ولتعلمن نبأه بعد حين.
(فريد وجدي)