المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لا حياة لنا ما دمنا واثقين بأوروبا - مجلة الحقائق - جـ ٢٣

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌لا حياة لنا ما دمنا واثقين بأوروبا

‌لا حياة لنا ما دمنا واثقين بأوروبا

علم الناس أجمع خبر ذلك الحادث المؤلم الذي بوغتت به دولتنا العلية ونعني به إعلان حكومات البلقان الحرب عليها، تلك الحكومات الصغيرة التي لا تبلغ نفوسها العشرة ملايين والتي كانت منذ نيف وثلاثين سنة من جملة ولايات الدولة العلية كما سبق بيانه فما زالت تسعى وتدأب وأوربا من ورائها ظهيرة حتى نالت استقلالها ثم قامت اليوم متفقة تجمع الجموع لمناوأتنا، وتحشد الجيوش لمحاربتنا.

قامت الحرب على ساق وقدم، واشتد لهيبها، وتطاير شررها، واهتزت لها الأرض ومادت، وأصبحت الأمة العثمانية بأسرها مضطربة لهذا الخطر المدلهم تود أن تبذل آخر نقطة من دمها في سبيل المحافظة على شرفها ومركز حكومتها - وكثير من رجالنا يطمعون الناس برحمة أوروبا، وينتظرون رأفتها وعدلها.

لا يخجل أحدهم يوم يتشدق أمام فئة من أترابه بقوله - أن أوروبا مرضعة الحكمة، محيية المدنية الأصلية، مهذبة طبائع البشر - ولا من قوله - لم يعرف إلى الآن ماذا تكون خطة الدول العظمى إزاء هذه الحركة ولا بد أن تنصفنا تلك الحكومات الكبيرة لما أن أفكار عقلائها استنارت بالعلم الصحيح فنشأت على حب الإنصاف والعدالة والرحمة بالإنسان أياًَ كان - بخ بخ ما أدهش هذه الأفكار هذه الأفكار السامية، والعقول الراجحة، وما أعجب هذا الصفاء القلبي وتلك الأفئدة الطاهرة التي حملتكم أيها الأقوام على حسن الظن برجال أوروبا والثقة والطمأنينة بأبنائها.

إن منشأ هذا الارتياح، ومصدر هذا الإخلاص هو غرامكم الشديد بحبهم، وخضوعكم لهم خضوع المرؤوس لرئيسه، والوليد لوليه، خضوعاً وغروراً سحراً قلوبكم وأبصاركم، وجعلاكم ترون كل ما يصدر عن أوروبا غاية في الحسن، ومحض خير لبني البشر.

ترون أن خطة الدول العظمى إزاء هذه الحركة ستكون مبنية على قاعدة الإنصاف والعدالة - ألم يبلغكم أن الدول العظمى أعلنت قبل نشوب الحرب أن هذه الحرب مهما كانت نتيجتها لا يمكن أن تحدث أقل تأثير في البلقان ولا أن تغير شيئاً من شكلها الحاضر. ولما أن ظهر شيء من نجاح البلقانيين أخذت تأول قرارها الأول وما زالت حتى سحقته بأقدامها وجعلته في خبر كان وقررت فيما بينها موافقة حكومات البلقان على جواز التبسط في الأراضي العثمانية بحجة أنه ليس لأحد أن يمنع ظافراً من ظفره ولا غانماً من غنيمته على

ص: 25

شرط أن لا يخل ذلك بمصالحهن هناك. فإلى متى هذا الاغترار بأوروبا؟ ومتى ينتهي هذا الغرور برجالها؟ ألم يكفكم أيها الأقوام أنكم انسلختم عن عاداتكم، وهجرتم ما كان عليه أباؤكم، وتطرفتم إلى الآداب الدينية فحاربتموها، وإلى العوائد الإسلامية فقاومتموها، وزعمتم أن أوروبا ملقنة الخلق معنى الإخاء والحرية والمساواة ليعاشروا بالمعروف ويقوم نظام اجتماعهم على تبادل المنافع حتى لا يبقى تمييز في الحقوق والواجبات بين المختلفين في المواليد والديانات لم يكفكم ذلك كله لم يكفكم تربعكم في المناصب وتهافتكم على الوظائف وإسرافكم في الملذات، وتبذخكم في الشهوات، ومحاربتكم المنافع العامة في سبيل منافعكم الخاصة حتى صبغتم أنفسكم وأولادكم بصبغة أفرنجية ثم أتيتم إلى الناس تسقونهم من خمر تلك المدنية الغريبة، وتكرهونهم على أن يربوا أولادهم بتربيتهم، ويأخذونهم بعوائدهم، ويعلمونهم علومهم ولغاتهم حتى ينشئوا وقد تمكنت من قلوبهم وأخلاقهم وأميالهم وأضحوا يظاهرونهم لاتحادهم معهم لغة وعادات وأفكار. إلى متى أيها الأقوام تثقون بأوروبا وتحمدونها وتزعمون أن رجالها هم محبو السلم، وناشروا لوائه وهم أرباب الأخلاق والغيرة ومثال الصدق والعفة. غركم منهم أنهم يجهرون بحب الإنسانية وخدمتها. أنسيتم أساطيلهم؟ أجهلتم مدافعهم؟ أغفلتم عن إعدادهم المعدات الحربية والطيارات الجوية؟ أحسبتم أن ذلك كائن للحيوانات العجم؟ أم للأحجار الصم؟ كلا والله ثم كلا لم يكن ذلك إلا لقتل الإنسانية ونحرها وصب البلاء والويلات عليها. ويل لكم أتصدقون رجال أوروبا بأنهم نصراء الإنسانية المظلومة إذاً فلم تقتل الأطفال الرضّع والشيوخ الركع والنساء العجز في طرابلس الغرب وأوروبا واقفة لا تتحرك، أتصدقون بأن رجال أوروبا يرفقون بالبائسين والمساكين إذاً فلم تذبح المسلمون في مراكش ويهان الأشراف والعلماء في تونس وتسجن الأبرياء في مصر وأوروبا صامتة لا تتكلم. أتصدقون بأن رجال أوروبا يعطفون على الضعفاء والعاجزين ويأخذون بيد العاثرين إذاً فلماذا تقف دوارعهم في جزيرة كريد لتحرس أبناءها وتحفظ رجالها ومسيحيو الكريديين يذبحون المسلمين في عقر دورهم وفي وسط بيوتهم وفي رواجهم وغدوهم وهم ينظرون إليهم ويتغاضون عن أعمالهم أتصدقون بأن رجال أوروبا أهل وفاء وصدق إذاً لماذا نقضوا أكثر المعاهدات التي جرت بينهم وبين حكومتنا العلية. هذه معاهدة باريز التي عقدت في 30 مارس سنة 1856 بعد أن وقع عليها

ص: 26

من طرف فرنسا وانكلترا وسردينيا وألمانيا والروسيا وأصبحت حبراً على ورق. فقد جاء في المادة الأولى منها ما نصه:

في يوم تاريخ الإمضاء بقبول هذه المعاهدة الحاضرة يكون صلح ومودة بين كل من إمبراطور الفرنسيس وملكة المملكة المتحدة في بريطانيا الكبرى وأرلاندا وملك سردينيا وسلطان الدولة العثمانية من جهة ومن إمبراطور جميع الروسيا من جهة أخرى وكذا بين ورثتهم وخلفائهم ودولهم ورعاياهم على الدوام.

وفي المادة الثالثة ما نصه:

قد تعهد إمبراطور جميع الروسيا بأن يرد لسلطان الدولة العثمانية مدينة قارص وقلعتها وكذا سائر المواضع التي استولت عليها عساكر الروسيا وهي من ملحقات بلاد الدولة العثمانية.

وفي المادة السابعة ما نصه:

قد صدر إعلان وتصريح من لدن إمبراطور الفرنسينس وإمبراطور أوستريا وملكة بريطانيا العظمة وأرلاندا وملك بروسيا وإمبراطور الروسيا وملك سردينيا بأن للباب العالي اشتراكاً في فوائد الحقوق الأوروباوية العامة وغي منافع اتفاق أوروبا وقد تعهدوا بأن يحترموا استقلال السلطنة التركية وإبقاها تامة وتكفلوا جميعاً بالمحافظة على هذا التعهد وكل أمر يفضي إلى الإخلال بذلك يعتبرونه من المسائل التي يبنى عليها مصلحة عامة.

وفي المادة الثامنة ما نصه:

إذا حدث بين الباب العالي وإحدى الدول المتعاهدة خلاف خيف منه على اختلال الفهم وقطع صلتهم فمن قبل أن يعمد الباب وتلك الدولة المنازعة له إلى أعمال القوة والجبر بقيمان الدول الأخرى الداخلة في المعاهدة وسطاء بينهما منعاً لما يتأتى على ذلك الخلاف من الضرر.

وفي المادة التاسعة ما نصه:

سلطان الدولة العثمانية بخير رعاياه جميعاً قد تفضل بإصدار منشور غايته إصلاح ذات بينهم وتحسين أحوالهم بقطع النظر عن اختلافهم في الأديان والجنس وأخذ من ذمته مقصده الخيري نحو النصارى القاطنين في بلاده وحيث كان من رغبته أن يبدي الآن شهادة جديدة

ص: 27

على نيته في ذلك عزم على أن يطالع الدول المتعاهدة بذلك المنشور الصادر عن طيب نفس منه فتتلقى الدول المشار إليها هذه المطالعة بتأكيد مالها من النفع والفائدة ولكن المفهوم منها صريحاً أنها لا توجب حقاً لهذه الدول في أي حال كان على أن تتعرض كلاً أو بعضاً لما يتعلق بالسلطان ورعاياه أو بإدارة سلطنته الداخلية. فأين هذا مما نحن فيه؟ أين قولهم - ولكن المفهوم صريحاً أنها لا توجب حقاً لهذه الدول الخ في ادعائهم الحق الصريح الثابت في المداخلة عند سنوح كل فرصة؟ أين قولهم بأنهم يحترمون استقلال السلطنة وإبقاءها تامة وبأنهم تكفلوا جميعاً بالمحافظة على هذا التعهد الخ من اتفاقهم على الدولة وتغاضيهم بل مساعدتهم كل من يريد إيصال السوء إليها؟.

كل هذا يفعله رجال أوروبا خدمة للإنسانية، وطلباً لسلامة أملاك الدولة، فيطلبون كما قال أحد رصفائنا من الدولة أن تجري الإصلاحات في الداخلية لأجل سلامة أملاكها ويطلبون منها أن تمنح مقدونيا الاستقلال لأجل سلامة أملاكها. ويطلبون منها أن تعطي طرابلس الغرب لإيطاليا لأجل سلامة أملاكها. ويطلبون منها أن تجعل علىمقدونيا حاكماً مسيحياً لأجل سلامة أملاكها. ويطلبون منها أن ترضي حكومات البلقان لأجل سلامة أملاكها. ويطلبون منها أن تجعل مقدونيا تحت مراقبة أوروبية لأجل سلامة أملاكها، ويودن إخراجها من أوروبا لأجل سلامة أملاكها بل يتمنون زوالها بتاتاً لأجل سلامة أملاكها فبعد هذا أيها الأقوام تحبون أن نثق بأمانة أوروبا وصداقتها لدولتنا؟ أيسركم أن نعتقد أن أوروبا مهذبة العالم وما نحته المساواة يرضيكم أن نتربى بتربيتهم ونتزيا بأزيائهم ونتهافت على تعلم لغاتهم حتى نذوق طعم الحياة ونعرف معنى التمدنالويل كل الويل لنا إذاً.

إن ما عرف من أخلاقهم وغدرهم وختلهم لم يعرف قط في زمن من الأزمان لم يعرف ولا بأيام الجاهلية الجهلاء لم يعرف بقرن من القرون الماضية وهم مع كل هذا يرموننا بالتعصب والهمجية، بأنا أهل حرب لا نحب السلم بأنا نقتل الإنسانية ونفتك بأبنائها بأنا. . بأنا. . إلى آخر ما يزعمون ونهاية ما يدعون ولكن هو الطمع والجشع والهمجية والوحشية والتعصب الأعمى والأخلاق الذميمة. نقول التعصب الأعمى ولا نبالي لاعتقادنا بأن بعض ما تفعله أوروبا وتتغاضى عنه من إذلال المسلمين وإهانتهم وظلمهم واضطهادهم ليس مما يأمر به الدين المسيحي بل هو مناف للأديان السماوية تمام المنافاة لا يلتئم معها بحال. غلا

ص: 28

فليعلم أولئك الزعانف أن خروجهم على الشرائع ومخالفتهم لما جاءت به الأديان، وجشعهم وطمعهم وظلمهم وجورهم وتعصبهم وحقدهم وقساوة قلوبهم وسفكهم لدماء الأبرياء - لمما يوجب عليهم السخط والمقت من الإله القادر الحكيم وهو مما ينزع هذه القوة من أيديهم ويديل دولتهم ويجعل الدائرة عليهم. وهو أيضاً مما يوجب فرح الدولة وعامة رعاياها لأن بعد العسر اليسر وعقب الشدة الفرج. ولا بد أن ينتبه المسلمون من غفلتهم وينزعوا حب أوروبا من قلوبهم ويبرؤا إلى الله من الثقة بها ويعلموا أنه لاينفعهم إلا عملهم ولا يرفع ذكرهم إلا اجتهادهم ويجعل آمرهم ومأمورهم وحاكمهم ومحكومهم وغنيهم وفقيرهم وصغيرهم وكبيرهم نصب عينيه قول الله تعالى:(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) فيلبوا داعي الحكومة كلما دعاهم إلى مساعدتها ويعملوا يداً واحدة على معاضدتهم ومؤازرتها.

وفي الختام نكرر ما ذكرناه ونجهر بما قدمناه وهو أنه لا حياة لنا ما دمنا واثقين بأوروبا. فيجب أن ننزع ثقتنا بهم ونمتثل قول الله تعالى بإعداد ما استطعنا لهم من قوة وننبذ التفرنج في اللباس والمتاع والكلام وسائر الأعمال كبيرنا وصغيرنا وآمرنا ومأمورنا في ذلك سواء وحينئذ ينقلب شكل هيئتنا من شكل أوروبي إلى شكل إسلامي فنفلح وننجح ونتقدم ونربح ونعيد لبلادنا مجدها السابق وعزها الغابر. والله الفعال لما يختار.

ص: 29