الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطلبة والتعيش
من القضايا المسلمة التي لا تحتاج إلى مقدمات تبينها. ولا إلى دلائل تثبتها أن العلم حياة الأمم وأنه كلما ازدادت الأمة علماً ازدادت حياة ورقيا. وكلما انتشر الجهل بين أفرادها ازدادت اضمحلالاً وأصبحت على وشك السقوط بين يدي أعداءها. ومن ثم جعل أهل الخير وأصحاب العقول الكبيرة يشيدون المدارس ويعمرونها بالأوقاف لتصرف على إطعام طلبة العلوم وحاجاتهم. وأخذت الحكومات ترغب الناس في طلب العلم بتمييز طالب العلم عن غيره. وما ذلك إلا لجلب الناس إلى العلم. لأن النفوس في الغالب ميالة إلى الانتفاع بأعمالها دنيوياً. وقد سلكت هذا السبيل دولتنا العلية أيدها الله بروح منه فجعلت طالب العلم الديني معفواً من دخول الجندية التي هي من أشرف الوظائف ليتفرغ للعلم الذي هو ضالة الشعوب ونهاج السعادة. وشرطت عليه أن يؤدي الامتحان بعلوم الصرف والنحو والمنطق مدة ست سنوات بحضور هيئة من أهل العلم ورجال الحكومة. ولكنها لم تكتف بأداء الامتحان بل اشترطت ملازمة الطالب للمدرسة آناء الليل وأطراف النهار. مع أنها لو اكتفت بالشرط الأول وهو أداء الامتحان لأحسنت صنعاً. لأن الشرط الثاني وهو الملازمة للمدرسة وإن كان يعقل بالنسبة إلى وقت وضعه يوم كانت المدارس عامرة بالأوقاف التي تصرف على الطلبة ورواتبهم ولكن لا يعقل الآن لأن أوقاف المدارس قد درست واختلسها من لا أخلاق لهم ولا ذمة. فكان من الواجب إلغاء الشرط الثاني أو تعيين رواتب لهم تقوم بأود حياتهم وإلا أفضى الأمر بطالب العلم إلى أن يقعد في المدرسة يتسول الناس أو يترك طلب العلم بتاتاً وهذا مما يضعف العلم الذي يراد شيوعه وكثرته.
هل تتصور الحكومة أن طالب العلم من الملائكة فيكون طعامه وشرابه التسبيح. أم لا ترى عاراً أن يكون طلاب العلم ورجال الدين عالة على الناس فيما يحتاجون إليه من طعامهم ولباسهم وأداة دروسهم. أم ماذا؟
هنا يقف الإنسان مذهولاً خصوصاً حينما يسمع من بيده أمر الطلبة يضيق عليهم ويتشبث بأنه لا يجوز للطالب أن يحترف بصناعة أو تجارة أو كسب ما من أنواع الاكتساب المباح في الشرع. على أننا لو قطعنا النظر عن هذه الأمور كلها ورجعنا إلى السلف الصالح من العلماء الذين ملأوا طباق الأرض علوماً لوجدناهم كانوا يشتغلون بحرف متنوعة.
هذا أبو حنيفة رضي الله عنه كان خزازاً يبيع الخز ويتجر به. ولم يقطعه اكتسابه عن
التزود بالعلم والتبسط فيه. ومن يضارع أبا حنيفة رضي الله عنه في علمه وهو من كبار أئمة المذاهب الذين هم قدوة المسلمين في أقطار الأرض فنلفت أنظار من بيدهم الأمر إلى تلافي هذا الخرق. فإن الأمة في احتياج إلى علماء ترشدهم وتهذبهم وتزيدهم تعلقاً بعرش الخلافة العظمى أيدها الله وإلا فمن ينوب عن العلماء في هذا الأمر. وهل من الحكمة أن يعامل طالبو العلوم العصرية بأنواع الامتيازات فيعفوا من الخدمة العسكرية كما يعفى طالبوا العلوم الدينية مع تعيين معلمين لهم وصرف المبالغ الطائلة عليهم ولهم غاية يطلبونها وهي الاستيلاء على وظائف الحكومة والتنعم بلذائذ الحكم وتقاضي الرواتب. هل من الإنصاف أن تخصص الملايين من الليرات لنظارة المعارف ويترك طالبو العلوم الدينية بهذه الحال التي يرثى لها كل عاقل. أفيدونا بماذا ينتفع طالب العلم الديني عن علمه دنيوياً؟ هل جعلوا له وظائف يتولاها حين انتهائه من الطلب كما يعامل طلاب العلوم العصرية المكتبية؟ أم له مرتبات من قبل الحكومة؟ أم يحترمه الشعب احتراماً زائداً عن غيره؟ كلا لم يكن شيء من ذلك. بلى قد وجد في هذه الفئة الباغية الذين يسمون أنفسهم مصلحين من جعل ديدنه سب أهل العلم وقذفهم على مرأى من الناس والحكومة ومسمع ولا من ينتصر لهم أو يهتم لأمورهم. إذاً علام نضيق عليهم؟ وإلى م نضطهدهم؟ ألزوم أن ننفرهم عن الطلب حتى تحرم هذه الأمة من علماء يرشدونها إلى ما فيه صلاحها وفلاحها؟ أيقصد ازدياد الأمة في الجهالة وقد أضحى أفرادها كالغنم في الليلة المستطيرة؟ رباه إنك شاهد على ما يصنعون؟ ماذا على طالب العلم لو اشتغل بصناعة أو تجارة ليسد خلته؟ ويعيل عيلته. ويقوم بحاجاتهم ويغنيهم عن الناس ثم هو مع ذلك يطلب العلم ويكب على التحصيل ويتعلم ويعلم في البكور والمساء. وهو مستعد كل لحظة أن يؤدي الامتحان بالعلوم التي تطلب منه. ربما يقال أن ما تقدم من ضرورة الاكتساب ثابتة للفقير دون الغني لأن الغني في غنى عن الاشتغال بحرفة أو تجارة بما لديه من الأموال قلنا لا يخلو إما أن يكون الطالب غنياً بغنى والده أو بنفسه فإن كان الأول وهو الأكثر فلا يليق بشرف طالب العلم أن يكون كلا على أحد ولو كان والده. على أن الحكومة لا تجبر الوالد على القيام بنفقة ولده إذا كان طالب علم. فلا ملام عليه إذا اكتسب لنفسه وإن كان الثاني فلم نمنعه إذا كان يريد أن يشتغل بما أحله الله له مع عدم التقصير فيما يطلب منه. فعلم مما قدمناه أن
منع الطالب من الاكتساب لا يعود بالفائدة التي يطلبها محبو العلم. فإن قالوا أننا إذا وسعنا على الطالب وجوزنا له الاكتساب فمن يكفل لنا أن يداوم على الاشتغال بالعلم. قلنا يلزم بدلاً من أن نحقق أن الطالب موجود في المدرسة أم لا فلنحقق أهو مشتغل بالعلم أم منقطع فإن تبين لنا أنه منقطع عن الطلب طالبناه بتأدية الامتحان فإن قام بذلك دل على أنه مستمر على الطلب وإلا أُخذ جندياً غير مأسوف عليه لأنه لم ينفع الناس بعلمه فلأن ينفع الحكومة بعمله أو ماله أولى.
على أننا لو رجعنا إلى الحق الذي لا شائبة فيه نجد أن هذا الأمر خير من ملازمة المدرسة فإننا نرى كثيراً ممن يلازمون المدرسة ليل نهار لا يتعلمون العلم لعدم تأهلهم للعلم بما جبلوا عليه من بلادة الطبع وسقم الذهن. وهناك أمور أخرى جديرة بالاعتبار وهي أن يعدل قانون الامتحان فيزاد فيه علوم أخرى ضرورية لطالب العلم وهم يهملونها لعلمهم بأنهم لا يسألون عنها. وهي علم الفقه والأخلاق الذين هما مدار السعادتين. وبهما يصبح العالم مقبولاً عند العامة مسموع الكلمة نافذ الحكم فيتحقق النفع به لأن العلوم الموضوعة للامتحان هي وسائ \ ل ومبادئ لهذه العلوم. وهذا ما أردنا أن نذكر به أولياء الأمور حباً بنجاح العلم. وترقي المسلمين. وفق الله الحكومة لما فيه فلاح المسلمين.
صلاح الدين الزعيم