المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الإسلام بين السيف والنار والمسلمون بين شقي ‌ ‌الرحى لو أن ابن الأثير - مجلة الحقائق - جـ ٢٤

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌ ‌الإسلام بين السيف والنار والمسلمون بين شقي ‌ ‌الرحى لو أن ابن الأثير

‌الإسلام بين السيف والنار والمسلمون بين شقي

‌الرحى

لو أن ابن الأثير بعث من مرقده وطيف به في تلك المدائن التي أصبح الإسلام فيها غريباً وهي ديارة وواحش فيها وهي حرمه وذماره، وأخذ فيها بالسيف يمنة والنار يسرة ثم أريد على وصف ما رأى لآثر أن يقصف قلمه على أن يعيد نعي الإسلام للمسلمين.

ولو أنه جال في تلك المواطن التي أمست بعد نضرة النعيم رسماً محيلاً ووقف غبها يكلم أحجارها فتكلمه، ويسئل عن ملاعبها ماذا دهاها فتعلمه، وأبصر هناك بالعدو وهو يجعل آلافاً من المسلمين بين شقي الرحى ثم يديرها طاحنة ويغلف الآلاف منهم على ما في أيديهم ويجلي من طالت لشقوتهم آجالهم عن بلاد من تربتها نبتوا وفي ظلها رتعوا وبخيرها نعموا، وسئل بعدئذ أن يقضي حق التاريخ بكلمة لما زاد على أن ينعي المسلمين للإسلام.

ولو أنه علم ما يجترحه البلقانيون هنالك من المآثم وأبصر كيف يقتحمون خدور المسلمات بغياً، ويغتصبون عفافهن بغياً، ويرتعون في أعراضهن إزاء آبائهن وأزواجهن بغياً، وعلم كيف يبقرون بطون الأصبية الصغار في حجور آبائهم وكيف يعذبون أولئك ويمثلون بهم، وطلب منه أن يقول لاستحب البكم على البيان.

ولو اطلع على تلك المساجد التي عبث العدو بمحاريبها ومحاآليها وأتلف منابرها وحول قبلتها عن موضعها وهدم مآذنها وأحالها كنائس تغص بالقساوسة والرهابين ويسمع فيها الناقوس ولم يكن يسمع بها إلا التأذين، وخي بين يقول فيما شهدوا أن يذهب به وبين سمع الأرض وبصرها لآثر على الثانية الأولى.

من ذا الذي يطاوعه قلمه على وصف مشهد الآلاف من المسلمين والسيف يحصد رقابهم، ويفري إهابهم، والعدو يجوس خلال ديارهم عابثاً بأعراضهم ما أردا له حوله وطوله مذبحاً أطفالهم مستبيحاً عفاف بناتهم واطئاً بسنابك خيله مساجدهم محيلاً إياها على وجهتها؟

إنا لنجيل الفكر في أنباء تلك المآتم التي يرتكبها البلقانيون فنقرأ فيها خاتمة تاريخ الإسلام في الأندلس والتاريخ يعيد ذاته وما أشبه اليوم بالأمس فقد كان الكاستليون يرهقون المسلمين في بلادهم يذيقونهم النكال ضروباً مستعينين في ذلك بمحكمة التفتيش إذ كان كل مسيحي منهم قاضياً وكل مسلم مقضياً عليه بالموت إلا أن يهاجر ملته أو يهاجر بلاده إن

ص: 12

استطاع إلى هجرها سبيلا.

كانوا يعذبون المسلمين ويستحلون فيهم المحرم، ويستبيحون من عروضهم وأداتهم ومتاعهم وبيوتهم ما أرادوا ولا معقب لحكمهم، ولا أمر إلا أمرهم، ولا يد فوق يدهم، وقد صمت الإسماع عن صوت المسلمين فلا يسمع لهم شكاة وربما من عليهم بأنه المحزون.

أرادوا أن يفنوا المسلمين حتى لا يكون ثمت إلا جلدهم وملتهم وحدهما فاعملوا السيف فيهم بكل سبيل غير متقين لائمة من التاريخ، ولا غضبة من الأرض، ولا لعنة من السماء.

وقام البلقانيون في هذا الزمن النكد يمثلون تلك المأساة بعينها، ويفعلون بالمسلمين في بلادهم ما فعله أخوانهم بأخوانهم وأوربا جاثمة ساهية الطرف لا تحرك ساكناً وكأنها تطرب لما يصيب أولئك الذين تعذب الإنسانية في ذواتهم، وتكاد تميد الأرض جزعاً لما أصابهم في دينهم ووطنهم وحياتهم وأن مصابهم لكبير.

فهل أتى المسلمين حديث أخوانهم الذين أسرف العدو في تعذيبهم ومثل بهم لا وحاربهم في الدين، وهم أهل سلم ضعاف، لا حيلة لهم ولا حول.

هل أتاهم حديث أوصال هناك تمزق، واسلاء تفرق، ودماء على الثرى تتدفق، وهل انتهى إليه نبأ ذلك المأتم الذي لا انفضاض له أبد الدهر.

هل أتاهم أن أفخم المساجد في سالونيك قد بدلت معالمها وحولت عن وجهتها، فأصبح (مسجد إسماعيل) وهو كنيسة سنت كاترين (والمسجد ذو المنارتين) وهو كنيسة سنت ميشسل (ومسجد السلطان مراد) وهو كنيسة سنت داود وهل علموا أنه لم يعد لمن بقي من المسلمين في كل بلد فتحه أولئك الفجرة الطغام جامع يقيمون فيه الصلاة.

إلا أن تلك المساجد التي مسخوها، لتذكر أن عهد الحنيفية في تلك البلاد عهد وفق وسماحة ولين، وأنه أكرم على الله وخير أثر من عهدها الجديد.

فهل يذكر المسلمون الذين عرفوا ما ابتلي بهم أخوانهم، وكفوا ما نزل بهم، وأمنوا أن يراعوا بمثل مصابهم، أنه لا عاصم لهم من مثل ذلك المصير ولن يكونوا منه بمأمن، إلا أن يغيروا ما بأنفسهم ويردوها إلى ما حثهم عليه قرآنهم المبين من الاعتبار بالسنن الكونية، والاستكثار من أسباب القوة، وطلب العلا والسمو إلى تلك المكانة التي بلغوها حين كانوا أمة واحدة مجتمعة على هوى واحد؟

ص: 13

وهل لهم أن يحدبوا على أخوانهم الذين هاجروا بلادهم، وثكلوا أولادهم ويمدوهم بما يمسك عليهم الدماء ويسليهم عن خطبهم الجلل بعض السلوان؟

إنا لا ننعي على أوروبا أنها بإعراضها عن الانتصاف للإسلام ولو بكلمة حق تدل على شدة تعصبها عليه، وعلى أهليه فذلك ديدنها.

ولا نأخذها بأن صمتها عن انتهار أولئك المجرمين اللئام هو الذي مدهم في بغيهم، وزين لهم أن يمضوا في خيلائهم، ويسترسلوا في طغيانهم، فقد علمنا أنها لا ترفع عقيرتها إلا حيث تحلم أنه قد اعتدي على المسيحية أو مس أحد من المسيحيين بشيء من الأذى ولا نعتب ساستها فإن المجني عليهم اليوم مسلمون ولا نسألهم أن يقلعوا عن دعوى التنزه عن التعصب، إذ قد وضح أنهم هم المتعصبون.

ولكنا ندعو المسلمين إذا كانوا قد ألموا لدينهم وأخوانهم وكرامتهم أن يتدبروا أمرهم، ويأخذوا من حاضرهم لآتيهم، ويعتبروا بما نزل بطائفة منهم، ويعلموا أنهم لا نجاة لهم ولا بقيا عليهم إلا أن يأخذوا أخذ الأمم التي اعتزت بقوتها فإنهم بأن يملكوا تلك الحياة من طرفيها أحق، وبأن يجروا على ما أمرهم به كتابهم أولى، وإلا بقوا ما قدر لهم أن يبقوا وهم أهون على الناس منهم على أنفسهم وعاشوا غرضاً لسهام العوادي لا يعرفون من أي مأمن يؤتون. ولا من أي جهة يؤخذون وإن فيما نزل بهم اليوم من صنوف البلاء لألف عبرة لو كانوا يعتبرون.

(البلاغ)

مصر

محمد صادق عنبر

ص: 14