الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التاريخ
ننشر في هذا الباب سيرة كبار الرجال في الإسلام وشيئاً من فضائلهم وأخلاقهم وأعمالهم وسياستهم لما في ذلك من تحريك بواعث الهمم للاقتداء بهم في جلائل الأعمال وكرائم الخصال وليكون زاجراً لأولئك الذين يتغاضون عن مآثر رجال المسلمين ويفتخرون بحفظ تاريخ فلاسفة الغربيين
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
إجلاء أهل نجران من جزيرة العرب
بعد أن سار أبو عبيدة بن مسعود بجيشه إلى العراق لمقاتلة أهل فارس كما تقدم، أرسل سيدنا عمر رضي الله عنه يعلى ابن أمية إلى اليمن بجيش من المسلمين وأمره بإجلاء أهل نجران لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بأن لا يترك دينان بأرض العرب ولأنهم نقضوا ما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من المتاجرة بالربا وكان مما قاله عمر رضي الله عنه ليعلى أيتهم ولا تفتنهم عن دينهم، ثم أجلهم من أقام منهم على دينه، وأقرر المسلم، وامسح أرض كل من تجلي منهم ثم خيرهم البلدان، واعلمهم أننا نجليهم بأمر الله ورسوله أن لا يترك بجزيرة العرب دينان، فليخرجوا من أقام على دينه منهم ثم نعطيهم أرضاً كأرضهم إقراراً لهم بالحق على أنفسنا ووفاء بذمتهم فيما أمر الله من ذلك، الخ ثم عوضهم رضي الله عنه أرضاً كأرضهم وفاءً بذمتهم.
وهنا ندعو من يتهم المسلمين بعدم الوفاء بالعهود لأهل الذمة ليرجعوا إلى الحق وينظروا ما كان عليه المؤمنون من المحافظة على حقوق أهل الذمة والرأفة بهم ومعاملتهم بالعدل والرحمة يوم كان نفوذ المؤمنين في الكرة الأرضية في مكانة من العز ضجت أمام بأسها فراعنة الدنيا. ورغمت بها أنوف جبابرة العالم ودان لها أهل الشرك قاطبة حتى دفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون. . في أيام تلك القوة الإسلامية المنيعة. عوض عمر رضي الله عنه أهل نجران أرضاً كأرضهم التي أخرجهم منها وتركهم آمنين على دمائهم وأعراضهم وأموالهم عملاً بالشريعة الإسلامية السمحة التي أمرت بحفظ حقوق أهل الذمة والوفاء بما عوهدوا عليه ولو أراد سيدنا عمر يومئذ أن يستأصلهم من الأرض لما وجدوا ولياً ولا نصيرا.
لكن النفوس الإسلامية الكريمة التي أدبها القرآن بالكمال وحبب الإسلام إليها الصدق وكره إليها الغدر والخيانة قد حافظت على قوم ضعاف أذلاء وصدقت فيما عاهدتهم عليه.
ومن أمعن النظر علم أن هذه الكمالات كانت السبب في امتداد نفوذ المؤمنين في أنحاء الأرض وأنهم لو انحرفوا عن ذلك الخط السوي لما استقام لهم الأمر ولا وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الغايات الكمالية والقوة المادية والمعنوية ولذا يعتقد العاقل أن الأعداء الذين استولوا في هذه الأيام على كثير من بلاد الإسلام وفعلوا بأهلها ما فعلوا من ذبح الأطفال وهتك الأعراض وغير ذلك من الفظائع والمنكرات أن الدائرة تدور عليهم بحول الله وقوته فإنهم إذا طغوا وجاروا وظلموا وعاثوا في الأرض فساداً معتمدين على قوتهم فالله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وأعظم بطشاً ويأبى الله إلا أن ينصر المؤمنين مهما يكن فيهم من ضعف ولو كره الكافرون.
هزيمة جيوش فارس وأسر جابان وهو من أعظم قوادهم
اختلف أهل فارس فخافت بوران بنت كسرى وبعثت إلى رستم تستحثه للقدوم وهو على خراسان يومئذ فأقبل في الناس إلى المدائن. وأمرت بوران مرزابة فارس بالانقياد له فرضوا به وتوجوه عليهم واستعد هو وجيشه مع أهل فارس لقتال المسلمين.
ولما وصل المثنى الشيباني وأبو عبيد الثقفي ومن معهما إلى الحيرة كتب رستم إلى دهاقين السواد أن يثوروا بالمسلمين وبعث لذلك في كل قرية رجلاً فجعل جابان أميراً على جيش وسيره إلى فرات بادفلا وأرسل ترسى ابن خالة كسرى في جيش إلى أرض كسكر وبعث جنداً آخر لمصادمة المثنى وعلم المثنى بذلك فخرج من الحيرة حذراً منهم ونزل جابان بأرض النمارق ومعه جمع عظيم ثم سار إليه أبو عبيد بمن معه وجعل المثنى على الخيل فاقتتلوا بالنمارق قتالاً شديداً كانت نتيجته انهزام أهل فارس وأسر أميرهم جابان.
ثم لحق المنهزمون منهم بجيش نرسى ابن خالة كسرى واجتمع إليه سائر عسكر الفرس وبلغ بوران ورستم أسر جابان وانهزام جيشه فبعثا الجالينوس بمدد عظيم إلى نرسى فعاجلهم أبو عبيد وخرج إلى نرسى فاجتمع به عند كسكر بمكان يقال له السقاطية واشتد الأمر على المشركين فانهزموا وهرب أميرهم نرسى وغنم المؤمنون أرضهم وأموالهم وأسروا منهم كثيراً.
ووصل بعد ذلك الجالينوس بجيش عظيم من فارس فسار إليهم أبو عبيد فهزمهم أيضاً وهرب الجالينوس واستولى أبو عبيد على تلك البلاد ثم ارتحل حتى رجع إلى الحيرة.
وقعة الجسر
لما انهزم الجالينوس بمن معه رجعوا إلى رستم وأخبروه فجهز جيشاً أعظم من الأول وجعل بهمن المعروف بذي الحاجب أميراً عليهم وأرسلهم إلى الحيرة فساروا ومعهم راية كسرى حتى نزلوا الجسر وأقبل أبو عبيد فنزل قريباً منهم ونصبوا جسراً على الفرات ليتمكن الفريقان من القتال وقال ذو الحاجب أمير فارس للمسلمين إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم فاختار أبو عبيد أن يعبر هو بجيشه إليهم وقال
لا يكونوا أجرأ على الموت منا
وعهد إلى الناس فقال إن قتلت فعلى الناس فلان فإن قتل فعليهم فلان وسمى سبعة اشخاص يتعاقبون على إمارة الجيش حتى قال فإن قتل فلان فالأمير هو المثنى ثم عبر على الجسر واستعرت بين الفريقين نار الوغى وكان أهل فارس يقاتلون على الفيلة وخيل المسلمين لم تألف ذلك فأحجمت ولم تقدم عليهم واشتد الأمر بالمسلمين فترجل أبو عبيد والناس وساروا مشاة حتى صافحوا المشركين بالسيوف وقطعوا بطان الفيلة فسقطت رحالها وقتلوا من كان عليها وعمد أبو عبيد إلى فيل أبيض فضربه بالسيف ثم خبطه الفيل بيده فوقع أبو عبيد على الأرض فتناول الراية رجل من السبعة الذين سماهم أبو عبيد للإمارة فقتله الفيل وتتابع بقية السبعة على أخذ الراية كل منهم يأخذ اللواء ويقاتل حتى يقتل ثم أخذ اللواء المثنى وانهزم البعض من المسلمين فلما رأى عبد الله الثقفي انهزام الناس سبقهم إلى الجسر فقطعه وقال يا أيها الناس موتوا أو تظفروا
فثبت المسلمون لقتال أعدائهم ثم أمر المثنى جنده بالانسحاب فعبروا كلهم على الجسر ورجع بعضهم إلى المدينة وبقي المثنى في قلة وكان قد جرح وأراد ذو الحاجب العبور خلف المسلمين فأتاه الخبر باختلاف الفرس فرجع إلى المدائن.
وقعة البويب
ولما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقتل أبي عبيد بالجسر ندب الناس إلى المثنى
وجهز جيشاً شديد البأس وأرسلهم إلى العراق مدداً للمثنى وبلغ الخبر رستم فبعث مهران أميراً على جند وأرسله إلى الحيرة.
فعلم المثنى بذلك وهو بين القادسية وخفان فقصد أرض البويب وكتب إلى الجند الذي أرسله سيدنا عمر مدداً له يخبرهم بذلك. وأمرهم أن يقصدوا أرض البويب أيضاً مما يلي الكوفة حيث يجتمعون فيه فوافوه جميعاً وقد وصل مهران إلى إزائه من وراء الفرات ثم أذن المثنى لمهران أن يعبر بجيشه إليهم على جسر الفرات وعبأ المثنى أصحابه وكان الوقت في رمضان فأمرهم بالإفطار ليقووا على عدوهم.
ثم أن المثنى رتب جنده وكبر ثلاثً وحمل في الرابعة على المشركين حملة أزالهم بها عن موقفهم وأصلاهم من سعير الحرب ما لم يطيقوه، فانهزموا وولوا الأدبار وقتل أميرهم مهران وكانت تلك الوقعة من أشد الوقعات على المشركين قتل فيها نحو مائة ألف وغنم المسلمون ذخائرهم وأموالهم وبلادهم وأسروا منهم كثيراً.
ومن اطلع على حقائق التاريخ وأحاط بما جرى على أيدي الأمة الإسلامية من الفتوحات العظيمة والاستيلاء على كثير من ممالك الأمم وقهر الجبابرة والكاسرة مع قلة عدد المسلمين يومئذ وعدم توفر الآلات الحربية لهم علم أن تمسكهم بالدين ومحافظتهم على إقامة شعائره قد جعل فيهم قوة معنوية أرغموا بها أنوف المشركين وبددوا ببأسها جموع الكافرين.
كان المؤمنون يقاتلون لإعلاء كلمة الله عز وجل وتأييد دينه باعوا أرواحهم وأموالهم في سبيل الله امتثالاً لأمره وتصديقاً بوعده.
وكيف يستطيع الكاتب وصف ثبات قوم اشتاقوا إلى منازلهم في الجنة وهم قد علموا أنها تحت ظلال السيوف.