المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسلمون وما يجب عليهم - مجلة الحقائق - جـ ٢٥

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌المسلمون وما يجب عليهم

‌المسلمون وما يجب عليهم

قلنا ولا نزال نقول أن أوروبا لا تريد بالدولة العثمانية خيراً وبالأحرى لا تريد بالمسلمين خيراً فهي لا تفتأ تخلق لهم المشاكل وتضع أمام رقيها ورقيهم المصاعب وما زالت تعمل في السر والعلن على تفريق كلمتهم وتوهين علائقهم وتمزيق جامعتهم وتحول دون كل ما يدعو إلى جمع لكمتهم واتحاد أفكارهم وغاياتهم وقد اتخذت من الوسائل المقتضبة لتفرقهم مالا يحصى وفي مقدمتها تلك المدارس الأجنبية التي تنزعه من قلوب مريديها حب الدين وتعمل على بث روح التفرنج علماً منها بأن المسلمين بحكم دينهم مأمورون بالاجتماع والاتفاق وأنهم ماداموا متمسكين بدينهم عاملين بأوامره لا يسهل تذليلهم واستئصال ممالكهم لذلك كان من أقوى البواعث لزوال هيبة الدين من النفوس تلك المدارس التي أسست على مبادئ الإلحاد والتنفير من الأديان وقد ظهر من فساد تلك المدارس وإفسادها ما نراه في أخلاق كثير من ناشئتنا الجديدة من بغض العلم وأهله، والدين ورجاله، والنفور من كل من يدعو إلى عمل خير وير إن لم يوافق ما اعتادوا عليه من المبادئ السافلة والأفكار السقيمة حتى صار يعتقد كثير منهم أن الدين عقبة في سبيل رقينا وأنا ما دمنا متمسكين بمبادئه أو متعصبين له (كما يقولون) لم نزدد مع تمادي الأيام إلا انحطاطاً ومع كرور الأزمان إلا تأخراً شاعت تلك الفكرة وذاعت وكثر أنصارها والعامل الأكبر على ذلك تلك الفئة التي استقت معارفها من مناهل أوروبا واغتذت بلبان أفكارهم ومعتقدات وراق لديها ما يتظاهرون به من العدالة وخفي عنها ما يضمرون من العداء لكل من خالفهم وما يتحينون من الفرص لسحق ممالك الإسلام بجميع الطرق السلمية والحربية وانتزعت منهم بفضل ما بثت في تلك المدارس حب الدين حتى صاروا لا يغارون على حرمته أن تنتهك ولا على سمعته أن تشوه ولا على حامليه أن يذلوا ولا على أحكامه أن تبدل وهم في ذلك لا يرون سبة ما داموا يعتقدون أن الأديان عقبة في سبيل الرقي إذا لم يراع تغييرها وتبديلها على حسب الأزمنة والأحوال والسياسة على حسب ما لقنهم أساتذتهم المستعمرون ومن العوامل الكبيرة على شيوع تلك الفكرة السقيمة السابقة الجعل بأحكام الدين ودقائق أسراره فقد غفل المسلمون تعلم دينهم إغفالاً يعد قريباً من الإهمال بالكلية فلا تجد في أمهات المدن الإسلامية كدمشق مدارس لتعلم علوم الدين من تفسير وحديث وفقه وأصول وتوحيد كما لا تجد أساتذة يعلمون هذه العلوم بدروس خصوصية إلا قليلاً ولا تجد من الحكومة تشويقاً لتعلم تلك

ص: 11

الفنون.

والفائدة العلمية التي حصلت من إعفاء طالب العلم من خدمة الجندية اقتصرت على تعلم فن النحو الصرف والمنطق مما يكون امتحانهم به ولا نغالي إذا قلنا أنه لا يوجد في كل مائة من المسلمين إثنان ممن يعرفون فرائض صلاتهم وسننها وأحوال مبايعاتهم وتطبيقها على أصول الشرع لتخلص من العقول الفاسدة والمراباة فضلاً عن دقائق علوم الدين في كل فرع من فروع احتياجاتنا الاجتماعية والأخلاقية والسياسية.

إذا قلنا أن الجهل بأحكام الدين وترك العمل به جرا علينا كل ما نشاهده من الرزايا وما يكتنفنا من البلايا وإننا إذا بقينا في هذا السبات العميق ولم ننهض نهضة علمية دينية ونحكم الدين في كل ما يعتورنا من النوائب وما ينتابنا من المصائب لا يعد أن تصبح الممالك الإسلامية أثرا بعد عين بسبب تعصب الأغيار علينا: إذا قلنا ذلك قامت قيامة هؤلاء المتفرنجين المفسدين قائلين إن الدين قاصر على الصلة بين العبد وربه ولا دخل له بالسياسة وأننا بعد ما وصلنا إلى هوة الانحطاط بسبب عدم الأخذ بالمذاهب السياسية الجديدة ينبغي لنا أن نترك الجمود الديني جانباً ونقلد الغرب في كل ما نريد مما فيه صلاحنا ونجاحنا ولو كانوا على شيء من علم الدين لعلموا أن أقوى البواعث على تقهقرنا أمام أوروبا وهو تفرقة كلمة المسلمين وتخاذلهم وعدم وجود صلة تامة بين ملوكهم وأمرائهم عدم الاستعداد للحرب وهما من جملة ما نهى عنه الدين.

بين الله تعالى في آيات كثيرة في كتابه الكريم فوائد الاجتماع والاتفاق وحض عليها وأمتن على المسلمين بأن جعلهم أخواناً بعد التفرقة وشرع من العبادات ما يقوي تلك الرابطة من صلاة الجماعة والجمعة وجعل صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبعين ضعفاً ترغيباً بذلك.

وشرع الحج وجعل من فوائده أن يجتمع بسببه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها ويتذاكرون بما يجب عليهم من التعاون والتعاضد ورفع منار الدين وقمع أعدائه إلى غير ذلك من الفوائد الاجتماعية والأخلاقية وحض القرآن الكريم على الاستعداد فقال جل ذكره (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ومن الاطلاع على سيرة الرسول الأعظم يرى القارئ أنه كان لم يترك شيئاً من الاستعداد

ص: 12

بالنسبة لزمانه ومحاربيه وأنه كان يقتبس من الأغيار ما يراه نافعاً ومفيداً فقد كان حف الخندق في غزوة الأحزاب من جملة ما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفرس وحصل بذلك من الفوائد في هذه الحرب ما هو معروف وبالإجمال إن الدين الإسلامي إذا أحسن المتدينون به استعماله ودققوا فيما حوى من بدائع الآيات وروائع الحكم وجعلوه العمدة فيما يأتون ويذرون والوجهة فيما يعملون ويتركون وطبقوا أعمالهم على مقتضى أوامره واجتنبوا ما نهى عنه سهل عليهم أن يكونوا أمة راقية مستقلة.

هذا الدين الذي نهض بمعتنقيه في سالف الأزمنة حتى جعلهم في برهة وجيزة سادة الأرض وقادة الأمم هو هو الذي يقول عنه الأغيار والجهلاء أنه عقبة في سبيل الرقي وأنه لا تنطبق أحكامه مع حالة العصر الحاضر وأنه يجب علينا أن ننبذه ونستبدله بقوانين وضعية تلائم الأحوال الحاضرة كذب الأغيار وخسئ الجاهلون إن هذا الدين كان ولا يزال كافياً لحاجة متبعيه وكافلاً لرقيهم ونجاحهم وتفوقهم على سائر الأمم إذا أحسنو استعمال مافيه من الأوامر كما أسلفنا وعسى أن تكون الحوادث علمت المسلمين أنه لا نجاح لهم إلا برجوعهم إلى دينهم فليلتفتوا إلى إحكام الرابطة الدينية بين جميع المسلمين حسب ما أمرهم الله بكتابه ويستعدون لأعدائهم بمثل ما يستعدون هم لهم. أما أحكام الجامعة الإسلامية فهو من ألزم الأمور وهي الأساس الذي ترتكز عليه باقي الواجبات فإن المسلمين الذين يبلغ عددهم ما ينوف عن ثلاثمائة مليون من النفوس يدينون جميعاً بدين واحد بكتاب واحد وتجب عليهم طاعة خليفة واحد قوة عظيمة تميد لهيبتها الرواسي إذا عرف المسلمون كيف يستفيدون منها وها هي المثلات والعبر ترى كل يوم وتنذرنا بسوء المصير ودخانه المنقلب إذا بقينا متفرقين متخاذلين لا يهمنا من أمر المسلمين إلا ما يقع تحت بصرنا وإلا ما يكون له علاقة بذاتنا بل الواجب أن يكون المسلمون كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء فالعثماني يهتم لمصاب الهندي والأفغاني يتألم لشكوى الإيراني وهكذا والكل يد واحدة على من ناوأهم بظل جلالة الخليفة الأعظم أيده الله وليس هذا بالأمر الصعب على زعماء المسلمين وقادتهم بعد ما رأوا أن الأغيار تعمل على استئصال ممالكهم وسحق نفوذهم ثم بعد إحكام هذه الرابطة يجب على المسلمين معرفة حقائق دينهم القويم ليكونوا على بينة مما يدعوهم إليه ولئلا تروج عليهم خرافات المبطلين وتمويهات المخرقين وما

ص: 13

ينسبونه إلى الدين مما هو براء منه.

ثم عليهم بعد كل ما ذكر أن يمتثلوا أوامره ويجتنبوا منهياته ويزنوا أعمالهم بميزانه ويرجعوا إليه في كل ما استعصى عليهم ويقفوا عند حدوده في مشكلات الحوادث وعظائم الأمور هنالك يتجلى لهم سر الامتثال للشرع وفائدة وزن الأعمال بميزان القانون الإلهي وإذا أراد الله بهذه الأمة خيراً وفق علماءها وزعماءها إلى الأخذ بيدها إلى مراقي الكمالات بالرجوع إلى دينهم القويم وأخلاقه العظيمة وهنالك السعادة الأبدية والعز السرمدي.

ص: 14