المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لن يتلاشى الإسلام أبدا - مجلة الحقائق - جـ ٢٧

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌لن يتلاشى الإسلام أبدا

‌لن يتلاشى الإسلام أبداً

إنا نحن نزلنا الذكر ونحن له لحافظون

أثبتنا في مقالتينا السابقتين أن التدين غريزة غرزها الله في الفطر البشرية مثل سائر غرائزها الأخرى فما دام الإنسان إنساناً يحس ويتفكر ويلهم ويتدبر ولم يهبط به القصور إلى مداحض الحيوانية ومزالق الحياة البهيمية فلا يزال يرى التدين لازماً من لوازمه وضرورة من ضروراته وبرهنا على أن رقية في مدارج العلوم العلية وتسنمه سنام المعقولات السامية وضربه في ميادين المدنية الزاهية فضلاً عن كونه لن يعدو على تلك الغريزة فيقتلع أصولها ويجتث جذورها سيزيدها على ممر الأيام رسوخاً ويهبها على طول الزمان قوة وتمكيناً واستشهدنا على أقوالنا هذه بأقوال من فطاحل الكتاب العصريين وبحجج من تحقيقات العلماء الحسيين مما لا يترك مجالاً لجائل ولا جدالاً لمجادل وأردفنا كل ذلك بقولنا (إن الإسلام هو النقطة التي تتطلع إليها أنظار الباحثين والغرض الذي تشرأب إليه أعناق العلماء العمرانيين) ولكن جاءت هذه الجملة في عبارات مجملة لا تقف بذوي الطماح دون أن تطلب التفصيل ولا ترد من جماح العقول على تلمس التعليم لهذا أحببنا أن نعود اليوم إلى بسط ما أجملناه ونشر ما طويناه لنكون قد وفينا المقام بعض حقه فنقول:

إنما ينتثر عقد القاعدة من القواعد وينتكث فتل القانون من القوانين لا لتطاول الزمن عليه ولا لبعد عهد الواضع له فكم من حقيقة فلسفية اثرت عن سقراط وبداهة شرعية نقلت عن سولون وقاعدة طبية رويت عن بقراط وفضيلة أخلاقية حملت عن كهنة المعابد المصرية القديمة وبعضها فضلاً عن عدم تأثير الزمن عليها بالزوال صار لها اليوم من الإعجاب والإقبال والاحترام والإجلال ما لا يتطرق إلى المحض فيها الشك بأنها ستبقى حية أبد الآبدين ومعمولاً بها لدى الناس أجمعين ذلك لأنها لائمت سنة الطبيعة ووافقت نظام الخليقة وتعالت عن مصادمة خصيصة من خصائص الإنسان وسمت عن أن تحتك في قانون من قوانين العمران وحقيقة هذا شأنها لجديرة بحكم الضرورة بالبقاء وبعيدة ولا شك عن الفناء (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) ولكن تنهدم القواعد وتتلاشى وتتقوض أبنية النظامات وتتداعى لمعاكستها لرقي البشرية في معارج المدنية ومصادمتها لارتقاء الإنسانية

ص: 9

في مدارج الكمالات العقلية على أن من تلك النظامات ما كان مفيداً لمن وضعت في زمانهم وملائمة لمقتضيات عمرانهم لافتقار مناسباتهم الاجتماعية إليها ولكن لما كانت المناسبات الزمانية والمكانية لا تكاد يحصيها الإنسان لتغيرها كل آن وتحولها في كل خطوة يخطوها البشر فلا تصادف تلك النظامات أمة من الأمم لتنطبق عليها ولو وجدتها لا تلبث أن تعاكسها في شأن من شؤونها تحت تأثير ناموس الرقي فتلفظها لفظ النواة وتهجرها غير آسفة عليها.

هذا هو السبب الرئيسي لدوام التحول والتبدل في نظامات البشر وهذا أيضاً هو سبب تلاشي الأديان الباطلة التي أطلق قادتها لشياطينهم عنان الإفساد فأدخلوا إلى عقائدهم ما يتعالى الله عن تكليف الناس به لمصادمته للعلم ومعاكسته لبدائية العقل وعدم ملائمته لسنن الطبيعة فينساق أصحاب هذه العقائد في مبدأ الأمر للعمل بها طاعة لداعي ضمائرهم المتشعبة بيقينهم الوراثي ولكنهم لا يكادون يجرون شوطاً في خيالاتهم هذه حتى تصيح في أوجههم نواميس الطبيعة صيحة تردهم بها على أعقابهم مدبرين وتقرعهم بقوارع من الفتن المزعجة تجبرهم برغم أنفهم إلى درس أسباب تقهقرهم ومناشيء نكوصهم ليتخلصوا مما وقصوا فيه من المضانك الاجتماعية فيؤديهم درسهم إلى جراثيم تلك العلل فيميلون بما في مكنتهم إلى قتل مكاريبها وكشط أدرانها سواء كانت في نظاماتهم الاجتماعية أو في تعاليمهم الدينية.

ولا عجب فإن العقيدة إذا زاحمت الطبيعة سادت الثانية على الأولى وأجلتها ولو بعد حين. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك (ولو إنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) وما دامت الطبيعة والعقيدة من الله فلا يعقل أنه تعالى يكلف الإنسان بما يشق عليه ولا يستطيع أن يقوم به (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).

قلنا هذا هو السبب الرئيسي في تلاشي الأديان واحتمال تلاشي أكثر ما بقي منها وقد أشار إلى هذا السبب العلامة بنجامين كوتستان في كتابه المسمى الدين وينبوعه واشكاله وترقيه فقال: إن كل قاعدة مهما كانت نافعة في الحال فلا بد أن تكون محتوية على جرثومة تعارض الرقي في الاستقبال لأن تلك القاعدة تأخذ بطول المكث شكلاً عديم الحراك يأبى على العقل اتباعه في مكتشفاته التي ترقيه كل يوم وتظهره إذا حصل ذلك ينفصل في

ص: 10

الحال الإحساس الديني عن تلك القاعدة المتحجرة ويطلب سواها من القواعد التي لا تحرجه ولا تجرحه ولا يزال يضطرب حتى يصادفها ثم علل هذا المؤلف احتمال تلاشي الأديان بعدم احتوائها على سائر الحريات الضرورية للإنسان وارتأى أنه لو كانت تلك الحريات موجودة فيها لبقيت بقاء الإنسان ولكنه عاد فيئس من ذلك فقال وكلنا نخال أن ذلك يتحقق مطلقاً لاعتقادنا أنها لن تترك شيئاً من أسسها. وحيث أن هذه الأسس تناقض العلم وتعارضه فيكون من المقرر الثابت إمحاء الديانات وزوالها.

إذا تقرر لديك كل ما مر نطرح هذا السؤال وهو: هل في الإسلام قاعدة تعارض ناموس الترقي في سيره أو فيه أس يأخذ لطول الزمن شكلاً حجرياً عديم الحراك يأبى على العقل اتباعه في مكتشفاته أو يتغاضى عليه في سعيه وراء سعادته؟ قبل أن نجيب على هذا السؤال يجب علينا أن نلم بماهية الميادين التي تتسابق فيها محاولات إنسان وتتراكض في مناحيها جياد أمياله ومراميه فتقول: ليس أمام سائر مجهودات الإنسان غير ميدانين عظيمين وهما ميدان سعادته الروحية ومن قال بوجود ميدان ثالث حاكمناه إلى محاكم الطبيعة وألزمناه الحجة بنص قوانينها المحسوسة.

الإنسان مسوق بحكم الفطرة إلى تأييد مركزه في هذا الوجود الأرضي وتثبيت قدمه في هذا الوسط الطيني وله مما ركب في جثمانه من المطالب وما تقتضيه واجباته الحيوية المتجددة من الرغائب أكبر دافع له إلى الابتكار وأعظم سائق له إلى الاستثمار هرباً من فناء يتهدده وزوال لا يفتأ يتوعده وفي درس أقوال الشعوب في سائر أدوارها ما يغني القارئ عن كثير من الأمثال كما أنه بحكم تركيبه المعنوي إلى تلمس راحة روحه التي لا يقنعها معقول فتقف عنده لا يرضيها مقام فتلتزم حده.

لا يكاد الإنسان يأنس بملذة روحانية ويفرح بلطيفة نورانية حتى يجد من نفسه الرغب في الزيادة والتوق إلى دوام الاستفادة ولو عاندها الإنسان في مطالبها ووقف بها دون رغائبها قلبت له ظهر المجن وسقته من صاب المحن ما يجعل حياته المدنية أمر من العلقم وسعادته الجسمية أشد عليه من لدغ الأرقم. لأن السعادة الجسمية وحدها لا تغني عن الإنسان شيئاً ما دامت الحيرة تقيم فؤاده وتعقده والشكوك تميته كل يوم وتنشره ومهما غالط الإنسان إحساساته الداخلية فعالجها بالأشربة الروحية والمناظر الخيالية فهي لا تزال تريشه بسهام

ص: 11

معنوية حتى يقضي عليها فيموت جباناً أو يلتفت إلى مطالبها فيعيش إنساناً! ونحن لو أجلنا نظرنا في مناحي هذين الميدانين الحسي والمعنوي لما تمكنا أن نحددهما بحد ولا أن نقف لهما على تخم مما يدلنا دلالة واضحة إلى ما سيناله الإنسان المستقبل من الرقي في هذين المضمارين لا يقارن بما لدينا إلا كما تقارن الشمس بالمصباح الضئيل. إذا تحققت هذه البداءة فقل لنا كيف لا تموت قاعدة تعقل العقل عن متابعة مجراه في سبيل الاكتشاف وكيف لا ينتقض قانون يصد الفكر عن رحلاته في هذه اللا نهاية البعيدة الأكناف؟ إذا كان الخالق سبحانه قضى (لا معقب لحكمه) أن يترقى الإنسان من الوسائل وسلط عليه من الفواعل ما يجعل وقوفه في مركزه مستحيلاً فأي دين يعطل من مسير هذا القضاء وأي زهادة ترد الإنسان عن تسنم هذا العلاء؟ إذا كان خالق الطبيعة ومدبرها هو نفسه واهب الدين فهل يعقل أنهما يتناقضان أو يتعارضنا فيتصاولان؟ كلا.

قلنا أن أمام الإنسان ميدانين كلاهما غير محدود بحد ولا محصور بتخم وأن الإنسان مدفوع إلى رفع كل عقبة تقف أمامه فيهما ومسوق إلى بلوغ نهاياتهما وأن الدين الصحيح هو الذي ينشطه في قطع مفاوزهما ولا يضع أمامه العواثير دون غاياتهما فهل الإسلام حاصل على هذه المزية حتى يجدر بنا أن نسميه روح المدنية وأنشودة الإنسانية وباقياً بقاء الحياة الدنيوية؟ اللهم نعم. أما من حيثية حالنا في المعقولات فإن الإسلام يرينا أننا لم نزل في دور الطفولية منها وأن كل ما حصلناه إلى الآن لا يساوي قطرة مما سيصل أخلافنا إليه قال تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) ويرينا بعد ذلك أن باب العلم مفتوح لكل طالب ميسور لكل راغب فهو ليس مقصوراً على طائفة دون أخرى بل فرضه الله على كل رجل وكل امرأة من الهيئة الاجتماعية سواء في ذلك ألو الشرف والثراء أو أولو الضعة والضراء فقال تعالى: (وقل رب زدني علماً) وقال سيد الوجود صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) وأرانا بعد ذلك كله بنص لا يحتمل التأويل أن العلم لا غاية له فقال له عليه الصلاة والسلام (من ظن أن للعمل غاية فقد بخصه حقه الحديث وليس بعد هذا تشويق إلى طلب المعارف الحقة من مطابها وأما من جهة حالنا في السعادة المادية فإن الله يصرح لنا في كلامه القديم بأنه قد خلقنا واستخلفنا في الأرض وأسبغ علينا نعماً ظاهرة وباطنة وجعلنا خلاصة إبداعه وسخر لنا ما في السموات وما في الأرض

ص: 12

نكتشف معانيها ونستخدم قواها فقال تعالى: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) ولم يحرم علينا بد ذلك إلا كل إفراط وتفريط سواء فقي الحاجيات البدنية أو الروحية حتى أنه ليعاقب المؤذي نفسه بالعبادة كما يعاقب مؤذيها في سواها قال سيد الوجود صلى الله عليه وسلم (من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الذنب مثل جبال عرفة)(ذلك أن الله لا يحب المعتدين) حتى في الدين. فقل لنا بعيشك دين هذا شأنه من الإطلاق وعدم التقييد من أين يتطرق التلاشي إليه وبأي سبب يحكم بالزوال عليه؟ دين لم يمت فيك عاطفة من العواطف ولم يحجر على عقلك وفكرك سلطانهما بل جعلهما عماد بقائك وسبب عليائك ولم يحرم عليك من الملاذ البدنية إلا الأشياء المؤذية بإجماع العلوم الطبية فكيف لا تسميه دين المدنية الحقيقية وأنشودة الإنسانية؟ وإن تعجب من هبوط المسلمين عن سواهم مادياً ومعنوياً مع وجود هذا الدين بين ظهرانيهم فأنا أكثر منك عجباً من تكاسل متنوريهم عن إشهاره بكل الوسائل لأنه ليس بين المسلمين وبين الرقي لا على مقاوم العظمة الاجتماعية إلا فهم ما لديهم من هذا النور الذي أنزل من سماء الحكمة إليهم؟ فهل يأتي على المسلمين زمان يلتفتون فيه إلى دينهم حق الالتفات ويستمدون من روحه مثل ما استمد منه آباؤهم من قبل فيدهشون العالم بفخامة مدنيتهم وجلالة فضائلهم؟ نهم ولتعلمن نبأه بعد حين.

فريد وجدي

ص: 13