الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيف يصلح أمر العثمانيين
تفنن زعماء الإصلاح ومريدوه فيما يصلح شأن العثمانيين، ويرقى بهم إلى أوج العزة والسعادة. فمن قائل أن صلاحهم لا يكون إلا باقتفائهم أثر الأوروبيين، وتقليدهم إياهم في جميع أسباب تقدمهم، والعمل بأنظمتهم وقوانينهم ومجاراتهم بالعلوم الطبيعية والرياضية ومنافستهم بآلات الحرب والضرب ومضاهاتهم بالتجارة والزراعة والصناعة.
ومن قائل أن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، فهي لا يعوزها إلا التمسك بدينها والاهتداء بهديه، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله سبحانه. فإذا قدر لها ذلك فقد استغنت عن النظام السياسي والإداري فلديها من سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه الراشدين رضوان الله تعالى عليهم ما إن تمسكت به دانت لها رقاب الأمم وذلك لعزتها الجبابرة والأكاسرة، واستغنت عن المدرعات والطرادات فعندها من القوى المعنوية ما يعدل تلك القوى الحسية ويفوقها، واكتفت بجزء يقوم بأودها من التجارة والزراعة والصناعة كما اكتفى به سلفها فهي لا رغبة لها في الملاذ الجسمية والشهوات الحيوانية بل غرضها من هذه الحياة عبادة ربها سبحانه والشغف بحضرته.
ومن قائل لا يصلح العثمانيين ذا ولا ذاك وصلاحهم بأمر غيرهما مستدلاً يؤيد مدعاه ويدعمه في زعمه.
وقد حضرنا مناظرة دارت بين فاضلين من رجال الإصلاح أحدهما يرى الرأي الأول والآخر يرى الراي الثاني فأحببنا أن نثبت ما دار بينهما بتصرف ثم نبين رأينا في الإصلاح خدمة للأمة، وقياماً بواجبها الخطير فنقول:
قال الذي يرى الرأي الأول: لا أرى خلاصاً لدولة الخلافة مما حاق بها من البلايا واكتنفها من الرزايا بالجري على سنن الأوروبيين، واقتفاء أثرهم فطريقهم أسلك الطرق، ومنهجهم أعدل المناهج فهاهم قد بلغوا مستوى العز والمجد وصارت لهم السيادة والسلطة على كافة سكان البسيطة.
قال الذي يرى الرأي الثاني: وكيف يكون ذلك؟
قال الأول: يكون أولاً بتنظيم قوانين سياسية وإدارية طبق قوانينهم. وثانياً بإنشاء مدارس للعلوم الطبيعية والرياضية على نحو مدارسهم وثالثاً بإعداد معدات للحرب تشاكل معداتهم من مدرعات وطرادات، وحصون وقلاع ومدافع وبنادق وطيارات ونظارات وغير ذلك من
آلات الحروب الحديثة رابعاً بالاعتناء بالتجارة في الوارد إلى البلاد والصادر منها. بحفظ الحقوق، وتعديل الجمارك، ومن السكك التجارية والكهربائية، وتنظيم الشوارع والأزقة وخامساً بالالتفات إلى الزراعة بإيجاد الأمن في البوادي وجر المياه إلى الأراضي القاحلة وتجفيف المستنقعات وتسهيل الطرق لجلب ما استحدث من آلات الزراعة من أوروبا بإعفائها من الرسوم وإدانة المعوز من الزراع ثمنها إلى أجل يمكنه من الاستفادة منها وسادساً بالاهتمام بالصنائع بوضع المرغبات المادية والمعنوية لمن يقوم بها وإعفاء آلاتها من الرسوم، والضرب على أيدي من يريد العبث بمتانتها، وحفظ حقوق أصحابها بهذا يرتفع شأن العثمانية، وتكون في مقدمة الدول العظمى ولا أحتاج لإيراد الدلائل والشواهد على صحة ما قلت بعد أن تحقق أن السبب الوحيد
في رقي أوروبا وتقدمها هو ما ذكر.
قال الذي يرى الرأي الثاني: قد أطلت على غير طائل وأكثرت من غير ما جدوى وما أراك إلا شغوفاً بأوروبا ومظاهرها الفتانة، معرضاً عن النظر في حقيقة أمرها وما هي عليه من الخبث والدناءة، ولو كشف لك عما تكنه صدورها وتخفيه سرائرها لما راقتك زخارفها، وأخذت منك مبتكراتها ومخترعاتها، ولما دعوت أمتك إلى تقليدها وأنت من رجالها المصلحين.
لو كان لي من الإفصاح والبيان ما أقدر به على سرد الفظائع التي جرتها أوروبا بمدنيتها الحديثة على الإنسانية لفعلت، وبالحري لو كنا في هذا الصدد لرأيتني على ضعف بياني أتكلف لإزالة الستر عن بعض تلك الفظائع المؤلمة بحيث تكون ظاهرة للعيان.
نحن الآن بصدد النظر فيما يصلح شأن أمتنا، ويرقى بها في معارج العز والفلاح، ولا أرى ذلك حاصلاً لها إلا بالاعتصام بحبل دينها المتين، والسير على صراطه المستقيم بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، وترك التخاذل والتدابر ونبذ النزاع والشقاق وتوثيق عرى الاتحاد والائتلاف وتجديد أواصر التراحم والواد وبذل المهج والأموال لتكون كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى فإذا تم لنا ذلك فلسنا بحاجة إلى قوانين أوروبا التي لا تلائم طباعنا، ولا تتفق مع مصالحنا فلدينا القانون الإلهي وضعه أحكم الحاكمين وسنه أعدل العادلين بمصالح عبادة، ومن لا تخفى عليه خافية من أمرهم. ذلك الذي لا يعتريه تغيير ولا تبديل
ولا يقبل الزيادة ولا النقصان ذلك القانون الذي يلائم المستقيم من الطباع ولا تمجه الأذواق السليمة ذلك القانون الذي يأمر بالعدل والإحسان وينهي عن الفحشاء والمنكر ذلك القانون الذي بني على المساواة الحقيقية بين أفراد معتنقيه لا يفرق بين عنصر وعنصر ولا يميز جنساً على آخر ذلك القانون الذي يحث على التعليم ويوجبه على كافة من التزم أحكامه ذلك القانون الذي ما تمسكت به أمة إلا وأصبحت عزيزة الجانب رفيعة المكانة.
ولسنا بحاجة إذا تم ذلك (الاعتصام بحبل ديننا المتين) إلى العلوم الطبيعية والرياضية التي ضل بها الأكثرون وكثر من جراء تعلمها الزنادقة والملحدون واقتصرت نتائجها على إطغاء بني البشر وسحقه بما أعدت لهم من المدمرات وسهلت لهم من الشهوات.
نعهم لسنا بحاجة إلى هذه العلوم المادية المحضة التي تسبب عنها إنكار الصانع جل وعلا، والتكذيب بكتبه ورسله وملائكته، وجحود البعث والحشر والنعيم والجحيم، وغير ذلك مما لا مجال لإنكاره ولا تتسع دائرة الوهم للتشكيل فيه بعد ما جاءت الأدلة القاطعة بإثباته، وشهدت العقول السليمة بصحته، ومضت الأجيال والقرون وعامة من يفقهه من البشر يذعنون له ويدينون به.
ولسنا بحاجة أيضاً إلى المدرعات والطرادات وغيرها من آلات الحروب الحديثة لما توفر لدينا من قوة الاتحاد والتضام، ولما غرز فينا من الشجاعة والبسالة التي فقنا بها جميع الأمم.
نهم لا أنكر أنه لو يكون لنا معدات مثل الأوروبيين نزداد قوة على قوة، وتعظم سطوتنا في نظر أعدائنا ولكنا نحتاج في تحصيلها إلى أن نسلك طريقاً غير طريقنا طريقاً مملوءاً بالمخاوف محفوفاً بالأخطار فأولى لنا أن نسلك طريق أسلافنا وننهج منهجهم فقد كانت هممهم مصروفة إلى إعداد المعدات المعنوية مقصورة على تنظيمها وكانت لهم بذلك الغلبة على أعدائهم في جميع ما يحاولون.
وبعد ذلك كله يكفينا جزء يسير من التجارة والزراعة والصناعة يقوم بأودنا، ونسد به خلتنا، لنقوى به على عبادة الله تعالى التي ما خلقنا إلا لها ونتبلغ به للحصول على مرضاته التي هي أعلى المقاصد، وأسمى المطالب فنتنعم بالنظر إلى وجهه الكريم، وجلاله المنزه في جنات تجري من تحتها الأنهار فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين.
(لها بقية)