المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوظائف الدينية والجهلاء - مجلة الحقائق - جـ ٣٣

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌الوظائف الدينية والجهلاء

‌الوظائف الدينية والجهلاء

هل أتى على دمشق حين من الدهر كانت مهداً للعلوم والمعارف ومنبعاً للفنون واللطائف يتجلى فيها الدين الإسلامي على أكمل صورة وأبدع نظام، هل أتى عليها ردح من الزمن كان يحوي محيطها فقط قريباً من خمسمائة معهد علمي من أرقى ما يتصوره بنو البشر ملأى من نبهاء الطلاب وأذكيائهم يدرسون فيها أنواع العلوم الدينية وأشتات الفنون الأدبية كل على حسب قصده ومبتغاه فكان لا يمضي القليل من الزمن حتى يخرجوا منها رجالاً عظماء ينفعون البلاد والعباد ويضيء بعلمهم الربع المسكون.

وكان جامعها الأعظم يضاهي بعلومه وإتقان دروسه وتحقيقها الجامع الأزهر في مصر والزيتونة في تونس دهمها كما دهم الشرق نكبة شديدة وداهية عظيمة زحزحتها عن مكانها المكين ومجدها المتين فأصبحت في مؤخر بلاد الله بعدما كانت من أرقاها.

دهمتها داهية دهماء تنوء عن حملها الأرض والسماء اكتسحت مابقي فيها من آثار العلم بعد ما كانت القطب الأعظم للحركة العلمية في القرن السابع إلى الثاني عشر. . ومن ذاك الوقت فاجئتها هذه الدويهية (التساهل في توسيد الوظائف الدينية لغير الكفؤ) على حين غفلة وسرت فيها سريان السل في الأجسام فصدع نظامها ووهنت عظامها وتشتت شملها وتفرق أمرها وأضحت كأنها في جاهلية جهلاء.

التساهل في توسيد الوظائف الدينية والدروس العلمية لمن لم تثبت له الأهلية من أهل الجهالة والبطالة داء دفين ومرض عضال منذ طرأ على دمشق ما قامت فيها قائمة للعلم وأهله حتى يومنا هذا. . والذي سهل اجتيازه إلى ربوعنا ومهد له فيها مهداً وثيراً وجعله الحاكم الأعظم على مملكة العلم يتحكم فيها كيف شاء هواه الصمت الطويل والسبات العميق من رؤساء الدين وعلمائه.

نعم تغاضى علماء الدين عن هذا الداء الوبيل جر علينا أموراً لا يعلم بسوء مغبتها ووخامة عاقبتها إلا الله تعالى. . والمرض متى طال زمنه وأهمل معالجته طبيبه استحكم في الجسم وكمن فيه كمون الوميض تحت الرماد واللص تحت أديم الليلة الليلاء وأصبح من الصعب تلافي خطره وملافاة شره وشروره حتى نطس الأطباء ودهاة الرجال. . قال سفيان الثوري رحمه الله العلماء أطباء هذه الأمة فإذا مرضوا خيف عليها من الهلاك. . هذا إذا مرضوا فكيف إذا استحكم المرض فيهم؟ أفلا يجب على أهل الدين وعلماء المسلمين أن يدركوا

ص: 19

الأمة الإسلامية قبل أن يودي بحياتها هذا الداء الوخيم (توسيد الوظائف لغير الأهل) الذي لا يرجى منه شفاء. . أما يجب عليهم أن يخلصوا الأمة من شر هؤلاء القوم الذين يدعون العلم وما هم بعالمين ويستأصلوا شأفتهم لترتاح من ضلالهم وجهلهم البلاد والعباد قال أفلاطون الحكيم إذا تسامحت في العلماء والأطباء دولة فقد قرب انحلالها. وقال عبيد الله ابن أبي جعفر العلماء منار البلاد منهم يقتبس النور الذي يهتدى به فإذا طفئ هذا النور وقعت البلاد في الظلماء وصب عليها البلاء صباً. .

فلذلك وجب وجوباً أكيداًُ على من آتاه الله أمانة العلم أن يؤديها حق الأداء وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف أمام تيار البدع الحادثة التي تخالف هدي الشارع صلى الله عليه وسلم وهدى أصحابه ولا التهاون في شأنها.

استفحل أمر هذه البدعة السيئة والكارثة المشؤومة والبدعة المشهورة (نصب الجاهلين الغاشمين) في مناصب الدين لإرشاد المسلمين. . خصوصاً في هذه الأيام واستطار شررها إلى الآفاق وعظم رزء الإسلام بمصيبتها حتى كاد أن يدرج العلم بأكفانه ولا يلبث عشية وضحاها حتى يدلى بحفرته ويسوى عليه التراب. . (ونحن في غفلة عما يراد بنا) مستسلمون للقضاء راضون بهذا البلاء لا نبدي حراكاً ولا تدبيراً.

سئلت مرة عن السبب الأعظم في رواج العلم وأهله في مصر القاهرة والإقبال من كل فج عميق على جامعها الأزهر وتموجه بألوف الطلاب المجدين ووفرته بالمدرسين المحققين حتى صار الكلية العظمى للعلوم الإسلامية وكذلك الحال في في جامع الزيتونة في تونس قبل الاحتلال المشؤون وسبب اضمحلاله في دمشق بعكس الحالة التي كانت عليه في الزمن الغابر. .

فأجبت ودمع السف يترقرق من عيني أن الأزهر المعمور ظل مستحفظاً بالامتحان الصحيح والقانون العادل فلا أثر في شؤونه جميعها لهذا المصاب العظيم الذي أصيبت به معاهد دمشق ومدارسها من إعطاء وظائف الآباء للأبناء الجهلاء. . فلا يترقى هناك الطالب من درجة إلى غيرها حتى تثبت أهليته وكفاءته أمام هيئة عادلة من علماء الأزهر النزيهين.

ولا يزال يترقى بأهلية واستحقاق إلى أعظم تدريس وأكبر وظيفة حتى يصير المشار إليه

ص: 20

ولا فرق عندهم بين القروي والمدني وابن العظيم والصعلوك بل يتجلى ثم العدل بأجلى مظاهره ولذلك نرى بأم العين أغلب مشيخة الأزهر وعلمائه من الأرياف والقرى لا من البيوت الكبيرة المعروفة بمصر.

الطالب بالأزهر الشريف يعلم أنه مستقبلاً على قدر جده واجتهاده فيجتهد ما شاء الله أن يجتهد بعكس الطالب عندنا ولا يمكن أن يتساهل معه في الامتحان مراعاة لآبائه أو شوقاً لدراهمه حتى لقد جاء أحد طلاب الأزهر إلى أحد أعضاء لجنة الامتحان وأراد أن يهديه هدية يتوصل بسببها لمهاودته في الامتحان ففاجأه الشيخ قائلاً أما تخجل من الله وأنت طالب علم في الأزهر تدرس كتب الدين وأحكامه تجيئني بالرشوة لأهتك حرمة العلم ورفع الشيخ عصاه يريد أن يهشم رأس الراشي فقال ارحمني يرحمك الله إن لي عيالاً وأولاداً فقال لا رحمك الله أتأكل أنت وأولادك الحرام بسبب تماهلك وكسلك فرجع هذا الطالب يجر ثوب الفشل ثم قال الشيخ لأحد أصدقائه ما مرت على عمري ساعة وقد نيفت عن الخمسين أشد من هذه الساعة لأنه لا يزال أناس يعتقدون في الخيانة ويتأملوا أن أدخلهم في وظيفة ليسو بمستحقيها. .

وكانت الحالة في دمشق مثل ما هي عليه في الأزهر عيناً فكان يجري التدريس على قاعدة مخصوصة وحال معلومة لا يتعداها أحد كان يراعى في الوظائف العلمية جانب الأهلية والاستحقاق تماماً فكان المدرس في جامع دمشق بعد البدر الغزي والنجم الشيخ إسماعيل العجلوني من قرية عجلون المشهورة والعلاء الحصكفي المفتي وعلي الداغستاني ويونس المصري نزيل دمشق والشيخ مصطفى الحلبي والمهنداري والحايك وغيرهم ولم يكن الشفيع لهم في أخذ هذه الوظائف العالية غير كفاءتهم وأهليتهم لها لا كونهم من بيوت العلم وسلالة الشرف ولم يزل الحال كذلك حتى انفرط العقد في أواخر القرن الثاني عشر وبقينا إلى اليوم نريد أن شمله فلا نوفق.

ولو جرى الحال في مصر كما جرى عندنا أخيراً لبدلت مصر سماء غير سمائها وأرضاً غير أرضها ولتساقطت جدران الأزهر حجراً بعد حجر.

فقال السائل كأنك تريد أن ارض الشام أقفرت من العلم وأجدبت من أهله. . فقلت لا لا يقذفن في روعك أني أحاول بكلامي سلب فضل الفاضلين وعلم العالمين أو أني أنكر وجود

ص: 21

بعض العلم عندنا وأجحده أهله فما هذا أردت ولا إليه ذهبت وإنما أقول أن قليلاً من العلماء ومثلهم من الفقهاء وأقل منهم من المحدثين لقليل في بلد كدمشق كان يقال عنها أنها مهد العلم ومرعاه الخصيب.

ثم أخاف أيضاًُ أن نفجع بهم ولا مناص من ذلك فيدرج علمهم معهم وهكذا يذهب العلم بذهاب أوعيته قال سيدنا أبو الدرداء رضي الله عنه مالي أرى علماءكم يموتون وجهالكم لا يتعلمون لقد خشيت أن يذهب الأول ولا يتعلم الآخر مالي اراكم شباعاً من الطعام جياعاً من العلم تعلموا قبل أن يرفع العلم فإن رفعه موت العلماء وقال ابن عباس رحمه الله لما مات زيد بن ثابت من سره أن ينظر كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه.

فيا بقية علماء دمشق بل يا علماء جزيرة العرب بل يا علماء المسلمين كافة أيسركم هذا المنظر الأخير في العالم الإسلامي وطروء هذا الاضمحلال والسقوط عليه؟ أيروق لكم أن يعبث بكم وبهذا الين الخالص قوم جعلوا اسم الدين قنطرة يجوزون عليها إلى ما يشتهون؟ أيروق لكم أن يمثل زعاماتكم أناس حشو إهابهم الجهل غايتهم الوحيدة إسقاطكم حتى يخلو لهم الجو فيصفرون وينقرون.

أيروق لكم أن تطلى هذه الجوهرة الغالية بهذا الظلام الحالك والسواد القاتم حتى يحتجب بقية ضوئها ويسدل عليه سجف الظلام الكثيف بعدما أضاءت منها المسكونة مائة قرن أو أكثر؟

أما يغضبكم ويأجج نار حميتكم تصدر أهل الجهالة والغواية يعيثون في الأرض ضلالاً وتضليلاً حتى استضعف جانب الإسلام العدو الممازق وصار يجوس خلال ديارنا بإرسال الوفود تلو الوفود من المبشرين ودعاة النصرانية وتزيدهم وإياهم بالتعاليم المسحية وبذلهم الغالي والثمين في سيبل نشر دينهم حتى دخلوا المدن والقرى وناجزونا في مقر دورنا وبين مساكننا يلقون الشبهة تلو الشبهة على الدين الإسلامية (والمتصدرون الرسميون) لاهون ساهون أسكرتهم خمرة مجد البيوت وسؤدد شرفها على أن يفقهوا حديثاً وسرت في عروقهم نشوة الخيلاء والادعاء الباطل فلا يأبهون لذلك كله يعتقدون في أنفسهم الكمال والتكميل ولو طرحت عليهم شبهة من هذه الشبه أو سؤالاً تدرسه الصبية في كتاتيبهم لوجموا مذعورين ولجالوا جولة الحمر بجللها.

ص: 22

هذا بعد ما كان علماؤنا يقرؤن النصارى واليهود حقائق دينهم ويرشدونهم إلى سواء السبيل فقد ذكر العلامة التاج السبكي في طبقاته الكبرة في ترجمة العلامة كمال الدين بن يونس الذي قال عنه المحدث ابن الصلاح أن الكمال أعظم من أن يترجم وناهيك بهذا التقريظ الغالي من هذا الجناب العالي أنه كان يدرس عليه رهبان النصارى وعلماؤهم وأحبار اليهود والإنجيل والتوراة، ويحل لهم مشكلات الكتابين أحسن حل.

ويعترفون بأنهم لا يجدون مثله في ذلك عدا عن إقرائه الزيج والإسطرلاب والمخروطات ومعضلات الهندسة والفلك وحقائق الهيئة وسائر العلوم الطبيعية.

يا لله كيف حالنا اليوم مع حالنا بالأمس؟ أجل يصدق علينا قول ربيعة حيث قال الإمام مالك رضي الله عنه دخل رجل على ربيعة بن عبد الرحمن فوجده يبكي فقال ما يبكيك وارتاع لبكائه المصيبة نزلت بك؟ فقال لا، لكن أستفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم ولبعض من يدعي العلم أحق بالسجن من السراق.

يا حماة الدين ويا شيوخ المسلمين أنتم أعلم مني بما قال سفيان الثوري رحمه الله (ويحكم احفظوا العلم فإني أخاف أن يخرج العلم من عندكم فتذلون). .

وحفظه بلا شك تنحية من لا علم عنده ولا فضيلة عن أرائكه ومنصاته وإلا فالغد شر من اليوم كما كان اليوم شراً من الأمس والمصير إلى الهلكة لا محالة.

بعد لقد سرني وأثلج صدري وأثار كوامن أملي ظهور الفائدة المطلوبة والضالة المنشودة بكتابنا في مجلة الحقائق الغراء عن هذه المسألة فقد ظهرت حركة مباركة مع بعض أهل العلم الغيورين ودبت روح جديدة في فريق من العلماء المجدين. . فقاموا (ايدهم الله بتوفيقه) وألفوا جمعية دينية ليطالبوا الحكومة الحكومة المحلية لتأخذ بناصر العلوم الدينية وتحيي ما مات من أوقافها بسائق اغتلاس من لا عهد لهم ولا ذمة وما اندرس من المدارس الدينية ودور العلم ولإنجاز ما وعدت به حكومة الأستانة من تأسيس مدرسة دينية عالية في دمشق تكون كالأزهر والزيتونة. . . وقد بلغني أنهم مزمعون على إرسال طائفة منهم إلى ملاذ والي ولايتنا العالي ليعرضوا على دولته هذا المشروع الديني.

ونحن نزف البشرى لهم بنجاح مسعاهم إن شاء الله تعالى ونقول أن والي الولاية حفظه الله ممن يلتهب غيرة على الدين وأهله وهو لا يألوا جهداً في مد يد المساعدة لهذا المشروع

ص: 23

ولكل مشروع خيري مفيد وقد أثبت ذلك تفانيه الشديد في مؤازرة العلوم والمعارف وبذله كل مرتخص وغال في سبيل الأمور الخيرية.

وأنا أقترح على القائمين بهذا المشروع بأن يحصروا طلبهم بطلب تنفيذ قانون المدارس والتدريس الذي هو فيما أعتقد الدواء الناجع لما أصابنا من العلل والأمراض والكافل الوحيد لإرجاع مجد العلم وأهله إلى ما كان عليه من السؤدد والرفعة. . وإرجاع ما اغتلس من الأوقاف إلى ما وقفت لأجله وهذا لا يحتاج إلى عناء شديد وزمن طويل لأن هذا القانون موجود منقح كانت حكومة دمشق صدقت على العمل بموجبه وكاد يخرج العمل به إلى حيز الوجود لولا قيام أرباب الأغراض وإقامتهم العقبات في سيره فلا حول ولا قوة إلا بالله.

أما الآن فالحكومة تجيب هذا الطلب العادل وتنفذ هذا القانون على وجه السرعة لأنها قد علمت أخيراً أن لا سبيل لجمع كلمة الأمة وتوحيدها والتفافها نحو دولة الخلافة إلا بالرابطة الدينية ولن تستحكم حلقاتها إلا بترقية علومها وبث تعاليمها بين جميع الطبقات ونعم ما فعلت فقد أصابت كبد الحقيقة إذ أنه لا يمكن لها أن تجذب القلوب نحوها إلا بالتفات نحو الدين والانضواء تحت لوائه المتين.

كما أنني أوصي القائمين بالصبر والثبات في الطلب وأحضهم على طلب المعونة من الحق جل وعلا فإنه لا يخيب من يلتجئ إليه. . ولا يهولنهم قيام أرباب الأغراض في وجوههم ليصدوهم عن مشروعهم فإن العاقبة للمتقين.

أبو الضيا

البقية تأتي

(الحقائق) حسن عند كثير من الناس ما نشرناه في الجزئين 9 و10 تحت عنوان (الوظائف الدينية والجهلاء) وأثنوا جميل الثناء على همة كاتبها الفاضل حتى أن بعض الغيورين في طرابلس الشام نشر ما كتب في الجزء العاشر بنشرة خاصة لتوزع مجاناً على نفقته خدمة للعلم وحضاً للحكومة على تدارك هذه البلية العظيمة وهذا نص ما كتب إلينا على ظهر النشرة المطبوعة.

قال: حضرات محرري مجلة الحقائق الغراء: قد اطلعنا على المقالة المذيلة بإمضاء أبي الضياء تحت عنوان الوظائف الدينية والجهلاء فصادفت من قلوب ذوي العلم والدين

ص: 24

ارتياحاً وتحسيناً وحبذت الكتابة بهذا الصدد فجزاكم الله خير الجزاء عن العلم والدين وبالنظر لعموم هذه البلوى واحتياجنا للقيام بصد هذا التيار تصدينا لنشرها على انفراد توزع بالمجان عسى أن يلهج بها القوم وتجعل الحكومة وذوو الأمر حداً لهذا التساهل، ورجاؤنا أن يتابع الكاتب كتاباته بهذا الصدد، والله يجزيكم عن الإسلام والمسلمين خيراً والسلام.

ص: 25