الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلاصة الرحلة الشرقية
وتعليق الدماميني مفارقة (كافة) للحاليبة على صحة الأثر مما جرى فيه على سنن التحقيق فإن المحرر في الأصول العالية لعلم العربية أن الكلمة إذا وردت في محل ولم يسمع استعمالها في غيره فإنما تطرد في الموضع الذي سمعت فيه ولا يقاس عليه غيره من المواضع ومن هذا تخصيصهم فل ولو مان ونومان بالنداء ونحو قط وعرض تختصان بالظرفية وبنى على هذا الشيخ ابن الحاجب أن لفظة كل إذا أضيفت إلى الضمير لم تستعمل في كلامهم إلا توكيداً أو مبتدأ فيمتنع جعلها مفعولاً به أو فاعلاً.
ثم قلنا ويندرج في التفقه في الدين تعلم ما يرجع إليه من أحكام وعقائد وأخلاق وإما إطلاق الفقه على معرفة الفروع خاصة فعرف حادث بعد نزول القرآن فلا يصح تفسير الآية به فإن القرآن أنزل بلسان عربي ليتمكن العرب من فهمه فينتفعوا بالعلم به في أنفسهم ويبلغوه إلى غيرهم من الأمم لعلهم يتذكرون وهذه الحكمة تستدعي أن يكون الكتاب جارياً في سائر استعمالاته على المعاني المألوفة لهم في موضوعات لسانهم وأساليب كلامهم وإذا ألقي إليهم قولاً مجملاً أو كلمة لم يسبق لهم علم بمدلولها لم يتمادوا على الجهل بها وتعلموا بيانها عن رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا لم تكن الكلمة معهودة الاستعمال في معنى وقت الوحي ولم يعينه صاحب الشريعة في بيانها امتنع حملها عليه وبهذا يظهر عدم صحة ما قاله بعض البيانيين في قوله تعالى: (لو كان فيهما آله الخ الآية) من أن استعمال لو في الاستدلال بامتناع الفساد على امتناع تعدد الآلهة وارد على قاعدة أهل المعقول والصحيح ما قاله الشيخ ابن الحاجب من أنه استعمال عربي فصيح كما لا يستقيم قول بعض الكاتبين على قوله تعالى: (وما علمناه الشعر) أن المراد الشعر الذي هو ا؛ د أقسام القياس وقد أنكر الشيخ ابن تيمية على من فهم التأويل في قوله تعالى: (وما يعلم تأويله) على معنى صرف اللفظ عن المعنى الراجح لدليل يقترن به لأنه معنى اصطلح عليه طوائف من المتأخرين ولم يكن معروفاً للسلف بهذا الوضع بل مسمى التأويل في لغة القرآن هو نفس المراد بالكلام من الأمور الموجودة في الخارج.
ثم قررنا تفاوت العلوم في الشرف واستطردنا أن الإقبال على العلم أفضل من الاشتغال بالعبادة لوجهين أن مصلحة العبادة خاصة ومصلحة التعليم عامة وما له مصلحة عامة أشرف مما له مصلحة خاصة ثانيهما أن في التعليم درء مفسدة وفي العبادة جلب مصلحة
ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ولاسيما ما يدرء الخلل في الدين قال ابن جماعة في كشف المعاني عند قوله تعالى: (قل أعوذ برب الناس) المستعاذ به غي هذه ثلاث صفات والمستعاذ منه شيء واحد وهو الوسوسة والمستعاذ به في السورة قبلها صفة واحدة والمستعاذ منه أربعة أشياء لأن المطلوب في سورة الناس سلامة الدين من الوسوسة القادحة فيه والمطلوب في سورة الفلق سلامة النفس والبدن والمال وسلامة الدين أعظم واهم ومضرته أعظم من مضرة الدنيا فموقع الدين من النفوس شديد ولهذا كان تأثيرها للاستخفاف بشأنه أو تحريف بعض حقائقه فوق كل تأثير وانظروا إلى فرعون لما أراد صرف وجوه القوم عن اتباع موسى عليه السلام كيف قدم لهم التخوف منه على تبديل دينهم فقال (إني أخاف أن يبدل دينكم) هذا في دين يفتضح صاحبه لأول كلمة ترمي لإبطاله فما بالكم بدين كشف عن صفاء فطرته كتاب حكيم وخضع لسطوته كل فكر مستقيم.
ثم أوردنا بعد تقرير ما أمرت به الآية من تعلم أحكام الدين قول العضد في خطبة المواقف ناقلاً عن بعض الأئمة (أن المراد من الاختلاف في حديث (اختلاف امتي رحمة) اختلاف هممهم في العلوم فهمة واحد في الفقه وهمة آخر في الكلام كما اختلفت همم أصحاب الحرف ليقوم كل واحد بحرفة فيتم النظام. وعلقنا عليه أن الذي يحمل الحديث على هذا المعنى يقصد التباعد من فهم الأثر على معنى اختلاف الأمة في آرائها ولا يرضيه أن تدخل الرحمة من ناحية اختلاف الآراء ولو في الفروع لأن نصوص الشريعة طافحة بالنهي عن الاختلاف بإطلاق وذوو الاجتهاد مأمورون ببذل الوسع في إزالته والتلاقي في مذهب واحد كما قال الله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء) الخ الآية لكنهم إذا فرغوا جهدهم في البحث عن الأدلة وأمعنوا النظر فيها بقصد الوصول إلى ما هو حق ثم أدركهم العجز عن الاتفاق فالعذر قائم وباب العفو مفتوح والعفو عن هذا الاختلاف وعدم مؤاخذتهم عليه لا يقتضي أن في الخلاف رحمة وأنه أصلح من الوفاق وأسعد من تضافر الآراء على مذهب.
تقلت قول القاضي أن في الآية الكريمة إيماء إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم من العلم أن يستقيم ويقيم غيره وتخلصنا منه إلى أن أعظم درجات إنسان وأشرفها أن يكون
كاملاً في نفسه ومنبعاً يتدفق منه الصلاح والكمال إلى غيره. ووصلنا هذا بنكتة لطيفة أعهدها لبعض المفسرين عند قوله تعالى (وسراجاً منيراً) وهي أنه وقع تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم بالسراج دون أن يمثله بنحو القمر الذي هو أغزر نوراً لأن القمر يضيء في نفسه ولا يمكن أن يستمد ضوئه عدة أجرام تكون مضيئة في نفسها بخلاف السراج فإنه يضيء في ذاته ويمكن أن يقتبس منه سرج لا يشملها الإحصاء فالتمثيل به أوفى بالمراد وأقرب مطابقة لحاله عليه الصلاة والسلام.
أتينا هنا على ان المنذر يتعين عليه أن يتحرى في إنذاره بحيث لا يستند فيه إلا على علم صحيح من آية أحديث ثابت أو نص من يقتدى به من الأئمة. وخرجنا منه إلى جريمة الحكم بغير ما أنزل الله وقررنا ما نعهده للرازي في آية (ومن لم يحكم) وفيما نقلناه من الأجوبة عن آية (فآولئك هم الكافرون) أن المشار إليهم بالكفر هنا من حكموا بغير ما أنزل الله معتقدين أن ما قضوا به أوفق بالسداد وأحفظ للمصالح. وأدرجنا هنا دقيقة للشيخ ابن عرفة وهي أن أسلوب الآية أبلغ من أن لو قيل (ومن حكم بغير ما أنزل الله) فإن هذه العبارة لا تتناول من تقدم إليه الخصمان بقضية فأهملها وهو يستطيع فصلها بخلاف الآية فإنها تتناول من حكم في القضية بالباطل ومن أبى الحكم فيها بما أنزل الله وسكت وهو منتصب في مقام الفصل بين الناس.
انتقلنا إلى أن للإنذار بالقرآن تأثيراً بالغاً على النفوس بحيث لا يقوم كلام البشر مقامه وإن ارتقى من البلاغة ذروة سامية. واستطردنا مقالة نفيسة لصاحب المنهاج وهي أن الله تعالى خص القرآن بأنه دعوة وحجة ولم يكن مثل هذا النبي قط إنما كان لكل واحد منهم دعوة ثم يكون له حجة غيرها وقد جمعها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن فهو دعوة بمعانيه حجة بألفاظه وقلنا عقب هذا أن القرآن حجة أيضاً فإن استقامة سائر ما احتوى عليه من القضايا وانطباقها بجملتها وتفاصيلها على مناهج الحكمة ورسم السياسة العادلة يدل دلالة مثل فلق الصبح على أنه وحي سماوي وأنه بريء من أن تبتدعه أفكار البشر وبهذا يمكن للعجم الذين لا يحسنون العربية أن يدر كواوجها من إعجازه متى نقلت لهم معانية الأولية بترجمة محررة.
(يتبع)